(السنن 1/90-91 ح 332 - ك الطهارة، ب الجنب يتيمم) . وأخرجه ابن حبان في صحيحه (الإحسان 4/135 ح 311) من طريق وهب بن بقية. والحاكم (المستدرك 1/176-177) من طريق مسدد، كلاهما عن خالد الواسطى عن خالد الحذاء به. وأخرجه الترمذي (السنن 1/211-212) ، وأحمد (المسند 5/180) كلاهما من طريق سفيان الثوري، عن خالد الحذاء به. وأخرجه النسائى (السنن 1/171) ، وأحمد (المسند 5/6) كلاهما من طريق أيوب، عن أبي قلابة، عن عمرو ابن بجدان به. قال الترمذي: حسن صحيح. وقال الحاكم: صحيح ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. ونقل محقق الإحسان تصحيح الأئمة: أبي حاتم والدارقطنى والنووي له. وقال الألبانى: صحيح (صحيح الترمذي ح 107) .
قال البخاري: حدثنا معاذ بن فضالة قال: حدثنا هشام ح وحدثنا أبو نعيم، عن هشام، عن قتادة، عن الحسن عن أبي رافع، عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل".
(الصحيح 1/470 ح 291- ك الغسل، ب إذا التقى الختانان) ، وأخرجه مسلم (الصحيح- ك الحيض، ب نسخ الماء من الماء ح 348) .
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا وكيع، ثنا الأعمش، عن حبيب عن عروة عن عائشة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبَّل امرأة من نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ" فقلت لها: من هي إلا أنت؟ فضحكت.
(السنن 1/46 ح 179- ك الطهارة، ب الوضوء من القبلة) . وأخرجه الترمذي (السنن 1/133 ح 86- ك الطهارة، ب ترك الوضوء من القبلة) من طريق: أحمد بن منيع، ومحمود بن غيلان، والحسين بن حريث. وابن ماجه (السنن 1/168 ح 502 - ك الطهارة، ب الوضوء من القبلة (من طريق أبي بكر بن أبي شيبة وعلى بن محمد. وأحمد (المسند 6/210) . والطبرى (التفسير 8/396 ح 9630) من طريق أبي كريب. كلهم عن وكيع عن الأعمش به، وقد أعل بعضهم هذا الحديث بعدم سماع حبيب بن أبي ثابت من عروة، لكن صححه جماعة من الأئمة، وقال أبو داود -مشيراً إلى صحة سماع حبيب من عروة-: وقد روى حمزة الزيات عن حبيب عن عروة بن الزبير عن عائشة حديثاً صحيحاً. ومال أبو عمر بن عبد البر إلى تصحيحه (نصب الراية 1/38) . وقال البوصيرى: رواه البزار بإسناد حسن. وأفاض العلامة أحمد شاكر في تصحيح الحديث ودفع علته فأجاد رحمه الله (حاشية سنن الترمذى) وقال الألبانى: صحيح (صحيح الترمذى ح 75) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: "الملامسة": النكاح..(2/58)
قوله تعالى (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، ثنا أبو جعفر الجمال، ثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد قال: كل شيء وضعت عليه يدك صعيد حتى غبار لبدك فتيمم به.
ورجاله ثقات وإسناده صحيح.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن قتادة قوله: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم) فإن أعياك الماء، فلا يعييك الصعيد أن تضع فيه كفك، ثم تنفضهما فتمسح بهما وجهك وكفيك، ولا بعد ذلك لغسل جنابة ولا لوضوء صلاة، فمن تيمم بالصعيد وصلى ثم قدر على الماء بعد فعليه الغسل وحسبه صلاته التي كان صلى.
قوله تعالى (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل) الآية
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر في هذه الآية الكريمة أن الذين أوتوا نصيبا من الكتاب مع اشترائهم الضلالة يريدون إضلال المسلمين أيضاً. وذكر في موضع أخر أنهم كثير، وأنهم يتمنون ردة المسلمين، وأن السبب الحامل لذلك هو الحسد أنهم ما صدر منهم ذلك إلا بعد معرفتهم الحق وهو قوله تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق) . وذكر في موضع آخر أن هذا الإضلال الذي يتمنونه للمسلمين لا يقع من المسلمين وإنما يقع منهم - أعني المتمنين الضلال.
للمسلمين - وهو قوله (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون) .(2/59)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال: كان رفاعة بن زيد التابوت من عظماء اليهود إذا كَلم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لوى لسانه وقال: أرعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك ثم طعن في الإسلام وعابه، فأنزل الله تعالى فيه: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب) .
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية قوله: (اشتروا الضلالة)
يقول اختاروا الضلالة.
وهذا الأثر قد أورده ابن أبي حاتم في سورة البقرة.
قوله تعالى (من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين)
أخرج وابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: يعنى يحرفون حدود الله في التوراة.
قال الطبري حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله: (واسمع غير مسمع) ، قال: كما تقول اسمع غير مسموع منك. ورجاله ثقات وإسناده صحيح.
وانظر تفسير سورة البقرة الآية (104) .
قوله تعالى (ولو أنهم قالوا سمعنا واطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم)
أخرج أدم بسنده الصحيح عن مجاهد: (وانظرنا) ، قال: أفهمنا بين لنا.
قوله تعالى (يا أيها الذين أوتوا الكتاب ءامنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن ابن إسحاق عن ابن عباس قال: كلم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رؤساء من أحبار اليهود: عبد الله بن صوريا، وكعب بن أسد فقال لهم: يامعشر اليهود، اتقوا الله وأسلموا، فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق!(2/60)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)
فقالوا: مانعرف ذلك يامحمد! وجحدوا ما عرفوا، وأصروا على الكفر، فأنزل الله فيهم (يا أيها الذين أوتوا الكتاب ءامنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها) .
أخرج أدم بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها) فنردها عن الصراط، عن الحق (فنردها على أدبارها) ، قال: الضلالة.
قوله تعالى (أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت)
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا صفة لعنه لأصحاب السبت، ولكنه بين في غير هذا الموضع أن لعنه لهم هو مسخهم قردة ومن مسخه الله قردا غضبا عليه فهو ملعون بلا شك، وذلك قوله تعالى: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) وقوله (فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين) والاستدلال على مغايرة اللعن للمسخ بعطفه عليه في قوله (قل أؤنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير) لا يفيد أكثر من مغايرته للمسخ في تلك الآية.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (يا أيها الذين أوتوا الكتاب) إلى قوله (أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت) أي: نحولهم قردة.
قوله تعالى (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر في هذه الآية الكريمة أنه تعالى لا يغفر الإشراك به وأنه يغفر غير ذلك لمن يشاء وأن من أشرك به فقد افترى إثما عظيما. وذكر في مواضع أخر أن محل كونه لا يغفر الإشراك به إذا لم يتب المشرك من ذلك فإن تاب غفر له كقوله (إلا من تاب وأمن وعمل عملا صالحاً) الاَية فإن الاستثناء راجع لقوله (والذين لا يدعون مع الله إلها أخر) وما عطف عليه لأن معنى الكل جمع في قوله (ومن يفعل ذلك يلق أثاما) الآية وقوله (قل للذين كفروا إن(2/61)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)
ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) وذكر في موضع آخر أن من أشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا عن الحق وهو قوله في هذه السورة الكريمة أيضاً (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا) وصرح بأن من أشرك بالله فالجنة عليه حرام ومأواه النار بقوله (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار) وقوله (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين) .
قال البخاري: حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال حدثنا معاذ بن هشام قال حدثني أبي عن قتادة قال: حدثنا أنس بن مالك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -ومعاذ رديفه على الرحل- قال: "يامعاذ بن جبل". قال: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: "يامعاذ" قال: لبيك يا رسول الله وسعديك (ثلاثاً) ،. قال: "ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسولُ الله صِدقاً من قلبه إلا حرّمه الله على النار"، قال: يا رسول الله أفلا أخبر به الناس فيستبشروا؟ قال: "إذا يتّكلوا". وأخبر بها معاذ عند موته تأثماً.
وقال البخاري: حدثنا مسدد قال حدثنا معتمر قال سمعت أبي قال سمعت أنسا قال: ذكر لي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لمعاذ "من لقي الله لايشرك به شيئاً دخل الجنة" قال: ألا أبشر الناسَ؟ قال: "لا؛ إني أخاف أن يتكلوا"
(الصحيح 1/272 و274 ح 128، 129- ك العلم، ب من خص بالعلم قوماً دون قوم ... ) .
قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة.. حدثنا وكيع. حدثنا الأعمش عن المعرور بن سُويد، عن أبي ذر. قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "يقول الله عز وجل: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد. ومن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئة مثلها. أو أغفر. ومن تقرب منّي شبرا، تقربتُ منه ذراعاً. ومن تقرب مني ذراعاً، تقربتُ منه باعاً. ومن أتاني يمشي، أتيته هرولة. ومن لقيني بِقُراب الأرض خطيئة لا يُشرك بي شيئاً، لقيته. بمثلها مغفرة".(2/62)
(الصحيح 4/2068 ح 2687 - ك الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، ب فضل الذكر والدعاء، والتقرب إلى الله تعالى) .
قال البخاري: حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، عن الحسين، عن عبد الله بن بريدة، عن يحيى بن يعمر حدثه، أن أبا الأسود الديلى حدثه، أن أبا ذر - رضي الله عنه - حدثه قال: أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعليه ثوب أبيض وهو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ، فقال: "ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة". قلت: وان زنى وإن سرق؟ قال: "وإن زنى وإن سرق".
قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: "وإن زنى وإن سرق". قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: "وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر". وكان أبو ذر إذا حدث بهذا قال: وإن رغم أنف أبي ذر.
قال أبو عبد الله: هذا عند الموت أو قبله إذا تاب وندم وقال: لا إله إلا الله، غفر له.
(الصحيح 10/283 (الفتح ح رقم 5827) - ك الباس، ب الثياب البيض) وأخرجه مسلم (الصحيح 1/95 ح 154- ك الإيمان، ب من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة ... ) .
قال النسائى: أخبرنا محمد بن المثنى قال: حدثنا صفوان بن عيسى، عن ثور،
عن أبي عون عن أبي إدريس قال: سمعت معاوية يخطب -وكان قليل الحديث عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -- قال سمعته يخطب يقول سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: لكل ذنب عسى الله أن يغفره، إلا الرجل يقتل المؤمن متعمداً، أو الرجل يموت كافراً".
(السنن 7/81 - تحريم الدم) وأخرجه أحمد (المسند 4/99) عن صفوان بن عيسى به. والحاكم (المستدرك 4/351) من طريق بكار بن قتية عن صفوان، عن ثور به. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وصححه الألبانى (صحيح النسائي ح 3719) .
وللحديث شواهد، منها: عن أبي الدرداء، أخرجه ابن حبان (الإحسان 13/318 ح 5980) والحاكم (المستدرك 4/351) وغيرهما من طرق عن عبد الله بن أبي زكريا عن أم الدرداء عن أبي الدرداء، وفيه: " ... إلا من مات مشركاً" قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي) وأخرج البزار: حديث
عبادة بن الصامت نحوه (المسند 7/163 ح 2730) . وق الهيثمي: رجاله ثقات (مجمع الزوائد 7/296) .(2/63)
وانظر حديث مسلم عن جابر الآتي عند الآية 90 من سورة النمل.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (إن الله لايغفر أن يشرك به) فحرم الله المغفرة على من مات وهو كافر، وأرجاها أهل التوحيد إلى مشيئته فلم يؤيسهم من المغفرة.
قوله تعالى (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا. انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثماً مبيناً)
قال الشيخ الشنقيطي: أنكر تعالى في هذه الآية تزكيتهم أنفسهم بقوله (ألم تر إلى الذين) وبقوله (انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا) وصرح بالنهى العام عن تزكية النفس وأحرى نفس الكافر التي هي أخس شيء وأنجسه بقوله (هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى) ولم يبين هنا كيفية تزكيتهم أنفسهم. ولكنه بين ذلك في مواضع أخر، كقوله عنهم (نحن أبناء الله وأحباؤه) وقوله (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أونصارى) إلى غير ذلك من الآيات.
قال ابن ماجة: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا غندر، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن معبد الجهنى، عن معاوية قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إياكم والتمادح، فإنه الذبح".
(السنن 2/1232 ح 3743 - ك الأدب، ب المدح) ، وأخرجه أحمد (المسند 4/93) عن محمد ابن جعفر عن شعبة وحجاج عن سعد به، وفيه زيادة وهي قوله: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإن هذا المال حلو خضر". قال البوصيرى: هذا إسناد حسن، لأن معبداً مختلف فيه، وباقى رجال الإسناد ثقات (مصباح الزجاجة 3/181) . وحسنه الألباني كذلك (صحيح سنن ابن ماجة ح 3017) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا) وهم أعداء الله اليهود،(2/64)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)
زكوا أنفسهم بأمر لم يبلغوه، فقالوا: (نحن أبناء الله وأحباؤه) . وقالوا: لا ذنوب لنا.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (فتيلا) الذي في الشق: الذي في بطن النواة.
قوله تعالى (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً)
قال ابن حبان: أخبرنا الحسن بن سفيان، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا ابن أبي عدي، قال: أخبرنا داود بن أبي هند، عن عكرمة عن ابن عباس، قال: لمّا قدم كعب بن الأشرف مكة أتوه، فقالوا: نحن أهل السقاية والسدانة، وأنت سيد أهل يثرب، فنحن خير أم هذا الصنَيْبير المنْبَتِر من قومه يزعم أنه خير منا؟
فقال: أنتم خير منه، فنزل على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن شانئك هو الأبتر) ونزلت: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يومنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً) .
(الإحسان، 14/534 ح 6572 - ك التاريخ، ب تسمية المشركين صفي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَصنيبير) .
وأخرجه الطبري (ح 9786) ، وعزاه ابن كثير للبزار، وقال: وهو إسناد صحيح (التفسير 4/ 598) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (الجبت) السحر.
قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج، ثنا وكيع ح، وثنا أحمد بن سنان، ثنا عبد الرحمن بن مهدى، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن حسان بن فائد، عن عمر قال: (الجبت) السحر. (الطاغوت) : الشيطان.
أخرجه البخارى عن عمر معلقاً. قال ابن حجر: وصله عبد بن حميد في تفسيره ومسدد في مسنده، وعبد الرحمن بن رسته في كتاب (الإيمان) ، كلهم من طريق أبي إسحاق عن حسان بن فائد عن عمر مثله وإسناده قوي، وقد وقع التصريح بسماع أبي إسحاق له من حسان وسماع حبان من عمر في رواية ابن رسته) . (فتح الباري 8/252، وانظر التهذيب 2/252) 0 أي في رواية ابن رسته.(2/65)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، ثنا عيسى بن جعفر، ثنا مسلم بن خالد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى (ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً) قال: يهود تقول ذلك يقولون: قريش أهدى من محمد وأصحابه.
وإسناده حسن.
قوله تعالى (أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً)
أنظر سورة البقرة آية (159) .
قوله تعالى (أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (نقيرا) : النقطة التي في ظهر النواة.
قوله تعالى (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما)
أخرج أدم بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (أم يحسدون الناس) قال يهود (على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب) وليسوا منهم (والحكمة وأتيناهم ملكا عظيما) قال: النبوة.
قوله تعالى (فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه)
أخرج أدم بسنده الصحيح عن مجاهد: (فمنهم من أمن به) قال: بما أنزل على محمد من يهود (ومنهم من صد عنه) .
قوله تعالى (إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نَضِجَتَ جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها) يقول: كلما احترقت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية: (عزيزا حكيما) يقول: عزيزا في نقمته إذا انتقم ...(2/66)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)
قوله تعالى (والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً لهم فيها أزواج مطهرة)
انظر تفسير سورة البقرة آية (25) .
قوله تعالى (وندخلهم ظلا ظليلًا)
قال الشيخ الشنقيطي: وصف في هذه الآية الكريمة ظل الجنة بأنه ظليل ووصفه في آية أخرى بأنه دائم، وهي قوله (أكلها دائم وظلها) ووصفه في آية أخرى بأنه ممدود وهي قوله (وظل ممدود) وبين في موضع أخر أنها ظلال متعددة وهو قوله (إن المتقين وظلال وعيون) الآية، وذكر في موضع أخر أنهم في تلك الظلال متكئون مع أزواجهم على الأرائك وهو قوله (هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون) .
انظر حديث البخاري عن أبي هريرة الآتي عند الآية (30) من سورة الواقعة.
قوله تعالى (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) إلى قوله (إن الله كان سميعاً بصيراً)
قال مسدد: حدثنا يحيى، ثنا سفيان، حدثنى عبد الله بن السائب، عن زاذان قال: قال عبد الله هو ابن مسعود - رضي الله عنه -: القتل في سبيل الله تعالى يكفر الذنوب كلها غير الأمانة. يؤتى بالشهيد في سبيل الله عز وجل، فيقال: أد أمانتك، فيقول: من أين أؤديها، فقد ذهبت الدنيا؟ قال فيقال: اذهبوا به إلى الهاوية، حتى إذا انتهى به إلى قرار الهاوية مثلت له أمانته كهيئة يوم ذهبت، فيحملها فيضعها على عاتقه، فيصعد في النار، حتى إذا رأى أنه قد خرج منها هوت وهوى في أثرها أبد الآبدين، ثم قرأ عبد الله (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) .
(المطالب العالية ل/133/ب) ، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (تفسير آل عمران والنساء ح 3481) من طريق سفيان الثوري به، إلى قوله "أبد الآبدين". وزاد: قال زاذان: فأتيت البراء فحدثته، فقال: صدق أخي (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) . وهذا إسناد صحيح عن ابن مسعود. وأخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق (ح 144) وأبو نعيم في الحلية (4/201) والبيهقي(2/67)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)
في (شعب الإيمان 4/323-324 ح 5266) من طرق عن الأعمش عن عبد الله بن السائب به، وزادوا في قول ابن مسعود: "وإن الأمانة في الصلاة والزكاة والغسل من الجنابة والكيل والميزان والحديث"، وأعظم من ذلك الودائع". واللفظ للخرائطي، وزاد أبو نعيم والبيهقي أيضاً قول البراء.
وأخرجه ابن أبي الدنيا في الأهوال (ح 250) ، والطبري في تفسيره (22/56) وابن أبي حاتم في تفسيره (آل عمران والنساء ح 3482) والخرئطي في (مكارم الأخلاق ح 145) والطبرانى في الكبير (10/270 ح 10527) وغيرهم من طريق إسحاق الأزرق عن شريك عن الأعمش عن عبد الله بن السائب به مرفوعاً، وفيه الزيادتان السابقتان، وزادوا أيضاً: "قال شريك: وحدثنا عياش العامري عن زاذان عن عبد الله عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنحو منه، ولم يذكر الأمانة في الصلاة والأمانة في كل شيء". واللفظ لابن أبي الدنيا. وقال ابن كثير: إسناد جيد ولم يخرجوه (التفسير 3/524) وقال الهيثمي: رجاله ثقات (مجمع الزوائد 5/293) . وقال الدارقطني: الموقوف هو الصواب (العلل 5/78) ، ولكن له حكم الرفع إذ ليس للاجتهاد فيه مجال.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قوله (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) يعني السلطان يعظون النساء.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية قال: الأمانة ما أمروا به ونهوا عنه.
قوله تعالى (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)
قال الطبري حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا إسماعيل، عن مصعب بن سعد قال: قال على - رضي الله عنه - كلمات أصاب فيهن: فحق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله، وأن يؤدى الأمانة. وإذا فعل ذلك، فحق على الناس أن يسمعوا، وأن يطيعوا وأن يجيبوا إذا دعوا.
ورجاله ثقات وسنده صحيح وتقدم بحثه في تفسير ابن أبي حاتم.
قال أبو داود: حدثنا علي بن نصر ومحمد بن يونس النسائى، المعنى، قالا: ثنا عبد الله بن يزيد المقرئ، ثنا حرملة -يعني ابن عمران- حدثني أبو يونس سليم بن جبير مولى أبي هريرة، قال: سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الآية (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) إلى قوله تعالى: (سميعاً بصيراً) قال:(2/68)
رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه، قال أبو هريرة: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرؤها ويضع إصبعيه، قال ابن يونس: قال المقرىء: يعنى أن الله سميع بصير، يعني أن لله سمعاً وبصراً.
قال أبو داود: وهذا رد على الجهمية.
(السنن 4/233 ح /4728- ك السنة، ب في الجهمية) . وأخرجه ابن خزيمة في (التوحيد 1/97 ح 46) عن محمد بن يحيى عن عبد الله بن يزيد به. قال محققه: رجال المسند كلهم ثقات في الصحيحين أو في أحدهما، وأخرجه الحاكم من طريق عبد الله بن يزيد به، وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 2/236) وابن حبان في صحيحه (الإحسان 1/498) من طريق: محمد بن يحيى الذهبي عن المقرى به، قال محققه: إسناده صحيح على شرط الصحيح، وصححه الألباني (صحيح سنن أبي داود 3/895 ح 3954) .
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم في شىء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر)
قال البخاري: حدثنا صدقة بن الفضل، أخبرنا حجّاج بن محمد، عن ابن جريج، عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم) قال: نزلت في عبد الله بن حُذافة بن قيس بن عدي إذ بعثه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سرية.
(الصحيح 8/101-102 ح 4584- ك التفسير، سورة النساء) ، (صحيح مسلم 3/1465 ح 1834 ك الإمارة، ب وجوب طاعة الأمراء) .
وقال البخاري: حدثنا محمد بن أبان، حدثنا غندر، عن شعبة، عن أبي التياح أنه سمع أنس بن مالك قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبى ذر: "اسمع وأطع ولو لحبشي كأن رأسه زبيبة".
(الصحيح 2/696 ح 696 ك الأذان، ب إمامة المفتون والمبتدع ... ) .
قال البخاري: حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، حدثنا سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن، عن علي - رضي الله عنه - قال: بعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سرية وأمّر عليهم رجلاً من الأنصار، وأمرهم أن يطيعوه، فغضب عليهم(2/69)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
وقال: أليس قد أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: قد عزمت عليكم لما جمعتم حطبا وأوقدتم نارا ثم دخلتم فيها. فجمعوا حطبا فأوقدوا نارا، فلما همّوا بالدخول فقاموا ينظر بعضهم إلى بعض فقال بعضهم: إنما تبعنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فراراً من النار أفندخلها؟ فبينما هم كذلك إذ خمدت النار وسكن غضبه، فذكر للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "لو دخلوها ما خرجو منها أبداً، إنما الطاعة في المعروف".
(الصحيح 13/130 ح 7145 - ك الأحكام، ب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية) .
وأخرجه مسلم (الصحيح 3/1469 ح 1840- ك الأمارة، ب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية) .
انظر حديث البخاري عند الآية 80 من السورة نفسها.
قال مسلم: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره. إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة".
(الصحيح 3/1469 ح 1839- ك الأمارة، ب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية) .
قال البخاري: حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن يحيى بن سعيد قال أخبرني عُبادة بن الوليد أخبرنى أبي عن عُبادة بن الصامت قال: "بايعنا رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على السمع والطاعة في المنشَط والمكرَه، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم -أو نقول- بالحق حيثما كنا ولا نخاف في الله لومة لائم".
(الصحيح 13/204 ح 7199، 7200- ك الأحكام، ب كيف يبايع الإمام الناس) . وأخرجه مسلم في (صحيحه 3/1470 ح 41- ك الإمارة، ب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية) .
قال الحاكم: حدثنا أبو محمد عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم العدل ببغداد، ثنا أبو الأحوص محمد بن الهيثم القاضي. وحدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد العنبري من أصل كتابه وسأله عنه أبو على الحافظ ثنا عثمان بن سعيد الدارمي (قالا) ثنا نعيم بن حماد، ثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن الزهرى، عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه جبير قال: قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالخيف فقال: "نَضَّر الله عبداً سمع مقالتىَ فوعاها ثم أداها إلى من لم يسمعها، فرب حامل فقه(2/70)
لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن: إخلاص العمل لله، والطاعة لذوي الأمر، ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من ورائهم".
(المستدرك 1/86-87- ك العلم) ، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين، قاعدة من قواعد أصحاب الروايات، ولم يخرجاه ... ووافقه الذهبي. والحديث عند الطبرانى في (الكبير 2/127 رقم 1544) من هذا الوجه. قال الهيثمي في (المجمع 1/139) : رجاله موثقون. وقال الألبانى: إسناد حسن (صحيح الترغيب 1/42) .
قال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن سنان، ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة في قول الله تعالى: (وأولى الأمر منكم) قال: هم الأمراء.
ورجاله ثقات وسنده صحيح.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قوله (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم) يعني أهل الفقه والدين واْهل طاعة الله الذين يعلمون الناس معانى دينهم ويأمرونهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر، فأوجب الله سبحانه طاعتهم على العباد.
وأخرجه الحاكم في (المستدرك 1/123) .
قوله تعالى (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) الآية
قال الشيخ الشنقيطي: أمر الله في هذه الآية الكريمة، بأن كل شيء تنازع فيه الناس من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع إلى كتاب الله وسنة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لأنه تعالى قال (من يطع الرسول فقد أطاع الله) وأوضح هذا المأمور به هنا بقوله (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) الآية.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) يقول: ردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) .(2/71)
قوله تعالى ذلك خير وأحسن تأويلا)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (وأحسن تأويلا) ، قال: أحسن جزاء.
قوله تعالى (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ... ) الآية
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن محمد بن إسحاق، عن ابن عباس قال: كان الجلاس بن الصامت قبل توبته فيما بلغني، ومعتب بن قشير، ورافع بن زيد، وبشير كانوا يدّعون الإسلام، فدعاهم رجال من قومهم من المسلمين في خصومة كانت بينهم إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فدعوهم إلى الكهان حكام الجاهلية، فأنزل الله تعالى فيهم (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً) .
قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عوف الحمصى، ثنا أبو اليمان، ثنا صفوان يعنى ابن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان أبو بردة الأسلمى كاهنا يقضى بين اليهود، فتنافروا إليه أناس من أسلم من اليهود فأنزل الله تعالى (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) .
(ورجاله ثقات وإسناده صحيح، وصححه السيوطي في الدر المنثور 2/178) .
قوله تعالى (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً. فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً)
قال ابن كثير: وقوله (ويصدون عنك صدوداً) أي: يعرضون عنك إعراضاً كالمستكبرين عن ذلك، كما قال تعالى عن المشركين (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا) ، هؤلاء وهؤلاء بخلاف المؤمنين، الذين قال الله فيهم (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا) الآية.(2/72)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
ثم قال تعالى في ذم المنافقين: (فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم) أي: فكيف بهم إذا ساقتهم المقادير، إليك في مصائب تطرقهم بسبب ذنوبهم، واحتاجوا إليك في ذلك (ثم جاؤك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً) أى: يعتذرون إليك ويحلفون: ما أردنا بذهابنا إلى غيرك، وتحاكمنا إلى عداك إلا الإحسان والتوفيق، أي: المداراة والمصانعة، لا اعتقاداً منا صحة تلك الحكومة، كما أخبرنا تعالى عنهم في قوله (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى) إلى قوله (فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين) .
قوله تعالى (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (إلا ليطاع بإذن الله) واجب لهم أن يطيعهم من شاء الله، ولا يطيعهم أحد إلا بإذن الله.
قوله تعالى (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما)
قال الشيخ الشنقيطي: أقسم تعالى في هذه الآية الكريمة المقدسة، أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جميع الأمور، ثم ينقاد لما حكم به ظاهرا وباطنا ويسلمه تسليما كليا من غير ممانعة ولامدافعة ولامنازعة، وبين في آية أخرى أن قول المؤمنين عصور في هذا التسليم الكلى، والانقياد التام ظاهراً وباطناً لما حكم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي قوله تعالى: (إنما كان قول المومنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا) الآية.
قال مسلم: حدثنا قتيبة بن سعيد. حدثنا ليث. ح وحدثنا محمد بن رُمح.
أخبرنا الليث عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، أن عبد الله بن الزبير حدثه، أن رجلاً من الأنصار خاصم الزبير عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شراج الحَرّة التي يسقون بها النخل. فقال الأنصاري: سَرِّح الماء يمر. فأبى عليهم. فاختصموا عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للزبير: "اسق. يا زبير! ثم أرسل الماء إلى جارك". فغضب الأنصاري. فقال: يا رسول الله! أن كان ابن عمتك!(2/73)
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)
فتلوّن وجه نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثم قال: "يا زبير اسق. ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدْر"؟. فقال الزبير: والله! إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك (فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً) .
(الصحيح 4/1829-1830 ح 2357- ك الفضائل، ب وجوب اتباعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، وأخرجه البخاري (الصحيح 5/34 ح 2359- ك الشرب، ب سكر الأنهار) .
أخرج أدم بسنده الصحيح عن مجاهد، قوله (ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً) قال: شكاً.
قوله تعالى (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم مافعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً)
وبه عن مجاهد قوله (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم) هم يهود يعنى الرب كما أمر أصحاب موسى.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً) قال تصديقاً.
قوله تعالى (ولهديناهم صراطاً مستقيماً)
انظر حديث النواس بن سمعان المتقدم عند الآية 6 من سورة الفاتحة.
قوله تعالى (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً)
قال مسلم: وحدثنا محمد بن المثنى وابن بشار (واللفظ لابن المثنى) قالا: حدثنا محمد بن جعفر. حدثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم، عن عروة، عن عائشة قالت: كنتُ أسمع أنه لن يموت نبيّ حتى يُخيّر بين الدنيا والآخرة. قالت: فسمعتُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في مرضه الذي مات فيه، وأخذتْهُ بُحَّة، يقول: (مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقاً) قالت: فظننته خير حينئذ.
(الصحيح 4/1893 بعد رقم ح 2444- ك فضائل الصحابة) ب فضل عائشة رضي الله عنها) ، وأخرجه البخارى (الصحيح 8/136 ح 4435- المغازي) .(2/74)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)
قال مسلم: وحدثني زهير بن حرب. حدثنا جرير عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما تعدّون الشهيد فيكم؟. قالوا: يا رسول الله! من قتل في سبيل الله فهو شهيد. قال: "إن شهداء أمتي إذاً لقيل". قالوا: فمن هم؟ يا رسول الله! قال: "من قتل في سبيل الله فهو شهيد. ومن مات في سبيل الله فهو شهيد. ومن مات في الطاعون فهو شهيد.
ومن مات في البطن فهو شهيد".
قال ابن مقسم: أشهد على أبيك، في هذا الحديث؛ أنه قال: "والغريق شهيد".
(الصحيح 3/1521 ح 1915- ك الإمارة، ب بيان الشهداء) .
قال البخاري: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال: حدثني مالك بن أنس، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدرى - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما يتراءون الكوكب الدرى الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم". قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبباء لا يبلغها غيرهم؟
قال: "بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدّقوا المرسلين".
(الصحيح 6/368 ح 3256- ك بدء الخلق، ب ماجاء في صفة الجنة ... ) ، وأخرجه مسلم (الصحيح 4/2177 ح 2831- ك الجنة وصفة نعيمها، ب ترائي أهل الجنة اهل الغرف) .
قال البخاري: حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي زائل، عن أبي موسى قال: قيل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟
قال: "المرء مع من أحب".
(الصحيح 10/573 ح 6170 - ك الأدب، ب علامة الحب في الله) ، وأخرجه مسلم (الصحيح 4/2034 ح 2640- ك البر والصلة، ب المرء مع من أحب) من حديث ابن مسعود بنحوه.
قال الطبراني: حدثنا أحمد بن عمرو الخلال المكي أبو عبد الله حدثنا عبد الله ابن عمران العابدي حدثنا فضيل بن عياض عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله والله إنك لأحب إلى من نفسي، وإنك أحب إلى من أهلى ومالى وأحب إلى من ولدى وإني لأكون(2/75)
في البيت فأذكرك فما أصبر حتى أتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك. فلم يرد عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئاً حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) الآية.
(المعجم الصغير 1/26) ، وأخرجه أبو نعيم (حلية الأولياء 4/240) عن أحمد بن عمرو الخلال به.
وعزاه الحافظ ابن كثير إلى المقدسى في (صفة الجنة) من طريق الطبراني، ثم قال: لا أرى بإسناده بأساً.
(التفسير 1/523) . وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الصغير والأوسط، ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله ابن عمران العابدى، وهو ثقة (مجمع الزوائد 7/7) ، والحديث أخرجه ابن أبي حاتم (التفسير ح 3575) ، والطبري (التفسير ح 9925) من طريق جرير، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق به مرسلاً. وهو إسناد حسن على إرساله (انظر تفسير ابن أبي حاتم- الحاشية) .
قوله تعالى (ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليماً)
إشارة إلى مقام الطاعة بالله والرسول كما في الآية السابقة.
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعاً)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: (خذوا حذركم فانفروا ثبات) قال: عصبا، يعنى سرايا متفرقين (أو انفروا جميعاً) يعني كلكم.
قوله تعالى (وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله على إذ لم أكن معهم شهيدا)
أخرج أدم بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة) إلى قوله (فسوف نؤتيه أجرا عظيما) مابين ذلك في المنافقين.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مقاتل بن حيان قوله: (وإن منكم لمن ليبطئن) يقول: وإن منكم لمن ليتخلفن عن الجهاد (فإن أصابتكم مصيبة) من العدو والجهد من العيش.(2/76)
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر في هذه الآية الكريمة أن المنافقين إذا سمعوا بأن المسلمين أصابتهم مصيبة أي: من قتل الأعداء لهم، أو جراح أصابتهم أو نحو ذلك يقولون إن عدم حضورهم معهم من نعم الله عليهم. وذكر في مواضع أخر: أنهم يفرحون بالسوء الذي أصاب المسلمين، كقوله تعالى (وإن تصبكم سيئة يفرحرا بها) وقوله (وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل، ويتولوا وهم فرحون) .
قوله تعالى (ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة ياليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيما)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر في هذه الآية، أن المنافقين إذا سمعوا أن المسلمين أصابهم فضل الله أي: نصر وظفر وغنيمة، تمنوا أن يكونوا معهم ليفوزوا بسهامهم من الغنيمة، وذكر في مواضع أخر أن ذلك الفضل الذي يصيب المؤمنين يسوءهم لشدة عداوتهم الباطنة لهم كقوله تعالى (إن تمسسكم حسنة تسؤهم) وقوله (إن تصبك حسنة تسؤهم) .
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مقاتل بن حيان قوله: (ولئن أصابكم فضل من الله) يعنى فتحاً وغنيمة وسعة في الرزق، قوله تعالى (ليقولن) المنافق وهو نادم في التخلف، قوله (كأن لم تكن بينكم وبينه مودة) يقول: كأنه ليس من أهل دينكم في المودة، فهذا من التقديم، قوله: (ياليتنى كنت معهم) قال: المنافق نادم في التخلف يتمنى ياليتني كنت معهم، قوله (فأفوز) يعني أنجو بالغنيمة، قوله (عظيما) يقول: وافرا.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن قتادة قوله (ياليتني كنت معهم) قال: قول حاسد.
قوله تعالى (فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالأخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيماً)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن السدي: (فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة) يقول: يبيعون الحياة الدنيا بالآخرة.(2/77)
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر في هذه الآية الكريمة، أنه سوف يؤتى المجاهد في سبيله أجرا عظيما سواء قتل في سبيل الله، أم غلب عدوه وظفر به وبين في موضع أخر: أن كلتا الحالتين حسنى، وهو قوله (قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين) .
قوله تعالى (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً)
قال البخاري: حدثني عبد الله بن محمد حدثنا سفيان عن عبيد الله قال: سمعتُ ابن عباس قال: كنتُ أنا وأمي من المستضعفين.
(الصحيح 8/103 ح 4587- ك التفسير، سورة النساء) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها) قال: أمر المؤمنين أن يقاتلوا عن مستضعفى المؤمنين، كانوا بمكة.
قوله تعالى (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا)
انظر تفسير سورة آل عمران آية 13 وسورة النساء آية (51) .
قوله تعالى (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية)
قال الحاكم: حدثنا أبو العباس قاسم بن القاسم السياري ثنا إبراهيم بن هلال ثنا على بن الحسن بن شقيق أنبأ الحسين بن واقد عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن عبد الرحمن بن عوف وأصحاباً له أتوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة فقالوا: يا نبي الله كنا في عز ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة؟ قال: "إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا" فكفوا فأنزل الله تعالى (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس) .
(هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه المستدرك 2/307 ووافقه الذهبي) ، وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق علي بن الحسن بن شقيق به، ورجاله ثقات وسنده صحيح) .(2/78)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، ثنا عبد الرحمن بن إبراهيم، ثنا الوليد، ثنا عبد الرحمن بن نمر قال: سألت الزهري عن قوله: (وأقيموا الصلاة) قال الزهري: أن يصلى الصلوات الخمس لوقتها.
ورجاله ثقات وسنده صحيح، والوليد هو ابن مسلم القرشى.
قوله تعالى (وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن السدي قوله (لولا أخرتنا إلى أجل قريب) وهو الموت.
قال ابن أبي حاتم: حدثنى أبي، ثنا يعقوب بن إبراهيم، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا حماد بن زيد، عن هشام قال: قرأ الحسن (قل متاع الدنيا قليل) قال: رحم الله عبداً صحبها على حسب ذلك، ما الدنيا كلها من أولها إلى أخرها إلا كرجل نام نومة فرأى في منامه بعض ما يحب ثم انتبه.
ورجاله ثقات وسنده صحيح.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (لمن اتقى) يقول اتقى معاصى الله.
قوله تعالى (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (ولو كنتم في بروج مشيدة) يقول: في قصور محصنة.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية قوله (وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله) قال هذه في السراء، قوله (وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك) قال فهذه في الضراء.
قوله تعالى (قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (قل كل من عند الله) النعم والمصائب.(2/79)
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً) الحسنة والسيئة من عند الله، أما الحسنة فأنعم الله بها عليك، وأما السيئة فابتلاك الله بها.
قوله تعالى (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (الحسنة) ما فتح الله عليه يوم بدر، وما أصابه من الغنيمة والفتح و (السيئة) ما أصابه يوم أحد أن شج في وجهه وكسرت رباعيته.
قال الطبري: حدثني يونس قال: حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح في قوله (وما أصابك من سيئة فمن نفسك) قال: بذنبك وأنا قدرتها عليك.
قوله تعالى (من يطع الرسول فقد أطاع الله)
قال البخاري: حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب حدثنا أبو الزناد أن الأعرج حدثه أنه سمع أبا هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله. ومن يُطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعصِ الأمير فقد عصاني. وإنما الإمام جُنّة يُقاتل من ورائه، ويُتّقى به. فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن له بذلك أجراً، وإن قال بغيره فإن عليه منه".
(الصحيح 6/135 ح 2957- ك الجهاد والسير، ب يقاتل من وراء الإمام) ، (صحيح مسلم 3/1466 - ك الإمارة، ب وجوب طاعة الأمراء في غير معصيه ... ) .
وانظر الأحاديث المتقدمة عند الآية (59) من السورة نفسها.
قوله تعالى (ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيّت طائفة منهم غير الذي تقول)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيّت طائفة منهم غير الذي تقول) قال: يغيرون ما عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(2/80)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
قوله تعالى (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)
قال أحمد: حدثنا أنس بن عياض، حدثنا أبو حازم عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: لقد جلست أنا وأخى مجلساً ما أحب أن لى به حمر النعم، أقبلت أنا وأخي، وإذا مشيخة من صحابة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جلوس عند باب من أبوابه، فكرهنا أن نفرق بينهم، فجلسنا حجرة، إذ ذكروا آية من القرأن، فتماروا فيها حتى ارتفعت أصواتهم، فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مغضباً قد احمر وجهه، يرميهم بالتراب، ويقول: "مهلاً يا قوم، بهذا أهلكت الأمم من قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتب بعضها ببعض، إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضاً، بل يصدق بعضه بعضا فماعرفتم فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه".
(المسند ح 6702) . وأخرجه ابن ماجة (السنن 1/33 ح 85- المقدمة، ب في القدر) من طريق داود بن أبي هند عن عمرو بن شعيب بنحوه مختصراً، وفيه: "إنهم اختصموا في آية من القدر".
قال البوصيري: إسناده صحيح رجاله ثقات (مصباح الزجاجة 1/58) . وقال الألبانى: حسن صحيح (صحيح ابن ماجة ح 69) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (أفلا يتدبرون القرأن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) أي: قول الله لا يختلف، وهو حق ليس فيه باطل، وإن قول الناس يختلف.
قوله تعالى (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)
قال مسلم: حدثني زهير بن حرب. حدثنا عمر بن يونس الحنفى. حدثنا عكرمة بن عمار عن سماك أبي زُميل. حدثني عبد الله بن عباس. حدثنى عمر بن الخطاب قال: لما اعتزل نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نساءه قال: دخلتُ المسجد. فإذا الناس(2/81)
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
ينكتون بالحصى ويقولون: طلّق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نساءه. وذلك قبل أن يؤمرن بالحجاب. فقال عمر: فقلتُ: لأعلمنّ ذلك اليوم. قال: فدخلت على عائشة.
فقلتُ: يابنت أبي بكر! أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟.
فقالت: مالى ومالك يا ابن الخطاب؟ عليك بعيبتك. قال: فدخلتُ على حفصة بنت عمر. فقلتُ لها: يا حفصة! أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ والله! لقد علمت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يُحبكِ. ولولا أنا لطلقكِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فبكتْ أشد البكاء. فقلتُ لها: أين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قالت: هو في خِزانته في المشربة. فدخلت فإذا أنا برباح غلام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاعدأ على أسكفة المشربة. مدلِّ رجليه على نقير من خشب. وهو جِذع يرقى عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وينحدر. فناديت: يا رباح! استأذن لى عندك على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فنظر رباح إلى الغرفة. ثم نظر إلىّ. فلم يقل شيئاً. ثم قلت: يا رباح! استأذن لى عندك على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنظر رباح إلى الغرفة. ثم نظر إلى. فلم يقل شيئاً.
ثم رفعتُ صوتي فقلت: يا رباح! استأذن لى عندك على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فإنّي أظنّ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظن أنّي جئتُ من أجل حفصة. والله! لئن أمرني رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بضرب عنقها لأضربن عنقها. ورفعتُ صوتي. فأومأ إلى أن ارْقه.
فدخلتُ على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو مضطجع على حصير. فجلستُ. فأدنى عليه إزاره وليس عليه غيره. وإذا الحصير قد أثّر في جَنْبه. فنظرت ببصرى في خزانة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإذا أنا بقبضةٍ من شعير نحو الصاع. ومثلها قَرَظاً في ناحية الغرفة.
وإذا أفيق معلق. قال: فابتدرتْ عيناي. قال: "ما يُبكيك؟ يا ابن الخطاب"!
قلتُ: يا نبي الله! ومالى لا أبكى؟ وهذا الحصير قد أثّر في جنبك وهذه خِزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى. وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار.
وأنتَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصفوته. وهذه خِزانتك. فقال: "يا ابن الخطاب!.
ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا"؟. قلتُ: بلى. قال ودخلتُ(2/82)
عليه حين دخلتُ وأنا أرى في وجهه الغضب. فقلتُ: يا رسول الله ما يشق عليك من شأن النساء؟ فإن كنت طلّقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك. وقلّما تكلمت، وأحمد الله، بكلام إلا رجوت أن يكون الله يُصدق قولى الذي أقول، ونزلت هذه الآية. آية التخيير (عسى ربّه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن) (66/ التحريم/5) .
(وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير) (66/ التحريم/4) وكانت عائشة بنت أبي بكر وحفصة تظاهران على سائر نساء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلتُ: يا رسول الله! أطلقتهن؟ قال: لا "قلتُ: يا رسول الله! إني دخلتُ المسجد والمسلمون ينكبنون بالحصى. يقولون: طلّق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نساءه. أفأنزل فأُخبرهم أنك لم تطلقهن؟ قال نعم إن شئت" فلم أزل أْحدثه حتى تحسر الغضب عن وجهه. وحتى كشر فضحك. وكان من أحسن الناس ثَغْراً. ثم نزل نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونزلتُ. فنزلتُ أتشبّث بالجذع ونزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كأنما يمشي على الأرض ما يمسّه بيده. فقلتُ: يا رسول الله!
إنما كنتَ في الغرفة تسعة وعشرين. قال: "إن الشهر يكون تسعاً وعشرين" فقمتُ على باب المسجد. فناديت بأعلى صوتي: لم يُطّلق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نساءه.
ونزلت هذه الآية: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أوالخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر. وأنزل الله عز وجل آية التخيير.
(الصحيح 2/1105 ح 1479- ك الطلاق، ب في الإيلاء واعتزال النساء ... ) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به) يقول سارعوا به وأفشوه.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن قتادة قوله (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم) يقول: إلى علمائهم.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية قوله (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) قال الذين يتتبعونه ويتجسسونه.(2/83)
قوله تعالى (ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا) فهو في أول الآية لخبر المنافقين، قال (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به) إلا قليلا، يعني بالقليل "المؤمنين".
قوله تعالى (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك ... )
قال الإمام أحمد: ثنا سليمان بن داود الهاشمى قال أنا أبو بكر عن أبي إسحاق قال قلت للبراء: الرجل يحمل على المشركين أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة قال: لا لأن الله عز وجل بعث رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك) إنما ذاك في النفقة.
(المسند 4/281) ورجاله ثقات وإسناده صحيح. وأبو بكر هو: ابن عياش المقري ثقة الا أنه ساء حفظه لما كبر وكتابه صحيح والحديث ليس من سوء حفظه لأنه ثبت في الصحيح من حديث حذيفة وغيره (انظر صحيح البخارى -التفسير- سورة البقرة، باب (وآنفقوا في سبيل الله) رقم 4516) .
وأبو إسحاق هو السبيعي، وأخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق أبي بكر بن عياش به، (تفسير ابن أبي حاتم رقم 3745) وانظر تفسير ابن كثير فقد ذكر رواية أحمد وابن أبي حاتم وابن مردويه (2/322 و323) وأخرجه الحاكم من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق به وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 2/275-276) .
قوله تعالى (وحرض المؤمنين على القتال عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا)
قال الشيخ الشنقيطي: لم يصرح هنا بالذى يحرض عليه المؤمنين ماهو، وصرح في موضع أخر بأنه القتال، وهو قوله (وحرض المؤمنين على القتال) وأشار إلى ذلك هنا بقوله في أول الآية (فقاتل في سبيل الله) وقوله في آخرها: (عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا) الآية.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وأشد تنكيلا) أى عقوبة.(2/84)
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)
قوله تعالى (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها)
أخرج أدم بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة) ، قال: شفاعة بعض الناس لبعضهم
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها) أي حظ منها، (ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها) والكفل هو الإثم.
قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عبد الواحد، حدثنا أبو بريدة بن عبد الله بن أبي بردة، حدثنا أبو بردة بن أبي موسى، عن أبيه - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا جاءه السائل أو طلبت إليه حاجة قال: "اشفعوا تؤجروا، ويقضى الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء".
(الصحيح 3/351 ح 1432 - ك الزكاة، ب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها) . وأخرجه مسلم (الصحيح 4/2026 ح 2627 - ك البر والصلة، ب استحباب الشفاعة فيما ليس بحرام) .
قوله تعالى (وكان الله على كل شيء مقيتا)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (مقيتا) حفيظاً.
قوله تعالى (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا)
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم السام عليكم، فقل: وعليك".
(الصحيح 11 ح 6257- ك الإستئذان، ب كيف يرد على أهل الذمة بالسلام؟) . وأخرجه مسلم في (صحيحه4/1706- ك السلام، ب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام، وكيف يرد عليهم) .(2/85)
وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)
قال مسلم: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد العزيز (يعنى الدراوردي) عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تبدؤا اليهود ولا النصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه".
(الصحيح 4/1707 ح 2167 - ك السلام، ب النهي عن ابتداء أهل الكتاب، بالسلام ... ) .
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا جعفر بن سليمان، عن عوف، عن أبي رجاء، عن عمران بن حصين، قال: جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: السلام عليكم، فرد عليه السلام، ثم جلس، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "عشر" ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد عليه، فجلس، فقال: "عشرون" ثم جاء أخر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد عليه، فجلس، فقال: "ثلاثون".
(السنن 4/350 ح 5195- ك الأدب، ب كيف السلام؟) .، وأخرجه الترمذي (5/52 ح 2689- ك الاستئذان، ب ما ذكر في فضل السلام) من طريق عبد الله بن عبد الرحمن والحسين بن محمد الجريري عن محمد بن كثير به. قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وقال ابن حجر. سند قوي (الفتح 11/6) ، صححه الألباني (انظر صحيح سنن الترمذي ح 2163) .
روى ابن أبي شيبة: عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الله قال: "إن السلام اسم من أسماء الله فأفشوه".
وبالإسناد نفسه قال: إن الرجل إذا مر بالقوم فسلم عليهم فردوا عليه كان له فضل درجة عليهم، لأنه أذكرهم السلام.
(المصنف 8/438 و441 ح 5796، 5807) ، وأخرجه الخطيب في (موضح الأوهام 1/409-410) من طريق ابن جريج، عن فافاه به. وقد روي هذا الحديث عن ابن مسعود عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرفوعاً، أخرجه كذلك: البزار في (مسنده 5/174-175 ح 1770، 1771) ، والطبرانى في (الكبير 10/224 ح 10391، 10392) ، وابن حبان في (روضة العقلاء ص 112) ، من طرق، عن الأعمش به، وساقوه جميعاً مساق حديث واحد. قال المنذري. رواه البزار والطبراني، وأحد إسنادي البزار جيد قوي. (الترغيب والترهيب 3/427-428) ، وقال الهيثمي: رواه البزار بإسنادين والطبرانى بأسانيد، وأحدهما رجاله رجاله الصحيح عند البزار والطبراني. (مجمع الزوائد 8/29) .
وقال الحافظ ابن حجر: رواه البزار بإسناد جيد. (التلخيص الحبير 4/94) . ورمز له السيوطي بالحسن في (الجامع الصغير 4/151مع فيض القدير) ، وصححه الألبانى في (صحيح الجامع 3697) .(2/86)
وأما الاختلاف في رفعه ووقفه: فقد صحح الأئمه روايه الوقف، فقال الدارقطني -بعد أن ذكر الخلاف في رفعه-: والموقوف أصح. (العلل 5/76) . وقال الحافظ ابن حجر: ... وطريق الموقوف أقوى.
(فتح الباري 11/3) والحديث وإن كان موقوفاً، إلا أن أكثره له معنى الرفع؛ إذ أنه مما لا بمجال للرأي فيه. هذا، وللشطر الأول منه شاهد من رواية أنس - رضي الله عنه -، أخرجه البخارى في (الأدب المفرد 2/449 ح 989 - مع فضل الله الصمد) إلى قوله " ... فأفشوا السلام بينكم. وحسن الحافظ ابن حجر إسناده (فتح الباري 11/13) ، وصحيح إسناده الألبانى (السلسلة الصحيحة رقم 184) ، وحسن الحديث في (صحيح الأدب المفرد ص 380 ح 760) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها) عن قتادة يقول: حيوا أحسن منها، أي: على المسلمين (أو ردوها) أي: على أهل الكتاب.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (حسيبا) قال: حفيظاً.
قوله تعالى (الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لاريب فيه)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية في قوله (لاريب فيه) لا شك فيه.
قوله تعالى (فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا)
قال البخاري: حدثني محمد بن بشار، حدثنا غندر وعبد الرحمن قالا: حدثنا شعبة، عن عدى عن عبد الله بن يزيد، عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - (فما لكم في المنافقين فئتين) رجع ناس من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أحدٍ وكان الناس فيهم فِرقتين: فريق يقول: اقتلهم، وفريق يقول: لا، فنزلت (فما لكم في المنافقين فئتين) .
(الصحيح 8/104-105 ح 4589 -ك التفسير- سورة النساء) ، (صحيح مسلم 4/2142 ح 2776 - ك صفات المنافقين) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس (والله أركسهم بما كسبوا) يقول: أوقعهم.(2/87)
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)
قوله تعالى (أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا)
قال الشيخ الشنقيطي: أنكر تعالى في هذه الآية الكريمة على من أراد أن يهدي من أضل الله، وصرح فيها بأن من أضله الله لايوجد سبيل إلى هداه وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم، لهم في الدنيا خزى ولهم في الآخرة عذاب عظيم) وقوله (ومن يضلل الله فلا هادى له) .
قوله تعالى (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن السدي قوله (فإن تولوا) يقول: إذا أظهروا كفرهم.
انظر سورة البقرة آية (191) وسورة الأنفال آية (57) .
قوله تعالى (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن السدي قوله: (أوجاءوكم) يقول: رجعوا فدخلوا فيكم.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (حصرت صدورهم) ضاقت.
قوله تعالى (ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مجاهد قوله: (أن يقاتلوكم) أن يقاتل المؤمنين أو يقاتل قومه.(2/88)
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة في قوله: (فإن اعتزلوكم) ، قال: نسختها (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) .
انظر تفسير سورة البقرة آية (208) .
قوله تعالى (ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم) قال: ناس كانوا يأتون إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيسلمون رياء، ثم يرجعون إلى قريش يرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا ههنا وههنا. فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة قوله: (ستجدون آخرين يريدون) قال: حيا كانوا بتهامة، قالوا: يانبي الله: إنا لا نقاتلك ولا نقاتل قومنا فأرادو أن يأمنوا رسول الله، ويأمنوا قومهم فأبى الله ذلك عليهم.
وهذه المراسيل يقوي بعضها بعضاً في الإحتجاج.
قوله تعالى (كلما ردوا إلى الفتنة اركسوا فيها)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة قوله: (كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها) كلما عرض لهم بلاء هلكوا فيه.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية قوله: (كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها) قال كلما ابتلوا بها عموا فيها.
قوله تعالى (فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مجاهد قوله: (فإن لم يعتزلوكم) قال: أمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا.
انظر تفسير سورة البقرة آية (208) .
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن السدي قوله: (وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا) أما السلطان فهو الحجة.(2/89)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
قوله تعالى (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) يقول: ماكان له ذلك فيما أتاه من ربه، من عهد الله الذي عهد إليه.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (فتحرير رقبة مؤمنة) ، يعني بالمؤمنة: من عقل الإيمان وصام، وصلى فإن لم يجد رقبة، فصيام شهرين متتابعين، وعليه دية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا بها عليه.
قال مسلم: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلى. أخبرنا جرير عن منصور، عن إبراهيم، عن عُبيد بن نضيلة الخُزاعي، عن المغيرة بن شعبة. قال: ضربتْ امرأة ضرّتها بعمود فسطاط وهي حبلى. فقتلتها. قال: وإحداهما لِحيانية.
قال: فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دية المقتولة على عصبة القاتلة. وغرّة لما في بطنها فقال رجل من عصبة القاتلة: أنغرم دية من لا أكل ولا شرب ولا استهل؟ فمثل ذلك يُطل. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أسجع كسجع الأعراب"؟ قال: وجعل عليهم الدية.
(الصحيح 3/1310 ح 1682- ك القسامة، ب دية الجنين ... ) .
وانظر حديث مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي المتقدم تحت الآية رقم (238) من سورة البقرة وفيه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أعتقها فإنها مؤمنة".
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: فإن كان في أهل الحرب وهو مؤمن، فقتله خطأ، فعلى قاتله أن يكفر بتحرير رقبة مؤمنة أو صام شهرين متتابعين ولا دية عليه.(2/90)
قال البخاري: حدثنا قيس بن حفص حدثنا عبد الواحد حدثنا الحسن بن عمرو، حدثنا مجاهد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من قتل معاهداً لم يرِحْ رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً".
(الصحيح 6/311 ح 3166- ك الجزية، ب إثم من قتل معاهداً بغير جرم) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله) وإذا كان كافرا في ذمتكم فقتل، فعلى قاتله الدية مسلمة إلى أهله، وتحرير رقبة مؤمنة أو صيام شهرين متتابعين.
انظر تفسير سورة البقرة آية (185) .
قال ابن أبي حاتم حدثنا عمار بن خالد التمار، ثنا أسباط، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة قال: اذا كان (فمن لم يجد) فالأول الأول.
ورجاله ثقات وسنده صحيح، وأسباط هو ابن محمد.
قوله تعالى (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما)
قال البخاري: حدثنا محمد بن عرعرة قال حدثنا شعبة عن زبيد قال: سألت أبا وائل عن المرجئة، فقال: حدثني عبد الله أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "سِباب المسلم فسُوق وقتاله كفر".
(الصحيح 1/135 ح 48 - ك الايمان، ب خوف المؤمن من أن يحبط عمله ... ) ، صحيح مسلم 1/81 - ك الايمان، ب بيان قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "سباب المسلم فسوق") .
قال البخاري: حدثنا علي حدثنا إسحاق بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يُصب دماً حَراماً".
(الصحيح 12/194 ح 6862 - ك الديات، ب قول الله تعالى (الآية) .(2/91)
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
قال البخاري: حدثنا آدم بن أبي إياس حدثنا شعبة حدثنا مغيرة بن النعمان قال سمعت سعيد بن جبير قال: آية اختلف فيها أهل الكوفة، فرحلتُ فيها إلى ابن عباس فسألته عنها فقال: نزلت هذه الآية (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم) هي أخر ما نزل، وما نسخها شيء.
(الصحيح 8/106 ح 4590 - ك التفسير، سورة النساء، ب (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم)) .
وانظر سورة الفرقان آية (68) حديث النسائي عن زيد بن ثابت.
قال البخارى: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أول ما يقضى بين الناس في الدماء".
(الصحيح 12/194 ح، 6864- ك الديات، ب قول الله تعالى: (ومن يقتل مؤمناً متعمداً) ، وأخرجه مسلم (الصحيح 3/1304 ح 1678- ك القسامة، ب المجازاة بالدماء في الآخرة) من طريق عبدة بن سليمان ووكيع، كلاهما عن الأعمش به، وفيه: "يوم القيامة".
قال البخاري: حدثنا عبد الرحمن بن المبارك، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا أيوب ويونس، عن الحسن، عن الأحنف بن قيس قال: ذهبت لأنصر هذا الرجل، فلقينى أبو بكرة فقال: أين تريد؟ قلت: أنصر هذا الرجل. قال: ارجع، فإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار". قلت: يارسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: "إنه كان حريصاً على قتل صاحبه".
(الصحيح 12/192 ح 6875 -فتح البارى- ك الديات، ب قوله تعالى (ومن أحياها ... )) ، وأخرجه مسلم في (صحيحه 4/2213 ح 2888- ك الفتن وأشراط الساعة، ب إذا تواجه المسلمان بسيفهما) وعنده قول الأحنف: قال: قلت: أريد نصر ابن عم رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يعنى علياً- ... ) .
قال ابن ماجة: حدثنا محمد بن الصباح، ثنا سفيان بن عُيينة، عن عمار الدهني، عن سالم ابن أبي الجعد، قال: سئل ابن عباس عمّن قتل مؤمناً متعمداً ثم تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى؟ قال: ويحه! وأنى له الهدى؟ سمعت نبيكم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "يجئ القاتل، والمقتول يوم القيامة متعلق برأس صاحبه(2/92)
يقول: ربّ! سَل هذا، لِم قتلنى"؟ والله! لقد أنزلها الله عز وجل على نبيكم، ثم ما نسخها بعد ما أنزلها.
(السنن ح 2621 - ك الديات، ب هل لقاتل مؤمن توبة) . وأخرجه أحمد والنسائي من طرق عن سالم به نحوه. وقال ابن كثير: وقد روى هذا عن ابن عباس من طرق كثيرة. (المسند 1/240) ، (السنن - التحريم 7/85) ، (التفسير 2/333) . وقال الألباني: صحيح (صحيح ابن ماجه 2/93) .
وأخرجه الطبري (9/63 ح 10188) من طريق يحيى الجابر عن سالم، بزيادة ألفاظ فيه. قال الشيخ أحمد شاكر: وهو حديث صحيح.
وانظر سورة النساء آية (48) حديث النسائي عن معاوية.
وانظر سورة الفرقان آية (69) .
قال ابن ماجة: حدثنا هشام بن عمار، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا مروان بن جناح، عن أبي الجهم الجوزجانى، عن البراء بن عازب، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق".
(السنن ح 2619- ك الديات، ب التغليظ في قتل مسلم ظلماً) ، قال البوصيري: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات رواه البيهقى والأصبهانى من هذا الوجه وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو، ورواه النسائى في الصغرى من حديث بريدة بن الحصيب ومن حديث عبد الله بن مسعود (مصباح الزجاجة 2/83) . وحسن إسناده المنذرى (الترغيب 3/202) ، وقال الألباني: صحيح (صحيح ابن ماجة 1/92) . وله شاهد أخرجه النسائى من حديث بريدة (السنن 7/83) صحح إسناده ابن الملقن (خلاصة البدر المنير 2/261) .
قال الضياء المقدسي: أخبرنا عبد الرحيم بن عبد الكريم بن محمد المروزي - بها- أن أبا الفضل محمد بن عبد الواحد بن محمد المغازلى أخبرهم -قراءةً عليه- أنا أبو الخير محمد بن أحمد بن رَرَا الأصبهاني -قراءة عليه- أبنا أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه الحافظ، ثنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل، ثنا عبد الرحمن بن علي بن خشرم، ثنا سُويد بن نصر، ثنا ابن المبارك، عن سليمان التيمى، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أبى علَي أن يجعل لقاتل المؤمن توبة".
(المختارة 6/163 ح /2164) قال محققه: إسناده صحيح، وصححه السيوطي (الجامع الصغير 1/71) ، وصححه الألبانى (السلسلة الصحيحة 2/309 ح 689) .(2/93)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: أكبر الكبائر الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله لأن الله سبحانه يقول (فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه وأعد له عذابا عظيماً) .
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا ... ) إلى قوله (إن الله كان بما تعملون خبيراً)
قال أحمد: ثنا يعقوب ثنا أبي عن (محمد بن) إسحاق حدثني يزيد بن عبد الله ابن قسيط عن القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد عن أبيه عبد الله بن أبي حدرد قال: بعثنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أضم فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن ربعي ومحلم بن جثامة بن قيس فخرجنا حتى إذا كنا ببطن أضم مر بنا عامر الأشجعي على قعود له متيع ووطب من لبن فلما مر بنا سلم علينا فأمسكنا عنه وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله بشيء كان بينه وبينه وأخذ بعيره ومتيعه فلما قدمنا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأخبرناه الخبر نزل فينا القرآن (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعلمون خبيراً) .
(المسند 6/11) ، وأخرجه الطبري في (تفسيره رقم 10212، 10213) ، وغيرهما. قال الهيثمي: رجاله ثقات (مجمع الزوائد 7/7) . وقال د. حكمت بشير: إسناده حسن (مرويات الإمام أحمد 1/386)
قال البخاري: حدثني على بن عبد الله حدثنا سفيان عن عمرو عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً) .
قال: قال ابن عباس: كان رجل في غنيمة له، فلحِقه المسلمون. فقال: السلام عليكم، فقتلوه وأخذوا غنيمته، فأنزل الله في ذلك إلى قوله (عرض الحياة الدنيا) تلك الغنيمة. قال: قرأ ابن عباس: (السلام) .
(الصحيح 8/107 ح 4591 - ك التفسير، سورة النساء، ب (الآية)) ، (صحيح مسلم، 4/2319 - ك التفسير) .(2/94)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94) لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا إبراهيم بن عتيق الدمشقى، ثنا مروان يعني ابن محمد الطاطري، ثنا ابن لهيعة حدثني أبو الزبير، عن جابر قال: أنزلت هذه الآية: (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً) في مرداس.
(التفسير ح 3932 - سورة النساء، آية 94) . وحسنه الحافظ ابن حجر (فتح الباري 8/107) وله شاهد في البخاري (8/107 ح 4591) من حديث ابن عباس، دون تسمية صاحب القصة) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: حرم الله على المؤمنين أن يقولوا لمن شهد أن لا إله إلا الله: (لست مؤمنا) ، كما حرم عليهم الميتة، فهو أمن على ماله ودمه، لاتردوا عليه قوله.
قوله تعالى (كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا)
قال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، ثنا وكيع، عن سفيان عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير: (فمن الله عليكم) فأظهر الإسلام.
قال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، ثنا وكيع، عن سفيان عن حبِيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير قوله: (فتبينوا) قال: وعيد من الله مرتين (إن الله كان بما تعملون خبيرا) .
قوله تعالى (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله) ذكر في هذه الآية الكريمة أنه فضل المجاهدين في سبيل الله بأموالهم على القاعدين درجة وأجرا عظيما، ولم يتعرض لتفضيل بعض المجاهدين على بعض، ولكنه بين في موضع أخر وهو قوله (لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى) وقوله في هذه الآية الكريمة (غير أولى الضرر) يفهم من مفهوم مخالفته أن من خلفه العذر إذا كانت نيته صالحة يحصل على ثواب المجاهد.(2/95)
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)
قال البخاري: حدثنا إسماعيل بن عبد الله قال حدثني إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب قال حدثني سهلُ بن سعد الساعدي أنه رأى مروان بن الحكم في المسجد، فأقبلتُ حتى جلستُ إلى جنبه، فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أملى عليه (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) فجاءه ابن أم مكتوم وهو يُملها عليّ قال: يا رسول الله، والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت -وكان أعمى- فأنزل الله على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفخذُه على فخذى، فثقُلت على حتى خفتُ أن ترضّ فخذي. ثم سُرّىَ عنه فأنزل الله (غير أولى الضرر) .
(الصحيح 8/108 ح 4592 - ك التفسير، سورة النساء، ب (الآية) ، (صحيح مسلم 3/1508 - ك الإمارة، ب سقوط فرض الجهاد عن المعذورين) .
قال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد -هو ابن زيد- عن حميد عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في غزاة فقال: "إن أقواماً بالمدينة خلفنا ما سلكنا شعباً ولا وادياً إلا وهم معنا فيه، حبسهم العذر".
وقال موسى: حدثنا حماد عن حُميد عن موسى بن أنس عن أبيه: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال أبو عبد الله: الأول أصح.
(الصحيح 6/55 ح 2839 - ك الجهاد والسير، ب من حبسه العذر عن الغزو) ، (صحيح مسلم 3/1518 ح 1911- ك الامارة، ب ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر آخر نحوه) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (أولى الضرر) أهل العذر.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (وكلا وعد الله الحسنى) وهي الجنة، والله يؤتي كل ذى فضل فضله.(2/96)
قوله تعالى (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً. درجات منه ومغفرة ورحمة ... )
قال مسلم: حدثنا سعيد بن منصور. حدثنا عبد الله بن وهب. حدثني أبو هانيء الخولاني عن أبي عبد الرحمن الحبُلي، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يا أبا سعيد! مَن رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وجبت له الجنة". فعجب لها أبو سعيد. فقال: أعِدْها علي. يا رسول الله!
ففعل. ثم قال: "وأُخرى يُرفع بها العبد مائة درجة في الجنة. ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض" قال: وما هي؟ يا رسول الله! قال: "الجهاد في سبيل الله. الجهاد في سبيل الله".
(الصحيح 3/1501 ح 1884 - ك الإمارة، ب بيان ما أعده الله تعالى للمجاهدين في الجنة من الدرجات) .
قال الترمذي: حدثنا عباس العنبري. حدثنا يزيد بن هارون. أخبرنا إسرائيل عن محمد بن جُحادة عن عطاء عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "في الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين مائة عام".
(السنن 4/674 ح 2529 - صفة الجنة، ب صفة درجات الجنة) . قال الترمذي: حديث حسن غريب. وأخرجه أحمد في المسند رقم (7910) من طريق: شريك، عن محمد بن جحادة به. قال محققه: صحيح. وصححه الألبانى في (صحيح سنن الترمذي رقم 2054) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (درجات منه ومغفرة ورحمة) كان يقال: الإسلام درجة، والهجرة في الإسلام درجة، والقتل والجهاد درجة.
قوله تعالى (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يزيد المقريء حدثنا حيوة وغيره قالا حدثنا محمد بن عبد الرحمن أبو الأسود قال: قُطع على أهل المدينة بعث، فاكتتبتُ فيه، فلقيت عكرمة مولى ابن عباس، فأخبرته، فنهاني عن ذلك أشدّ النهي ثم قال:(2/97)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)
أخبرني ابن عباس أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يُكثرون سواد المشركين على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأتي السهم يرمى به فيُصيب أحدَهم فيقتله، أو يُضرب فيقتل، فأنزل الله (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم) الآية.
رواه الليث عن أبي الأسود.
(الصحيح 8/111 ح 4596 - ك التفسير، سورة النساء) .
قال الطبري: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا محمد بن شريك، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين، وأكرهوا! فاستغفروا لهم، فنزلت (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم) الآية، قال: فكتب إلى من بقى بمكة من المسلمين بهذه الآية، لا عذر لهم. قال: فخرجنا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت فيهم: (ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذى في الله) (سورة العنكبوت: 10) إلى آخر الآية، فكتب المسلمون إليهم بذلك، فحزنوا وأيسوا من كل خير ثم نزلت فيهم: (إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم) (سورة النحل:110) فكتبوا إليهم بذلك: إن الله قد جعل لكم مخرجاً، فخرجوا فأدركهم المشركون، فقاتلوهم حتى نجا من نجا، وقتل من قتل.
(التفسير 9/102- 103 ح 10260) ، وأخرجه ابن أبي حاتم (التفسير ح 3969- النساء/ 97) بإسناد الطبري نفسه، ولفظه أخصر منه، والطحاوى (مشكل الآثار 4/328) ، والبيهقي (السنن 9/14) ، من طرق عن عمرو بن دينار نحوه. وعزاه الهيثمي للبزار وقال: رجاله رجال الصحيح غير محمد بن شريك، وهو ثقة. (مجمع الزوائد 7/10) . والحديث رجاله ثقات، وإسناده صحيح (انظر تفسير ابن أبي حاتم - في الموضع المشار إليه) .(2/98)
قال ابن أبي حاتم: أخبرنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، أنبا ابن وهب، حدثني عبد الرحمن بن مهدي، عن الثوري، عن إسماعيل بن أبي خالد أن سعيد بن جبير قال: في قول الله تعالى (قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) قالوا: إذا عمل فيها بالمعاصي فاخرجوا.
ورجاله ثقات وإسناده صحيح، وابن وهب هو ابن عبد الله.
قوله تعالى (إلا المستضعفين من الرجال والنساء ... )
قال البخاري: حدثنا قتيبة حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا رفع رأسه من الركعة الآخرة يقول: اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مُضر، اللهم اجعلها سِنين كسِني يوسف. وأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: غِفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله".
قال ابن أبي الزناد عن أبيه: هذا كله في الصُبح.
(الصحيح 2/572 ح 1006 - ك الاستسقاء، ب دعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) .
انظر حديثي البخارى عن ابن عباس المتقدمين في الآية (75) من السورة نفسها.
قوله تعالى (لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، ثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة في قوله: (لا يستطيعون حيلة) قال: نهوضا إلى المدينة، (ولا يهتدون سبيلا) طريقا إلى المدينة.
ورجاله ثقات وإسناده صحيح، وعمرو هو ابن دينار.
قوله تعالى (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: المراغم: التحول من الأرض إلى الأرض. والسعة: السعة في الرزق.(2/99)
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
قوله تعالى (ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله ... )
قال البخاري: حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، حدثنا شقيق حدثنا خباب - رضي الله عنه - قال: "هاجرنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نلتمس وجه الله، فوقع أجرُنا على الله، فمنّا من مات لم يأكل من أجره شيئاً منهم مصعب بن عُمير، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها. قتل يوم أحد فلم نجد ما نكَفنه إلا بُردة إذا غطّينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطينا رجليه خرج رأسه، فأمرنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نغطّى رأسه، وأن نجعل على رجليه من الإذخر"
(الصحيح 3/170 ح 1276 - ك الجنائز، ب إذا لم يجد كفنا إلا ... ) .
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، ثنا أبو أحمد الزبيري، ثنا محمد بن شريك، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان بمكة رجل يقال له: ضمرة من بنى بكر، وكان مريضاً، فقال لأهله: أخرجوني من مكة فإني أجد الحرّ فقالوا: أين نخرجك؟ فأشار بيده نحو المدينة يعني.
فمات، فنزلت هذه الآية: (ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله) .
(التفسير- سورة النساء/100 ح 4001) . وأخرجه الطبري (التفسير 9/118 ح 10294) بسند ابن أبي حاتم نفسه، لكن وقع في إسناده "شريك" وصوابه: محمد بن شريك كما عند أبي حاتم. وعزاه السيوطي لابن المنذر أيضاً بلفظه. وعزاه الهيثمي لأبى يعلى بنحوه وقال: رجاله ثقات (مجمع الزوائد 7/10) وقال السيوطى عن سند أبي يعلى والطبرانى: رجاله ثقات (الدر المنثور 2/207 وسنده صحيح) .
قوله تعالى (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا)
قال البخاري: حدثنا أبو معمر، قال: حدثنا عبد الوارث قال: حدثنا يحيى ابن أبي إسحاق قال: سمعت أنساً يقول: خرجنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المدينة إلى مكة، فكان يُصلى ركعتين ركعتين، حتى رجعنا إلى المدينة، قلت: أقمتم بمكة شيئاً؟
قال أقمنا بها عشراً.
(الصحيح 2/653 ح 1081- ك تقصير الصلاة، ب ما جاء في التقصير ... ) .(2/100)
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
وقال البخارى: حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا سفيان، عن الزهرى، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: الصلاة أول ما فرضت ركعتين، فأقِرَّتْ صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر. قال الزهري: فقلت لعروة: ما بال عائشة تتم؟ قال: تأولت ما تأول عثمان.
(الصحيح 2/663 ح 1090- ك تقصير الصلاة، ب يقصر إذا خرج من موضعه ... ) ، و (صحيح مسلم 1/478 بعد رقم 685ك صلاة المسافرين ... ) .
قال مسلم: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب وزهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم (قال إسحاق: أخبرنا. وقال الآخرون: حدثنا عبد الله بن إدريس) عن ابن جريج، عن ابن أبي عمار، عن عبد الله بن بابيه، عن يعلى بن أمية؛ قال: قلتُ لعمر بن الخطاب (ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) فقد أمِن الناس! فقال: عجبتُ مما عجبتَ منه. فسألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم. فاقبلوا صدقته".
(الصحيح 1/478 ح 686- ك صلاة المسافرين وقصرها، ب صلاة المسافرين وقصرها) .
قال أحمد: حدثنا الفضل بن دكين حدثنا مالك، -يعني ابن مغول- عن أبي حنظلة قال سألت ابن عمر عن صلاة السفر؟ فقال: ركعتين قال: قلت فأين قول الله تبارك وتعالى (إن خفتم) ونحن آمنون؟ قال: سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو قال كذاك سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(المسند رقم 6194) وصححه أحمد شاكر. وقال محققو المسند بإشراف أ. د. عبد الله التركى: صحيح لغيره (المسند 10/331 ح 7194) . واورده الحافظ ابن حجر محتجاً به (الفتح 2/564) .
قوله تعالى (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ... )
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى بعده يليه مبينا له (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا(2/101)
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
حذرهم وأسلحتهم) الآية. وقوله تعالى (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا) ويزيده إيضاحا أنه قال هنا (فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة) وقال في آية البقرة (فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون) ؛ لأن معناه فإذا أمنتم فأتموا كيفيتها بركوعها وسجودها وجميع ما يلزم فيها مما يتعذر وقت الخوف. وعلي هذا التفسير الذي دل له القرآن فشرط الخوف في قوله (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) معتبر أي: وإن لم تخافوا منهم أن يفتنوكم فلا تقصررا من كيفيتها، بل صلوها على أكمل الهيئات، كما صرح به في قوله (فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة) وصرح باشتراط الخوف أيضاً لقصر كيفيتها بأن يصليها الماشي والراكب بقوله (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا) . ثم قال (فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم) الآية.
قال البخاري: حدثنا أبو اليمان قال آخبرنا شعيب عن الزهري قال: سألته هل صلّى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يعني صلاة الخوف-؟ قال: أخبرني سالم أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "غزوت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِبل نجد، فوازينا العدوّ فصاففنا لهم، فقام رسول الله يصلى لنا، فقامت طائفة معه تصلى، وأقبلت طائفة على العدو، وركع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. بمَن معه وسجد سجدتين، ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تُصل، فجاءوا فركع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهم ركعة وسجد سجدتين ثم سلم، فقام كل واحدٍ منهم فركع بنفسه ركعة وسجد سجدتين".
(الصحيح 2/497 ح 942- ك صلاة الخوف، ب صلاة الخوف) ، وأخرجه مسلم في صحيحه - ك صلاة المسافرين، ب صلاة الخوف ح 305، 306) .
قال الترمذي: حدثنا محمود بن غيلان. حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا سعيد بن عبيد الهنائي. حدثنا عبد الله بن شقيق. حدثنا أبو هريرة: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نزل بين ضجنان وعُسفان، فقال المشركون: إن لهولاء صلاةً هي أحب اليهم من آبائهم وأبنائهم وهي العصر، فأجمعوا أمركم فميلوا عليهم مَيلة واحدة، وإن جبريل أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمره أن يقسِم أصحابه شطرين فيُصلى بهم،(2/102)
وتقوم طائفة أخرى وراءهم، وليأخذوا حِذرهم وأسلحتهم، ثم يأتي الآخرون ويُصلّون معه ركعة واحدة، ثم يأخذ هؤلاء حِذرهم وأسلحتهم، فتكون لهم ركعة ركعة ولرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتان.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة وفى الباب عن عبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس وجابر وأبى عياش الزرقي وابن عمر وحذيفة وأبى بكرة وسهل بن أبي حثمة وأبو عياش الزرقى اسمه زيد بن صامت.
(سنن الترمذى 5/243 ح 3035- ك التفسير، سورة النساء) ، وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي 3/42) . ونقل ابن رجب عن البخاري قوله: حديث عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة: حسن (علل الترمذي 1/303) .
قال أبو داود: وأما عبيد الله بن سعد فحدثنا قال: حدثني عمي، ثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، أن عروة بن الزبير حدثه أن عائشة حدثته بهذه القصة، قالت: كبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكبرت الطائفة الذين صفوا معه، ثم ركع فركعوا، ثم سجد فسجدوا، ثم رفع فرفعوا، ثم مكث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالساً ثم سجدوا هم لأنفسهم الثانية، ثم قاموا فنكصوا على أعقابهم يمشون القهقرى، حتى قاموا من ورائهم، وجاءت الطائفة الأخرى فقاموا فكبروا، ثم ركعوا لأنفسهم ثم سجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسجدوا معه، ثم قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسجدوا لأنفسهم الثانية. ثم قامت الطائفتان جميعاً فصلوا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فركع فركعوا، ثم سجد فسجدوا جميعاً، ثم عاد فسجد الثانية وسجدوا معه سريعاً كأسرع الاسراع جاهداً لا يألون سراعاً، ثم سلم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسلموا فقام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد شاركه الناس في الصلاة كلها.
(السنن 2/15 ح /1242- ك الصلاة، ب من قال يكبرون جميعاً) ، وأخرجه أحمد في (مسنده 6/275) من طريق: يعقوب بن إبراهيم عن أبيه عن ابن إسحاق به وفيه: صلى رسول الله بالناس صلاة الخوف بذات الرقاع ... والحاكم في المستدرك (1/ 336-337) من طريق: محمد بن حاتم الدورى، عن يعقوب به. وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وهو أتم حديث وأشفاه في صلاة الخوف. ووافقه الذهبي. وإسناده حسن. وقد سأل الترمذي الإمام البخاري عن أي الروايات في صلاة الخوف أصح؟ فقال: كل الروايات عندي صحيح وكل يستعمل. (انظر العلل لابن رجب 1/301) .(2/103)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم) ، وطائفة يأخذون أسلحتهم ويقفون بإزاء العدو، فيصلى الإمام بمن معه ركعة ثم يجلس علي هيئته، فيقوم القوم فيصلون لأنفسهم الركعة الثانية والإمام جالس، ثم ينصرفرن حتى يأتوا أصحابهم فيقفون موقفهم، ثم يقبل الآخرون فيصلى بهم الإمام الركعة الثانية، ثم يسلم، فيقوم القوم فيصلون لأنفسهم الركعة الثانية.
فهكذا صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم بطن نخلة.
قوله تعالى (فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: فإذا سجدت الطائفة التي قامت معك في صلاتك تصلى بصلاتك ففرغت من سجودها. (فليكونوا من ورائكم) ، يقول: فليصيروا بعد فراغهم من سجودهم خلفكم مصافي العدو في المكان الذي فيه سائر الطوائف التي لم تصل معك، ولم تدخل معك في صلاتك.
قوله تعالى (ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم)
أخرج البخاري بسنده عن ابن عباس (إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى) قال عبد الرحمن بن عوف، وكان جريحاً.
(الصحيح 8/264 ح 4599- التفسير) .
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (ولا جناح) لا حرج.(2/104)
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)
قوله تعالى (فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قوله (فاذكروا الله قياما) ، لا يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها حدا معلوما، ثم عذر أهلها في حال عذر، غير الذكر، فإن الله لم يجعل له حداً ينتهي إليه، ولم يعذر أحد في تركه إلا مغلوبا على عقله فقال (فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم) بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية وعلي كل حال.
قوله تعالى (فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مقاتل بن حيان قوله: (فإذا اطمأننتم) يقول: إذا استقررتم وآمنتم.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة) ، قال: أتموها.
قوله تعالى (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر في هذه الآية الكريمة أن الصلاة كانت ولم تزل على المؤمنين كتابا أى: شيئا مكتوبا عليهم واجبا حتما موقوتا أي له أوقات يجب بدخولها ولم يشر هنا إلى تلك الأوقات، ولكنه أشار لها في مواضع أخر كقوله (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا) .
قال الترمذي: حدثنا هناد حدثنا محمد بن فضيل عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن للصلاة أولاً وآخراً، وإن أول وقت صلاة الظهر حين تزول الشمس، وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر،(2/105)
وإن أول وقت صلاة العصر حين يدخل وقتها، وإن آخر وقتها حين تصفرّ الشمس، وإن أول وقت المغرب حين تغرب الشمس، وإن أخر وقتها حين يغيب الأفق، وإن أول وقت العشاء الآخرة حين يغيب الأفق، وإن آخر وقتها حين ينتصف الليل، وإن أول وقت الفجر حين يطلع الفجر، وإن أخر وقتها حين تطلع الشمس".
(السنن 1/283-284 ح 151- ك الصلاة، ب ما جاء في مواقيت الصلاة) ، وأخرجه الإمام أحمد في (مسنده رقم 7172) حدثنا محمد بن فضيل به. وقد أعل الترمذي الحديث برواية أخرى عن مجاهد مرسلاً، ورد ذلك التعليل ابن حزم وابن الجوزى وابن القطان والزيلعي وأحمد شاكر ومحققو (مسند أحمد 12/94-96) بإشراف أ. د. عبد الله التركي، وله شواهد صحيحة وردت في المسند برقم (6966 و4/416) ، وصححه الألبانى (صحيح سنن الترمذي رقم 129) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (موقوتا) مفروضا.
قوله تعالى (ولاتهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله مالا يرجون وكان الله عليما حكيما)
قال الشيخ الشنقيطي: نهى الله تعالى المسلمين في هذه الآية الكريمة عن الوهن الضعف في طلب أعدائهم الكافرين وأخبرهم بأنهم إن كانوا يجدون الألم من القتل والجراح فالكفار كذلك والمسلم يرجو من الله من الثواب والرحمة مالا يرجوه الكافر فهو أحق بالصبر على الآلام منه، وأوضح هذا المعنى في آيات متعددة كقوله (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله) وكقوله (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم) إلى غير ذلك من الآيات.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قوله (إن تكونوا تألمون) ، قال: توجعون (وترجون من الله مالا يرجون) ، قال: ترجون الخير.(2/106)
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)
قوله تعالى (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً. واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً. ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً. يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما تعملون محيطاً. ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلاً)
قال الترمذي: حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب أبو مسلم الحراني. حدثنا محمد بن سلمة الحرّاني. حدثنا محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن أبيه عن جده قتادة بن النعمان قال: كان أهل بيت منّا يقال لهم بنو أبيرق بشر وبشير ومبشر، وكان بشير رجلاً منافقاً يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم ينحله بعض العرب ثم يقول قال فلان كذا وكذا قال فلان كذا وكذا، فإذا سمع أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك الشعر قالوا: والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث أو كما قال الرجل، وقالوا ابن الأبيرق قالها، قال وكان أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدِمت ضافطة من الشام من الدَرْمَك ابتاع الرجل منها فخصَّ بها نفسه. وأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير، فقدمت ضافطة من الشام فابتاع عمِّى رفاعة بن زيد حِملا من الدرمك فجعله في مشربة له وفي المشربة سلاح ودرع وسيف، فعُدى عليه من تحت البيت فنقبت المشربة، وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتاني عمِّى رفاعة، فقال: يا ابن أخي إنه قد عُدى علينا في ليلتنا هذه، فنقبت مشربتنا فذهب بطعامنا وسلاحنا.
قال! فتحسسنا في الدار وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم قال: وكان بنو أبيرق قالوا ونحن نسأل في الدار، والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل رجل منا له صلاح(2/107)
وإسلام، فلما سمع لبيد اخترط سيفه وقال: أنا أسرق؟ فوالله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبيننّ هذه السرقة، قالوا: إليك عنها أيها الرجل فما أنت بصاحبها، فسألنا في الدار حتى لم نشكّ أنهم أصحابها، فقال لى عمّى: يا ابن أخى لو آتيتَ رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرتَ ذلك له، قال قتادة: فأتيت رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: إن أهل بيتٍ منا أهلُ جفاء عمدوا إلى عمّى رفاعة بن زيد فنقبوا مشربة له وأخذوا سلاحه وطعامه فليرُدّوا علينا سلاحنا، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "سآمر في ذلك"، فلما سمع بنو أُبيرق أتوا رجلاً منهم يقال له أسير بن عروة فكلّموه في ذلك، فاجتمع في ذلك ناس من أهل الدار فقالوا: يا رسول الله إن قتادة بن النعمان وعمّه عمدوا إلى أهل بيت منّا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت قال قتادة: فأتيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكلّمته، فقال: لعمدت إلى أهل بيتٍ ذُكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير ثبت ولا بينة"، قال: فرجعتُ، ولوَدِدتُ أني خرجت من بعض مالى ولم أكلم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك، فأتاني عمّى رفاعة، فقال: يا ابن أخي ما صنعتَ؟ فأخبرته بما قال لى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: الله المستعان، فلم يلبث أن نزل القرآن (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً) بني أبيرق (واستغفر الله) أي مما قلتُ لقتادة (إن الله كان غفوراً رحيماً. ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوّاناً أثيماً. يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله -إلى قوله- غفورا رحيما) أي: لو استغفروا الله لغفر لهم، (ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه -إلى قوله- إثماً مبيناً) قوله للبيد: (ولولا فضل الله عليك ورحمته -إلى قوله- فسوف نؤتيه أجراً عظيماً) فلما نزل القرأن أتى رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالسلاح فردّه إلى رفاعة، فقال قتادة: لمّا أتيتُ عمّي بالسلاح، وكان شيخاً قد عمىَ أو عشي في الجاهلية، وكنتُ أرى إسلامه مدخولاً، فلما(2/108)
أتيته بالسلاح قال: يا ابن أخى هو في سبيل الله، فعرفتُ أن إسلامه كان صحيحاً، فلما نزل القرآن لحِق بشيرٌ بالمشركين، فنزل على سُلافة بنت سعد بن سُمية فأنزل الله (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً. إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء ومن يُشرك بالله فقد ضلّ ضلالا بعيداً) فلما نزل على سُلافة رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعره، فأخذتْ رحله فوضعته على رأسها، ثم خرجت به فرمت به في الأبطح، ثم قالت: أهديتَ لى شعر حسّان؟
ما كنتَ تأتيني بخير.
قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نحلم أحداً أسنده غير محمد بن سلمة الحَراني.
وروى يونس بن بكير وغير واحد هذا الحديث عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة مرسلاً لم يذكروا فيه عن أبيه عن جده، وقتادة هو أخو أبي سعيد الخدري لأمه وأبو سعيد الخدري سعد ابن مالك بن سنان.
(السنن 5/ 244-247 ح /3036 - ك التفسير، سورة النساء) ، وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي) وأخرجه الطبري في (تفسيره 9/177) ح 10411) بسند الترمذي نفسه. وأخرجه الحاكم (4/385- ك الحدود) -مع اختلاف في لفظه- من طريق: يونس بن بكير، عن ابن إسحاق به. وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. "وأما عن قول الترمذي: بأن يونس بن بكير وجماعة رووه عن عاصم بن عمر مرسلاً، فقد قال الشيخ أحمد شاكر: غير أن الحاكم: رواه كما ترى من طريق يونس بن بكير مرفوعاً إلى قتادة بن النعمان" (تفسير الطبري 9/183) .
وانظر حديث أم سلمة عند البخاري ومسلم المتقدم تحت الآية رقم (188) من سورة البقرة.
قال الطبري: حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان عن الأعمش، عن أبي رزين: (إذ يبيتون مالا يرضى من القول) قال: يؤلفون مالا يرضى من القول.
ورجاله ثقات وسنده صحيح، وأبو رزين هو مسعود بن مالك.(2/109)
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
قوله تعالى (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما)
انظر حديث علي الذي يرويه عن أبي بكر الصديق المتقدم عند الترمذي تحت الآية (135) من سورة آل عمران.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: أخبر الله عباده بحلمه وعفوه وسعة رحمته ومغفرته، فمن أذنب ذنبا صغيرا كان أو كبيرا، ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما، ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال.
قوله تعالى (ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر في هذه الآية أن من فعل ذنبا فإنه إنما يضر به خصوص نفسه لا غيرها وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله (ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى) وقوله (ومن أساء فعليها) إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى (ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك)
انظر حديث الترمذي عن قتادة بن النعمان المتقدم عند الآية (105) من السورة نفسها.
قوله تعالى (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك مالم تكن تعلم)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر في هذه الآية الكريمة أنه علم نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما لم يكن يعلمه، وبين في مواضع أخر أنه علمه ذلك عن طريق هذا القرآن العظيم الذي أنزله عليه كقوله (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا) الآية.
وقوله (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين) إلى غير ذلك من الآيات.(2/110)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113) لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتاده قوله (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم) علمه الله بيان الدنيا والآخرة، بين حلاله وحرامه ليحتج به على خلقه.
قوله تعالى (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ... )
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر في هذه الآية الكريمة أن كثيرا من مناجاة الناس فيما بينهم لاخير فيه. ونهى في موضع آخر عن التناجى بما لا خير فيه وبين أنه من الشيطان ليحزن به المؤمنين وهو قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالأثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي اليه تحشرون إنما النجوي من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئاً إلا بأذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون) وقوله في هذه الآية الكريمة (أو إصلاح بين الناس) لم يبين هنا هل المراد بالناس المسلمون دون الكفار أولا.
ولكنه أشار في مواضع أخر أن المراد بالناس المرغب في الأصلاح بينهم هنا المسلمون خاصة كقوله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم) وقوله (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما) فتخصيصه المؤمنين بالذكر يدل على أن غيرهم ليس كذلك كما هو ظاهر وكقوله تعالى (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم) .
قال البخاري: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب أن حُميد بن عبد الرحمن أخبره أن أمّه أمّ كلثوم بنت عُقبة أخبرته أنها سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "ليس الكذّاب الذي يُصلح بين الناس فينمى خيراً أو يقول خيراً".
(الصحيح 5/353 ح 2692 - ك الصلح، ب ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس) ، وأخرجه مسلم (ح 2605 - ك البر، ب تحريم الكذب وبيان ما يباح منه) ، وأخرجه أحمد في مسنده (6/403) وفى آخره زيادة وهي بيان ما رخص فيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الكذب) .(2/111)
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)
قال الترمذى: حدثنا هناد. حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مُرة عن سالم بن أبي الجعد عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ألا أخبركم بأفضل مِن درجة الصيام والصلاة والصدقة"؟، قالوا: بلى قال: "إصلاح ذاتِ البين، فإن فساد ذاتِ البين هي الحالقة".
(السنن 4/663 ح 2509- ك صفة القيامة) وقال: هذا حديث صحيح، ويروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين. وأخرجه الإمام أحمد في المسند (6/444، 445) وابن حبان في صحيحه (الإحسان 7/275 ح 5070) كلاهما من طريق أبي معاوية به.
وعزاه الزيلعى للبزار في مسنده ثم نقل عنه قوله: لا نعلمه يروى بإسناد متصل أحسن من هذا، وإسناده صحيح (نصب الراية 4/355) ، وصحح إسناده الحافظ ابن حجر والسيوطى (فيض القدير شرح الجامع الصغير 3/106) ، وصححه الألبانى في (صحيح سنن الترمذى رقم 2037) .
قوله تعالى (ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيماً) أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مقاتل بن حيان (ومن يفعل ذلك) تصدق أو أقرض أو أصلح بين الناس (ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيماً)
قوله تعالى (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين)
انظر حديث الترمذي عن قتادة بن النعمان المتقدم عند الآية (105) من السورة نفسها.
قوله تعالى (نوله ما تولى)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (نوله ما تولى) قال، من آلهة الباطل.
قوله تعالى (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء) يقول: من يجتنب الكبائر من المسلمين.(2/112)
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)
قوله تعالى (إن يدعون من دونه إلا إناثا)
قال الضياء المقدسى: أخبرنا أبو طاهر المبارك بن أبي المعالى -بقراءتي عليه بالجانب الغربي من بغداد- قلتُ له: أخبركم هِبة الله بن الحصين -قراءة عليه وأنت تسمع- أنا الحسن بن المذهِب، أنا أبو بكر القطيعى، نا عبد الله بن أحمد، حدثنى هدية بن عبد الوهاب ومحمود بن غيلان، قالا: نا الفضل بن مرسى، أنا حُسين بن واقد، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب (إن يدعون من دونه إلا إناثاً) قال: مع كل صنمٍ جِنِّية.
(المختارة 3/362، 363 ح 1157) ، وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق محمود بن غيلان به.
وسنده حسن، وعزاه الهيثمي لأحمد وقال: رجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد 7/12) ، وصحح إسناده، د. عامر حسن صبري في (زوائد المسند ص351 ح 144) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (إلا إناثا) ، يقول: ميتا.
قوله تعالى (وإن يدعون إلا شيطانا مريدا)
قال الشيخ الشنقيطي: المراد في هذه الآية بدعائهم الشيطان المريد عبادتهم له ونظيره قوله تعالى (ألم أعهد إليكم يابني أدم ألا تعبدوا الشيطان) الآية، وقوله عن خليله إبراهيم مقررا له (يا أبت لا تعبد الشيطان) وقوله عن الملائكة (بل كانوا يعبدون الجن) الآية وقوله: (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم) ولم يبين في هذه الآيات ماوجه عبادتهم للشيطان وإطاعتهم له واتباعهم لتشريعه وإيثاره على ماجاءت به الرسل من عند الله تعالى كقوله (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) وقوله (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) الآية.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (وإن يدعون إلا شيطانا مريدا) قال: تمرد على معاصي الله.(2/113)
لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)
قوله تعالى (وقال لآتخدن من عبادك نصيبا مفروضا. ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خَلقَ الله)
قال الشيخ الشنقيطي: بين هنا فيما ذكر عن الشيطان كيفية اتخاذه لهذا النصيب المفروض بقوله (ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن أذان الأنعام، ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) ... كما بين كيفية اتخاذه لهذا النصيب المفروض في آيات أخر كقوله (لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين) وقوله (أرأيتك هذا الذي كرمت على لأحتنكن ذريته) الآية. ولم يبين هنا هل هذا الظن الذي ظنه لإبليس ببني أدم أنه يتخذ منهم نصيبا مفروضا وأنه يضلهم تحقق لإبليس أولا، ولكنه بين في آية أخرى أن ظنه تحقق له وهي قوله (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه) الآية. ولم يبين هنا الفريق السالم من كونه من نصيب إبليس ولكنه بينه في مواضع أخر كقوله (لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) وقوله (إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) .
قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي، ثنا إبراهيم بن موسى، أنبا هاشم يعني ابن يوسف عن ابن جريج، أخبرني القاسم بن أبي بزة، عن عكرمة يعنى قوله: (ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم) قال: دين شرعه لهم الشيطان كهيئة البحاير والسوائب.
ورجاله ثقات وإسناده صحيح.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (فليبتكن أذان الأنعام) قال: البتك في البحيرة والسائبة، كانوا يبتكون أذانها لطواغيتهم.
قال البخاري: حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: "لعن الله الواشمات والمتوشمات والمتنمِّصات والمتفلِّجات للحُسن، المغيّرات خلق الله. فبلغ ذلك امرأة من بني أسدٍ يقال لها أم يعقوب، فجاءت فقالت: إنه بلغني أنكَ لعنت كيت وكيت،(2/114)
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)
فقال: وماليَ لا ألعن من لعَنَ رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن هو في كتاب الله، فقالت: لقد قرأتُ ما بين اللوحين، فما وجدت فيه ما تقول. قال: لئن كنتِ قرأتيه لقد وجدتيه، أما قرأتِ (وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) قالت: بلى. قال: فإنه قد نهى عنه. قالت: فإني أرى أهلكَ يفعلونه. قال: فاذهبي فانظري، فذهبتْ فنظرت فلم ترَ من حاجتها شيئاًَ. فقال: لو كانت كذلك ما جامعتها".
(الصحيح 8/498 ح 4886 - ك التفسير، ب (وما آتاكم الرسول فخذوه) ، وأخرجه مسلم في (صحيحه - ك اللباس والزينة، ب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة ... التالى لرقم120) .
انظر حديث عبد الله بن مسعود عند البخاري عند الآية (87-88) من سورة المائدة.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (خلق الله) : دين الله.
قوله تعالى (ومن أصدق من الله قيلاً)
قال البخاري: حدثنا أدم بن أبي إياس حدثنا شعبة أخبرنا عمرو بن مُرّة سمعت مرة الهمدانى يقول: قال عبد الله: إن أحسن الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشر الأمور محدثاتها، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
(الصحيح 13/263 ح 7277 - ك الاعتصام بالكتاب والسنة، ب الاقتداء بسنن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، وأخرجه الإمام أحمد (المسند3/310) بلفظ: " ... فإن أصدق الحديث كتاب الله ... ".
وانظر حديث مسلم تحت الآية رقم (1) من سورة القمر.
قوله تعالى (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب) الآية
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا شيئا من أمانيهم، ولا أماني أهل الكتاب، ولكنه أشار إلى بعض ذلك في مواضع أخر كقوله في أماني العرب الكاذبة (وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين) وقوله عنهم (إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين) ونحو ذلك من الآيات، وقوله في أماني أهل(2/115)
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)
الكتاب (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم) الآية. وقوله (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه) الآية. ونحو ذلك من الآيات.
قوله تعالى (من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا) قال مسلم: حدثنا قتيبة بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة. كلاهما عن ابن عُيينة (واللفظ لقتيبة) حدثنا سفيان عن ابن محيصن، شيخ من قريش، سمع محمد بن قيس بن مخرمة يُحدّث عن أبي هريرة قال: لمّا نزلت (من يعمل سوءاً يُجز به) بلغتْ من المسلمين مبلغاً شديداً فقال رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قاربوا وسدّدوا. ففي كلّ ما يصاب به المسلم كفارة. حتى النكبة ينكبها، أو الشوكة يُشاكها".
قال مسلم: هو عمر بن عبد الرحمن بن محيصن، من أهل مكة.
(الصحيح 4/1993 ح 2574 - ك البر والصلة والآداب، ب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض)
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن محمد بن عبد الله ابن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أنه قال: سمعت سعيدَ بن يسار أبا الحباب يقول: سمعت أبا هريرة يقول، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من يرد الله به خيراً يصب منه".
(الصحيح 10/108 ح 5645 - ك المرضى، ب ما جاء في كفارة المرض ... ) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: من يشرك يجز به، وهو "السوء"، ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا، إلا أن يتوب قبل فيتوب الله عليه.
قوله تعالى (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو انثى وهو مؤمن)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن السدي قوله (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن) ، قال: أبي أن يقبل الإيمان إلا بالعمل الصالح، وأبى أن يقبل الإسلام إلا بالإحسان.(2/116)
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126) وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
قوله تعالى (ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية قوله: (ممن أسلم وجهه لله وهو محسن) يقول: من أخلص لله.
وانظر سورة البقرة آية (135) لبيان كلمة: حنيفاً.
قوله تعالى (واتخذ الله إبراهيم خليلاً)
قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة. حدثنا أبو معاوية ووكيع. ح وحدثنا إسحاق بن إبراهيم. أخبرنا جرير. ح وحدثنا ابن أبي عمر. حدثنا سفيان. كلهم عن الأعمش. ح وحدثنا محمد بن عبد الله بن نمير وأبو سعيد الأشج (واللفظ لهما) قالا: حدثنا وكيع. حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ألا إني أبرأ إلى كل خِلَّ من خله ولو كنت متخذاً خليلاً لاتّخذت أبا بكر خليلاً. إن صاحبكم خليل الله".
(الصحيح 4/1856 - فضائل الصحابة، ب من فضائل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -) .
قوله تعالى (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتى لاتؤتونهن ماكتب لهن وترغبون أن تنكحوهن)
قال البخاري: حدثنا عُبيد بن إسماعيل حدثنا أبو أسامة قال: حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن -إلا قوله- وترغبون أن تنكحوهن) قالت عائشة: هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها ووارثها فأشركته في ماله حتى في العذق. فيرغب أن ينكحها ويكره أن يُزوجها رجلاً فيشركه في ماله بما شرِكته فيعضلها، فنزلت هذه الآية.
(الصحيح 8/114 ح 4600- ك التفسير، سورة النساء ب الآية) .
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء) الآية. لم يبين هنا هذا الذي يتلى عليهم في الكتاب ماهو، ولكنه بينه في أول السورة وهو قوله تعالى (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء) الآية.(2/117)
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
قال مسلم: حدثي أبو الطاهر، أحمد بن عمرو بن سرح وحرملة بن يحيى التجيبي (قال أبو الطاهر: حدثنا. وقال حرملة: أخبرنا) ابن وهب. أخبرني يونس عن ابن شهاب. أخبرنى عروة بن الزبير؛ أنه سأل عائشة عن قول الله: (وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) (النساء: 3) . قالت: يا ابن أختي! هي اليتيمة تكون في حجر وليها تُشاركه في ماله فيُعجبه مالها وجمالها. فيُريد وليها أن يتزوجها بغير أن يُقسط في صداقها. فيعطيها مثل ما يُعطيها غيره. فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يُقسطوا لهن. ويبلغوا بهن أعلى سُنتهن من الصداق. وأمرو أن ينكحوا من طاب لهم من النساء، سواهن قال عروة: قالت عائشة: ثم إن الناس استفتوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد هذه الآية، فيهن. فأنزل الله عز وجل: (يستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن ما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتى لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن) قالت: والذي ذكر الله تعالى؛ أنه يُتلى عليكم في الكتاب، الآية الأولى التي قال الله فيها: (وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء) (النساء: 3) قالت عائشة: وقول الله في الآية الأخرى: (وترغبون أن تنكحوهن) ، رغبة أحدكم عن اليتيمة التي تكون في حجره، حين تكون قليلة المال والجمال. فنهوا أن ينكحوا ما رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط. من أجل رغبتهم عنهن.
(الصحيح 4/2313 ح 3018 - ك التفسير) .
انظر حديث البخاري عن عائشة عند الآية (3) من السورة نفسها.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ماكتب لهن وترغبون أن تنكحوهن) فكان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقى عليها ثوبه، فإذا فعل بها ذلك لم يقدر أحد أن يتزوجها أبداً، فإن كانت جميلة وهويها تزوجها وأكل مالها، وإن كانت دميمة منعها الرجل أبداً حتى تموت، فإذا ماتت ورثها فحرم الله ذلك ونهى عنه.(2/118)
قوله تعالى (والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قوله (والمستضعفين من الولدان) فكانوا في الجاهية لايورثون الصغار ولا البنات، فذلك قوله: (لا تؤتونهن ما كتب لهن) فنهى الله عن ذلك وبين لكل ذي سهم سهمه، فقال: (للذكر مثل حظ الأنثيين) صغيرا كان أو كبيرا.
قال الشيخ الشنقيطي: القسط العدل، ولم يبين هنا هذا القسط الذي أمر به لليتامى، ولكنه أشار له في مواضع أخر كقوله (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) وقوله (قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح) وقوله (فأما اليتيم فلا تقهر) وقوله (وآتى المال على حبه ذوي القربي واليتامى) الآية. ونحو ذلك من الآيات فكل ذلك فيه القيام بالقسط لليتامى.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن شيبان عن قتادة يعنى قوله (فإن الله كان به عليما) قال: محفوظ ذلك عند الله، عالم به شاكر له ...
قوله تعالى (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا)
قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة. حدثنا عبدة بن سليمان. حدثنا هشام عن أبيه، عن عائشه: (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً) الآية. قالت: أنزلت في المرأة تكون عند الرجل. فتطول صُحبتها. فيُريد طلاقها فتقول: لا تطلّقني، وأمسكني، وأنت في حل منّي. فنزلت هذه الآية.
(الصحيح 4/2316 ح 3021 - ك التفسير) ، (وصحيح البخاري 8/114ح 4601 - ك التفسير سورة النساء بنحوه) .(2/119)
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)
قال الترمذى: حدثنا محمد بن المثنى. حدثنا أبو داود. حدثنا سليمان بن معاذ عن سِماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: خشيتْ سودة أن يُطلقها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: لا تطلقني وأمسكني، واجعل يومى لعائشة ففعل فنزلت (فلا جناح عليها أن يصلحا بينهما صُلحاً والصلح خير) فما اصطلحا عليه من شىء فهو جائز. كأنه من قول ابن عباس.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. (السنن 5/249 ح /3040 وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي) . وفيه سماك بن حرب وروايته عن عكرمة فيها اضطراب ولا يضر لأنه ثبت عن عائشة فيما أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 2/186) وانظر (الفتح 9/313) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (نشوزا) البغض.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: فتلك المرأة تكون عند الرجل، لايرى منها ما يحب وله امرأة غيرها أحب اليه منها، فيؤثرها عليها. فأمره الله إذا كان ذلك ما تقول لها: "ياهذه إن شئت أن تقيمي على ما ترين من الأثرة، فأواسيك وأنافق عليك، فأقيمي وإن كرهت خليت سبيلك"، فإن هي رضيت أن تقيم بعد أن يخيرها فلا جناح عليه، وهو قوله: "والصلح خير"، وهو التخيير.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الشح: هواه في الشيء يحرص عليه.
قوله تعالى (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم)
قال الشيخ الشنقيطي: هذا العدل الذي ذكر تعالى هنا أنه لا يستطاع هو العدل في المحبة، والميل الطبيعى؛ لأنه ليس تحت قدرة البشر بخلاف العدل في الحقوق الشرعية فإنه مستطاع، وقد أشار تعالى إلى هذا بقوله (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لا تستطيع أن تعدل بالشهوة بينهن ولو حرصت.(2/120)
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)
وقال أيضاً في تفسير هذه الآية الكريمة:
اخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: يعني: في الحب والجماع.
قوله تعالى (فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة)
قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي، ثنا همام، ثنا قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل".
(السنن 2/242 ح 2133- ك النكاح، ب في القسم بين النساء) . وأخرجه الترمذي في (سننه 3/438 ح 1141 - ك النكاح، ب ما جاء في التسوية بين الضرائر) . والنسائى في (سننه 7/63 - ك عشرة النساء، ب ميل الرجل إلى بعض نسائه) . وابن ماجه في (سننه 1/633 ح 1969 - ك النكاح، ب القسمة بين النساء) . والحاكم في (المستدرك 2/186 - ك النكاح من طرق عن همام به نحوه) . قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي. ونقل ابن حجر عن ابن دقيق العيد قوله: إسناده على شرط الشيخين ونقل عن عبد الحق قوله: خبر ثابت (التلخيص الحبير 3/201) وقد أعله بعضهم بأن هماماً تفرد برفعه، وأن هشاماً الدستوائى قال فيه: كان يقال. لكن قال الترمذي: لا يعرف هذا الحديث مرفوعاً إلا من حديث همام وهمام ثقة حافظ. وتعقبه ابن الملقن فقال: هو ثقة احتج به الشيخان وباقي الكتب السته فلا يضره ذلك (خلاصة البدر المنير 2/213) وقال الحافظ ابن حجر: رجاله ثقات (الدراية 2/66) ، وصححه السيوطي (الجامع الصغير 1/430 ح 826) . وقال الألباني في جواب هذه العلة: وهذه العلة غير قادحة ولذلك تتابع العلماء على تصحيحه (إرواء الغليل 7/81) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (فتذروها كالمعلقة) تذروها لا هي أيم، ولا هي ذات زوج.
قوله تعالى (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر في هذه الآية الكريمة أن الزوجين إذا افترقا أغنى الله كلا منهما من سعته وفضله الواسع، وربط بين الأمرين بأن جعل أحدهما
شرطا والآخر جزاء. وقد ذكر أيضاً أن النكاح سبب للغنى بقوله (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله) .(2/121)
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته) قال الطلاق.
قوله تعالى (إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديراً)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه إن شاء أذهب الناس الموجودين وقت نزولها، وأتى بغيرهم بدلا منهم، وأقام الدليل على ذلك في موضع آخر، وذلك الدليل هو أنه أذهب من كان قبلهم وجاء بهم بدلا منهم وهو قوله تعالى (إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين) . وذكر في موضع آخر: أنهم إن تولوا أبدل غيرهم وأن هؤلاء المبدلين لا يكونون مثل المبدل منهم بل يكونون خيرا منهم، وهو قوله تعالى (وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) . وذكر في موضع آخر: أن ذلك هين عليه غير صعب وهو قوله تعالى (إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز) أي: ليس بممتنع ولا صعب.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة في قوله: (إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا) ، قادر والله ربنا على ذلك: أن يهلك من يشاء من خلقه، ويأتى بآخرين من بعدهم.
قوله تعالى (من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعاً بصيراً)
انظر سورة الإسراء آية (18) وفيها تقييد هذا الاطلاق في قوله تعالى (عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد) .
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الولدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا)
انظر حديث مسلم عن زيد بن خالد المتقدم في سورة البقرة آية (282) .(2/122)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين) أمر الله المؤمنين أن يقولوا الحق ولو على أنفسهم أو آبائهم ولايحابوا غنيا لغناه، ولا يرحموا مسكينا لمسكنته، وذلك قوله: (إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا) ، فتذروا الحق، فتجوروا.
أخرج الطبري بنسده الحسن عن قتادة: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله) الآية، هذا في الشهادة. فأقم الشهادة، يا ابن أدم، ولو على نفسك، أو الوالدين، أو على ذوى قرابتك أو أشراف قومك، فإنما الشهادة لله وليست للناس، وإن الله رضي العدل بنفسه، والإقساط والعدل ميزان الله في الأرض، به يرد الله من الشديد على الضعيف، ومن الكاذب على الصادق، ومن المبطل على المحق. وبالعدل يصدق الصادق، ويكذب الكاذب، ويرد المعتدي ويوبخه، تعالى ربنا وتبارك وبالعدل يصلح الناس يا ابن آدم (إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما) يقول: أولى بغنيكم وفقيركم.
قوله تعالى (إن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وإن تلووا أو تعرضوا) إن تلووا بألسنتكم بالشهادة أو تعرضوا عنها.
قوله تعالى (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا) وهم اليهود والنصارى. آمنت اليهود بالتوراة ثم كفرت، وأمنت النصارى بالإنجيل ثم كفرت. وكفرهم به: تركهم إياه ثم ازدادوا كفرا بالفرقان وبمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال الله: (لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا) ، يقول: لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريق هدى، وقد كفروا بكتاب الله وبرسوله محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(2/123)
بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)
قوله تعالى (بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية قوله: (عذابا أليما) قال: الأليم الموجع في القرآن كله.
قوله تعالى (الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله (الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين) قال: نهى الله تعالى المؤمنين أن يلاطفوا الكفار ويتخذوهم وليجة من دون المؤمنين إلا أن يكون الكفار عليهم ظاهرين فيظهرون لهم ويخالفونهم في الدين.
قوله تعالى (أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر في هذه الآية الكريمة أن جميع العزة له جل وعلى وبين في موضع آخر: أن العزة التي هي له وحده أعز بها رسوله والمؤمنين، وهو قوله تعالى (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) أي وذلك بإعزاز الله لهم. والعزة: الغلبة، ومنه قوله تعالى (وعزني في الخطاب) أي: غلبني في الخصام.
قوله تعالى (وقد نزّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يُكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم)
قال الشيخ الشنقيطي: هذا المنزل الذي أحال عليه هنا هو المذكور في سورة الأنعام في قوله تعالى (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره) وقوله هنا (فلا تقعدوا معهم) لم يبين فيه حكم ما إذا نسوا النهي حتى قعدوا معهم، ولكنه بينه في سورة الأنعام بقوله (وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قوله تعالى (أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها) ، وقوله (ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) وقوله (وأقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) ونحو هذا من القرآن، قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم، أنما هلك من كان قبلكم بالمراء والخصومات في دين الله.(2/124)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)
قوله تعالى (الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن قتادة يعني قوله: (الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم) قال: هم المنافقون.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن السدي قوله (وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم) يقول: نغلب عليكم.
قال الضياء: أخبرنا أبو الحسن على بن حمزة بن علي بن طلحة البغدادي -بالقاهرة- أن هبة الله بن محمد بن عبد الواحد بن الحصين الشيباني أخبرهم -قراءة عليه- أنا أبو طالب محمد بن محمد بن ابراهيم بن غيلان، أنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي، ثنا إسحاق بن الحسن الحربي، ثنا أبو حذيفة، ثنا سفيان -يعني عن الأعمش- عن ذرّ، عن يسيع، قال: جاء رجل إلى على قال: يقول الله تبارك وتعالى (فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً) وهؤلاء المؤمنون يُقتلون؟! فقال علي: ادنه (فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً) .
(التفسير ص 98، ورجاله ثقات. وسنده صحيح) ، وأخرجه الحاكم (المستدرك 2/309) والضياء المقدسي (المختارة 2/406-407 ح 793) كلاهما من طريق الثوري به وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي) .
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن السدي قوله: (سبيلا) قال: حجة.
قوله تعالى (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن السدي قوله: (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم) قال: يعطيهم يوم القيامة نورا يمشون به مع المسلمين كما كانوا معهم في الدنيا، ثم يسلبهم ذلك النور فيطفيه، فيقومون في ظلمتهم ويضرب بينهم بالسور.
وأخرجه بسند صحيح عن الحسن البصري بنحوه وأطول.
انظر تفسير سورة البقرة آية (9) .(2/125)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)
قوله تعالى (وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا)
قال الشيخ الشنقيطي: بين في هذه الآية الكريمة صفة صلاة المنافقين بأنهم يقومون إليها في كسل ورياء، ولا يذكرون الله فيها إلا قليلا، ونظيرها في ذمهم على التهاون بالصلاة قوله تعالى (ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى) الآية.
وقوله (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون) الآية. ويفهم من مفهوم مخالفة هذه الآيات أن صلاة المؤمنين المخلصين ليست كذلك، وهذا المفهوم صرح به تعالى في آيات كثيرة كقوله (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون) وقوله (والذين هم على صلاتهم يحافظون) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة في قوله: (وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس) قال: هم المنافقون، لولا الرياء ما صلوا.
أخرج ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن سنان، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن أبي الأشهب عن الحسن: (لا يذكرون الله إلا قليلا) قال: إنما قل لأنه كان لغير الله.
ورجاله ثقات وإسناده صحيح.
قال البخاري: حدثنا عمر بن حفص قال حدثنا أبي قال حدثنا الأعمش قال حدثني أبو صالح عن أبي هريرة قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء. ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا. لقد هممتُ أن آمر المؤذن فيُقيم، ثم آمر رجلا يؤمّ الناس، ثم آخذ شُعلا من نار فأحرق على من لا يخرج إلى الصلاة بعد.
(الصحيح 2/165ح 657- ك الأذان، ب فضل العشاء في جماعه) .
قال مسلم: وحدثنا يحيى بن أيوب ومحمد بن الصباح وقتيبة وابن حُجر.
قالوا: حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن؛ أنه دخل على أنس بن مالك في داره بالبصرة. حين انصرف من الظهر. وداره بجنب المسجد.(2/126)
فلما دخلنا عليه قال: أصليتم العصر؟ فقلنا له: إنما انصرفنا الساعة من الظهر.
قال: فصلّوا العصر فقمنا فصلينا. فلما انصرفنا قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول قال: "تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس، حتى إذا كانت بين قرني الشيطان، قام فنقرها أربعاً. لا يذكر الله فيها إلا قليلا".
(الصحيح 1/434، ح 622 - ك المساجد ومواضع الصلاة، ب استحباب التكبير بالعصر) .
قوله تعالى (مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء)
قال مسلم: حدثني محمد بن عبد الله بن نمير. حدثنا أبي. ح وحدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة. حدثنا أبو أسامة. قالا: حدثنا عبيد الله. ح وحدثنا محمد بن المثنى (واللفظ له) أخبرنا عبد الوهاب (يعني الثقفى) . حدثنا عُبيد الله عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين. تعير إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة".
(الصحيح 4/2146 ح 2784 - ك صفات المنافقين وأحكامهم) .
أخرج أدم بسنده الصحيح عن مجاهد (مذبذبين) قال: المنافقون لا مع المؤمنين ولا مع اليهود.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هولاء) يقول: ليسوا بمؤمنين مخلصين، ولا مشركين مصرحين بالشرك.
انظر تفسير سورة البقرة آية (8) .
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين)
قال ابن كثير: ينهى الله تعالى عباده المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المومنين، يعني مصاحبتهم ومصادقتهم، ومناصحتهم وإسرار المودة إليهم، وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم، كما قال تعالى (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه) .
وانظر تفسير سورة آل عمران آية (28) .(2/127)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)
قوله تعالى (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله واخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر في هذه الآية الكريمة أن المنافقين في أسفل طبقات النار عياذا بالله تعالى. وذكر في موضع آخر أن آل فرعون يوم القيامة يؤمر بإدخالهم أشد العذاب، وهو قوله (ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) . وذكر في موضع آخر أنه يعذب من كفر من أصحاب المائدة عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين وهو قوله تعالى (قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين) فهذه الآيات تبين أن أشد أهل النار عذابا المنافقون وآل فرعون ومن كفر من أصحاب المائدة.
قال ابن أبي شيبة: حدثنا وكيع عن سفيان عن سلمة عن خيثمة عن عبد الله (إن المنافقين في الدرك الاسفل من النار) قال: في توابيت مبهمة عليهم.
(المصنف 13/154 ح 159 72) ورجاله ثقات وإسناده صحيح، وسلمة هو ابن كهيل، وخيثمة هو ابن عبد الرحمن الجعفي الكوفي، وعبد الله هو ابن مسعود) .
قال ابن أبي حاتم: حدثنا المنذر بن شاذان، ثنا عبيد الله بن موسى، أنبا إسرائيل، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) قال: الدرك الاسفل بيوت لها أبواب تطبق عليها فيوقد من تحتهم ومن فوقهم.
وسنده حسن وعاصم هو ابن بهدلة، وأبو صالح هو ذكوان السمان.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: في الدرك الأسفل من النار: يعنى في أسفل النار.
قال البخاري: حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي حدثني الأعمش قال: حدثني إبراهيم عن الأسود قال: "كنا في حلقة عبد الله، فجاء حذيفة حتى قام علينا فسلم ثم قال: لقد أنزل النفاق على قوم خير منكم. قال الأسود: سبحان الله،(2/128)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147) لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)
إن الله يقول (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) . فتبسم عبد الله، وجلس حذيفة في ناحية المسجد، فقام عبد الله، فتفرق أصحابه، فرماني بالحصا فأتيته، فقال حذيفة: عجبت من ضحكه، وقد عرف ما قلت: لقد أنزل النفاق على قوم خير منكم ثم تابوا، فتاب الله عليهم.
(الصحيح ح 4602 - التفسير، سورة النساء) .
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن شيبان عن قتادة (وأصلحوا) قال: أصلحوا ما بينهم وبين الله ورسوله.
قوله تعالى (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما) قال: إن الله جل ثناؤه لا يعذب شاكراً ولا مؤمناً.
قوله تعالى (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لا يحب الله أن يدعوَ أحد على أحد، إلا أن يكون مظلوما، فإنه قد أرخص له أن يدعوَ على من ظلمه، وذلك قوله: (إلا من ظلم) ، وإن صبر فهو خير له.
قوله تعالى (إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفواً قديراً)
قال مسلم: حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حُجر. قالوا: حدثنا إسماعيل وهو ابن جعفر، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ما نقصت صدقة من مال ومازاد الله عبداً بعفو إلا عزاً. وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله".
(الصحيح 4/2001 ح 2588 - ك البر والصلة، ب استحباب العفو والتواضع) .(2/129)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن ابن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: أخبر الله عباده بحكمه وعفوه وكرمه وسعة رحمته ومغفرته فمن أذنب ذنبا صغيرا أو كبيرا ثم استغفر الله يجد الله غفورا رحيما ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال.
قوله تعالى (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا)
انظر حديث أبي أمامة: "كم كانت الرسل؟ " عند الحاكم المتقدم تحت الآية (31) من سورة البقرة.
أخرج الطبري بسنده عن قتادة قوله: (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن لبعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا) ، أولئك أعداء الله اليهود والنصارى. أمنت اليهود بالتوراة وموسى، وكفروا بالإنجيل وعيسى. وأمنت النصارى بالإنجيل وعيسى، وكفروا بالقرأن وبمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاتخذوا اليهودية والنصرانية، وهما بدعتان وليستا من الله، وتركوا الإسلام وهو دين الله الذي بعث به رسله.
قوله تعالى (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء) ، أي كتاباً، خاصة.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، ثنا صفوان بن صالح، ثنا الوليد، أخبرني سعيد عن قتادة في قوله: (جهرة) أي: عياناً.
ورجاله ثقات وإسناده صحيح.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن قتادة في قوله: (فأخذتهم الصاعقة) قال: أخذتهم الصاعقة أي: ماتوا.(2/130)
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)
قوله تعالى (ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك) قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا سبب عفوه عنهم ذنب اتخاذ العجل إلها ولكنه بينه في سورة البقرة بقوله (فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم) .
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية: إنما سمى العجل لأنهم عجلوا فاتخذوه قبل أن يأتيهم موسى.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مجاهد: قوله (العجل) حسيل البقرة.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية: قوله (عفونا) يعني: من بعد ما اتخذوا العجل.
قوله تعالى (ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجداً) انظر حديث البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - المتقدم تحت الآية (58) من سورة البقرة.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، ثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن الأعمش، عن مسلم البطين في قوله: (ورفعنا فوقهم الطور) قال: رفعته الملائكة.
وسنده حسن.
قوله تعالى (وقلنا لا تعدوا في السبت) الآية
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا هل امتثلوا هذا الأمر، فتركوا العدوان في السبت أولا، ولكنه بين في مواضع أخر أنهم لم يمتثلوا وأنهم اعتدوا في السبت كقوله تعالى (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت) الآية. وقوله (واسألهم عن القرية التى كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت) الآية.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن قتادة: (وقلنا لا تعدوا في السبت) أمر القوم أن لا يأكلوا الحيتان يوم السبت ولا يعرضوا وأحلت لهم ماخلا ذلك.(2/131)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)
قوله تعالى (فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة في قوله: (فبما نقضهم ميثاقهم) يقول: فبنقضهم ميثاقهم لعناهم (وقولهم قلوبنا غلف) ، أي لا نفقه، (بل طبع الله عليها بكفرهم) ، ولعنهم حين فعلوا ذلك. (فلا يؤمنون إلا قليلا) لما ترك القوم أمر الله، وقتلوا رسله، وكفروا بآياته، ونقضوا الميثاق الذي أخذ عليهم، طبع الله عليها بكفرهم ولعنهم.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (قلوبنا غلف) قال: في غطاء.
انظر تفسير سورة البقرة آية (88) .
قوله تعالى (وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما)
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا هذا البهتان العظيم الذي قالوه على الصديقة مريم العذراء، ولكنه أشار في موضع أخر إلى أنه رميهم لها بالفاحشة، وأنها جاءت بولد لغير رشدة في زعمهم الباطل -لعنهم الله- وذلك في قوله (فأتت به قومها تحمله قالوا يامريم لقد جئت شيئا فريا) يعنون ارتكاب الفاحشة (يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وقولهم على مريم بهتانا عظيما) يعني: رموها بالزنا.
قوله تعالى: (قولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وماصلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه مالهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا. بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان الواسطى، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جيبر، عن ابن عباس قال: لما أراد الله تعالى أن يرفع عيسى إلى السماء، خرج على أصحابه وفي البيت اثنا عشر(2/132)
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)
رجلا من الحواريين، يعني فخرج عيسى من عين في البيت ورأسه يقطر ماء، فقال: إن منكم من يكفر بي اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي، قال: أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي، فقام شاب من أحدثهم سنا فقال له اجلس ثم أعاد عليهم فقام الشاب، فقال: اجلس، ثم أعاد عليهم فقام الشاب، فقال: أنت هو ذاك فألقي عليه شبه عيسى ورفع عيسى من روزنة في البيت إلى السماء قال: وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبه فقتلوه ثم صلبوه فكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به، وافترقوا ثلاث فرق.
فقالت فرقة: كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء، فهؤلاء اليعقوبية.
وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ما شاء الله ثم رفعه إليه، فهؤلاء النسطورية.
وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه الله إليه وهؤلاء المسلمون. فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال ابن كثير: هذا إسناد صحيح.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وماصلبوه) إلى قوله (وكان الله عزيزا حكيماً) أولئك أعداء الله اليهود ائتمروا بقتل عيسى ابن مريم رسول الله، وزعموا أنهم قتلوه وصلبوه.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: يعني لم يقتلوه ظنهم يقينا.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مجاهد قوله: (بل رفعه الله إليه) رفع الله إليه عيسى حيا.(2/133)
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
قوله تعالى (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً)
قال البخاري: حدثنا إسحاق أخبرنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا أبي عن صالح عن ابن شهاب أن سعيد بن المسيب سمع أبا هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "والذي نفسي بيده، ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير، ويضع الحرب، ويفيض المالُ حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خيراً من الدنيا وما فيها". ثم يقول أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته، ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً) .
(الصحيح 6/566 ح 3448 - ك أحاديث الأنبياء، ب نزول عيسى بن مريم عليهما السلام) .
قال مسلم: حدثنا أبو خيثمة، زهير بن حرب. حدثنا الوليد بن مسلم.
حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر. حدثني يحيى بن جابر الطائى، قاضى حمص حدثني عبد الرحمن بن جُبر عن أبيه، جبير بن نفير الحضرمي، أنه سمع النوّاس بن سمعان الكلابى. ح وحدثني محمد بن مهران الرازي -واللفظ له- حدثنا الوليد ابن مسلم. حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن يحيى بن جابر الطائي، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، جبير بن نفير، عن النوّاس بن سمعان، قال: ذكر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدجال ذات غداة. فخفّض فيه ورفّع. حتى ظنناه في طائفة النخل. فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا. فقال: "ما شأنكم؟. قلنا: يا رسول الله! ذكرتَ الدجال غداة. فخفّضتَ فيه ورفّعت. حتى ظنناه في طائفة النخل. فقال: "غير الدجال أخوفني عليكم. إن يخرج، وأنا فيكم، فأنا حجيجه دونكم. وإن يخرج، ولستُ فيكم، فامرؤ حجيج نفسه.
والله خليفتيَ علي كل مسلم. إنه شاب قطط. عينه طافئة. كأني أشبّهه بعبد العزى بن قطن. فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف. إنه خارج(2/134)
خلّة بين الشام والعراق. فعاث يميناً وعاث شمالاً. يا عباد الله! فاثبتوا.
قلنا: يا رسول الله! وما لبثه في الأرض؟ قال: "أربعون يوماً يوم كسنة ويوم كشهر. ويوم كجمعة. وسائر أيامه كأيامكم. قلنا: يا رسول الله! فذلك اليوم الذي كسنةٍ، أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا. اقدروا له قدره. قلنا: يا رسول الله! وما إسراعه في الأرض؟ قال: كالغيث استدبرته الريح. فيأتي على القوم فيدعوهم، فيؤمنون به ويستجيبون له. فيأمر السماء فتمطر. والأرض فتنبت، فنزوحُ عليهم سارحتهم، أطول ما كانت ذراً، وأسبغه ضُروعاً، وأمدّه خواصر. ثم يأتي القوم. فيدعوهم فيردون عليه قوله. فينصرف عنهم.
فيُصبحون ممحِلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك. فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل. ثم يدعو رجلاً ممتلئاً شباباً.
فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيُقبل ويتَهَلل وجهه.
يضحك. فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم. فينزل عند المنارة البيضاء شرقى دمشق. بين مهرودتين. واضعاً كفّيه على أجنحة ملكين. إذا طأطأ رأسه قطر. وإذا رفعه تحدر منه جُمان كاللولؤ. فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات. ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه. فيطلبه حتى يُدركه بباب لدّ.
فيقتله. ثم يأتي عيسى ابن مريم قوم قد عصمهم الله منه. فيمسح عن وجوههم ويُحدثهم بدرجاتهم في الجنة. فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى: إني قد أخرجت عباداً لي، لايدان لأحد بقتالهم، فحرزّ عبادي إلى الطور. ويبعث الله يأجوج ومأجوج. وهم من كل حدب ينسلون. فيمرّ أوائلهم على بُحيرة طبرية.
فيشربون ما فيها. ويمرّ آخرهم فيقولون: لقد كان بهذه، مرة، ماء. ويُحصر نبي الله عيسى وأصحابه. حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار لأحدكم اليوم. فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه. فيُرسل الله عليهم النغف في رقابهم. فيُصبحون فرسى كموت نفس واحدة. ثم يهبط نبي الله عيسى(2/135)
وأصحابه إلى الأرض. فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم.
فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله. فيُرسل الله طيراً كأعناق البُخت.
فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله. ثم يُرسل الله مطراً لا يكن منه بيت مدر ولا وبر. فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة. ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك، ورُدّي بركتك. فيومئذ تأكل العصابة من الرمّانة. ويستظلون بقحفها. ويُبارك في الرسل. حتى أن اللقحة من الابل لتكفي الفئام من الناس. واللقحة من البقر لتكفى القبيلة من الناس. واللقحة من الغنم لتكفى الفخذ من الناس. فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحاً طيبة. فتأخذهم تحت آباطهم. فتقبض رُوح كل مؤمن وكل مسلم. ويبقى شرار الناس، يتهارجون فيها تهارج الحُمر، فعليهم تقوم الساعة.
(الصحيح 4/2250 ح 2937- ك الفتن وأشراط الساعة، ب ذكر الدجال وصفته وما معه) .
قال مسلم: وحدثنا سعيد بن منصور وعمرو الناقد وزهير بن حرب. جميعاً عن ابن عيينة. قال سعيد: حدثنا سفيان بن عيينة. حدثني الزهري عن حنظلة الأسلمي. قال: سمعت أبا هريرة - رضي الله عنه - يُحدّث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "والذي نفسي بيده! ليهلن ابن مريم بفجّ الروحاء، حاجاً أو معتمراًَ أو ليثنينهما".
(الصحيح 2/915 ح 1252 - ك الحج، ب إهلال النبي صلى الله عليه وسلم وهديه) .
قال الترمذي: حدثنا قتيبة. حدثنا الليث عن ابن شهاب أنه سمع عُبيد الله بن عبد الله بن ثعلبة الأنصاري يحدّث عن عبد الرحمن بن يزيد الأنصاري من بني عمرو بن عوف يقول: سمعت عمي مجمع بن جارية الأنصاري يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "يقتل ابن مريم الدجال بباب لد".
(السنن 4/515 ح 2244- ك الفتن، ب ما جاء في قتل عيسى بن مريم الدجال) . قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وأخرجه أحمد في (المسند 3/420) من طريق: ابن عيينة، عن الزهري به) .(2/136)
قال ابن ماجة: حدثنا محمد بن بشار. ثنا يزيد بن هارون. ثنا العوّام بن حوشب. حدثني جبلة بن سُحيم عن مؤثر بن عفازة، عن عبد الله بن مسعود، قال: لمّا كان ليلة أُسرِيَ برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لقي إبراهيم وموسى وعيسى.
فتذاكروا الساعة. فبدأوا بإبراهيم. فسألوه عنها. فلم يكن عنده منها علم. ثم سألوا موسى. فلم يكن عنده منها علم. فرُدّ الحديث إلى عيسى بن مريم. فقال: قد عُهد إلى فيما دون وجبتها. فأما وجبتها فلا يعلمها إلا الله. فذكر خروج الدجال. قال: أنزل فأقتله. فرجع الناس إلى بلادهم. فيستقبلهم يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون. فلا يمرون بماء إلا شربوه. ولا بشىء إلا أفسدوه. فيجأرون إلى الله. فأدعو الله أن يُميتهم. فتنتن الأرض من ريحهم.
فيجأرون إلى الله. فأدعو الله. فيرسل السماء بالماء. فيحملهم فيلقيهم في البحر.
ثم تنسف الجبال وتمد الأرض مد الأديم. فعُهد إليّ: متى كان ذلك، كانت الساعة من الناس. كالحامل التي لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادتها.
قال العوام: ووُجد تصديق ذلك في كتاب الله تعالى (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون) .
(السنن 2/1365 ح 4081 - ك الفتن، ب فتنة الدجال وخروج عيسى بن مريم وخروج يأجوج ومأجوج) . وأخرجه أحمد في (المسند رقم 3556) من طريق هشيم عن العوام به. وقال محققه: صحيح، وأخرجه أحمد في (المسند رقم 4/488، 489- ك الفتن والملاحم) من طريق: سعيد بن مسعود، عن يزيد بن هارون به. وقال: صحيح الأسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وفى (زوائد ابن ماجة للبوصيري) قال: هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات.
وانظر حديث مسلم عن أبي سريحة الآتي عند الآية (82) من سورة النمل: "إن الساعة لا تكون حتى تكون عشر آيات ... ".
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى.(2/137)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا)
يقول: يكون عليهم شهيدا يوم القيامة على أنه بلغ رسالة ربه، وأقر بالعبودية على نفسه.
قوله تعالى (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا. وأخذهم الربوا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما)
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا ما هذه الطيبات التى حرمها عليهم بسبب ظلمهم ولكنه بينها في سورة الأنعام بقوله (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر، ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ماحملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون) .
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مقاتل بن حيان في قوله: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) كان الله تعالى حرم على أهل التوراة حين أقروا بها أن يأكلوا الربا، ونهاهم أن يبخسوا الناس أشياءهم ونهاهم أن يأكلوا أموال الناس ظلما، فأكلوا الربا وأكلوا أموال الناس ظلما وصدوا عن دين الله وعن الإيمان بمحمد، فلما فعلوا ذلك حرم الله عليهم بعض ماكان أحل لهم في التوراة عقوبة لهم بما استحلوا مما كان نهاهم عنه، فحرم عليهم كل ذى ظفر: البعير والنعامة ونحوهما من الدواب ومن البقر والغنم شحومهما إلا ماحملت ظهورهما من الشحم والحوايا يقال: هذا البقر ويقال هذا البطن غير الثرب وما اختلط بعظم من اللحم، يقول ذلك جزيناهم ببغيهم يقول باستحلالهم ماكان الله حرم عليهم.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (وبصدهم عن سبيل الله كثيرا) قال: أنفسهم وغيرهم عن الحق.(2/138)
لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162) إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)
قوله تعالى (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة قوله: (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) استثنى الله منهم ثنية من أهل الكتاب فكان منهم من يؤمن بالله وما أنزل عليهم وما أنزل على نبي الله يؤمنون به ويصدقونه ويعلمون أنه الحق من ربهم.
قوله تعالى (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ... )
أخرج الطبري بسنده الحسن عن ابن إسحاق عن ابن عباس قال: قال سكين وعدي بن زيد: يامحمد، مانعلم الله أنزل على بشر من شيء بعد موسى! فأنزل الله في ذلك من قولهم (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده) إلى آخر الآيات.
وانظر تفسير سورة البقرة آية (136) .
قوله تعالى (ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك) انظر حديث أبي أمامة: "كم كانت الرسل". عند الحاكم المتقدم تحت الآية (31) من سورة البقرة.
قوله تعالى (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل)
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا ما هذه الحجة التى كانت تكون للناس عليه لو عذبهم دون إنذارهم على ألسنة الرسل ولكنه بينها في (سورة طه) بقوله (ولو أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى) وأشار لها في سورة القصص بقوله (ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين) .(2/139)
لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
قوله تعالى (لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن ابن إسحاق عن ابن عباس قال: دخل على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جماعة من اليهود، فقال لهم: "إني والله أعلم أنكم لتعلمون أني رسول الله! فقالوا: مانعلم ذلك! فأنزل الله (لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا) .
وفي سورة الإسراء آية (105) بين الله تعالى أنه شهد بالحق على نزول القرآن فقال تعالى (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) .
قوله تعالى (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالاً بعيداً) انظر سورة آل عمران آية (99) لبيان (سبيل الله) .
قوله تعالى (يا أيها الناس)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن ابن إسحاق عن ابن عباس قال: (يا أيها الناس) أي: الفريقين جميعاً من الكافرين والمنافقين.
قوله تعالى (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله..)
قال الشيخ الشنقيطي: هذا الغلو الذي نهوا عنه هو قول غير الحق وهو قول بعضهم إن عيسى ابن الله، وقول بعضهم هو الله، وقول بعضهم هو إله مع الله سبحانه وتعالى عن ذلك كله علوا كبيرا كما بينه قوله تعالى (وقالت النصارى المسيح ابن الله) وقوله (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) وقوله (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) وأشار هنا إلى إبطال هذه المفتريات بقوله (إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم) الآية. وقوله (لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله) .(2/140)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)
قال البخاري: حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا مسلم عن مسروق قال: قالت عائشة رضي الله عنها: صنع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئاً ترخّص فيه وتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فحمِد الله وأثنى عليه. ثم قال: "ما بال أقوام يتنزهون عن الشىء أصنعه؟ فو الله إني أعلمهم بالله وأشدهم له خشية".
(الصحيح 13/290 ح 7301 - ك الاعتصام بالكتاب والسنه، ب ما يكره من التعمق والتنازع والغلو في الدين والبدع لقوله تعالى (الآية) .
قال البخاري: حدثنا الحميدى حدثنا سفيان قال سمعت الزهري يقول: أخبرني عُبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس سمع عمر - رضي الله عنه - يقول على المنبر: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله".
(الصحيح 6/551 ح 3445- ك أحاديث الأنبياء، ب قول الله (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها) مريم/16) .
قوله تعالى (وكلمته ألقاها إلى مريم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (وكلمته ألقاها إلى مريم) قال: هو قوله (كن) فكان.
قوله تعالى (لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، ثنا إبراهيم بن موسى، أنبا همام بن يوسف، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس قوله: (لن يستنكف) قال: لن يستكبر.
وصححه الحافظ ابن حجر (الفتح 8/237) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً بالله ولا الملائكة المقربون) لن يحتشم المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة.
قوله تعالى (ياأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم) أي: بينة من ربكم (وأنزلنا إليكم نورا مبينا) وهو هذا القرآن.(2/141)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
قال الشيخ الشنقيطي: المراد بهذا النور المبين القرآن العظيم؛ لأنه يزيل ظلمات الجهل والشك كما يزيل النور الحسي ظلمة الليل، وقد أوضح تعالى ذلك بقوله (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا) الآية. وقوله (واتبعوا النور الذي أنزل معه) ونحو ذلك من الآيات.
وانظر تفسير سورة البقرة آية (111) .
قوله تعالى (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ... )
قال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن أبي إسحاق سمعت البراء - رضي الله عنه - قال: آخر سورة نزلت براءة، وأخر آية نزلت (يستفتونك) .
(الصحيح 8/117 ح 4605- ك التفسير، سورة النساء، ب (الآية) .
قال مسلم: حدثنا عمرو بن محمد بن بكير الناقد. حدثنا سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر. سمع جابر بن عبد الله قال: مرضت فأتاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر. يعوداني، ماشيان فأُغمي علي. فتوضأ ثم صبّ على من وضوئه.
فأفقت فقلت: يا رسول الله! كيف أقضي في مالي؟ فلم يرُدّ على شيئاً. حتى نزلت آية الميراث: (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة) .
(الصحيح 3/1234 ح 1616 -كتاب الفرائض- ب ميراث الكلالة) .
قال مسلم: حدثنا محمد بن أبي بكر المقدّمي ومحمد بن المثنى (واللفظ لابن المثنى) قالا: حدثنا يحيى بن سعيد. حدثنا هشام. حدثنا قتادة عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة؛ أن عمر بن الخطاب خطب يوم جمعة.
فذكر نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وذكر أبا بكر ثم قال: إني لا أدع بعدى شيئاً أهمّ عندي من الكلالة. ما راجعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شيء ما راجعته في الكلالة. وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه حتى طعن بإصبعه في صدري. وقال: "ياعمر!
ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء؟. وإنى إن أعِش أقضِ فيها(2/142)
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
بقضية، يقضي بها من يقرأ القرأن قوله تعالى: (فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة) ومن لا يقرأ القرآن.
(الصحيح 3/1236 ح 1617 - ك الفرائض، باب ميراث الكلالة) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الكلالة من لم يترك ولدا ولا والدا.
قوله تعالى (فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالاً ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم)
قال الشيخ الشنقيطي: صرح في هذه الآية الكريمة بأن الأختين ترثان الثلثين، والمراد بهما الأختان لغير أم، بأن تكونا شقيقتين أو لأب بإجماع العلماء، ولم يبين هنا ميراث الثلاث من الأخوات فصاعداً، ولكنه أشار في موضع آخر أن الأخوات لا يزدن على الثلثين، ولو بلغ عددهن ما بلغ وهو قوله تعالى في البنات (فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك) .
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (فللذكر مثل حظ الأنثيين) صغيرا أو كبيرا.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن السدي قوله: (حظ) يقول: نصيب.(2/143)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
سورة المائدة
قوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (أوفوا بالعقود) يعنى: بالعهود.
قوله تعالى (أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة: (أحلت لكم بهيمة الأنعام) قال: الأنعام كلها إلا ما يتلى عليكم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم) هي الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به.
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا ماهذا الذي يتلى عليهم المستثنى من حلية بهيمة الأنعام، ولكن بينه بقوله: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير) إلى قوله: (وماذبح على النصب) فالمذكورات في هذه الآية الكريمة كالموقوذة والمتردية، وإن كانت من الأنعام، فإنها تحرم بهذه العوارض.
قوله تعالى (إن الله يحكم مايريد)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (إن الله يحكم مايريد) إن الله يحكم ما أراد في خلقه، وبيّن لعباده، وفرض فرائضه، وحد حدوده، وأمر بطاعته، ونهى عن معصيته.
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لاتحلوا شعائر الله)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (شعائر الله) الصفا والمروة، والهَدْى والبُدن، كل هذا من (شعائر الله) .(2/145)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
قوله تعالى (ولا الشهر الحرام)
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا أبو عامر حدثنا قرّة عن محمد بن سيرين قال: أخبرني عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبي بكرة ورجل أفضل في نفسي من عبد الرحمن حُميد بن عبد الرحمن عن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: خطبنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم النحر قال: "أتدرون أي يومٍ هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم.
فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال: "أليس يوم النحر؟ ". قلنا.
بلى. قال: "أي شهر هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغر اسمه. فقال: "أليس ذوالحجة؟ " قلنا: بلى. قال: "أي بلد هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال: "أليست بالبلدة الحرام؟ " قلنا: بلى. قال: "فإنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحُرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغتُ؟ قالوا: نعم. قال: "اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فرُب مبلّغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض".
(صحيح البخاري 3/670 ح 1741- ك الحج، ب الخطبة أيام منى) .
وانظر حديث مسلم تحت الآية رقم (217) من سورة البقرة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ولا الشهر الحرام) يعني: لا تستحلوا قتالا فيه.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة: (لاتحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام) قال منسوخ، كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج، تقلد من السمر، فلم يعرض له أحد. وإذا رجع تقلد قلادة شعر، لم يعرض له أحد وكان المشرك يومئذ لايصد عن البيت، فأمروا ألا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت، فنسخها قوله تعالى (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) التوبة.(2/146)
قوله تعالى (ولا الهدي ولا القلائد)
قال البخاري: حدثنا أحمد بن محمد أخبرنا عبد الله أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان قالا: خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زمن الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه حتى إذا كانوا بذى الحليفة قلّد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الهدى وأشعر وأحرم بالعمرة.
(صحيح البخاري 3/634 ح 1694، 1695- ك الحج، ب من أشعر وقلد بذي الحليفة ثم أحرم ... ) .
وقال البخارى: حدثنا أبو نعيم حدثنا أفلح عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها قالت: فَتَلتُ قلائد بُدنِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيدي، ثم قلدها وأشعرها وأهداها، فما حرُم عليه شيء كان أحِلّ له.
(صحيح البخاري 3/634 ح 1696-ك الحج، ب من أشعر وقلد بذي الحليفة ثم أحرم ... ) .
قال مسلم: حدثنا أحمد بن يونس. حدثنا زهير. حدثنا أبو الزبير عن جابر.
قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تذبحوا إلا مُسنة. إلا أن يعسر عليكم، فتذبحوا جذعة من الضأن".
(صحيح مسلم 3/1555 ح 1963- ك الأضاحي، ب سن الأضحية) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (ولا القلائد) قال: (القلائد) اللحاء في رقاب الناس والبهائم، أمْن لهم.
قوله تعالى (يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا)
قال: يبتغون الأجر والتجارة.
قوله تعالى (وإذا حللتم فاصطادوا)
قال الشيخ الشنقيطي: يعني إن شئتم، فلا يدل هذا الأمر على إيجاب الاصطياد عند الإحلال، ويدل له الاستقراء في القرآن، فإن كل شىء كان جائزاً ثم حُرِّم لموجب، ثم أمر به بعد زوال ذلك الموجب، فإن ذلك الأمر كله في(2/147)
القرآن للجواز نحو قوله هنا: (وإذا حللتم فاصطادوا) وقوله: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض) وقوله: (فالآن باشروهن) الآية، وقوله: (فإذا تطهرن فأتوهن) الآية. وبهذا تعلم أن التحقيق الذي دل عليه الاستقراء التام في القرآن أن الأمر بالشيء بعد تحريمه يدل على رجوعه إلى ما كان عليه قبل التحريم من إباحة أو وجوب، فالصيد قبل الاحرام كان جائزا فمنع للإحرام، ثم أمر به بعد الإحلال بقوله: (وإذا حللتم فاصطادوا) .
قوله تعالى (ولا يجرمنكم شنئان قوم أن عدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا) الآية.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (ولا يجرمنكم شنئان قوم) يقول: لا يحملنكم بغض قوم.
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين حكمة هذا الصد، ولم يذكر أنهم صدوا معهم الهدي معكوفا أن يبلغ محله، وذكر في سورة الفتح أنهم صدوا معهم الهدي، وأن الحكمة في ذلك المحافظة على المؤمنين والمؤمنات، الذين لم يتميزوا عن الكفار في ذلك الوقت، بقوله: (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدى معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما) وفي هذه الآية دليل صريح على أن الإنسان عليه أن يعامل من عصى الله فيه، بأن يطيع الله فيه.
قوله تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)
قال مسلم: حدثنى محمد بن حاتم بن ميمون، حدثنا ابن مهدى، عن معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن النواس بن سمعان الأنصاري قال: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن البر والإثم؟ فقال: "البر حسن الخلق، والإثم ماحاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس".
(الصحيح 4/1980 ح 2553 - ك البر والصلة، في تفسير البر والإثم) .(2/148)
قال أحمد: ثنا زيد بن يحيى الدمشقي قال: ثنا عبد الله بن العلاء قال: سمعت مسلم بن مشكم قال: سمعت الخشني يقول: قلت: يارسول الله أخبرني بما يحل لي ويحرم علي؟ قال: فصعَّد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصوب فيَّ النظر فقال: النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب والأثم ما لم تسكن إليه النفس ولم يطمئن إليه القلب وإن أفتاك المفتون". وقال: "لا تقرب لحم الحمار الأهلي، ولا ذا ناب من السباع".
(المسند 4/194) ، وأخرجه الطبراني في (الكبير 22/218 ح 582) من طريقين عن عبد الله ابن العلاء به، وقال الهيثمى عنه: رجاله ثقات (مجمع الزوائد 1/175-176) ، وحسنه السيوطي (الجامع الصغير مع فيض القدير 3/218 ح 3198) ، وصححه الألباني (صحيح الجامع ح 2878) .
قال البخاري: حدثنا مسدد، حدثنا معتمر، عن حميد عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً". قالوا: يا رسول الله، هذا ننصره مظلوما، فكيف ننصره ظالما؟ قال: "تأخذ فوق يديه".
(الصحيح 5/118 ح 2444- ك المظالم، ب أعن أخاك ظالما أو مظلوما) .
قال الترمذى: حدثنا أحمد بن محمد، أخبرنا ابن المبارك، عن أبي بكر النهشلى عن مرزوق أبي بكر التيْمي عن أم الدرداء عن أبي الدرداء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من ردّ عن عِرض أخيه ردّ الله عن وجهه النار يوم القيامة".
(السنن4/327 ح 1931 - ك البر والصلة، ب ما جاء في الذب عن عرض المسلم) ، وأخرجه أحمد (المسند 6/450) عن علي بن إسحاق عن ابن المبارك به، قال الترمذي: حديث حسن. وصححه الألباني، ونقل عن المنذرى تحسينه (صحيح الجامع ح 6138) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وتعاونوا على البر والتقوى) ، (البر) ماأمرت به (والتقوى) ما نهيت عنه.
قوله تعالى (حرمت عليكم الميتة والدم)
قال مسلم: حدثنا أحمد بن يونس. حدثنا زهير. حدثنا أبو الزبير عن جابر.
ح وحدثناه يحيى بن يحيى. أخبرنا أبو خيثمة عن أبي الزبير، عن جابر. قال:(2/149)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
بعثنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمر علينا أبا عبيدة. نتلقى عيراً لقريش. وزوّدنا جِراباً من تمر لم يجد لنا غيره. فكان أبو عبيدة يُعطينا تمرة تمرة. قال: فقلتُ: كيف كنتم تصنعون بها؟ قال: نمصّها كما يمص الصبي. ثم نشرب عليها من الماء. فتكفينا يومنا إلى الليل. وكنا نضرب بعصينا الخبَط. ثم نبُلّه بالماء فنأكله. قال: وانطلقنا على ساحل البحر. فرفع بنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم. فأتيناه فإذا هي دابة تُدعى العنبر. قال: قال: أبو عبيدة: ميتة. ثم قال: لا. بل نحن رُسُل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وفي سبيل الله. وقد اضطررتم فكلوا. قال: فأقمنا عليه شهرا ونحن ثلاث مائة حتى سمنّا. قال: ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه، بالقلال، الدهن. ونقتطع منه الفِدر كالثور (أو كقدر الثور) فلقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلاً. فأقعدهم في وقب عينه. وأخذ ضلعاً من أضلاعه.
فأقامها. ثم رحل أعظم بعير معنا. فمرّ من تحتها. وتزوّدنا من لحمه وشائق.
فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فذكرنا ذلك له. فقال: "هو رزق وأخرجه الله لكم. فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟ " قال: فأرسلنا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منه. فأكله.
(صحيح مسلم 3/1535-1536 ح 1935- ك الصيد والذبائح، ب إباحة ميتات البحر) ، وأخرجه البخاري (الصحيح ح 5494- الصيد، ب وأحل لكم صيد البحر) .
والخبط: ضرب الشجر بالعصا ليتناثر ورقها، واسم الورق الساقط خبط بالتحريك، وهو من علف الإبل. النهاية لابن الأثير 2/7.
وانظر حديث ابن ماجة المتقدم تحت الآية رقم (173) من سورة البقرة.
وهو حديث: "أحلت لنا ميتتان ... ".
قوله تعالى (والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (والمنخنقة) التي تخنق فتموت.(2/150)
قال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي قال: سمعت عدىّ بن حاتم - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المعراض فقال: "إذا أصبت بحده فكلْ، فإذا أصاب بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا نأكل". فقلت: أرسل كلبي؟ قال: "إذا أرسلت كلبك وسمّيت فكلْ".
قلتُ: فإن أكل؟ قال: "فلا تأكل، فإنه لم يمسك عليك إنما أمسك على نفسه". قلتُ: أرسِل كلبي فأجد معه كلباً أخر؟ قال: "لا تأكل، فإنك إنما سميت علي كلبك، ولم تسمّ على الآخر".
(صحيح البخاري 9/518 ح 5476 - ك الذبائح والصيد، ب صيد المِعراض) ، (صحيح مسلم رقم 1- ك الصيد) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (والموقوذة) قال: الموقوذة، التي تضرب بالخشب حتى توقذ بها فتموت.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (والمتردية) قال: التي تتردى من الجبل.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (والنطيحة) قال: الشاة تنطح شاة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (وما أكل السبع) يقول: ما أخذ السبع.
قوله تعالى (إلا ما ذكيتم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (إلا ماذكيتم) يقول: ما أدركت ذكاته من هذا كله، يتحرك له ذنب، أو تطرف له عين، فاذبح واذكر اسم الله عليه، فهو حلال.
قال البخاري: حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالك عن نافع عن رجل من الأنصار عن معاذ بن سعد -أو سعد بن معاذ- أخبره أنّ جارية لكعب بن مالك(2/151)
كانت ترعى غنماً بسلع فأصيبت شاة منها، فأدركتها فذبحتها بحجر، فسئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "كلوها".
(صحيح البخاري 9/548 ح 5505 - ك الذبائح والصيد، ب ذبيحة المرأة والأمة) .
انظر حديث مسلم عن رافع بن خديج الآتى عند الآية (4) من السورة نفسها، وكذا عند الآية (121) من سورة الأنعام وهو هناك من رواية البخاري
وهو حديث: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ... ".
قال أحمد: ثنا يزيد بن عبد الله قال: ثنا محمد بن حرب قال: ثنا الزبيدي عن يونس بن سيف الكلاعي (ثم مريم) عن أبي إدريس عائذ الله بن عبد الله الخولاني عن أبي ثعلبة الخشني قال: أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصعد في النظر ثم صوبه فقال: "نويبتة" قلت: يارسول الله نويبتة خير أو نويبتة شر؟ قال: "بل نويبتة خير". قلت: يا رسول الله أنا في أرض صيد فأرسل كلبي المعلم فمنه ما أدرك ذكاته ومنه مالا أدرك ذكاته وأرمي بسهمي فمنه ما أدرك ذكاته ومنه مالا أدرك ذكاته. فقال: رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كل ماردَّت عليك يدك وقوسك وكلبك المعلم ذكياً وغير ذكى".
(المسند 4/195) ، وأخرجه أبوداود (السنن 3/110 ح 2856- ك الصيد، ب في الصيد) من طريق بقية عن الزبيدي به، والنسائي (السنن 7/181- ك الصيد والذبائح، ب صيد الكلب الذي ليس بمعلم) من طريق ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني بنحوه. قال: ابن كثير: وهذان إسنادان جيدان (التفسير 3/32) .
قوله تعالى (وماذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (النصب) قال: الحجارة حول الكعبة يذبح عليها أهل الجاهلية، ويبدلونها إذا شاؤوا بحجارة أعجب إليهم منها.(2/152)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (وأن تستقسموا بالأزلام) قال: كان الرجل إذا أراد أن يخرج مسافرا، كتب في قدح (هذا يأمرنى بالمكث) و (هذا يأمرنى بالخروج) وجعل معهما منيحة، شىء لم يكتب فيه شيئا، ثم استقسم بها حين يريد أن يخرج. فإن خرج الذي يأمر بالمكث مكث، وإن خرج الذي يأمر بالخروج خرج، وإن خرج الآخر أجالها ثانية حتى يخرج أحد القدحين. ا. هـ.
والمنيحة هي الناقة أو الشاة المعارة.
قوله تعالى (ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ذلكم فسق) يعني: من أكل من ذلك كله فهو فسق.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم) قال: أن ترجعوا إلى دينهم أبداً.
قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم)
قال البخاري: حدثى محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن قيس عن طارق بن شهاب: قالت اليهود لعمر: إنكم تقرءون آية لو نزلت فينا لا تخذناها عيداً. فقال عمر: إني لأعلم حيث أنزلت وأين أنزلت، وأين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين أنزلت: يوم عرفة، وإنا والله بعرفة. قال: سفيان: وأشك كان يوم الجمعة أم لا (اليوم أكملتُ لكم دينكم) .
(صحيح البخاري 8/119 ح 4606 -ك التفسير- سورة المائدة، ب الآيه) ، (صحيح مسلم 4/2312 - ك التفسير) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (اليوم أكملت لكم دينكم) وهو الإسلام أخبر الله نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الايمان، فلا يحتاجون إلى زيادة أبداً، وقد أتمه الله عز ذكره فلا ينقصه أبداً، وقد رضيه الله فلا يسخطه أبداً.(2/153)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم) قال: أخلص الله لهم دينهم، ونفى الله المشركين عن البيت.
قوله تعالى (وأتممت عليكم نعمتي)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كان المشركون والمسلمون يحجون جميعاً، فلما نزلت (براءة) فنفى المشركين عن البيت وحج المسلمون لايشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين فكان ذلك من تمام النعمة: (وأتممت عليكم نعمتي) .
قوله تعالى (فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (فمن اضطر في مخمصة) يعني: في مجاعة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (فمن اضطر في مخمصة غر متجانف لإثم) يعني: إلى ماحُرم، مما سمي في صدر هذه الآية (غير متجانف لإثم) يقول: غير متعمد لإثم.
قوله تعالى (يسئلونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه)
قال مسلم: وحدثنا محمد بن عبد الله بن نمير. حدثنا أبي. حدثنا زكريا عن عامر، عن عدي بن حاتم. قال: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيد المِعراض؟
فقال: "ما أصاب بحده فكُله. وما أصاب بعرضه فهو وقيذ". وسألته عن صيد الكلب؟ فقال: "ما أمسك عليك ولم يأكل منه فكله. فإن ذكاته أخذه فإن وجدت عنده كلباً أخر، فخشيت أن يكون أخذه معه، وقد قتله، فلا تأكل.
إنما ذكرت اسم الله علي كلبك. ولم تذكره على غيره".
(صحيح مسلم 3/1530 بعد رقم 1929 - ك الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، ب الصيد بالكلاب المعلمة) ، (صحيح البخاري 9/631 ح 5503) .(2/154)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
وقال مسلم: حدثنا محمد بن المثنى العنزي. حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان.
حدثني أبي عن عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج، عن رافع بن خديج. قلتُ: يارسول الله إنا لاقو العدوّ غداً. وليست معنا مُدى. قال: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أعجل أو أرني. ما أنهر الدم، وذكر اسم الله فكل. ليس السن والظفر. وسأحدثك أما السن فعظم. وأما الظفر فمُدى الحبشة". قال: وأصبنا نهْب إبل وغنم. فندّ منها بعير. فرماه رجل بسهم فحبسه. فقال: رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش. فإذا غلبكم منها شيء، فاصنعوا به هكذا".
(صحيح مسلم 3/1558 ح 1968- ك الأضاحي، ب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم) ، وأخرجه البخاري (الصحيح 9/631 ح 5503) .
قال مسلم: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي. أخبرنا جرير عن منصور، عن إبراهيم، عن همام بن الحارث، عن عدي بن حاتم. قال: قلتُ: يارسول الله إني أُرسل الكلاب المعلمة. فيُمسكن عليّ. وأذكر اسم الله عليه. فقال: "إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه، فكل". قلتُ: وإن قتلن؟ قال: وإن قتلن. ما لم يشركها كلب ليس معها". قلت له: فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب. فقال: "إذا رميت بالمعراض فخزق. فكله. وإن أصابه بعرضه، فلا تأكله".
(صحيح مسلم 3/1529ح 1929- ك الصيد والذبائح، ب الصيد بالكلاب المعلمة) .
قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة. حدثنا ابن فضيل عن بيان، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم. قال: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قلتُ: إنا قوم نصيد بهذه الكلاب. فقال: "إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرتَ اسم الله عليها، فكل مما أمسكن عليك، وإن قتلن. إلا أن يأكل الكلب. فإن أكل فلا تأكل.
فإنى أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه. وإن خالطها كلاب من غيرها، فلا تأكل".
(صحيح مسلم 3/1529 - ك الصيد والذبائح، ب الصيد بالكلاب المعلمة) ، (صحيح البخاري 1/335 و9/599 رقم 5475) .(2/155)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وماعلمتم من الجوارح مكلبين) يعني بـ (الجوارح) الكلاب الضواري والفهود والصقور وأشباهها.
قال البخاري: حدثنا يوسف بن موسى حدثنا أبو خالد الأحمر قال: سمعت هشام بن عروة يحدث عن أبيه عن عائشة قالت: قالوا يارسول الله: إن هنا أقواماً حديثاً عهدهم بشرك يأتونا بلحمان لا ندري يذكرون اسم الله عليها أم لا.
قال: "اذكروا أنتم اسم الله وكلوا".
تابعه محمد بن عبد الرحمن وعبد العزيز بن محمد وأسامة بن حفص.
(صحيح البخاري 13/391 ح 7398 - ك التوحيد، ب السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها) .
قال مسلم: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن أبي التياح.
سمع مطرف بن عبد الله عن ابن المغفل قال: أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقتل الكلاب. ثم قال: "ما بالهم وبال الكلاب"؟ ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم.
(صحيح مسلم 3/1200-1201 ح 1573- ك المساقاة، ب الأمر بقتل الكلاب وبيان نسخه وبيان تحريم اقتنائها إلا لصيد أو زرع أو ماشية ونحو ذلك) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (فكلوا مما أمسكن عليكم) يقول: كلوا مما قتلن. إن قتل وأكل فلا تأكل وإن أمسك فأدركته حَياً فذكِّه.
قوله تعالى ( ... واذكروا اسم الله عليه)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (واذكروا اسم الله عليه) يقول: إذا أرسلت جوارحك فقل "بسم الله" وإذا نسيت فلا حرج.
قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب. قالا: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن خيثمة، عن أبي حذيفة، عن حذيفة قال: كنا إذا حضرنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طعاما لم نضع أيدينا، حتى يبدأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيضع يده، وإنّا حضرنا(2/156)
معه مرة طعاما، فجاءت جارية كأنها تدفع. فذهبت لتضع يدها في الطعام، فأخذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيدها. ثم جاء أعرابي كأنما يُدفع. فأخذ بيده. فقال: رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الشيطان يستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه. وإنه جاء بهذه الجارية وليستحل بها. فأخذت بيدها. فجاء بهذا الأعرابى وليستحل به. فأخذت بيده، والذي نفسى بيده إن يده في يدي مع يدها".
(الصحيح 3/1597 ح 2017 - ك الأشربة، ب آداب الطعام والشراب وأحكامهما) .
قال أبوداود: حدثنا مؤمل بن هشام: ثنا إسماعيل، عن هشام -يعني ابن أبي عبد الله الدستوائي- عن بديل، عن عبد الله بن عبيد، عن امرأة منهم يقال: لها أم كلثوم، عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى، فإن نسي أن يذكر اسم الله تعالى في أوله فليقل: بسم الله أوله وآخره".
(السنن 3/347 ح 3767- ك الأطعمة، ب التسمية على الطعام) ، وأخرجه الترمذي (السنن 4/288 ح 1858 - ك الأطعمة، ب ماجاء في التسمية على الطعام) من طريق وكيع. والحاكم (المستدرك 4/108 - ك الأطعمة) من طريق عفان، كلاهما، عن هشام الدستوائي به، وعند الترمذي زيادة وهي: قصة الأعرابى الذي أكل طعام السته بلقمتين. قال الترمذي: حسن صحيح. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وقال ابن القيم. حديث صحيح (زاد المعاد 2/397) وصححه السيوطي (الجامع الصغير فيض القدير1/296 ح 476) وقال الألباني: صحيح (صحيح الترمذي ح 1513، 1514) .
قوله تعالى (وطعام الذين آوتوا الكتاب حل لكم)
انظر حديث إهداء اليهود الشاة المسمومه للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سورة البقرة آية (80) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) قال: ذبائحهم.
قال البخاري: حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام، حدثنا قتادة، عن أنس - رضي الله عنه - قال: ولقد رهن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دِرعه بشعير، ومشيت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخبزِ شعيرٍ وإهالة سنخة. ولقد سمعته يقول: "ما أصبح لآل محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا صاع ولا أمسى، وإنهم لتسعة أبيات".
(الصحيح 5/166 ح 2508- ك الرهن، ب في الرهن في الحضر) . والأهالة السنخة هي: كل شيء من الأدهان مما يؤتدم به إهالة ... والسنخة المتغيرة الريح (النهاية 1/84) .(2/157)
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
قال أبوداود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلى، ثنا زهير، ثنا سماك بن حرب، حدثني قبيصة بن هلب عن أبيه، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسأله رجل فقال: إن من الطعام طعاماً أتحرّج منه، فقال: "لا يتحلّجنّ في صدرك شىء ضارعت فيه النصرانية".
(السنن 3/351 ح 3784 - ك الأطعمة، ب في كراهية التقذر للطعام) ، وأخرجه الترمذى (السنن 4/133-134ح 1565 - ك السير، ب ما جاء في طعام المشركين) من طريق شعبة. وابن ماجة (السنن 2/944 ح 2830 ك الجهاد، ب الأكل في قدور المشركين) من طريق سفيان. وأخرجه أحمد (المسند 5/226) من طريق زهير، كلهم عن سماك بن حرب به. قال الترمذي: حديث حسن.
وكذا حسنه الألبانى (صحيح سنن الترمذى ح 1270) .
قوله تعالى (والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن)
قال الطبري: حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) قال: من الحرائر. ا.هـ.
وعبد الرحمن هو ابن مهدي، وسفيان هو الثوري، ورجاله ثقات وإسناده صحيح.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (أتيتموهن أجورهن) يعني: مهورهن.
قوله تعالى (محصنين غير مسافحين ولامتخذي أخدان)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (محصنين غير مسافحين) يعني: ينكحوهن بالمهر والبينة غير مسافحين متعالنين بالزنا (ولا متخذي أخدان) يعني: يسرون بالزنا.
قوله تعالى (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين)
أخرج الطبري بسنده الصحيِح عن مجاهد في قوله: (ومن يكفر بالإيمان) قال: من يكفر بالله.(2/158)
قال الشيخ الشنقيطي: ظاهر هذه الآية الكريمة أن المرتد يحبط جميع عمله بردته من غير شرط زائد، ولكنه أشار في موضع أخر إلى أن ذلك فيما إذا مات علي كفر، وهو قوله: (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر) .
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين..)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة) يقول: قمتم وأنتم على غير طهر.
قال البخاري: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال: أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة يقول: قال: رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تقبل صلاة مَن أحدث حتى يتوضأ". قال رجل من حضرموت: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: فساء أو ضراط.
(صحيح البخاري 1/282-283 ح 135 ك الوضوء، ب لا تقبل صلاة بغير طهور) ، (صحيح مسلم 1/204 ح 225- ك الطهارة، ب وجوب الطهارة للصلاة) .
قال مسلم: حدثنا سعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد وأبو كامل الجحدري (واللفظ لسعيد) قالوا: حدثنا أبو عوانة عن سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد، قال: دخل عبد الله بن عمر على ابن عامر يعوده وهو مريض. فقال: ألا تدعو الله لي، يا ابن عمر؟ قال: إني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول". وكنت على البصرة.
(الصحيح 1/204 ح 224 - ك الطهارة، ب وجوب الطهارة للصلاة) .
وقال: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير. حدثنا أبي. حدثنا سفيان عن علقمة ابن مرثد. ح وحدثني محمد بن حاتم (واللفظ له) حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان قال: حدثني علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الصلوات يوم الفتح بوُضوء واحد. ومسح على خفيه. فقال له عمر: لقد صنعتَ اليوم شيئاً لم تكن تصنعه. قال: "عمداً صنعته يا عمر".
(صحيح مسلم 1/232 ح 277 - ك الطهارة، ب جواز الصلوات كلها بوضوء واحد) .(2/159)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
وقال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير عن الليث عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن سعد بن إبراهيم عن نافع بن جبير عن عروة بن المغيرة عن أبيه المغيرة بن شعبة قال: ذهب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبعض حاجته فقمت أسكب عليه الماء -لا أعلمه إلا قال: في غزوة تبوك- فغسل وجهه وذهب يغسل ذراعيه، فضاق عليه كمّا الجبّة، فأخرجهما من تحت فغسلهما، ثم مسح على خفيه.
(صحيح البخاري 7/731 ح 4421 - ك المغازي، ب81) .
وقال البخاري: حدثنا أبو النعمان عارم بن الفضل قال: حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو قال: تخلف عنّا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفرة سافرناها، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: "ويل للأعقاب من النار". مرتين أو ثلاثاً.
(صحيح البخاري 1/173 ح 60- ك العلم، ب من رفع صوته بالعلم) .
قال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثنا الليث عن خالد عن سعيد بن أبي هلال عن نُعيم المجمر قال: رقيت مع أبي هريرة على ظهر المسجد فتوضأ فقال إني سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إن أمتي يُدعون يوم القيامة غرًا محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل".
(صحيح البخاري 1/282-283 ح 136 - ك الوضوء، ب فضل الوضوء والغر المحجلون..) ، وقد أخرجه مسلم بأطول منه وفيه قصه سلامه على الموتى وفيه موضع الشاهد (الصحيح 1/218 - الطهارة، ب استحباب الغرة والتحجيل في الوضوء) .
وقال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الرحيم قال: أخبرنا أبو سلمة الخزاعي منصور بن سلمة قال: أخبرنا ابن بلال -يعني سليمان- عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس أنه توضأ فغسل وجهه، أخذ غَرفة من ماء فمضمض بها واستنشق، ثم أخذ غرفة من ماء فجعل بها هكذا أضافها إلى يده الأخرى فغسل بهما وجهه، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليمنى، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليسرى، ثم مسح برأسه، ثم أخذ غرفة من ماء فرش(2/160)
على رجله اليمنى حتى غسلها، ثم أخذ غرفة أخرى فغسل بها رجله -يعني اليسرى- ثم قال هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضأ.
(صحيح البخاري 1/290 ح 140- ك الوضوء، ب غسل الوجه باليدين) .
وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ثم لينثر. ومن استجمر فليوتر. وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يُدخلها في وضوئه فإن أحدكم لايدري أين باتت يده".
(صحيح البخاري 1/316 ح 162- ك الوضوء، ب الإستجمار وتراً) ، (وصحيح مسلم 1/160-161 - ك الطهارة، ب كراهة غمس المتوضيء وغيره يده المشكوك في نجاستها في الأناء) .
وقال البخاري: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسى قال: حدثني إبراهيم ابن سعد عن ابن شهاب أن عطاء بن يزيد أخبره أن حُمران مولى عثمان أخبره أنه رأى عثمان بن عفان دعا بإناء فأفرغ علي كفّيه ثلاث مرار فغسلهما ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثا، ويديه إلى المرفقين ثلاث مرارٍ، (ثم) مسح برأسه ثم غسل رجليه ثلاث مرار إلى الكعبين، ثم قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يُحدّث فيهما نفسه، غفر له ماتقدم من ذنبه".
(صحيح البخاري 1/311-312 ح 159 - ك الوضوء، ب الوضوء ثلاثا ثلاثا) ، (صحيح مسلم 1/204 ح 226 - ك الطهارة، ب صفة الوضوء وكماله) .
وقال البخاري: حدثنا محمد بن يوسف قال: حدثنا سفيان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال: توضأ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرةً مرةً.
(صحيح البخاري 1/311 ح 157 - ك الوضوء، ب الوضوء مرة مرة) .
وقال البخاري: حدثنا حسين بن عيسى. قال: حدثنا يونس بن محمد قال: حدثنا فُليح بن سليمان عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عبّاد بن تميم عن عبد الله بن زيد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ مرّتين مرتين.
(صحيح البخاري 1/311 ح 158 - ك الوضوء، ب الوضوء مرتين مرتين) .(2/161)
وقال البخاري: حدثنا الحميدي عبد الله بن الزبير، قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، قال: أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على المنبر قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى: فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأةٍ ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر اليه".
(الصحيح 1/15 ح 1 - ك بدء الوحي، ب كيف كان بدأ الوحي إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، وأخرجه مسلم (الصحيح - ك الإمارة، ب قوله: "إنما الأعمال بالنية") .
قال مسلم: حدثني سلمة بن شبيب، حدثنا الحسن بن محمد بن أعين، حدثنا معقل عن أبي الزبير، عن جابر، أخبرني عمر بن الخطاب: أن رجلاً توضأ فترك موضع ظفر على قدمه. فأبصره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "ارجع فأحسن وضوءك".
فرجع ثم صلى.
(الصحيح 1/215 ح 243 - ك الطهارة، ب وجوب استيعاب جميع أجزاء محل الطهارة) .
قال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى التميمي وإسحاق بن إبراهيم وأبو كريب.
جميعاً عن أبي معاوية، ح وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية ووكيع (واللفظ ليحيى) قال: أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش، عن إبراهيم، عن هَمّام، قال: بال جرير. ثم توضأ. ومسح على خفيه. فقيل: تفعل هذا؟ فقال: نعم، رأيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بال، ثم توضأ ومسح على خفيه.
قال الأعمش: قال إبراهيم: كان يعجبهم هذا الحديث، لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة.
(الصحيح 1/227-228 ح 272- ك الطهارة، ب المسح على الخفين) .(2/162)
قال الترمذي: حدثنا يحيى بن موسى: حدثنا عبد الرزاق، عن إسرائيل، عن عامر بن شقيق عن أبي وائل، عن عثمان بن عفان: "أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يُخلل لحيته".
(السنن 1/46 ح 31 - ك الطهارة، ب ما جاء في تخليل اللحية) ، وأخرجه ابن ماجة (السنن 1/148 ح 430 - ك الطهارة، ب ما جاء في تخليل اللحية) من طريق محمد بن أبي خالد عن عبد الرزاق به وأحمد في المسند (انظر تفسير ابن كثير 3/44) عن عبد الرزاق به؛ وابن خزيمة في صحيحه 1/78 ح 151، 152) ، وابن حبان في صحيحه (الإحسان 2/206 ح 1078) ، والحاكم في (المستدرك 1/148-149) من طريق الإمام أحمد. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. ونقل ابن كثير تحسينه عن البخاري (التفسير 3/44) . وقال الحاكم: هذا إسناد صحيح. وقال ابن الملقن: هذا الحديث حسن (البدر المنير 3/394) ، وقال الألباني: صحيح (صحيح الترمذي ح 28) .
قوله تعالى (وإن كنتم جنباً فاطهروا ... )
قال أبو داود: محمد بن مهران البزاز الرازي، حدثنا مبشر الحلبي، عن محمد أبي غسان، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، حدثني أبي بن كعب - رضي الله عنه - أن الفتيا التي كانوا يُفتون: إن الماء من الماء، كانت رخصة رخصها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بدء الإسلام، ثم أمر بالاغتسال بعدُ. (السنن 1/55 ح 215 - ك الطهارة، ب في الإكسال) ، وأخرجه الترمذي (1/183-184 ح 110، 111) ، وابن ماجة (1/200 ح 609) ، وأحمد في المسند (5/115) ثلاثتهم من طريق الزهري عن سهل به. وأخرجه الطبراني في (الكبير 1/168 ح 538) عن عبد الرحمن بن سلم، عن محمد بن مهران -شيخ أبي داود- عن مبشر به. قال الترمذى: حسن صحيح. وصححه ابن خزيمة (الصحيح 1/113-114) ، وابن حبان أيضاً (الإحسان 2/244) ، وأخرجه أيضاً الضياء المقدسي من طريق محمد المهران (المختارة 3/382 ح 1177) . وقال الإسماعيلي: صحيح على شرط البخاري (فتح الباري 1/397) وفيه علة ذكرها الحافظ ابن حجر، ثم قال: وفى الجملة هو إسناد صالح لأن يحتج به (الفتح 1/397) ، وصححه الألباني (صحيح سنن ابن ماجة رقم 493) .
انظر تفسير سورة النساء آية 43 قوله تعالى (ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا) .(2/163)
قوله تعالى ( ... وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً)
قال البخاري: حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي، فأقام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على التماسه. وأقام الناس معه، وليسوا على ماء وليس معهم ماء. فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا: ألا ترى ماصنعت عائشة؟ أقامت برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبالناس، وليسوا على ماء وليس معهم ماء؟ فجاء أبو بكر ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبستِ رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والناس ليسوا على ماء وليس معهم ماء. قالت عائشة: فعاتبني أبو بكر وقال: ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي، ولا يمنعني من التحرك إلا مكان رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على فخذي. فقام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم، فقال: أسيد ابن حضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر. قال: فبعثنا البعير الذي كنتُ عليه، فإذا العِقد تحته.
(صحيح البخاري 8/121 ح 4607 -ك التفسير- سورة المائدة، ب الآية) .
قال ابن أبي حاتم: ثنا أبو سعيد الأشج، ثنا وكيع، عن سفيان عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قوله (أو لامستم النساء) قال: هو الجماع.
(وصحح إسناده الحافظ ابن حجر (الفتح 8/272) .
قال الحافظ ابن حجر: وروى عبد الرزاق من طريق بكر بن عبد الله المزني قال: قال ابن عباس: إن الله حيي كريم يكني عما شاء، الدخول والتغشي والافضاء والمباشرة والرفث واللمس: الجماع ...
(وإسناده صحيح (الفتح 8/158/ و8/372) ، وإسناده في المصنف عن الثوري عن عاصم الأحور عن بكر بن عبد الله المزني (انظر مصنف عبد الرزاق 277 رقم 10826) .(2/164)
وانظر حديثى البخاري في تفسير سورة النساء آية (43) قوله تعالى (فتيمموا صعيدا طيبا) .
قوله تعالى (مايريد الله ليجعل عليكم من حرج)
أخرج أدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (من حرج) من ضيق.
بينه الله تعالى في سورة البقرة آية (185) قوله تعالى (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) .
قوله تعالى (ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكلم لعلكم تشكرون) قال مسلم: حدثنا سويد بن سعيد عن مالك بن أنس. ح وحدثنا أبو الطاهر.
واللفظ له. أخبرنا عبد الله بن وهب عن مالك بن أنس، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا توضأ العبد المسلم (أو المؤمن) فغسل وجهه، خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء (أو مع آخر قطر الماء) فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء (أو مع آخر قطر الماء) فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء (أو مع آخر قطر الماء) حتى يخرج نقياً من الذنوب".
(الصحيح 1/215 ح 244 - ك الطهارة، ب خروج الخطايا مع ماء الوضوء) .
قوله تعالى (واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (واذكروا نعمة الله عليكم) قال: النعم آلاء الله.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا) الآية، يعني: حيث بعث الله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنزل عليه الكتاب فقالوا: (آمنا بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبالكتاب وأقررنا بما في التوراة) فذكرهم الله ميثاقه الذي أقروا به على أنفسهم وأمرهم بالوفاء به.(2/165)
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
أخرج أدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (وميثاقه الذي واثقكم به) قال: الذي واثق به بني أدم في ظهر آدم.
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنأن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى)
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن ومحمد بن النعمان بن بشير أنهما حدثاه عن النعمان بن بشير: أن أباه أتى به إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إني نحلت ابني هذا غلاماً. فقال: "أكلَّ ولدِكَ نحلتَ مثله؟ ". قال: لا. قال: "فارجعه".
(صحيح البخاري 5/250 ح 2586- ك الهبة، ب الهبة للولد) ، (صحيح مسلم 3/1242 - ك الهبات، ب كراهية تفضيل بعض الأولاد في الهبة) .
قوله تعالى (ولقد أخد الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا) أخرج ابن أبي حاتم والطبري بسنديهما الجيد عن أبي العالية في قوله: (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل) قال: أخذ الله مواثيقهم أن يخلصوا له، ولا يعبدوا غيره.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا) من كل سبط رجل شاهد على قومه.
قوله تعالى (وعزرتموهم)
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (وعزرتموهم) قال: نصرتموهم.
قوله تعالى (يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (يحرفون الكلم عن مواضعه) يعني: حدود الله في التوراة ويقولون: إن أمركم محمد بما أنتم عليه فاقبلوه، وإن خالفكم فاحذروا.(2/166)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (ونسوا حظا مما ذكروا به) يقول: تركوا نصيبا.
قوله تعالى (ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله: (ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم) قال: على خيانة وكذب وفجور.
قوله تعالى (فاعف عنهم واصفح)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة قوله: (فاعف عنهم واصفح)
قال: نسختها (قاتلوا الذين لايؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله) .
قوله تعالى (ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به) نسوا كتاب الله بين أظهرهم، وعهد الله الذي عهده إليهم، وأمر الله الذي أمرهم به.
قوله تعالى (فأغرينا بينهم العدواة والبغضاء إلى يوم القيامة)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (فأغرينا بينهم العدواة والبغضاء إلى يوم القيامة) الآية، إن القوم لما تركوا كتاب الله، وعصوا رسله، وضيعوا فرائضه، وعطلوا حدوده، ألقى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، بأعمالهم أعمال السوء، ولو أخذ القوم كتاب الله وأمره، ما افترقوا ولا تباغضوا.
أخرج أدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء) قال: بين اليهود والنصارى.(2/167)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
قوله تعالى (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب)
قال الحاكم: أخبرنا أبو العباس القاسم بن القاسم السياري ثنا محمد بن موسى الباشاني ثنا علي بن الحسن بن شقيق أنبأ الحسين بن واقد ثنا يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب، قوله عز وجل: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب) فكان الرجم مما أخفوا.
هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (المستدرك 4/359 - ك الحدود) ووافقه الذهبي.
وأخرجه ابن حبان في صحيحه (الإحسان 10/276 ح 4430) صححه المحقق شعيب الأرناؤط.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا) هو محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قوله تعالى (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (من اتبع رضوانه سبل السلام) سبيل الله الذي شرعه لعباده ودعاهم إليه، وابتعث به رسوله، وهو الإسلام الذي لا يقبل من أحد عملا إلا به، لا اليهودية ولا النصرانية ولا المجوسية.
قوله تعالى (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم)
قال أحمد: ثنا ابن أبي عدي عن حميد عن أنس قال: مر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نفر من أصحابه وصبي في الطريق فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ فأقبلت تسعى وتقول: ابني ابني وسعت فأخذته، فقال القوم: يارسول الله ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار قال: فخفضهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "ولا الله عز وجل لا يلقي حبيبه في النار".
(المسند 3/104) ، وأخرجه البزار (كشف الأستار 4/174) وأبو يعلى (المسند 6/397) ، والحاكم في (المستدرك ا/58) من طرق عن حميد به. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد 10/383) .(2/168)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
أخرج الطبري بسنده الحسن من طريق ابن إسحاق عن ابن عباس قال: أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نعمان بن أضاء، وبحري بن عمرو، وشأس بن عدي، فكلموه، فكلمهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته فقالوا: ماتخوفنا يامحمد!! نحن والله أبناء الله وأحباؤه!! كقول النصارى، فأنزل الله عز وجل فيهم (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه) إلى آخر الآية.
قوله تعالى (يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي قوله: (يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) يقول: يهدي منكم من يشاء في الدنيا فيغفر له، ويميت من يشاء منكم علي كفره فيعذبه.
قوله تعالى (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ماجاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير)
قال مسلم: حدثنى حرملة بن يحيى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس عن ابن شهاب أن أبا سلمة بن عبد الرحمن أخبره، أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "أنا أولى الناس بابن مريم، الأنبياء أولاد علات، وليس بيني وبينه نبي".
(الصحيح 4/1837 ح 2365 - ك الفضائل، ب فضائل عيسى عليه السلام) ، وأخرجه البخاري في (صحيحه 6/477-478 ح 3442) .
انظر حديث مسلم عن عياض بن حمار المتقدم عند الآية (168) من سورة البقرة.
أخرج الطبري بسنده الحسن من طريق ابن إسحاق عن ابن عباس قال: قال معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب لليهود: يامعشر اليهود اتقوا الله، فو الله إنكم لتعلمون أنه رسول الله! لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه، وتصفوه لنا بصفتة! فقال رافع بن حريملة ووهب بن يهودا: ما قلنا هذا لكم، وما أنزل الله من كتاب بعد موسى، ولا أرسل بشيراً ولا نذيراً بعده! فأنزل الله عز وجل في(2/169)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)
ذلك من قولهما (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ماجاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل) وهو محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، جاء بالفرقان الذي فرق الله به بين الحق والباطل، فيه بيان الله ونوره وهداه، وعصمة لمن أخذ به.
قوله تعالى (وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (اذكروا نعمة الله عليكم) يقول: عافية الله عز وجل.
قوله تعالى (وجعلكم ملوكا)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله: (وجعلكم ملوكا) قال: ملكهم الخدم، كانوا أول من ملك الخدم.
قوله تعالى (وآتاكم مالم يؤت أحداً من العالمين)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: هم قوم موسى.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (وآتاكم مالم يؤت أحداً من العالمين) يعني: أهل ذلك الزمان، المن والسلوى والحجر والغمام.
قوله تعالى، (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (الأرض المقدسة) الطور وما حوله.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (الأرض المقدسة) قال: المباركة.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى (الأرض المقدسة) قال: هي الشام.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ياقوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم) أمروا بها كما أمروا بالصلاة والزكاة والحج والعمرة.(2/170)
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى (قالوا ياموسى إن فيها قوما جبارين) قال: هم أطول منا أجساما وأشد قوة.
قوله تعالى (ادخلوا عليهم الباب)
أخرج أدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (ادخلوا عليهم الباب) قال: يعني قرية الجبارين.
قوله تعالى (فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون)
قال البخاري: حدثنا أبو نعيم حدثنا إسرائيل عن مخارق عن طارق بن شهاب سمعت ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: شهدت من المقداد ح. وحدثنى حمدان بن عمر حدثنا أبو النضر حدثنا الأشجع عن سفيان عن مخارق عن طارق عن عبد الله قال: المقداد يوم بدر: يارسول الله، إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى (فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون) ولكن امض ونحن معك.
فكأنه سري عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
رواه وكيع عن سفيان عن مخارق عن طارق أن المقداد قال: ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (الصحيح 8/122 ح 4609 - ك التفسير، ب (فاذهب أنت وربك فقاتلا ... )) .
قوله تعالى (فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين) يقول: اقض بيننا وبينهم.
قوله تعالى (قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى (فإنها محرمة عليهم أربعين سنة) يعني الشام على بني إسرائيل (يتيهون في الأرض) لا يأوون إلى قرية، فعند ذلك أظلهم الله بالغمام وأنزل عليهم المن والسلوى، وفي تيههم ذلك ضرب موسى بعصاه الحجر، فكان يتفجر منه اثنا عشرة عينا لكل سبط منهم عين، قال وكان يحملونه فإذا ضربه بعصاه تفجرت.(2/171)
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
قوله تعالى (فلا تأس على القوم الفاسقين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (فلا تأس) يقول: فلا تحزن.
قوله تعالى (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ)
قال البخاري: حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبي حدثنا الأعمش قال: حدثي عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تقتَل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سن القتل".
(صحيح البخاري 6/419 ح 3335 - ك أحاديث الأنبياء، ب خلق أدم وذريته) ، (صحيح مسلم 3/1303 - ك القسامة، ب بيان إثم من سن القتل) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر)
كان رجلان من بني آدم، فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر.
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، حدثنا حماد، عن رجل لم يُسمّه عن الحسن قال: خرجت بسلاحي ليالى الفتنة، فاستقبلني أبو بكرة فقال: أين تريد؟ قلتُ أريد نُصرة ابن عم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:(2/172)
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
"إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فكلاهما من أهل النار". قيل: فهذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: "إنه أراد قتل صاحبه".
(الصحيح 13/35 ح 7083 - ك الفتن، ب إذا التقى المسلمان بسيفيهما) ، وأخرجه مسلم في (صحيحه 4/2213 ح 2888) .
قال أبو داود: حدثنا يزيد بن خالد الرملي، ثنا مفضل، عن عياش، عن بكير، عن بسر بن سعيد، عن حسين بن عبد الرحمن الأشجعي، أنه سمع سعد ابن أبي وقاص، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الحديث، قال: فقلت يارسول الله، أرأيت إن دخل على بيتي وبسط يده ليقتلني؟ قال: فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كن كابني آدم". وتلا يزيد (لئن بسطت إلى يدك) الآية.
(السنن 4/99 ح 4257 - ك الفتن والملاحم، ب النهي عن السعي في الفتنة) ، وأخرجه الترمذي في (السنن4/486 ح 2194) ثم قال: حديث حسن. وأحمد (شرح المسند ح 1609) من طريق ليث بن سعد عن عياش بن عباس به وصحح المحقق إسناده، وقال الألباني: سند صحيح على شرط مسلم (الإرواء 8/104) ، وأخرجه الضياء في (المختارة 3/144-145 ح 942) من طريق أبي داود به، وحسنه محققه إسناده. وصححه الألبانى في (صحيح سنن أبي داود) وللحديث شواهد عدة استوفى الكلام عليها الشيخ الألباني (انظر الإرواء 8/100-104) .
قال أبو داود: حدثنا مسدد، ثنا حماد بن زيد، عن أبي عمران الجوني، عن المشعث بن طريف، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، قال: قال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا أبا ذر" قلت: لبيك يارسول الله وسعديك. فذكر الحديث، قال فيه: "كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت فيه بالوصيف"؟. (يعني القبر) قلت: الله ورسوله أعلم، أو قال: ما خار الله لي ورسوله، قال: "عليك بالصبر" أو قال: "تصبر". ثم قال لي: "يا أبا ذر".
قلت: لبيك وسعديك، قال: "كيف أنت إذا رأيت أحجار الزيت قد غرقت بالدم"؟. قلت: ماخار الله لي ورسوله، قال: "عليك بمن أنت منه". قلت: يارسول الله أفلا أخذ سيفي وأضعه على عاتقي؟ قال: "شاركت القوم إذنْ".(2/173)
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
قلت: فما تأمرنى؟ قال: "تلزم بيتك". قلت: فإن دخل على بيتى؟ قال: "فإن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألق ثوبك على وجهك يبوء بإثمك وإثمه".
(السنن 4/101 ح 4261 - ك الفتن والملاحم، ب في النهي عن السعي في الفتة) ، وأخرجه ابن ماجة (السنن 2/1308 ح 3958 - ك الفتن، ب التثبت في الفتنة) عن أحمد بن عبدة عن حماد به، وعنده زيادة قوله: "فيكون من أصحاب النار"، وأخرجه أحمد (المسند 5/163) عن عبد العزيز العمي وابن حبان في صحيحه (الإحسان 15/78-79 ح 6685) من طريق مرحوم بن عبد العزيز، والحاكم في (المستدرك 4/423-424) . من طريقين عن حماد بن سلمة، وحماد بن زيد، كلهم عن أبي عمران الجونى به نحوه. قال الحاكم: صحيح علي شرط الشيخين ... ووافقه الذهبي. وتعقبهما الألباني فقال: وحماد بن سلمة احتج به مسلم وحده ومثله عبد الله بن الصامت. وذكر للحديث عدة شواهد وصححه (الإرواء 8/100-104) ، وصححه في تصحيح ابن ماجة أيضاً (رقم 3197) .
وصححه محقق الإحسان على شرط مسلم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك) يقول: بقتلك إياي، وإثمك قبل ذلك.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك) يقول: إني أريد أن يكون عليك خطيئتك ودمي، تبوء بهما جميعاً.
قوله تعالى (فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (فطوعت له نفسه) قال: فشجعته.
قوله تعالى (فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يوارى سوءة أخيه قال ياويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأوارى سوءة أخي فاصبح من النادمين) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (فبعث الله غرابا يبحث في الأرض) قال: جاء غراب إلى غراب ميت فحثى عليه من التراب حتى واراه، فقال الذي قتل أخاه: (يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب) الآية.(2/174)
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
قوله تعالى (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً)
قال الشيخ الشنقيطي: صرح في هذه الآية الكريمة أنه كتب على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً، ولم يتعرض هنا لحكم من قتل نفسا بنفس، أو بفساد في الأرض، ولكنه بين ذلك في موضع آخر، فبين أن قتل النفس بالنفس جائز، في قوله: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) الآية، وفي قوله (كتب عليكم القصاص في القتلى) وقوله (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً) قال: هو كما قال. وقال (ومن أحياها
فكأنما أحيا الناس جميعاً) فإحياؤها: لايقتل نفسا حرمها الله، فذلك أحيى الناس جميعاً، يعني أنه من حرم قتلها إلا بحق، حيى الناس منه جميعاً.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله عز وجل (فكأنما قتل الناس جميعاً) قال: هي كالتي في النساء (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) سورة النساء: 93، في جزائه.
قوله تعالى (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا)
قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري حدثنا ابن عون قال: حدثي سلمان أبو رجاء مولى أبي قلابة عن أبي قلابة أنه كان جالساً خلف عمر بن عبد العزيز فذكروا وذكروا، فقالوا وقالوا قد أقادت بها الخلفاء، فالتفت إلى أبي قلابة وهو خلف ظهره فقال: ماتقول يا عبد الله بن(2/175)
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
زيد أو قال: ما تقول يا أبا قلابة؟ قلتُ: ماعلمتُ نفساً حلّ قتلها في الإسلام إلا رجل زنى بعد إحصان، أو قتل نفساً بغير نفس، أو حارب الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فقال عنبسة: حدثنا أنس بكذا وكذا. قلتُ: إياي حدث أنس. قال: قدِم قوم على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكلموه فقالوا: قد استوحمنا هذه الأرض، فقال: "هذه نَعِم لنا تخرجُ لترعى فاخرجوا فيها، فاشربوا من ألبانها وأبوالها". فخرجوا فيها فشربوا من أبوالها وألبانها واستصحّوا، ومالوا على الراعي فقتلوه، واطردوا النعم. فما يُستبطأ من هؤلاء؟ قتلوا النفسَ، وحاربوا الله ورسوله، وخوّفوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: سبحان الله! فقلتُ: تتهمني؟ قال: حدثنا بهذا أنس. قال: وقال: يا أهل كذا، إنكم لن تزالوا بخير ما أبقي هذا فيكم ومثلُ هذا.
(صحيح البخاري 8/123 ح 4610 -ك التفسير- سورة المائدة) ، وأخرجه مسلم في (صحيحه 13/1297 بعد رقم 6713) ، وقوله: في الحديث: "قد أفادت به الخلفاء" يعني: القسامه كما صرح به في رواية مسلم) .
وقال البخاري: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن شعبة حدثنا قتادة عن أنس - رضي الله عنه -: أن ناساً من عُرينة اجتووا المدينة، فرخّص لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من ألبانها وأبوالها. فقتلوا الراعي واستاقوا الذود. فأرسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأتى بهم فقطّع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم وتركهم بالحرة يعضّون الحجارة.
تابعه أبو قلابة وحُميد وثابت عن أنس.
(صحيح البخاري 3/428-429 ح 1501 - ك الزكاة، ب استعمال إبل الصدقة وألبانها..) ، و (صحيح مسلم 3/1296 ح 1671 - ك القسامة والمحاربين ... ) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً) قال: من شهر السلاح في قبه الإسلام، وأخاف السبيل، ثم ظفر به وقدر عليه، فإمام المسلمين فيه بالخيار؛ إن شاء قتله، وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجله.(2/176)
قوله تعالى (أو ينفوا من الأرض)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (أو ينفوا من الأرض) يقول: أو يهربوا حتى يخرجوا من دار الإسلام إلى دار الحرب.
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة)
قال الشيخ الشنقيطي: اعلم أن جمهور العلماء على أن المراد بالوسيلة هنا هو القربة إلى الله تعالى بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه على وفق ماجاء به محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإخلاص في ذلك لله تعالى، لأن هذا وحده هو الطريق الموصلة إلى رضى الله تعالى، ونيل ما عنده من خير الدنيا والآخرة.
قال مسلم: حدثنا محمد بن سلمة المرادي، حدثنا عبد الله بن وهب، عن حيوة وسعيد بن أبي أيوب وغيرهما، عن كعب بن علقمة، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أنه سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليَّ فإنه من صلّى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرا. ثم سلوا الله لي الوسيلة. فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله. وأرجو أن أكون أنا هو. فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة".
(الصحيح 1/288 ح 384 - ك الصلاة، في استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه) ، وأخرجه (البخاري في (كتاب الأذان بنحوه 2/94) .
قال الترمذي: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: أتينا على حذيفة فقلنا: حدِّثنا من أقرب الناس من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هدياً ودلاّ فنأخذ عنه ونسمع منه. قال: كان أقرب الناس هدياً ودلا وسمتا برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابن مسعود حتى يتوارى منا في بيته، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد أن ابن أم عبد هو أقربهم إلى الله زلفى.
(السنن 5/673 ح 3807 - ك المناقب، ب مناقب ابن مسعود) ، وأخرجه أحمد (المسند 5/395) من طريق شعبة عن أبي إسحاق به. قال الترمذي: حسن صحيح. وقال الألباني: صحيح (صحيح الترمذي ح 2994) .(2/177)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)
وأخرجه الحاكم قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الشيباني، ثنا محمد ابن عبد الوهاب، ثنا محاضر بن المورع، ثنا الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة أنه سمع قارئاً يقرأ: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) . قال: القربة. ثم قال: لقد علم المحفوظون من أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ابن أم عبد من أقربهم إلى الله وسيلة.
(المستدرك 2/312 - ك التفسير، سورة المائدة، وصححه الذهبي) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وابتغوا إليه الوسيلة) أي: تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه.
قوله تعالى (إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ماتقبل منهم ولهم عذاب أليم يريدون أن يخرجوا من النار وماهم بخارجين منها)
قال ابن حبان: سمعت الهيثم بن خلف الدوري ببغداد يقول: سمعت إسحاق ابن موسى الأنصاري يقول: سمعت سفيان بن عيينة يقول: سمعت عمرو بن دينار يقول: سمعت جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول بأذني هاتين وأشار بيده إلى أذنيه: "يُخرج الله قوماً من النار فيُدخلهم الجنة". فقال له رجل في حديث عمرو إن الله يقول: (يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها) فقال: جابر بن عبد الله: إنكم تجعلون الخاص عاما، هذه للكفار اقرؤوا ما قبلها، ثم تلا (إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبِّل منهم ولهم عذاب أليم يريدون أن يخرجوا من النار وماهم بخارجين منها) هذه للكفار.
(الإحسان 16/526-527 ح 7483) قال محققه: إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين..) .
قوله تعالى (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ... )
قال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر (واللفظ ليحيى) (قال ابن أبي عمر: حدثنا. وقال: الآخران: أخبرنا سفيان بن عيينة)(2/178)
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)
عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقطع السارق في رُبع دينار فصاعداً.
(الصحيح 3/1312 ح 1684- ك الحدود، ب حد السرقة ونصابها) ، وأخرجه البخاري في (الصحيح 12/96 ح 6789-6791 - ك الحدود، ب قوله تعالى (والسارق والسارقة..)) .
وقال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى. قال: قرأت على مالك عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطع سارقاً في مجن قيمته ثلاثة دراهم.
(صحيح مسلم 3/1312، 1313 - ك الحدود، ب حد السرقة ونصابها ح /1684، 1686) ، وأخرجه البخاري (الصحيح 12/97 ح 6797، 6798) .
وقال مسلم: وحدثني أبو الطاهر وحرملة بن يحيى (واللفظ لحرملة) قالا: أخبرنا ابن وهب. قال: أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب. قال: أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن قريشاً أهمّهم شأن المرأة التي سرقت في عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة الفتح، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامهَ بن زيد، حِب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فأتى بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكلّمه فيها أسامة بن زيد، فتلوّن وجه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "أتشفع في حد من حدود الله؟ "فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله! فلما كان العَشِي قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاختطب، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد، فإنما أهلك الذين من قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف، تركوه. وإذا سرق فيهم الضعيف، أقاموا عليه الحد. وإني والذي نفسي يده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها. قال يونس: قال ابن شهاب: قال عروة: قالت عائشة: فحسُنت توبتها بعد، وتزوجت، وكانت تأتيني بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(صحيح مسلم 3/1315 - ك الحدود، في قطع السارق الشريف وغيره) ، وأخرجه البخاري في (الصحيح 12/87 ح 6788 - ك الحدود، ب كراهية الشفاعة في الحد ... ) .
قوله تعالى (فمن تاب من بعد ظلمه)
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (فمن تاب من بعد ظلمه) يقول: الحد كفارة.(2/179)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
قوله تعالى (ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض ... )
انظر حديث الترمذي عن أبي ذر الآتي عند الآية (44) من سورة الإسراء. وهو حديث: "أطت السماء ... ") .
قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ)
قال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة، كلاهما عن أبي معاوية، قال يحيى: أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن البراء بن عازب، قال: مُرّ على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيهودى محمّما مجلودا، فدعاهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "هكذا تجدون حد الزانى في كتابكم؟ ". قالوا: نعم. فدعا رجلاً من علمائهم، فقال: "أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزانى في كتابكم؟ ".
قالْ لا. ولولا أنك نشدتني بهذا لما أخبرتك بحده الرجم. ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد. قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه". فأمر به فرجم. فأنزل الله عز وجل: (يا أيها الرسول لايحزنك الذين يسارعون في الكفر) إلى قوله: (إن أوتيتم هذا فخذوه) . بقول: ائتوا محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، (وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا. فأنزل الله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (5/المائدة/45) . (ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الظالمون) (5/ المائدة/45) . (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) (5/ المائدة/47) في الكفار كلها.
(صحيح مسلم 3/2713 ح 1700- ك الحدود، ب رجم اليهود، أهل الذمة، في الزنى) . محمماً: مسود الوجه، من الحمحمة: الفحممة، وجمعها حمم. (النهاية لابن الأثير 1-444) .(2/180)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (آمنا بأفواههم) قال يقول: هم المنافقون (سماعون لقوم آخرين) قال: هم أيضاً سماعون لليهود.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن ابن عباس قوله (يحرفون الكلم) يعني يحرفون حدود الله في التوراة.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (إن أوتيتم هذا) إن وافقكم هذا فخذوه. يهود تقوله للمنافقين.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن ابن عباس (وإن لم تؤتوه فاحذروا) يقول: إن أمركم محمد بما أنتم عليه فاقبلوه وإن خالفكم فاحذروه.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن ابن عباس قوله: (ومن يرد الله فتنته) يقول: من يرد الله ضلالته (فلن تملك) لن تغني.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن ابن عباس (قلوبهم) إنما سمى القلب لتقلبه.
قوله تعالى (سماعون للكذب أكالون للسحت)
انظر حديت مسلم عن قبيصة بن مخارق الآتي تحت الآية (60) من سورة التوبة عند قوله: (والغارمين) .
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور المروزي، ثنا النضر بن شميل، أنبا حماد بن سلمة، عن قيس بن سعد، عن عطاء، عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن مهر البغي، وثمن الكلب والسنور، وكسب الحجام من السحت".
(التفسير - سورة المائدة آية 42 ح 43) وإسناده حسن كما قال محققه، وأخرجه الطبري (التفسير 10/320 ح 11956) من طريق طلحة عن أبي هريرة به. وعزاه السيوطي لابن مردويه والديلمي والخطيب في تاريخه نحوه (الدر المنثور 2/248) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (سماعون للكذب أكالون للسحت) قال: كان هذا في حكام اليهود بين أيديكم، كانوا يسمعون الكذب ويقبلون الرشى.(2/181)
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله تعالى: (أكالون للسحت) قال الرشوة في الحكم وهم يهود.
قوله تعالى (فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ... )
قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار بن الحارث، ثنا سعيد بن سليمان، ثنا عباد بن العوام عن سفيان بن حسين عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس قال: أيتان نسختا من هذه السورة -يعني المائدة- آية القلائد، وقوله: (فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) . وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مخيراً إن شاء حكم بينهم وإن شاء أعرض عنهم، فردهم إلى أحكامهم فنزلت (وأن احكم بينهم. مما أنزل الله ولاتتبع أهواءهم) فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يحكم بينهم بما في كتابنا.
(التفسير - المائدة / آية 42 ح 51) ، وأخرجه النحاس في (الناسخ والمنسوخ ص 160) ، والطبراني (المعجم الكبير 11/63-64 ح 11054) والحاكم (المستدرك 2/312) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. والبيهقي في سننه (8/249) كلهم من طريق عباد بن العوام به. قال أبو جعفر النحاس: وهذا إسناد مستقيم. وقال محقق ابن أبي حاتم: رجاله كلهم ثقات، والإسناد صحيح) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (فإن جاءوك فاحكم بينهم) يقول: إن جاءوك، فاحكم بينهم بما أنزل الله، أو أعرض عنهم. فجعل الله في ذلك رخصة إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم.
قوله تعالى (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط)
قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء، ثنا عبيد الله -يعني ابن موسى- عن علي بن صالح، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان قريظة والنضير، وكان النضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلاً من النضير قتل به، وإذا قتل رجل من النضير رجلاً من قريظة فودي بمائة وسْق من تمر، فلما بعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل رجل من النضير رجلاً من قريظة، فقالوا: ادفعوه إلينا نقتله، فقالوا: بيننا وبينكم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأتوه، فنزلت(2/182)
(وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط) والقسط: النفس بالنفس، ثم نزلت (أفحكم الجاهلية يبغون) . قال أبو داود: قريظة والنضير جميعاً من ولد هارون النبي عليه السلام.
(السنن 4/168 ح 4494 - ك الديات، ب النفس بالنفس) ، وأخرجه النسائي في (سننه 8/18-19 ك القسامة، ب تأويل قول الله تعالى (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط) ، وابن حبان في صحيحه (الإحسان 11/442 ح 5057) ، والحاكم في (المستدرك 4/366) وابن أبي حاتم من تفسيره (5/107 ح 59) من طرق عن عبيد الله بن موسى به. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي وصححه الألباني في (صحيح سنن أبي داوود 3/843 ح 3740) .
قوله تعالى (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله) يعني: حدود الله، فأخبر الله بحكمه في التوراة.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مقاتل بن حيان (ثم يتولون من بعد ذلك) يتولون عن الحق بعد البيان (وما أولئك بالمؤمنين) اليهود.
قوله تعالى (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار ... )
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مقاتل بن حيان (هدى ونور) هدى من الضلالة، ونور من العمي (يحكم به النبيون) يحكمون بما في التوراة من لدن موسى وعيسى.
انظر حديث مسلم عن البراء بن عازب المتقدم عند الآية (41) من السورة نفسها.
وانظر حديث أحمد عن واثلة بن الأسقع المتقدم عند الآية (3-4) من سورة آل عمران.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (الربانيون) فقهاء اليهود، (والأحبار) علماؤهم.(2/183)
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
قوله تعالى (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)
انظر حديث مسلم السابق تحت الآية رقم (41) من سورة المائدة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) قال من جحد ما أنزل الله فقد كفر. ومن أقر به ولم يحكم، فهو ظالم فاسق.
قال الطبري: حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان عن ابن جريج عن عطاء قوله (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) قال: كفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم.
وسنده صحيح ورجاله ثقات.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص) قال: إن بني إسرائيل لم تجعل لهم دية فيما كتب الله لموسى في التوراة من نفس قتلت، أو جرح، أو سن، أو عين، أو أنف، إنما هو القصاص، أو العفو.
قال البخاري: حدثني محمد بن سلام، أخبرنا الفزاري عن حميد عن أنس - رضي الله عنه - قال: كَسَرتِ الرُّبيع -وهي عمة أنس بن مالك- ثنية جارية من الأنصار.
فطلب القوم القصاص، فأتوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالقصاص، فقال: أنس بن النضر عم أنسِ بن مالك: لا والله لا تكسر سنها يا رسول الله، فقال: رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا أنس كتاب الله القصاص". فرضي القوم وقبلوا الأرش، فقال: رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن من عباد الله منَ لو أقسم على الله لأبره".
(صحيح البخاري 8/124 ح 4611 -ك التفسير- سورة المائدة) .(2/184)
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عفّان بن مسلم، حدثنا حمّاد، أخبرنا ثابت عن أنس، أن أخت الربيع، أم حارثة، جرحت إنسانا، فاختصموا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "القِصاص، القصاص" فقالت أمُّ الربيع: يارسول الله أيقتص من فلانة؟ والله لا يقتصّ منها. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "سبحان الله يا أم الربيع، القصاص كتاب الله "قالت: لا. والله لا يُقتص منها أبداً.
قال: فما زالت حتى قبلوا الدية. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرّه".
(صحيح مسلم 3/1302 ح 1675 - ك القسامة، ب إثبات القصاص في في الأسنان وما في معناها) .
قال أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، فذكر حديثاً وذكر عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رجل طعن رجلا بقرن في رجله، فقال: يارسول الله أقدني، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لاتعجل حتى يبرأ جرحك" قال: فأبى الرجل إلا أن يستقيد، فأقاده رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منه، قال: فعرج المستقيد وبرأ المستقاد منه، فأتى المستقيد إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال له: يارسول الله عرجت وبرأ صاحبي؟ فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ألم أمرك أن لا تستقيد حتى يبرأ جرحك فعصيتني فأبعدك الله، وبطل جرحك". ثم أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد الرجل الذي عرج من كان به جرح أن لا يستقيد حتى تبرأ جراحته، فإذا برئت جراحته استقاد.
(المسند رقم 7034) وصححه محققه، وأخرجه الدارقطني (السنن 3/88 ح 24 - ك الحدود والديات) ، والبيهقي (السنن 8/67-68 - ك الجنايات، ب الاستثناء بالقصاص ... ) كلاهما عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب به. وقال الهيثمي: رجاله ثقات (مجمع الزوائد 6/295) ، وصححه الألبانى وساق له عدة شواهد يتقوى بها. (إرواء الغليل 7/298) .
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل ومسدد، قالا: ثنا يحيى بن سعيد، أخبرنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن قيس بن عباد، قال:(2/185)
انطلقت أنا والأشتر إلى علي عليه السلام، فقلنا: هل عَهِدَ إليك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئاً لم يعهده إلى الناس عامة؟ قال: لا، إلا ما في كتابي هذا، قال مسدد: قال: فأخرج كتاباً، وقال أحمد: كتاباً من قراب سيفه، فإذا فيه "المؤمنون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده، من أحدث حدَثاً فعلى نفسه، ومن أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين". قال مسدد: عن ابن أبي عروبة فأخرج كتاباً.
(السنن 4/180-181 ح 4530 - ك الديات، ب إيقاد المسلم بالكافر) ، وأخرجه النسائي (السنن 8/19 - ك القسامة، ب القود بين الأحرار والمماليك في النفس) من طريق محمد بن المثنى عن يحيى بن سعيد به. قال الألباني: صحيح (صحيح أبي داود ح 3797) ، وأخرجه أحمد (المسند ح 959) من حديث الأشتر عن علي مطولاً بنحوه، وفيه موضع الشاهد. وصححه محققه وأخرجه الحاكم في (المستدرك 2/141) من طريق أحمد، ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وأخرجه ابن حبان في صحيحه (الإحسان 13/340-341 ح 5996) من حديث مجاهد عن ابن عمر مطولا جداً، وفيه موضع الشاهد أيضاً، قال محققه: إسناده حسن.
قوله تعالى (فمن تصدق به فهو كفارة له)
قال النسائي: أنا على بن حُجر، عن جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، عن ابن الصامت قال: قال: رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من تصدق من جسده بشيء كفّر الله عنه بقدر ذلك من ذنوبه".
(التفسير 1/439 ح 166) قال محققه: صحيح. وأخرجه أحمد (المسند 5/316) من حديث هشيم عن مغيرة بنحوه وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، وعزاه مرة لعبد الله به أحمد والطبراني بلفظ: "من تصدق بشيء من جسده أعطى بقدر ماتصدق به". ثم قال: ورجال المسند رجال الصحيح (مجمع الزوائد 6/302) . وقال الألباني: صحيح (صحيح الجامع ح 5589) . وللحديث شواهد كثيرة عن عدة من الصحابة (انظر تفصيل القول عن هذه الشواهد: حاشية تفسير النسائي 1/439-441) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (فمن تصدق به فهو كفارة له) قال: كفارة للمتصدق عليه.(2/186)
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
قوله تعالى (وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور)
انظر حديث واثلة بن الأسقع المتقدم عند الآية 3-4 من سورة آل عمران.
قوله تعالى (وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه)
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا شيئاً مما أنزل الله في الانجيل الذي أمر أهل الإنجيل بالحكم به وبين في موضع آخر أن من ذلك البشارة بمبعث نبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ووجوب اتباعه والإيمان به كقوله: (وإذ قال عيسى ابن مريم يابني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يديّ من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) وقوله تعالى (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل) الآية إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون)
انظر حديث مسلم تحت الآية رقم (41) من نفس السورة.
قوله تعالى (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه)
انظر حديث أحمد عن واثلة بن الأسقع المتقدم عند الآية (3-4) من سورة آل عمران.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ومهيمنا عليه) قال: والمهيمن الأمين. قال: القرآن أمين علي كل كتاب قبله.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (ومهيمناً عليه) قال: شهيداً عليه.
وصح أيضاً عن ابن عباس فيما رواه الطبري.
قوله تعالى (فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (فاحكم بينهم بما أنزل الله) يقول: بحدود الله (ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق) .
قوله تعالى (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) يقول: سبيلاً وسنة.(2/187)
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) قال: الدين واحد والشريعة مختلفة.
قوله تعالى (فاستبقوا الخيرات)
انظر سورة البقرة آية (148) .
قوله تعالى (وأن احكم بينهم بما أنزل الله إليك ولا تتبع أهواءهم)
أخرج الطبري بسنده الحسن من طريق ابن إسحاق عن ابن عباس قال: قال كعب بن أسد، وابن صوريا، وشأس بن قيس، بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمد، لعلنا نفتنه عن دينه! فأتوه فقالوا: يامحمد، إنك قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم وسادتهم وأنا إن اتبعناك اتبعنا اليهود ولم يخالفونا، وإن بيننا وبين قومنا خصومة، فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونؤمن لك ونصدقك! فأبى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنزل الله فيهم (وأن احكم بينهم بما أنزل الله إليك ولاتتبع أهوائهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك) إلى قوله (لقوم يوقنون) .
قوله تعالى (أفحكم الجاهلية يبغون)
انظر حديث أبي داود المتقدم عند الآية رقم (42) من السورة نفسها.
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (أفحكم الجاهلية يبغون) قال: يهود.
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخدوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لاتتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض) ذكر تعالى هذه في الآية الكريمة أن اليهود والنصارى بعضهم أولياء بعض، ولكنه بين في مواضع أخر أن ولاية بعضهم لبعض زائفة وليست خالصة، لأنها لاتستند على أساس صحيح، هو دين الإسلام، فبين(2/188)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
أن العداوة والبغضاء بين النصارى دائمة إلى يوم القيامة، بقوله: (ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة) وبين مثل ذلك في اليهود أيضاً، حيث قال فيهم: (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة) . والظاهر أنها في اليهود فيما بينهم، كما هو صريح السياق، خلافاً لمن قال إنها بين اليهود والنصارى. وصرح تعالى بعدم اتفاق اليهود معللاً له بعدم عقولهم في قوله: (تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) .
وقال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) ذكر في هذه الآية الكريمة، أن من تولى اليهود والنصارى من المسلمين فإنه يكون منهم بتوليه إياهم؛ وبين في موضع آخر أن توليهم موجب لسخط الله، والخلود في عذابه، وأن متوليهم لو كان مؤمناً ما تولاهم، وهو قوله تعالى: (ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل اليهود ما أتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون) . ونهى في موضع آخر عن توليهم مبيناً سبب التنفير منه؛ وهو قوله (يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم، قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور) . وبين في موضع آخر: أن محل ذلك، فيما إذا لم تكن الموالاة بسبب خوف وتقية، وإن كانت بسبب ذلك فصاحبها معذور، وهو قوله تعالى (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة) فهذه الآية الكريمة فيها بيان لكل الآيات القاضية بمنع موالاة الكفار مطلقاً وإيضاح، لأن محل ذلك في حالة الاختيار، وأما عند الخوف والتقية، فيرخص في موالاتهم،(2/189)
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
بقدر المداراة التي يكتفى بها شرهم، ويشترط في ذلك سلامة الباطن من تلك الموالاة.
ومن يأتي الأمور على اضطرار ... فليس كمثل آتيها اختيار
ويفهم من ظواهر هذه الآيات أن من تولى الكفار عمداً اختياراً، رغبة فيهم أنه كافر مثلهم.
قوله تعالى (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله تعالى (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم) قال: المنافقون، في مصانعة اليهود ومناجاتهم، واسترضاعهم أولادهم إياهم وقول الله تعالى ذكره (نخشى أن تصيبنا دائرة) قال يقول: نخشى أن تكون الدائرة لليهود.
انظر سورة البقرة آية (10) عند قوله تعالى (في قلوبهم مرض) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة (فعسى الله أن يأتي بالفتح) قال: بالقضاء.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (فعسى الله أن يأتي بالفتح) قال: فتح مكة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين) من موادتهم اليهود، ومن غشهم للإسلام وأهله.
قوله تعالى (ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم انهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين)
قال الشيخ الشنقيطي: وبين الله تعالى في موضع أخر أن سبب حلفهم بالكذب للمسلمين أنهم منهم، إنما هو الفرق أي الخوف، وأنهم لو وجدوا محلاً(2/190)
يستترون فيه عن المسلمين لسارعوا إليه، لشدة بغضهم للمسلمين، وهو قوله (ويحلفون بالله إنهم لمنكم وماهم منكم ولكنهم قوم يفرقون لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلاً لولوا إليه وهم يجمحون) ففي هذه الآية بيان سبب أيمان
المنافقين ونظيرها قوله: (اتخذوا أيمانهم جنة) . وبين تعالى في موضع آخر، أنهم يحلفون تلك الأيمان ليرضى عنهم المؤمنون وأنهم إن رضوا عنهم، فإن الله لا يرضى عنهم وهو قوله (يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لايرضى عن القوم الفاسقين) .
قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)
قال ابن كثير: يقول الله تعالى مخبرا عن قدراته العظيمة أنه من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته فإن الله يستبدل به من هو خير لها منه وأشد منعة وأقوم سبيلا كما قال تعالى (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) وقوله تعالى (إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز) أي: بممتنع ولا صعب.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه) الآية، وعيد من الله أنه من ارتد منكم أنه سيستبدل خيراً منهم.
قال الحاكم أخبرنا أبو عمرو عثمان بن أحمد بن السماك ببغداد، ثنا عبد الملك بن محمد الرقاشي، ثنا وهب بن جرير وسعيد بن عامر (قالا) ثنا شعبة عن سماك بن حرب قال: سمعت عياضاً الاشعري يقول: لما نزلت (فسوف يأتي الله لقوم يحبهم ويحبونه) قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هم قومك يا أبا موسى". وأومى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيده إلى أبي موسى الأشعري.
هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه (المستدرك 2/313) وصححه الذهبي وابن الملقن، وأخرجه الطبراني في (المعجم الكبير 17/371 ح 1016) ، وأبو بكر ابن أبي شيبة في مسنده - كما في إتحاف الخيرة (1/163 ح 103) ، الطبري في (تفسيره 1/414-415 ح 12188، 12192) ، وابن حاتم في (تفسيره 5/169 ح 266) كلهم من طريق شعبة به. وعزاه الهيثمي إلى الطبراني وقال: رجاله رجال الصحيح. (مجمع الزوائد 7/16) ، وقال البوصيري في الإتحاف: هذا إسناد رواته ثقات.(2/191)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) يعني بالأذلة: الرحماء.
قوله تعالى (ولا يخافون لومة لائم)
قال ابن ماجة: حدثنا عمران بن موسى، أنبأنا حماد بن زيد، ثنا على بن زيد ابن جدعان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام خطيباً، فكان فيما قال: "ألا، لا يمنعنَّ رجلاً هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه". قال: فبكى أبو سعيد، وقال: قد والله رأينا أشياء، فهبنا.
(السنن ح 4007 - ك الفتن، ب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ، وأخرجه الترمذي (السنن ح 2191 - ك الفتن، ب ما جاء ما أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما هو كائن إلى يوم القيامة) بإسناد ابن ماجة نفسه في حديث طويل وفيه موضع الشاهد. قال أبوعيسى: حديث حسن صحيح. وصححه الشيخ الألباني (صحيح ابن ماجه رقم 3237) وقد توبع علي بن زيد على إسناد هذا الحديث، فأخرجه أحمد (المسند 3/5) من طريق سليمان بن طرخان، و (3/44) من طريق أبي سلمة، و (3/46-47) من طريق المستمر بن الريان، كلهم عن أبي نضرة به. وأخرجه أحمد (المسند 3/87) ، وابن حبان في صحيحه (الإحسان 1/509ح 275) من طرق عن خالد بن عبد الله، عن الجريري عن أبي نضرة به. وخالد بن عبد الله هو الواسطي، وقد أخرج البخاري ومسلم روايته عن الجريرى. قال محقق الإحسان: إسناده صحيح، رجاله رجال مسلم إلا الجريري وقد أخرجه أبو يعلى في مسنده (2/536 ح 1411) ضمن حديث طويل، من طريق الحسن عن أبي سعيد، وفيه قوله: حدثنا أبو سعيد، قال الهيثمي: رواه أبو يعلى ورجاله رجال صحيح (مجمع الزوائد 7/ 274) .
قوله تعالى (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ... )
قال أحمد: ثنا يزيد بن عبد ربه قال: ثنا الوليد بن مسلم قال: ثنا الأوزاعي، عن عبد الله بن فيروز الديلمي، عن أبيه أنهم أسلموا أو كان فيمن أسلم فبعثوا وفدهم إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ببيعتهم وإسلامهم فقبل ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منهم فقالوا يا رسول الله نحن من قد عرفت وجئنا من حيث قد علمت وأسلمنا فمن ولينا؟ قال: "الله ورسوله". قالوا: حسبنا رضينا.
(المسند 4/232) ، وأخرجه أبو يعلى في (مسنده 12/203 ح 6825) من طريق الأوزاعي، والطبراني في (الكبير 18/329 ح 846) مطولا من طريق إسماعيل بن عياش، كلاهما عن يحيى السيبانى عن ابن الديلمي به. وعزاه الهيثمي لأحمد وأبى يعلى والطبراني، وقال: ورجال أحمد رجال الصحيح غير عبد الله بن فيروز وهو ثقة (مجمع الزوائد 9/406) وصحح إسناده محقق مسند أبي يعلى.(2/192)
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) يعني: أنه من أسلم تولى الله ورسوله.
قوله تعالى (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي قال: أخبرهم يعني الرب تعالى ذكره من الغالب فقال: لا تخافوا الدولة والدائرة فقال (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) و (الحزب) هم الأنصار.
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لاتتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين)
أخرج الطبري بسنده الحسن من طريق ابن إسحاق عن ابن عباس: قال كان رفاعة بن زيد في التابوت وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ثم نافقا، وكان رجال من المسلمين يوادونهما فأنزل الله فيهما (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء) إلى قوله تعالى (والله أعلم بما كانوا يكتمون) .
قوله تعالى (قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون)
أخرج الطبري بسنده الحسن من طريق ابن إسحاق عن ابن عباس قال: أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفر من اليهود فيهم أبو ياسر بن أخطب، ورافع بن أبي رافع، وعازر، وزيد، وخالد، وأزار بن أبي أزار، وأشيع، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل؟ قال: أومن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لانفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا: لا نؤمن بمن آمن به. فأنزل الله فيهم: (قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون) .(2/193)
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)
قوله تعالى (وجعل منهم القردة والخنازير)
قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب (واللفظ لأبي بكر) . قالا: حدثنا وكيع، عن مسعر، عن علقمة بن مرثد، عن المغيرة بن عبد الله اليشكري، عن المعرور بن سويد، عن عبد الله، قال: قالت أم حبيبة، زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللهم أمتعني بزوجي، رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبأبي أبي سفيان، وبأخي، معاوية قال: فقال: النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قد سألت الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة. لن يُعجِّل شيئاً قبل حله. أو يؤخر شيئاً عن حله. ولو كنتِ سألتِ الله أن يعيذك من عذاب في النار، أو عذاب في القبر كان خيراً وأفضل".
قال: وذُكرتْ عنده القردة. قال مسعر: وأُراه قال: والخنازير من مسخ.
فقال: " إن الله لم يجعل لمسخِ نسلاً ولا عقباً. وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك".
(الصحيح 4/2050- 2051 ح 2663 - ك القدر، ب بيان أن الآجال والأرزاق وغيرهما لا تزيد ولا تنقص ... ) .
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (وجعل منهم القردة والخنازير) قال: مسخت من يهود.
قوله تعالى (وإذا جاؤوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا له والله أعلم بما كانوا يكتمون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة في قوله (وإذا جاؤوكم قالوا آمنا) الآية، أناس من اليهود، كانوا يدخلون على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيخبرونه أنهم مؤمنون راضون بالذى جاء به، وهم متمسكون بضلالتهم والكفر، وكانوا يدخلون بذلك ويخرجون به من عند نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي نحوه.(2/194)
وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
قوله تعالى (وترى كثيراً منهْم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ماكانوا يعملون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي في قوله (وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان) قال: (الإثم) ، الكفر.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان) وكان هذا في حكام اليهود بين أيديكم.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (وأكلهم السحت) قال: الرشا.
قوله تعالى (لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الأثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون) يعنى: الربانيين، أنهم: لبئس ما كانوا يصنعون.
قوله تعالى (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا) أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا) ، قال: ليس يعنون بذلك أن يد الله موثقة، ولكنهم يقولون: إنه بخيل أمسك ما عنده، تعالى الله عما يقولون علوا كبيراً.
قوله تعالى (بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء)
قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن همام، حدثنا أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن يمين الله ملأى لا يفيضها نفقة سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلقَ السماوات والأرض فإنه لم ينقص ما في يمينه، وعرشه على الماء، وبيده الأخرى الفيض -أو القبض- يرفع ويخفِض".
(صحيح البخاري 13/414 ح 7419 - ك التوحيد، ب (وكان عرشه على الماء..) ، (وصحيح مسلم 2/690 - ك الزكاة، ب الحث على النفقة، من طريق الأعرج عن أبي هريرة بنحوه) .(2/195)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
قوله تعالى (وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً) حملهم حسد محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والعرب على أن كفروا به، وهم يجدونه مكتوباً عندهم.
قوله تعالى (كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً) أولئك أعداء الله اليهود، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله، فلن تلقى اليهود ببلد إلا وجدتهم من أذل أهله، لقد جاء الإسلام حين جاء، وهم تحت أيدي المجوس أبغض خلقه إليهم.
قوله تعالى (ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا) يقول: آمنوا بما أنزل الله، واتقوا ما حرم الله (لكفرنا عنهم سيئاتهم) .
قوله تعالى (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة ... )
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم) يعني: لأرسل السماء عليهم مدراراً (ومن تحت أرجلهم) تخرج الأرض بركتها.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم، ومن تحت أرجلهم) ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن أهل الكتاب لو أطاعوا الله، وأقاموا كتابهم باتباعه، والعمل بما فيه ليسر الله لهم الأرزاق وأرسل عليهم المطر، وأخرج لهم ثمرات الأرض. وبين في مواضع أخر أن ذلك ليس خاصاً بهم كقوله عن نوح وقومه (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل(2/196)
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
لكم جنات ويجعل لكم أنهارا) وقوله عن هود وقومه (وياقوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم) الآية. وقوله عن نبينا عليه الصلاة والسلام وقومه (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسنا إلى أجل مسمى) .
قال ابن ماجة: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا وكيع، ثنا الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن زياد بن لبيد قال: ذكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئاً، فقال: "ذاك عند أوان ذهاب العلم" قلتُ: يا رسول الله! وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ويُقرئه أبناؤنا أبناهم، إلى يوم القيامة؟ قال: "ثكلتك أمك، زياد إن كنتُ لأراكَ من أفقه رجل بالمدينة، أوليس هذه اليهود والنصارى يقرأون التوراة والإنجيل، لا يعملون بشيء مما فيهما؟ ".
(السنن 2/1344 ح 4048 - ك الفتن، ب ذهاب القرآن والعلم) ، وأخرجه أحمد (المسند 4/160) عن وكيع عن الأعمش به. وذكره ابن كثير في تفسيرة (3/140) وقال: هذا إسناد صحيح. وصححه الألباني (صحيح ابن ماجة ح 3272) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قال الله (منهم أمة مقتصدة) يقول: على كتابه وأمره، ثم ذم أكثر القوم فقال: (وكثير منهم ساء ما يعملون) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (منهم أمة مقتصدة) يقول: مؤمنة.
قوله تعالى (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) الآية. أمر تعالى في هذه الآية نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتبليغ ما أنزل إليه، وشهد له بالامتثال في آيات متعددة، كقوله: (اليوم أكملت لكم دينكم) وقوله: (وما على الرسول إلا البلاغ) ، وقوله: (فتول عنهم فما أنت بملوم) ولو كان يمكن أن يكتم شيئاً لكتم قوله تعالى (وتخفى في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) ، فمن زعم أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كتم حرفاً مما أنزل عليه، فقد أعظم الافتراء على الله، وعلى رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(2/197)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
قال البخاري: حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان عن إسماعيل عن الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت. مَن حدّثك أن محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتم شيئاً مما أنزل عليه فقد كذب، والله يقول (يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك) الآية.
(صحيح البخاري 8/124 ح 4612 -ك التفسير- سورة المائدة، ب الآية) ، وأخرجه مسلم في (الصحيح 1/159 ح 177 مطولاً - ك الإيمان، ب معنى قوله تعالى (ولقد رآه نزلة أخرى)) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) ، يعني إن كتمت آية مما أنزل عليك من ربك، لم تبلغ رسالاتي.
قوله تعالى (والله يعصمك من الناس)
قال مسلم: حدثنا عبد بن حميد، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر. ح وحدثني أبو عمران، محمد بن جعفر بن زياد (واللفظ له) . أخبرنا إبراهيم (يعني ابن سعد) عن الزهري، عن سنان بن أبي سنان الدؤلي، عن جابر بن عبد الله قال: غزونا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غزوة قِبل نجد، فأدركنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تحت شجرة فعلّق سيفه بغصن من أغصانها، قال: وتفرق الناس في الوادي يستظلون بالشجر، قال: فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن رجلاً أتاني وأنا نائم فأخذ السيف فاستيقظتُ وهو قائم على رأسي فلم أشَعر إلا والسيِف صَلتاً في يده، فقال لي: من يمنعك منّي؟ قال: قلتُ: "الله". ثم قال في الثانية: من يمنعك مني؟.
قال: قلت: "الله". قال: " فَشَام السيف، فها هو ذا جالس" ثم لم يعرِض له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(صحيح مسلم 4/1786 ح 843 - ك الفضائل، ب توكله على الله تعالى، وعصمة الله تعالى له من الناس) ، وأخرجه البخاري في (الصحيح 6/96 ح 2910 - ك الجهاد، ب من علق سيفه بالشجر) .(2/198)
قال البخاري: حدثنا إسماعيل بن خليل، أخبرنا على بن مسهر، أخبرنا يحيى ابن سعيد، أخبرنا عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سهِرَ، فلما قدم المدينة قال: "ليت رجلا من أصحابي صالحاً يحرسني الليلة". إذ سمعنا صوت سلاح، فقال: "من هذا؟ " فقال: أنا سعد بن أبي وقاص جئت لأحرسك. فنام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(الصحيح 6/95 ح 2885 - ك الجهاد والسير، ب الحراسة في الغزو في سبيل الله) ، وأخرجه مسلم (الصحيح 4/1875 ح 2410 - ك فضائل الصحابة، ب في فضل سعد بن أبي وقاص) .
قال أحمد: ثنا محمد بن جعفر قال: ثنا شعبة قال: سمعت أبا إسرائيل قال: سمعت جعدة قال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورأى رجلا سمينا فجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومئ إلى بطنه بيده ويقول: "لو كان هذا في غير هذا لكان خيرا لك". قال: وأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجل فقالوا: هذا أراد أن يقتلك فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لم ترع لم ترع ولو أردت ذلك لم يسلطك الله على".
(المسند 3/471) ، وأخرجه الطبراني في (الكبير 2/319 ح 2183) من طريق علي بن الجعد، عن شعبة به مختصراً، قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، غير أبي إسرائيل الجشمي، وهو ثقة (مجمع الزوائد 8/227) . وصحح إسناده الحافظ ابن حجر. (تهذيب التهذيب 2/81) .
قال الحافظ ابن حجر: أخرج ابن أبي شيبة من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: كنا إذا نزلنا طلبنا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعظم شجرة وأظلها، فنزل تحت شجرة فجاء رجل فأخذ سيفه فقال: يا محمد من يمنعك مني؟ قال: "الله". فأنزل الله (والله يعصمك من الناس) .
وهذا إسناد حسن (الفتح 6/98) .
قال الترمذي: حدثنا عبد بن حميد، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا الحارث ابن عبيد عن سعيد الجريري عن عبد الله بن شقيق عن عائشهَ قالت: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحرس حتى نزلت هذه الآية (والله يعصمك من الناس) فأخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأسه من القبة، فقال لهم: "يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله".
حدثنا نصر بن علي حدثنا مسلم بن إبراهيم بهذا الإسناد نحوه.(2/199)
(السنن 5/251 ح 3046 - ك التفسير، ب ومن سورة المائدة) وقال: غريب، وأخرجه الطبري (التفسير 10/469 ح 12276) عن المثنى، وابن أبي حاتم (التفسير - سورة المائدة آية 67 - ح 357) عن إبراهيم بن مرزوق البصري، والحاكم (المستدرك 2/313) من طريق محمد بن عيسى القاضي، كلهم عن مسلم ابن إبراهيم به. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال الحافظ بن حجر: إسناده حسن (فتح الباري 6/82) وقال الألباني: حسن (صحيح الترمذي ح 2440) . وذكر ابن كثير لهذا الحديث شواهد عن أبي سعيد، وعصمة بن مالك وغيرهما (التفسير 2/125-126) .
قوله تعالى (قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً فلا تأس على القوم الكافرين)
قال ابن حجر: وقد روى ابن أبي حاتم أن الآية نزلت في سبب خاص، فأخرج بإسناد حسن من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: جاء مالك بن الصيف وجماعة من الأحبار فقالوا: يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم وتؤمن بما في التوراة وتشهد أنها حق؟ قال: بلى، ولكنكم كتمتم منها ما أمرتم ببيانه، فأنا أبرأ مما أحدثتموه. قالوا: فإنا نتمسك بما في أيدينا من الهدى والحق ولا نؤمن لك ولا بما جئت به، فأنزل الله هذه الآية.
(الفتح 8/269) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (فلا تأس) قال: فلا تحزن.
قوله تعالى (وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثيراً منهم والله بصير بما يعملون)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثيراً منهم والله بصير بما يعملون) الآية.
ذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة أن بني إسرائيل عموا وصموا مرتين تتخللهما توبة من الله عليهم، وبين تفصيل ذلك في قوله تعالى: (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين) الآية. فبين جزاء عماهم وصممهم في المرة الأولى بقوله: (فإذا جاء وعد أولاهما، بعثنا عليكم عباداً لنا، أولي بأس(2/200)
وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
شديد) وبين جزاء عماهم، وصممهم في المرة الآخرة بقوله (فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم، وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ماعلوا تتبيرا) وبين التوبة التي بينهما بقوله (ثم رددنا لكم الكرة عليهم، وأمددناكم بأموال وبنين، وجعلناكم أكثر نفيراً) ، ثم بين أنهم إن عادوا إلى الإفساد عاد إلى الانتقام منهم بقوله: (وإن عدتم عدنا) فعادوا إلى الإفساد بتكذيبه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكتم صفاته التى في التوراة، فعاد الله إلى الانتقام منهم فسلط عليهم نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذبح مقاتلة بني قريظة، وسبى نساءهم وذراريهم وأجلى بني قينقاع، وبني النضير، كما ذكر تعالى طرفاً من ذلك في سورة الحشر.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (وحسبوا ألا تكون فتنة) الآية يقول: حسب القوم أن لا يكون بلاء (فعموا وصموا) كلما عرض بلاء ابتلوا به هلكوا فيه.
انظر سورة البقرة آية (18) عند قوله تعالى (صم بكم عمي) .
قوله تعالى (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة)
بيانه في قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيدا) النساء: 116.
قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية ووكيع عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم".
(صحيح مسلم 1/74 ح 54 - ك الإيمان، ب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون ... ) .
قوله تعالى (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) ، قال: قالت النصارى هو والمسيح وأمه، فذلك قول الله تعالى (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) .(2/201)
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)
قوله تعالى (وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام) ذكر في هذه الآية الكريمة أن عيسى وأمه كانا يأكلان الطعام، وذكر في مواضع أخر، أن جميع الرسل كانوا كذلك، كقوله: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام) الآية، وقوله: (وقالوا مالهذا الرسول يأكل الطعام) الآية.
قوله تعالى (وضلوا عن سواء السبيل)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله تعالى (وضلوا عن سواء السبيل) قال: يهود.
قوله تعالى (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكان يعتدون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم) يقول: لعنوا في الإنجيل على لسان عيسى بن مريم، ولعنوا في الزبور على لسان داود.
قوله تعالى (ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء) قال: المنافقون.
قوله تعالى (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لايستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشهدين)
قال الطبري: حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى) قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو بمكة(2/202)
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)
خاف على أصحابه من المشركين، فبعث جعفر بن أبي طالب، وابن مسعود، وعثمان بن مظعون، في رهط من أصحابه إلى النجاشي ملك الحبشة، فلما بلغ ذلك المشركين، بعثوا عمرو بن العاص في رهط منهم، ذكر أنهم سبقوا أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى النجاشي، فقالوا: إنه خرج فينا رجل سفه عقول قريش وأحلامها، زعم أنه نبي وإنه بعث إليك رهطاً ليفسدوا عليك قومك، فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم، قال: إن جاؤوني نظرت فيما يقولون. فقدم أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأموا باب النجاشي، فقالوا: استأذن لأولياء الله، فقالا: ائذن لهم، فمرحباً بأولياء الله، فلما دخلوا عليه سلموا، فقال له الرهط من المشركين: ألا ترى أيها الملك أنا صدقناك؟ لم يحيوك بتحيتك التي تحيَّ بها. فقال لهم: ما منعكم أن تحيوني بتحيتي؟ فقالوا: إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة.
قال لهم: ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه؟ قال: يقول: هو عبد الله، وكلمة من الله ألقاها إلى مريم، وروح منه. ويقول في مريم: إنها العذراء البتول.
قال: فأخذ عوداً من الأرض فقال: ما زاد عيسى وأمه على ما قال صاحبكم قدر هذا العود. فكره المشركون قوله، وتغيَّرت وجوههم. قال لهم: هل تعرفون شيئاً مما أنزل عليكم؟ قالوا: نعم. قال: اقرأوا فقرءوا، وهنالك منهم قسيسون ورهبان وسائر النصارى، فعرفت كل ما قرءوه وانحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق. قال الله تعالى ذكره: (ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لايستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول) الآية.
(التفسير 10/499-500 ح 12317) ، وأخرجه ابن أبي حاتم (التفسير - سورة المائدة آية 83 ح 428) عن أبيه عن عبد الله بن صالح به، ولفظه أخصر من لفظ الطبري. وإسناده جيد محتج به، وتقدم الكلام عليه عند الآية 29 من سورة النساء.(2/203)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لاتحرّموا طيّبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً)
قال البخاري: حدثنا عمرو بن عون، حدثنا خالد عن إسماعيل عن قيس عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: كنا نغزو مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليس معنا نساء، فقلنا: ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك، فرخّص بنا بعد ذلك أن نتزوج المرأة بالثوب.
ثم قرأ (يا أيها الذين آمنوا لا تُحرّموا طيبات ما أحلّ الله لكم) .
(صحيح البخاري 8/126 ح 4615 -ك التفسير- سورة المائدة، ب الآية) . (صحيح مسلم 2/1022 ح 1404 - ك نكاح، ب نكاح المتعة وبيان انه ابيح ثم نسخ) .
قال الحافظ ابن حجر: أخرج الثوري في جامعه وابن المنذر من طريقه بسند صحيح عن ابن مسعود أنه جيء عنده بطعام فتنحى رجل فقال: إني حرمته أن لا آكله. فقال: ادن فكل وكفر عن يمينك ثم تلا هذه الآية إلى قوله: (ولا تعتدوا) .
(الفتح 11/575) ، وأخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 2/313-314) .
قال البخاري: حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا محمد بن جعفر، أخبرنا حميد ابن أبي حميد الطويل أنه سمع أنس بن مالك - رضي الله عنه - يقول: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسألون عن عبادة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأينَ نحنُ من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فأنا أصلي الليل أبداً. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أُفطر.
وقال أخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً. فجاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".
(الصحيح 9/5-6 ح 5063 - ك النكاح، ب الترغيب في النكاح) ، وأخرجه مسلم (الصحيح 2/1020 ح 1401 - ك النكاح، ب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه) .(2/204)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
قوله تعالى (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) فهو الرجل يحلف على أمر ضرار أن يفعله فلا يفعله، فيرى الذي هو خير منه، فأمره الله أن يكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير وقال مرة أخرى قوله: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) إلى قوله: (بما عقدتم الأيمان) قال: واللغو من الأيمان، هي التي تكفر، لا يؤاخذ الله بها. ولكن من أقام على تحريم ما أحل الله له، ولم يتحول عنه، ولم يكفر عن يمينه، فتلك التي يؤخذ بها.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة عن الحسن (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان) يقول: ما تعمدت فيه المأثم، فعليك فيه الكفارة.
قوله تعالى (فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحه عن ابن عباس: (فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم) قال: إن كنت تشبع أهلك فأشبع المساكين، وإلا فعلى ما تطعم أهلك بقدره.
قال ابن ماجة: حدثنا محمد بن يحيى، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا سفيان ابن عيينة عن سليمان بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان الرجل يقوت أهله قوتاً فيه سعة، وكان الرجل يقوت أهله قوتاً فيه شدة فنزلت الآية (من أوسط ما تطعمون أهليكم) .
(السنن - الكفارات، ب من أوسط ماتطعمون أهليكم) ، وصحح إسناده البوصيري (مصباح الزجاجة 2/135) ، وكذا الألباني في (صحيح سنن ابن ماجة ح 1717) .
انظر حديث معاوية بن الحكم المتقدم عند الآية (238) من سورة البقرة.
وفيه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اعتقها فإنها مؤمنة".(2/205)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: هو بالخيار في هؤلاء الثلاثة، الأول فالأول، فإن لم يجد من ذلك شيئًا فصيام ثلاثة أيام متتابعات.
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن أبي عباس قوله: (رجس من عمل الشيطان) يقول: سخط.
قال البخاري: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلى، أخبرنا عيسى وابن إدريس عن أبي حيّان عن الشعبي عن ابن عمر قال: سمعت عمر - رضي الله عنه - على منبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "أما بعد أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: من العنب، والتمر، والعسل، والحِنطة، والشعير. والخمر ما خامر العقل".
(صحيح البخاري 8/126 ح 4619- ك التفسير- سورة المائدة) .
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن نافع عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة".
(صحيح البخاري 10/33 ح 5575 - ك الأشربة، ب قول الله تعالى (إنما الخمر والميسر والأنصاب)) .
قال مسلم: حدثنا سُويد بن سعيد، حدثنا حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن وعلة (رجل من أهل مصر) ، أنه جاء عبد الله بن عباس. ح وحدثنا أبو الطاهر (واللفظ له) ، أخبرنا ابن وهب، أخبرني مالك بن أنس وغيره عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن وعلة السبأي (من أهل مصر) ، أنه سأل عبد الله بن عباس عمّا يُعصر من العنب؟ فقال ابن عباس: إن رجلا أهدى لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - راوية خمر. فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هل علمت أن الله قد حرمها؟ "قال: لا. فسارَّ إنساناً. فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بِم ساررته؟ ".
فقال: أمرته ببيعها. فقال: "إن الذي حرم شُربها حرّم بيعها". قال: ففتح المزاد حتى ذهب ما فيها.
(صحيح مسلم 3/1206 ح 1579 - ك المساقاة، ب تحريم بيع الخمر) .(2/206)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)
وقال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب، قالا: حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا زهير، حدثنا سماك بن حرب. حدثني مصعب بن سعد عن أبيه، أنه نزلت فيه آيات من القرآن قال: حلفت أم سعد أن لا تكلمه أبداً حتى يكفر بدينه، ولا تأكل ولا تشرب. قالت: زعمت أن الله وصّاك بوالديك، وأنا أمك، وأنا آمرك بهذا. قال: مكثت ثلاثاً حتى غشي عليها من الجهد. فقام ابن لها يقال له عُمارة، فسقاها، فجعلت تدعو على سعد. فأنزل الله عز وجل في القرآن هذه الآية: (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصله في عاميِن أن اشكر لي ولوالديك إلى المصير) لقمان: 15، وفيها (وصاحبهما في الدنيا معروفاً) قال: وأصاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غنيِمة عظيمة، فإذا فيها سيف فأخذته، فأتيت به الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلتُ: نفّلنى هذا السيف، فأنا من قد علمت حاله. فقال: "رُدّه من حيث أخذته" فانطلقت حتى إذا أردت أن ألقيه في القبض لامتني نفسي، فرجعت إليه فقلتُ: أعطنيه. قال: فشد لي صوته: "ردّه من حيث أخذته". قال: فأنزل الله عز وجل (يسألونك عن الأنفال) الأنفال: 1. قال: ومرضت فأرسلت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأتاني، فقلتُ: دعني أقسم مالي حيث شئت. قال: فأبى. قلت: فالنصف. قال: فأبى. قلت: فالثلث. قال: فسكت. فكان بعد الثلث جائزاً. قال: وأتيت على نفر من الأنصار والمهاجرين فقالوا: تعال نطعمك ونسقيك خمراً -وذلك قبل، أن تحرّم الخمر- قال: فأتيتهم في حش -والحش البستان- فإذا رأس جزور مشوي عندهم، وزق من خمر، قال: فأكلت وشربت معهم، قال: فذكرت الأنصار والمهاجرون عندهم، فقلت: المهاجرون خير من الأنصار، قال: فأخذ رجل أحد لحيى الرأس فضربني به فجرح بأنفي، فأتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته، فأنزل الله عز وجل فيّ -يعني نفسه- شأن الخمر (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان) .
(صحيح مسلم 14/1877 ح 1748 - ك فضائل الصحابة، ب في فضل سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -) .(2/207)
قال مسلم: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد العزيز (يعنى الدراوردي) عن عمارة بن غزية، عن أبي الزبير، عن جابر، أن رجلا قدم من جيشان (وجيشان من اليمن) فسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرّة يقال له المِزر، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أو مسكر هو؟ " قال: نعم. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كل مسكر حرام. إن على الله -عز وجل- عهداً لمن يشرب المسكر، أن يسقيه من طينة الخبال". قالوا: يا رسول الله وماطينة الخبال؟ قال: "عرق أهل النار، أو عصارة أهل النار".
(صحيح مسلم 3/1587 ح 2002 - ك الأشربة، ب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام) .
قال الترمذي: حدثنا عبد الله بن منير قال: سمعت أبا عاصم، عن شبيب بن بشر، عن أنس بن مالك قال: لعن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الخمر عشرة: عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشتراة له.
(السنن 3/580 ح 1295 - ك البيوع، ب النهي أن يتخد الخمر خلا) وقال: حديث غريب، وأخرجه ابن ماجة (السنن 2/1122 ح 3381 - ك الأشربة، ب التجارة في الخمر) من طريق محمد بن سعيد التستري عن أبي عاصم به. وقال الألباني: حسن صحيح (صحيح الترمذي 2/27) وأخرجه الضياء المقدسي (المختارة 6/181-183) من طرق عن شبيب بن بشر به، وحسن محققه أسانيدها) .
انظر حديث عمر المتقدم في سورة البقرة عند الآية (219) .
قال مسلم: حدثنا عبد الله بن عمر القواريري، حدثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى ابن همام، حدثنا سعيد الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب بالمدينة قال؟ "يا أيها الناس: إن الله تعالى يعرض بالخمر، ولعل الله سينزل فيها أمراً، فمن كان عنده شيء فليبعه ولينتفع به". قال: فما لبثنا إلا يسيراً حتى قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله تعالى حرم الخمر، فمن أدركته هذه الآية وعنده شيء فلا يشرب ولا يبع". قال: فاستقبل الناس بما كان عنده منها في طريق المدينة، فسفكوها.
(الصحيح 3/1205 ح 1578 - ك المساقاة، ب تحريم بيع الخمر) .(2/208)
قال أبو داود: حدثنا نصر بن عاصم الأنطاكي، ثنا يزيد بن هارون الواسطي، ثنا ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا سكر فاجلدوه، ثم إن سكر فاجلدوه، ثم إن سكر فاجلدوه، فإن عاد الرابعة فاقتلوه".
(السنن 4/164 ح 4484 - ك الحدود، ب إذا تتابع في شرب الخمر) ، وأخرجه النسائي (السنن 8/314 - ك الأشربه، ب ذكر الروايات المغلظات في شرب الخمر) ، وابن ماجة (السنن 2/859 ح 2572 - ك الحدود، ب في شرب الخمر مراراً) كلاهما من طريق شبابة، عن ابن أبي ذئب به. وأخرجه أحمد (المسند ح 7898، 10554) عن يزيد عن ابن أبي ذئب به. والحديث صحيح أفاض الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند في تصحيحه وذكر شواهده. وصححه كذلك الألباني (السلسلة الصحيحة ح 1360) .
وانظر حديث أبي داود عن أبي موسى الأشعري المتقدم تحت الآية رقم (219) من سورة البقرة.
قال مسلم: حدثني زهير بن حرب، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من لعب بالنردشير، فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه".
(الصحيح 4/1770 ح 2260 - ك الشعر، ب تحريم اللعب بالنردشير) .
قال النسائي: أنا محمد بن عبد الرحيم صاعقة، أنا حجاج بن منهال، نا ربيعة ابن كلثوم بن جبير عن أبيه، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار شربوا حتى إذا نهلوا عبث بعضهم ببعض، فلما صحوا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه وبرأسه وبلحيته
فيقول: قد فعل هذا بي أخي - وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن، والله لو كان بي رؤوفاً رحيماً ما فعل بي هذا فوقعت في قلوبهم الضغائن فأنزل الله عز وجل: (إنما الخمر والميسر) إلى قوله: (فهل أنتم منتهون) فقال ناس: هي رجس وهي في بطن فلان قتل يوم بدر وفلان قتل يوم أحد فأنزل الله عز وجل (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات) .(2/209)
(التفسير 1/447-448 ح 171) ، وأخرجه الطبراني في (المعجم الكبير 12/56 ح 12459) ، والطبري في تفسيره (10/571 ح 12522) ، والحاكم في (المستدرك 4/141-142) ، والبيهقي في (سننه 8/285-286) ، كلهم من طريق ربيعة بن كلثوم به مثله. وهذا الإسناد رجاله أئمة ثقات، إلا أن ربيعة بن كلثوم وأباه في حفظهما شيء، وقد روى لهما مسلم رحمه الله. ويشهد لشطر الحديث الأول حديث سعد بن أبي وقاص عند الإمام مسلم، وقد تقدم عند الآية (90) من السورة نفسها، ويشهد لشطره الثاني حديث البراء عند الترمذي وغيره الماضي قبل هذا الحديث مباشرة، فيكون حديث ابن عباس هذا حسناً إن شاء الله. وقد سكت عنه الحاكم - مع نقل السيوطي عنه انه صححه؟ (الدر المنثور 3/157-158) . وقال الذهبي في تلخيص المستدرك: صحيح على شرط مسلم. وقال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد 7/18) .
قوله تعالى (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جُناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا)
قال البخاري: حدثنا أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا ثابت عن أنس - رضي الله عنه -: إن الخمر التي أهريقت الفضيخ. وزادني محمد البيكندي عن أبي النعمان قال: كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة، فنزل تحريم الخمر، فأمر مناديا منادى، فقال أبو طلحة: اخرُج فانظر ما هذا الصوت، قال: فخرجت فقلت: هذا مناد ينادي: ألا إن الخمر قد حُرّمت. فقال لي: اذهب فأهرقها. قال: فجرت في سكك المدينة. قال: وكانت خمرهم يومئذ الفضيخ، فقال: بعض القوم: قتل قوم وهي في بطونهم، قال: فأنزل الله (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا) .
(صحيح البخاري 8/128 ح 4620 -ك التفسير- سورة المائدة، ب الآية) ، (صحيح مسلم 3/1570 - ك الأشربة، ب تحريم الخمر وبيان أنها تكون من عصير العنب ومن التمر) .
قال مسلم: حدثنا منجاب بن الحارث التميمي وسهل بن عثمان وعبد الله ابن عامر بن زرارة الحضرمي وسُويد بن سعيد والوليد بن شجاع (قال سهل ومنجاب: أخبرنا. وقال الآخرون: حدثنا) على بن مسهر عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: لمّا نزلت هذه الآية: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتّقوا وآمنوا) المائدة: 93 إلى آخر الآية. قال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قيل لي: أنت منهم".
(صحيح مسلم 4/1910 ح 2459 - ك فضائل الصحابة، ب من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه رضي الله عنهما) .(2/210)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (تناله أيديكم ورماحكم) قال: النبل (رماحكم) تنال كبير الصيد (وأيديكم) تنال صغير الصيد، أخذ الفرخ والبيض.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (أيديكم ورماحكم) قال: هو الضعيف من الصيد وصغيره، يبتلى الله تعالى ذكره به عباده في إحرامهم، حتى لو شاؤوا نالوه بأيديهم، فنهاهم الله أن يقربوه.
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) هذه الآية الكريمة يفهم من دليل خطابها أي مفهوم مخالفتها أنهم إن حلوا من إحرامهم، جاز لهم قتل الصيد، وهذا المفهوم مصرح به في قوله تعالى (وإذا حللتم فاصطادوا) يعني: إن شئتم كما تقدم إيضاحه في أول هذه السورة الكريمة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) قال: إن قتله متعمدا أو ناسيا حكم عليه، وإن عاد متعمدا عجلت له العقوبة، إلا أن يعفو الله.
قوله تعالى (ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم) قال: إذا قتل المحرم شيئاً من الصيد حكم عليه فيه، فإن قتل ظبيا أو نحوه، فعليه شاة تذبح بمكة، فإن لم يجد، فإطعام ستة مساكين، فإن لم يجد، فصيام ثلاثة أيام، فإن قتل إيّلا أو نحوه، فعليه بقرة، وإن قتل نعامة أو حمار وحش أو نحوه، فعليه بدنة من الإبل.(2/211)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
قوله تعالى (يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً)
انظر سورة البقرة آية (48) عند قوله تعالى (ولا يؤخذ منها عدل) .
قوله تعالى (ومن عاد فينتقم الله منه)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: من قتل شيئا من الصيد خطأ وهو محرم، حكم عليه فيه مرة واحدة، فإن عاد يقال له: ينتقم الله منكم، كما قال الله عز وجل.
قوله تعالى (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم ... )
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد أخبرنا سفيان عن عمرو قال: سمعت جابراً يقول: بعثنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثمائة راكب وأميرنا أبو عبيدة نرصُدُ عيراً لقريش، فأصابنا جوع شديد حتى أكلنا الخبط، فسمي جيش الخبط، وألقى البحر حوتاً يقال له العنبر، فأكلنا نصف شهر، وادَّهنا بودكه حتى صلحت أجسامنا، قال: فأخذ أبو عبيدة ضلعاً من أضلاعه فنصبه فمر الراكب تحته، وكان فينا رجل، فلمّا اشتد الجوع نحر ثلاث جزائر، ثم ثلاث جزائر، ثم نهاه أبو عبيدة.
(صحيح البخاري 9/530 ح 5494 - ك الذبائح والصيد، ب قوله تعالى (أحل لكم صيد البحر)) .
قال الطبري: حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد ابن عمرو قال، حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم" قال: طعامه ما لفظه ميتاً فهو طعامه.
(التفسير 11/70 ح 12729) قال الشيخ محمود شاكر: إسناد صحيح، ورجاله ثقات حفاظ) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (وطعامه متاعا لكم) يعني: بطعامه، مالحه، وما قذف البحر منه، مالحه.
قوله تعالى (وحرّم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً)
قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عوانة، حدثنا عثمان -هو ابن موهب- قال: أخبرني عبد الله بن أبي قتادة أن أباه أخبره أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج حاجا فخرجوا معه، فصرف طائفة منهم فيهم أبو قتادة فقال: خذوا(2/212)
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
ساحل البحر حتى نلتقى، فأخذوا ساحل البحر، فلما انصرفوا أحرموا كلهم إلا أبو قتادة لم يُحرم. فبينما هم يسيرون إذ رأوا حُمُر وحش فحمل أبو قتادة على الحمر فعقر منها أتانا، فنزلوا فأكلوا من لحمها وقالوا: أنأكل لحم صيد ونحن محرمون؟ فحملنا مابقي من لحم الأتان. فلمّا أتوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالوا: يا رسول الله، إنا كنا أحرمنا، وقد كان أبو قتادة لم يحرم، فرأينا حمر وحش، فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتانا، فنزلنا فأكلنا من لحمها، ثم قلنا: أنأكل لحم صيد ونحن محرمون؟ فحملنا مابقي من لحمها. قال: "منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟ " قالوا: لا. قال: "فكلوا ما بقي من لحمها".
(صحيح البخاري 4/35 ح 1824 -ك جزاء الصيد- ب لا يشير المحرم إلى الصيد لكى يصطاده الحلال) .
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عبد الله بن عباس عن الصعب بن جثامة الليثي أنه أهدى لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حماراً وحشياً وهو بالأبواء -أو بودان- فردّه عليه فلمّا رأى ما في وجهه قال: "إنا لم نرده عليك إلا أنا حُرُم".
(صحيح البخاري 4/38 ح 1825 - ك جزاء الصيد، ب إذا أهدى للمحرم حمارا وحشيا حيا لم يقبل) .
قال الطبري: حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال: حدثنا بشر بن المفضل قال حدثنا سعيد قال: حدثنا قتادة، أن سعيد بن المسيب حدثه، عن أبي هريرة أنه سئل عن صيد صاده حلال، أيأكله المحرم؟ قال: فأفتاه هو بأكله، ثم لقي عمر ابن الخطاب رحمه الله فأخبره بما كان من أمره، فقال: لو أفتيتهم بغير هذا لأوجعت لك رأسك.
(وصححه أحمد شاكر. التفسير ح 12754) .
قال مسلم: وحدثنا يحيى، قال: قرأت على مالك عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "خمس من الدواب، ليس على المحرم في قتلهن جناح: الغراب، والحدأة، والعقرب والفأرة والكلب العقور".
(كتاب الحج ح 1199، ب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرام) .(2/213)
قال البخاري: حدثنا يحيى بن سليمان قال: حدثني ابن وهب قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "خمس من الدواب كلهن فاسق يُقتلن في الحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور".
(صحيح البخاري 4/42 ح 1829 - ك جزاء الصيد، ب ما يقتل المحرم من الدواب) .
قوله تعالى (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد) يعنى: قياما لدينهم، ومعالم لحجهم.
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم)
قال البخاري: حدثني الفضل بن سهل قال: حدثنا أبو النضر، حدثنا أبو خيثمة حدثنا أبو الجويرية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان قوم يسألون رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استهزاء، فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تضلُّ ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) حتي فرغ من الآية كلها.
(صحيح البخاري 8/130 ح 4622 -ك التفسير- سورة المائدة، ب الآية) .
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ، حدثنا سعيد، حدثني عقيل عن ابن شهاب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يُحرم فحرّم من أجل مسألته".
(صحيح البخاري 13/278 - ك الاعتصام، ب ما يكره من كثرة السؤال ح 7289) .
قال مسلم: حدثنا محمود بن غيلان ومحمد بن قدامة السلمي ويحيى بن محمد اللؤلؤي. وألفاظهم متقاربة (قال محمود: حدثنا النضر بن شميل. وقال الآخران:(2/214)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)
أخبرنا النضر) أخبرنا شعبة، حدثنا موسى بن أنس عن أنس بن مالك قال: بلغ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أصحابه شيء فخطب فقال: "عُرضت عليّ الجنة والنار، فلم أر كاليوم في الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيراً".
قال: فما أتى على أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أشدّ منه. قال: غطوا رؤوسهم ولهم خنين. قال: فقام عمر فقال: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، قال: فقام ذاك الرجل فقال: من أبي؟ قال: "أبوك فلان". فنزلت: (يا أيها الذين ءامنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم تسؤكم) .
(صحيح مسلم 4/1832 ح 2359 - ك الفضائل، ب توقيره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، وأخرجه البخاري بنحوه الصحيح - الفتن باب التعوذ من النفاق ح 7089 ح 7295) .
قال البخاري: حدثنا إسماعيل، حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "دعوني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم".
(صحيح البخاري 13/264 ح 7288 - ك الاعتصام بالكتاب والسنة، ب الإقتداء بسنن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، (صحيح مسلم 4/1830 - ك الفضائل، ب توقيره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وترك إكثار سؤاله عمالا ضرورة إليه، أو لا يتعلق به تكليف ومالا يقع، ونحو ذلك ح 1337 نحوه) .
قوله تعالى (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام)
قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب قال: البَحيرة التي يُمنع درّها للطواغيت، فلا يحلبها أحد من الناس، والسائبة: كانوا يسيّبونها لآلهتهم فلا يُحمل عليها شيء. قال: وقال أبو هريرة: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رأيت عمرو ابن عامر الخزاعى يجرّ قصبه في النار، كان أول من سيّب السوائب". والوصيلة: الناقة البكر تبَكر في أول نِتاج الإبل بأنثى، ثم تثنى بعد بأنثى، وكانوا يُسيّبونهم(2/215)
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)
لطواغيتهم أن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر. والحام: فحل الإبل يضرب الضراب المعدود، فإذا قضى ضِرابه ودَعوه للطواغيت وأعفوه من الحمل فلم يُحمل عليه شيء، وسموه الحامي. وقال لي أبو اليمان: أخبرنا شعيب عن الزهري سمعت سعيداً يُخبره بهذا قال: وقال أبو هريرة: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحوه.
ورواه ابن الهاد عن ابن شهاب عن سعيد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (صحيح البخاري 8/132-133 ح 4623 -ك التفسير- سورة المائدة) ، (صحيح مسلم 4/2192 ح 51 - ك الجنة وصفة نعيمها وأهلها، ب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء. نحوه) .
قال البخاري: حدثني محمد بن أبي يعقوب أبو عبد الله الكرماني، حدثنا حسان بن إبراهيم، حدثنا يونس عن الزهري عن عروة أن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا، ورأيت عَمْراً يَجُر قصبه، وهو أول من سيب السوائب".
(صحيح البخاري 8/132-133 ح 4624 -ك التفسير- سورة المائدة، ب الآية) . ابن عمرو بن لي قمعه (انظر السيرة النبوية لابن هشام 1/78، والمستدرك 4/605) .
قال أحمد: ثنا محمد بن جعفر قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال: سمعت أبا الأحوص يحدث عن أبيه قال: أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا قشف الهيئة فقال: هل لك مال؟ قال: قلت: نعم. قال: من أي المال؟ قال: قلت: من كل المال؛ من الإبل والرقيق والخيل والغنم. فقال: إذا آتاك الله مالا فلير عليك. ثم قال: هل تنتج إبل قومك صحاحاً آذانها فتعمد إلى موسى فتقطع آذانها فتقول: هذه بحر وتشقها أو تشق جلودها وتقول: هذه صرم وتحرمها عليك وعلى أهلك؟ قال: نعم. قال: فإن ما آتاك الله عز وجل لك وساعد الله أشد وموسى الله أحدّ. وربما قال: ساعد الله أشد من ساعدك وموسى الله أحد من موساك. قال: فقلت: يا رسول الله أرأيت رجلاً نزلت به فلم يكرمني ولم يقرني ثم نزل بي أجزيه بما صنع أم أقريه؟ قال: أقره.
(المسند 3/473) ، وأخرجه الحاكم (المستدرك 4/181) من طريق وهب بن جرير كلاهما عن شعبة به، وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وعزاه الهيثمي للطبراني في الصغير وقال: رجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد 5/133) ، وصححه الألباني بشواهده في (غاية المرام ح 75) .(2/216)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة) ليسيبوها لأصنامهم (ولا وصيلة) ، يقول: الشاة، (ولا حام) يقول: الفحل من الإبل.
قوله تعالى (وأكثرهم لا يعقلون) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وأكثرهم لا يعقلون) يقول: تحريم الشيطان الذي حرم عليهم، إنما كان من الشيطان، ولا يعقلون.
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم)
قال الشيخ الشنقيطي: قد يتوهم الجاهل من ظاهر هذه الآية الكريمة عدم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن نفس الآية فيها الإشارة إلى أن ذلك فيما إذا بلغ جهده فلم يقبل منه المأمور، وذلك في قوله (إذا اهتديتم) لأن من ترك الأمر بالمعروف لم يهتد. ومما يدل على أن تارك الأمر بالمعروف غير مهتد؛ أن الله تعالى أقسم أنه في خسر في قوله تعالى (والعصر. إن الإنسان لفى خسر. إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) . فالحق وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبعد أداء الواجب لا يضر الآمر ضلال من ضل. وقد دلت الآيات كقوله تعالى (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) والأحاديث على أن الناس إن لم يأمروا بالمعروف، ولم ينهو عن المنكر، عمهم الله بعذاب من عنده.
قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع عن سفيان. ح وحدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة كلاهما عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب. وهذا حديث أبي بكر. قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة. فقال: قد ترك ما هنالك. فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من رأى منكم منكراً فليغره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".
(الصحيح 1/69 ح 49 - ك الإيمان، في بيان كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الإيمان ... ) .(2/217)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
قال ابن ماجة: حدثنا علي بن محمد، ثنا وكيع عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبيد الله بن جرير، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما من قوم يُعمل فيهم بالمعاصي، هم أعز منهم وأمنع، لا يُغيّرون، إلا عمّهم الله بعقاب".
(السنن ح 4009 - الفتن، ب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ، وأخرجه أحمد وأبو داود من طريقين عن جرير به نحوه (المسند 4/361، 363، 364، 366) ، (السنن4/122 - الملاحم، ب الأمر والنهي) ، وقد رواه شعبة عن أبي إسحاق كذلك، وصححه ابن حبان (الإحسان 1/259 ح 300) ، وأيضاً صححه الألباني (صحيح الجامع رقم 5749) ، وحسنه السيوطي (الجامع الصغير مع فيض القدير 5/493 ح 8085) .
قال أبو داود: حدثنا وهب بن بقية، عن خالد. ح وثنا عمرو بن عون، أخبرنا هشيم المعني، عن إسماعيل، عن قيس، قال: قال أبو بكر بعد أن حمد الله وأثنى عليه: يا أيها الناس، إنكم تقرأون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) قال عن خالد: وإنا سمعنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعقاب". وقال عمرو عن هشيم: وإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "ما من قوم يُعمل فيهم بالمعاصي، ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب".
قال أبو داود: ورواه كما قال خالد أبو أسامة وجماعة، وقال شعبة فيه: "ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أكثر ممن يعمله".
(السنن 4/122 ح 4338 - ك الملاحم، ب الأمر والنهي) ، وأخرجه الترمذى (السنن 5/257 ح 3057 - ك التفسير، ب ومن سورة المائدة) والضياء في (المختارة 1/146-147) من طريق يزيد بن هارون. وابن ماجة (السنن 2/1327 ح 4005 - ك الفتن، ب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) من طريق ابن نمير وأبى أسامة، كلهم عن إسماعيل بن أبي خالد به، وأخرجه أحمد (المسند 1/2) عن ابن نمير به، قال محققه: إسناد صحيح (المسند 1/160) ، وأخرجه ابن حبان في صحيحه (الإحسان 1/261 ح 304) ، وأبو يعلى في (مسند 1/118 ح 128) كلاهما من طريق شعبة، عن إسماعيل به. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال الألباني: صحيح (صحيح الترمذى ح 2448) ، وصحح إسناده محقق مسند أبي يعلى.(2/218)
قال الطبري: حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر وأبو عاصم قالا: حدثنا عوف، عن سوّار بن شبيب قال: كنت عند ابن عمر، إذ أتاه رجل جليد في العين، شديد اللسان، فقال: يا أبا عبد الرحمن نحن ستة كلهم قد قرأ القرآن فأسرع فيه، وكلهم مجتهد لا يألوا، وكلهم بغيض إليه أن يأتي دناءة، وهم في ذلك يشهد بعضهم على بعض بالشرك! فقال رجل من القوم: وأي دناءة تريد أكثر من أن يشهد بعضهم على بعض بالشرك! قال: فقال الرجل: إني لست إياك أسأل أنا أسأل الشيخ، فأعاد على عبد الله الحديث، فقال عبد الله بن عمر: لعلك ترى -لا أبا لك- أني سآمرك أن تذهب أن تقتلهم! عظهم وانههم، فإن عصوك فعليك بنفسك، فإن الله تعالى يقول: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون) .
(التفسير 11/140 ح 12854) ، ورجاله ثقات وإسناده صحيح.
قال ابن ماجة: حدثنا علي بن محمد، ثنا محمد بن فضيل، ثنا يحيى بن سعيد، ثنا عبد الله بن عبد الرحمن، أبو طوالة، ثنا نهار العبدي، أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إن الله ليسأل العبد يوم القيامة حتى يقول: ما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره؟ فإذا لقّن الله عبداً حجته، قالا: يارب رجوتك، وفرِقْتُ من الناس".
(السنن 2/1332 ح 4017 - ك الفتن، ب قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم) ، وأخرجه أحمد (المسند 3/77) من طريق وهب، عن يحيى بن سعيد به. قال العراقي: رواه ابن ماجة من حديث أبي سعيد الخدري، بإسناد جيد. (تخريج الإحياء 3/1273 ح 1926) وقال البوصيرى: إسناد صحيح ... (مصباح الزجاجة 2/300) وقال الألباني: هذا إسناد جيد (السلسلة الصحيحة ح 929) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا أهتديتم) يقول: أطيعوا أمري، واحفظوا وصيتي.(2/219)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذاً لمن الآثمين)
قال البخاري: وقال لي على بن عبد الله: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن أبي زائدة عن محمد بن أبي القاسم عن عبد الملك بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعديّ بن بدّاء، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلمّا قدما بتركته فقدوا جاماً من فضة مخوّصاً من ذهب، فأحلفهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم وُجد الجام بمكة فقالوا: ابتعناه من تميم وعدي، فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا: لشهادتنا أحق من شهادتهما وإن الجام لصاحبهم، قال: وفيهم نزلت هذه الآية: (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت) .
(صحيح البخاري 5/480 ح 2780 - ك الوصايا، ب قوله الله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت..)) . وقد حسنه علي بن المديني، كما نقله المزي في (تهذيب الكمال 18/312) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم) إلى قوله: (ذوا عدل منكم) فهذا لمن مات وعنده المسلمون، فأمره الله أن يشهد على وصيته عدلين من المسلمين. ثم قال: (أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت) فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين، فأمره الله تعالى ذكره بشهادة رجلين من غير المسلمين. فإن ارتيب في شهادتهما، استحلفا بعد الصلاة بالله: لم نشتر بشهادتنا ثمنا قليلا. فإن اطلع الأولياء على أن الكافرين كذبا في شهادتهما قام رجلان من الأولياء فحلفا بالله: إن شهادة الكافرين باطلة، وإنا لم نعتد. فذلك قوله: (فإن عثر على أنهما استحقا إثما) يقول: إن اطلع على الكافرين كذبا(2/220)
(فآخران يقومان مقامهما) يقول: من الأولياء، فحلفا بالله إن شهادة الكافرين باطلة وإنا لم نعتد فترد شهادة الكافرين، وتجوز شهادة الأولياء. يقول تعالى ذكره: ذلك أدنى أن يأتي الكافرون بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم. وليس على شهود المسلمين إقسام، وإنما الإقسام إذا كانوا كافرين.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة قال: سمعت ابن المسيب يقول: (اثنان ذوا عدل منكم) أى: مسلمين (أوآخران من غيركم) أهل الكتاب.
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر في هذه الآية الكريمة أن كاتم الشهادة أثم وبين في موضع آخر أن هذا الإثم من الآثام القلبية وهو قوله: (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) ومعلوم أن منشأ الآثام والطاعات جميعاً من القلب، لأنه إذا صلح صلح الجسد كله وإذا فسد فسد الجسد كله.
قوله تعالى (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا) إلا علم أنت أعلم به منا.
انظر حديث الحاكم عن أبي أمامة المتقدم تحت الآية (31) من سورة البقرة.
وهو حديث: "كم كانت الرسل؟ ... ") .
قوله تعالى (تكلم الناس في المهد)
انظر حديث البخاري عن أبي هريرة المتقدم عند الآية (46) من سورة آل عمران. وهو حديث: "لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة ... ") .
قوله تعالى (وإذ تخرج الموتى بإذني)
قال الشيخ الشنقيطي: معناه إخراجهم من قبورهم أحياء بمشيئة الله، وقدرته كما أوضحه بقوله: (وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله) .(2/221)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
قوله تعالى (وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات)
قال الشيخ الشنقيطي: لم يذكر هنا كيفية كفه إياهم عنه، ولكنه بينه في موضع آخر كقوله: (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم) وقوله: (وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه) الآية. وقوله: (ومطهرك من الذين كفروا) .
قوله تعالى (وإذ أوحيت إلى الحواريين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (وإذ أوحيت إلى الحواريين) يقول: قذفت في قلوبهم.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة: الحواري: الوزير.
قوله تعالى (مائدة من السماء)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره (مائدة من السماء) قال: مائدة عليها طعام، أتوا بها، حين عرض عليهم العذاب إن كفروا. ألوان من طعام ينزل عليهم.
قوله تعالى (تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا) قال: أرادوا أن تكون لعقبهم من بعدهم.
قوله تعالى (فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه)
قال أحمد: ثنا وكيع، عن سفيان، عن سلمة، عن عمران أبي الحكم السلمي عن ابن عباس قال: قالت قريش للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ادع لنا ربك يصبح لنا الصفا ذهبة، فإن أصبحت ذهبة اتبعناك وعرفنا أن ما قلت كما قلت. فسأل ربه عز وجل، فأتاه جبريل فقال: إن شئت أصبحت لهم هذه الصفا ذهبة، فمن كفر منهم بعد ذلك عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، وإن شئت فتحنا لهم أبواب التوبة.
قال: "يا رب لا، بل افتح لهم أبواب التوبة".
(المسند 1/345) ، وأخرجه الطبراني في معجمه الكبير (12/152 ح 12736) ، والحاكم في (المستدرك 1/53 و2/314 و4/240) من طريق سفيان به مثله. ووقع عند الإمام أحمد (1/242)(2/222)
قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115) وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)
وعند الحاكم في الموضع الأول والثاني (عمران بن الحكم) والصواب المثبت كما نبه على ذلك: الهيثمي في مجمع الزوائد (7/50) وابن حجر في تعجيل المنفعة (ص 319) قال الحاكم في الموضع الثاني: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وقال الذهبي: صحيح. وقال الحاكم أيضاً في الموضع الثالث: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. ونقل الشيخ أحمد شاكر عن ابن كثير أنه قال: إسناد جيد. (حاشية المسند رقم2166) . وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. (مجمع الزوائد 7/50، 10/96) وصحح إسناده أحمد شاكر في الموضع المشار إليه عاليه) .
قوله تعالى (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق)
قال الترمذي: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاوُس عن أبي هريرة قال: تلقّى عيسى حُجّته ولقاه الله في قوله: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذونى وأمّي إلهين من دون الله) قال أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلقاه الله: (سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق) الآية كلها.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. (سنن الترمذى 5/260 - ك التفسير، سورة المائدة ح /3062) ، وأخرج النسائي في (التفسير 1/468 ح 182) ، وابن أبي حاتم في تفسيره (5/474 ح 992) كلاهما من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار به. وصححه الألبانى في (صحيح سنن الترمذى 3/48-49) .
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة قوله: (يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) متى تكون؟ قال: يوم القيامة، ألا ترى أنه يقول: (هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم) .
قوله تعالى (وكنت عليهم شهيداً مادمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم)
قال البخاري: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، أخبرنا المغيرة بن النعمان قال: سمعت سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "يا أيها الناس، إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلاً". ثم قال: (كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين) إلى أخر الآية. ثم(2/223)
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)
قال: "ألا وإن أول الخلائق يُكسى يوم القيامة إبراهيم، ألا وإنه يُجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يارب أصيحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول كما قال العبد الصالح (وكنت عليهم شهيدا ما دُمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم) فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم".
(صحيح البخاري 8/135 ح 4625 -ك التفسير- سورة المائدة، ب الآية) و (11/385- ك الرقاق، ب الحشر) ، (صحيح مسلم 4/2194 - ك الجنه وصفة نعيمها وأهلها، ب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة) .
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة: (كنت أنت الرقيب عليهم) قال: الحفيظ عليهم.
قوله تعالى (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم)
قال مسلم: حدثني يونس بن عبد الأعلى الصدفي، أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث؛ أن بكر بن سوادة حدّثه عن عبد الرحمن بن جبير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: (رب إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه مني) إبراهيم: 36، الآية.
وقال عيسى عليه السلام: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت
العزيز الحكيم) فرفع يديه وقال: "اللهم أمتي أمتي". وبكى. فقال الله عز وجل: يا جبريل اذهب إلى محمد، وربك أعلم، فسلْه ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فسأله. فأخبره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما قال. وهو أعلم.
فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك.
(صحيح مسلم 1/191 ح 202 - ك الأيمان، ب دعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأمته وبكائه شفقة عليهم) .
قوله تعالى (رضي الله عنهم ورضوا عنه)
انظر حديث البخاري عن أبي سعيد المتقدم عند الآية (15) من آل عمران.(2/224)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)
فضلها: عن جابر وابن عباس وأنس وابن مسعود وغيرهم: لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم قال لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق.
واللفظ لجابر (انظر موسوعة فضائل سور وآيات القرآن 1/255/257) .
قوله تعالى (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: أما قوله: (الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور) فإنه خلق السموات قبل الأرض، والظلمة قبل النور، والجنة قبل النار.
قوله تعالى (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (يعدلون) ، قال: يشركون.
قوله تعالى (هو الذي خلقكم من طين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (هو الذي خلقكم من طين) ، بدء الخلق، خلق الله آدم من طين.
قوله تعالى (ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده) ، يعني أجل الموت، "والأجل المسمى"، أجل الساعة والوقوف عند الله.
قوله تعالى (ثم أنتم تمترون)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن الربيع بن آنس في قول الله: (ثم أنتم تمترون) يعني: الشك والريبة في أمر الساعة.
قوله تعالى (يعلم سركم)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن ابن عباس قوله (يعلم سركم) قال: السر ما أسر ابن آدم في نفسه.(2/225)
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
قوله تعالى (وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين) إلى قوله ( ... أنباء ما كانوا به يستهزءون)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة قوله: (وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين) يقول: ما تأتيهم من شيء من كتاب الله إلا أعرضوا عنه. قوله: (أنباء ما كانوا به يستهزءون) يقول: سيأتيهم يوم القيامة أنباء ما استهزءوا به من كتاب الله عز وجل.
قوله تعالى (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن)
انظر سورة الإسراء آية (17) .
قوله تعالى (مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة في قوله (مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم) ، يقول: أعطيناهم ما لم نعطكم.
قوله تعالى (مدرارا)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن ابن عباس (مدرارا) يتبع بعضها بعضاً.
قوله تعالى (ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين) ، ذكر في هذه الآية الكريمة أن الكفار لو نزل الله عليهم كتابا مكتوبا في قرطاس، أي صحيفة إجابة لما اقترحوه، كما قال تعالى عنهم (ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه) الآية، فعاينوا ذلك الكتاب المنزل، ولمسته أيديهم لعاندوا، وادعوا أن ذلك من أجل أنه سحرهم، وهذا العناد واللجاج العظيم والمكابرة الذي هو شأن الكفار بينه تعالى في آيات كثيرة كقوله (ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون) .
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة: (كتابا في قرطاس) في صحيفة.(2/226)
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: (كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم) قال: فمسوه ونظروا إليه، لم يصدقوا به.
قوله تعالى (وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون)
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا ماذا يريدون بإنزال الملك المقترح، ولكنه بين في موضع آخر أنهم يريدون بإنزال الملك أن يكون نذيرا آخر مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذلك في قوله: (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشى في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا) الآية.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ولو أنزلنا ملكا لقضى الأمر ثم لا ينظرون) يعني أنه لو نزل عليهم الملائكة وهم على ماهم عليه من الكفر والمعاصي، لجاءهم من الله العذاب من غير إهمال ولا إنظار، لأنه حكم بأن الملائكة لا تنزل عليهم إلا بذلك، كما بينه تعالى بقوله: (ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين) . وقوله (يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين) الآية.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون) ، يقول: ولو أنهم أنزلنا إليهم ملكا، ثم لم يؤمنوا، لم ينظروا.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: (لولا أنزل عليه ملك) في صورته (ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر) لقامت الساعة.
قوله تعالى (ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى (ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً) يقول في صورة آدمي.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وللبسنا عليهم ما يلبسون) ، يقول: لشبهنا عليهم.(2/227)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)
قوله تعالى (ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر الله تعالى في الآية الكريمة أن الكفار استهزءوا برسل قبل نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنهم حاق بهم العذاب بسبب ذلك، ولم يفصل هنا كيفية استهزائهم، ولا كيفية العذاب الذي أهلكوا به، ولكنه فصل كثيرا من ذلك في مواضع أخر متعددة في ذكر نوح وقومه وهود وقومه، وصالح وقومه، ولوط وقومه، وشعيب وقومه، إلى غير ذلك، فمن استهزائهم بنوح قولهم له: "بعد أن كنت نبياً صرت نجاراً"، وقد قال الله تعالى عن نوح: (إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون) ، وذكر ما حاق بهم بقوله: (فأخذهم الطوفان، وهم ظالمون) وأمثالها من الآيات. ومن استهزائهم بهود ما ذكره الله عنهم من قولهم (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) ، ... ومن استهزائهم بصالح، قولهم فيما ذكر الله عنهم (يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين) ، ... ومن استهزائهم بلوط قولهم فيما حكى الله عنهم: (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم) الآية ... ومن استهزائهم بشعيب قولهم فيما حكى الله عنهم: (قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز) .
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن السدي قوله (فحاق بالذين سخروا منهم) من الرسل. قوله (ما كانوا به يستهزءون) يقول: وقع بهم العذاب الذي استهزءوا به.
قوله تعالى (قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) ، دمر الله عليهم وأهلكهم، ثم صيرهم إلى النار.(2/228)
قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)
قوله تعالى (كتب على نفسه الرحمة)
قال البخاري: حدثنا عبدان، عن أبي حمزة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لما خلق الله الخلق كتب في كتابه -وهو يكتب على نفسه وهو وضع عنده على العرش-: إن رحمتي تغلب غضبى".
(الصحيح 13/395 ح 7404 - ك التوحيد، ب قوله تعالى (ويحذركم الله نفسه) ، وأخرجه مسلم (الصحيح 4/2107-2108 - ك التوبة، ب في سعة رحمة الله تعالى ... ) .
وانظر تفسير سورة الفاتحة قوله تعالى (الرحمن الرحيم) .
وانظر حديث مسلم عن أبي هريرة في آخر هذه السورة آية (165) .
قوله تعالى (ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه)
انظر الآية (6) من سورة المطففين. وانظر سورة البقرة آية (2) .
قوله تعالى (وله ما سكن في الليل والنهار)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (وله ما سكن في الليل والنهار) يقول: ما استقر في الليل والنهار.
قوله تعالى (قل أغير الله أتخذ ولياً)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن السدي قوله: (قل أغير الله أتخذ ولياً) أما الولى فالذي يتولاه ويقر له بالربوبية.
قوله تعالى (فاطر السماوات والأرض وهو يُطعِمُ ولا يُطعَم)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (فاطر السموات والأرض) خالق السماوات والأرض.
قال الشنقيطي: قوله تعالى (وهو يُطعِمُ ولا يُطعَمُ) يعني أنه تعالى هو الذي يرزق الخلائق، وهو الغني المطلق فليس بمحتاج إلى رزق. وقد بين تعالى هذا بقوله: (وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) .(2/229)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (وهو يُطعِمُ ولا يُطعَمُ) قال: يَرزق ولا يُرزق.
قوله تعالى (قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم)
قال الشنقيطي: قوله تعالى (قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم) الآية يعني أول من أسلم من هذه الأمة التى أرسلت إليها، وليس المراد أول من أسلم من جميع الناس كما بينه تعالى بآيات كثيرة تدل على وجود قبل وجوده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ووجود أمته كقوله عن إبراهيم (إذا قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين) وقوله عن يوسف: (توفني مسلما وألحقنى بالصالحين) .
قوله تعالى (من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه) قال: من يصرف عنه العذاب.
قوله تعالى (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو علي كل شيء قدير)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو علي كل شيء قدير) أشار تعالى بقوله هنا فهو على كل شيء قدير بعد قوله: (وإن يمسسك بخير) إلى أن فضله وعطاءه الجزيل لا يقدر أحد على رده عمن أراده له تعالى كما صرح بذلك في قوله (وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء) الآية.
قوله تعالى (الحكيم)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن أبي العالية (الحكيم) قال: الحكيم في أمره.(2/230)
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
قوله تعالى (قل أي شيء أكبر شهادة)
اخرج ابن آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره (قل أي شيء أكبر شهادة) قال: أمر محمد أن يسأل قريشاً، ثم أمر أن يخبرهم فيقول: (الله شهيد بيني وبينكم) .
قوله تعالى (وأوحيَ إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله (وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به) يعني أهل مكة (ومن بلغ) يعني: ومن أبلغه هذا القرآن فهو له نذير.
قال الشنقيطي قوله تعالى (وأوحى إلى هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ) صرح في هذه الآية الكريمة بأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منذر لكل من بلغه هذا القرآن العظيم كائنا من كان، ويفهم من الآية أن الإنذار به عام لكل من بلغه وأن كل من بلغه ولم يؤمن به فهو في النار وهو كذلك. أما عموم إنذاره لكل من بلغه فقد دلت عليه آيات أخر أيضاً كقوله: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) وقوله (وما أرسلناك إلا كافة للناس) وقوله (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً) . وأما دخول من لم يؤمن به النار فقد صرح به تعالى في قوله (ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده) .
قوله تعالى (الذين آتينهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (الذين آتينهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) النصارى واليهود، يعرفون رسول الله في كتابهم، كما يعرفون أبناءهم.
وانظر سورة البقرة آية رقم (146)
قوله تعالى (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون)
انظر سورة البقرة آية (140) وفيها بيان بعض أنواع الافتراء، وانظر عن بعض افتراءات أخرى في الآيات التالية رقم (23 و24) .(2/231)
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)
قوله تعالى (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين) يقول: اعتذارهم بالباطل والكذب.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (والله ربنا ما كنا مشركين) ثم قال (ولا يكتمون الله حديثاً) . (سورة النساء 42) بجوارحهم.
قوله تعالى (انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون) وهي مبيِّنة للآية رقم (21) في السورة نفسها.
قوله تعالى (ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفى آذانهم وقراً)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (ومنهم من يستمع إليك) يعني قريشاً.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي أذانهم وقراً) قال يسمعونه بآذانهم ولا يعون منه شيئاً، كمثل البهيمة التي تسمع النداء ولا تدري ما يقال لها.
وانظر سورة فصلت آية (5) ، وسورة الإسراء آية (46) .
قوله تعالى (إن هذا إلا أساطير الأولين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (إن هذا إلا أساطير الأولين) إن هذا إلا أحاديث الأولين.
قوله تعالى (وهم ينهون عنه وينأون عنه)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وهم ينهون عنه وينأون عنه) يعني ينهون الناس عن محمد أن يؤمنوا به (وينأون عنه) يعنى يتباعدون عنه.(2/232)
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)
قوله تعالى (ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين)
بيانها وجوابه تعالى على طلب الكفار في الآية التالية مباشرة.
قوله تعالى (بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله: (بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل) قال: من أعمالهم.
قوله تعالى (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون)
قال الشنقيطي: هذه الآية الكريمة تدل على أن الله جل وعلا الذي أحاط علمه بكل موجود ومعدوم، يعلم المعدوم الذي يسبق في الأزل أنه لا يكون لو وجد كيف يكون، لأنه يعلم أن رد الكفار يوم القيامة إلى الدنيا مرة أخرى لا يكون، ويعلم هذا الرد الذي لا يكون لو وقع كيف يكون، كما صرح به بقوله (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون) وهذا المعنى جاء مصرحاً به في آيات أخر. فمن ذلك أنه تعالى سبق في عمله أن المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، لا يخرجون إليها معه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والله ثبطهم عنها لحكمة. كما صرح به فيقول (ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم) الآية. وهو يعلم هذا الخروج الذي لا يكون لو وقع كيف يكون. كما صرح به تعالى في قوله (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً) الآية. ومن الآيات الدالة على المعنى المذكور قوله تعالى (ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون) إلى غير ذلك من الآيات.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن ابن عباس، قال: فأخبر الله سبحانه أنهم لو ردوا لم يقدروا على الهدى، وقال: (لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) يقول: ولو وصل الله لهم دنيا كدنياهم، لعادوا إلى أعمالهم أعمال السوء.(2/233)
وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)
قوله تعالى (وقالوا إن هي حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين)
انظر سورة الإسراء آية (49 و50) وتفسيرهما.
قوله تعالى (ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون)
انظر سورة الأحقاف آية (34) .
قوله تعالى (حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة ... )
قال البخاري: حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب حدثنا أبو الزناد عن عبد الرحمن عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت فرأها الناس آمنوا أجمعون، فذاك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً. ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويناه. ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه. ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقى فيه. ولتقومن الساعة وقد رفع أحدكم أكلته إلى فيه فلا يطعمها".
(الصحيح 11/360 ح 6506 - ك الرقاق، ب 40) ، وأخرجه مسلم من طريق ابن عيينه عن أبي الزناد به (الصحيح 4/2270ح 2954 - ك الفتن وأشراط الساعة، ب قرب الساعة) .
قوله تعالى ( ... قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها)
قال الطبري: حدثنا محمد بن عمارة الأسدي، قال: حدثنا يزيد بن مهران قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قوله: (يا حسرتنا) ، قال: "يرى أهل النار منازلهم من الجنة فيقولون: يا حسرتنا".
(التفسير 11/326 ح 13186) ، وأخرجه أيضاً ابن أبي حاتم في تفسيره (سورة الأنعام ح 160) من طريق يزيد بن مهران، والخطيب في تاريخ بغداد (3/389) من طريق داود بن مهران الدباغ كلاهما عن أبي بكر بن عياش به، وصحح إسناده السيوطي (الدر المنثور 3/9) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: قوله (يا حسرتنا على ما فرطنا فيها) أما (يا حسرتنا) ، فندامتنا، (على ما فرطنا فيها) ، فضيعنا من عمل الجنة.(2/234)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)
قوله تعالى (ألا ساء ما يزرون)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (ألا ساء ما يزرون) ، قال: ساء ما يعملون.
قوله تعالى (وللدار الآخرة خير)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن ابن عباس (وللدار الآخرة خير) باقية.
قوله تعالى (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون) الآية
قال الشنقيطي: صرح تعالى في هذه الآية الكريمة، بأنه يعلم أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحزنه ما يقوله الكفار من تكذيبه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد نهاه عن هذا الحزن المفرط في مواضع أخر كقوله (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) الآية، وقوله (فلا تأس على القوم الكافرين) وقوله (فلعلك باخع نفسك على أثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً) وقوله (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين) الباخع: هو المهلك نفسه.
قوله تعالى (فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) قال: يعلمون أنك رسول الله ويجحدون.
قوله تعالى (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا) ، يعزي نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما تسمعون، ويخبره أن الرسل قد كذبت قبله، فصبروا على ما كذبوا، حتى حكم الله وهو خير الحاكمين.
قوله تعالى (وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً(2/235)
وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)
في السماء) ، و (النفق) السرب، فتذهب فيه، (فتأتيهم بآية) ، أو تجعل لك سلما في السماء، فتصعد عليه، فتأتيهم بآية أفضل مما أتيناهم به، فافعل.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يقول الله سبحانه: لو شئتُ لجمعتُهم على الهدى أجمعين.
قوله تعالى (إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله) الآية
قال الشنقيطي: قال جمهور علماء التفسير: المراد بالموتى في هذه الآية: الكفار، وتدل على ذلك آيات من كتاب الله، كقوله تعالى (أومن كان ميتا فأحييناه) الآية، وقوله (وما يستوي الأحياء ولا الأموات) وقوله (وما أنت بمسمع من في القبور) إلى غير ذلك من الآيات.
أخرج أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (إنما يستجيب الذين يسمعون) المؤمنون للذكر (والموتى) الكفار حين يبعثهم الله مع الموتى، أي مع الكفار.
قال ابن كثير: يقول تعالى مخبراً عن المشركين أنهم كانوا يقولون لولا نزل عليه آية من ربه أي خارق على مقتضى ما كانوا يريدون ومما يتعنتون كقولهم (لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا) الآيات.
قوله تعالى (قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر في هذه الآية الكريمة: أنه قادر على تنزيل الآية التي اقترحها الكفار على رسوله، وأشار لحكمة عدم إنزالها بقوله (ولكن أكثرهم لا يعلمون) وبين في موضع آخر أن لحكمة عدم إنزالها أنها لو أنزلت ولم يؤمنوا بها لنزل بهم العذاب العاجل كما وقع بقوم صالح لما اقترحوا عليه إخراج ناقة عشراء، وبراء، جوفاء، من صخرة صماء، فأخرجها الله لهم منها بقدرته ومشيئته، فعقروها (وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا) فأهلكهم الله دفعة واحدة بعذاب استئصال، وذلك في قوله (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون، وأتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا)(2/236)
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)
وبين في مواضع أخر أنه لا داعي إلى ما اقترحوا من الآيات، لأنه أنزل عليهم آية أعظم من جميع الآيات التي اقترحوها وغيرها، وتلك الآية هي هذا القرآن العظيم، وذلك في قوله (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم) فإنكاره جل وعلا عليهم عدم الاكتفاء بهذا الكتاب عن الآيات المقترحة يدل على أنه أعظم وأفخم من كل آية.
قوله تعالى (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (أمم أمثالكم) أصناف مصنفة تعرف بأسمائها.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة قوله (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم) يقول: الطير أمة، والإنس أمة، والجن أمة.
قوله تعالى (ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (ما فرطنا في الكتاب من شىء) ما تركنا شيئا إلا قد كتبناه في أم الكتاب.
قال أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا حماد، عن واصل، عن يحيى ابن عقيل، عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يقتص الخلق بعضهم من بعض حتى الجماء من القرناء وحتى الذرة من الذرة".
(المسند 2/363) ، وقال المنذري: رواته رواة الصحيح (الترغيب والترهيب 4/402) ، وكذا قال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد 10/352) وقال الألباني: وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات رجال مسلم (السلسله الصحيحة رقم 1967) وللحديث متابعات وشواهد ذكرها الألباني. وله شاهد من حديث أبي ذر في اقتصاص الشاة من الشاة يوم القيامة. أخرجه الإمام أحمد (المسند 5/172-173) ، وقال عنه الشيخ محمود شاكر: إسناده حسن متصل (حاشية الطبري 11/348) .
قوله تعالى (والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (صم بكم) ، هذا مثل الكافر، أصم أبكم، لا يبصر هدى، ولا ينتفع به، صم عن الحق في الظلمات، لايستطيع منها خروجا، متسكع فيها.
وانظر سورة البقرة آية (18) .(2/237)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)
قوله تعالى (ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم) .
انظر حديث النواس بن سمعان المتقدم عند الآية (6) من سورة الفاتحة.
قوله تعالى (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن المشركين إذا أتاهم عذاب من الله، أو أتتهم الساعة أخلصوا الدعاء الذي هو مخ العبادة لله وحده، ونسوا ما كانوا يشركون به، لعلمهم أنه لا يكشف الكروب إلا الله وحده جل وعلا. ولم يبين هنا نوع العذاب الدنيوي الذي يحملهم على الإخلاص لله، ولم يبين هنا أيضاً إذا كشف عنهم العذاب هل يستمرون على إخلاصهم، أو يرجعون إلى كفرهم وشركهم، ولكنه بين كل ذلك في مواضع أخر فبين أن العذاب الدنيوي الذي يحملهم على الإخلاص، هو نزول الكروب التي يخاف من نزلت به الهلاك، كأن يهيج البحر عليهم وتلتطم أمواجه، ويغلب على ظنه أنهم سيغرقون فيه إن لم يخلصوا الدعاء بالله وحده، كقوله تعالى (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين. فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق) ، وقوله (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه) ، وقوله (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين) ، إلى غير ذلك من الآيات. وبين أنهم إذا كشف الله عنهم ذلك الكرب، رجعوا إلى ما كانوا عليه من الشرك في مواضع كثيرة كقوله (فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا) ، وقوله (فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) ، وقوله (قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون) ، وقوله (فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق) إلى غير ذلك من الآيات.(2/238)
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)
قوله تعالى (بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء)
قال الترمذي: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن، أخبرنا محمد بن يوسف، عن ابن ثوبان، عن أبيه، عن مكحول، عن جبير بن نفير، أن عبادة بن الصامت حدثهم أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا أتاه الله إياها أو صرف عنه من السوء مثله ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم". فقال رجل من القوم: إذاً نكثر، قال: "الله أكثر".
(السنن 5/566 ح 3573 - ك الدعوات، ب في انتظار الفرج وغير ذلك) . وأخرجه عبد الله ابن أحمد في زوائد المسند (المسند 5/329) عن إسحاق الكوسج عن محمد بن يوسف. قال الترمذى: حسن صحيح (صحيح الترمذي 2827) . وللحديث شواهد عدة، منها: عن جابر، أخرجه الترمذى (ح 3813) عن قتيبة، وابن أبي حاتم (التفسير - تفسير سورة الأنعام/40 - ح 210) من طريق ابن وهب، كلاهما عن ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعاً نحوه. قال السيوطي. حسن (فيض القدير مع الجامع الصغير 5/467) . وقال الألباني: حسن (صحيح الترمذي ح 2692) ومنها: عن أبي سعيد، أخرجه أحمد (المسند 3/18) ، والحاكم (1/493) كلاهما من طريق علي بن علي الرفاعي، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد به. قال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
قوله تعالى (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعلمون)
انظر سورة البقرة آية (212) ، وسورة النحل آية (63) .
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان، ثنا عمرو بن محمد العنقزي، ثنا أسباط، عن السدي، عن مرة، عن عبد الله بن مسعود في قوله: (البأساء) قال: البأساء: الفقر. (والضراء) ، قال: الضراء: السقم.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن السدي عن أبي مالك قوله: (لعلهم) يعني: كي.(2/239)
فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة قوله: (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم) قال: عاب الله عليهم القسوة عند ذلك فتضعضعوا لعقوبة الله.
قوله تعالى (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون)
قال أحمد: ثنا يحيى بن غيلان قال: ثنا رشدين يعني ابن سعد أبو الحجاج المهري، عن حرملة بن عمران التجيبي، عن عقبة بن مسلم، عن عقبة بن عامر، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج" ثم تلا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون) .
(المسند 4/145) ، وأخرجه الطبري (التفسير 11/361 ح 13240) من طريق أبي الصلت.
وابن أبي حاتم (التفسير - سورة الأنعام/44 - ح 228) من طريق ابن وهب كلاهما عن حرملة به، وعند ابن أبي حاتم: عن حرملة وابن لهيعة. وقال العراقي في تخريج الإحياء: رواه أحمد والطبراني والبيهقي في الشعب بسند حسن. ورمز له السيوطي بالحسن (انظر فيض القدير 1/354) ، وقال الألبانى في طريق حرملة: وهذا إسناد قوي ... (السلسله الصحيحة رقم 413، 1/773-774) ، وحسن إسناده محقق تفسير ابن أبي حاتم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (فلما نسوا ما ذكروا به) يعنى: تركوا ما ذكروا به.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: (فتحنا عليهم أبواب كل شيء) قال: رخاء الدنيا ويسرها، على القرون الأولى.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (أخذناهم بغتة) قال: فجأة آمنين.(2/240)
فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)
قوله تعالى (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (فقطع دابر القوم الذين ظلموا) ، يقول: قطع أصل الذين ظلموا.
وانظر سورة الفاتحة آية (1) .
قوله تعالى (وختم)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن السدي عن أبي مالك قوله (وختم) يعني: وطبع.
قوله تعالى (يصدفون)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد قوله: (يصدفون) قال: يعرضون.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (يصدفون) ، قال: يعدلون.
قوله تعالى (جهرة)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (جهرة) ، قال: وهم ينظرون.
قوله تعالى (وأصلح)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة (وأصلح) قال: أصلح ما بينه وبين الله.
قوله تعالى (قل هل يستوى الأعمى والبصير)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: (قل هل يستوى الأعمى والبصير) ، قال: الضال والمهتدي.
قوله تعالى (وأنذر به الذين يخافون)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن السدي قوله (وأنذر به الذين يخافون) هؤلاء المؤمنون.(2/241)
وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
قوله تعالى (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ... ) إلى قوله (سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة ... )
قال الشيخ الشنقيطي: نهى الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن طرد ضعفاء المسلمين وفقرائهم الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، وأمره في آية أخرى أن يصبر نفسه معهم، وأن لا تعدو عيناه معهم إلى أهل الجاه والمنزلة في الدنيا، ونهاه عن إطاعة الكفرة في ذلك وهي قوله (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا) كما أمره هنا بالسلام عليهم، وبشارتهم برحمة ربهم جل وعلا قوله (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة) الآية، وبين في آيات أخر أن طرد ضعفاء المسلمين الذي طلبه كفار العرب من نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنهاه الله عنه، طلبه أيضاً قوم نوح من نوح، فأبى كقوله تعالى عنه (وما أنا بطارد الذين آمنوا) الآية، وقوله (يا قوم من ينصرنى من الله إن طردتهم) الآية، وقوله (وما أنا بطارد المؤمنين) ، وهذا من تشابه قلوب الكفار المذكور في قوله تعالى (تشابهت قلوبهم) الآية.
قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة. حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي عن إسرائيل، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن سعد. قال: كنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ستة نفر. فقال المشركون للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اطرد هؤلاء لا يجترءون علينا. قال: وكنت أنا وابن مسعود، ورجل من هذيل، وبلال، ورجلان لست أسميهما. فوقع في نفس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما شاء الله أن يقع. فحدث نفسه. فأنزل الله عز وجل: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه) .
(صحيح مسلم 4/1878 - ك فضائل الصحابة، ب فضل سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي) يعني: يعبدون ربهم (بالغداة والعشى) يعني الصلاة المكتوبة.(2/242)
وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)
قوله تعالى (وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء مَن الله عليهم من بيننا)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (وكذلك فتنا بعضهم ببعض) يقول: ابتلينا بعضهم ببعض.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وكذلك فتنا بعضهم ببعض) ، يعني أنه جعل بعضهم أغنياء وبعضهم فقراء، فقال الأغنياء للفقراء (أهؤلاء مَنَّ الله عليهم من بيننا) ، يعني: هداهم الله.
وإنما قالوا ذلك استهزاء وسخرياً.
قوله تعالى (سوءاً بجهالة)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مجاهد قوله: (سوءاً بجهالة) من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته.
وانظر سورة النساء آية (17) وتفسيرها.
قوله تعالى (وكذلك نفصل الآيات)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن السدي في قوله: (وكذلك نفصل الآيات) أما نفصل: فنبين.
قوله تعالى (قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين)
انظر حديث البخاري عن هذيل بن شرحبيل السابق عند الآية (11) من سورة النساء.
قوله تعالى (ما عندي ما تستعجلون به) الآية
قال الشنقيطي: أمر الله تعالى نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذه الآية الكريمة أن يخبر الكفار، أن تعجيل العذاب عليهم الذي يطلبونه منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس عنده، وإنما هو عند الله إن شاء عجله، وإن شاء أخره عنهم، ثم أمره أن يخبرهم بأنه لو كان عنده لعجله بقوله: (قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم) الآية، وبين في مواضع أخر أنهم ما حملهم على استعجال العذاب إلا الكفر والتكذيب، وأنهم إن(2/243)
قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
عاينوا ذلك العذاب علموا أنه عظيم هائل لا يستعجل به إلا جاهل مثلهم، كقوله: (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولون ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم، وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون) ، وقوله (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها) الآية، وقوله (يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) وقوله: (قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون) . وبين في مواضع أخر أنه لولا أن الله حدد لهم أجلا لا يأتيهم العذاب قبله لعجله عليهم، وهو قوله (ويستعجلونك بالعذاب، ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب) ، الآية.
قوله تعالى (يقص الحق وهو خير الفاصلين)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، ثنا سفان، عن عمرو بن دينار، عن عطاء: قرأ ابن عباس: (يقص الحق وهو خير الفاصلين) وقال: (نحن نقص عليك أحسن القصص) .
ورجاله ثقات وسنده صحيح.
قوله تعالى (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو)
قال البخاري: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "مفاتح الغيب خمس: (إن الله عنده علم الساعة، ويُنزّل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غداً، وما تدري نفس بأي أرض تموت، إن الله عليم خبير) ".
(صحيح البخاري 8/141 ح 4627 -ك التفسير- سورة الأنعام، ب الآية) .
وانظر حديث ابن ماجة عن ابن مسعود الآتي عند الآية (34) من سورة لقمان: "إذا كان أجل أحدكم بأرض ... ".
قوله تعالى (وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار) الآية، ذكر في هذه الآية الكريمة أن النوم وفاة، وأشار في(2/244)
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)
موضع آخر إلى أنه وفاة صغرى وأن صاحبها لم يمت حقيقة، وأنه تعالى يرسل روحه إلى بدنه حتى ينقضي أجله، وأن وفاة الموت التى هي الكبرى قد مات صاحبها، ولذا يمسك روحه عنده، وذلك في قوله تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها، والتى لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت، ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار) ، يعنى: ما اكتسبتم من الإثم، قوله تعالى (ثم يبعثكم فيه)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (ثم يبعثكم فيه) في النهار، و (البعث) ، اليقظة.
قوله تعالى (إليه مرجعكم)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية (إليه مرجعكم) قال: يرجعون إليه بعد الحياة.
قوله تعالى (وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون. ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ويرسل عليكم حفظة) الآية، لم يبين هنا ماذا يحفظون وبينه في مواضع أخر فذكر أن مما يحفظونه بدن الإنسان بقوله: (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) ، وذكر أن مما يحفظونه جميع أعماله من خير وشر، بقوله: (وإن عليكم لحافظين، كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون) ، وقوله: (إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) وقوله: (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم، بلى ورسلنا لديهم يكتبون) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون) ،(2/245)
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)
يقول: حفظة، يا ابن آدم، يحفظون عليك عملك ورزقك وأجلك، إذا توفيت ذلك قبضت إلى ربك (حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون) ، يقول تعالى ذكره: إن ربكم يحفظكم برسل يعقب بينها، يرسلهم إليكم بحفظكم وبحفظ أعمالكم إلى أن يحضركم الموت، وينزل بكم أمر الله، فإذا جاء ذلك أحدكم، توفاه أملاكنا الموكلون بقبض الأرواح، ورسلنا المرسلون به (وهم لا يفرطون) في ذلك فيضيعونه.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة، (توفته رسلنا) ، قال: يلى قبضها الرسل، ثم ترفعها إليه، يقول إلى ملك الموت.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وهم لا يفرطون) ، يقول: لا يضيعون.
انظر حديث أبي هريرة عند الآية (40) من سورة الأعراف. والأحاديث الآتية في سورة إبراهيم عند الآية (27) .
قوله تعالى (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر) ، يقول: من كرب البر والبحر.
قوله تعالى (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض)
قال البخاري: حدثنا أبو النعمان حدثنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن جابر - رضي الله عنه - قال: لما نزلت هذه الآية (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم) قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أعوذ بوجهك" قال: (أو من تحت أرجلكم) قال: "أعوذ بوجهك". (أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض) قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هذا أهون أو هذا أيسر".
(الصحيح 8/141 ح 4628 - ك التفسير، ب (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً)) .(2/246)
قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66)
قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبه. حدثنا عبد الله بن نمير ح وحدثنا ابن نمير (واللفظ له) . حدثنا أبي. حدثنا عثمان بن حكيم. أخبرني عامر بن سعد عن أبيه؛ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقبل ذات يوم من العالية حتى إذا مر بمسجد بني معاوية، دخل فركع فيه ركعتين. وصلينا معه. ودعا ربه طويلا. ثم انصرف إلينا. فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "سألت ربي ثلاثاً. فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة. سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها. وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها. وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها ".
(الصحيح 4/2216 ح 2890 - ك الفتن وأشراط الساعة، ب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض) .
وانظر حديث مسلم عن ثوبان الآتي عند الآية (33) من سورة التوبة وهو حديث: "إن الله زوى لي الأرض ... ".
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (أو يلبسكم شيعا) ، يعني بالشيع، الأهواء المختلفة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (ويذيق بعضكم بأس بعض) قال: يسلط بعضكم على بعض بالقتل والعذاب.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي بن كعب: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم) إلى قوله: (ويذيق بعضكم بأس بعض) قال: فهن أربع خلال جاء منهم ثنتان بعد وفاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخمس وعشرين سنة: ألبسوا شيعاً وأذيق بعضهم بأس بعض. وبقيت اثنتان هما لابد واقعتان: الرجم والخسف.
قوله تعالى (وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن السدي قوله: (وكذب به قومك) يقول: كذبت قريش بالقرآن وهو الحق. قوله: (قل لست عليكم بوكيل) أما (الوكيل) فالحفيظ.(2/247)
لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)
قوله تعالى (لكل نبأ مستقر)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (لكل نبأ مستقر) ، يقول: حقيقة.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مجاهد (لكل نبأ مستقر) ما كان في الدنيا فسوف ترونه، وما كان في الآخرة فسوف يبدو لكم.
قوله تعالى (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيرة) . نهى الله تعالى نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذه الآية الكريمة عن مجالسة الخائضين في آياته، ولم يبين كيفية خوضهم فيها التي هي سبب منع مجالستهم، ولم يذكر حكم مجالستهم هنا، وبين ذلك كله في موضع أخر فبين أن خوضهم فيها بالكفر والاستهزاء بقوله: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم) الآية.
ويبين أن من مجالستهم في وقت خوضهم فيها مثلهم في الإثم بقوله: (إنكم إذاً مثلهم) ، وبين حكم من جالسهم ناسياً، ثم تذكر بقوله هنا (وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) كما تقدم في سورة النساء.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا) وقوله (الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً) وقوله (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات) وقوله (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) ونحو هذا في القرآن، قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله.(2/248)
وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مقاتل بن حيان قوله (في آياتنا) يعني بالقرآن. قوله: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره) يقول: قصر عن مجالستهم ولا تسمع حديثهم حتى يخوضوا في حديث غيرة. قوله: (فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) يقول: لا تقعد بعد ما تذكر النهي مع القوم (الظالمين) المشركين.
قوله تعالى (وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مقاتل بن حيان: ثم ذكر المؤمنين في قولهم حين قالوا: إنا نخاف أن نحرج في سكوتنا عنهم فقال الله تعالى: (وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء) ولا من ذنوبهم ولا من خوضهم (ولكن ذكرى لعلهم يتقون) يقولون: لو خضنا قاموا عنا، فإذا ذكروا ذلك لم يخوضوا فذلك قوله: (ولكن ذكرى لعلهم يتقون) .
قوله تعالى (وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا) قال نسخها قوله (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) .
قوله تعالى (وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: (أن تبسل) ، قال: أن تسلم النفس.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت) ، يقول: تفضح.
قوله تعالى (وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة: (وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها) ، قال: لو جاءت بملء الأرض ذهبا لم يقبل منها.
انظر سورة البقرة آية رقم (48) لبيان عدل: أي فداء.(2/249)
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (أولئك الذين أبسلوا) ، قال: فضحوا.
قوله تعالى (حميم)
قال ابن أي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج ثنا أبو نعيم عن سفيان عن منصور عن إبراهيم وأبي رزين: (حميم) قالا: ما يسيل من صديدهم.
وأبو رزين هو مسعود بن مالك الأسدى تابعي، ورجاله ثقات وسنده صحيح.
قوله تعالى (عذاب أليم)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية قوله: (عذاب أليم) قال: الأليم الموجع.
قوله تعالى (قل أندعوا من دون الله مالا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (قل أندعوا من دون الله مالا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا) قال: هذا مثل ضربه الله للآلهة ومن يدعو إليها، وللدعاة الذين يدعون إلى الله، كمثل رجل ضل عن الطريق تائها ضالا، إذ ناداه مناد: (يا فلان بن فلان، هلم إلى الطريق) ، وله أصحاب يدعونه: (يا فلان، هلم إلى الطريق) فإن اتبع الداعي الأول انطلق به حتى يلقيه في الهلكة، وإن أجاب من يدعوه إلى الهدى اهتدى إلى الطريق. وهذه الداعية التي تدعو في البرية من الغيلان. يقول: مثل من يعبد هؤلاء الآلهه من دون الله، فإنه يرى أنه في شيء حتى يأتيه الموت، فيستقبل الهلكة والندامة، وقوله (كالذي استهوته الشياطين في الأرض) وهم "الغيلان"، يدعونه باسمه واسم أبيه واسم جده، فيتبعها، فيرى أنه في شيء، فيصبح وقد ألقته في الهلكة، وربما أكلته أو تلقيه في مضلة من الأرض يهلك فيها عطشا. فهذا مثل من أجاب الآلهة التي تعبد من دون الله عز وجل.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (ما لا ينفعنا ولا يضرنا) ، قال: الأوثان.(2/250)
قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74)
قوله تعالى (استهوته الشياطين)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى (استهوته الشياطين) قال: أضلته الشياطين في الأرض حيران.
قوله تعالى (أقيموا الصلاة)
قال ابن أبي حاتم: حدثنى عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم ثنا الوليد ثنا عبد الرحمن بن نمر قال: سألت الزهري عن قول الله: (أقيموا الصلاة) قال الزهري: إقامتها أن تصلى الصلوات الخمس لوقتها.
الوليد هو بن مسلم الدمشقي، ورجاله ثقات وسنده صحيح.
قوله تعالى (وله الملك يوم ينفخ في الصور)
قال أبو داود: حدثنا مسدد، ثنا معتمر، قال: سمعت أبي قال: ثنا أسلم، عن بشر بن شغاف، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الصور قرن ينفخ فيه".
(السنن 4/236 ح 4742 - ك السنة، ب في ذكر البعث والصور) ، وأخرجه الترمذي وحسنه في (سننه 4/620 ح 2430 - ك صفة القيامة، ب ما جاء في شأن الصور) من طريق: عبد الله بن المبارك، والنسائي في (التفسير 3/25 ح 332) من طريق: إسماعيل، والدارمي في (سننه 2/325 - ك الرقاق، ب في نفخ الصور) من طريق سفيان. وأخرجه ابن حبان (الإحسان 16/303 ح 7312) من طريق يزيد بن زريع، كلهم: عن سليمان التيمي، عن أسلم به، وأخرجه الحاكم في (المستدرك 2/436) من طريق: عبد الرزاق عن معمر عن سليمان به. وعند الجميع -ماعدا الحاكم- أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن الصور؟ ... وصححه الحاكم وصححه الألباني أيضاً (صحيح الجامع ح 3757) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: (عالم الغيب والشهادة) يعني: أن عالم الغيب والشهادة هو الذي ينفخ في الصور.
قوله تعالى (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين)
جاءت هذه الآية مفصلة في سورة مريم من الآية (41-48) .(2/251)
وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
قوله تعالى (نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض) أي: خلق السماوات والأرض.
قوله تعالى (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني برئ مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض) يعني به: الشمس والقمر والنجوم. (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي) فعبده حتى غاب، فلما غاب قال: لا أحب الآفلين (فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي) فعبده حتى غاب، فلما غاب قال: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين (فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر) فعبدها حتى غابت، فلما غابت قال: (يا قوم إني بريء مما تشركون) .
وانظر سورة البقرة آية (135) لبيان معنى: حنيفاً.
قوله تعالى (فأي الفريقين أحق بالأمن)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره، قال إبراهيم حين سألهم: (فأي الفريقين أحق بالأمن) ؟ قال: وهي حجة إبراهيم عليه السلام.
قوله تعالى (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم)
قال البخاري: حدثنى محمد بن بشار حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن سليمان عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: لما نزلت (ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) قال أصحابه: وأينا لم يظلم؟ فنزلت (إن الشرك لظلم عظيم) .
(صحيح البخاري 8/144 ح 4629 - ك التفسير، سورة الأنعام) .(2/252)
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84)
قال البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: لما نزلت هذه الآية (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) شق ذلك على أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنه ليس بذلك، ألا تسمعون إلى قول لقمان (إن الشرك لظلم عظيم) ".
(صحيح البخاري 12/276 ح 6918 - ك استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، ب إثم من أشرك بالله) .
قال أحمد: ثنا إسحاق بن يوسف، ثنا أبو جناب، عن زاذان، عن جرير بن عبد الله قال: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما برزنا من المدينة إذ راكب يوضع نحونا فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كأن هذا الراكب إياكم يريد" قال: فانتهى لرجل إلينا فسلم فرددنا عليه فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أين أقبلت؟ " قال: من أهلي وولدي وعشيرتي قال: "فأين تريد؟ ". قال: أريد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "فقد أصبته".
قال: يا رسول الله علمني ما الإيمان؟ قال: "تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتى الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت" قال: قد أقررت، قال: ثم إن بعيره دخلت يده في شبكة جرذان فهوى بعيره وهوى الرجل فوقع علي هامته فمات فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "على بالرجل" قال: فوثب إليه عمار بن ياسر وحذيفة فأقعداه فقالا: يا رسول الله قبض الرجل قال فأعرض عنهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم قال لهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ "أما رأيتما إعراضي عن الرجل فإنى رأيت ملكين يدسان في فيه من ثمار الجنة فعلمت أنه مات جائعاً" ثم قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هذا والله من الذين قال الله عز وجل (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) قال: ثم قال: "دونكم أخاكم" قال: فاحتملناه إلى الماء فغسلناه وحنطناه وكفناه وحملناه إلى القبر قال: فجاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى جلس على شفير القبر قال: فقال: "الحدوا ولا تشقوا فإن اللحد لنا والشق لغيرنا".
(المسند 4/359) ، وأخرجه أيضاً: عن أسود بن عامر، عن عبد الحميد بن أبي جعفر، عن ثابت عن زاذان بنحوه، (المسند- الصفة نفسها) . وسنده حسن (كما في مرويات أحمد في التفسير -عند هذه الآيه- ح 269) . وللحديث شاهد من رواية ابن عباس، أخرجه ابن أبي حاتم (التفسير - الآيه 82 من الأنعام - ح 516) .(2/253)
وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)
قوله تعالى (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم)
قال ابن كثير: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه) أي: وجهنا حجته على قومه. قال مجاهد وغيره: يعني بذلك قوله (وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً فأي الفريقين أحق بالأمن) .
قوله تعالى (ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيي وعيسى وإلياس كل من الصالحين وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلاً فضلنا على العالمين ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم)
قال ابن كثير: يذكر تعالى أنه وهب لابراهيم إسحاق بعد أن طعن في السن وأيس هو وامرأته ساره من الولد، فجاءته الملائكة وهم ذاهبون إلى قوم لوط فبشروهما باسحاق فتعجبت المرأة من ذلك وقالت (ياويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إن هذا لشيء عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد) فبشروهم مع وجوده بنبوته وبأن له نسلا وعقبا كما قال تعالى (وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين) وهذا أكمل في البشارة وأعظم في النعمة وقال (فبشرناه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) أي: ويولد لهذا المولود ولد في حياتكما فتقر أعينكما به كما قرت بوالده، فإن الفرح بولد الولد شديد لبقاء النسل والعقب.
قال الطبري: حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبيدة بن ربيعة عن عبد الله بن مسعود قال: إدريس هو: إلياس، وإسرائيل هو: يعقوب.
وسنده صحيح، وأبو أحمد هو الزبيري، وأبو إسحاق هو السبيعي.(2/254)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل) ثم قال في إبراهيم: (ومن ذريته داود وسليمان) إلى قوله (وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين) ثم قال في الأنبياء الذين سماهم الله في هذه الاية (فبهداهم اقتده) صلى الله عليهم.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد، في قول الله تعالى ذكره: (واجتبيناهم) قال: أخلصناهم.
أي إلى دين الإسلام كما تقدم في سورة الفاتحة.
قوله تعالى (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون)
قال ابن كثير: (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) تشديد لأمر الشرك، وتغليظ لشأنه، وتعظيم لملابسته، كما قال (ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك) الآية. وهذا الشرط لا يقتضى جواز الوقوع، كقوله (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) .
انظر حديث مسلم الآتي عند الآية (110) من سورة الكهف.
قوله تعالى (فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (فإن يكفر بها هؤلاء) ، يعني أهل مكة، يقول: إن يكفروا بالقرآن (فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين) يعني أهل المدينة والأنصار.
قوله تعالى (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسالكم عله أجراً إن هو ذكرى للعالمين)
قال البخاري: حدثني إبراهيم بن موسى أخبرنا هشام أن ابن جريج أخبرهم قال أخبرنى سليمان الأحول أن مجاهدا أخبره أنه " سأل ابن عباس أفي ص سجدة؟
فقال؟ نعم، ثم تلا (ووهبنا له إسحاق ويعقوب -إلى قوله- فبهداهم اقتده)
ثم قال: هو منهم، زاد يزيد بن هارون ومحمد بن عبيد وسهل بن يوسف عن العوام عن مجاهد: قلن لابن عباس، فقال: نبيكم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ممن أمر أن يقتدى بهم.
(الصحيح- تفسير سورة الأنعام، ب أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ح 4632) .(2/255)
أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: ثم قال في الأنبياء الذين سماهم في هذه الآية: (فبهداهم اقتده) .
قوله تعالى (وما قدرو الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وماقدرو الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء) ، يعني من بني إسرائيل، قالت اليهود: يامحمد، أنزل الله عليك كتابا؟ قال: نعم! قالوا: والله ما أنزل الله من السماء كتابا! قال: فأنزل الله: (قل) يامحمد (من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس) قال: الله أنزله.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة قوله: (تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا) هم اليهود والنصارى.
قوله تعالى (مصدقُ الذي بين يديه)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية: (مصدقُ الذي بين يديه) يعني من التوراة والإنجيل.
قوله تعالى (ولتنذر أم القرى ومن حولها)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ولتنذر أم القرى ومن حولها) يعنى، بـ (أم القرى) مكة (ومن حولها) من القرى إلى المشرق والمغرب.
قوله تعالى (على صلاتهم يحافظون)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة قوله (على صلاتهم يحافظون) أي على وضوئها ومواقيتها وركوعها وسجودها.(2/256)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
قوله تعالى (أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى (أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء) قال: نزلت في مسيلمة.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله) أي لا أحد أظلم ممن قال: سأنزل مثل ما أنزل الله. ونظيرها قوله تعالى (وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا) ، وقد بين الله تعالى كذبهم في افترائهم هذا حيث تحدى جميع العرب بسورة واحدة منه، كما ذكره تعالى في البقرة بقوله (فاتوا بسورة من مثله) ، وفي يونس بقوله (قل فأتوا بسورة مثله) ، وتحداهم في هود بعشر سور مثله في قوله (قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات) ، وتحداهم به كله في الطور بقوله (فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين) . ثم صرح في سورة بني إسرائيل بعجز جميع الخلائق عن الاتيان بمثله في قوله (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً) فاتضح بطلان دعواهم الكاذبة.
قوله تعالى (ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم) أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم) قال: هذا عند الموت، (والبسط) الضرب، يضربون وجوههم وأدبارهم.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (والملائكة باسطوا أيديهم) الآية، لم يصرح هنا بالشيء الذي بسطوا إليه الأيدي، ولكنه أشار إلى أنه التعذيب بقوله: (أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون) الآية، وصرح بذلك في قوله (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم) ، وبين في مواضع أخر أنه يراد ببسط اليد التناول بالسوء كقوله (ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء) ، وقوله (لئن بسطت إلى يدك لتقتلني) الآية.(2/257)
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
قوله تعالى (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ماخولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ماخولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء) ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الكفار يأتون يوم القيامة كل واحد منهم بمفرده ليس معهم شركاؤهم، وصرح تعالى بأن كل واحد يأتي فرداً في قوله: (وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً) وقوله في هذه الآية (كما خلقناكم أول مرة) أي منفردين لامال، ولا أثاث، ولا رقيق، ولا خول عندكم، حفاة عراة غرلا، أي غير مختونين (كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين) .
قال مسلم: حدثنا هداب بن خالد، حدثنا همّام، حدثنا قتادة عن مطرف، عن أبيه، قال: أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يقرأ: (ألهاكم التكاثر) . قال: ليقول ابن آدم: مالي. مالي " قال: وهل لك يا ابن آدم! من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟ ".
(الصحيح 4/2273 ح 2958 - ك الزهد والرقائق) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (وتركتم ما خولناكم) من المال والخدم (وراء ظهوركم) في الدنيا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي أما قوله (وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء) فإن المشركين كانوا يزعمون أنهم كانوا يعبدون الآلهة، لأنهم شفعاء يشفعون لهم عند الله، وإن هذه الآلهة شركاء لله.
قوله تعالى (لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (لقد تقطع بينكم وضل عنكم ماكنتم تزعمون) ذكر في هذه الآية الكريمة: أن الأنداد التي كانوا يعبدونها في الدنيا(2/258)
تضل عنهم يوم القيامة، وينقطع ما كان بينهم من الصلات في الدنيا، وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة جداً كقوله (وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين) وقوله (كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً) ، وقوله (إنما تعبدون من دون الله أوثاناً مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً ومأواكم النار وما لكم من ناصرين) .
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (لقد تقطع بينكم) ، (البين) ، تواصلهم في الدنيا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون) يعني الأرحام والمنازل.
قوله تعالى (إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (فالق الحب والنوى) قال: الشقان اللتان فيهما.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى (قالق الحب والنوى) قال: تفلق الحب والنوى عن النبات.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي) قال: يخرج النطفة الميتهَ، ثم يخرج من النطفة بشراً حياً.
قوله تعالى (فالق الأصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: (فالق الإصباح) يعني بالاصباح، ضوء الشمس بالنهار، وضوء القمر بالليل.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وجعل الليل سكناً) أي مظلماً ساجياً ليسكن فيه الخلق فيستريحوا من تعب الكد بالنهار كما بينه قوله تعالى (وهو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً) وقوله (قل أرأيتم إن جعل(2/259)
فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله) الآية، وقوله (لتسكنوا فيه) يعني الليل، (ولتبتغوا من فضله) يعني بالنهار (ومن آياته الليل والنهار) الآية.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (والشمس والقمر حسبانا) يعني عدد الأيام والشهور والسنين.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى (والشمس والقمر حسبانا) قال: يدوران بحساب.
قوله تعالى (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر) الآية. ظاهر هذه الآية الكريمة أن حكمة خلق النجوم هي الاهتداء بها فقط كقوله (وبالنجم هم يهتدون) ، ولكنه تعالى بين في غير هذا الموضع أن لها حكمتين أخريين غير الاهتداء بها وهما تزيين السماء الدنيا، ورجم الشياطين بها، كقوله (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح، وجعلناها رجوماً للشياطين) الآية. وقوله (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظاً من كل شيطان مارد لايسمعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من كل جانب دحوراً ولهم عذاب واصب إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب) ، وقوله (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً ذلك تقدير العزيز العليم) .
قوله تعالى (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر) الآية، لم يبين هنا كيفية إنشائهم من نفس واحدة، ولكنه بين في(2/260)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)
مواضع أخر أن كيفيته أنه خلق من تلك النفس الواحدة التي هي آدم زوجها حواء وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء كقوله (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء) وقوله (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها) الآية.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة) من آدم عليه السلام.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (فمستقر ومستودع) قال (المستقر) في الرحم و (المستودع) ما استودع في أصلب الرجال والدواب.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون) يقول: قد بينا الآيات لقوم يفقهون.
قوله تعالى (ومن النخل من طلعها قنوان دانية)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (قنوان دانية) يعني بالقنوان الدانية قصار النخل، لاصقة عذوقها بالأرض.
قوله تعالى (انظروا إلى ثمره إلى إذا أثمر وينعه)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وينعه) يعني: إذا نضج.
قوله تعالى (وخرقوا له بنين وبنات)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات) يعني أنهم تخرصوا.
قوله تعالى (سبحانه وتعالى عما يصفون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (سبحانه وتعالى عما يصفون) عما يكذبون.(2/261)
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
قوله تعالى (بديع السموات والأرض)
انظر سورة البقرة آية (117) .
قوله تعالى (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (لا تدركه الأبصار) . أشار في مواضع أخر: إلى أن نفي الإدراك المذكور هنا لا يقتضي نفي مطلق الرؤية كقوله (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) ، وقوله (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) والحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم، وقوله (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) يفهم منه أن المؤمنين ليسوا محجوبين عنه وهو كذلك.
قال البخاري: حدثنا يحيى، حدثنا وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن عامر عن مسروق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: يا أمتاه، هل رأى محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ربه؟
فقالت: لقد قفَّ شعري مما قلت، أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب: من حدثك أن محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) . (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب) ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب، ثم قرأت (وما تدري نفس ماذا تكسب غداً) ومن حدثك أنه كتم فقد كذب، ثم قرأت (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) الآية. ولكن رأى جبريل عليه السلام في صورته مرتين".
(الصحيح 8/472 ح 4855 - ك التفسير، ب 1 من سورة النجم) .
قال مسلم: حدثني زهير بن حرب، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن داوود، عن الشعبي، عن مسروق؛ قال: كنت متكئاً عند عائشة. فقالت: يا أبا عائشة! ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية. قلت ماهن؟
قالت: من زعم أن محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية. قال وكنت متكئاً فجلست. فقلت: يا أم المؤمنين! أنظريني ولاتعجليني. ألم يقل الله(2/262)
لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
عز وجل: (ولقد رأه بالأفق المبين) - التكوير/ الآية 23 - (ولقد رأه نزلة أخرى) - النجم/الآية 13 - فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "إنما هو جبريل. لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين. رأيته منهبطا من السماء. سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض"، فقالت أو لم تسمع أن الله يقول: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) الأنعام/آية 103، أو لم تسمع أن الله يقول: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه مايشاء إنه على حكيم) الشورى/الآية 19، قالت: ومن زعم أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية. والله يقول: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) المائدة/الآية 67، قالت ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية. والله يقول: (قل لايعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله) النمل/الآية 59.
انظر حديث مسلم المتقدم عند الآية (255) من سورة البقرة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) وهو أعظم من أن تدركه الأبصار.
أخرج الطبري بسنده الجيد عن أبي العالية قوله (اللطيف الخبير) قال: (اللطيف) باستخراجها (الخبير) بمكانها.
قوله تعالى (قد جاءكم بصائر من ربكم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (قد جاءكم بصائر من ربكم) أي بينة.
قوله تعالى (وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون) قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وليقولوا درست) الآية يعني ليزعموا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما تعلم هذا القرآن بالدرس والتعليم من غيره من أهل الكتاب، كما(2/263)
وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)
زعم كفار مكة أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تعلم هذا القرآن من جبر ويسار، وكانا غلامين نصرانيين بمكة، وقد أوضح الله تعالى بطلان افترائهم هذا في آيات كثيرة كقوله (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) ، وقوله (فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر سأصليه سقر) ، ومعنى يؤثر: يرويه محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن غيره في زعمهم الباطل، وقوله (وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلماً وزوراً وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض) الآية.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وليقولوا درست) قالوا: قرأت وتعلمت. تقول ذلك قريش.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (درست) قال: فقهت، قرأت على اليهود، قرأوا عليك.
قوله تعالى (اتبع ما أوحى إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أما قوله: (وأعرض عن المشركين) ونحوه، مما أمر الله المومنين بالعفو عن المشركين، فإنه نسخ ذلك قوله (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) .
قوله تعالى (ولو شاء الله ما أشركوا ... )
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (ولو شاء الله ما أشركوا) يقول سبحانه: لو شئتُ لجمعتهم على الهدى أجمعين.
قوله تعالى (ولا تسبوا الدين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم) أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحه عن أبي عباس (ولاتسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم) قال؟ قالوا: يامحمد، لتنتهين عن سب آلهتنا، أو لنهجون ربك! فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم، فيسبوا الله عدوا بغير علم.(2/264)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
قوله تعالى (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لايؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها) إلى قوله (يجهلون) سألت قريش محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأتيهم بآية، واستحلفهم: ليؤمنن بها.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (وما يشعركم) قال: مايدريكم. قال: ثم أخبر عنهم أنهم لا يؤمنون.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: أخبر الله سبحانه ما العباد قائلون قبل أن يقولوه، وعملهم قبل أن يعملوه، قال: ولا ينبئك مثل خبير: (أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين، أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين) سورة الزمر (56-58) يقول: من المهتدين. فأخبر الله سبحانه أنهم لو ردوا إلى الدنيا، لما استقاموا على الهدى وقال (لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون) وقال (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة) قال: لو ردوا إلى الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى، كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا) وهم أهل الشقاء، ثم قال: (إلا إن يشاء الله) ، وهم أهل السعادة الذين سبق لهم في علمه أن يدخلوا في الإيمان.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وحشرنا عليهم كل شيء قبلا) يقول: معاينة.(2/265)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)
قوله تعالى (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الأنس والجن ... )
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه جعل لكل نبي عدواً، وبين هنا أن أعداء الأنبياء هم شياطين الإنس والجن، وصرح في موضعٍ أخر هنا أن أعداء الأنبياء من المجرمين، وهو قوله (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين) فدل ذلك على أن المراد بالمجرمين شياطين الإنس والجن، وذكر في هذه الآية أن من الإنس شياطين، وصرح بذلك في قوله (وإذا خلو إلى شياطينهم قالوا إنا معكم) الآية. وقد جاء الخبر بذلك مرفوعاً من حديث أبي ذر عند الإمام أحمد وغيره والعرب تسمى كل متمرد شيطاناً سواء كان من الجن أو من الإنس كما ذكرنا أو من غيرهما.
قال أحمد: ثنا وكيع ثنا المسعودي أنبأنى أبو عمر الدمشقي عن عبيد بن الخشخاش عن أبي ذر قال: أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في المسجد فجلست فقال: "يا أبا ذر هل صليت"؟. قلت: لا. قال: "قم فصل" قال: فقمت فصليت ثم جلست فقال: "يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الانس والجن" قال: قلت يا رسول الله وللإنس شياطين؟. قال: "نعم" قلت: يا رسول الله ما الصلاة؟ قال: "خير موضوع من شاء أقل ومن شاء أكثر" قال: قلت يا رسول الله فما الصوم؟. قال: "فرض مجزئ وعند الله مزيد" قلت: يا رسول الله فما الصدقة؟. قال: "أضعاف مضاعفة" قلت: يا رسول الله فأيهما أفضل؟.
قال: "جهد من مقل أو سر إلى فقير" قلت: يا رسول الله أي الأنبياء كان أول؟. قال: "آدم" قلت: يا رسول الله ونبي كان قال: "نعم نبي مكلم" قال قلت يا رسول الله كم المرسلون قال: "ثلاثمائة وبضعة عشر جماً غفيراً" وقال مرة "خمسة عشر" قال قلت: يا رسول الله آدم أنبي كان؟. قال: "نعم نبي مكلم" قلت يا رسول الله أيما أنزل عليك أعظم؟. قال: " آية الكرسى (الله لا إله إلا هو الحى القيوم) ".
(المسند 5/178) ، ويروى هذا الحديث عن أبي أمامه أيضاً (المسند 5/265-266) ، وقد ذكر ابن كثير للحديث طرقاً كثيرة ثم قال: ومجموعها يفيد قوته وصحته. (التفسير 3/312) .(2/266)
قوله تعالى (زخرف القول غرورا)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (زخرف القول غرورا) قال: تزين الباطل بالألسنة الغرور.
قوله تعالى (ولتصغى إليه أفئدة)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: (ولتصغى إليه أفئدة) يقول: تزيغ إليه أفئدة.
قوله تعالى (وليقترفوا ماهم مقترفون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: (وليقترفوا ماهم مقترفون) وليكسبوا ماهم مكتسبون.
قوله تعالى (وتمت كلمت ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة قوله: (وتمت كلمت ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته) يقول: صدقاً: فيما وعد. وعدلا: فيما حكم.
قوله تعالى (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) ذكر في هذه الآية الكريمة أن إطاعة أكثر أهل الأرض ضلال، وبين في مواضع أخر أن أكثر أهل الأرض غير مؤمنين، وأن ذلك واقع في الأمم الماضية كقوله (ولكن أكثر الناس لايؤمنون) ، وقوله (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) ، وقوله (ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين) ، وقوله (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين) .
قوله تعالى (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عيكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وان أطعتموهم إنكم لمشركون)(2/267)
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين) قال: قالوا: يا محمد، أما ما قتلتم وذبحتم فتأكلونه، وأما ما قتل ربكم فتحرمونه! فأنزل الله (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) وإن أطعتموهم في أكل ما نهيتكم عنه، إنكم إذا لمشركون.
قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة عن سعيد بن مسروق عن عباية بن رفاعة عن جدّه رافع قال: كنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذِي الحليفة فأصاب الناس جوع، وأصبنا إبلاً وغنماً -وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أخريات الناس- فعجلوا فنصبوا القدور، فأمر بالقدور فأكفئت ثم قَسَمَ، فعدل عشرة من الغنم ببعير، فندّ منها بعير، وفي القوم خيل يسيرة، فطلبوه فأعياهم، فأهوى إليه رجل بسهم فحبسه الله، فقال: "هذه البهائم لها أوابد كأوابد الوحش، فما ندّ عليكم فاصنعوا به هكذا". فقال جدي: إنّا نرجو -أو نخاف- أو نلقى العدوّ غداً، وليس معنا مدى، أفنذبح بالقصب؟ فقال: "ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه فكُل، ليس السنّ والظفر. وسأحدثكم عن ذلك: أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة".
(صحيح البخاري 6/218 ح 3075 - ك الجهاد والسير، ب ما يكره من ذبح الأبل والغنم في المغانم) .
قال الترمذي: حدثنا محمد بن موسى البصري الحرشي. حدثنا زياد بن عبد الله البكائي. حدثنا عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس قال: أتى أُناس النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالوا يا رسول الله: أنأكل ما نقتل ولا نأكل ما يقتل الله؟ فأنزل الله: (فكلوا ممّا ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين -إلى قوله- وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) .
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. وقد روى هذا الحديث من غير هذا الوجه عن ابن عباس أيضاً، ورواه بعضهم عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلاً. (السنن 5/263-264 ح 3069 - ك التفسير، ب سورة الأنعام وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي) .(2/268)
وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (وقد فصل لكم ماحرم عليكم) يقول: قد بين لكم ماحرم عليكم.
وانظر الآية (145) من السورة نفسها وتفسيرها لبيان ما حرم الله تعالى.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (إلا ما اضطررتم إليه) من الميتة.
وانظر الآية (145) من السورة نفسها لبيان تقييد الضرورة.
قال ابن ماجة: حدثنا عمرو بن عبد الله: ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) قال: كانوا يقولون: ما ذكر عليه اسم الله فلا تأكلوا. وما لم يُذكر اسم الله عليه فكلوه. فقال الله عز وجل (ولا تأكلوا مما لم يُذكر اسم الله عليه) .
(السنن ح 3173 - الذبائح، ب التسمية عند الذبح) ، وأخرجه أبو داود من طريق محمد بن كثير عن إسرائيل نحوه (السنن - الأضاحي، ب في ذبائح أهل الكتاب) وأخرجه الحاكم في (المستدرك 4/113) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وذكره ابن كثير في التفسير وقال: هذا إسناد صحيح (3/321) .
انظر حديث مسلم عن النواس بن سمعان الآتي عند الآية (2) من سورة التوبة وهو حديث: "البر حسن الخلق ... ".
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (وذروا ظاهر الإثم وباطنه) أي: قليله وكثيره، وسره وعلانيته.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي حدثني علي بن حسين عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه) ، (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) فنسخ، واستثنى من ذلك قال (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم)
(السنن ح 2817 - ك الأضاحي، ب في ذبائح أهل الكتاب) ، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى
(9/282) من طريق أبي داود به، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (2443/2817) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وإن أطعتموهم) يقول: وإن أطعتموهم في أكل ما نهيتكم عنه.(2/269)
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)
قوله تعالى (أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (أومن كان ميتا فأحييناه) يعني: من كان كافرا فهديناه (وجعلنا له نورا يمشي به في الناس) يعني بالنور، القرآن، من صدق وعمل به (كمن مثله في الظلمات) يعني: بالظلمات، الكفر والضلالة.
قوله تعالى (وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ... )
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه جعل في كل قرية أكابر المجرمين منها ليمكروا فيها، ولم يبين المراد بالأكابر هنا، ولا كيفية مكرهم، وبين جميع ذلك في مواضع أخر: فبين أن مجرميها الأكابر هم أهل الترف، والنعمة في الدنيا، بقوله (وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون) ، وقوله (كذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على أثارهم مقتدون) ونحو ذلك من الآيات. وبين أن مكر الأكابر المذكور: هو أمرهم بالكفر بالله تعالى، وجعل الأنداد له بقوله (وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً) ، وقوله (ومكروا مكراً كباراً وقالوا لا تذرن آلهتكم) الآية.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (أكابر مجرميها) قال: عظماؤها.
قوله تعالى (وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله) قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله) ، يعنون أنهم لن يؤمنوا حتى تأتيهم الملائكة بالرسالة، كما أتت الرسل، كما بينه تعالى في آيات أخر، كقوله (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا) الآية، وقوله (أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً) الآية.(2/270)
وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)
قوله تعالى (الله أعلم حيث يجعل رسالته)
قال مسلم: حدثنا محمد بن مهران الرازي ومحمد بن عبد الرحمن بن سهم.
جميعاً عن الوليد، قال ابن مهران: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، عن أبي عمار -شداد- أنه سمع واثلة بن الأسقع يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إن الله اصطفي كنانة من ولد إسماعيل. واصطفي قريشاً من كنانة، واصطفي من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم".
(الصحيح 4/1782 ح 2276 - ك الفضائل، ب فضل نسب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) .
قوله تعالى (سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون)
قال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حمّاد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لكل غادر لواء يُنصب يوم القيامة بغدرته".
(الصحيح 6/327 ح 3188 - ك الجزيه والموادعة، ب إثم الغادر للبر والفاجر) ، وأخرجه مسلم بنحوه (الصحيح 3/1359 ح 1735 - ك الجهاد والسير، ب تحريم الغدر) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (سيصيب الذين أجرمو صغار عند الله) قال: (الصغار) الذلة.
قوله تعالى (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) أما (يشرح صدره للإسلام) فيوسع صدره للإسلام.
قوله تعالى (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (يجعل صدره ضيقا حرجا) قال: ضيقاً ملتبساً.
قوله تعالى (كأنما يصعد في السماء)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (كأنما يصعد في السماء) من ضيق صدره.(2/271)
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)
قوله تعالى (كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن أبي عباس: (الرجس) قال: الشيطان.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (نفصل الآيات) نبين الآيات.
قوله تعالى (وهذا صراط ربك مستقيماً قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون)
انظر سورة الفاتحة وفيها أن الصراط المستقيم هو: الإسلام.
قوله تعالى (لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (لهم دار السلام عند ربهم) الله هو السلام، والدار الجنة.
قوله تعالى (ويوم يحشرهم جميعاً يامعشر الجن قد استكثرتم من الأنس)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (ويوم يحشرهم جميعاً يامعشر الجن قد استكثرتم من الأنس) يعني: أضللتم منهم كثير.
وانظر سورة الجن آية (6) .
قوله تعالى (وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: أما قوله (وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا) فالموت.
قوله تعالى (قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال (قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم) قال: إن هذه الآية: آية لاينبغى لأحد أن يحكم على الله في خلقه، لا ينزلهم جنة ولا نار.
قوله تعالى (وكذلك نولى بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (وكذلك نولى بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون) وإنما يولي الله بين الناس بأعمالهم، فالمؤمن ولي المؤمن أين كان وحيث كان، والكافر ولي الكافر أينما كان وحيثما كان. ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي.(2/272)
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
قوله تعالى (يا معشر الجن والأنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مجاهد قوله: (يا معشر الجن والإنس) قال: ليس في الجن رسل إنما الرسل في الإنس، والنذارة في الجن، وقرأ: (فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين) الأحقاف آية (30) .
وانظر سورة الجن الآية (1-5) .
قوله تعالى (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون) النفي في هذه الآية الكريمة منصب على الجملة الحالية، والمعنى أنه لا يهلك قوماً في حال غفلتهم، أي عدم إنذارهم، بل لا يهلك أحداً إلا بعد الإعذار والإنذار على ألسنة الرسل عليهم صلوات الله وسلامه، كما بين هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) ، وقوله (رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) ، وقوله (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) .
وانظر سورة الإسراء آية (15) .
قوله تعالى (ولكل درجات مما عملوا)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ولكل درجات مما عملوا) بين في موضع آخر: أن تفاضل درجات العاملين في الآخرة أكبر، وأن تفضيلها أعظم من درجات أهل الدنيا، وهو قوله (انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا) .
وانظر سورة الإسراء آية (21) .(2/273)
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)
قوله تعالى (وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشاكم من ذرية قوم آخرين)
قال ابن كثير: (إن يشأ يذهبكم) أي: إذا خالفتم أمره (ويستخلف من بعدكم ما يشاء) أي: قوماً آخرين، أي: يعلمون بطاعته، (كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين) أي: هو قادر على ذلك، سهل عليه، يسير لديه، كما أذهب القرون الأول وأتى بالذي بعدها، كذلك هو قادر على إذهاب هؤلاء والإتيان بآخرين، كما قال تعالى (إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديراً) وقال تعالى (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز) .
وانظر سورة النساء آية (133) وتفسيرها.
قوله تعالى (إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين)
انظر سورة يس آية (63) ، وسورة مريم آية (75) .
قوله تعالى (قل ياقوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعملون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (ياقوم اعملوا على مكانتكم) يعني علي ناحيتكم.
قوله تعالى (الظالمون)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن ابن عباس: (الظالمون) يعني لا أقبل ما كان في الشرك.
قوله تعالى (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا ... )
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا) قال: جعلوا لله من ثمراتهم ومالهم نصيبا، وللشيطان والأوثان نصيباً.
فإن سقط من ثمرة ما جعلوا لله في نصيب الشيطان تركوه، وإن سقط مما جعلوه(2/274)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)
للشيطان في نصيب الله التقطوه وحفظوه وردوه إلى نصيب الشيطان، وإن انفجر من سقى ما جعلوه الله في نصيب الشيطان تركوه، وإن انفجر من سقى ما جعلوه للشيطان في نصيب الله سدوه. فهذا ما جعلوا من الحروث وسقي الماء.
وأما ماجعلوا للشيطان من الأنعام فهو قول الله (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام) سورة المائدة آية: 103.
وانظر سورة البقرة آية (205) .
قوله تعالى (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم) زينوا لهم، من قتل أولادهم.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (قتل أولادهم شركاؤهم) شياطينهم يأمرونهم أن يئدوا أولادهم خيفة العيلة.
أي خشية الفقر.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن السدي: (ليردوهم) فيهلكوهم.
(وليلبسوا عليهم دينهم) فيخلطوا عليهم دينهم. (ذرهم) يعني خل عنهم.
قوله تعالى (وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم)
اخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (الأنعام) السائبة والبحيرة التي سموا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وحرث حجر) فالحجر، ما حرموا من الوصيلة، وتحريم ما حرموا.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن السدي قوله: (لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم) فيقولون: حرام أن يطعم إلا من شئنا. (وأنعام حرمت ظهورها) قال: البحيرة والسائبة والحام (وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها) فكانوا لا يذكرون اسم الله عليها إذا ولدوها، ولا إن نحروها.(2/275)
وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)
قوله تعالى (وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيها شركاء)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا) ألبان البحائر كانت للذكور دون النساء، وإن كانت ميتة اشترك فيها ذكورهم وإناثهم.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (وقالوا ما في بطون هذه الأنعام) السائبة والبحيرة.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن السدي قوله: (وقالوا ما في بطون هذه الأنعام) فهذه الأنعام، ما ولد منها حي.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن السدي قوله: (خالصة لذكورنا)
فهو خالص للرجال دون النساء. (وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء) قال: ما ولدت من ميت فيأكله الرجال والنساء.
قوله تعالى (سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (سيجزيهم وصفهم) قال: قولهم الكذب في ذلك.
قوله تعالى (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا مارزقهم الله)
قال البخاري: حدثنا أبو النعمان حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم) إلى قوله (قد ضلوا وما كانوا مهتدين) .
(الصحيح ح 3524 - ك المناقب، ب قصة زمزم وجهل العرب) .(2/276)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله تعالى (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم) فقال: هذا صنيع أهل الجاهلية. كان أحدهم يقتل ابنته مخافة السباء والفاقة ويغذو كلبه، وقوله: (وحرموا مارزقهم الله) الآية، وهم أهل الجاهلية. جعلوا بحيرة وسائبة ووصيلة وحاميا، تحكما من الشياطين في أموالهم.
قوله تعالى (وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات) فالمعروشات ما عرش الناس، (وغير معروشات) ما خرج في البر والجبال من الثمرات.
قوله تعالى (وآتوا حقه يوم حصاده ... )
قال أبو داود: حدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني: حدثني محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان، عن جابر بن عبد الله: "أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر من كل جاد عشرة أوسق من التمر بقنو يعلق في المسجد للمساكين".
(السنن 2/125 ح 1662 - ك الزكاة، ب في حقوق المال) ، وأخرجه أحمد (المسند 3/359-360) من طريق أحمد بن عبد الملك عن محمد بن سلمة به. قال ابن كثير: إسناد جيد قوي. (التفسير 3/341) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) يعنى بحقه، زكاته المفروضة، يوم يكال أو يعلم كيله.
قوله تعالى ( ... ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين)
قال النسائي: أخبرنا أحمد بن سليمان قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا همام، عن قتادة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة".
(السنن 5/79- ك الزكاة، ب الاختيال في الصدقة) ، وأخرجه ابن ماجه (السنن 2/1921- ح 3605 - ك اللباس، ب البس ما شئت ما أخطأك سرف أو مخيلة) من طريق أبي بكر بن أبي شيبة عن(2/277)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143)
يزيد بن هارون به. وأحمد في مسنده (ح 6708) عن بهز -وفى آخره: "إن الله يحب أن ترى نعمته على عبده". قال محققه: إسناده صحيح-. والحاكم: (المستدرك 4/ 135 - ك الأطعمة) من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث، كلاهما عن همام به. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وعلقه البخاري في صحيحه بصيغة جزم (الصحيح10/ 264 - ك اللباس، ب قوله تعالى (قل من حرم زينة الله ... ) ، وصححه الألباني في (صحيح سنن النسائي ح 2399) .
وانظر سورة الأعراف آية (31) ، وسورة الإسراء آية (2) وتفسيرها.
قوله تعالى (ومن الأنعام حمولة وفرشا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (ومن الأنعام حمولة فرشا) فأما الحمولة فالإبل والخيل والبغال والحمير وكل شيء يحمل عليه، وأما الفرش الغنم.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة عن الحسن في قوله تعالى (حمولة وفرشاً) قال: الحمولة: ما حمل عليه منها. والفرش: حواشيها يعنى صغارها.
قوله تعالى ( ... ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين)
انظر سورة البقرة آية (168) لبيان خطوات الشيطان.
قوله تعالى (ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل ءالذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين) الآية، إن كل هذا لم أحرم منه قليلا ولا كثيراً، ذكراً ولا أنثى.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل ءالذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين) يعني: هل تشتمل الرحم إلا على ذكر وأنثى؟ فهل يحرمون بعضا ويحلون بعضاً؟.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (قل ءالذكرين حرم أم الأنثيين) يقول: سلهم (ءالذكرين حرم أم الأنثيين أما ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين) ؟ أي: إني لم أحرم شيئا من هذا.(2/278)
وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
قوله تعالى (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي قال: كانوا يقولون يعني الذين كانوا يتخذون البحائر والسوائب: إن الله أمر بهذا. فقال الله: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا فليضل الناس بغير علم) .
قوله تعالى (قل لا أجد في ما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو ... )
قال الحاكم: أخبرني علي بن محمد بن دحيم الشيباني بالكوفة ثنا أحمد بن حازم الغفاري ثنا أبو نعيم ثنا محمد بن شريك المكي عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذراً فبعث الله تعالى نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو وتلا هذه الآية (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم) الآية.
(المستدرك4/115 - ك الأطعمة، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي) ، وأخرجه أبو داوود من طريق أبي نعيم به (السنن ح 3800 - ك الأطعمة، ب مالم يذكر تحريمه) ، وصححه الألباني في (صحيح سنن أبي داوود ح 3225) .
قال مسلم: وحدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري. حدثنا أبي. حدثنا شعبة عن الحكم، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس. قال: "نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كل ذي ناب من السباع. وعن كل ذي مخلب من الطير".
(صحيح مسلم 3/1534 ح 1934 - ك الصيد والذبائح، ب تحريم أكل كل ذي ناب ... ) .
وقال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك بن أنس عن ابن شهاب، عن عبد الله والحسن، ابني محمد بن علي، عن أبيهما، عن علي بن أبي طالب؛ "أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن متعة النساء يوم خيبر. وعن لحوم الحمُر الإنسية".
(صحيح مسلم 3/1537 ح 1407 - ك الصيد والذبائح، ب تحريم أكل الحمر الإنسية) ، وأخرجه البخاري من طريق مالك به (الصحيح ح 4216 - ك المغازي، ب غزوة خيبر) .(2/279)
قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)
قال البخاري: حدثنا سعيد بن عُفير حدثنا ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب حدثني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شاةً ميتة أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هلاّ انتفعتم بجلدها؟ "قالوا: إنها ميتة! قال: "إنما حرم أكلها".
(صحيح البخاري 3/416 ح 1492 - ك الزكاة، ب الصدقة على موالي أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ،
وأخرجه مسلم في (صحيحه 1/276-277 - ك الحيض، ب طهارة جلود الميتة بالدباغ) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله:
(قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا) يعني: مهراقا.
أخرج عبد الرزاق بسنده الحسن عن قتادة: (أو دماً مسفوحاً) قال: حرم الله الدم ما كان مسفوحاً فأما لحم يخالطه دم، فلا بأس به.
قوله تعالى (وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية: (وما أهل لغير الله به) ، يقول: ما ذكر عليه غير اسم الله.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن ابن عباس: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد) يقول: من أكل شيئا من هذه وهو مضطر، فلا حرج. ومن أكله وهو غير مضطر فقد بغى واعتدى.
وانظر سورة البقرة آية (145) .
قوله تعالى (وعلى الذين هادوا حرّمنا كلّ ذي ظفر..)
قال البخاري: حدثنا عمرو بن خالد حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب قال عطاء: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "قاتل الله اليهود، لما حرم الله عليهم شحومها جملوها ثم باعوها فأكلوها".
(صحيح البخاري 8/ 145 ح 4633 -ك التفسير- سورة الأنعام، ب الآية) ، (صحيح مسلم 3/1208 - ك المساقاة، ب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام نحوه) .(2/280)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذى ظفر) وهو البعير والنعامة.
وانظر سورة النحل آية (118) وتفسيرها.
قوله تعالى (حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي قوله: (حرمنا عليهم شحومهما) قال: الثرب وشحم الكليتين. وكانت اليهود تقول: إنما حرمه إسرائيل، فنحن نحرمه.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (إلا ما حملت ظهورهما) يعني: ما علق بالظهر من الشحوم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (أو الحوايا) وهي المبعر.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى (أو الحوايا) قال: هو البقر.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (أو ما اختلط بعظم) مما كان من شحم على عظم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون) إنما حرم ذلك عليهم عقوبة ببغيهم.
قوله تعالى (فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (فإن كذبوك) اليهود.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن السدي قال: كانت اليهود يقولون: إنما حرمه إسرائيل فنحن نحرمه، فذلك قوله: (فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين) .(2/281)
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
قوله تعالى (لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا) وقال: (كذلك كذب الذين من قبلهم) ثم قال: (ولو شاء الله ما أشركوا) فإنهم قالوا: عبادتنا الآلهة تقربنا من الله زلفي فأخبرهم الله أنها لا تقربهم، وقوله: (ولو شاء الله ما أشركوا) يقول الله سبحانه: لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (ولا حرمنا من شيء) قول قريش بغير يقين: إن الله حرم هذه البحيرة والسائبة.
قوله تعالى (قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين)
انظر سورة القمر آية (5) وتفسيرها.
قوله تعالى (قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن السدي: (قل هلم شهداءكم) قال: أرونى شهداءكم. (الذين يشهدون أن الله حرم هذا) فيما حرمت العرب، وقالوا: أمرنا الله به. قال الله لرسوله: (فإن شهدوا فلا تشهد معهم) .
قوله تعالى (وهم بربهم يعدلون)
أي: يشركون بربهم كما تقدم في مطلع تفسير هذه السورة.
قوله تعالى (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئاً)
قال الحاكم: حدثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار، ثنا محمد بن مسلمة الواسطى، ثنا يزيد بن هارون، أنبأ سفيان بن حسين، عن الزهري، عن أبي إدريس، عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "من يبايعني على هؤلاء الآيات؟ " ثم قرأ (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) حتى ختم الآيات الثلاث فمن وفي فأجره على الله ومن انتقص شيئأ أدركه الله بها في الدنيا كانت عقوبته ومن أخر إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له".(2/282)
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، إنما اتفقا جميعاً على حديث الزهري عن أبي إدريس عن عبادة: "بايعونى على أن لا تشركوا بالله شيئاً". وقد روى سفيان بن حسين الواسطي كلا الحديثين عن الزهري فلا ينبغي أن ينسب إلى الوهم في أحد الحديثين إذا جمع بينهما والله أعلم. (المستدرك 2/318 - ك التفسير، سورة الأنعام، وصححه الذهبي) .
قوله تعالى (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) الإملاق الفقر، قتلوا أولادهم خشية من الفقر.
قوله تعالى (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن)
قال البخاري: حدثنا حفص بن عمر، حدثنا شعبة، عن عمرو، عن أبي وائل، عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: "لا أحد أغير من الله، ولذلك حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن. ولا شيء أحب إليه المدح من الله، ولذلك مدح نفسه".
قلتُ: سمعته من عبد الله؟ قال: نعم. قلت: ورفعه؟ قال: نعم.
(صحيح البخاري 8/146ح 4634 -ك التفسير- سور الأنعام، ب الآية) ، وأخرجه مسلم في (الصحيح 4/2113 ح 2760 - ك التوبة، ب غيرة الله تعالى ... ) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها ومابطن) قال: كانوا في الجاهلية لا يرون بالزنا بأسا في السر، ويستقبحونه في العلانية، فحرم الله الزنا في السر والعلانية.
قوله تعالى (ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق..)
قال البخاري: حدثنا عمر بن حفص: حدثنا أبي حدثنا الأعمش عن عبد الله ابن مُرّة، عن مسروق، عن عبد الله قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يحل دمُ امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة".
(الصحيح 12/209 ح 6878 - ك الديات، ب قول الله تعالى (أن النفس بالنفس)) ، وأخرجه مسلم (الصحيح 3/1302 ح 1676 - ك القسامة، ب مايباح به دم المسلم) .(2/283)
قال ابن ماجة: حدثنا أحمد بن عبدة. أنبأنا حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف؛ أن عثمان بن عفان أشرف عليهم. فسمعهم وهم يذكرون القتل فقال: إنهم ليتواعدوني بالقتل؟ فلم يقتلوني؟ وقد سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا يحل دم امريء مسلم إلا في إحدى ثلاث: رجل زنى وهو محصن فرجم. أو رجل قتل نفساً بغير نفس. أو رجل ارتدّ بعد إسلامه" فوالله! ما زنيت في جاهلية ولا في إسلام، ولا قتلت نفساً مسلمة، ولا ارتددت منذ أسلمت.
(سنن ابن ماجة 2/847 ح 2533 - ك الحدود، ب لا يحل دم امريء مسلم إلا في ثلاث) ، أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وقال الترمذي: حديث حسن (المسند 1/63، السنن4/460 -أبواب الفتن- ب لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث، السنن 7/91 -تحريم الدم- ب ذكر ما يحل به دم المسلم) . وقال الألباني: صحيح (صحيح ابن ماجه 2/77) .
قوله تعالى (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ... )
انظر حديث أحمد المتقدم عند الآية (220) من سورة البقرة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) فليثمر ماله.
قوله تعالى (وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفساً إلا وسعها)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفساً إلا وسعها) أمر الله تعالى في هذه الآية الكريمة بإيفاء الكيل والميزان بالعدل، وذكر أن من أخل بإيفائه من غير قصد منه لذلك، لا حرج عليه لعدم قصده، ولم يذكر هنا عقاباً لمن تعمد ذلك، ولكنه توعده بالويل في موضع آخر ووبخه بأنه لا يظن البعث ليوم القيامة، وذلك في قوله: (ويل للمطففين، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين) .(2/284)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
وذكر في موضع أخر أن إيفاء الكيل والميزان خير لفاعله، وأحسن عاقبة، وهو قوله تعالى (وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن مجاهد (بالقسط) بالعدل.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: (لا نكلف نفساً إلا وسعها) قال: هم المؤمنون، وسع الله عليهم أمر دينهم، فقال: (ما جعل عليكم في الدين من حرج) .
قوله تعالى (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى) أمر تعالى في هذه الآية الكريمة بالعدل في القول، ولو كان على ذي قرابة، وصرح في موضع آخر بالأمر بذلك، ولو كان على نفسه أو والديه، وهو قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء الله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين) الآية.
قوله تعالى (وبعهد الله أوفوا) الآية
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وبعهد الله أوفوا) الآية، أمر تعالى في هذه الآية الكريمة بالإيفاء بعهد الله، وصرح في موضع آخر أن عهد الله سيسأل عنه يوم القيامة، بقوله (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولاً) أي عنه.
قوله تعالى (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله)
قال النسائي: أنا يحيى بن حبيب بن عربي: نا حماد، عن عاصم، عن أبي وائل قال: قال عبد الله: خط لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوماً خطاً، وخطه لنا عاصم - فقال: "هذا سبيل الله"، ثم خط خطوطاً عن يمين الخط - وعن شماله فقال: لهذه السُّبُل، وهذه سُبُل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه" ثم تلا هذه الآية(2/285)
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
(وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه) للخط الأول (ولا تتبعوا السبل) للخطوط (فتفرّق بكم عن سبيله ذلكم وصّاكم به لعلكم تتقون) .
(التفسير 1/485 ح 194) ، وأخرجه أحمد في مسنده (1/435، 465) والدارمي في سننه (1/67-68، ب في كراهية أخذ الرأي) ، وابن حبان في صحيحه (الإحسان 1/181 ح 7) ، والحاكم في مستدركه (2/318) من طرق عن حماد بن زيد به. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وحسن إسناده الألباني في (ظلال الجنة 1/13) .
قال الترمذي: حدثنا علي بن حُجر السعدي: حدثنا بقية بن الوليد، عن بُحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن جبير بن نُفير، عن النواس بن سمعان الكلابي قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله ضرب مثلاً صراطاً مستقيماً، على كنفي الصراط داران لهما أبواب مفتحة، على الأبواب سُتور وداعٍ يدعو على رأس الصراط وداع يدعو فوقه (والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) والأبواب التي علي كنفي الصراط حدود الله فلا يقع أحد في حدود الله حتى يُكشف السِّتر، والذي يدعو من فوقه واعظ ربه".
(السنن 5/144 ح 2859 - ك الأمثال، ب ما جاء في مثل الله لعباده) . وقال: غريب، ولكن في (تحفة الأشراف ح 11714) : أنه حسنه، وأخرجه النسائي (التفسير 1/568 ح 253) عن علي ابن حجر وعمرو بن عثمان، وأحمد (المسند 4/183) عن حيوة بن شريح. كلهم عن بقية به.
وأخرجه أحمد (المسند 14/82-183) ، والحاكم (المستدرك 1/73) من طرق عن معاوية بن صالح عن عبد الرحمن بن جبير عن أبيه به. قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولا أعرف له علة. ووافقه الذهبي. وقال ابن كثير. إسناد حسن صحيح (التفسير 1/28) ، وقال الألباني: صحيح (صحيح الترمذي ح 2295) .
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (ولاتتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) قال: البدع والشبهات والضلالات.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) وقوله (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) سورة الشورى: 13. ونحو هذا في القرآن. قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله.(2/286)
ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156)
قوله تعالى (ثُمَّ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ)
انظر حديث واثلة بن الأسقع عند الإمام أحمد المتقدم تحت الآية (3-4) من سورة آل عمران.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن) قال: من أحسن في الدنيا، تمم الله ذلك له في الآخرة.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (تماماً على الذي أحسن) قال: على المؤمنين.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (وتفصيلا لكل شيء) فيه حلاله وحرامه.
قوله تعالى (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك) وهو القرآن الذي أنزله الله على محمد عليه السلام (فاتبعوه) يقول: فاتبعوا حلاله، وحرموا حرامه.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة قوله: (واتقوا) يقول: واتقوا ما حرم، وهو هذا القرآن.
قوله تعالى (أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا) وهم اليهود والنصارى.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (وإن كنا عن دراستهم لغافلين) يقول: وإن كنا عن تلاوتهم لغافلين.(2/287)
أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
قوله تعالى (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ) الآية، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن من حكم إنزال القرآن العظيم قطع عذر كفار مكة. لئلا يقولوا: لو أنزل علينا كتاب لعملنا به، ولكنا أهدى من اليهود والنصارى الذين لم يعملوا بكتبهم، وصرح في موضع آخر أنهم أقسموا على ذلك، وأنه لما أنزل عليهم ما زادهم نزوله إلا نفوراً وبعداً عن الحق، لاستكبارهم ومكرهم السيء، وهو قوله تعالى (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفوراً استكباراً في الأرض ومكر السيء ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم) يقول: قد جاءكم بينة لسان عربي مبين، حين لم تعرفوا دراسة الطائفتين، وحين قلتم: لو جاءنا كتاب لكنا أهدى منهم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم) ، فهذا قول كفار العرب (فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة) .
قوله تعالى (وصدف عنها)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وصدف عنها) يقول: أعرض عنها.
قوله تعالى (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك) الآية. ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة إتيان الله جل وعلا وملائكته يوم القيامة، وذكر ذلك في موضع آخر، وزاد فيه أن الملائكة يجيئون صفوفا وهو(2/288)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
قوله تعالى (وجاء ربك والملك صفا صفا) ، وذكره في موضع آخر، وزاد فيه أنه جل وعلا يأتي في ظلل من الغمام وهو قوله تعالى (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة) الآية. ومثل هذا من صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه يمر كما جاء يؤمن بها.
وانظر سورة البقرة آية (210) وتفسيرها.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة: (إلا أن تأتيهم الملائكة) بالموت، (أو يأتي ربك) يوم القيامة، (أو تأتي بعض آيات ربك) ، قال: آية موجبة، طلوع الشمس من مغربها، أو ما شاء الله.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مقاتل بن حيان قوله (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك) قال: يوم القيامة في ظلل من الغمام.
قوله تعالى (يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً)
قال البخاري: حدثني إسحاق أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها". ثم قرأ الآية.
(صحيح البخاري 8/147 ح 4636 -ك التفسير- سورة الأنعام، ب الآية) ، وأخرجه مسلم (1/137 - ك الإيمان، ب بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان. نحوه) والمراد بالآية التي قرأها هي الآية المذكورة أعلاه.
قال مسلم: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب. قالا: حدثنا وكيع ح وحدثنيه زهير بن حرب. حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق. جميعاً عن فضيل بن غزوان. ح وحدثنا أبو كريب محمد بن العلاء (واللفظ له) . حدثنا ابن فضيل عن أبيه، عن أبي حازم، عن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "سل: ثلاث إذا خرجن، لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً: طلوع الشمس من مغربها. والدجال. ودابة الأرض".
(صحيح مسلم 1/138 ح 158 - ك الإيمان، ب بيان الزمن الذي لا يقبل به الإيمان. نحوه) .(2/289)
وانظر حديث مسلم تحت الآية رقم (159) من سورة النساء.
قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا أبو خالد (يعني سليمان بن حيان) ح وحدثنا ابن نمير: حدثنا أبو معاوية، ح وحدثني أبو سعيد الأشجّ، حدثنا حفص (يعني ابن غياث) كلهم عن هشام، ح وحدثني أبو خيثمة، زهير ابن حرب (واللفظ له) ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن هشام بن حسّان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها، تاب الله عليه".
(الصحيح 4/2076 ح 2703 - ك الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، ب استحباب الاستغفار والإكثار منه) .
قال الترمذي: حدثنا أحمد بن عبدة الضبي حدثنا حماد بن زيد عن عاصم عن زر بن حبيش قال: أتيت صفوان بن عسال المرادي، فقال: ما جاء بك؟ قلت: ابتغاء العلم ... فذكر الحديث، وفيه: "قال زر: فما برح يحدثني حتى حدثني أن الله جعل بالمغرب باباً عرضه مسيرة سبعين عاماً للتوبة، لا يغلق ما لم تطلع الشمس من قبله، وذلك قول الله عز وجل (يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها ... ) الآية.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. (السنن ح 3536، واللفظ للثاني - ك الدعوات، ب في فضل التوبة والإستغفار) ، وأخرجه أيضاً عبد الرزاق في تفسيره ح 877) ، والنسائي في تفسيره ح 198) ، وابن ماجة في (سننه ح 4070 - ك الفتن، ب طلوع الشمس من مغربها) ، والطبري في تفسيره (12/250 ح 14206و14207) ، وابن خزيمة في (صحيحه ح 193) ، وابن حبان في صحيحه (الإحسان ح 1321) وغيرهم من طرق عن عاصم، بإسناده نحوه، وحسنه الألباني في (صحيح سنن الترمذي 3/174 و175) ، وابن ماجه (2/382) .
انظر حديث مسلم عن أبي ذر الآتي عند الآية (38) من سورة يس.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفس إيمانهم لم تكن أمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا) يقول: كسبت في تصديقها خيراً، عملاً صالحاً. فهؤلاء أهل القبلة. وإن كانت مصدقة ولم(2/290)
تعمل قبل ذلك خيراً. فعملت بعد أن رأت الآية، لم يقبل منها. وإن عملت قبل الآية خيراً، ثم عملت بعد الآية خيراً، قبل منها.
قوله تعالى (قل انتظروا إنا منتظرون)
انظر سورة يونس آية (20) .
قوله تعالى (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة قوله (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً) قال: هم اليهود والنصارى.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا) قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي قوله (لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله) لم يؤمر بقتالهم، ثم نسخت، فأمر بقتلهم في سورة براءة.
قوله تعالى (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ... )
قال البخاري: حدثنا أبو اليمان: أخبرنا شعيب، عن الزهري قال: أخبرني سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن أن عبد الله بن عمرو قال: أُخبِر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أني أقول: والله لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشتُ.
فقلت له: قد قلته بأبي أنت وأمي. قال: "فإنك لا تستطيع ذلك، فصم وأفطر، وقم ونَم، وصم من الشهر ثلاثة أيام فإنّ الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر". قلت: إني أطيق أفضل من ذلك. قال: "فصم يوماً وأفطر يومين". قلت: إني أطيق أفضل من ذلك. قال: "فصم يوماً وأفطر يوماً، فذلك صيام داود عليه السلام" وهو أفضل الصيام، فقلتُ: إني أطيق أفضل من ذلك. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا أفضل من ذلك".(2/291)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)
(الصحيح 4/259 ح 1976 - ك الصوم، في صوم الدهر) ، وأخرجه مسلم في (الصحيح 2/812 ح 1159 - ك الصيام، ب النهي عن صوم الدهر ... من طريق يونس عن الزهري به) .
انظر حديث مسلم عن أبي هريرة المتقدم عند الآية (261) من سورة البقرة.
قال مسلم: حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة بن سعيد وعليّ بن حُجر. جميعاً عن إسماعيل. قال ابن أيوب: حدثنا إسماعيل بن جعفر. أخبرني سعد بن سعيد بن قيس عن عمر بن ثابت بن الحارث الخزرجي، عن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -، أنه حدثه؛ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من صام رمضان. ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر".
(الصحيح 2/822 ح 1164 - ك الصيام، ب استحباب صوم ستة أيام من شوال أتباعا لرمضان) .
قال أحمد: ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن شمر بن عطية، عن أشياخه، عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله أوصني، قال: "إذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تمحها" قال: قلت يا رسول الله أمن الحسنات لا إله إلا الله؟ قال: "هي أفضل الحسنات".
(المسند 5/169) ، وأخرجه أيضاً في الزهد (27) ، وأخرجه هناد (الزهد 1071) ، والطبري (التفسير 8/81) ، وابن أبي حاتم (سورة الأنعام/160 ح 1215 وسورة النمل/89 ح 572) ، وأبو نعيم في الحلية (4/217) ، والبيهقي (الأسماء والصفات 1/182) من طرق عن الأعمش به.
قال الألباني: وهذا إسناد حسن، رجاله ثقات غير أشياخ شمر فلم يسموا، لكنهم جمع ينجبر الضعف بعددهم كما قال السخاوي في غير هذا الحديث ... قال (يعنى أبا نعيم في الحلية 4/217) : رواه أبو نعيم عن الأعمش، وجوده يونس بن بكير عنه. ثم ساقه من طريق عقبة بن مكرم ثنا يونس بن بكير، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر به نحوه. وهذا إسناد جيد رجاله كلهم ثقات رجال مسلم، ووالد إبرهيم اسمه يزيد بن شريك التيمي. (الصحيحة 3/361 ح 1373) . وللحديث شاهد عن عبد الله بن مسعود موقوفا عليه في تفسير قوله تعالى: (من جاء بالحسنة) قال: لا إله إلا الله. أخرجه ابن أبي حاتم (التفسير - سورة الأنعام/160 ح 1216، سورة النمل/89 ح 573) ، والطبري (التفسير 12/276 ح 14272، 14274) من طريق الأسود ابن هلال عنه به. وصححه محقق ابن أبي حاتم (التفسير - سورة الأنعام/160 ح 1216) . ولهذا الموقوف شواهد عن بعض الصحابة والتابعين. ساق بعضها الطبري (التفسير - سورة الأنعام/160) وأشار إليها ابن أبي حاتم (التفسير تحت الآية المذكورة) .(2/292)
قال الترمذي: حدثنا ابن أبي عمر. حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "قال الله عز وجل، وقوله الحق: إذا هَمَّ عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها، وإذا همّ بسيئة فلا تكتبوها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، فإن تركها - ورُبّما قال: لم يعمل بها - فاكتبوها له حسنة ثم قرأ: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) ".
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح (سنن الترمذي 5/265 ح 3073 - ك التفسير، سورة الأنعام) . أمل الحديث عند مسلم (1/117 أو 118 رقم 203-206) بدون قوله (ثم قرأ ... الخ، وجاء نحوه مع زيادة ونقص من حديث ابن عباس عند البخاري (رقم 6491) ومسلم (1/118 رقم 207 و208) ، ومن حديث أبي ذر عند مسلم (4/2068 رقم 2687) .
قال أبو داود: حدثنا مسدد وأبو كامل، قالا: ثنا يزيد، عن حبيب المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يحضر الجمعة ثلاثة نفر: رجل حضرها يلغو وهو حظه منها، ورجل حضرها يدعو، فهو رجل دعا الله عز وجل: إن شاء أعطاه، وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصات وسكوت ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحداً، فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام، وذلك بأن الله عز وجل يقول (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) .
(السنن 1/291 ح 1113 - ك الصلاة، ب الكلام والإمام يخطب) ، وأخرجه ابن خزيمة في (صحيحه 3/157 ح 1813 - ك الجمعة، ب طبقات من يحضر الجمعة) من طريق محمد بن عبد الله ابن زريع عن حبيب به. قال العراقي: إسناده جيد (انظر نيل الأوطار 3/304) قال الألباني: إسناده حسن للخلاف المعروف في عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (حاشية ابن خزيمة) . وأخرجه أحمد في مسنده (11/183 رقم 7002) من طريق يزيد به. وفي (10/174 رقم 6701) من طريق آخر عن عمرو بن شعيب بإسناده مختصراً وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيق المسند.
قوله تعالى (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ... )
انظر سورة الفاتحة في قوله تعالى (اهدنا الصراط المستقيم) .(2/293)
قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)
قوله تعالى (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ... )
قال الشيخ الشنقيطي: قال بعض العلماء: المراد بالنسك هنا النحر، لأن الكفار كانوا يتقربون لأصنامهم بعبادة من أعظم العبادات: هي النحر. فأمر الله تعالى نبيه أن يقول إن صلاته ونحره كلاهما خالص لله تعالى، ويدل لهذا قوله تعالى (فصل لربك وانحر) .
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مقاتل بن حيان (قل إن صلاتي) صلاتي المفروضة.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (ونسكي) ذبحي في الحج والعمرة.
قوله تعالى (وأنا أول المسلمين)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (وأنا أول المسلمين) قال: أول المسلمين من هذه الأمة.
قوله تعالى (ولا تكسب كل نفس إلا عليها)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، ثنا محمد بن وهب بن عطية الدمشقي، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا القاسم بن هزان، حدثني الزهري، حدثني سعيد بن مرجانة قال: قال ابن عباس (عليها ما اكتسبت) البقرة: 286، من العمل.
وسنده حسن.
قوله تعالى (ولا تزر وازرة وزر أخرى)
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن عمرة بنت عبد الرحمن أنها أخبرته أنها سمعت عائشة رضي الله عنها زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: "إنما مرّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على يهودية يبكى عليها أهلها فقال: إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذّب في قبرها".
(صحيح البخاري 3/181 ح 1289 - ك الجنائز، ب قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان أبوح من سنته"، وأخرجه مسلم في (صحيحه 2/641-643 - ك الجنائز، ب الميت يعذب ببكاء أهله عليه) .(2/294)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس، ثنا عبيد الله - يعني ابن إياد - ثنا إياد، عن أبي رمثة، قال: انطلقت مع أبي نحو النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم إن رسول الله قال لأبي: "ابنك هذا"؟ قال: أي ورب الكعبة، قال: "لحقاً"؟ قال: أشهد به، قال: فتبسم رسول الله ضاحكاً من ثبت شبهي في أبي، ومن حلف أبي على، ثم قال: "أما إنه لا يجنى عليك ولا تجنى عليه" وقرأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (ولا تزر وازرة وزر أخرى) .
(السنن 4/168 ح 4495 - ك الديات، ب لا يؤخذ أحد بجريرة أخيه أو أبيه) ، وأخرجه أحمد في (مسنده 2/226) ، والدارمي 2/199 - ك الديات، ب لا يؤاخذ أحد بجناية غيره) ، وابن حبان في صحيحه (الإحسان 13/337 ح 5995) ، والحاكم في (المستدرك 2/425) كلهم من طريق أبي الوليد الطيالسي عن عبد الله بن إياد به. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وصححه أيضاً الألباني واستوفى طرقه وشواهده (الإرواء رقم 2303) ، وقال محقق الإحسان: إسناده صحيح على شرط مسلم (انظر مرويات الدارمي في التفسير ص241) .
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن الربيع بن أنس قوله (ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم) قال. يبعثهم من بعد الموت فيبعث أولياءه وأعداءه فينبئهم بأعمالهم.
وانظر سورة الإسراء آية رقم (15) وتفسيرها.
قوله تعالى (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ... )
قال مسلم: حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي مسلمة قال: سمعت أبا نضرة، عن أبي سعيد الخدري؛ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها. فينظر كيف تعملون. فاتقوا الدنيا واتقوا النساء. فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء".
وفي حديث ابن بشّار "لينظر كيف تعملون".
(صحيح مسلم 4/2098 ح 2742 - ك الرقاق، ب أكثر أهل الجنة الفقراء) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (وهو الذي جعلكم خلائف في الأرض) قال: أما (خلائف الأرض) فأهلك القرون واستخلفنا فيها بعدهم.(2/295)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
قوله تعالى (ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (ورفع بعضكم فوق بعض درجات) يقول: في الرزق.
انظر سورة الإسراء آية (21) وتفسيرها.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مقاتل بن حيان قوله (ليبلوكم فيما أتاكم) ، يقول: فيما أعطاكم.
قال مسلم: حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حُجر. جميعاً عن إسماعيل بن جعفر. قال ابن أيوب: حدثنا إسماعيل: أخبرني العلاء عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة، ما طمع بجنته أحد. ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة، ما قَنِطَ من جنته أحد".
(الصحيح 4/2109 ح 2755 - ك التوبة، ب في سعة رحمة الله تعالى ... ) .(2/296)
المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
سورة الأعراف
فضلها: انظر حديث: "من أخذ السبع الأول من القرآن فهو حبر".
تقدم في فضل سورة البقرة.
قوله تعالى (المص)
انظر بداية سورة البقرة في الحروف المقطعة.
قوله تعالى (كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (فلا يكن في صدرك حرج منه) قال: شك منه.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (لتنذر به وذكرى للمؤمنين) لم يبين هنا المفعول به لقوله تنذر، ولكنه بينه في مواضع أخر كقوله (وتنذر به قوماً لداً) وقوله (لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم) إلى غير ذلك من الآيات. كما أنه بين المفعول الثاني للإنذار في آيات أخر كقوله (لينذر بأساً شديداً من لدنه) الآية، وقوله (فأنذرتكم ناراً تلظى) وقوله (إنا أنذرناكم عذابً قريباً) الآية، إلى غير ذلك من الآيات. وقد جمع تعالى في هذه الآية الكريمة بين الإنذار والذكرى في قوله (لتنذر به وذكرى للمؤمنين) فالإنذار للكفار، والذكرى للمؤمنين، ويدل لذلك قوله تعالى (فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لداً) وقوله (وذكِّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) وقوله (فذكِّر بالقرآن من يخاف وعيد) . ولا ينافي ما ذكرنا من أن الإنذار للكفار، والذكرى للمؤمنين. أنه قصر الإنذار على المؤمنين دون غيرهم في قوله تعالى (إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم) لأنه لما كان الانتفاع بالإنذار مقصوراً عليهم، صار الإنذار كأنه مقصور عليهم، لأن ما لا نفع فيه فهو كالعدم.(2/297)
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4)
قوله تعالى (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون)
انظر سورة الأنعام الآية (153) وتفسيرها.
قوله تعالى (وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون) خوف الله تعالى في هذه الآية الكفار الذين كذبوه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأنه أهلك كثيراً من القرى بسبب تكذيبهم الرسل، فمنهم من أهلكها بياتاً أي ليلاً، ومنهم من أهلكها وهم قائلون، أي في حال قيلولتهم، والقيلولة: استراحة وسط النهار. يعني: فاحذروا تكذيب رسولي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لئلا أنزل بكم مثل ما أنزلت بهم، وأوضح هذا المعنى في آيات أخر كقوله (ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤون) وقوله (فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد) ، وقوله (وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين) وقوله (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم) ثم بين أنه يريد تهديدهم بذلك بقوله (وللكافرين أمثالها) إلى غير ذلك من الآيات.
وقد هدد تعالى أهل القرى بأن يأتيهم عذابه ليلاً في حالة النوم، أو ضحى في حالة اللعب، في قوله تعالى (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون) . وهدد أمثالهم من الذين مكروا السيئات بقوله تعالى (أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤوف رحيم) .ا. هـ.(2/298)
فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)
قوله تعالى (فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين) بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن تلك القرى الكثيرة التي أهلكها في حال البيات، أو في حالة القيلولة، لم يكن لهم من الدعوى إلا اعترافهم بأنهم كانوا ظالمين. وأوضح هذا المعنى في قوله (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعبدها قوماً آخرين فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين) .
قوله تعالى (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين) لم يبين هنا الشيء المسؤول عنه المرسلون، ولا الشيء المسئول عنه الذين أرسل إليهم. وبين في مواضع أخر أنه يسأل المرسلين عما أجابتهم به أممهم، ويسأل الأمم عما أجابوا به رسلهم.
قال في الأول: (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم) .
وقال في الثاني: (ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين) .
وبين في موضع آخر أنه يسأل جميع الخلق عما كانوا يعملون، وهو قوله تعالي (فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين) قال: يسأل الله الناس عما أجابوا المرسلين، ويسأل المرسلين عما بلغوا.
قال أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد عن بهز قال: أخبرني أبي عن جدي قال: أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر الحديث إلى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ألا إن ربي داعي، وإنه سائلي(2/299)
فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)
هل بلغت عبادي؟ وأنا قائل له: رب قد بلغتهم، ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب، ثم إنكم مدعوون ومفدمة أفواهكم بالفدام....
(المسند 5/4) ، وأخرجه عبد الرزاق في (مصنفه 11/130) ، والطبراني في (الكبير 19/407) ، وابن عبد البر في (الإستيعاب 1/323) - هامش الإصابة - من طرق عن بهز به وصححه ابن عبد البر.
وأصله في (سنن النسائي 5/4-5) ، وحسنه الألباني في (صحيح النسائي 2/511 و542) .
انظر حديث البخاري عن عبد الله بن عمر الآتي عند الآية (6) من سورة التحريم.
قوله تعالى (فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين) بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه يقص على عباده يوم القيامة ما كانوا يعملونه في الدنيا، وأخبرهم بأنه جل وعلا لم يكن غائباً عما فعلوه أيام فعلهم له في دار الدنيا، بل هو الرقيب الشهيد على جميع الخلق، المحيط علمه بكل ما فعلوه من صغير وكبير، وجليل وحقير، وبين هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم) وقوله (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم) وقوله (وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرأن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب) .
انظر حديث البخاري عن عدي بن حاتم المقدم عند الآية (131) من سورة آل عمران.
قال ابن كثير: (وما كنا غائبين) يعني: أنه تعالى يخبر عباده يوم القيامة بما قالوا وبما عملوا، من قليل وكثير، وجليل وحقير، لأنه تعالى شهيد على كل شيء، لا يغيب عنه شيء، ولا يغفل عن شيء، بل هو العالم بخائنة الأعين وما تخفي الصدور، (وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) .(2/300)
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)
قوله تعالى (والوزن يومئذ الحق ... )
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (والوزن يومئذ الحق) بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن وزنه للأعمال يوم القيامة حق أي لا جور فيه، ولا ظلم، فلا يزاد في سيئات مسيء، ولا ينقص من حسنات محسن.
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر كقوله (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل آتينا بها وكفى بنا حاسبين)
وقوله (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها) الآية إلى غير ذلك من الآيات.
قال ابن ماجة: حدثنا محمد بن يحيى، ثنا ابن أبي مريم، ثنا الليث، حدثني عامر بن يحيى، عن أبي عبد الرحمن الحبلى؛ قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يُصاح برجل من أمتي، يوم القيامة، على رءوس الخلائق. فيُنشر له تسعة وتسعون سجلا. كل سجل مدّ البصر. ثم يقول الله عز وجل: هل تُنكر من هذا شيئاً؟ فيقول: لا. يارب! فيقول: أظلمتك كتبتي الحافظون؟ ثم يقول: ألك عن ذلك حسنة؟ فيُهاب الرجل، فيقول: لا.
فيقول: بلى. إن لك عندنا حسنات. وإنه لا ظلم عليك اليوم. فتخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، قال، فيقول: يارب!
ما هذه البطاقة مع هذه السجلات! فيقول: إنك لا تظلم. فتوضع السجلات في كِفّة والبطاقة في كِفّة. فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة".
قال محمد بن يحيى: البطاقة الرقعة. وأهل مصر يقولون للرقعة: بطاقة.
(سنن ابن ماجة 2/1437 ح 4300 - ك الزهد، ب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة) ، وأخرجه الترمذي من طريق ابن المبارك عن الليث (السنن - ك الإيمان - ب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله) . وقال: حسن غريب. ونقل الحافظ ابن كثير التصحيح في كتاب التفسير، وأخرجه أحمد من طريق ابن المبارك نحوه (المسند ح 6994) قال محققه: إسناده صحيح، وأخرجه الحاكم من طريق يحيى بن عبد الله بن بكير عن الليث نحوه وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. (المستدرك 1/529) ، ذكره السيوطي في الدر المنثور (3/420) ، وصححه الألباني في (صحيح من الترمذي ح 2127) .(2/301)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي قوله: (والوزن يومئذ الحق) توزن الأعمال.
قوله تعالى ( ... فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون. ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون)
قال الشيخ الشنقيطى: قوله تعالى (فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون) .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أن من ثقلت موازينهم أفلحوا، ومن خفت موازينهم خسروا بسبب ظلمهم، ولم يفصل الفلاح والخسران هنا. وقد جاء في بعض المواضع ما يدل على أن المراد بالفلاح هنا كونه في عيشة راضية في الجنة، وأن المراد بالخسران هنا كونه في الهاوية في النار، وذلك في قوله (فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية وما أدراك ماهيه نار حامية) . وبين أيضاً خسران من خفت موازينه بقوله (ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون) إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى (ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وجعلنا لكم فيها معايش) الآية. لم يبين هنا كيفية هذه المعايش التي جعل لنا في الأرض، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر كقوله (فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق غلباً وفاكهة وأباً متاعاً لكم ولأنعامكم) . وقوله (أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون) وقوله (وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك الآيات لأولي النهى) . وذكر كثيراً من ذلك في سورة النحل كقوله (والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون) إلى غير ذلك من الآيات.(2/302)
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)
قوله تعالى (ولقد خلقناكم ثم صورناكم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم) قوله (خلقناكم) يعني آدم، وأما (صورناكم) فذريته.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد قول الله (ولقد خلقناكم) قال: آدم (ثم صورناكم) قال: في ظهر آدم عليه السلام.
قوله تعالى (ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) قال بعض العلماء، معناه: ما منعك أن تسجد، و (لا) صلة، ويشهد لهذا قوله تعالى في سورة "ص" (قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى) الآية.
قوله تعالى (قال أنا خير منه خلقت من نار وخلقته من طين)
قال الشيخ الشنقيطى: قوله تعالى (قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) ذكر في هذه الآية الكريمة: أن إبليس -لعنه الله- خلق من نار، وعلى القول بأن إبليس هو الجان الذي هو أبو الجن. فقد زاد في مواضع أخر أوصافاً للنار التي خلقه منها. من ذلك أنها نار السموم. كما في قوله (والجان خلقناه من قبل من نار السموم) ، ومن ذلك أنها خصوص المارج. كما في قوله (وخلق الجان من مارج من نار) والمارج أخص من مطلق النار لأنه اللهب الذي لا دخان فيه.
انظر مسلم عن عائشة الآتي عند الآية (27) من سورة الحجر.
قوله تعالى (قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين)
قال الشيخ الشنقيطى: قوله تعالى (قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فأخرج إنك من الصاغرين) . بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه عامل إبليس اللعين بنقيض قصده حيث كان قصده التعاظم والتكبر، فأخرجه الله صاغراً حقيراً(2/303)
قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)
ذليلاً، متصفاً بنقيض ما كان يحاوله من العلو والعظمة، وذلك في قوله (إنك من الصاغرين) والصغار: أشد الذل والهوان، وقوله (اخرج منها مذموماً مدحوراً) ونحو ذلك من الآيات. ويفهم من الآية أن المتكبر لا ينال ما أراد من العظمة والرفعة، وإنما يحصل له نقيض ذلك؛ وصرح تعالى بهذا المعنى في قوله (إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه) . وبين في مواضع أخر كثير من العواقب السيئة التي تنشأ عن الكبر -أعاذنا الله والمسلمين منه- فمن ذلك أنه سبب لصرف صاحبه عن فهم آيات الله، والاهتداء بها كما في قوله تعالى (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق) الآية. ومن ذلك أنه من أسباب الثواء في النار كما في قوله تعالى (أليس في جهنم مثوى للمتكبرين) وقوله (ذلك بأنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون) ومن ذلك أن صاحبه لا يحبه الله تعالى كما في قوله (لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (فأخرج إنك من الصاغرين) و (الصغار) هو الذل.
قوله تعالى (قال أنظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين)
قال الشيخ الشنقيطى: قوله تعالى (قال أنظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين) . لم يبين هنا في سورة الأعراف الغاية التي أنظره إليها، وقد ذكرها في "الحجر" و"ص" مبيناً أن غاية ذلك الإنظار هو يوم الوقت المعلوم. لقوله في سورة "الحجر" و"ص" (إنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم) فقد طلب الشيطان الإنظار إلى يوم البعث، وقد أعطاه الله الإنظار إلى يوم الوقت المعلوم.
وأكثر العلماء يقولون: المراد به وقت النفخة الأولى - والعلم عند الله تعالى.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: فلم ينظره إلى يوم البعث، ولكن أنظره إلى يوم الوقت المعلوم، وهو يوم ينفخ في الصور النفخة الأولى، فصعق من في السماوات ومن في الأرض، فمات.(2/304)
قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)
قوله تعالى (قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم)
قال النسائي: أخبرني إبراهيم بن يعقوب قال: حدثنا أبو النضر هاشم بن القاسم قال: حدثنا أبو عقيل عبد الله بن عقيل قال: حدثنا موسى بن المسيب، عن سالم بن أبي الجعد، عن سبرة بن أبي فاكه قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرُقه فقعد له بطريق الإسلام فقال: تسلم وتذر دينك ودين أبائك وآباء أبيك؟ فعصاه فأسلم ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: تهاجر وتدع أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول، فعصاه فهاجر ثم قعد له بطريق الجهاد فقال: تُجاهد فهو جهد النفس والمال فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويُقسم المال، فعصاه فجاهد فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فمن فعل ذلك كان حقا على الله عز وجل أن يُدخله الجنة. ومن قتل كان حقاً على الله عز وجل أن يدخله الجنة وإن غرق كان حقاً على الله أن يدخله الجنة أو وقصته دابته كان حقا على الله أن يدخله الجنة".
(السنن 6/21-22 - ك الجهاد، ب ما لمن أسلم وهاجر وجاهد) ، وأخرجه أحمد (3/483) ، والطبراني (6558) ، وابن حبان في صحيحه (الإحسان 10/453، 454 ح 4593) من طرق عن موسى بن المسيب به، ووقع عند أحمد: موسى بن المثنى، وقال محقق الإحسان: إسناده قوي. وصححه الألباني (صحيح سنن النسائي ح 2937) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (فبما أغوتينى) يقول أضللتنى.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (صراطك المستقيم) قال: الحق.
قوله تعالى (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ثم لآتينهم من بين أيديهم) يعنى الدنيا (ومن خلفهم) من الآخرة (وعن أيمانهم) من قبل حسناتهم (وعن شمائلهم) من قبل سيئاتهم.(2/305)
ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ثم لآتينهم من بين أيديهم) الآية، أتاهم من بين أيديهم فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة ولا نار (ومن خلفهم) من أمر الدنيا فزينها لهم ودعاهم إليها (وعن أيمانهم) من قبل حسناتهم بطأهم عنها (وعن شمائلهم) زين لهم السيئات والمعاصى، ودعاهم إليها، وأمرهم بها. أتاك يا ابن آدم من كل وجه، غير أنه لم يأتك من فوقك، لم يستطيع أن يحول بينك وبين رحمة الله!.
قوله تعالى (ولا تجد أكثرهم شاكرين)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ولا تجد أكثرهم شاكرين) هذا الذي ذكر إبليس أنه سيوقع بني آدم فيه قاله ظناً منه أنهم سيطيعونه فيما يدعوهم إليه حتى يهلكهم. وقد بين تعالى في سورة "سبأ" أن ظنه هذا صدق فيهم بقوله (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه) الآية. كما تقدمت الإشارة إليه.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ولا تجد أكثرهم شاكرين) يقول: موحدين.
قوله تعالى (قال اخرج منها مذءوماً مدحوراً لمن تَبِعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (قال اخرج منها مذءوماً مدحوراً لمن تَبِعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين) . بين في هذه الآية الكريمة أنه قال لإبليس: اخرج منها في حال كونك مذءوماً مدحوراً. والمذءوم: المعيب أو الممقوت، والمدحور: المبعد عن الرحمة، المطرود، وأنه أوعده بملء جهنم منه، وممن تبعه.
وأوضح هذا المعنى في آيات أخر كقوله تعالى (قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) وقوله (قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورَجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) وقوله (فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون) إلى غير ذلك من الآيات.(2/306)
قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (مذءوماً) قال: منفياً (مدحوراً) قال: مطروداً.
قوله تعالى (ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) إلى قوله ( ... وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين)
انظر سورة البقرة آية (35-36) .
قوله تعالى (وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين) فحلف لهما بالله حتى خدعهما، وقد يخدع المؤمن بالله، فقال: إني خلقت قبلكما، وأنا أعلم منكما، فاتبعاني أرشدكما. وكان بعض أهل العلم يقول: من خادعنا بالله خدعنا.
قوله تعالى (بدت لهما سوآتهما)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (بدت لهما سوآتهما) قال: كانا لا يريان سوآتهما. فقال آدم عليه السلام: يارب، أرأيت إن تبت فاستغفرت؟ قال إذاً أدخلك الجنة. وأما إبليس فلم يستغفر، وإنما سأل النظرة، فأعطى كل واحد منهما الذي سأل.
قوله تعالى (وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (يخصفان) قال: يرقعان، كهيئة الثوب.
قوله تعالى (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين)
ولقد تاب الله على آدم وحواء كما في قوله تعالى ( ... فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم) سورة البقرة آية (37) .(2/307)
قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)
قوله تعالى (قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر)
أخرج ابن أبي حاتم والطبري بسنديهما الجيد عن أبي العالية في قوله: (ولكم في الأرض مستقر) قال: هو قوله (الذي جعل لكم الأرض فراشا) سورة البقرة آية (22) .
قوله تعالى (قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون)
قال ابن كثير: كقوله تعالى (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) طه آية: 55. يخبر تعالى أنه يجعل الأرض داراً لبني آدم مدة الحياة الدنيا، فيها محياهم وفيها مماتهم وقبورهم، ومنها نشورهم ليوم القيامة الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين، ويجازي كلا بعمله.
قوله تعالى (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشاً ولباس التقوى)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (لباسا يواري سوآتكم) قال: كان ناس من العرب يطوفون بالبيت عراة، ولا يلبس أحدهم ثوبا طاف فيه.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وريشاً) يقول: مالا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (ولباس التقوى) هو الإيمان.
قوله تعالى (يابني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة) . حذر تعالى في هذه الآية الكريمة بني آدم أن يفتنهم الشيطان كما فتن أبويهم، وصرح في موضع آخر. أنه حذر آدم من مكر إبليس قبل أن(2/308)
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)
يقع فيما وقع فيه، ولم ينجه ذلك التحذير من عدوه وهو قوله تعالى (فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) .
أخرج آدم بن بي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (إنه يراكم هو وقبيله) قال: قبيله الجن والشياطين.
قوله تعالى (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله مالا تعلمون)
قال الشيخ الشنقيطى: قوله تعالى (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا) الآية. ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: إن الكفار إذا فعلوا فاحشة، استدلوا على أنها حق وصواب، بأنهم وجدوا آباءهم يفعلونها، وأنهم ما فعلوها، إلا لأنها صواب ورشد. وبين في موضع آخر: أن هذا واقع من جميع الأمم، وهو قوله تعالى (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على أثارهم مقتدون) . ورد الله عليهم هذا التقليد الأعمى في آيات كثيرة، كقوله (أو لو كان أباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون) وقوله (أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون) وقوله (قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم) وقوله (إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون) إلى غير ذلك من الآيات.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها) قال: كان قبيلة من العرب من أهل اليمن يطوفون بالبيت عراة، فإذا قيل لم تفعلون ذلك؟ قالوا: (وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها) .
قوله تعالى (قل أمر ربي بالقسط)
أي بالعدل، كما تقدم في سورة آل عمران آية (18) .
قوله تعالى (وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله تعالى (وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد) يقول: اجعلوا وجوهكم عند كل مسجد إلى الكعبة حيث ماصليتم.(2/309)
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
قوله تعالى (كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة)
قال البخاري: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، أخبرنا المغيرة بن النعمان قال: سمعت سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "يا أيها الناس، إنكم محشورون إلى الله حفاة عُراة غرلاً". ثم قال: (كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين) إلى آخر الآية.
ثم قال: ألا وإن أول الخلائق يُكسى يوم القيامة إبراهيم. ألا وإنه يُجاءُ برجال من أمتى فيُؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب أصيحابى، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول كما قال العبد الصالح (وكنتُ عليهم شهيداً ما دُمتُ فيهم. فلما توفيتني كنتَ أنتَ الرقيب عليهم) فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم".
(الصحيح 8/135 ح 4625 - ك التفسير، ب (وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم ... ) ، وأخرجه مسلم (الصحيح 4/2194 - ك الجنة، ب فناء الدنيا ... ) .
قال مسلم: حدثنا قتيبة بن سعيد وعثمان بن أبي شيبة قالا: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "يُبعث كل عبدٍ على ما مات عليه".
(الصحيح 4/2206 ح 2878 - ك الجنة وصفة نعيمها وأهلها، ب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة) قال: إن الله سبحانه بدأ خلق ابن آدم مؤمنا وكافرا، كما قال جل ثناؤه: (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن) - سورة التغابن:2 - ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم، مؤمنا وكافرا.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (كما بدأكم تعودون) يحييكم بعد موتكم.(2/310)
فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
قوله تعالى (إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون) . بين تعالى في هذه الآية الكريمة، أن الكفار اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله، ومن تلك الموالاة طاعتهم لهم فيما يخالف ما شرعه الله تعالى، ومع ذلك يظنون أنفسهم علي هدى. وبين في موضع آخر: أن من كان كذلك فهو أخسر الناس عملاً، والعياذ بالله تعالى، وهو قوله تعالى جل وعلا (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً)
قوله تعالى (يا بنى آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد)
قال مسلم: حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار وإبراهيم بن دينار، جميعاً عن يحيى بن حماد. قال ابن المثنى: حدثى يحيى بن حماد، أخبرنا شعبة، عن أبان ابن تغلب، عن فُضيل الفقيمي، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة، عن عبد الله ابن مسعود، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كبرٍ". قال رجل: "إن الرجل يُحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة. قال: "إن الله جميل يحب الجمال. الكِبر بطر الحق وغَمْط الناس".
(الصحيح 1/93 ح 147 - ك الإيمان، ب تحريم الكبر وبيانه) .
قال مسلم: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، ح وحدثني أبو بكر بن نافع (واللفظ له) حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة، فتقول: من يُعيرنى تطوافاً؟ تجعله على فرجها. وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله ... فما بدا منه فلا أحله
فنزلت هذه الآية: (خذوا زينتكم عند كل مسجد)
(الصحيح 4/2320 ح 3028 - ك التفسير، في قوله تعالى الآية) .(2/311)
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (يابنى آدم خذوا زينتكم عن كل مسجد) قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة، فأمرهم الله أن يلبسوا ثيابهم ولا يتعروا.
قوله تعالى ( ... وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين)
قال الترمذي: حدثنا سويد بن نصر، أخبرنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا إسماعيل بن عيّاش، حدثني أبو سلمة الحِمصي وحبيب بن صالح، عن يحيى بن جابر الطائي، عن مقدام بن معدي كرب قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "ما ملأ آدمي وِعاء شراً من بطنٍ، بحسب ابن آدم أكلات يُقِمْنَ صُلبه، فإن كان لا محالة فثلثْ لطعامه وثلث لشرابه وثلُث لنفسه".
حدثنا الحسن بن عرفة. حدثنا إسماعيل بن عياش نحوه. وقال المقدام بن معدي كرب عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يذكر فيه سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(السنن 4/590 ح 2380 - ك الزهد، ب ما جاء في كراهية كثرة الأكل) ، وأخرجه ابن ماجة (السنن 12/1111 ح 3349 - ك الأطعمة، ب الإقتصاد في الأكل وكراهة الشبع) من طريق جدة محمد بن حرب لأمه عن المقدام به. وأحمد (المسند 4/132) من طريق سليمان بن سليم. وابن حبان في صحيحه (الإحسان 2/449) من طريق معاوية بن صالح. والحاكم في (المستدرك 4/331) من طريق سليمان بن سليم كذلك كلهم عن يحيى بن جابر عن المقدام به. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال الألباني: صحيح (صحيح الترمذي ح 1939) .
وانظر سورة الأنعام آية (141) ، وانظر سورة الإسراء آية (26) .
قوله تعالى (قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق)
قال البخاري: حدثنا إسماعيل، قال: حدثني مالك، عن نافع وعبد الله بن دينار وزيد بن أسلم يُخبرونه، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله قال: "لا ينظر الله إلى من جرَّ ثوبه خيلاء".
(الصحيح 10/264 ح 5783 - ك اللباس، ب قول الله تعالى (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده)) ، أخرجه مسلم في (صحيحه - ك اللباس ح 2085، ب تحريم جر الثوب) .(2/312)
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)
أخرج الطبري: بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) قال: إن الجاهلية كانوا يحرمون أشياء أحلها الله من الثياب وغيرها، وهو قول الله (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً) (سورة يونس: 59) وهو هذا، فأنزل الله: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق) هو ما حرم أهل الجاهلية عليهم من أموالهم: البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام.
وانظر سورة المائدة آية (103) ففيها بيان هذه التي حرمها أهل الجاهلية.
قوله تعالى (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) يقول: شارك المسلمون الكفار في الطيبات، فأكلوا من طيبات طعامها، ولبسوا من خيار ثيابها، ونكحوا من صالح نسائها، وخلصوا بها يوم القيامة.
قوله تعالى (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق)
قال البخاري: حدثنا عمر بن حفص، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من أحد أغير من الله، من أجل ذلك حَرَّمَ الفواحش، وما أحد أحب إليه المدح من الله".
(الصحيح 9/230 ح 5220 - ك النكاح، ب الغيرة) ، وأخرجه مسلم (ك التوبة ح 2760، ب غيرة الله تعالى وتحريم الفواحش) .(2/313)
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)
وانظر حديث المغيرة بن شعبه المتقدم عند الآية رقم (165) من سورة النساء "أتعجبون من غيرة سعد ... ".
انظر حديث مسلم عن النواس بن سمعان المتقدم عند الآية (2) من سورة المائدة، وهو حديث: "البر حسن الخلق".
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (والإثم والبغي) أما (الإثم) فالمعصية و (البغي) أن يبغي على الناس بغير الحق.
قوله تعالى (وأن تقولوا على الله مالا تعلمون)
انظر سورة الإسراء آية (36)
قوله تعالى (ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)
انظر قول الشيخ الشنقيطي في سورة يونس آية (49) .
قوله تعالى (يا بني آدم إما يآتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتى فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)
انظر سورة يس آية (60-61) .
قوله تعالى (فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) قال: ما كتب لهم من العذاب.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) قال: ينالهم نصيبهم في الآخرة بأعمالهم التي عملوا وسلفوا في الدنيا.(2/314)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38)
قوله تعالى (حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين)
انظر سورة النساء آية (97) وسورة الأنفال آية (50) .
قوله تعالى (قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والأنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (كلما دخلت أمة لعنت أختها) يقول: كلما دخل أهل ملة لعنوا أصحابهم على ذلك الذين، يلعن المشركون المشركين، واليهود اليهود، والنصارى النصارى، والصائبون الصائبين، والمجوس المجوس، تلعن الآخرة الأولى.
قوله تعالى (حتى إذا إذا اداركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار قال لكلٍ ضعف ولكن لا تعلمون)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (حتى إذا اداركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار) . لم يبين هنا السبب الذي مكنهم من إضلالهم، ولكنه بين في موضع آخر: أن السبب الذي مكنهم من ذلك هو كونهم سادتهم وكبرائهم، ومعلوم أن الأتباع يطيعون السادة الكبراء فيما يأمرونهم به، وهو قوله تعالى (وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب) الآية. وبسط ذلك في "سورة سبأ" بقوله (ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً) .(2/315)
قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (قالت أخراهم) الذين كانوا في أخر الزمان (لأولاهم) الذين شرعوا لهم ذلك الدين (ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار) .
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (فآتهم عذاباً ضعفاً من النار) . بين تعالى في هذه الآية الكريمة وأمثالها من الآيات: أن الأتباع يسألون الله يوم القيامة أن يضاعف العذاب للمتبوعين، وبين في مواضع أخر: أن مضاعفة العذاب للمتبوعين لا تنفع الأتباع، ولا تخفف عنهم من العذاب، كقوله (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون) ، وقوله هنا (قال لكل ضعف) الآية، وقوله (وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون) ، وقوله (قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (عذاباً ضعفاً من النار قال لكل ضعف) مضعّف.
قوله تعالى (وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (فما كان لكم علينا من فضل) قال: من التخفيف من العذاب.
قوله تعالى (إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء)
قال الطبري: حدثنا أبو كريب، قال حدثنا أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن المنهال عن زاذان عن البراء أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر قبض روح الفاجر وأنه يصعد بها إلى السماء، قال: فيصعدون بها، فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان، بأقبح أسمائه التى كان يدعى بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء، فيستفتحون له، فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط) .(2/316)
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)
(التفسير 12/424 ح 14614) ، وأخرجه أيضاً أحمد في مسنده (4/287-288) عن أبي معاوية عن الأعمش يإسناده ضمن حديث مطول. وأصل الحديث عند النسائي في (المجتبى 4/78) ، وابن ماجه في (سننه ح 1549) ، والحاكم في (المستدرك 1/37-40) من طرق عن الأعمش بإسناده بدون موضع الشاهد. وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وقال البيهقي: هذا حديث صحيح الإسناد (شعب الإيمان 2/316) ، وصححه أيضاً القرطبي وابن القيم والألباني وغيرهم، وحسنه ابن تيمية (انظر رسالة صحة حديث البراء بن عازب ... للدكتور عاصم القريوتي) .
قال ابن ماجة: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا شبابة، عن ابن أبي ذئب، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل صالحاً، قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة! كانت في الجسد الطيب. اخرجي حميدة، وأبشري برَوح وريحان ورب غير غضبان. فلا يزال يقال لها، حتى تخرج. ثم يُعرج بها إلى السماء. فيُفتح لها. فيقال: من هذا؟ فيقولون فلان. فيُقال: مرحباً بالنفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب، ادخلي حميدة. وأبشرى برَوح وريحان ورب غير غضبان. فلا يزال يقال لها ذلك حتى يُنتهى بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل. وإذا كان الرجل السوء قال: اخرُجي أيتها النفس الخبيثة!
كانت في الجسد الخبيث. اخرجي ذميمة، وأبشري بحميم وغسّاق. وآخر من شكله أزواج. فلا يزال يُقال لها ذلك حتى تخرج. ثم يُعرج بها إلى السماء. فلا يُفتح لها. فيُقال: من هذا؟ فيُقال: فلان. فيقال: لا مرحباً بالنفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث. ارجعي ذميمة. فإنها لا تُفتح لك أبواب السماء. فيُرسل بها من السماء، ثم تصير إلى القبر".
(السنن ح 4262 - الزهد، ب ذكر الموت والإستعداد له) ، قال البويصيري: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، رواه النسائي في (التفسير ح 462) عن عمرو بن سواد وفى الملائكة عن سليمان بن داود كلاهما عن ابن وهب عن ابن أبى ذئب به (مصباح الزجاجة 2/349) ، قال الألباني: صحيح.
(صحيح ابن ماجة 2/420) ، وأخرجه أحمد (2/364-365 و6/140) والطبري (12/424-425 و425 ح 14615 و 14616) من طريق: عثمان بن عبد الرحمن الثقفي عن ابن أبي ذئب به.
قال الشيخ أحمد شاكر: وهذا خبر صحيح. وأخرجه الحاكم مختصراً من طريق البراء وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 1/37-40، وصححه الألباني في (صحيح ابن ماجه ح 1259) .(2/317)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء) يعنى: لا يصعد إلى الله من عملهم شيء.
قوله تعالى (ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (حتى يلج الجمل في سم الخياط) والجمل ذو القوائم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (في سم الخياط) يقول: جحر الإبرة.
قوله تعالى (لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش) أما (المهاد) كهيئة الفراش و (الغواشي) ، تتغشاهم من فوقهم.
قوله تعالى (لا نكلف نفساً إلا وسعها)
انظر آخر سورة البقرة.
قوله تعالى (ونزعنا ما في صدوره من غل ... )
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه جل وعلا، ينزع ما في صدور أهل الجنة من الحقد والحسد الذي كان في الدنيا، وأنهم تجري من تحتهم الأنهار في الجنة. وذكر في موضع آخر أن نزع الغل من صدورهم يقع في حال كونهم إخواناً على سرر متقابلين آمنين من النصب، والخروج من الجنة.
وهو قوله تعالى في "الحجر" (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين) .
انظر حديث البخاري عن أبي سعيد الآتي عند الآية (47) من سورة الحجر.(2/318)
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
قوله تعالى (وقالوا الحمد له الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله)
قال الطبري: حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، قال: حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كل أهل النار يرى منزله من الجنة، فيقولون: لو هدانا الله، فتكون عليهم حسرة. وكل أهل الجنة يرى منزله من النار، فيقولون: لولا أن هدانا الله. فهذا شكرهم".
(التفسير 12/440 ح 14665) ، وعزاه السيوطي في (الدر 3/85) لابن مردويه وابن أبى الدنيا وغيرهما. وعزاه الهيثمي لأحمد من طريقين وقال: ورجال الرواية الأولى رجال الصحيح (مجمع الزوائد 10/399) ، وأخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 2/435-436) ، وحسنه الألباني في (صحيح الجامع ح 4514) .
قوله تعالى (ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون)
قال الطبري: حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا شريك ابن عبد الله، عن أبى إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قوله (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً) حتى إذا انتهوا إلى بابها، إذا هم بشجرة يخرج من أصلها عينان، فعمدوا إلى إحداهما، فشربوا منها كأنما أمروا بها، فخرج ما في بطونهم من قذر أو أذى أو قذى، ثم عمدوا إلى الأخرى، فتوضئوا منها كأنما أمروا به، فجرت عليهم نضرة النعيم، فلن تشعث رءوسهم بعدها أبداً ولن تبلى ثيابهم بعدها، ثم دخلوا الجنة، فتلقتهم الولدان كأنهم اللؤلؤ المكنون، فيقولون: أبشر، أعد الله لك كذا، وأعد لك كذا وكذا، ثم ينظر إلى تأسيس بنيانه جندل اللؤلؤ الأحمر والأصفر والأخضر، يتلألأ كأنه البرق، فلولا أن الله قضى أن لا يذهب بصره لذهب، ثم يأتي بعضهم إلى بعض أزواجه، فيقول: أبشري قد قدم فلان بن فلان، فيسميه باسمه واسم أبيه، فتقول: أنت رأيته، أنت رأيته! فيستخفها الفرح حتى تقوم، فتجلس على أسكفة بابها، فيدخل فيتكئ على سريره، ويقرأ هذه الآية: (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) ... الآية.(2/319)
(التفسير 24/35) ، وأخرجه ابن المبارك في (الزهد ص 508-509 ح 1450) وعبد الرزاق في (التفسير - سورة الزمر) والضياء المقدسي (المختارة 2/160 ح 541) من طريق حمزة الزيات عن أبي إسحاق به. وقال محقق المختارة: إسناده صحيح. وأورده الحافظ ابن حجر في المطالب العالية المسندة (ل 198 أ-ب، رواية إسحاق في مسنده من طرق عن أبي إسحاق به، ثم قال: هذا حديث صحيح وحكمه حكم الرفع إذ لا مجال للرأي في هذه الأمور) .
قال مسلم: حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد (واللفظ لإسحاق) .
قالا: أخبرنا عبد الرزاق. قال: قال الثوري: فحدثني أبو إسحاق؛ أن الأغر حدثه عن أبي سعيد الخدري وأبى هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يُنادي مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تبْأسوا أبداً" فذلك قوله عز وجل: (ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون) .
(الصحيح 4/2182 ح 2837 - ك الجنة وصفة نعيمها وأهلها، ب في دوام نعيم أهل الجنة ... ) .
قوله تعالى (ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا قالوا نعم) قال: وجد أهل الجنة ما وعدوا من الثواب، وأهل النار ما وعدوا من عقاب.
قوله تعالى (فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين)
انظر سورة البقرة آية (158) .
قوله تعالى (الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً وهم بالآخرة كافرون)
انظر آية (86) من السورة نفسها.(2/320)
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
قوله تعالى (وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلاً بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يَطمعون)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وبينهما حجاب) ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن بين أهل الجنة، وأهل النار حجاباً يوم القيامة، ولم يبين هذا الحجاب هنا، ولكنه بينه في سورة الحديد بقوله (فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب) الآية.
وانظر حديث ابن عمر في سورة الروم آية (52) وفيه: وقف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على قليب بدر فقال: "هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً".
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (وبينهما حجاب) وهو "السور" وهو "الأعراف".
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (الأعراف) سور بين الجنة والنار.
قال الطبري بعد أن ساق أقوالا: والصواب من القول في أصحاب الأعراف أن يقال كما قال الله جل ثناؤه فيهم: هم رجال يعرفون كلا من أهل الجنة وأهل النار بسيماهم.
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن أصحاب الأعراف، يعرفون كلا من أهل الجنة، وأهل النار بسيماهم، ولم يبين هنا سيما أهل الجنة، ولا أهل النار، ولكنه أشار لذلك في مواضع أخر، كقوله (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) الآية. فبياض الوجوه وحسنها؛ سيما أهل الحسنة وسوادها وقبحها، وزرقة العيون، سيما أهل النار، كما قال أيضاً في سيما أهل الجنة (تعرف في وجوههم نضرة النعيم) وقال (وجوه يومئذ ناضرة) الآية، وقال في سيما أهل النار (كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً) الآية، قال (ووجوه يومئذ عليها غبرة) الآية، وقال (ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً) .(2/321)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم) قال يعرفون أهل النار بسواد الوجوه، وأهل الجنة ببياض الوجوه.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي قال: أهل الأعراف يعرفون الناس فإذا مروا عليهم بزمرة يذهب بها إلى الجنة قالوا (سلام عليكم) يقول الله لأهل الأعراف: (لم يدخلوها وهم يطمعون) أن يدخلوها.
قوله تعالى (وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي قال: وإذا مروا بهم يعني بأصحاب الأعراف بزمرة يذهب بها إلى النار، قالوا (ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين) .
قوله تعالى (ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (أصحاب الأعراف) رجال كانت لهم ذنوب عظام وكان حسم أمرهم لله، يقومون على الأعراف، فإذا نظروا إلى أهل الجنة طمعوا أن يدخلوها، وإذا نظروا إلى أهل النار تعوذوا بالله منها، فأدخلوا الجنة. فذلك قوله تعالى (أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة) يعني أصحاب الأعراف (ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون) .
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن أصحاب الأعراف قالوا لرجال من أهل النار: يعرفونهم بسيماهم لم ينفعكم ما كنتم تجمعونه في الدنيا من المال، ولا كثرة جماعتكم وأنصاركم، ولا استكباركم في الدنيا.(2/322)
أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)
وبين في مواضع أخر وجه ذلك: وهو أن الإنسان يوم القيامة، يحشر فرداً، لا مال معه، ولا ناصر، ولا خادم، ولا خول. وأن استكباره في الدنيا يجزي به عذاب الهون في الآخرة، كقوله (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم) .
قوله تعالى (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله) قال: من الطعام.
قوله تعالى ( ... إن الله حرمهما على الكافرين)
انظر حديث أبي هريرة في تفسير سورة الشعراء آية (87) وفيه: "فيقول الله إني حرمت الجنة على الكافرين".
قوله تعالى (الذين اتخذوا دينهم لهو ولعبا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: (الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا) الآية قال: وذلك أنهم كانوا إذا دعوا إلى الإيمان سخروا ممن دعاهم إليه وهزأوا به اغترارا بالله.
وفي هذه الآية بيان لفريق المنافقين.
قوله تعالى (فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون)
قال مسلم: حدثنا محمد بن أبي عمر حدثنا سفيان عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فذكر حديث الرؤية إلى أن قال: قال: فيلقى العبد فيقول: أي فل، ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى، قال فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا. فيقول فإني أنساك كما نسيتني. ثم يلقى الثاني فيقول: أي فل ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى. أي رب! فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا. فيقول: فإني أنساك كما نسيتني ... الحديث.
(الصحيح 4/2279-2280 ح 2968 - ك الزهد والرقائق) . ومعني أي فل: أي فلان.(2/323)
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا) قال: نتركهم من الرحمة كما تركوا أن يعملوا للقاء يومهم هذا.
قوله تعالى (ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون)
قال ابن كثير: يقول تعالى مخبراً عن إعذاره إلى المشركين بإرسال الرسول إليهم بالكتاب الذي جاء به الرسول، وأنه كتاب مفصل مبين، كما قال تعالى (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت) الآية. وقوله (فصلناه على علم) أي: على علم منا بما فصلناه به، كما قال تعالى (أنزله بعلمه) .
قوله تعالى (هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله) قال: (تأويله) عاقبته.
قوله تعالى (يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (يقول الذين نسوه) قال: أعرضوا عنه.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي قول (قد خسروا أنفسهم) يقول: شروها بخسران.(2/324)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
قوله تعالى (إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام) لم يفصل هنا ذلك، ولكنه فصله في سورة "فصلت" بقوله: (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا آتينا طائعين فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها) .
وانظر حديث خلق السموات والأرض في تفسير سورة البقرة آية (29) .
قوله تعالى (يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا) يقول: سريعاً.
قوله تعالى (ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين)
انظر حديث ابن ماجة عن النعمان بن بشير الآتي عند الآية (60) من سورة غافر.
وانظر حديث أبي موسى الأشعري في تفسير سورة البقرة آية (186) . ولفظه: كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة فجعلنا لا نصعد شرفاً ولا نعلو شرفاً ولا نهبط وادياً إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير فقال: "يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً ... ".
قوله تعالى (إن رحمت الله قريب من المحسنين)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (إن رحمت الله قريب من المحسنين) ذكر في هذه الآية الكريمة: أن رحمته جل وعلا قريب من عباده المحسنين، وأوضح في موضع آخر صفات عبيده الذين سيكتبها لهم في قوله (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة) الآية.(2/325)
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)
قوله تعالى (وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً سقناه لبلدٍ ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته) على قراءة عاصم بشراً بضم الباء الموحدة، وإسكان الشين: بشير.
لأنها تنتشر أمام المطر مبشرة به، وهذا المعنى يوضحه قوله تعالى (ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات) الآية، وقوله (بين يدي رحمته) ، يعني برحمته المطر كما جاء مبيناً في غير هذا الموضع كقوله (وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته) الآية، وقوله (فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته) إلى قوله (لعلكم تذكرون) قال: إن الله يرسل الريح فتأتي بالسحاب من بين الخافقين طرف السماء والأرض من حيث يلتقيان فيخرجه من ثمّ، ثم ينشره فيبسطه في السماء كيف يشاء، ثم يفتح أبواب السماء، فيسيل الماء على السحاب، ثم يمطر السحاب بعد ذلك. وأما (رحمته) فهو المطر.
قوله تعالى (كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي قوله: (كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون) وكذلك تخرجون، وكذلك النشور، كما نخرج الزرع بالماء.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قول الله: (كذلك نخرج الموتى) قال: إذا أراد الله أن يخرج الموتى، أمطر السماء حتى تشقق عنهم الأرض، ثم يرسل الأرواح، فتعود كل روح إلى جسدها، كذلك يحيي الله الموتى بالمطر كإحيائه الأرض.(2/326)
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)
قوله تعالى (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبيث لا يخرج إلا نكدا كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لايخرج إلا نكدا) فهذا مثل ضربه الله للمؤمنين. يقول: هو طيب وعمله طيب، كما البلد الطيب ثمره طيب. ثم ضرب مثل الكافر كالبلدة السبخة المالحة التي يخرج منها النَّزُّ، فالكافر هو الخبيث، وعمله خبيث.
قوله تعالى (لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون)
انظر تفاصل قصة نوح وقومه وابنه في سورة هود آية (25-41) ، وسورة المؤمنون آية (23-30) ، وسورة الشعراء آية (105-122) ، وسورة نوح آية (1-28) .
قال مسلم: حدثنا أبو كامل فضيل بن حسين الجحدري، ومحمد بن عبيد الغُبري -واللفظ لأبي كامل- قالا: حدثنا أبو عوانة عن قتادة، عن أنس بن مالك؛ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ... فذكر حديث الشفاعة الطويل وفيه: "ولكن أئتوا نوحاً. أول رسول بعثه الله ... ".
(الصحيح 1/180 ح 322 - ك الأيمان، ب أدنى أهل الجنة منزلة) ، وأخرجه البخاري في (صحيحه ح 6564 - ك الرقاق، ب صفة الجنة والنار) .
قوله تعالى (أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتفوا ولعلكم ترحمون)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم) الآية. أنكر تعالى في هذه السورة الكريمة على قوم(2/327)
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)
نوح، وقوم هود عجبهم من إرسال رجل؛ وبين في مواضع أخر أن جميع الأمم عجبوا من ذلك. قال في عجب قوم نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ذلك (أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس) ، وقال (بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم) الآية، وقال عن الأمم السابقة (ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد) ، وقال (كذبت ثمود بالنذر فقالوا أبشراً منا واحداً نتبعه) الآية، وقال (ولئن اتبعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون) .
قوله تعالى (فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوماً عمين)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا) . لم يبين هنا كيفية إغراقهم، ولكنه بينها في مواضع أخر كقوله (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر) الآية، وقوله (فأخذهم الطوفان وهم ظالمون) .
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (عمين) قال: عن الحق.
قوله تعالى (وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) أن عاداً أتاهم هود، فوعظهم وذكرهم بما قص الله في القرآن، فكذبوه وكفروا، وسألوه أن يأتيهم العذاب، فقال لهم (إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به) سورة الأحقاف: 23، وإن عاداً أصابهم حين كفروا قحوط المطر، حتى جهدوا لذلك جهدا شديدا، وذلك أن(2/328)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)
هودا دعا عليهم فبعت الله عليهم الريح العقيم، وهي الريح التي لا تلقح الشجر.
فلما نظروا إليهم قالوا (هذا عارض ممطرنا) سورة الأحقاف: 24، فلما دنت منهم، نظروا إلى الإبل والرجال تطير بهم الريح بين السماء والأرض. فلما رأوها تبادروا إلى البيوت، فلما دخلوا البيوت، دخلت عليهم فأهلكتهم فيها، ثم أخرجتهم من البيوت، فأصابتهم "في يوم نحس" والنحس، هو الشؤم و"مستمر" استمر عليهم بالعذاب "سبع ليال وثمانية أيام حسوماً حسمت كل شيء مرت به، فلما أخرجتهم من البيوت قال الله (تنزع الناس) من البيوت (كأنهم أعجاز نخل منقعر) سورة القمر: 20، انقعر من أصوله "خاوية" خوت فسقطت. فلما أهلكهم الله، أرسل عليهم طيرا سودا، فنقلتهم إلى البحر فألقتهم فيه، فذلك قوله (فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم)
سورة الأحقاف: 25، ولم تخرج ريح قط إلا بمكيال، إلا يومئذ، فإنه عتت على الخزنة فغلبتهم، فلم يعلموا كم كان مكيالها، وذلك قوله (فأهلكوا بريح صرصر عاتية) سورة الحاقة: 6، و"الصرصر" ذات صوت شديد.
قوله تعالى (أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون)
انظر آية (63) من السورة نفسها.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (وزادكم في الخلق بسطة) قال: ما لقوه قوم عاد.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (فاذكروا آلاء الله) أى: نعم الله.
قوله تعالى (قد وقع عليكم من ربكم رجس)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (قد وقع عليكم من ربكم رجس) يقول: سخط.
وانظر سورة هود آية (50-60) وسورة المؤمنون آية (31-41) .(2/329)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
قوله تعالى (فأنجيناه والذين معه برحمة هنا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا) الآية.
لم يبين هنا كيفية قطعه دابر عاد، ولكنه بينه في مواضع أخر كقوله (وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية) الآية، وقوله (وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم) الآية، ونحو ذلك من الآيات.
قوله تعالى (وإلى ثمود أخاهم صالحاً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم بعذاب أليم)
قال أحمد: ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الزبير، عن جابر قال: لما مرَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحجر قال: "لا تسألوا الآيات، وقد سألها قوم صالح فكانت ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم فعقروها، فكانت تشرب ماءهم يوماً ويشربون لبنها يوماً، فعقروها فأخذتهم صيحة، أهمد الله من تحت أديم السماء منهم إلا رجلاً واحداً، كان في حرم الله عز وجل "قيل: من هو يا رسول الله؟ قال: "هو أبو رغال، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه".
(المسند 3/296) ، وأخرجه الطبري (التفسير 12/537 ح 14817) عند الآية (73) من الأعراف، والحاكم (المستدرك 2/320) كلاهما من طريق إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق به.
قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الذهبي على شرطهما. وقال ابن كثير: على شرط مسلم (التفسير 2/364) . وأخرجه ابن حبان في صحيحه (الإحسان 14/77 ح 6197) ، وأخرجه الحاكم (المستدرك 2/340-341) من طريق: مسلم بن خالد، عن ابن خثيم به، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وحسن ابن حجر إسناده (فتح الباري 6/270) . وعزاه الهيثمي لأحمد والبزار والطبراني في الأوسط وقال ورجال أحمد رجال الصحيح (المجمع 6/194 و7/38) .(2/330)
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)
قوله تعالى (وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (وتنحتون الجبال بيوتا) كانوا ينقبون في الجبال البيوت.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) يقول: لا تسيروا في الأرض مفسدين.
قوله تعالى (فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين فأخذتهم الرجفة فأصبحوا دارهم جاثمين)
قال الشيخ الشنقيطي: ظاهر هذه الآية الكريمة أن عقرها باشرته جماعة، ولكنه تعالى بين في سورة القمر: أن المراد أنهم نادوا واحداً منهم. فباشر عقرها، وذلك في قوله تعالى (فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر) .
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (وعتوا عن أمر ربهم) قال: علوا في الباطل.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا) الآية.
لم يبين هنا هذا الذي يعبدهم به، ولكنه بين في مواضع أخر أنه العذاب كقوله (ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب) وقوله هنا (فيأخذكم عذاب أليم) وقوله (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب) ، ونحو ذلك من الآيات.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين) . لم يبين هنا سبب رجفة الأرض بهم، ولكنه بين في موضع آخر أن سبب ذلك صيحة الملك بهم، وهو قوله (وأخذ الذين ظلموا الصيحة) الآية.
والظاهر أن الملك لما صاح بهم رجفت بهم الأرض من شدة الصيحة، وفارقت أرواحهم أبدانهم -والله جل وعلا أعلم-.(2/331)
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)
قال البخاري: حدثنا إسماعيل بن عبد الله قال: حدثني مالك، عن عبد الله ابن دينار، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين، إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، لا يُصيبكم ما أصابهم".
(الصحيح 1/631 ح 433 - ك الصلاة، ب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب) ، وأخرجه مسلم (الصحيح 4/2285 ح 2980 - ك الزهد، ب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين) .
وانظر حديث البخاري عن عبد الله بن زمعة تحت الآية (12) من سورة الشمس.
وانظر حديث أحمد عن جابر المتقدم عند الآية رقم 73 من السورة نفسها.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (الرجفة) قال: الصيحة.
قوله تعالى (فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي) الآية. بين تعالى هذه الرسالة التي أبلغها نبيه صالح إلى قومه في آيات كثيرة كقوله (وإلى ثمود أخاهم صالحاً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم) .
قوله تعالى (ولوطاً إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين..) .
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين) . بين تعالى أن المراد بهذه الفاحشة اللواط بقوله بعده (إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء) الآية، وبين ذلك أيضاً بقوله (أتأتون الذكران من العالمين) وقوله (وتأتون في ناديكم المنكر) .(2/332)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)
قال الترمذي: حدثنا أحمد بن منيع، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا همام، عن القاسم بن عبد الواحد المكي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل أنه سمع جابراً يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط".
(السنن 4/58 ح 1457 - ك الحدود، ب ما جاء في حد اللوطي) ، وأخرجه ابن ماجة (السنن 2/856 ح 2563 - ك الحدود، ب من عَمِلَ عَمَلَ قوم لوط) من طريق عبد الوارث بن سعيد. وأحمد (المسند 3/382) ، والحاكم (المستدرك 4/357) كلاهما من طريق همام، كلهم عن القاسم به. قال الترمذي: حديث حسن غريب. وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. وقال الألباني: حسن (صحيح الترمذي ح 1178) .
قال أحمد: حدثنا عبد الرحمن، عن زهير عن عمرو -يعني ابن أبي عمرو- عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من غَيَّر تخوم الأرض، ولعن الله من كمه الأعمى عن السبيل ولعن الله من سب والده -وفي في رواية: والديه- ولعن الله من تولى غير مواليه، ولعن الله من عمل عمل قوم لوط، ولعن الله من عمل عمل قوم لوط، ولعن الله من عمل عمل قوم لوط".
(المسند 1/309) ، وأخرجه ابن حبان في صححه (الإحسان 10/265 ح 4417) من طريق عبد الملك ابن عمرو. والحاكم (المستدرك 4/356) من طريق عبد الله بن مسلمة، كلاهما عن زهير بن محمد به.
وأخرجه الحاكم بعده من طريق الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو به، وزاد فيه: "لعن الله من وقع على بهيمة". قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال الشيخ الأرناؤوط في حاشية الإحسان: إسناده على شرط الشيخين.
وانظر قصة قوم لوط ومصيرهم في سورة هود آية (77-83) وجاءت مفصلة مفسرة في سورة الحجر آية (51-75) .
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد بن علي النفيلي، ثنا عبد العزيز بن محمد، عن عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به".
(السنن 4/158 ح 4462 - ك الحدود، ب فيمن عمل عمل قوم لوط) ، وأخرجه الترمذي (السنن 4/57 ح 1456 - ك الحدود، ب ما جاء في حد اللوطي) عن محمد بن عمرو السواق.
وابن ماجة (السنن 2/856 ح 2561 - ك الحدود، ب من عمل عمل قوم لوط) عن محمد بن الصباح وأبي بكر بن خلاد كلهم عن عبد العزيز بن محمد به. والحاكم (المستدرك 4/355) من طريق سليمان بن بلال عن عمرو بن أبي عمرو به. وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال الألباني: صحيح (صحيح سنن الترمذي ح 1177) .(2/333)
وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
قوله تعالى (إنهم أناس يتطهرون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (إنهم أناس يتطهرون) قال: يتحرجون.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (إنهم أناس يتطهرون) يقول: عابوهم بغير عيب، وذموهم بغير ذم.
قوله تعالى (فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (فأنجياه وأهله) ظاهر هذه الآية الكريمة أنه لم ينج مع لوط إلا خصوص أهله، وقد بين تعالى ذلك في "الذاريات": بقوله (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) وقوله هنا (إلا امرأته كانت من الغابرين) أوضحه في مواضع أخر فبين أنها خائنة، وأنها من أهل النار وأنها واقعة فيما أصاب قومها من الهلاك، قال فيها: هي وامرأة نوح (وضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين) وقال فيها وحدها: أعني امرأة لوط (إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم) الآية، وقوله هنا في قوم لوط (وأمطرنا عليهم مطراً فانظر كيف كان عاقبة المجرمين) .
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (إلا عجوزا من الغابرين) (سورة الشعراء: 171، سورة الصافات: 135) في الباقين في عذاب الله.
والآية الواردة في سورة الشعراء مبينة للآية المذكورة أعلاه.
قوله تعالى (وأمطرنا عليهم مطراً فانظر كيف كان عاقبة المجرمين)
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا هذا المطر ما هو، ولكنه بين في مواضع أُخر أنه مطر حجارة أهلكهم الله بها كقوله (وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل) وأشار إلى أن السجيل الطين بقوله في "الذاريات" (لنرسل عليهم حجارة من طين) ، وبين أن هذا المطر سوء لا رحمة بقوله (ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء) وقوله تعالى في "الشعراء" (وأمطرنا عليهم مطراً فساء مطر المنذرين) .(2/334)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)
قوله تعالى (وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيرة قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجاً)
انظر سورة هود آية (84-94) .
أحرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) قال: لا تظلموا الناس أشياءهم.
أحرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به) قال: كانوا يجلسون في الطريق فيخبرون من أتي عليهم: أن شعيباً عليه السلام كذاب، فلا يفتنكم عن دينكم.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (وتصدون عن سبيل الله) قال: أهلها (وتبغونها عوجاً) تلتمسون لها الزيغ.
قوله تعالى (وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آَمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ علماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آَمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) . بين تعالى حكمه الذي حكم به بينهم بقوله (ولما جاء أمرنا نجينا شعيباً والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة) وقوله (فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين) وقوله (الذين كذبوا شعيباً كان لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين) .(2/335)
قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علماً على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق)
يقول: ما ينبغي لنا أن نعود في شرككم بعد إذ نجانا الله منها، إلا أن يشاء الله ربنا، فالله لا يشاء الشرك، ولكن نقول: إلا أن يكون الله قد علم شيئا فإنه وسع كل شيء علماً.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق) يقول: اقض بيننا وبين قومنا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (كأن لم يغنوا فيها) يقول: كأن لم يعيشوا فيها.
قوله تعالى (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين) . بين جل وعلا الرسالات التي أبلغها رسوله شعيب إلى قومه في آيات كثيرة كقوله (وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان) الآية ونحوها من الآيات، وبين نصحه لهم في آيات كثيرة كقوله (ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هوم أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد)
الآية وقوله تعالى (فكيف آسى على قوم كافرين) أنكر نبي الله شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام الأسى أي الحزن على الكفار إذا أهلكهم الله بعد إبلاغهم، وإقامة الحجة عليهم مع تماديهم في الكفر والطغيان لجاجاً وعناداً.(2/336)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (فكيف آسى) يعني: فكيف أحزن.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (أخذنا أهلها بالبأساء والضراء) يقول: بالفقر والجوع.
انظر سورة البقرة آية (177) وسورة الأنعام آية (42) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة) يقول: مكان الشدة الرخاء.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (حتى عفوا) قال: حتى سّروا بذلك.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (حتى عفوا) قال: كثرت أموالهم وأولادهم.
قوله تعالى (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون)
قال ابن كثير: يقول تعالى مخبراً عن قلة إيمان أهل القرى الذين أرسل فيهم الرسل، كقوله تعالى (فلولا كانت قرية أمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين) .
قوله تعالى (أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (أولم يهد) أولم نبين لهم أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم. ا.هـ.
وتفسير ابن عباس في الطبري بلفظ (أولم يبين) وقد أكملناه من تفسير ابن كثير لأنه اعتمد على نسخة أكمل من النسخه التى بين أيدينا.
انظر سورة البقرة آية (7) لبيان (ونطبع على قلوبهم)
وانظر سورة طه آية (128) ، وسورة السجدة آية (26) .(2/337)
تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
قوله تعالى (تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين)
قال ابن كثير: لما قص تعالى على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خبر قوم نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وما كان من إهلاكه الكافرين وإنجائه المؤمنين، وأنه تعالى أعذر إليهم بأن بين لهم الحق بالحجج على ألسنة الرسل صلوات الله عليهم أجمعين، قال تعالى (تلك القرى نقص عليك) أي: يا محمد (من أنبائها) أي: من أخبارها، (ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات) أي: بالحجج على صدقهم فيما أخبروهم به، كما قال تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) وقال تعالى (ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد وما ظلمناهم ولكن ظلموا انفسهم) .
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (تلك القرى نقص عليك من أنبائها) الآية. ذكر أنباءهم مفصلة في مواضع كثيرة. كالآيات التى ذكر فيها خبر نوح وهود، وصالح ولوط، وشعيب وغيرهم، مع أممهم صلوات الله وسلامه عليهم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل) قال: ذلك يوم أخذ منهم الميثاق فآمنوا كرها.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (بما كذبوا من قبل) قال: كقوله (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) .
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي بن كعب (فما كانو ليؤمنوا بما كذبوا من قبل) قال: كان في علمه يوم أقروا له بالميثاق.
انظر الآية السابقة لبيان (كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين) .
قوله تعالى (وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين)
اُخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أُبي بن كعب (وما وجدنا لأكثرهم من عهد) قال: في الميثاق الذي أخذه في ظهر آدم عليه السلام.(2/338)
وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله تبارك وتعالى (وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين) قال: القرون السابقة.
قوله تعالى (ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فظلموا بها)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فظلموا بها) الآية. بين تعالى هنا أن فرعون وملأه ظلموا بالآيات التي جاءهم بها موسى، وصرح في النمل بأنهم فعلوا ذلك جاحدين لها، مع أنهم مستيقنون أنها حق لأجل ظلمهم وعلوهم؛ وذلك في قوله (فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً) .
قوله تعالى (فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (فإذا هي ثعبان مبين) قال: تحولت حية عظيمة.
قوله تعالى (ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ونزع يده فإذا هى بيضاء للناظرين) .
ذكر تعالى هنا أن موسى نزع يده فإذا هي بيضاء، ولم يبين أن ذلك البياض خال من البرص، ولكنه بين ذلك في سورة: "النمل" و"القصص" في قوله فيهما (تخرج بيضاء من غير سوء) أي من غير برص.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (بيضاء للناظرين) يقول: من غير برص.
قوله تعالى (أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (أرجه وأخاه) أي: أحبسه وأخاه.(2/339)
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118)
أخرج الطبري بسنده ثابت عن ابن عباس: (وأرسل في المدائن) قال: الشرط.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (وأرسل في المدائن حاشرين) فحشروا عليه السحرة (وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين) يقول: عطية تعطينا (إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين) .
قوله تعالى (قالوا يا موسى إما أن تلقى وإما أن نكون نحن الملقين قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم) . لم يبين هنا هذا السحر العظيم ما هو؟ ولم يبين هل أوجس موسى في نفسه الخوف منه؟ ولكنه بين كل ذلك في "طه" بقوله (فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى) . ولم يبين هنا أنهم تواعدوا مع موسى موعداً لوقت مغالبته مع السحرة، وأوضح ذلك في سورة "طه" في قوله عنهم (فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعداً لا نخلفه نحن ولا أنت مكاناً سوى قال موعدكم يوم الزينة) الآية.
قوله تعالى (وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فماذا هي تلقف ما يأفكون)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك) فالقى موسى عصاه فتحولت حية فأكلت سحرهم كله.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد فيقول الله (يأفكون) قال: يكذبون.
قوله تعالى (فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (فوقع الحق) قال: ظهر الحق.(2/340)
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)
قوله تعالى (وألقى السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين قالوا إنا إلى ربنا منقلبون وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لَما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين)
أخرج الطبري بسند ثابت عن ابن عباس قال: لما رأت السحرة ما رأت، عرفت أن ذلك أمر من السماء وليس بسحر، فخروا سجدا، وقالوا: (آمنا برب العالمين رب موسى وهارون) .
انظر قصة إيمان السحرة في سورة طه آية (70-75) .
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ثم لأصلبنكم أجمعين) لم يبين هنا الشىء الذي توعدهم بأنهم يصلبهم فيه، ولكنه بينه في موضع آخر، كقوله في "طه" (ولأصلبنكم في جذوع النخل) الآية.
قوله تعالى (وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ويذرك وآلهتك) قال: يترك عبادتك.
قوله تعالى (قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (من قبل أن تأتينا) من قبل إرسال الله إياك وبعده.
قوله تعالى (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (بالسنين) ، الجائحة (ونقص من الثمرات) دون ذلك.(2/341)
فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)
قوله تعالى (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون)
قال البخاري: حدثني عبد الله بن محمد حدثنا عثمان بن عمر حدثنا يونس عن الزهري عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا عدوى ولا طيرة، والشؤم في ثلاث: في المرأة، والدار، والدابة".
(الصحيح 10/223 ح 5753 - ك الطب، ب الطيرة) ، وأخرجه مسلم (الصحيح 4/1746 ح 2223 - ك السلام، ب الطيرة والفأل ... ) .
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (فإذا جاءتهم الحسنة) العافية والرخاء (قالوا لنا هذه) نحن أحق بها (وإن تصبهم سيئة) بلاء وعقوبة (يطيروا) يتشاءموا بموسى.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه) ذكر تعالى في هذ الآية الكريمة: أن فرعون وقومه إن أصابتهم سيئة أي قحط وجدب ونحو ذلك، تطيروا بموسى وقومه فقالوا: ما جاءنا هذا الجدب والقحط إلا من شؤمكم، وذكر مثل هذا عن بعض الكفار مع نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قوله (وإن تصيبهم سيئة يقولوا هذه من عندك) الآية. وذكر نحوه أيضاً عن قوم صالح مع صالح في قوله (قالوا اطيرنا بك وبمن معك) الآية. وذكر نحو ذلك أيضاً عن القرية التي جاءها المرسلون في قوله (قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم) الآية. وبين تعالى أن شؤمهم من قبل كفرهم، ومعاصيهم.
لا من قبل الرسل قال في "الأعراف" (ألا إنما طائرهم عند الله) وقال في سورة "النمل" في قوم صالح (قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون) وقال في "يس" (قالوا طائركم معكم) الآية.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (ألا إنما طائرهم عند الله) قال: مصائبهم عند الله، قال الله: (ولكن أكثرهم لا يعلمون)(2/342)
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)
قوله تعالى (فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قال: (الطوفان) الماء والطاعون علي كل حال.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (القمل) الدّبي.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: فكانت آيات مفصلات بعضها في إثر بعض، ليكون الله الحجة عليهم، فأخذهم الله بذنوبهم، فأغرقهم في اليمّ.
قوله تعالى (ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز)
قال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن محمد بن المنكدر وأبى النضر، مولى عمر بن عبيد الله، عن عامر بن سعد ابن أبي وقاص، عن أبيه، أنه سمعه يسأل أسامة بن زيد: ماذا سمعت من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الطاعون؟ فقال أسامة: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الطاعون رِجز أو عذاب أرسل على بني إسرائيل -أو على من كان قبلكم- فإذا سمعتم به بأرض، فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فراراً منه".
وقال أبو النضر "لا يخرجكم إلا فرار منه".
(الصحيح 4/1737 ح 2218 - ك السلام، ب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها) وأخرجه البخاري في (الصحيح ح 6974 - ك الحيل، ب ما يكره من الاحتيال في الفرار من الطاعون) .
قوله تعالى (فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (الرجز) العذاب.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (إلى أجل هم بالغوه) قال: عدد مسمى من أيامهم.(2/343)
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)
قوله تعالى (فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليمّ بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين)
انظر سبب غرقهم مفصلاً في سورة طه آية (77-78) .
قوله تعالى (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التى باركنا فيها)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة قوله: (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التى باركنا فيها) قال: التي بارك فيها الشام.
قال ابن كثير: وأخبر تعالى أنه أورث القوم الذين يستضعفون -وهم بنو إسرائيل- (مشارق الأرض ومغاربها) كما قال تعالى (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين. ونمكن لهم في الأرض ونُريَ فرعون وهامان وجنودهما منهم ماكانوا يحذرون) ، وقال تعالى (كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك واورثناها قوماً آخرين) .
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها) الآية. لم يبين هنا من هؤلاء القوم، ولكنه صرح في سورة "الشعراء" بأن المراد بهم بنو إسرائيل لقوله في القصة بعينها (كذلك وأورثناها بني إسرائيل) الآية، وأشار إلى ذلك هنا بقوله بعده (وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل) .
قوله تعالى (وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل) الآية. لم يبين هنا هذه الكلمة الحسنى التي تمت عليهم، ولكنه بينها في(2/344)
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)
القصص بقوله (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) .
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل) قال: ظهور قوم موسى على فرعون، وتمكين الله في الأرض ماورثهم منها.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وماكانوا يعرشون) يقول: يبنون.
قوله تعالى (قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة)
قال الترمذي: حدثنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي: حدثنا سفيان، عن الزهري، عن سنان بن أبي سنان، عن أبي واقد الليثي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمّا خرج إلى خيبر مرَّ بشجرة للمشركين يُقال لها ذات أنواطٍ يعلقون عليها أسلحتهم، فقالوا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذاتُ أنواط فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سبحان الله هذا كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة والذي نفسي بيده لتركبن سُنّة من كان قبلكم.
(السنن 4/475 ح 2180 - ك الفتن، ب ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم) ، وأخرجه النسائي (التفسير 1/499 ح 205) ، وأحمد (المسند 5/218) كلاهما: من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري به. وأخرجه ابن حبان في صحيحه (الأحسان 15/94 ح 6702) من طريق يونس عن الزهري به. وعند أكثر هؤلاء: لحنين "بدل لخبير" وهو الصواب كما في نسخة معتمدة من سنن الترمذي. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال الألباني. صحيح (صحيح الترمذي ح 1771) وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.. (حاشية الإحسان) .
قوله تعالى (إن هؤلاء متبّر ماهم فيه)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (اِن هؤلاء متبر ماهم فيه) يقول: خسران.
قوله تعالى (قال أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين)
انظر سورة البقرة آية (47) .(2/345)
وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
قوله تعالى (وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم)
انظر سورة البقرة آية (49-50) .
قوله تعالى (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين)
انظر سورة البقرة آية (51) .
قال ابن كثير: فلما تم الميقات عزم موسى على الذهاب إلى الطور، كما قال تعالى (يابني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن) الآية، فحينئذ استخلف موسى على بني إسرائيل أخاه هارون، وأوصاه بالإصلاح وعدم الإفساد وهذا تنبيه وتذكير، وإلا فهارون عليه السلام نبي شريف كريم على الله، وله وجاهة وجلالة صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء.
قوله تعالى (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني)
قال البخاري: حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن عمرو بن يحيى المازنى، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: جاء رجل من اليهود إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد لُطم وجهه وقال: يا محمد إن رجلاً من أصحابك من الأنصار لطم وجهي. قال: "ادعوه"، فدعوه، قال: "لِمَ لطمتَ وجهه؟ " قال: يا رسول الله، إني مررت باليهود، فسمعته يقول: والذي اصطفى موسى على البشر. فقلت: وعلى محمد؟ وأخذتني غضبة فلطمته. قال: "لا تخيّروني من بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يُفيق،(2/346)
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جُزي بصعقة الطور".
(الصحيح 8/152-153 ح 4638 -ك التفسير- سورة الأعراف، ب الآية) ، وأخرجه مسلم (الصحيح4/1843 - ك الفضائل، ب من فضائل موسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) .
قوله تعالى (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً)
قال الترمذي: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن، أخبرنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت، عن أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ هذه الآية: (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً) قال حماد: هكذا وأمسك سليمان بطرف إبهامه على أنملة إصبعه اليمنى قال: فساخ الجبل (وخر موسى صعقاً) .
(السنن 5/265 ح 3074 - ك تفسير القرآن، ب ومن سورة الأعراف) وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح. لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة. وأخرجه أحمد في المسند (3/125) ، وابن خزيمة في التوحيد (1/258-263 ح 162-166) ، والحاكم في المستدرك (2/320-321 -ك التفسير) ، والضياء المقدسي في (المختارة 5/54-57 ح 1672-1675) من طرق عن حماد بن سلمة به. قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وابن الملقن. وقال ابن كثير: إسناد صحيح لا علة فيه) .
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله: (دكا) قال: دك بعضه بعضاً.
قوله تعالى (فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين) يقول: أنا أول من يؤمن أنه لايراك شيء من خلقك.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (وأنا أول المؤمنين) ، أنا أول قومي إيماناً.(2/347)
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
قوله تعالى (وكتبنا له في الألواح من كل شيء)
قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان قال: حفِظناه من عمرو، عن طاوُس: سمعت أبا هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "احتجّ آدم وموسى، فقال له موسى: يا آدم أنت أبونا، خيبتنا وأخرجتنا من الجنة. قال له آدم: يا موسى اصفاك الله بكلامه وخطّ لك بيده، أتلومني على أمر قدّره الله عليّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ فحجّ آدم موسى، فحجّ آدم موسى "ثلاثا".
(الصحيح 11/ 513 ح 6614 - ك القدر، ب تحاج آدم وموسى عند الله) .
قوله تعالى (موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأُريكم دار الفاسقين)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أو: سعيد بن جبير، وهو في أصل كتابي: عن سعيد بن جبير في قول الله: (وتفصيلا لكل شيء) قال: ما أمروا به ونهوا عنه.
أخرج الطبري بسند صحيح عن عكرمة، عن ابن عباس: (فخذها بقوة) قال بجد.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (وأمر قومك يأخذوا بأحسنها) بأحسن ما يجدون فيها.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (سأريكم دار الفاسقين) قال: مصيرهم في الآخرة.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى (سأريكم دار الفاسقين) قال: منازلهم.(2/348)
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)
قوله تعالى (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها)
قال ابن كثير: يقول تعالى (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق) أي: سأمنع فهم الحجج والأدلة الدالة على عظمتي وشريعتي وأحكامي قلوب المتكبرين عن طاعتي، ويتكبرون على الناس بغير حق، أي: كما استكبروا بغير حق أذلهم الله بالجهل، كما قال تعالى (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة) ، وقال تعالى (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) . وقوله (وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها) ، كما قال تعالى (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم) .
قوله تعالى (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً اتخذوه وكانوا ظالمين)
قال ابن كثير: يخبر تعالى عن ضلال من ضل من بني إسرائيل في عبادتهم العجل، الذي اتخذه لهم السامري من حُلي القبط، الذي كانوا استعاروه منهم، فشكل منه عجلاً، ثم ألقى فيه القبضة من التراب التي أخذها من أثر فرس جبريل عليه السلام، فصار عجلاً جسداً له خوار (والخوار) صوت البقر.
وكان هذا منهم بعد ذهاب موسى لميقات ربه تعالى، وأعلمه الله تعالى بذلك وهو على الطور، حيث يقول تعالى إخباراً عن نفسه الكريمة (قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري) .
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً اتخذوه وكانوا ظالمين) . بين في هذه الآية الكريمة سخافة عقول عبدة العجل، ووبخهم على أنهم يعبدون مالا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا، وأوضح هذا في سورة طه، بقوله (أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً) الآية.(2/349)
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)
قوله تعالى (ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين) . بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن عبدة العجل اعترفوا بذنوبهم وندموا على ما فعلوا. وصرح في سورة البقرة بتوبتهم ورضاهم بالقتل وتوبة الله جل وعلا عليهم بقوله (وإذا قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم) .
أوضح الله ما ذكره هنا بقوله في "طه" (قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا) الآية.
قوله تعالى (ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح..)
قال أحمد: حدثنا سريج بن النعمان حدثنا هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس الخبر كالمعاينة، إن الله عز وجل أخبر موسى بما صنع قومه في العجل فلم يلق الألواح، فلما عاين ماصنعوا ألقى الألواح فانكسرت".
(المسند 1/271) ، وأخرجه ابن حبان في صحيحه (الإحسان 14/96 ح 6213) من طريق الحسن بن سفيان. والحاكم (المستدرك 2/321) من طريق العباس بن محمد الدوري، كلاهما عن سريج بن النعمان به، وليس عندهما قوله: "فانكسرت". قال الحاكم. صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وعزاه الهيثمي لأحمد والبزار والطبراني في (الأوسط) ، ثم قال: رجاله رجال الصحيح (المجمع 1/153) ، وصححه ابن حبان. وأخرجه ابن أبي حاتم (التفسير - الأعراف /150 - ح 1004) ، وابن حبان (الإحسان ح 6214) ، والحاكم (المستدرك 2/380) من طرق، عن أبي عوانة، عن سعيد بن جبير بنحوه. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
وصححه الألباني في (تخريج أحاديث المشكاة ح 5738) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (أسفاً) قال: حزيناً.(2/350)
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)
قوله تعالى (وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أمّ إن القوم استضعفوني) الآية. أشار تعالى في هذه الآية الكريمة إلى ما اعتذر به نبي الله هارون لأخيه موسى عما وجهه إليه من اللوم، وأوضحه في "طه" بقوله (قال يا ابن أمّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي) وصرح الله تعالى ببراءته بقوله (ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى) .
أخرج الطبري بسند صحيح عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما رجع موسى إلى قومه، وكان قريبا منهم، سمع أصواتهم، فقال: إني أسمع أصوات قوم لاهين: فلما عاينهم وقد عكفوا على العجل، ألقى الألواح فكسرها، وأخذ برأس أخيه يجره إليه.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (ولا تجعلني مع القوم الظالمين) قال: أصحاب العجل.
وانظر قصة السامري الذي صنع من حليهم عجلاً له خوار، في سورة طه آية (78-98) .
قوله تعالى (إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين)
قال ابن كثير: أما الغضب الذي نال بني إسرائيل في عبادة العجل، فهو أن الله تعالى لم يقبل لهم توبة، حتى قتل بعضهم بعضاً، كما تقدم في سورة البقرة (فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم) .
وعن الذلة انظر سورة البقرة آية (61) قوله تعالى (وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله) .(2/351)
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)
قوله تعالى (واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكناهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (فلما أخذتهم الرجفة) ماتوا ثم أحياهم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء) ، إن هو إلا عذابك تصيب به من تشاء، وتصرفه عمن تشاء.
قوله تعالى (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفى الآخرة إنّا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء)
انظر سورة البقرة آية (201) .
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (إنّا هدنا إليك) ، يقول: تبنا إليك.
قال أحمد: ثنا حسن وروح قالا: ثنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "افتخرت الجنة والنار فقالت النار يارب يدخلني الجبابرة والمتكبرون والملوك والأشراف وقالت الجنة رب يدخلني الضعفاء والفقراء والمساكين فيقول الله تبارك وتعالى للنار أنت عذابي أصيب بك من أشاء وقال للجنة أنت رحمتي وسعت كل شيء ولكل واحدة منكما ملؤها فيلقي في النار أهلها ... " الحديث.
(المسند 3/13 و 78 واللفظ للأول) ، وأخرجه أيضاً ابن أبي عاصم في السنة (ح 528) ، وأبو يعلى في مسنده (ح 1313) ، وابن خزيمة في التوحيد (1/214-215 رقم 121) ، وابن حبان في صحيحه (16/492 رقم 7454) من طرق عن حماد بن سلمة به. وقال الألباني في (ظلال الجنة 1/233) : حديث صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح، غير أن عطاء بن السائب كان اختلط، وحماد ابن سلمة روى عنه في الأختلاط وقبله، فلا يحتج به بحديثه عنه إلا إذا تبين أنه سمعه منه، قبل، وهيهات. ولكن الحديث صحيح لمجيئه من طريق أخرى عن أبي سعيد ... ، يشير إلى ما أخرجه مسلم في (صحيحه ح 2847 - ك الجنة، ب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء) ، ولم يسق لفظه بل أحال على(2/352)
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
لفظ حديث أبى هريرة الآتي. وأحمد (3/79) وغيرهما من طريق أبي صالح عن أبي سعيد مرفوعاً، ولفظ أحمد: " ... قال: فقضى بينهما: إنك الجنة رحمتي أرحم بك من أشاء، وإنك النار عذابي أعذب بك من اشاء ... ". وله شاهد من حديث أبي هريرة مرفوعاً عند البخاري (ح 4850 - ك التفسير، (وتقول هل من مزيد) ، ومسلم (ح 2846 - ك الجنه، ب النار يدخلها الجبارون) ، بنحو لفظ أبي صالح عن أبي سعيد، ولفظ لمسلم: "أنت عذابي أعذب بك من أشاء، وربما قال أصيب بك من أشاء".
قوله تعالى (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون)
قال ابن أبي شيبة: حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن داود عن أبي عثمان عن سلمان قال: خلق الله مائة رحمة فجعل منها رحمة بين الخلائق، كل رحمة أعظم ما بين السماء والأرض فيها تعطف الوالدة على ولدها وبها شرب الطير والوحش الماء فإذا كان يوم القيامة قبضها الله من الخلائق فجعلها والتسع والتسعين للمتقين فذلك قوله (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون) .
(المصنف 13/182 ح 16053) وإسناده صحيح عن سلمان، رجاله كلهم ثقات، وقد أخرجه مسلم في (صحيحه 4/2109 - ك التوبه، ب في سعة رحمة الله تعالى) من طريق أبي معاوية عن داود ابن أبي هند عن أبي عثمان عن سلمان مرفوعاً لكن بدون ذكر الآية، وبدون قوله (للمتقين) .
وانظر ما تقدم في سورة الفاتحة عند قوله تعالى (الرحمن الرحيم) .
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة والحسن في قوله: (ورحمتي وسعت كل شيء) قالا: وسعت في الدنيا البر والفاجر، وهي يوم القيامة للذين اتقوا خاصة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (فسأكتبها للذين يتقون) ، يعنى الشرك.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (فسأكتبها للذين يتقون) ، معاصى الله.
قوله تعالى (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والأنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ... )
انظر حديث البخاري الآتي عند الآية رقم (2) من سورة الجمعة.(2/353)
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي قوله: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمى) هذا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال البخاري: حدثنا محمد بن سنان، حدثنا فليح، حدثنا هلال، عن عطاء ابن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قلتُ: أخبرني عن صفة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التوراة، قال: أجل. والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولى، سمّيتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، لا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يُقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله ويُفتح بها أعيُن عمي وأذان صم وقلوب غلف) . تابعه عبد العزيز بن أبي سلمة عن هلال عن عطاء عن ابن سلام. غلف: كل شيء في غلاف، سيف أغلف، وقوس غلفاء، ورجل أغلف: إذا لم يكن مختوناً.
(الصحيح 4/402 ح 2125 - ك البيوع، ب كراهية السخب في الأسواق) .
وانظر حديث أحمد عن واثلة بن الأسقع المتقدم تحت الآية (3-4) من سورة آل عمران. وهو حديث: "أنزلت التوراة لست مضين ... ".
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قال الله: (الذي يجدونه مكتوباً عندهم) ، يقول: يجدون نعته وأمره ونبوته مكتوبا عندهم.
قال النسائي: أخبرنا سويد قال: أنبأنا عبد الله، عن معمر، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، عن أبيه قال: سمعت عثمان - رضي الله عنه - يقول: اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث، إنه كان رجل ممن خلا قبلكم تعبّد، فعلقته امرأة غوية، فأرسلت إليه جاريتها فقالت له: إنا ندعوك للشهادة. فانطلق مع جاريتها، فطفقت كلما دخل باباً أغلقته دونه، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر، فقالت: إني والله ما دعوتك للشهادة ولكن دعوتك لتقع عليّ أو تشرب من هذه الخمرة كأساً أو تقتل هذا الغلام قال: فاسقيني من(2/354)
هذا الخمر كأساً، فسقته كأساً قال: زيدوني، فلم يرمْ حتى وقع عليها وقتل النفس، فاجتنبوا الخمر فإنها والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر إلا ليوشك أن يُخرج أحدهما صاحبه.
(السنن 8/315 - ك الأشربة، ب ذكر الآثام المتولدة عن شرب الخمر) ، وأخرجه ابن حبان في صحيحه (الإحسان 12/168-169 ح 5348) من طريق عمر بن سعيد عن الزهري به مرفوعاً.
وأخرجه الضياء من طريق ابن إسحاق عن الزهري مختصرا بلفظ: "فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سماها أم الخبائث" (المختارة 1/464 ح 338) ، وقال الدارقطني: والموقوف هو الصواب (العلل 3/41) . وذكره ابن كثير في تفسير سورة المائدة 3/180 وقال: وهذا إسناد صحيح. وقال الألباني في (صحيح سنن النسائي 3/ 1147 ح 5236) : صحيح موقوف.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (ويحرم عليهم الخبائث) ، وهو لحم الخنزير والربا، وما كانوا يستحلونه من المحرمات من المأكل التى حرمها الله.
قوله تعالى (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم) ، ما كان الله أخذ عليهم من الميثاق فيما حرم عليهم. يقول: يضع ذلك عنهم.
قوله تعالى (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض)
قال الشيخ الشنقيطي: هذه الآية الكريمة فيها التصريح بأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رسول إلى جميع الناس، وصرح بذلك في آيات كثيرة كقوله (وما أرسلناك إلا كافة للناس) ، وقوله (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً) ، وقوله (ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده) وقيد في موضع آخر: عموم رسالته ببلوغ هذا القرآن، وهو قوله تعالى (وأوحي إلى هذا القرآن لأنذركم به، ومن بلغ) ، وصرح بشمول رسالته لأهل الكتاب مع العرب بقوله(2/355)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)
(وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ) إلى غير ذلك من الآيات.
قال مسلم: حدثني يونس بن عبد الأعلى: أخبرنا ابن وهب. قال: وأخبرني عمرو، أن أبا يونس حدثه عن أبي هريرة، عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان مِن أصحاب النار".
(الصحيح 1/134 ح 153 - ك الإيمان، ب وجوب الإيمان برسالة نبينا..) .
انظر حديث البخاري تحت الآية رقم (151) من سورة آل عمران. وهو حديث: "أعطيت خمساً ... ".
قوله تعالى ( ... الذي له ملك السموات والأرض)
انظر حديث الترمذي عن أبي ذر الآتى تحت الآية (44) من سورة الإسراء، وهو حديث (الأطيط) .
قوله تعالى (فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة قوله: (الذي يؤمن بالله وكلماته) يقول: آياته.
قوله تعالى (ومن قوم موسى أمةٌ يهدون بالحق وبه يعدلون)
قال ابن كثير: يقول تعالى يخبرنا عن بني إسرائيل أن منهم طائفة يتبعون الحق ويعدلون به، كما قال تعالى (من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون) وقال تعالى (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله، وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب) .
قوله تعالى (وقطعناهم اثنتى عشرة أسباطاً أمماً وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كل أناس مشربهم ... )
انظر سورة البقرة آية (60) وآية (136) لبيان الأسباط.(2/356)
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)
قوله تعالى (وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)
انظر حديث البخاري عن سعيد بن زيد المتقدم تحت الآية (57) من سورة البقرة. وهو حديث: "الكمأة من المن ... ".
انظر سورة البقرة آية (57) .
قوله تعالى (وإذ قيل لهم اسكنوا هذة القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجداً نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين. فبدل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزاً من السماء بما كانوا يظلمون)
انظر سورة البقرة آية (58-59) .
انظر حديث البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً عند الآية (58) من سورة البقرة.
وفي حديث: "فدخلوا يزحفون على أستاههم ... "
انظر حديث البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد المتقدم تحت الآية (59) من سورة البقرة. وهو حديث: "الطاعون رجز ... ".
قوله تعالى (واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: هي قرية على شاطئ البحر، بين مصر والمدينة، يقال لها: أيلة. ا.هـ.
وتسمى الآن: إيلات.(2/357)
وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً) فحرم الله عليهم الحيتان يوم سبتهم، فكانت الحيتان تأتيهم يوم سبتهم شرعاً في ساحل البحر. فإذا مضى يوم السبت، لم يقدروا عليها. فمكثوا بذلك ما شاء الله، ثم إن طائفة منهم أخذوا الحيتان يوم سبتهم فنهتهم طائفة وقالوا: تأخذونها، وقد حرمها الله عليكم يوم سبتكم! فلم يزدادوا إلاغيا وعتوا، وجعلت طائفة أخرى تنهاهم. فلما طال ذلك عليهم، قالت طائفة من النهاة: تعلموا أن هؤلاء قوم قد حق عليهم العذاب، لم تعظون قوما الله مهلكهم، وكانوا أشد غضباً بالله من الطائفة الأخرى، فقالوا: (معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون) وكل قد كانوا ينهون فلما وقع عليهم غضب الله، نجت الطائفتان اللتان قالوا: (لم تعظون قوما الله مهلكهم) ، والذين قالوا: (معذرة إلى ربكم) وأهلك الله أهل معصيته الذين أخذوا الحيتان، فجعلهم قردة وخنازير.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (بعذاب بئيس) قال: شديد.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى (بعذاب بئيس) قال: وجيع.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (فلما عتوا عن ما نهوا عنه) يقول: لما مرد القوم على المعصية (قلنا لهم كونوا قردة خاسئين) ، فصاروا قردة لها أذناب، تعاوى بعدما كانوا رجالاً ونساء.
وانظر قصة المسخ في سورة البقرة آية (65-66) .
قوله تعالى (وإذ تأذن ربك فليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: في قول الله: (وإذ تأذن ربك) قال: أمر ربك.(2/358)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب) قال: هي الجزية، والذين يسومونهم: محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمته، إلى يوم القيامة.
قوله تعالى (وقطعناهم في الأرض أمما)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (وقطعناهم في الأرض أمما) ، قال: يهود.
قوله تعالى (فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (فخلف من بعدهم خلف) ، قال: النصارى.
قوله تعالى (يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (يأخذون عرض هذا الأدنى) ، قال: ما أشرف لهم من شيء في اليوم من الدنيا حلال أو حرام يشتهونه أخذوه، ويبتغون المغفرة، فإن يجدوا الغد مثله يأخذوه.
قوله تعالى (وإن يأتِهِم عرض مثله يأخذوه)
قال الطبري: حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن سعيد بن جبير: (وإن يأتِهِم عرض مثله يأخذوه) ، قال: من الذنوب.
وسنده صحيح.
قوله تعالى (ألم يُؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق) الآية. هذا الميثاق المذكور يبينه قوله تعالى (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولاتكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلًا فبئس ما يشترون) .(2/359)
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)
قوله تعالى (والذين يُمسّكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين)
انظر سورة آل عمران آية (113-115) .
قوله تعالى (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا مافيه لعلكم تتقون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة) ، فهو قوله تعالى (ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم) سورة النساء آية: 154، فقال: (خذوا ما آتيناكم بقوة) ، وإلا أرسلته عليكم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة) ، أي بجد (واذكروا مافيه لعلكم تتقون) ، جبل نزعه الله من أصله، ثم جعله فوق رؤوسهم، فقال: لتأخذن أمري، أو لأرمينكم به!.
انظر سورة البقرة آية (63) .
قوله تعالى (وإذ أخد ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون)
قال البخاري: حدثنا قيس بن حفص، حدثنا خالد بن الحارث، حدثنا شعبة، عن أبي عمران الجوني عن أنس يرفعه: "إن الله يقول لأهون أهل النار عذاباً لو أن لك ما في الأرض من شيء كنت تفتدي به؟ قال: نعم. قال: فقد سألتك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب آدم: أن لا تشرك بي، فأبيتَ إلا الشرك".
(الصحيح 6/419 ح 3334 - ك أحاديث الانبياء، ب خلق آدم وذريته) ، وأخرجه مسلم (الصحيح 4/2160-2161 ح 2805 -صفات المنافقين- ب طلب الكافر الفداء) .(2/360)
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)
قال الترمذي: حدثنا عبد بن حميد. حدثنا أبو نعيم. حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لما خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصاً من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال: أي رب من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلاً منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: أي رب من هذا؟ فقال: هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له داود، فقال: رب كم جعلت عمره؟ قال: ستين سنة، قال: أي رب زده من عمري أربعين سنة، فلما قضي عمر آدم جاءه ملك الموت، فقال: أو لم يبق من عمري أربعين سنة؟ قال: أولم تعطها ابنك داود؟ قال: فجحد آدم فجحدت ذريته، ونُسِّي آدم فنُسِّيت ذريته، وخطيء آدم فخطئت ذريته.
(السنن 5/267 ح 3076 - ك التفسير، ب ومن سورة الأعراف) ، وأخرجه الحاكم (المستدرك 2/325) من طريق: بشر بن موسى الأسدي وعلي بن عبد العزيز، كلاهما عن أبي نعيم به. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
وأورده الألباني في صحيح سنن الترمذي (ح 2459) .
قال أحمد: حدثنا حسين بن محمد حدثنا جرير يعني ابن حازم عن كلثوم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان يعني عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يِديه كالذر ثم كلمهم قبلا قال (ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك أباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) .
(المسند ح 2455) ، وأخرجه النسائي (التفسير 1/506 ح 211) عن محمد بن عبد الرحيم.
والطبري (التفسير 13/222 ح 15338) عن أحمد بن محمد الطوسي والحاكم (المستدرك 2/544) من طريق جعفر بن محمد الصائغ، كلهم عن حسين بن محمد به. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
ووافقه الذهبي. وعزاه الهيثمي لأحمد، وقال: رجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد 7/25، 188، 189) . وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح. وحسن إسناده محقق النسائي. وأورده الألباني في (السلسلة الصحيحة ح 1623) .(2/361)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) ، قال: إن الله خلق آدم عليه السلام، ثم أخرج ذريته من صلبه مثل الذر، فقال لهم: من ربكم؟ قالوا: الله ربنا! ثم أعادهم في صلبه حتى يولد كل من أخذ ميثاقه، لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم إلى أن تقوم الساعة.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا كثير بن شهاب ثنا محمد بن سعيد بن سابق، أنبأنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية رفيع، عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - في قول الله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك أباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) قال: جمعه له يومئذ جميعاً ما هو كاين منه إلى يوم القيامة فجعلهم أزواجا ثم صورهم، ثم استنطقهم وتكلموا وأخذ عليهم العهد والميثاق (وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك أباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) قال: فإني أُشهد عليكم السموات السبع والأرضين السبع، وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة لم نعلم بهذا اعلموا أن لا إله غيري ولا رب غيري ولا تشركوا بي شيئا وإني سأرسل لكم رسلا ينذرونكم عهدي وميثاقي وأنزل عليكم كتبي، قالوا: نشهد أنك ربنا وإلهنا لا رب غيرك، ولا إله لنا غيرك، فأقروا له يومئذ بالطاعة ورفع أباهم آدم فنظر إليهم فرأى فيهم الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك. فقال: يا رب لو سويت بين عبادك، قال: إني أحببت أن أشكر، ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج عليهم النور، وخصوا بميثاق آخر من الرسالة والنبوة فهو الذي يقول تعالى: (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا) وهو الذي يقول: (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله) وفي ذلك قال:(2/362)
(هذا نذير من النذر الأولى) وفي ذلك قال: (وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين) .
وسنده حسن، وأخرجه الحاكم من طريق أبي جعفر الرازي به، (المستدرك 2/323-324- ك التفسير) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وأخرجه الضياء المقدسي (المختارة 3/363-366 ح 1158-1159) من طرق عن الربيع بن أنس بنحوه، قال محققه: إسناده حسن.
وقد حكم الحافظ ابن حجر على طريق أبي جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب أن إسناده جيد وانظر مقدمة هذه الموسوعة عن التفصيل في هذا الإسناد.
قوله تعالى (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين)
روى عبد الرزاق في تفسيره عن الثوري عن الأعمش ومنصور عن أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود في قوله تعالى (آتيناه آياتنا فانسلخ منها) قال: هو بلعم بن آبر.
(التفسير/2 243 طبعة الرشد) ، ومن طريق عبد الرزاق أخرجه الطبري في تفسيره (13/253- 254، رقم 15389) والحاكم في المستدرك (2/325) ، إلا أن عند الطبري "ابن أبر، بضم الباء"، وعند الحاكم "بلعم بن باعوراء" وأخرجه أيضاً النسائي في تفسيره (رقم 213) والطبري (رقم 15381- 15383-15385-15388) وابن أبي حاتم (الأعراف 1343) والطبراني في الكبير (9/249 رقم 9064) من طريق أبى الضحى بإسناده، وابن أبي حاتم: رجل من أهل اليمن. وسكت عليه الحاكم، وأشار الذهبي إلى أنه على شرط الشيخين، قال الهيثمي في (المجمع 7/25) : رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح. وقال محقق النسائي: صحيح موقوف، وكذا صحح إسناده محقق ابن أبي حاتم.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا شعبة، أخبرني يعلى بن عطاء قال: سمعت نافع بن عاصم يقول: سمعت عبد الله بن عمرو يقول في هذه الآية (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) ، قال: هو أمية بن أبي الصلت الثقفي.
(التفسير: سورة الأعراف ح 1344) ، وأخرجه أيضاً النسائي في تفسيره (1/508 رقم 212) ، والطبري في تفسيره (13/256 رقم 1540-15406) من طرق عن شعبة به. وأورده ابن كثير في (تفسيره 2/265) من رواية شعبة، بإسناده عن عبد الله بن عمرو، ثم قال: وقد روى من غير وجه عنه، وهو صحيح إليه. وقال الهيثمي في (المجمع 7/25) : رواه الطبري ورجاله رجال الصحيح، وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (7/154) : وروى ابن مردويه بإسناد قوي عن عبد الله بن عمرو ابن العاص.. فذكره. قال ابن كثير: وكأنما أراد أن أمية بن أبي الصلت يشبهه، فإنه كان قد اتصل إليه علم كثير من علم الشرائع المتقدمة، ولكنه لم ينتفع بعلمه ... إلى آخر كلامه رحمه الله.(2/363)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه أياتنا فانسلخ منها) قال هو رجل من مدينة الجبارين يقال له: بلعم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان) ، الآية، هذا مثل ضربه الله لمن عُرض عليه الهدى فأبى أن يقبله وتركه، قال: وكان الحسن يقول: هو المنافق (ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث) ، قال: هذا مثل الكافر ميت الفؤاد.
وهذا الرأي يجمع بين الآراء السابقة.
قوله تعالى (ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (ولو شئنا لرفعناه بها) لدفعناه عنه.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (أخلد) سكن.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه) ، أما (أخلد إلى الأرض) ، فاتبع الدنيا وركن إليها.
قوله تعالى (فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أوتتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أوتتركه يلهث) قال: تطرده، هو مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يعمل به.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (فمثله كمثل الكلب) ، إن تحمل عليه الحكمة لم يحملها، وإن ترك لم يهتد لخير، كالكلب إن كان رابضا لهث، وإن طرد لهث.(2/364)
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
قوله تعالى (من يهدِ الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون)
قال الترمذي: حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني، عن عبد الله بن الديلمي قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إن الله عز وجل خلق خلقه في ظُلمة، فألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل، فلذلك أقول: جَفَّ القلم على علم الله".
(السنن 5/26 ح 2642 - ك الأيمان، ب ما جاء في افتراق هذة الأمة) ، وأخرجه أحمد (المسند 2/176) س طريق أبي إسحاق الفزاري. وابن حبان في صحيحه (الإحسان 14/43 ح 6169) من طريق ابن المبارك. والحاكم (المستدرك 1/30) من طريق: الوليد البيروتي، ومحمد بن كثير المصيصي، وأبي إسحاق الفزاري. -في حديث طويل- كلهم عن الأوزاعي، عن ربيعة بن يزيد عن ابن الديلمي به. وله طرق أخرى عن ابن الديلمي غير هذه (انظر منها: مسند أحمد 2/197، والإحسان ح 6170) . قال الترمذي: حديت حسن. وقال الحاكم: حديث صحيح قد تداوله الأئمة، وقد احتجا بجميع رواته ثم لم يخرجاه ولا أعلم له علة. ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي: رجال أحد إسنادي أحمد ثقات (مجمع الزوائد 7/193-194) . وقال الألباني: صحيح (صحيح سنن الترمذي ح 2130) .
قوله تعالى (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (ولقد ذرأنا لجهنم) ، خلقنا.
قال ابن كثير: وقوله تعالى (لهم قلوب لايفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون
بها ولهم آذان لا يسمعون بها) يعني: ليس ينتفعون بشيء من هذه الجوارح التي جعلها الله، كما قال تعالى (وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله) ...
الآية. وقال تعالى (صم بكم عمي فهم لا يرجعون) هذا في حق المنافقين،(2/365)
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)
وقال في حق الكافرين (صم بكم عمي فهم لا يعقلون) ولم يكونوا صماً بكماً عمياً إلا عن الهدى، كما قال تعالى (ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون) وقال (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) وقوله تعالى (أولئك كالأنعام) أى: هؤلاء الذين لا يسمعون الحق ولا يعونه ولا يبصرون الهدى كالأنعام السارحة التي لا تنتفع بهذه الحواس منها إلا في الذي يعيشها من ظاهر الحياة الدنيا كما قال تعالى (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء) أي: ومثلهم في حال دعائهم إلى الإيمان كمثل الأنعام إذا دعاها راعيها لا تسمع إلا صوته، ولا تفقه ما يقول. ولهذا قال في هؤلاء: (بل هم أضل) أي: من الدواب لأن الدواب قد تستجيب مع ذلك لراعيها إذا أبَسّ بها، وإن لم تفقه كلامه.
انظر حديث عائشة الآتي عند الآية (15) من سورة الاسراء. وهو حديث: "إن الله خلق للجنة أهلاً".
قوله تعالى (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون)
قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، قال: حفظناه من أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رواية قال: "لله تسعة وتسعون اسماً -مائة إلا واحدة- لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة، وهو وتر يُحب الوتر".
(الصحيح 11/218 ح 6410 - ك الدعوات، ب لله مائة اسم غير واحدة) ، وأخرجه مسلم في (الصحيح 4/2062 - ك الذكر والدعاء، ب في أسماء الله تعالى ... ) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ذروا الذين يلحدون في أسمائه) قال: (الإلحاد) ، التكذيب.
قوله تعالى (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون)
قال البخاري: حدثنا الحميدي: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا ابن جابر: حدثني عمير بن هانئ أنه سمع معاوية قال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا يزال من(2/366)
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)
أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من كذبهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك" فقال مالك بن يُخامر: سمعت معاذاً يقول: وهم بالشام، فقال معاوية: هذا مالك يزعم أنه سمع معاذاً يقول وهم بالشام.
(الصحيح 13/451 ح 7460 - ك التوحيد، ب قول الله تعالى (إنما قولنا لشئ إذا أردناه) وأخرجه مسلم (الصحيح 3/1524 ح 1037 -ك الإمارة- ب قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "لا تزال طائفة من أمتى ... *.
قوله تعالى (والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين)
قال ابن كثير: يقول تعالى (والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) ومعناه: أنه يفتح لهم أبواب الرزق ووجوه المعاش في الدنيا، حتى يغتروا بما هم فيه ويعتقدوا أنهم على شيء، كما قال تعالى (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) . ولهذا قال تعالى (وأملى لهم) أي: وسأملي لهم، أطول لهم ماهم فيه (إن كيدي متين) أي قوي شديد.
قال تعالى (أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين)
قال ابن كثير: يقول تعالى (أولم يتفكروا) هؤلاء بآياتنا (ما بصاحبهم) يعني محمداً -صلوات الله وسلامه عليه- (من جنة) أي: ليس به جنون، بل هو رسول الله حقا دعا إلى حق (إن هو إلا نذير مبين) أي: ظاهر لمن كان له قلب ولب يعقل به ويعي به، كما قال تعالى (وماصاحبكم بمجنون) وقال تعالى (قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد) .
قوله تعالى (أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض)
انظر سورة الأنعام آية (75) لبيان ملكوت السموات والأرض.(2/367)
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)
قوله تعالى (من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون)
انظر سورة الإسراء آية (67) وفيها تفسير ابن كثير.
قوله تعالى (يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي)
قال الشيخ الشنقيطي: هذه الآية الكريمة تدل على أن وقت قيام الساعة لا يعلمه إلا الله جل وعلا، وقد جاءت آيات أخر تدل على ذلك أيضاً كقوله تعالى (يسألونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها) ، وقوله (وعنده مفاتح الغيب لايعلمها إلا هو) وقد ثبت في الصحيح عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنها الخمس المذكورة في قوله تعالى (إن الله عنده علم الساعة) الآية.
قال مسلم: حدثني هارون بن عبد الله وحجاج بن الشاعر. قالا: حدثنا ححاج بن محمد. قال: قال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول قبل أن يموت بشهر: "تسألوني عن الساعة؟ وإنما علمها عند الله. وأقسم بالله! ما على الأرض من نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة".
الصحيح 4/1966 ح 2538 - ك فضائل الصحابة، ب قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تأتي مائة سنة وعلى الأرض) .
قال مسلم: حدثنا زهير بن حرب: حدثنا عبد الرحمن -يعني ابن مهدي- حدثنا شعبة، عن علي بن الأقمر، عن أبي الأحوص، عن عبد الله عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس".
(الصحيح 4/2268 ح 2949 - ك الفتن وأشراط الساعة، ب قرب الساعه) .
وانظر حديث مسلم الآتي عند الآية رقم (1) من سورة القمر، وحديث
البخاري عن أبي هريرة الآتي عند الآية (34) من سورة لقمان.
أخرج الطبري بسنده الحسن من طريق ابن إسحاق، بسنده عن ابن عباس قال: قال: جبل بن أبي قشير، وشمول بن زيد، لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يامحمد أخبرنا متى الساعة إن كنت نبيّا كما تقول، فإنا نعلم متى هي؟. فأنزل الله تبارك وتعالى (يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي) إلى قوله: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) .(2/368)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (يسألونك عن الساعة أيان مرساها) متى قيامها.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (مرساها) منتهاها.
قوله تعالى (قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو) ، يقول: علمها عند الله، هو يجليها لوقتها، لا يعلم ذلك إلا الله.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (لا يجليها) ، يأتي بها.
قوله تعالى (ثقلت في السموات والأرض)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن السدي قوله: (ثقلت في السموات والأرض) يقول: خفيت في السموات والأرض، فلم يعلم قيامها متى تقوم ملك مقرب، ولا نبي مرسل.
قوله تعالى (لا تأتيكم إلا بغتة)
قال مسلم: حدثني زهير بن حرب، حدثنا سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، يبلغ به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "تقوم الساعة والرجل يحلب اللقحة، فما يصل الإناء إلى فيه حتى تقوم. والرجلان يتبايعان الثوب، فما يتبايعانه حتى تقوم. والرجل يلط في حوضه، فما يصدر حتى تقوم".
(الصحيح 4/2270 ح 2954 - ك الفتن وأشراط الساعة، ب قرب الساعة) ، وأخرج البخاري (الصحيح ح 6506 - ك الرقاق) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (لا تأتيكم إلا بغتة) ، يقول يبغتهم قيامها، تأتيهم على غفلة.
قوله تعالى (يسألونك كأنك حفي عنها)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (كأنك حفي عنها) استحفيت عنها السؤال حتى علمتها.(2/369)
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)
قوله تعالى (قل لا أملك بنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ماشاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير) الآية. هذه الآية تدل على أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يعلم من الغيب إلا ما علمه الله، وقد أمره تعالى أن يقول إنه لا يعلم الغيب في قوله في "الأنعام" (قل لا أقول لكم عندى خزائن الله ولا أعلم الغيب) الآية، وقال (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول) الآية، وقال (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله) الآية. إلى غير ذك من الآيات. والمراد بالخير في هذه الآية الكريمة قيل: المال، ويدل على ذلك كثرة ورود الخير بمعنى المال في القرآن كقوله تعالى (وإنه لحب الخير لشديد) وقوله (إن ترك خيراً) وقوله (قل ما أنفقتم من خير) الآية. إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (هو الذي خلقكم من نفس واحدة) من آدم.
قال الشيخ الشنقيطى: قوله تعالى (وجعل منها زوجها ليسكن إليها) الآية.
ذكر في هذه الآية الكريمة أنه خلق حواء من آدم ليسكن إليها، أي: ليألفها ويطمئن بها، وبين في موضع آخر أنه جعل أزواج ذريته كذلك، وهو قوله (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (وجعل منها زوجها) ، حواء فجعلت من ضلع من أضلاعه، ليسكن إليها.(2/370)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)
قوله تعالى (فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به) استبان حملها.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (فلما أثقلت) ، كبر الولد في بطنها.
قوله تعالى (لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن معمر قال: قال الحسن في قوله: (لئن آتيتنا صالحا) قال: غلام.
قوله تعالى (فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة كان الحسن يقول: هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولاداً فهودوا ونصروا. اهـ وصححه ابن كثير في التفسير.
قوله تعالى (أيُشركون ما لايخلق شيئاً وهم يخلقُون)
قال ابن كثير: هذا إنكار على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره، من الأنداد والأصنام والأوثان، وهي مخلوقة لله مربوبة مصنوعة، لا تملك شيئاً من الأمر، ولا تضر ولا تنفع، ولا تنتصر لعابديها، بل هي جماد لا تتحرك ولا تسمع ولا تبصر، وعابدوها أكمل منها بسمعهم وبصرهم وبطشهم، ولهذا قال (أيشركون مالا يخلق شيئاً وهم يخلقون) أي: أتشركون به من المعبودات ما لا يخلق شيئاً ولا يستطيع ذلك، كما قال تعالى (ياأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه، ضَعُفَ الطالب والمطلوب. ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز) وأخبر تعالى أنه لو اجتمعت آلهتهم كلها ما استطاعوا خلق ذبابة، بل استلبتهم الذبابة شيئاً من حقير المطاعم وطارت، لما استطاعوا إنقاذ ذلك منها، فمن هذه صفته وحاله كيف يعبد ليرزق ويستنصر؟. ولهذا قال تعالى (لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون) أي: بل هم مخلوقون مصنوعون.(2/371)
وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
قوله تعالى (ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون)
قال ابن كثير: ثم قال تعالى (ولا يستطيعون لهم نصراً) أى: لعابديهم (ولا أنفسهم ينصرون) يعني: ولا لأنفسهم ينصرون ممن أرادهم بسوء، كما كان الخليل عليه الصلاة والسلام يكسر أصنام قومه ويُهينها غاية الإهانة، كما أخبر تعالى عنه في قوله (فراغ عليهم ضرباً باليمين) وقال تعالى (فجعلهم جذاذاً إلا كبيراً لهم لعلهم إليه يرجعون) .
قوله تعالى (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون)
قال ابن كثير: (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم) الآية، يعني: أن هذه الأصنام لا تسمع دعاء من دعاها، وسواء لديها من دعاها ودحاها، كما قال إبراهيم (يا أبت لم تعبد مالا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً) .
قوله تعالى ( ... قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون)
قال ابن كثير: وقوله (قل ادعوا شركاءكم) الآية، أي: استنصروا بها عليّ، فلا تؤخروني طرفة عين، واجهدوا جهدكم! (إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين) أي: الله حسبي وكافيّ، وهو نصيري، وعليه متكلي، وإليه ألجأ، وهو وليي في الدنيا والآخرة، وهو ولي كل صالح بعدي.
وهذا كما قال هود عليه السلام لما قال له قومه (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدون جميعاً ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم) .
قوله تعالى (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يُبصرون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) قال: هؤلاء المشركون.(2/372)
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)
قال ابن كثير: (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يُبصرون) كقوله تعالى (إن تَدْعوهم لا يسمعوا دعاءكم) الآية.
قوله تعالى (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)
قال البخاري: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن الزهري قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة فنزل على ابن أخيه الحرّ بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شباناً. فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه. قال: سأستأذن لك عليه قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينة، فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: هِيْ يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزْل، ولا تحكم بيننا بالعدل. فغضب عمر حتى هم به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) وإن هذا من الجاهلين. والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله.
(الصحيح 8/155 ح 4642 -ك التفسير- سورة الأعراف، ب الآية) .
أخرج البخاري بسنده الصحيح عن عبد الله بن الزبير (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) قال: ما أنزل الله إلا في أخلاق الناس.
(الصحيح ح 4643 -ك التفسير) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (خذ العفو) قال: من أخلاق الناس وأعمالهم، من غير تحسس أو تجسس، شك أبو عاصم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (خذ العفو) ، يعني خذ ما عفا لك من أموالهم وما أتوك به من شيء فخذه.
فكان هذا قبل أن تنزل (براءة) بفرائض الصدقات وتفصيلها، وما انتهت الصدقات إليه.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة في قوله: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) ، قال: أخلاق أمر الله بها نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودله عليها.(2/373)
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
قوله تعالى (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله ... )
قال ابن كثير: وأصل (النزغ) الفساد، إما بالغضب أو غيره، قال الله تعالى (وقل لعبادى يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم) و (العياذ) الالتجاء والاستناد والإستجارة من الشر، وأما (الملاذ) ففي طلب الخير، كما قال أبو الطيب:
يا مَنْ ألوذ به فيما أوْملُه ... ومَنْ أعُوذ به مما أحَاذرُه
لا يَجبْرُ الناس عَظماً أنت كاسرُه ... ولا يَهِيضون عَظْماً أنت جَابِره
قال أبو داود: حدثنا عمرو بن مرزوق، أخبرنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عاصم العنزي، عن ابن جبير بن مطعم، عن أبيه أنه رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي صلاة، قال عمرو: لا أدري أى صلاة هي؟ فقال: "الله أكبر كبيراً، الله أكبر كبيراً، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، والحمد لله كثيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً. ثلاثاً" أعوذ بالله من الشيطان من نفخه ونفثه وهمزه". قال: نفثه: الشعر، ونفخه: الكبر، وهمزه: الموتة.
(السنن 1/203 ح 764 - ك الصلاة، ب ما يستفتح به الصلاة الدعاء) ، وأخرجه أحمد (المسند 4/85) ، والطبراني (ح 1568) ، وابن خزيمة (الصحيح 1/239 ح 468) ، وابن حبان (الإحسان 5/78 ح 1779) ، والحاكم (المستدرك 1/235 - ك الصلاة) من طرق عن شعبة قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وللحديث شواهد، منها: عن ابن مسعود، أخرجه ابن ماجة (السنن 1/66) ، وأحمد (المسند 1/404) . ومنها: عن أبي سعيد، أخرجه الترمذي (ح 242) ، وأبو داود (ح 775) ، وغيرهما. وصححه أحمد شاكر في تعليقه على سنن الترمذي، وحسنه الألباني كما في (الإرواء 2/51-54) .
وانظر تفسير الإستعاذة.(2/374)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)
قوله تعالى (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون)
قال البخاري: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن عمران أبي بكر قال: حدثني عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟
قلت: بلى. قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: إني أصرَعُ وإني أتكشف، فادع الله لي. قال: "إن شئتِ صبرتِ ولك الجنة، وإن شئتِ دعوتُ الله أن يعافيك". فقالت: أصبُر. فقالت إني أتكشف، فادع الله لي أن لا أتكشف، فدعا لها. حدثنا محمد، أخبرنا مخلد، عن ابن جريج، أخبرني عطاء أنه رأى أم زفر، تلك المرأة الطويلة السوداء، على سِتر الكعبة.
(الصحيح 10/119 ح 5652 - ك المرضى، ب فضل من يصرع من الريح) ، وأخرجه مسلم (الصحيح 4/1994 - ك البر والصلة، ب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض ... ) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (طائف من الشيطان) قال: الغضب.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا) ، والطائف: اللمة من الشيطان (فإذا هم مبصرون) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا) يقول: إذا زلوا تابوا.
قوله تعالى (وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون) ذكر في هذه الآية الكريمة أن إخوان الإنس من الشياطين يمدون الإنس في الغي، ثم لا يقصرون، وبين ذلك أيضاً في مواضع أخر كقوله (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً) وقوله (يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس) وبين في موضع آخر أن بعض الإنس إخوان للشياطين وهو قوله (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين) الآية.(2/375)
وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون) قال: لا الإنس يقصرون عما يعملون من السيئات، ولا الشياطين تمسك عنهم.
قوله تعالى (وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إليّ من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة في قوله: (وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها) أي: لولا أتيتنا بها من قبل نفسك؟ هذا قول كفار قريش.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (لولا اجتبيتها) يقول: لولا تلقيتها وقال مرة أخرى: لولا أحدثتها فأنشأتها.
انظر سورة الأنعام آية (104) لبيان: بصائر.
قوله تعالى (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون)
قال مسلم: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا جرير، عن سليمان التيمي، عن قتادة، عن يونس بن جبير، عن حطان بن عبد الله الرقاشي، عن أبي موسى الأشعري، وفيه قال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطبنا فبين لنا سنتنا وعلمنا صلاتنا فقال: "إذا صليتم فأقيموا صفوفكم ... ". الحديث، وفيه: "وإذا قرأ فأنصتوا".
(الصحيح 1/304 ح 63 - ك الصلاة، ب التشهد في الصلاة) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) يعني: في الصلاة المفروضة.
قوله تعالى (واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة في قوله: (واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة) إلى قوله: (بالغدو والآصال) أمر الله بذكره، ونهى عن الغفلة، أما (بالغدو) ، فصلاة الصبح (والآصال) بالعشي.(2/376)
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
قوله تعالى (إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون)
قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب، قالا: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي. يقول: يا ويله. (وفي رواية أبي كريب: يا ويلي) . أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة. وأمرتُ بالسجود فأبيت فلي النار".
(الصحيح 1/87 ح 133 - ك الإيمان، ب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة) .(2/377)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)
سورة الأنفال
نزولها
قال البخاري: حدثني محمد بن عبد الرحيم، حدثنا سعيد بن سليمان، أخبرنا هُشيم، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير قال: قلتُ لابن عباس رضي الله عنهما: سورة الأنفال؟ قال: نزلت في بدر.
(صحيح البخاري 8/156 ح 4645 -ك التفسير- سورة الأنفال، ب الآية) ، أخرجه مسلم (الصحيح - ك التفسير ح 3031، ب في سورة براءة والأنفال) .
قوله تعالى (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم)
قال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن نافع، عن ابن عمر، قال: بعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سرية، وأنا فيهم قبل نجد فغنموا إبلاً كثيرة، فكانت سُهمانهم اثنا عشر بعيراً، أو أحد عشر بعيراً، ونُفَلوا بعيراً بعيراً.
(الصحيح 3/1368 ح 1749 - ك الجهاد والسير، ب الأنفال) .
وانظر حديث البخاري: "أعطيت خمساً ... " المتقدم تحت الآية رقم (151) من سورة آل عمران، وحديث مسلم المتقدم تحت الآية رقم (90) من سورة المائدة.
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن ابن أفلح، عن أبي محمد مولى أبي قتادة، عن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم حنين، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة، فرأيت رجلاً من المشركين علا رجلاً من المسلمين، فاستدبرت حتى أتيته من ورائه حتى ضربته بالسيف على حبل عاتقه، فأقبل على فضمّني ضمَة وجدتُ منها ريح الموت، ثم أدركه الموت فأرسلني، فلحقتُ عمر بن الخطاب فقلت: ما بال الناس؟ قال: أمر الله، ثم إن الناس رجعوا، وجلس النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال:(2/379)
"من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه". فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست. ثم قال: "من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه". فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست. ثم قال الثالثه مثله، فقمت، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مالكَ يا أبا قتاده؟ ". فاقتصصت عليه القصة. فقال رجل: صدق يا رسول الله، وسلبه عندي، فأرضه عني. فقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: لاها الله إذأ لا يعمد إلى أسد من أسُد الله يقاتل عن الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعطيك سلبه.
فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صدق"، فأعطاه، فابتعت مخْرفاً في بني سلمة، فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام.
(صحيح البخاري 6/284 ح 3142 - ك فرض الخمس، ب من لم يخمس الأسلاب) ، وأخرجه مسلم في (صحيحه 3/1371-1372 - ك فرض الخمس، ب استحقاق القاتل سلب القتيل) .
قال مسلم: حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار (واللفظ لابن المثنى) . قالا: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد، عن أبيه. قال: نزلت في أربع آيات. أصبت سيفاً فأتى به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقال: يا رسول الله! نفِّلنيه. فقال: "ضعه" ثم قام. فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ضعه من حيث أخذته". ثم قام فقال: نفلنيه يا رسول الله! فقال: "ضعه" فقام فقال يارسول الله! نفلنيه. أأجعل كمن لا غناء له؟ فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ضعه من حيث أخذته" قال: فنزلت هذه الآية: (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول) .
(الصحيح 3/1367-1368 ح بعد رقم 1748 - ك الجهاد والسير، ب الأنفال) .
قال مسلم: حدثنا زهير بن حرب. حدثنا عمر بن يونس. حدثنا عكرمة بن عمار. حدثني إياس بن سلمة. حدثني أبي قال: غزونا فزارة وعلينا أبو بكر.
أثَره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علينا. فلما كان بيننا وبين الماء ساعة، أمرنا أبو بكر فعرسنا. ثم شن الغارة. فورد الماء. فقتل من قتل عليه، وسبى. وأنظر إلى عنق الناس. فيهم الذراري. فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل. فرميت بسهم بينهم(2/380)
وبين الجبل. فلما رأوا السهم وقفوا. فجئت بهم أسوقهم. وفيهم امرأة من بني فزارة. عليها قشع من أدم. (قال: القشع النطع) معها ابنة لها من أحسن العرب. فشقتهم حتى أتيت بهم أبا بكر فنفلني أبو بكر ابنتها. فقدمنا المدينة وما كشفت لها ثوباً. فلقيني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السوق فقال: "يا سلمة! هب لي المرأة" فقلت: يا رسول الله! والله! لقد أعجبتني. وما كشفت لها ثوباً ثم لقيني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الغد في السوق. فقال لي: "يا سلمة! هب لي المرأة.
لله أبوك! فقلت: هي لك. يا رسول الله! فوالله! ما كشفت لها ثوباً. فبعث بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أهل مكة ففدى بها ناساً من المسلمين، كانوا أسروا بمكة.
(الصحيح 3/1375، 1376 ح 1755 - ك الجهاد والسير، ب التنفيل وفداء المسلمين بالأسارى) .
قال أبو داود: حدثنا أبو صالح محبوب بن موسى، أخبرنا أبو إسحاق الفزاري، عن عاصم بن كليب، عن أبي الجويرية الجرمي، قال: أصبت بأرض الروم جرَّة حمراء فيها دنانير في إمرة معاوية وعلينا رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بني سليم يقال له معن بن يزيد، فأتيته بها فقسمها بين المسلمين وأعطاني منها مثل ما أعطى رجلاً منهم، ثم قال: لولا أني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا نفل إلا بعد الخمس" لأعطيتك، ثم أخذ يعرض علي من نصيبه فأبيت.
(السنن 3/81-82 ح 2753 - ك الجهاد، ب في النفل من الذهب والفضة ... ) ، وأخرجه أحمد (المسند 3/470) من طريق عفان. وابن أبي حاتم (التفسير - سورة الأنفال/1، ح 13) من طريق عون بن الحكم، ومحمد بن أبى نعيم، وعبيد بن محمد، كلهم عن أبي عوانة، عن عاصم بن كليب به، وليس عند ابن أبي حاتم ذكر القصة. قال الألباني: صحيح (صحيح أبي داودح 2392) .
وقال محقق ابن أبى حاتم: إسناده صحيح.
قال الحاكم: حدثنا أبو بكر أحمد بن إسحاق، ثنا أبو المثنى، ثنا مسدد، ثنا المعتمر بن سليمان قال: سمعت داود بن أبي هند يحدث عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من فعل كذا وكذا أو أتى مكان كذا وكذا فله كذا وكذا" فتسارع الشبان إلى ذلك وثبت الشيوخ تحت(2/381)
الرايات، لما فتح الله عليهم جاء الشبان يطلبون ما جعل لهم، وقال الشيوخ: إنا كنا ردأ لكم وكنا تحت الرايات، فأنزل الله عز وجل (يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم) .
هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(المستدرك 2/326-327) وصححه الذهبي وابن الملقن، وأخرجه أبو داوود (السنن - الجهاد، ب النفل ح 2737) ، والطبري (التفسير 13/367 ح 15650-1552) ، وابن حبان (الإحسان 11/490 ح 5093) من طرق عن عكرمة به، قال الشيخ أحمد شاكر: صحيح الإسناد، وذلك في حاشية تفسير الطبري وصححه الألباني في (صحيح سنن أبى داوود ح 2376) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (يسألونك عن الأنفال) ، قال (الأنفال) الغنائم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم) أي لا تستبوا.
قوله تعالى (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) قال: المنافقون، لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه، ولايؤمنون بشيء من آيات الله، ولا يتوكلون على الله، ولايصلون إذا غابوا ولايؤدون زكاة أموالهم. فأخبر الله سبحانه أنهم ليسوا بمؤمنين، ثم وصف المؤمنين فقال: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) فأدوا فرائضه (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم ايمانا) يقول: تصديقا (وعلى ربهم يتوكلون) ، يقول: لا يرجون غيره.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) قال: فرقا من الله تبارك وتعالى، ووجلاً من الله، وخوفاً من الله تبارك وتعالى.(2/382)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
قال الشيخ الشنقيطي: في هذه الآية الكريمة التصريح بزيادة الإيمان، وقد صرح تعالى بذلك في مواضع أخر؛ كقوله: (واذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه ايماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون) . وقوله (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم) الآية.
وقوله (ليستيقين الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا ايماناً) الآية. وقوله (والذين اهتدوا زادهم هدى) الآية.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون) قال: هذا نعت أهل الإيمان، فأثبت نعتهم ووصفهم، فأثبت صفتهم.
قوله تعالى (الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (الذين يقيمون الصلاة) يقول: الصلوات الخمس (ومما رزقناهم ينفقون) يقول: زكاة أموالهم (أولئك هم المؤمنون حقا) يقول: برئوا من الكفر. ثم وصف الله النفاق وأهله فقال (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله) إلى قوله (أولئك هم الكافرون حقا) سورة النساء: 150، 151.
فجعل الله المؤمن مؤمنا حقا، وجعل الكافر كافراً حقا، وهو قوله (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن) سورة التغابن: 2.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (أولئك هم المؤمنون حقا) ، استحقوا الايمان بحق، فأحقه الله لهم.
انظر سورة آل عمران آية (163) والأنعام آية (83) لبيان درجات.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (ومغفرة) قال: لذنوبهم (ورزق كريم) قال: الجنة.(2/383)
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)
قوله تعالى (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعد ما تبين)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق) قال: كذلك يجادلونك في الحق.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي قال: أنزل الله في خروجه يعني خروج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بدر، ومجادلتهم إياه فقال: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون) لطلب المشركين (يجادلونك في الحق بعد ما تبين) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (يجادلونك في الحق) قال: القتال.
قوله تعالى (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين) ، قال: أقبلت عير أهل مكة يريد من الشام فبلغ أهل المدينة ذلك، فخرجوا ومعهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يريدون العير. فبلغ ذلك أهل مكة، فسارعوا السير إليها، لا يغلب عليها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه فسبقت العير رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان الله وعدهم إحدى الطائفتين، فكانوا أن يلقوا العير أحب إليهم، وأيسر شوكة، وأحضر مغنما فلما سبقت العير وفاتت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، سار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمسلمين يريد القوم، فكره القوم مسيرهم لشوكة في القوم.
قال الترمذي: حدثنا عبد بن حميد، حدثنا عبد الرزاق، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لمّا فرغ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بدر قِيل له: عليك العِير ليس دونها شيء، قال: فناداه العباس وهو في وثاقه: لا يصلحُ، وقال: "إن الله وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك".
(السنن 5/269 ح 3080 - ك لتفسير، ب ومن سورة الأنفال) ، وأخرجه أحمد في (المسند ح 2022 وح 2875) ، والحاكم (المستدرك 2/327) ، من طريق أبي نعيم عن إسرائيل به. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال ابن كثير: إسناد جيد (التفسير 3/556) ، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند.(2/384)
لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)
قوله تعالى (ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون) هم المشركون.
قوله تعالى (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين)
قال مسلم: حدثنا هناد بن السري، حدثنا ابن المبارك، عن عكرمة بن عمار، حدثني سماك الحنفي قال: سمعت ابن عباس يقول: حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر. ح وحدثنا زهير بن حرب (واللفظ له) . حدثنا عمر بن يونس الحنفي، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثني أبو زميل (هو سماك الحنفي) . حدثني عبد الله بن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر، نظر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً.
فاستقبل نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القبلة. ثم مدّ يديه فجعل يهتف بربّه: "اللهم أنجز لي ما وعدتني. اللهم! أت ما وعدتنى، اللهم! إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض". فما زال يهتف بربه، مادا يديه، مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه. فأتاه أبو بكر. فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه.
ثم التزمه من ورائه. وقال: يا نبي الله! كذاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله عز وجل: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم إني ممدكم بألف من الملائكة مردفين) فأمده الله بالملائكة.
قال أبو زميل: فحدثني ابن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتدّ في أثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه. وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم. فنظر إلى المشرك أمامه فخرّ مستلقياً. فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه، وشُق وجهه كضربة السوط. فاخضر ذلك أجمع. فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقال: "صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثه" فقتلوا يومئذ سبعين، وأسروا سبعين.(2/385)
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)
قال أبو زميل: قال ابن عباس: فلما أسروا الأسارى قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبى بكر وعمر: "ما ترون في هؤلاء الأسارى"؟ فقال أبو بكر: يا نبي الله! هم بنو العم والعشيرة، أرى إن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله إن يهديهم للإسلام. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما ترى؟ يا ابن الخطاب! " قلتُ: لا. والله! يا رسول الله! ما أرى الذي رأى أبو بكر. ولكني أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم، فتُمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه. وتمكنى من فلان (نسيباً لعمر) فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فهوى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلتُ. فلما كان من الغد جئتُ فإذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر قاعدين يبكيان. قلتُ: يا رسول الله! أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدتُ بكاء بكيت. وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أبكى للذي عرض عليّ أصحابك من أخذهم الفداء.
لقد عُرض علىّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة" (شجرة قريبة من نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وأنزل الله عز وجل (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) إلى قوله (فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً) فأحل الله الغنيمة لهم.
(الصحيح 3/1383-1385 - ك الجهاد والسير، ب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم) .
قال الضياء المقدسي: أخبرنا زاهر بن أحمد بن حامد الثقفي، أن أبا عبد الله الحسين بن عبد الملك الأديب أخبرهم -قراءة عليه- أنا إبراهيم سبط بحرويه، أنا محمد بن إبراهيم بن المقريء أنا أحمد بن علي، ثنا عبد الله -هو القواريري- ثنا محمد بن عبد الله بن الزبير ثنا مسعر عن أبي عون، عن أبى صالح الحنفي، عن علي قال: قال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم بدر ولأبى بكر: "مع أحدكما جبريل ومع الآخر ميكائيل وإسرافيل عليهم السلام، ملك عظيم يشهد القتال أو يكون في القتال".
(المختارة 2/257-259 ح 633-636) ، وأخرجه أحمد (المسند 2/308 ح 1256) ، وأبو يعلى (المسند 1/283-284 ح 340) ، والبزار في (البحر الزخار 2/33 ح 729) ، والحاكم في (المستدرك 3/68) كلهم من طريق مسعر به. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وعزاه الهيثمي إلى أحمد والبزار وقال: ورجالهما رجال الصحيح (المجمع 6/82) . وصحح إسناده أحمد شاكر ومحقق مسند أبي يعلى ومحقق المختارة.(2/386)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (بألف من الملائكة مردفين) أى: متتابعين.
قوله تعالى (وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم)
قال ابن كثير: أي وما جعل الله بعث الملائكة وإعلامه إياكم بهم إلا بشرى (لتطمئن به قلوبكم) وإلا فهو تعالى قادر على نصركم على اعدائكم ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله أي بدون ذلك ولهذا قال (وما النصر إلا من عند الله) كما قال تعالى (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك لو يشاء الله لا تنصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم) .
قوله تعالى (إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويُذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام)
قال ابن كثير: يذكرهم الله تعالى بما أنعم به عليهم من إلقائه النعاس عليهم أماناً أمنهم به من خوفهم الذي حصل لهم من كثرة عدوهم وقلة عددهم، وكذلك فعل تعالى بهم يوم أحد كما قال تعالى (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم) الآية. قال أبو طلحة: كنت ممن أصابه النعاس يوم أحد، ولقد سقط السيف من يدي مراراً يسقط وأخذه، ويسقط وآخذه ولقد نظرت إليهم يميدون وهم تحت الجحف ...
وأحسن ما في هذا ما رواه الإمام محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي رحمه الله حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قال: بعث الله السماء وكان الوادي دهساً فأصاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه ما لبد لهم الأرض ولم يمنعهم من المسير وأصاب قريشاً ما لم يقدروا على أن يرحلوا معه وقال مجاهد: أنزل الله عليهم المطر قبل النعاس فأطفأ بالمطر الغبار وتلبدت به الأرض وطابت نفوسهم وثبت به أقدامهم.(2/387)
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)
قال الطبري: حدثني المثنى قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين، عن عبد الله -وهو ابن مسعود- قال: النعاس في القتال أمنة من الله عز وجل، وفي الصلاة من الشيطان.
وأخرجه من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري به. وسنده صحيح.
انظر حديث مسلم السابق تحت الآية (9) من السورة نفسها.
وأخرجه مسلم بسنده الصحيح عن أبي هريرة مرفوعاً: "اجتنبوا السبع الموبقات ... ومنها ... التولى يوم الزحف".
(الصحيح 1/92 ح 89 -الأيمان- ب الكبائر) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: نزل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعني: حين سار إلى بدر والمسلمون بينهم وبين الماء رملة دعصة، فأصاب المسلمين ضعف شديد، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ، فوسوس بينهم: تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله، وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم تصلون مجنبين! فأمطر الله عليهم مطراً شديدا، فشرب المسلمون وتطهروا وأذهب الله عنهم رجز الشيطان، وثبت الرمل حين أصابه المطر، ومشى الناس عليه والدواب، فساروا إلى القوم، وأمد الله نبيه بألف من الملائكة، فكان جبريل عليه السلام في خمسمئة من الملائكة مجنّبة، وميكائيل في خمسمئة مجنّبة.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (إذ يغشيكم النعاس أمنة منه) ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه ألقى النعاس على المؤمنين ليجعل قلوبهم آمنة غير خائفة من عدوها، لأن الخائف الفزع لا يغشاه النعاس، وظاهر سياق هذه الآية أن النعاس ألقي عليهم يوم بدر، لأن الكلام هنا في وقعة بدر، كما لا يخفى.
وذكر في سورة آل عمران أن النعاس غشيهم أيضاً يوم أحد وذلك في قوله تعالى في وقعة أحد (ثم أنزل على من بعد الغم أمنة نعاساً) الآية.(2/388)
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
قوله تعالى (إذ يُوحي ربك إلى الملائكة أنى معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان)
انظر سورة آل عمران آية (151) لبيان: في قلوب الذين كفروا الرعب.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (واضربوا منهم كل بنان) ، يعني: بالبنان، الأطراف.
قوله تعالى (ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار)
انظر سورة البقرة آية (24) .
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا حسان بن عبد الله المصري، حدثنا خلاد بن سليمان الحضرمي، حدثنا نافع أنه سأل ابن عمر، قلت: إنا قوم لا نثبت عند قتال عدونا، ولاندري من الفئة: إمامنا أوعسكرنا؟ فقال لي: الفئة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلت: إن الله يقول (إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار) ، قال: إنما أنزلت هذه الآية لأهل بدر، لا قبلها ولا بعدها.
(التفسير - سورة الأنفال ح 164) ، وأخرجه البخاري معلقاً في التاريخ الكبير (3/188) وفيه تحريف في السياق، والنسائي في تفسيره (1/517، رقم 220) كلاهما من طريق حسان بن عبد الله بإسناده، وإسناده حسن.
انظر حديث أبي هريرة: "اجتنبوا السبع الموبقات عند الآية (12) من السورة نفسها.
قوله تعالى (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة لقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة) ، أما المتحرف، يقول: إلا مستطرداً يريد العودة (أو متحيزا إلى فئة) قال: المتحيز، إلى الإمام وجنده إن هو كر فلم يكن له بهم طاقة، ولا يعذر الناس وإن كثروا أن يولوا عن الإمام.(2/389)
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)
قال النسائي في تفسيره: أنا أبو داود قال: أنا أبو زيد الهدوي، نا شعبة، عن داود بن أبي هند نضرة، عن أبي سعيد (ومن يولهم يومئذ دبره) قال: نزلت في أهل بدر.
(التفسير: 1/521 و 522، ح 223 و 224) واللفظ للأول. وأخرجه أيضاً أبو داود في (سننه ح 2648 - ك الجهاد، ب في التولي يوم الزحف) ، والطبري في تفسيره (13/436 و 437، ح 15798-15801) ، وابن أبن حاتم في تفسيره (سورة الأنفال ح 147) ، والحاكم في (المستدرك 2/327) من طرق عن داود بن أبي هند به، ولفظ ابن أبي حاتم: "كانت لأهل بدر خاصة". وزاد في رواية الطبري رقم 15801: "لم يكن للمسلمين فئة إلا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأما بعد ذلك فإن المسلمين بعضهم فئة لبعض". وفى إسنادها علي بن عاصم وهو صدوق يخطئ كما في (التقريب) ، وفي أخرى للطبري (رقم 15798) : " ... ولو انحازوا انحازوا إلى المشركين، ولم يكن يومئذ مسلم في الأرض غيرهم". وقد قال الحاكم: "صحيح علي شرط مسلم". وأقره الذهبي، وصححه أيضاً الألباني في (صحيح أبى داود 2/502 رقم 2406) ، ومحققا النسائي وابن أبي حاتم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (ومن يولهم يومئذ دبره) ، قال: ذلكم يوم بدر.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: أكبر الكبائر الشرك بالله، والفرار من الزحف، لأن الله عز وجل يقول: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) .
قوله تعالى (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً إن الله سميع عليم)
قال الحاكم: أخبرني إسماعيل بن محمد بن الفضل الشعراني، ثنا جدى ثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، ثنا محمد بن فليح، عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه قال: أقبل أبي بن خلف يوم أحد إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يريده، فاعترض رجال من المؤمنين، فأمرهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فخلوا سبيله، فاستقبله مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار، ورأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ترقوة أبي من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة، فطعنه بحريته فسقط أبي عن فرسه، ولم يخرج من طعنته دم، فكسر ضلعاً من أضلاعه، فأتاه أصحابه وهو يخور خوار الثور(2/390)
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
فقالوا له: ما أعجزك إنما هو خدش؟ فذكر لهم قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بل أنا أقتل أبياً" ثم قال: والذي نفسي بيده لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعين، فمات أبي إلى النار، فسحقاً لأصحاب السعير، قبل إن يقدم مكة فأنزل الله (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) الآية.
هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. (المستدرك 2/327 - ك التفسير، سورة الأنفال وصححه الذهبي وابن الملقن) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: رفع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يده يوم بدر فقال: يارب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا! فقال له جبريل: خذ قبضة من التراب! فأخذ قبضة من التراب، فرمى بها في وجوههم، فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة، فولوا مدبرين.
(التفسير 13/445 ح 15827) ، وأخرجه ابن أبي حاتم (التفسير - سورة الأنفال/17 ح 174) من طريق أبيه، عن أبي صالح به. وهذا الإسناد جيد محتج به، وتقدم الكلام عليه عند الآية (29) من سورة النساء. والحديث أورده الهيثمي في (مجمع الزوائد 6/74) وعزاه للطبراني ثم قال: إسناده حسن.
قوله تعالى (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئاً ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين)
قال النسائي: أنا عبيد بن سعيد بن إبراهيم بن سعد، نا عمي، نا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب قال: حدثني عبد الله بن ثعلبة بن صعير قال: كان المستفتح يوم بدر أبو جهل، وإنه قال حين التقى القوم: اللهم أينا كان أقطع للرحم، وأتى لما لا نعرف فافتح الغد، وكان ذلك استفتاحه، فأنزل الله (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) .
(التفسير 1/518 ح 221) ، وأخرجه أحمد (المسند 5/431) ، والطبري (التفسير 13/452 ح 15839) ، وابن أبي حاتم (التفسير الأنفال/19 ح 183) ، والحاكم (المستدرك 2/328) من طرق عن ابن شهاب به. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وعند هؤلاء جميعاً: "فأحسنه الغداة". وفي إسناده عبد الله بن ثعلبة له رؤية ولم يثبت له سماع، وله شاهد أخرجه الطبري بسنده الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لما اصطف القوم قال أبو جهل: الله أولانا بالحق فانصره.(2/391)
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، يعني بذلك المشركين: إن تستنصروا فقد جاءكم المدد.
وانظر سورة البقرة آية (89) وفيها يستفتحون: يستنصرون.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن مجاهد قوله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) قال: كفار قريش في قولهم: ربنا افتح بيننا وبين محمد وأصحابه!.
ففتح بينهم يوم بدر.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (وإن تعودوا نعد) إن تستفتحوا الثانية، نفتح لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين) ، محمد وأصحابه.
قوله تعالى (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (وهم لا يسمعون) قال: عاصون.
قوله تعالى (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون)
قال البخاري: حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد عن ابن عباس (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) قال: هم نفر من بني عبد الدار.
(الصحيح 8/158 ح 4646 -ك التفسير- سورة الأنعام) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (الصم البكم الذين لا يعقلون) قال: الذين لا يتبعون الحق.
وانظر سورة البقرة آية (18) .(2/392)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ... )
قال البخاري: حدثني إسحاق قال: أخبرنا رَوح، حدثنا شعبة، عن خبيْب ابن عبد الرحمن، سمعت حفص بن عاصم يُحدّث عن أبي سعيد بن المعلى - رضي الله عنه - قال: كنت أصلي، فمر بي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدعاني، فلم آته حتى صليت، ثم أتيته فقال: "ما منعك أن تأتي؟ ألم يقل الله (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم) "ثم قال: "لأعلّمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج". فذهب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليخرج، فذكرت له. وقال معاذ: حدثنا شعبة، عن خبيب بن عبد الرحمن، سمع حفصاً، سمع أبا سعيد رجلاً من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهذا، وقال: "هي الحمد لله رب العالمين، السبع المثاني".
(الصحيح 8/158 ح 4647 -ك التفسير- سورة الأنعام، ب الآية) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (لما يحييكم) قال: الحق.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) ، قال: هو هذا القرآن، فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة.
قوله تعالى (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه)
قال البخاري: حدثنا محمد بن مقاتل أبو الحسن، أخبرنا عبد الله، أخبرنا موسى بن عقبة، عن سالم، عن عبد الله قال: كثيراً ما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحلف: "لا ومقلب القلوب".
(الصحيح 11/521 ح 6617 - ك القدر، ب يحول بين المرء وقلبه) .
وانظر الأحاديث المتقدمة عند آية (8) من سورة آل عمران.(2/393)
أخرج الطرى بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) ، يقول: يحول بين المؤمن وبين الكفر، ويحول بين الكافر وبين الإيمان.
قوله تعالى (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ... )
قال البخاري: حدثنا أبو نعيم، حدثنا زكريا قال: سمعت عامراً يقول: سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "مَثَل القائم على حدود الله والواقع فيها كَمَثَلِ قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجَوا ونجَوا جميعاً"،
(الصحيح 5/157 ح 2493 - ك الشركة، ب هل يقرع في القسمة) .
قال أحمد: ثنا حسين، قال: ثنا خلف -يعني ابن خليفة- عن ليث، عن علقمة بن مرتد، عن المعرور بن سويد، عن أم سلمة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمّهم الله عز وجل بعذاب من عنده"، فقلت: يا رسول الله أما فيهم يومئذ أناس صالحون، قال: "بلى"، قالت: فكيف يمنع أولئك؟ قال: "يصيبهم ما أصاب الناس ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان".
(المسند 6/304) وقال الهيثمي: رواه أحمد بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح (مجمع الزوائد 7/268) ، وللحديث شواهد أخرى استوفاها الهيثمي في الموضع المشار إليه. منها ما أخرجه الحاكم بسنده عن مولاه لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنحوه، وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 4/523) ، وصحح إسناده الألباني (السلسلة الصحيحة 3/360) .
أخرج مسلم بسنده عن زينب بنت جحش أنها سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم إذا كثر الخبث".
(صحيح مسلم - كتاب الفتن ح 2880) .(2/394)
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
وقال: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا شداد يعني ابن سعيد حدثنا غيلان بن جرير عن مطرف قال: قلنا للزبير: يا أبا عبد الله ما جاء بكم؟ ضيعتم الخليفة حتى قتل ثم جئتم تطلبون بدمه! قال الزبير: إنا قرأناها على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر وعثمان (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) لم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت منا حيث وقعت.
(المسند ح 1414) ، وقال محققه: إسناده صحيح. وقال الهيثمي: رواه أحمد بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح (مجمع الزوائد 7/27) . وأخرجه الضياء المقدسي (المختارة 3/66 ح 872) من طريق الإمام أحمد به وقال محققه: إسناده حسن.
وانظر حديث أبي بكر وجرير عند تفسير الآية (105) من سورة المائدة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) ، قال: أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم، فيعمهم الله بالعذاب.
قوله تعالى (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (فآواكم) ، قال: إلى الأنصار بالمدينة (وأيدكم بنصره) وهولاء أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أيدهم بنصره يوم بدر.
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وتخونوا أماناتكم) والأمانة، الأعمال التي أمن الله عليها العباد يعني الفريضة.
يقول: (لا تخونوا) يعني: لا تنقصوها.
قوله تعالى (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم)
قال الشيخ الشنقيطي: أمر تعالى الناس في هذه الآية الكريمة أن يعلموا: أن أموالهم وأولادهم فتنة يختبرون بها، هل يكون المال والولد سبباً للوقوع فيما(2/395)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
لا يرضى الله؟. وزاد في موضع آخر أن الأزواج فتنة أيضاً، كالمال والولد، فأمر الانسان بالحذر منهم أن يوقعوه فيما لا يرضي الله. ثم أمره إن اطلع على ما يكره من أولئك الأعداء الذين أقرب الناس له، وأخصهم به، وهم الأولاد والأزواج أن يعفو عنهم، ويصفح ولايؤاخذهم، فيحذر منهم أولاً، ويصفح عنهم إن وقع منهم بعض الشيء، وذلك في قوله في التغابن: (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم) .
وصرح في موضع آخر بنهي المؤمنين عن أن تلهيهم الأموال والأولاد عن ذكره جل وعلا، وأن من وقع في ذلك فهو الخاسر المغبون في حظوظه، وهو قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون) . والمراد بالفتنة في الآيات: الاختبار والابتلاء، وهو أحد معاني الفتنة في القرآن.
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويُكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم)
قال البخاري: حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال: حدثنا أيوب، عن أبي قلابة عن أنس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ثلاث مَن كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يُحبَّ المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذف في النار".
(الصحيح 1/77 ح 16 - ك الأيمان، ب حلاوة الإيمان) وأخرجه مسلم (الصحيح 1/66 ح 43 - ك الإيمان، ب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (فرقانا) ، قال: مخرجا في الدنيا والآخرة.(2/396)
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)
قوله تعالى (وإن يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين)
قال أحمد: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر قال: وأخبرني عثمان الجزري أن مقسماً مولى ابن عباس أخبره عن ابن عباس في قوله (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك) قال: تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال بعضهم: بل اقتلوه وقال بعضهم: بل أخرجوه فأطلع الله عز وجل نبيه على ذلك فبات عليٌّ على فراش النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تلك الليلة وخرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى لحق بالغار وبات المشركون يحرسون علياً يحسبونه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوا علياً رد الله مكرهم فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري فاقتصوا أثره فلما بلغوا الجبل خلط عليهم فصعدوا في الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا: لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاث ليال.
(المسند ح 3251) ، قال الحافظ ابن كثير: إسناده حسن، وهو أجود ما روي في قصة نسج العنكبوت على فم الغار (البداية والنهاية 3/181) . وحسن إسناده الحافظ ابن حجر (الفتح 7/236) .
وقصة مكر قريش بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رواها بطولها: الطبري (التفسير ح 15965) ، وأبو نعيم (دلائل النبوة 1/63) ، والبيهقى (دلائل النبوة 2/468-469) من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس، وكذلك أخرجها ابن سعد (الطبقات 1/227) من حديث عائشه وابن عباس وعلى وسراقة بن جعشم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك) ، يعني ليوثقوك.
وانظر سورة الإسراء آية (73 و76) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (ليثبتوك أو يقتلوك) ، قال: كفار قريش، أرادوا ذلك بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يخرج من مكة.
قوله تعالى (وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (إن هذا إلا أساطير الأولين) رد الله عليهم كذبهم وافتراءهم هذا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى (وقالوا أساطير(2/397)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)
الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً. قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إنه كان غفوراً رحيماً) وما أنزله عالم السر في السموات والأرض فهو بعيد جداً من أن يكون أساطير الأولين، وكقوله (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) .
إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى (وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون)
قال البخاري: حدثني أحمد، حدثنا عبد الله بن معاذ، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن عبد الحميد -هو ابن كرديد صاحب الزيادي- سمع أنس بن مالك - رضي الله عنه -: قال أبو جهل (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب إليم) فنزلت (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام) الآية.
(الصحيح 8/158 ح 4648 -ك التفسير- سورة الأنفال، ب الآية) ، وأخرجه مسلم (الصحيح 4/2154 - ك صفات المنافقين وأحكامهم، ب قوله (إن الإنسان ليطغى)) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله: (إن كان هذا هو الحق من عندك) قال: قول النضر بن الحارث أو: ابن الحارث بن كلدة. ا.هـ.
وأخرجه من طرق صحيحه مرسلة أخرى، عن سعيد بن جبير وعطاء والسدي، وهي مراسيل يقوي بعضها بعضاً.
قال الحاكم: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا العباس بن محمد الدوري، ثنا الأسود بن عامر شاذان، ثنا حماد بن سلمة عن أبي جعفر الخطمي، عن محمد ابن كعب القرظي، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان فيكم أمانان مضت إحداهما وبقيت الأخرى (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) .
(المستدرك 1/542 - ك الدعاء) ، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي) .(2/398)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
قال أحمد: ثنا أبو سلمة، أنا ليث، عن يزيد بن الهاد عن عمرو، عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول. "إن إبليس قال لربه: بعزتك وجلالك لا أبرح أغوي بني آدم مادامت الأرواح فيهم، فقال الله: فبعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني".
(المسند 3/29) ، وأخرجه أيضاً عن يونس عن ليث به (المسند 3/41) ، وعزاه الهيثمي لأحمد وأبي يعلى والطبراني في الأوسط ثم قال: أحد إسنادي أحمد رجاله رجال الصحيح، وكذلك أحد إسنادي أبى يعلى (مجمع الزوائد 10/207) ، وأخرجه الحاكم (المستدرك 4/261) من طريق دراج عن أبى الهيثم عن أبي سعيد به.
وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في (السلسله الصحيحة ح 104) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وماكان الله ليعذبهم وأنت فيهم) يقول: ماكان الله سبحانه يعذب قوما وأنبياؤهم بين أظهرهم حتى يخرجهم ثم قال: (وما كان الله معذبهم وهم بستغفرون) يقول: ومنهم من قد سبق له من الله الدخول في الإيمان، وهو الاستغفار.
ثم قال. (وما لهم ألا يعذبهم الله) ، فعذبهم يوم بدر بالسيف.
قوله تعالى (وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون)
قال الشيخ الشنقيطي: صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بنفي ولاية الكفار على المسجد الحرام، وأثبتها لخصوص المتقين، وأوضح هذا المعنى في قوله (ماكان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون. إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك إن يكونوا من المهتدين) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (إن أولياؤه إلا المتقون) ، من كانوا، وحيث كانوا.
قوله تعالى (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية) المكاء: التصفير، والتصدية: التصفيق.(2/399)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)
قوله تعالى (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله) الآية حتى قوله (أولئك هم الخاسرون) قال: في نفقة أبي سفيان على الكفار يوم أحد.
ورواه الطبري بسنده الحسن عن السدي ورواه عن غير السدي فهذه مراسيل يقوي بعضها بعضاً.
قوله تعالى (ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ليميز الله الخبيث من الطيب) ، فميز أهل السعادة من أهل الشقاوة.
قوله تعالى (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين)
قال البخاري: حدثنا خلاد بن يحيى، حدثنا سفيان، عن منصور والأعمش، عن أبي وائل، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رجل: يا رسول الله أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: "من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر".
(الصحيح 12/277 ح 6921 - ك استتابة المرتدين، ب إثم من أشرك بالله) ، وأخرجه مسلم في (الصحيح 1/111 ح 120 - ك الأيمان، ب هل يؤاخذ بأعمال الجاهلية) .
قال مسلم: حدثنا محمد بن المثنى العنزي وأبو معن الرقاشي وإسحاق ابن منصور كلهم عن أبى عاصم واللفظ لابن المثنى: حدثنا الضحاك (يعني أبا عاصم) قال: أخبرنا حيوة بن شريح، قال. حدثني يزيد بن أبى حبيب، عن ابن شُماسة المهري، قال: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت، فبكى طويلاً وحول وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: يا أبتاه أما بشرك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكذا؟ أما بشرك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكذا؟ قال فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نعِد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. إني قد كنت على أطباق ثلاث. لقد رأيتني وما أحد أشدّ بُغضاً لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منى، ولا أحب إليّ أن أكون قد استمكنت منه فقتلته، فلو مُتُّ على(2/400)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)
تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيتُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلتُ: ابسط يمينك فلأبايعك. فبسط يمينه. قال: فقبضتُ يدي. قال: "مالك يا عمرو؟ ". قال قلتُ: أردتُ أن أشترط. قال: "تشترط بماذا؟ " قلتُ: أن يُغفر لي. قال: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟ " وما كان أحدٌ أحب إلىّ من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا أجَلَّ في عيني منه. وما كنت أطيق أن أملأ عينيّ منه إجلالاً له. ولو سُئلتُ أن أصفه ما أطقتُ. لأني لم أكن أملأ عينيّ منه. ولومُتُّ على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة. ثم ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها. فإذا أنا مت، فلا تصحبني نائحة ولا نار. فذا دفنتموني فشُنُّوا عليّ التراب شناً. ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور. ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي.
(الصحيح 1/112-113 ح 121 - ك الايمان، ب كون الإسلام يهدم ما قبله ... ) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (فقد مضت سنة الأولين) في قريش يوم بدر وغيرها من الأمم قبل ذلك.
قوله تعالى (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) يعني: حتى لا يكون شرك.
قال البخاري: حدثنا الحسن بن عبد العزيز، حدثنا عبد الله بن يحيى، حدثنا حَيوة، عن بكر بن عمرو، عن بُكير، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رجلاً جاءه فقال: يا أبا عبد الرحمن، ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) إلى آخر الآية، فما يمنعك أن لا تقاتل كما ذكر الله في كتابه؟ فقال: يا ابن أخي أعَير بهذه الآية ولا أقاتل أحبَّ إليّ من أن أعيَّر بهذه الآية التي يقول الله تعالى: (ومن يقتل مومناً متعمداً) إلى آخرها. قال: فإن الله يقول: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) قال ابن عمر: قد فعلنا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ كان الإسلام قليلا، فكان الرجل يُفتن في دينه: إما يقتلوه، وإما يوثقوه، حتى كثر الإسلام فلم تكن قتنة. فلما رأى أنه لا يوافقه فيما يريد قال: فما قولك(2/401)
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)
في عليّ وعثمان؟ قال ابن عمر: ما قولي في عليّ وعثمان؟ أما عثمان فكان الله قد عفا عنه، فكرهتم أن يعفو عنه، وأما عليّ فابن عم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وختنه -وأشار بيده- وهذه ابنته -أو بنته- حيث ترون.
(الصحيح 8/160 ح 4650 -ك التفسير- سورة الأنفال، ب الآية) .
وقال البخاري: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا بيان: أنّ وبرة حدثه قال: حدثني سعيد بن جبير قال: خرج علينا -أو إلينا- ابنُ عمر، فقال رجل: كيف ترى في قتال الفتنة؟ فقال: وهل تدري ما الفتنة؟ كان محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقاتل المشركين، وكان الدخول عليهم فتنة، وليس كقتالكم على الملك.
(الصحيح 8/160 ح 4651 -ك التفسير- سورة الأنفال) .
وانظر حديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله.." في سورة التوبة آية (5) .
قال البخاري: حدثنا عثمان، قال: أخبرنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن أبي موسى قال: جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، ما القتال في سبيل الله؟ فإن أحدنا يقاتل غضباً ويقاتل حمية. فرفع إليه رأسه -قال: وما رفع إليه رأسه إلا أنه كان قائماً- فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله عز وجل".
(الصحيح 1/268 ح 123 - ك العلم، ب من سأل وهو قائم عالماً جالساً) .
قال ابن ماجة: حدثنا سويد بن سعيد، ثنا على بن مسهر، عن عاصم، عن السميط بن السمير، عن عمران بن الحصين، قال: أتى نافع بن الأزرق وأصحابه. فقالوا: هلكتَ يا عمران! قال: ما هلكتُ؟ قالوا: بلى. قال: ما الذي أهلكني؟ قالوا: قال الله: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) قال: قد قاتلناهم حتى نفيناهم، فكان الدين كله الله، إن شئتم حدّثتكم حديثاً سمعته من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قالوا: وأنت سمعته من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: نعم، شهدت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد بعث جيشا من المسلمين إلى(2/402)
المشركين، فلما لقوهم قاتلوهم قتالاً شديداً، فمنحوهم أكتافهم. فحمل رجل من لُحمتي على رجل من المشركين بالرمح، فلمّا غشيه قال: أشهد أن لا إله إلا الله، إني مسلم. فطعنه فقتله. فأتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! هلكتُ. قال: "وما الذي صنعتَ؟ " مرّةً أو مرتين، فأخبره بالذي صنع. فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فهلا شققت عن بطنه فعلمتَ ما في قلبه؟ ". قال: يا رسول الله! لو شققت بطنه لكنت أعلم ما في قلبه؟ قال: "فلا أنت قبلتَ ماتكلّم به، ولا أنت تعلم ما في قلبه ... ".
(سنن ابن ماجة 2/1296 ح 3930 - ك الفتن، ب الكف عمن قال لا إله إلا الله) ، قال البوصيرى: هذا إسناد حسن، عاصم هو الأحول روى له مسلم. والسميط: وثقه العجلي وروى له مسلم في صحيحه، وسويد بن سعيد مختلف فيه (مصباح الزجاحة 3/222) ، وقد أخرجه أيضاً ابن ماجة من غير طريق سويد من طريق حفص بن غياث عن عاصم به رقم 3931. ولذا حسنه الألباني (انظر صحيح ابن ماجه 2/348) .
قوله تعالى (واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير)
قال الشيخ الشنقيطي: ظاهر هذه الآية الكريمة أن كل شيء حواه المسلمون من أموال الكفار فإنه يخمس حسبما نص عليه في الآية، سواء أوجفوا عليه الخيل والركاب أولا، ولكنه تعالى بين في سورة "الحشر" أن ما أفاء الله على رسوله من غير إيجاف المسلمين عليه الخيل والركاب، أنه لا يخمس ومصارفه التي بين أنه يصرف فيها كمصارف خمس الغنيمة المذكورة هنا، وذلك في قوله تعالى في فيء بني النضير: (وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) الآية، ثم بين شمول الحكم لكل ما أفاء الله على رسوله من جميع القرى بقوله (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول) الآية.(2/403)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
قال البخاري: حدثنا علي بن الجعد، قال: أخبرنا شعبة عن أبي جمرة قال: كنت أقعد مع ابن عباس يُجلسني على سريره، فقال: أقم عندي حتى أجعل لك سهماً من مالي. فأقمت معه شهرين، ثم قال: إن وفد عبد القيس لما أتوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "مَنِ القوم -أو من الوفد؟ "- قالوا: ربيعة. قال: "مرحبا بالقوم -أو بالوفد- غير خزايا ولا ندامى". فقالوا: يا رسول الله، إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام، وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، فمُرنا بأمر فصْلٍ نُخبر به من وراءنا، وندخل به الجنة، وسألوه عن الأشربة.
فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع: أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال: "أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخُمس". ونهاهم عن أربع: عن الحنتم، والدبّاء، والنقير، والمزفت -وربما قال: المقيَّر- وقال: "احفظوهن، وأخبروا بهن مَن وراءكم".
(الصحيح 1/157 ح 53 - ك الإيمان، ب أداء الخمس من الإيمان) .
وقال البخاري: حدثنا يحيى بن بُكير، حدثنا الليث عن عُقيل، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن جُبير بن مطعم قال: مَشَيت أنا وعثمان بن عفان فقال: يا رسول الله أعطيتَ بني المطلب وتركتنا، وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد".
(الصحيح 6/616 ح 3502 - ك المناقب، ب مناقب قريش) .
وقال: حدثني محمد بن بشار، حدثنا روح بن عُبادة، حدثنا علي بن سويد ابن منجوف، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: بعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علياً إلى خالد ليقبض الخمس، وكنتُ أبغض علياً وقد اغتسل، فقلت لخالد: ألا ترى إلى هذا؟ فلما قدمنا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكرت ذلك له، فقال: "يا بُريدة أتبغض علياً؟ ". فقلت: نعم. قال: "لا تُبغضه، فإنّ له في الخمس أكثر من ذلك".
(الصحيح 7/664 ح 4350 - ك المغازي، ب بعث علي بن أبي طالب عليه السلام وخالد بن الوليد إلى اليمن قبل حجة الوداع) .(2/404)
قال مسلم: حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، حدثنا سليمان (يعنى ابن بلال) ، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن يزيد بن هرمز، أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن خمس خِلال. فقال ابن عباس: لولا أن أكتم عِلماً ما كتبتُ إليه. كتب إليه نجدة: أما بعد. فأخبِرْني هل كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغزو بالنساء؟ وهل كان يضرب لهن بسهم؟ وهل كان يقتل الصبيان؟ ومتى ينقضي يُتم اليتيم؟ وعن الخمس لِمن هو؟ فكتب إليه ابن عباس: كتبتَ تسألني هل كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغزو بالنساء؟ وقد كان يغزو بهن فيداوين الجرحى وُيحذين من الغنيمة. وأما بسهم فلم يضرب لهن. وإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يقتل الصبيان، فلا تقتل الصبيان. وكتبت تسألني: متى ينقضي يُتم اليتيم؟ فلعمري إن الرجل لتنبت لحيته وإنه لضعيف الأخذ لنفسه. ضعيف العطاء منها. فإذا أخذ لنفسه من صالح ما يأخذ الناس، فقد ذهب عنه اليتم. وكتبتَ تسألني عن الخمس لمن هو؟ وإنا كنا نقول: هو لنا. فأبى علينا قومنا ذاك.
(الصحيح 3/1444-1445 ح 1812 - ك الجهاد والسير، ب النساء الغازيات يرضخ لهن ولا بسهم) .
قال الترمذي: حدثنا هناد، حدثنا ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة عن ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تنفّل سيفه ذا الفقار يوم بدر، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد.
(السن 4/130 ح 1561 - ك السير، ب في النفل. قال الترمذي: حديث حسن غريب.
وأخرجه الحاكم من طريق ابن أبي الزناد وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 2/128-129 و3/39) .
وقال الألباني: حسن (صحيح الترمذي ح 1266) ، وأخرجه أحمد (المسند ح 2445) عن سريج عن ابن أبي الزناد بأطول منه. قال محققه: إسناده صحيح) .
قال أبو داود حدثنا مسلم بن إبراهيم: ثنا قرة، قال: سمعت يزيد بن عبد الله قال: كنا بالمربد فجاء رجل أشعث الرأس بيده قطعة أديم أحمر، فقلنا: كأنك من أهل البادية، فقال: أجل، قلنا: ناولنا هذه القطعة الأديم التي في يدك، فناولناها، فقرأناها، فإذا فيها: "من محمد رسول الله إلى بني زهير بن أُقيش إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأقمتم الصلاة، وآتيتم(2/405)
الزكاة، وأديتم الخمس من المغنم، وسهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وسهم الصفي، أنتم آمنون بأمان الله ورسوله "فقلنا: من كتب لك هذا الكتاب؟ قال: رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -".
(السنن 3/153-154 ح 2999 - ك الخراج والإمارة والفيء، ب ما جاء في سهم الصفي) ، وأخرجه ابن حبان في صحيحه (الإحسان 14/497 ح 6557) عن الفضل بن الحباب عن مسلم بن إبراهيم به. قال محققه: إسناده صحيح.. وأخرجه النسائي (السنن 7/134 - ك قسم الفيء) ، وأحمد (المسند 5/77، 78) من طرق عن الجريري عن يزيد به. وذكره ابن كثير في جملة من الأحاديث ثم قال: هذه أحاديث جيدة) . وصححه الألباني في (صحيح سنن أبي داود 2/581 ح 2592) .
قال النسائي: أخبرنا عمرو بن يحيى بن الحارث قال، حدثنا محبوب يعني ابن موسى قال، أنبأنا أبو إسحاق وهو الفزاري، عن عبد الرحمن بن عياش عن سليمان بن موسى عن مكحول، عن أبي سلام عن أبي أمامة الباهلي، عن عبادة ابن الصامت قال أخذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم حنين وبرة من جنب بعير فقال: "يا أيها الناس إنه لا يحل لي مما أفاء الله عليكم قدر هذه إلا الخمس والخمس مردود عليكم". قال أبو عبد الرحمن: اسم أبي سلام ممطور وهو حبشي، واسم أبي أمامة: صدي بن عجلان.
(السنن 7/131 - ك قسم الفيء) ، وأخرجه ابن حبان (الإحسان 11/193-194 ح 4855) ، وأخرجه الحاكم (المستدرك 3/49) من طريق عبد الرحمن بن الحارث عن سليمان بن موسى به بأطول منه. قال الألباني: حسن صحيح (صحيح النسائي ح 3858) وللحديث شاهد عن عمرو بن عبسة.
أخرجه أبو داود (السنن 3/82 - ك الجهاد، ب في الإمام يستأثر بشيء من الفيء لنفسه من طريق أبي سلام عنه به) . قال الألباني: وهذا سند صحيح رجاله رجال الصحيح غير الوليد بن عتبة وهو ثقة.
(الصحيحة 2/718 ح 985) و (صحح أبي داود ح 2393) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة في قوله: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) قال: كان الفىء في هؤلاء، ثم نسخ في ذلك سورة الأنفال فقال (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن بالله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) ، فنسخت هذه ما كان قبلها في سورة الأنفال، وجعل الخمس لمن كان له الفىء في سورة الحشر، وسائر ذلك لمن قاتل عليه.
وانظر سورة البقرة آية (177) لبيان: اليتامى والمساكين وابن السبيل.(2/406)
قال الحاكم: أخبرني أحمد بن محمد بن سلمة العنزي، ثنا عثمان بن سعيد الدارمي، ثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل (إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان) يعني بالفرقان: يوم بدر فَرَّق الله بين الحق والباطل.
(المستدرك 3/23 - ك المغازي) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه ووافقه الذهبي) .
انظر حديث أحمد عن واثلة بن الأسقع المتقدم عند الآية (3-4) من سورة آل عمران.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (يوم الفرقان) ، يعنى: بـ (الفرقان) ، يوم بدر، فرق الله فيه بين الحق والباطل.
قوله تعالى (إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم)
أخرج الطبري عن قتادة قوله (إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى) وهما شفير الوادي كان نبي الله أعلى الوادي والمشركون أسفله.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله: (والركب أسفل منكم) ، قال: أبو سفيان وأصحابه، مقبلون من الشام تجارا، لم يشعروا بأصحاب بدر، ولم يشعر محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكفار قريش، ولا كفار قريش بمحمد وأصحابه حتى التقى على ماء بدر من يسقي لهم كلهم. فاقتتلوا، فغلبهم أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأسروهم.
قال ابن كثير وقوله (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة) قال محمد بن إسحاق: أي ليكفر من كفر بعد الحجة، لما رأى من الآية والعبرة، ويؤمن من آمن على مثل ذلك. وهذا تفسير جيد، وبسط ذلك أنه تعالى يقول: إنما جمعكم مع عدوكم في مكان واحد على غير ميعاد، لينصركم عليهم، ويرفع كلمة الحق على الباطل ليصير الأمر ظاهراً، والحجة قاطعة، والبراهين ساطعة، ولا يبقى لأحد حجة ولا شبهة، فحينئذ (يهلك من هلك) أي يستمر في الكفر من استمر(2/407)
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)
فيه على بصيرة من أمره أنه بطل، ليقام الحجة عليه، (ويحيى من حيَّ) أي: يؤمن من آمن، (عن بينة) أي: حجة وبصيرة. والإيمان هو حياة القلوب، قال تعالى (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس) .
قوله تعالى (إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور)
أخرج الطبري بسند صحيح عن مجاهد (إذ يريكهم الله في منامك قليلا) قال: أراه الله إياهم في منامه قليلا، فأخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصحابه بذلك، فكان تثبيتا لهم.
قوله تعالى (وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً وإلى الله ترجع الأمور)
قال الطبري: حدثنى ابن بزيع البغدادي قال، حدثنا إسحاق بن منصور، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: لقد قُلِّلوا في أعيننا يوم بدر، حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: أراهم مئة! قال: فأسرنا رجلا منهم فقلنا: كم هم؟ قال: ألفاً.
وابن بزيع هو: محمد بن عبد الله بن بزيع. وسنده صحيح.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن الزبير ابن الخريت، عن عكرمة (وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم) قال: حضض بعضهم على بعض.
وصححه ابن كثير.
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون)
قال الشيخ الشنقيطي: أمر الله تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة بالثبات عند لقاء العدو، وذكر الله كثيراً مشيراً إلى أن ذلك سبب للفلاح، والأمر بالشيء نهي عن ضده، أو مستلزم للنهي عن ضده، كما علم في الأصول، فتدل(2/408)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)
الآية الكريمة على النهي عن عدم الثبات أمام الكفار، وقد صرح تعالى بهذا المدلول في قوله (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار) إلى قوله (وبئس المصير) . وفي الأمر بالإكثار من ذكر الله تعالى في أضيق الأوقات؛ وهو وقت التحام القتال دليل واضح على أن المسلم ينبغي له الإكثار من ذكر الله على كل حال، ولاسيما في وقت الضيق، والمحب الصادق في حبه لا ينسى محبوبه عند نزول الشدائد.
قال البخاري: وقال أبو عامر: حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تمنّوا لقاء العدو، فإذا لقيتموهم فاصبروا".
(الصحيح 6/181 ح 3026 - ك الجهاد والسير، ب لا تمنوا لقاء العدو) ، وأخرجه مسلم في (الصحيح ح 1742 - ك الجهاد، ب كراهة تمني لقاء العدو والأمر بالصبر عند اللقاء) .
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا أبو إسحاق -هو الفزاري- عن موسى بن عقبة، عن سالم أبي النخير مولى عمر بن عبيد الله وكان كاتبا له قال: كتب إليه عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما فقرأته: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض أيامه التى لقي فيها انتظر حتى مالت الشمس.
ثم قام في الناس خطيباً قال: أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف. ثم قال: اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم".
(الصحيح 6/140 ح 2965-2966 - ك الجهاد والسير، ب كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس) ، وأخرجه مسلم (الصحيح - ك الجهاد، ب كراهية تمني لقاء العدو) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) ، افترض الله ذكره عند أشغل ما تكونون، عند الضراب بالسيوف.
قال أبو داود: حدثنا حيوة بن شريح الحضرمي، ثنا بقية، حدثني بحير، عن خالد بن معدان، عن أبي بحرية، عن معاذ بن جبل، عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه(2/409)
قال: "الغزو غزوان: فأما من ابتغى وجه الله، وأطاع الإمام، وأنفق الكريمة، وياسر الشريك، واجتنب الفساد؛ فإن نومه ونبْهه أجر كله. وأما من غزا فخراً ورياء وسمعة، وعصى الإمام، وأفسد في الأرض؛ فإنه لم يرجع بالكَفَاف".
(السنن 3/13-14 ح 2515 - ك الجهاد، ب في من يغزو ويلتمس الدنيا) ، وأخرجه النسائي (6/49 - ك الجهاد، في فضل الصدقة في سبيل الله) ، والدارمي في (السنن 2/208-209 - ك الجهاد، ب الغزو غزوان) ، وأحمد في مسنده (5/234) من طرق عن بقية به. حسنه الألباني في (صحيح سنن أبي داود 2/478 ح 2195) . وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات ليس فيه إلا ما يخشى من تدليس بقية، وقد صرح بالتحديث كما في رواية أبي داود (انظر مرويات الدارمي في التفسير ص252) .
قوله تعالى (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) الآية
قال الشيخ الشنقيطي: نهى الله جل وعلا المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن التنازع، مبيناً أنه سبب الفشل، وذهاب القوة، ونهى عن الفرقة أيضاً في مواضع أخر؛ كقوله (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) ونحوها من الآيات.
وقوله في هذه الآية (وتذهب ريحكم) أي قوتكم.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله: (وتذهب ريحكم) قال: نصركم. قال: وذهبت ريح أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين نازعوه يوم أحد.
قوله تعالى (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله: (بطرا ورئاء الناس) قال: أبو جهل وأصحابه يوم بدر. وأخرجه بنحوه بسند صحيح عن قتادة.
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الشيطان غر الكفار، وخدعهم، وقال لهم: لا غالب لكم وأنا جار لكم. وذكر المفسرون: أنه تمثل لهم في صورة (سراقة بن مالك بن جعشم) سيد بني مدلج بن بكر بن كنانة، وقال لهم ما ذكر الله عنه، وأنه يجيرهم من بني كنانة، وكانت بينهم عداوة(2/410)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)
(فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه) عندما رأى الملائكة وقال لهم (إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون) فكان حاصل أمره أنه غرهم، وخدعهم حتى أوردهم الهلاك، ثم تبرأ منهم. وهذه هي عادة الشيطان مع الإنسان كما بينه تعالى في آيات كثيرة، كقوله (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك) الآية. وقوله (وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم) إلى قوله (إني كفرت بما أشركتمون من قبل) .
وكقوله (يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين، معه رايته في صورة رجل من بني مدلج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، فقال الشيطان للمشركين: (لا غالب لكم اليوم من الناس وإنى جار لكم) . فلما اصطف الناس، أخذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبضة من التراب فرمى به في وجوه المشركين، فولوا مدبرين. وأقبل جبريل إلى إبليس، فلما رآه، وكانت يده في يد رجل المشركين، انتزع إبليس يده فولى مدبرا هو وشيعته فقال الرجل: يا سراقة، تزعم أنك لنا جار؟ قال: (إني أرى ما لا
ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب) ، وذلك حين رأى الملائكة.
قوله تعالى (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض) قال لما دنا القوم بعضهم من بعض قلل الله المسلمين في أعين المشركين، وقلل المشركين في أعين المسلمين، فقال المشركون: وما هؤلاء؟ غر هولاء دينهم، وإنما قالوا ذلك من قلتهم في أعينهم، وظنوا أنهم سيهزمونهم لا يشكون في أنفسهم في ذلك، فقال الله تعالى (ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم) .
(التفسير - سورة الأنفال ح 521) ، وأخرجه أيضاً البيهقي في الدلائل 3/120-121) من طريق علي بن أبي طلحة به.
وانظر سورة البقرة آية (10) في قلوبهم مرض أي شك.(2/411)
إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)
قال الطبري: حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم) قال: هم قوم لم يشهدوا القتال يوم بدر فسموا منافقين.
وسنده صحيح.
قوله تعالى (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله: (إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم) ، قال: يوم بدر.
انظر سورة الأنعام آية (93) .
قوله تعالى (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب)
انظر سورة آل عمران آية (11) .
قوله تعالى (ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم) ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه، وأوضح هذا المعنى في آيات أخر؛ كقوله (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من وال) . وقوله (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) . وقوله (وما أصابك من سيئة فمن نفسك) إلى غير ذلك من الآيات.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) ، يقول: نعمة الله محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنعم به على قريش، وكفروا، فنقله إلى الأنصار.(2/412)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)
قوله تعالى (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين)
انظر سورة البقرة عن اغراق آل فرعون آية (50) وسورة آل عمران آية (11) في تفسير بقية الآية.
قوله تعالى (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون)
انظر سورة الفرقان آية (44) وفيها بيان شر الدواب قال تعالى: (إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً) .
قوله تعالى (الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله: (الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم) قال: قريظة، ما لأوا على محمد يوم الخندق أعداءه.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم) يعنى: نكل بهم من بعدهم.
انظر سورة النساء آية (89) .
قوله تعالى (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين)
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر النمري، قال: ثنا شعبة، عن أبي الفيض، عن سليم بن عامر -رحل من حمير-، قال: كان بين معاوية وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم، حتى إذا انقضى العهد غزاهم، فجاء رجل على فرس أو بِرذون وهو يقول: الله أكبر، الله أكبر، وفاء لا غدر، فنظروا فإذا عمرو ابن عبسة، فأرسل إليه معاوية، فسأله، فقال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من كان بينه وبين قوم عهد لا يَشُدُّ عقدة ولا يحلها حتى يقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء"
فرجع معاوية.
(السنن 3/83 ح 2759 - ك الجهاد، ب في الإمام يكون بينه وبين العدو عهد فيسير إليه) ، وأخرجه الترمذي (السنن 4/143 ح 1580 - ك السير، ب ما جاء في الغدر) من طريق: أبي داود الطيالسي. وأحمد (المسند 4/111) من طريق: محمد بن جعفر، كلاهما عن شعبة به. قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقال الألباني: صحيح (صحيح الترمذي ح 1285) .(2/413)
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (فانبذ إليهم على سواء) قال: قريظة.
وانظر آية (71) من السورة نفسها.
قوله تعالى (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ... )
قال مسلم: حدثنا هارون بن معروف، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبي علي، ثُمامة بن شُفيٍّ؛ أنه عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو على المنبر، يقول: " (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي".
(الصحيح 3/1522 ح 1917 - ك الإمارة، ب فضل الرمي والحث عليه وذم من علمه ثم نسبه) .
قوله تعالى (ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم)
قال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة".
(الصحيح 3/1492 ح 1871 - ك الإمارة، ب الخيل في نواصيها الخير) ، وأخرجه البخاري 6/64 - ك الجهاد، ب الخيل معقودة في نواصيها الخير إلى يوم القيامة) .
قال البخاري: حدثنا علي بن حفص، حدثنا ابن المبارك، أخبرنا طلحة بن أبي سعيد قال: سمعت سعيداً المقبري يُحدث أنه سمع أبا هريرة - رضي الله عنه - يقول: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَنْ احتبس فرساً في سبيل الله، إيماناً بالله وتصديقاً بوعده، فإنّ شِبعه وريّه ورَوْثه وبوله في ميزانه يوم القيامة".
(الصحيح 6/67 ح 2853 - ك الجهاد، ب من احتبس فرسا في سبيل الله) .
قال البخاري: حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح السمّان، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الخيل لثلاثة: لرجل أجرٌ، ولرجل سِترٌ، وعلى رجل وِزر. فأما الذي له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله، فأطال لها في مَرْج أو روضة، فما أصابت في طِيَلها ذلك في المرج(2/414)
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)
والروضة كان له حسنات. ولو أنها قطعت طِيَلها فاستنت شرفاً أو شرفين، كانت آثارها وأروائها حسنات له، ولو أنها مرتْ بنهر فشربت منه -ولم يرد أن يسقى به- كان ذلك حسنات له، فهي لذلك الرجل أجر. ورجل ربطها تغَنِّيا وتعففاً ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظُهُورها، فهي له ستر. ورجل ربطها فخراً ورئاءً ونِواء فهي على ذلك وزر". فسُئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الحُمر؟ قال: "ما أُنزِلَ عليّ فيها إلا هذه الآية الفاذة الجامعة (فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرّة شراً يره) .
(الصحيح 8/598 ح 4962 - ك التفسير - سورة الزلزلة، ب قوله (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره) . و (6/75 ح 2860 - ك الجهاد والسير، ب الخيل لثلاثة) ، وأخرجه مسلم (2/682 ح 987 - ك الزكاة، ب إثم مانع الزكاة نحوه) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (وآخرين من دونهم) ، قال: قريظة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) ، هؤلاء أهل فارس.
ويمكن الجمع بين القولين.
قوله تعالى (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين)
قال ابن الجوزي: وأخبرنا ابن ناصر، قال أنبا ابن أيوب قال: أنبا ابن شاذان قال: أنبا أبو بكر النجار قال: أنبا أبو داود السجستاني قال: أنبا أحمد بن محمد قال: أنبا علي بن الحسين، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) نسختها (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله) .
(نواسخ القرآن ص348) . وقد تقدم مثل هذا الإسناد عند أبي داود في (السنن رقم2817) ، عند قوله تعالى (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه) الأنعام/118. وحسنه الألباني في صحيح أبي داود.
وانظر سورة البقرة آية (208) .(2/415)
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة: (وإن جنحوا للسلم) قال: للصلح، ونسخها قوله: (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) سورة التوبة: 5.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن السدي: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) وإن أرادوا الصلح فأرده.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (وان يريدوا أن يخدعوك) قال: قريظة.
انظر سورة البقرة آية (9) لبيان الخداع.
قوله تعالى (وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم)
قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا وهيب عن عمرو بن يحيى عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد بن عاصم قال: لما أفاء الله على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم ولم يُعط الأنصار شيئا، فكأنهم وجدوا إذ لم يُصبهم ما أصاب الناس، فخطبهم فقال: يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي؟ كلّما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمنُّ. قال: ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: كلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمنُّ. قال: لو شئتم قلتم: جئتنا كذا وكذا. ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى رحالكم؟ لولا الهجرة، لكنت امرءاً من الأنصار. ولو سلك الناس وادياً وشعباً لسلكت وادى الأنصار وشعبها. الأنصار شعار، والناس دثار. إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض".
(الصحيح 7/ 644 ح 4330 - ك المغازي، ب غزوة الطائف) ، وأخرجه مسلم (الصحيح - ك الزكاة، ب إعطاء المؤلفة قلوبهم) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (وألف بين قلوبهم) ، قال: هؤلاء الأنصار، ألف بين قلوبهم من بعد حرب، فيما كان بينهم.(2/416)
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65)
قال الطبري: حدثني محمد بن خلف، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: حدثني فضيل بن غزوان، قال: أتيت أبا إسحق فسلمت عليه فقلت: أتعرفني؟
فقال فضيل: نعم! لولا الحياء منك لقبلتك حدثني أبو الأحوص، عن عبد الله قال: نزلت هذه الآية في المتحابين في الله: (لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم) .
(أبو الأحوص هو عوف بن مالك بن نضلة، وأخرجه الحاكم من طريق علي بن عبيد عن فضيل به، وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 2/329) وذكره الهيثمي وقال: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح غير جنادة بن سلم وهو ثقة. (مجمع الزوائد 7/27) .
قوله تعالى (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين)
انظر سورة آل عمران آية (173-174) .
قوله تعالى (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون)
قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن ابن عباس رضي الله عنهما: لما نزلت (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) فكتب عليهم أن لا يفرّ واحدٌ من عشرة، فقال سفيان غير مرة: أن لا يفرّ عشرون من مائتين، ثم نزلت (الآن خفف الله عنكم) الآية، فكتب أن لا يفر مائة من مائتين، وزاد سفيان مرة: نزلت (حرّض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون) قال سفيان وقال ابن شبرمة: وأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل هذا.
(الصحيح 8/161-162 ح 4652 -ك التفسير- سورة الأنفال، ب الآية) ، وأخرجه مسلم (الصحيح 3/1431 ح 1805 - ك الجهاد، ب غزوة الأحزاب) .
وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا أبو إسحاق، عن حُميد قال: سمعت أنساً - رضي الله عنه - يقول: خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى(2/417)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65)
الخندق، فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلمّا رأى ما بهم من النصب والجوع قال: "اللهم إن العيش عيش الآخرة، فاغفر اللهم للأنصار والمهاجره". فقالوا مجيبين له:
نحن الذين بايعوا محمداً ... على الجهاد ما بقينا أبداً
(الصحيح 6/54 ح 2834 - ك الجهاد والسير، ب التحريض على القتال وقول الله عز وجل الآية) .
قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن النضر بن أبي النضر وهارون بن عبد الله ومحمد ابن رافع وعبد بن حميد -وألفاظهم متقاربة- قالوا: حدثنا هاشم بن القاسم: حدثنا سليمان -وهو ابن المغيرة- عن ثابت، عن أنس بن مالك.
قال: بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُسَيْسَةَ عينا ينظر ما صنعت عير أبي سفيان. فجاء وما في البيت أحد غيري وغير رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (قال: لا أدري ما استثنى بعض نسائه) قال: فحدثه الحديث. قال: فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتكلم. فقال: "إن لنا طَلِبَةً، فمن كان ظهره حاضرا فليركب معنا" فجعل رجال يستأذنونه في ظهرانهم في علو المدينة. فقال: "لا، إلا من كان ظهره حاضراً".
فانطلق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه. حتى سبقوا المشركين إلى بدر. وجاء المشركون، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يُقدّمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه" فدنا المشركون. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض" قال: يقول عُمير بن الحمام الأنصاري: يارسول الله! جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: "نعم" قال: بخ بخ. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما يحملك على قولك بخ بخ" قال: لا. والله! يارسول الله! إلا رجاءة أن أكون من أهلها. قال: "فإنك من أهلها" فأخرج تمرات من قرنه. فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه، إنها لحياة طويلة. قال: فرمى بما كان معه من التمر. ثم قاتلهم حتى قتل.
(الصحيح 3/1509-1511 ح 1901 - ك الإمارة، ب ثبوت الجنة للشهيد) .(2/418)
الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)
قوله تعالى (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين)
قال البخاري: حدثنا يحيي بن عبد الله السلمي، أخبرنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا جرير بن حازم، قال: أخبرني الزبير بن الخريت، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) شق ذلك على المسلمين حين فرِضَ عليهم أن لا يفرّ واحد من عشرة، فجاء التخفيف فقال (الآن خفّف الله عنكم وعلم أنّ فيكم ضعفا، فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين) قال: فلما خَفّف الله عنهم من العدة نَقَص من الصبر بقدر ما خُفّف عنهم.
(الصحيح 8/163 ح 4653 -ك التفسير- سورة الأنفال، ب الآية) .
قوله تعالى (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم)
انظر حديث مسلم المتقدم تحت الآية رقم (125) من سورة البقرة.
وانظر حديث مسلم الطويل تحت الآية رقم (9) من سورة الأنفال.
قال الحاكم: أخبرنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي، ثنا سعيد ابن مسعود، ثنا عبيد الله بن موسى، ثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: استشار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأسارى أبا بكر، فقال: قومك وعشيرتك فخل سبيلهم فاستشار عمر، فقال: اقتلهم، قال: ففداهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأنزل الله عز وجل (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) إلى قوله (فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً) قال: فلقي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عمر قال: "كاد أن يصيبنا في خلافك بلاء".
هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه (المستدرك 2/329 - ك التفسير، سورة الأنفال) وصححه الذهبي) .(2/419)
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) وذلك يوم بدر، والمسلمون يومئذ قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم، أنزل الله تبارك وتعالى بعد هذا في الأسارى: (فإما منا بعد وإما فداء) ، فجعل الله النبي والمؤمنين في أمر الأسارى بالخيار، إن شاءوا قتلوهم وإن شاءوا استعبدوهم شاءوا فادوهم.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي، حدثنا عبيد الله ابن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة عن عمرو بن مرة عن خيثمة قال: كان سعد جالساً ذات يوم وعنده نفر من أصحابه، إذ ذكر رجلاً، فنالوا منه، فقال: مهلاً عن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنا أذنبنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذنباً، فأنزل الله عز وجل (لولا كتاب من الله سبق) الآية. فكنا نرى، أنها رحمة من الله سبقت. (التفسير - سورة الأنفال ح 660) ، وأخرجه أيضاً إسحاق في مسنده (انظر المطالب العالية المسنده (ق 166/أ) ، والحاكم في (المستدرك (2/329-330) من طريق عبد الله بن عمر بإسناده مطولاً، وفى لفظ الحاكم. "فأرجو أن تكون رحمة من عند الله سبقت لنا". ولفظ إسحاق بنحوه، وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين. وأقره الذهبي. وصحح الحافظ إسناده في المطالب العالية.
وحكى محقق (المطالب المجردة 4/151) : عن البوصيري أنه قال: رواه إسحاق بإسناد حسن.
قال الترمذي: حدثنا عبد بن حميد، أخبرني معاوية بن عمرو، عن زائدة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لمْ تحلَّ الغنائم لأحد سُود الرءوس من قبلكم، كانت تنزل نار من السماء فتأكلها"، قال سليمان الأعمش: فمن يقول هذا إلا أبو هريرة الآن، فلما كان يوم بدر وقعوا في الغنائم قبل أن تحل لهم، فأنزل الله تعالى: (لولا كتاب من الله سبق لمسّكم فيما أخذتم عذاب عظيم) .
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث الأعمش (السنن5/271 - ك التفسير، ب سورة الأنفال) ، وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي ح 3085) ، وأخرجه الطبري بنحوه من طريق: أبى معاوية عن الأعمش به، قال الشيخ أحمد شاكر: حديث صحيح الإسناد. (تفسير الطبري 14/66 ح 16301، 16302) ، وأخرجه ابن حبان في صحيحه (الإحسان 11/ 134 ح 4806) من طريق جرير، عن الأعمش به. قال محققه: إسناده على شرط الشيخين. وكذا قال الألباني في (السلسله الصحيحة ح 2155) وكلامه أسبق.(2/420)
لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) كان سبق لهم من الله خير، وأحل لهم الغنائم.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (لولا كتاب من الله سبق) ، لأهل بدر، ومشهدهم إياه.
قوله تعالى (فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً واتقوا الله إن الله غفور رحيم)
قال البخاري: حدثنا محمد بن سنان حدثنا هُشيم. ح. قال: وحدثني سعيد ابن النضر، قال: أخبرنا هشيم قال: أخبرنا سيار قال: حدثنا يزيد -هو ابن صهيب الفقير- قال: أخبرنا جابر بن عبد الله أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أعطيتُ خمساً لم يُعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعلتْ لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيمّا رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولم تحلّ لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصّة وبُعثت إلى الناس عامة".
(الصحيح 1/519 ح 335 - ك التيمم) ، وأخرجه مسلم (الصحيح 1/370 ح 521 - ك المساجد) .
قوله تعالى (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم)
قال الحاكم: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق ثنا يحيى بن عباد بن عبد الله الزبير، عن أبيه، عن عائشة قالت: لما جاءت أهل مكة في فداء أساراهم، بعثت زينب بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في فداء أبي العاص، وبعثت فيه بقلادة كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بني عليها، فلما رأها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَق لها رقة شديدة وقال: "إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها فافعلوا" قالوا: نعم يا رسول الله، وردوا عليه الذي لها. قال: وقال العباس: يا رسول الله إني كنت مسلماً فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الله أعلم بإسلامك، فإن يكن كما(2/421)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
تقول فالله يجزيك فافد نفسك وابني أخويك نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل ابن أبي طالب بن عبد المطلب وحليفك عتبة بن عمرو بن جحدم أخا بني الحارث ابن فهر". فقال: ماذاك عندي يا رسول الله. قال: "فأين المال الذي دفنت أنت وأم الفضل فقلت لها: إن أصبت فهذا المال لبني الفضل وعبد الله وقثم؟ "فقال: والله يا رسول الله إني أشهد أنك رسول الله إن هذا لشيء ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل، فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني عشرين أوقية من مال كان معي، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "افعل" ففدى العباس نفسه وابني أخويه وحليفه، وأنزل الله عز وجل (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسارى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم) فأعطاني مكان العشرين الأوقية في الإسلام عشرين عبداً كلهم في يده مال يضرب به مع ما أرجو من مغفرة الله عز وجل.
(المستدرك 3/324 - ك معرفة الصحابة) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وللحديث شاهد بنحوه مختصراً، أخرجه الطبراني (المعجم الكبير 11/171 ح 11398) ، وابن أبي حاتم (التفسير - سورة الأنفال/70 ح 683) كلاهما من طريق ابن إسحاق، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن ابن عباس. وعزاه الهيثمي للطبراني في الأوسط والكبير، وقال: رجال الأوسط رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع (مجمع الزوائد 7/28) ، وأخرجه الطبري بسنده الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وأصل الحديث في (سنن أبي داود ح 2692 - ك الجهاد، ب فداء الأسير بالمال) ، وحسنه الألباني في (صحيح أبي داود ح 2341) .
قوله تعالى (وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم) يقول: قد كفروا بالله ونقضوا عهده، فأمكن منهم ببدر.
وانظر آية (58) من السورة نفسها.(2/422)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)
قوله تعالى (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير)
انظر حديث بريدة المتقدم عند مسلم، سورة البقرة (190) .
قال أحمد: ثنا وكيع عن شريك، عن عاصم، عن أبي وائل، عن جرير قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة".
قال شريك: فحدثنا الأعمش عن تميم بن سلمة عن عبد الرحمن بن هلال عن جرير عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثله.
(المسند 4/363) ، وأخرجه الطيالسى (المسند ح 671) ، والطبراني (المعجم الكبير ح 2311) ، وابن حبان في صحيحه (الإحسان 16/250 ح 7260) من طرق عن عاصم به. وأخرجه الطبراني (ح 2438) ، والحاكم (المستدرك 4/80-81) من طريق الأعمش عن موسى بن عبد الله بن يزيد الخطمي عن عبد الرحمن بن هلال، عن جرير به. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وعزاه الهيثمي لأحمد والطبراني وقال: وأحد أسانيد الطبراني رجاله رجال الصحيح ... (مجمع الزوائد 10/15) .
وحسن الشيخ الأرناؤوط إسناد ابن حبان، وأورده الألباني في (السلسلة الصحيحة ح 1036) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض) ، يعنى: في الميراث، جعل الميراث للمهاجرين والأنصار دون ذوى الأرحام، قال الله: (والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) ، يقول: مالكم من ميراثهم من شيء، وكانوا يعملون بذلك حتى أنزل الله هذه الآية: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) سورة الأنفال: 75، سورة الأحزاب: 6، في الميراث، فنسخت التي قبلها، وصار الميراث لذوي الأرحام.(2/423)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وإن استنصروكم في الدين) يعنى: إن استنصركم الأعراب المسلمون، أيها المهاجرون والأنصار، على عدوهم، فعليكم أن تنصروهم، إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق.
قوله تعالى (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) يعنى في الميراث (إلا تفعلوه) يقول: إلا تأخذوا في الميراث بما أمرتكم به (تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) .
قوله تعالى (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم)
انظر آية (72) من السورة نفسها.
قوله تعالى (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض)
قال الحاكم: حدثنا أبو العباس، ثنا الحسن بن عفان، ثنا يحيى بن آدم، ثنا الحسن بن صالح، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: هيهات هيهات أين ابن مسعود، إنما كان المهاجرون يتوارثون دون الأعراب فنزلت (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) .
(وصحح إسناده ووافقه الذهبي (المستدرك 4/344-345) ومناسبة قول ابن عباس هذا رواه ابن أبي حاتم في تفسيره بلفظ: قيل لابن عباس أن ابن مسعود لايورث الموالي دون ذوي الأرحام ويقول: إن ذوي الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله فقال: ابن عباس: هيهات. هيهات ...
قال الحاكم: أخبرنا أبو بكر بن إسحاق، أخبرنا الحسن بن علي بن زياد، ثنا إبراهيم ابن المنذر الحزامي، ثنا محمد بن صدقة الفدكي، ثنا ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة عن أبيه قال: قال الزبير بن العوام - رضي الله عنه -: فينا نزلت هذه(2/424)
وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
الآية (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد آخى بين رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، فلم نشك أنا نتوارث لو هلك كعب وليس له من يرثه فظننت أني أرثه ولو هلكت كذلك يرثني حتى نزلت هذه الآية (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) .
(المستدرك 4/344-345 - ك الفرائض وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي) .
قال الترمذي: حدثنا علي بن حُجر وهناد قالا: حدثنا إسماعيل بن عياش، حدثنا شرحبيل بن مسلم الخولاني، عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في خطبته عام حجة الوداع: "إن الله قد أعطى لكل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث، والولد للفراش وللعاهر الحجر وحسابهم على الله، ومن ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله التابعة إلى يوم القيامة. لا تنفِق امرأة من بيت زوجها" إلا بإذن زوجها. قيل: يا رسول الله ولا الطعام، قال: لذلك أفضل أموالنا"، ثم قال: "العارية مؤدّاة، والمنحة مردودة والدين مَقْضيّ، والزعيم غارم.
(السنن 4/433 ح 2120 - ك الوصايا، ب ما جاء لا وصية لوارث) ، وأخرجه أحمد (المسند 5/267) عن أبي المغيرة عن إسماعيل بن عياش به. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال الألباني: صحيح (صحيح الترمذي ح 1721) . وله شاهد من حديث عمرو بن خارجة. أخرجه الترمذي بعده (ح 2121) وقال: حسن صحيح ...(2/425)
سورة التوبة
أسماءها
قال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا هشيم، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة التوبة؟ قال: التوبة هي الفاضحة، ما زالت تنزل: ومنهم، ومنهم، حتى ظنوا أنها لم تبق أحداً منهم إلا ذكر فيها. قال: قلت: سورة الأنفال؟ قال: نزلت في بدر. قال: قلت: سورة الحشر؟ قال: نزلت في بني النضير.
(الصحيح ح 4882 - ك التفسير، سورة الحشر) ، وأخرجه أيضاً مسلم في (صحيحه 4/2322 ح 3031 - ك التفسير، في سورة براءة والأنفال والحشر) من طريق هشيم به.
وقال أبو عبيد: حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش، عن حذيفة قال: يسمونها سورة التوبة، وهي سورة العذاب، يعني براءة.
(فضائل القرآن ح 446) ، وإسناده حسن. وأخرجه الطبراني في (الأوسط 2/196 ح 1352) ، والحاكم في (المستدرك 2/330-331) من طريق عبد الله بن سلمة عن حذيفة، وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد، وأقره الذهبي. وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله ثقات. (مجمع الزوائد 7/28) .
نزولها
قال البخاري: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال: سمعت البراءه - رضي الله عنه - يقول لآخر آية نزلت (يستفتونك قل الله يُفتيكم في الكلالة) وآخر سورة نزلت براءة.
(الصحيح 8/167 ح 4654 -ك التفسير- سورة التوبة، ب الآية) .(2/426)
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)
قوله تعالى (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين)
قال الشيخ الشنقيطي: ظاهر هذه الآية الكريمة العموم في جميع الكفار المعاهدين وأنه بعد انقضاء أشهر الإمهال الأربعة المذكورة في قوله (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) لا عهد لكافر. وفي هذا اختلاف كثير بين العلماء، والذي يبينه القرآن، ويشهد له من تلك الأقوال، هو أن محل ذلك إنما هو في أصحاب العهود المطلقة غير المؤقتة بوقت معين، أو من كانت مدة عهده الموقت أقل من أربعة أشهر فتكمل له أربعة أشهر، أما أصحاب العهود الموقتة الباقي من مدتها أكثر من أربعة أشهر، فإنه يجب لهم إتمام مدتهم، ودليله المبين له من القرآن؛ هو قوله تعالى (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين) وهو اختيار ابن جرير.
قوله تعالى (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم هو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم)
قال الترمذي: حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عبّاد ابن العوام، حدثنا سفيان بن حسين، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن ابن عباس قال: بعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا بكر وأمره أن يُنادي بهؤلاء الكلمات، ثم أتبعه علياً. فبينا أبو بكر في بعض الطريق إذْ سمع رُغاء ناقة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القصواء، فخرج أبو بكر فزعاً فظن أنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإذا هو عليٌّ، فدفع إليه كتاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمر علياً أن ينادي بهؤلاء الكلمات فانطلقا فحجَّا، فقام عليٌّ أيام التشريق، فنادى: ذمة الله ورسوله بريئة من كل مشرك، فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، ولا يحجّن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا مؤمن، وكان عليّ ينادي، فإذا عَيِى قام أبو بكر فنادى بها.(2/427)
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)
قال أبو عيسى: وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث ابن عباس. (السنن 5/274-276 ح 3089، 3091 - ك التفسير، ب سورة التوبة) ، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي. وأخرجه بنحوه النسائي (5/247 - ك الحج، ب الخطبة قبل يوم التروية) ، والدارمي (2/66-67 - ك المناسك، ب في خطبة الموسم) من طرق عن جابر به، وله شاهد صحيح من حديث علي أخرجه الضياء من طريق زيد بن يثيع عن علي نحوه (المختاره 2/84 ح 461) . وأخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 3/51، 52) .
قال البخاري: حدثنا سعيد بن غُفير قال: حدثني الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب وأخبرني حُميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة - رضي الله عنه - قال: بعثني أبو بكر في تلك الحَجّة في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. قال حميد بن عبد الرحمن: ثم أردف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعليّ بن أبي طالب وأمره أن يوذن ببراءة. قال أبو هريرة: فأذن معنا عليّ يوم النحر في أهل منى ببراءة، وألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان.
(الصحيح 8/168 ح 4655 -ك التفسير- سورة التوبة، ب الآية) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) قال: حد الله للذين عاهدوا رسوله أربعة أشهر، يسيحون فيها حيثما شاؤوا، وحد أجل من ليس له عهد، انسلاخ الأشهر الحرم من يوم النحر إلى انسلاخ المحرم، فذلك خمسون ليلة. فإذا انسلخ الأشهر الحرم، أمره بأن يضع السيف فيمن عاهد.
قال ابن ماجة: حدثنا هشام بن عمار، ثنا صدقة بن خالد، ثنا هشام ابن الغاز قال: سمعت نافعا يُحدّث عن ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حجّ فيها فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أيّ يوم هذا؟ ". قالوا: يوم النحر. قال: "فأيّ بلد هذا؟ ". قالوا: هذا بلد الله الحرام. قال: "فأي شهْر هذا؟ ". قالوا: شهْر الله الحرام. قال: "هذا يوم الحج الأكبر. ودماؤكم(2/428)
وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحُرمة هذا البلد، في هذا الشهر، في هذا اليوم". ثم قال: "هل بلغتُ؟ ". قالوا: نعم. فطفق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "اللهم اشهد". ثم ودّع الناس، فقالوا: هذه حجة الوداع.
(السنن 2/1016 ح 3058 - المناسك، ب الخطبة يوم النحر) . علقه البخاري بصيغه الجزم مختصراً، وأخرجه أبو داود من طريق هشام بن الغاز به مختصراً (الصحيح 3/574 فتح - الحج، ب الخطبة أيام منى) ، (السنن 2/195 -المناسك- باب يوم الحج الأكبر) . وقال الألباني: صحيح (صحيح ابن ماجه 2/182) . ذكره ابن كثير (4/52) . وأخرجه الحاكم في (المستدرك 2/331) من طريق الوليد بن مسلم، عن هشام بن الغاز به، قال: حديث صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بأسانيد يقوي بعضها بعضا عن عبد الله بن أبي أوفي وابن عباس وعلي بن أبي طالب وابن عمر ومجاهد وعكرمة والنخعي والشعبي أن الحج الأكبر هو: يوم النحر.
قوله تعالى (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يُظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين)
قال الشيخ الشنقيطى: يفهم من مفهوم هذه الآية: أن المشركين إذا نقضوا العهد جاز قتالهم، ونظير ذلك أيضا، قوله تعالى (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) وهذا المفهوم في الآيتين صرح به جل وعلا في قوله (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون) .
قال البخاري: حدثنا قيس بن حفص، حدثنا عبد الواحد، حدثنا الحسن، حدثنا مجاهد، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من قتل نفسا معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً".
(الصحيح ح 6914 - ك الديات، في إثم من قتل ذميا بغير جرم) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم) يقول: إلى أجلهم.(2/429)
إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحداً) الآية، قال: هم مشركو قريش، الذين عاهدهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زمن الحديبية، وكان بقي من مدتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر. فأمر الله نبيه أن يوفي لهم بعهدهم إلى مدتهم، ومن لا عهد له إلى انسلاخ المحرم، ونبذ إلى كل ذى عهد عهده، وأمره بقتالهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن لا يقبل منهم إلا ذلك.
انظر تفسير الآية (2) من سورة البقرة في بيان المتقين.
قوله تعالى (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم)
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد المسندي، قال: حدثنا أبو روح الحرمي بن عمارة قال: حدثنا شعبة، عن واقد بن محمد قال: سمعت أبي يحدث عن ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة. فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله".
(الصحيح 1/95 ح 25 - ك الأيمان، ب (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) ، وأخرجه مسلم في (الصحيح 1/53 ح 22 - الإيمان، ب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) حتى آخر الآية. وكان قتادة يقول: خلوا سبيل من أمركم الله أن تخلوا سبيله، فإنما الناس ثلاثة رهط مسلم عليه الزكاة، ومشرك عليه الجزية، وصاحب حرب يأمن بتجارته في المسلمين إذا أعطى عشور ماله.(2/430)
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)
قال ابن كثير: وقوله (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) أي: من الأرض وهذا عام، والمشهور تخصيصه بتحريم القتال في الحرم بقوله: (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم)
البقرة آية (191) .
وانظر سورة البقرة آية (196) لبيان معنى الحصر.
قوله تعالى (وإن أحد من المشركين استجارك فأجِره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (فأجِره حتى يسمع كلام الله) أما (كلام الله) فالقرآن.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره) قال: إنسان يأتيك فيسمع ما تقول، ويسمع ما أنزل عليك، فهو آمن حتى يأتيك فيسمع كلام الله، وحتى يبلغ مأمنه، حيث جاءه.
قوله تعالى (كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاًّ ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) يعني: أهل مكة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة) يقول: قرابة ولا عهداً. وقوله: (وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاًّ ولا ذمة) ، قال (الإل) يعني: القرابة، و (الذمة) العهد.(2/431)
اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)
قوله تعالى (اشتروا بآيات الله ثمناً قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (اشتروا بآيات الله ثمناً قليلا) قال أبو سفيان بن حرب: أطعم حلفاءه، وترك حلفاء محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قوله تعالى (لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون)
انظر آية (8) من السورة نفسها.
قوله تعالى (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون)
أخرج البخاري بسنده مرفوعاً: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله ... ".
قال ابن ماجة: حدثنا نصر بن علي الجهضمي، ثنا أبو أحمد، ثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده، وعبادته لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، مات والله عنه راض". قال أنس: وهو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم قبل هرج الأحاديث واختلاف الأهواء. وتصديق ذلك في كتاب الله، في آخر ما نزل يقول الله (فإن تابوا) قال: خلع الأوثان وعبدتها (وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة) . وقال في آية أخرى (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) .
(السنن 1/27 ح 70 - المقدمة، ب في الإيمان) ، صححه الحاكم، فإنه أخرجه في (المستدرك 2/331-332 - ك التفسير) ، من طريق إسحاق بن سليمان الرازي، عن أبي جعفر الرازي به.
وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي على تصحيحه. وكذا صححه الضياء المقدسي، فإنه أخرجه في (الأحاديث الصحاح المختارة 6/126-127 ح 2122-2123) من طرق عن أبي جعفر الرازي به وحسنه محققه، وانظر المقدمة) .(2/432)
فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) يقول: إن تركوا اللات والعزى، وشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله (فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون) .
قوله تعالى (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (وإن نكثوا أيمانهم) إلى (ينتهون) هؤلاء قريش. يقول: إن نكثوا عهدهم الذي عاهدوا على الإسلام وطعنوا فيه، فقاتلهم.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن زيد بن وهب، عن حذيفة قال: ذكروا عنده هذه الآية (فقاتلوا أئمة الكفر) قال: ما قوتل أهل هذه الآية بعد.
(أخرجه الطبري في تفسيره (14/155-156 ح 16527 و16528) من طريق الأعمش به، ورجاله ثقات. وأخرجه بنحوه الحاكم في المستدرك (2/332) من طريق صلة بن زفر عن حذيفة، ثم قال الحاكم: "حديث صحيح على شرط الشيخين". وأقره الذهبي، وقد أخرجه بسياق آخر البخاري في (الصحيح 4658 -ك التفسير- تفسير سورة التوبة، ب (فقاتلوا أئمة الكفر)) من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن زيد بن وهب، ولفظه:
"قال: كنا عند حذيفة فقال: ما بقى من أصحاب هذه الآية إلا ثلاثة، ولا من المنافقين إلا أربعة، فقال أعرابي: إنكم أصحاب محمد تخبروننا فلا ندري، فما بال هؤلاء الذين يبقرون بيوتنا ويسرقون أعلافنا؟ قال: أولئك الفساق. أجل، لم يبق منهم إلا أربعة، أحدهم شيخ كبير لو شرب الماء البارد لما وجد برده". قال الحافظ: "والمراد بكونهم لم يقاتلوا أن قتالهم لم يقع لعدم وقوع الشرط، لأن لفظ الآية (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا) فلما لم يقع منهم نكث ولا طعن لم يقاتلوا") .
(فتح الباري 8/323) .(2/433)
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
أخرج عبد الرزاق بسنده الحسن عن قتادة في قوله: (فقاتلوا أئمة الكفر) ، أبو سفيان بن حرب، وأمية بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وسيل بن عمرو، وهم الذين نكثوا عهد الله وهموا بإخراج الرسول. وليس والله كما تأوله أهل الشبهات والبدع والفرى على الله وعلى كتابه.
قوله تعالى (ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهمّوا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن كفار مكة هموا بإخراجه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من مكة، وصرح في مواضع أخر بأنهم أخرجوه بالفعل، كقوله (يخرجون الرسول وإياكم) الآية. وقوله (وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التى أخرجتك) . وقوله (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا) الآية. وذكر في مواضع أخر محاولتهم لإخراجه قبل أن يخرجوه كقوله: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك) وقوله: (وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها) الآية.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (وهم بدأوكم أول مرة) قال: قتال قريش حلفاء محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قوله تعالى (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين)
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد: (ويشف صدور قوم مؤمنين) خزاعة، حلفاء محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قوله تعالى (ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (ويذهب غيظ قلوبهم) حين قتلهم بنو بكر، وأعانتهم عليهم قريش.(2/434)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
قوله تعالى (ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (ولا المؤمنين وليجة) يتولجها، من الولاية للمشركين.
قوله تعالى (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي قوله: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر) يقول: ما ينبغى لهم أن يعمروها. وأما (شاهدين على أنفسهم بالكفر) فإن النصراني يسأل: ما أنت؟ فيقول: نصراني. واليهودى فيقول: يهودي. والصابئ فيقول: صابئ، والمشرك يقول إذا سألته: ما دينك؟ فيقول: مشرك. لم يكن ليقوله أحد إلا العرب.
قوله تعالى (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين)
قال البخاري: حدثنا يحيى بن سليمان، حدثني ابن وهب، أخبرني عمرو، أن بكيراً حدثه، أن عاصم بن عمر بن قتادة حدثه، أنه سمع عبيد الله الخولاني أنه سمع عثمان بن عفان يقول - عند قول الناس فيه حين بنى مسجد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنكم أكثرتم، وإني سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من بنى مسجداً -قال بكير: حَسِبتُ أنه قال- يبتغي به وجه الله، بنى الله له مِثله في الجنة".
(الصحيح 1/648 ح 450 - ك الصلاة، ب من بنى مسجداً) ، أخرجه مسلم (الصحيح 1/378 ح 533 - ك المساجد ومواضع الصلاة، ب فضل بناء المساجد والحث عليها) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (إنما يعمر مساجد الله من أمن بالله واليوم الآخر) يقول: من وحد الله، وأمن باليوم الآخر. يقول: أقر بما أنزل الله (وأقام الصلاة) يعني: الصلوات الخمس (ولم يخش إلا الله) يقول: ثم لم يعبد إلا الله قال (فعسى أولئك)(2/435)
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)
يقول: إن أولئك هم المفلحون، كقوله لنبيه (عسى أن يبعثك ربك مقاما محموداً) سورة الاسراء: 79. يقول: إن ربك سيبعثك مقاما محموداً، وهي الشفاعة، وكل (عسى) في القرآن فهي واجبة.
قوله تعالى (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدى القوم الظالمين)
قال مسلم: حدثني حسن بن علي الحلواني، حدثنا أبو توبة، حدثنا معاوية بن سلاّم، عن زيد بن سلام، أنه سمع أبا سلام قال: حدثني النعمان بن بشير قال: كنتُ عند منبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال رجل: ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقى الحاج. وقال آخر: ما أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام. وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم. فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وهو يوم الجمعة.
ولكن إذا صليتُ الجمعة دخلتُ فاستفتيته فيما اختلفتم فيه. فأنزل الله عز وجل (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر) الآية إلى أخرها.
(الصحيح 13/1499 ح 1879 - ك الإمارة، ب فضل الشهادة في سبيل الله تعالى) .
قال البخاري: حدثنا إسحاق، حدثنا خالد، عن خالد الحذّاء، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاء إلى السقاية فاستسقى، فقال العباس: يا فضل، اذهب إلى أمك فأت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشراب من عندها. فقال: اسقني. قال: يا رسول الله إنهم يجعلون أيديهم فيه. قال: اسقنِي.
فشرب منه. ثم أتى زمزم وهم يَسقون ويعملون فيها فقال: اعملوا فإنكم على عمل صالح. ثم قال: لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل علي هذه. يعني عاتقه. وأشار إلى عاتقه".
(الصحيح 3/574 ح 1635 - ك الحج، ب سقاية الحاج) .(2/436)
الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)
قوله تعالى (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون)
انظر سورة البقرة آية (218) ، وسورة الأنفال آية (74) .
قوله تعالى (يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم)
قال مسلم: حدثني زهير بن حرب، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من يدخل الجنة ينعم لا يبأسى لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه".
(الصحيح 4/2181-2182 ح 2836 - ك الجنة وصفة نعيمها وأهلها، ب في دوام نعيم أهل الجنة ... ) .
قال الطبري: حدثنا ابن بشار قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري قال: حدثنا سفيان، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال الله سبحانه: أعطيكم أفضل من هذا. فيقولون: ربنا، أي شيء أفضل من هذا؟ قال، رضواني.
ورجاله ثقات وسنده صحيح.
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخدوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان) الآية. نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة عن موالاة الكفار، ولو كانوا أقرباء، وصرح في موضع آخر بأن الاتصاف بوصف الإيمان مانع من موادة الكفار ولو كانوا أقرباء وهو قوله: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم) الآية.(2/437)
قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
قوله تعالى (قل إن كان آباؤكم وآبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين)
قال البخاري: حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب قال: حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "فوالذي نفسي بيده لا يُؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده".
(الصحيح 1/74-75 ح 14 - ك الأيمان، ب حب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) .
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري، أخبرنا ابن وهب، أخبرني حيوة ابن شريح. ح وثنا جعفر بن مسافر التنيسي: ثنا عبد الله بن يحيى البرلسي، ثنا حيوة بن شريح، عن إسحاق أبي عبد الرحمن، قال سليمان: عن أبي عبد الرحمن الخراساني، أن عطاء الخراساني حدثه، إن نافعاً حدثه، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إذا تبايعتم بالعِينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليِكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم".
قال أبو داود: الإخبار لجعفر، وهذا لفظه. (السنن 3/274 ح 3462 - ك البيوع، ب في النهي عن العينة) ، وأخرجه أحمد (المسند ح 4825) من طريق عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر نحوه. قال محقق المسند: إسناده صحيح وقال الألباني: صحيح بمجموع طرقه. (صحيح الجامع ح 16 والسلسلة الصحيحة ح 11)
وذكر فيها ممن قوى الحديث كابن القطان وابن تيمية وابن القيم وابن كثير والشوكاني.
قال ابن كثير: أمر تعالى بمباينة الكفار به، وإن كانوا آباء أو أبناء، ونهى عن موالاتهم إذا (استحبوا) أي: اختاروا الكفر على الإيمان، وتوعد على ذلك كما قال تعالى (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار) الآية، سورة المجادلة آية: 22.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (حتى يأتي الله بأمره) بالفتح.(2/438)
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)
قوله تعالى (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها وعذاب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين)
قال مسلم: وحدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس عن ابن شهاب، قال: حدثني كثير بن عباس بن عبد المطلب قال: قال عبّاس: شهدت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم حنين، فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد الطلب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلم نفارقه، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بغلة له، بيضاء، أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي، فلما التقى المسلمون والكفار، ولي المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يركض بغلته قِبل الكفار.
قال عباس: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكُفّها إرادة أن لا تسرع، وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أيْ عبّاس ناد أصحاب السَّمُرة". فقال عباس (وكان رجلا صيِّتا) : فقلتُ بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة؟ قال: فوالله لكأن عطْفتهم، حين سمعوا صوتي، عطفة البقر على أولادها. فقالوا: يا لبيك! يا لبّيك! قال: فاقتتلوا والكفار، والدعوة في الأنصار يقولون: يا معشر الأنصار، يا معشر الأنصار. قال: ثم قُصِرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج فقالوا: يا بني الحارث بن الخزرج، يا بني الحارث بن الخزرج، فنظر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو على بغلته، كالمتطاول عليها، إلى قتالهم. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هذا حين حَمِيَ الوطيسَ". قال: ثم أخذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حصيات فرمى بهن وجوه الكفار. ثم قال: "انهزموا وربّ محمد".
قال: فذهبت أنظر، فإذا القتال علي هيئته فيما أرى. قال: فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته. فما زلت أرى حدّهم كليلا وأمرهم مدبراً.
قال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا أبو خيثمة، عن أبي إسحاق قال: قال رجل للبراء: يا أبا عمارة أفررتم يوم حنين؟ قال: لا. والله ما ولّى رسول(2/439)
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكنه خرج شبان أصحابه وأخفْاؤهم حُسّرا ليس عليهم سلاح، أو كثير سلاح، فلقوا قوما رُماة لا يكاد يسقط لهم سهم؛ جمع هوازن وبني نصر، فرشقوهم رشقا ما يكادون يُخطئون، فأقبلوا هناك إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورسول الله على بغلته البيضاء وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطب يقود به فنزل فاستنصر.
وقال: "أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب".
ثم صفهم.
(الصحيح 3/1398-1400 ح 1775 و1776 - ك الجهاد والسير، ب في غزوة حنين) .
قال أحمد: ثنا عفان، ثنا حماد بن سلمة، قال: أنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك أن هوازن جاءت يوم حنين بالنساء والصبيان والإبل والغنم فجعلوها صفوفا وكثرن على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما التقوا ولى المسلمون مدبرين كما قال الله عز وجل فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا عباد الله، أنا عبد الله ورسوله". ثم قال: "يا معشر الأنصار أنا عبد الله ورسوله فهزم الله المشركين ولم يضربوا بسيف ولم يطعنوا برمح ... " الحديث.
(المسند 3/279) ، وأخرجه أحمد أيضاً (المسند 3/190) ، والحاكم في (المستدرك 2/130) ، والبيهقي في (الدلائل 5/150) من طريق حماد بن سلمة به، وقال الحاكم. حديث صحيح علي شرط مسلم، وأقره الذهبي. وأصله في الصحيحين من وجه آخر عن أنس بدون الإشارة للآية (انظر صحيح البخاري ح 4333 و4337 - ك المغازي، ب غزوة الطائف) ، (وصحيح مسلم ح 1059 - ك الزكاة، ب إعطاء المؤلفة قلوبهم) .
قوله تعالى (وأنزل جنوداً لم تروها)
انظر حديث مسلم عن جابر الآتي عند الآية (151) من سورة آل عمران وفيه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "نصرت بالرعب".
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (وعذب الذين كفروا) يقول: قتلهم بالسيف.(2/440)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم)
انظر حديث البخاري عن أبي هريرة المتقدم عند الآية (2) من السورة نفسها وفيه: " ... وألا يحج بعد العام مشرك".
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة في قوله: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس) أى: أجناب.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) وهو العام الذي حج فيه أبو بكر، ونادى عليّ رحمة الله عليهما بالأذان، وذلك لتسع سنين مضين من هجرة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وحج نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من العام المقبل حجة الوداع، لم يحج قبلها ولا بعدها.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) قال: لما نفى الله المشركين عن المسجد الحرام، ألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحزن، قال: من أين تأكلون، وقد نفي المشركون وانقطعت عنهم العير. فقال الله: (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء) فأمرهم بقتال أهل الكتاب، وأغناهم من فضله.
قال الطبري: حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج قال، أخبرنا أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله: (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) إلا أن يكون عبدا أو أحدا من أهل الذمة.
ورجاله ثقات وسنده صحيح.(2/441)
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)
قوله تعالى (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)
قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله قال: حدثنا سفيان قال: سمعت عمراً قال: كنت جالساً مع جابر بن زيد وعمرو بن أوس فحدثهما بجالة سنة سبعين -عام حجّ مصعب بن الزبير بأهل البصرة- عند درج زمزم قال: كنتُ كاتبا لجزء ابن معاوية عم الأحنف، فأتانا كتاب عمر بن الخطاب قبل موته بسنة: فرقوا بين كل ذي محرم من المجوس. ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذها من مجوس هَجَر.
(الصحيح 6/297 ح 3156 - ك الجزية والموادعة، ب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب) .
وانظر حديث مسلم عن بريدة تحت الآية (190) من سورة البقرة.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) إلى قوله: (عن يد وهم صاغرون) حين أمر محمد وأصحابه بغزوة تبوك.
قوله تعالى (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن ابن إسحاق عن ابن عباس قال: أتى رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلام بن مشكم، ونعمان بن أوفى، وشأس بن قيس، ومالك بن الصيف، فقالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا، وأنت لا تزعم أن عزيراً ابن الله؟ فأنزل الله في ذلك من قولهم: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله) إلى: (إني يؤفكون) .(2/442)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (يضاهئون) يشبهون.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (قاتلهم الله) يقول: لعنهم الله.
قوله تعالى (اتخدوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ... )
قال الترمذي: حدثنا الحسين بن يزيد الكوفي، حدثنا عبد السلام بن حرب، عن غطيف بن أعين، عن مصعب بن سعد، عن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي عنقي صليب من ذهب فقال: "يا عدى اطرح عنك هذا الوثن".
وسمعته يقرأ في سورة براءة: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) قال: أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلّوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرّموا عليهم شيئا حرّموه.
(السنن 5/278) وحسنه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب (الإيمان ص64) ، والألباني في (صحيح سنن الترمذي ح 3095) وله شاهد صحيح من كلام ابن عباس.
قال الطبري: حدثني الحسن بن يحيي قال، أخبرنا عبد الرزق قال، أخبرنا الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي البختري قال: سأل رجل حذيفة فقال: يا أبا عبد الله، أرأيت قوله: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) أكانوا يعبدونهم؟ قال: لا، كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه.
وأبو البختري هو فيروز بن سعيد، ورجاله ثقات وسنده صحيح ...
قوله تعالى (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم) يقول: يريدون أن يطفئوا الإسلام بكلامهم.
وانظر سورة المائدة آية (3) .(2/443)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
قوله تعالى (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)
قال مسلم: حدثنا أبو كامل الجحدري وأبو معن زيد بن يزيد الرقاشي (واللفظ لأبي معن) قالا: حدثنا خالد بن الحارث. حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن الأسود بن العلاء، عن أبي سلمة، عن عائشة، قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا يذهب الليل والنهار حتى تُعبد اللات والعزى". فقلت: يا رسول الله إن كنتُ لأظن حين أنزل الله: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) (9/التوبة/33) و (61/الصف/9) أن ذللك تاماً. قال: "إنه سيكون من ذلك ما شاء الله. ثم يبعث الله ريحا طيبة، فتوفي كل من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين أبائهم".
(الصحيح 4/2230 ح 2907 - ك الفتن وأشراط الساعة، ب لا تقوم الساعه حتى تعبد دوس ذا الخلصة) .
قال مسلم: حدثنا أبو الربيع العَتكي وقتيبة بن سعيد، كلاهما عن حمّاد بن زيد (واللفظ لقتيبة) : حدثنا حماد عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله زَوَى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ مُلكها ما زُوي لي منها، وأُعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإنى سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وأن لا يُسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم. وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يُرد؛. وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها -أو قال من بين أقطارها- حتى يكون بعضهم يُهلِك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً".
(الصحيح 4/2215 ح 2889 - ك الفتن وأشراط الساعة، ب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض) .(2/444)
قال البخاري: حدثني محمد بن الحكم، أخبرنا النضر، أخبرنا إسرائيل، أخبرنا سعد الطائي، أخبرنا مُحلٌّ بن خليفة، عن عدى بن حاتم قال: بينا أنا عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال: "يا عدي، هل رأيت الحيرة؟ "قلت: لم أرها، وقد أنبئتُ عنها. قال: "فإن طالتْ بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لاتخاف أحداً إلا الله -قلتُ فيما بيني وبين نفسي فأين دُعّار طيء الذين قد سعّروا البلاد؟ - ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى". قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: "كسرى بن هرمز. ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يُخرج ملءَ كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحداً يقبله منه، وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له، فيقولن: ألم أبعث إليك رسولاً فيُبلّغك؟ فيقول: بلى. فيقول: ألم أعطك مالاً وأفضل عليك؟ فيقول: بلى. فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم، وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم". قال عدي سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد شِق تمرة فبكلمة طيبة". قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنتُ فيمن افتتَح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترونّ ما قال النبي أبو القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يُخرج ملء كفه".
(الصحيح 6/706، 707 ح 3595 - ك المناقب، ب علامات النبوة في الإسلام) .
قال أحمد: ثنا أبو المغيرة قال: ثنا صفوان بن مسلم قال: حدثني سليم بن عامر، عن تميم الداري قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل الله به الكفر". وكان تميم الدارى يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان منهم كافرا الذل والصغار والجزية.(2/445)
(المسند 4/103) ، وأخرجه أيضاً الطبراني (2/58 ح 1280) ، وقال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح (مجمع الزوائد 6/14، 8/262) ، وأخرجه الحاكم (المستدرك 4/430-431) من طريق الحكم بن نافع عن صفوان به، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وتعقبهما الألباني أنه على شرط مسلم فقط وحكى عن عبد الغني المقدسي أنه قال: حديث حسن صحيح (تحذير الساجد ص 173-174) ، وله شاهد من حديث المقداد بن الأسود عند أحمد (6/4) ، وابن حبان (الإحسان 15/91-92 و93-94، ح 6699 و6701) ، والحاكم (4/430) وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وفيه من ليس من رجال الشيخين مع صحة إسناده وأورده الألباني في الصحيحة (ح /3) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ليظهره على الدين كله) قال: ليظهر الله نبيه على أمر الدين كله، فيعطيه إياه كله، ولا يخفى عليه منه شيء وكان المشركون واليهود يكرهون ذلك.
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: ... أما (الأحبار) فمن اليهود، وأما (الرهبان) فمن النصارى، وأما (سبيل الله) فمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال البخاري: حدثنا الحَكم بن نافع، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد أن عبد الرحمن الأعرج حدثه أنه قال: حدثني أبو هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "يكون كنز أحدكم يوم القيامة شجاعا أقرع".
(الصحيح 8/173 ك التفسير - سورة التوبة - ب (الآية) - ح 4659) .
قال البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير، عن حُصين، عن زيد بن وهب قال: مررتُ على أبي ذرّ بالربذة فقلت: ما أنزلك بهذه الأرض؟ قال: كنّا بالشام، فقرأت (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) قال معاوية: ماهذه فينا، ماهذه إلا في أهل الكتاب.
قال: قلتُ: إنها لفينا وفيهم".
(الصحيح 8/173 ح 4660 -ك التفسير- سورة التوبة، ب الآية) .(2/446)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
قال مسلم: حدثني زهير بن حرب حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن الجريري، عن أبي العلاء، عن الأحنف بن قيس قال: قدمت المدينة، فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش إذ جاء رجل أخس الثياب أخس الجسد، أخس الوجه، فقام عليهم فقال: بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم، فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نفض كتفيه، ويوضع على نفض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثدييه يتزلزل ... الحديث.
(الصحيح ح 992 - ك الزكاة، ب في الكنازين للأموال ... ) ، وأخرجه البخاري أيضا من طريق الجريري به، (ح 1407 - ك الزكاة، ب ما أدي زكاته فليس بكنز) .
قال البخاري: حدثنا الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد أنّ عبد الرحمن بن هرمز الأعرج حدثه أنه سمع أبا هريرة - رضي الله عنه - يقول: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"تأتي الإبل على صاحبها على خير ما كانت إذا هو لم يُعطِ فيها حقها، تطؤه بأخفافها، وتأتي الغنم على صاحبها على خير ما كانت إذا لم يُعط فيها حقها تطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها، قال: ومِن حقها أن تُحلب على الماء قال: ولا يأتي أحدكم يوم القيامة بشاة يحملها على رقبته لها يُعارْ فيقول: يا محمد، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد بلغت ولا يأتي ببعير يحمله على رقبته له رغاء فيقول: يا محمد، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد بلّغت".
(الصحيح 3/314 ح 1402 - ك الزكاة، ب إثم مانع الزكاة وقول الله تعالى (الآية) ، (وصحيح مسلم 2/684 ح 988 - ك الزكاة، ب إثم مانع الزكاة) .
قوله تعالى (يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون)
قال البخاري: وقال أحمد بن شبيب بن سعيد، حدثنا أبي، عن يونس، عن ابن شهاب، عن خالد بن أسلم قال: خرجنا مع عبد الله بن عمر فقال: هذا قبل أن تُنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله طهرا للأموال.
(الصحيح 8/175 ح 4661 -ك التفسير- سورة التوبة، ب الآية) .(2/447)
يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
قال مسلم: وحدثني سويد بن سعيد، حدثنا حفص (يعني ابن ميسرة الصنعاني) ، عن زيد بن أسلم، أن أبا صالح ذكوان أخبره، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما مِن صاحب ذهب ولا فضة، لا يُؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة، صُفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم فيُكوى بها جنبه وجبينة وظهره. كلّما بردت أعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يُقضى بين العباد، فيُرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار". قيل: يا رسول الله فالإبل؟ قال: "ولا صاحب إبل لا يُؤدي منها حقها ومن حقها حلبها يوم وردها إلا إذا كان يوم القيامة بُطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلا واحداً تطؤه بأخفافها وتعضّه بأفواهها، كلما مر عليه أولاها رُدّ عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يُقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار". قيل: يا رسول الله فالبقر والغنم؟ قال: ولا صاحب بقر ولا غنم لا يُؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئاً ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، كلما مر عليه أولاها رُدّ عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يُقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار". قيل: يا رسول الله فالخيل؟ قال: "الخيل ثلاثة: هي لرجل وزر وهي لرجل سِتر وهي لرجل أجر؛ فأما التي هي له وزر، فرجل ربطها رياء وفخراً ونواء على أهل الإسلام، فهي له وزر، وأما التي هي له ستر، فرجل ربطها في سبيل الله ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها، فهي له ستر، وأما التي هي له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام في مرج وروضة، فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة من شيء إلا كتب له عدد ما أكلت حسنات، وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات، ولا تقطع طِوَلها فاستنت شرفاً أو شرفين إلا كتب الله له عدد آثارها وأرواثها حسنات، ولا مر بها صاحبها على نهر فشربت منه ولا يُريد أن يسقيها إلا كتب الله له عدد ما شربت حسنات". قيل: يا رسول الله فالحمر؟ قال: ما أنزل عليّ في الحمر شيء إلا هذه الآية الفاذّة الجامعة: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرّة شراً يره) (99/الزلزلة/الآية 7-8) .
(الصحيح 2/680-682 - ك الزكاة، ب إثم مانع الزكاة) .(2/448)
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
قوله تعالى (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين)
انظر سورة البقرة آية (185) لبيان الشهر.
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد، عن ابن أبي بكرة، عن أبي بكرة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم: ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان".
(الصحيح ح 4662 - ك التفسير، ب (إن عدة الشهور ... ) ، وأخرجه أيضاً مسلم من طريق أيوب به، (الصحيح ح 1679 - ك القسامة، ب تغليظ تحريم الدماء) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم) في كلهن. ثم خص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حرما، وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (ذلك الدين القيم) يقول: المستقيم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: أما قوله (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) فإن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزراً من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم علي كل حال عظيما، ولكن الله يعظم من أمره ما شاء.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) أما (كافة) فجميع، وأمركم مجتمع.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (كافة) يقول: جميعاً.(2/449)
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)
قوله تعالى (إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (إنما النسيء زيادة في الكفر) قال: النسيء: هو أن جنادة بن عوف بن أمية الكناني كان يوافي الموسم كل عام، وكان يكنى (أبا ثمامة) فينادي: "ألا إن أبا ثمامة لا يحاب ولا يعاب، ألا وإن صفر العام الأول العام حلال" فيحله الناس، فيحرم صفر عاما، ويحرم المحرم عاما، فذلك قوله تعالى (إنما النسيء زيادة في الكفر) إلى قوله (الكافرين) وقوله: (إنما النسيء زيادة في الكفر) يقول: يتركون المحرم عاما، وعاما يحرمونه. ا.هـ.
قال الطبري: وهذا التأويل من تأويل ابن عباس، يدل على صحة قراءة من قرأ (النسى) بترك الهمز وترك المد، وتوجيهه معنى الكلام إلى أنه "فَعْل" من قول القائل: نسيت الشيء أنساه. ومن قول الله (نسوا الله فنسيهم) سورة التوبة: 67. بمعنى: تركوا الله فتركهم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (ليواطئوا) يشبهون.
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة)
قال البخاري: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا يحيى، حدثنا سفيان قال: حدثني منصور، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم الفتح: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا".
(الصحيح 6/45 ح 2825 - ك الجهاد والسير، ب وجوب النفير ... ) ، وأيضاً في (6/219 - ك الجهاد والسير، ب لا هجرة بعد الفتح) .(2/450)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض) أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح، وبعد الطائف، وبعد حنين، أمروا بالنفير في الصيف، حين خرفت النخل، وطابت الثمار، واشتهوا الظلال، وشق عليهم المخرج.
قوله تعالى (فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل)
قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الله بن إدريس. ح وحدثنا ابن نمير، حدثنا أبي ومحمد بن بِشر. ح وحدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا موسى بن أَعْين. ح وحدثني محمد بن رافع، حدثنا أبو أسامة، كلهم عن إسماعيل
ابن أبي خالد. ح وحدثني محمد بن حاتم (واللفظ له) ، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا إسماعيل حدثنا قيس، قال: سمعت مستورداً أخا بني فهر يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه -وأشار يحيى بالسبابة- في اليمّ فلينظر بم ترجع؟ ".
(الصحيح 4/2193 ح 2858 - ك الجنة وصفة نعيمها وأهلها، ب فناء الدنيا ... ) .
قال مسلم: حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، حدثنا سليمان (يعني ابن بلال) ، عن جعفر، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرّ بالسوق داخلاً من بعض العالية، والناس كنفته، فمر بجدي أسَكَّ ميِّت، فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال: "أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ " فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: "أتحبون أنه لكم؟ " قالوا: والله لو كان حيا، كان عيباً فيه، لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟ فقال: "فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم".
(الصحيح 4/2272 ح 2957 - ك الزهد والرقائق) .
انظر حديث ابن ماجة عن ابن مسعود الآتي عند الآية (4) من سورة الضحى.(2/451)
إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
قوله تعالى (إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ... )
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قال: (إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما) استنفر الله المؤمنين في لهبان الحر في غزوة تبوك قبل الشام على ما يعلم الله من الجهد.
وتقدم عن الطبري بسنده الحسن عن أبي العالية: (أليما) موجعاً.
قوله تعالى (إلا نصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ... )
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (إلا تنصروه) ذكر ما كان في أول شأنه حين بعثه يقول الله: فأنا فاعل ذلك به وناصره، كما نصرته إذ ذاك وهو ثاني اثنين.
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا حبّان، حدثنا همام، حدثنا ثابت، حدثنا أنس قال: حدثني أبو بكر - رضي الله عنه - قال: كنت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الغار، فرأيتُ آثار المشركين، قلتُ: يا رسول الله، لو أن أحدهم رفع قدمه رآنا، قال: "ما ظنّك باثنين الله ثالثهما".
(الصحيح 8/176-177 ك التفسير - سورة التوبة، ب (الآية) ح 4663) ، (وصحيح مسلم 4/1854 ك فضائل الصحابة - ب من فضائل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -) .
قال مسلم: حدثني سلمة بن شبيب، حدثنا الحسن بن أعين، حدثنا زهير، حدثنا أبو إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب يقول: جاء أبو بكر الصديق إلى أبي في منزله فاشترى منه رَحْلاً فقال لعازب: ابعث معي ابنك يحمله معي إلى منزلي. فقال لي أبي: احمله. فحملته. وخرج أبي معه ينتقد ثمنه، فقال له أبي: يا أبا بكر حدثني كيف صنعتما ليلة سريتَ مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: نعم. أسرينا ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق فلا يمرّ فيه أحد حتى رُفعت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليه الشمس بعد فنزلنا عندها فأتيت الصخرة فسوّيت بيدي مكاناً ينام فيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ظلها، ثم بسطتُ عليه فروة، ثم قلت:(2/452)
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
نم يا رسول الله وأنا أنفض لك ما حولك. فنام. وخرجتُ أنفض ما حوله، فإذا أنا براعي غنم مُقبل بغنمه إلى الصخرة، يريد منها الذي أردنا، فلقيته فقلت: لمن أنت يا غلام؟ فقال: لرجل من أهل المدينة. قلتُ: أفي غنمك لبن؟ قال: نعم.
قلتُ: أفتحلب لي؟ قال: نعم. فأخذ شاة، فقلت له: انفض الضرع من الشعر والتراب والقذى (قال فرأيت البراء يضرب بيده على الأخرى ينفض) فحلب لي، في قعب معه، كثبة من لبن، قال: ومعي إداوة أرتوى فيها للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليشرب منها ويتوضأ، قال: فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكرهت أن أُوقظه من نومه، فوافقته استيقظ، فصببت على اللبن من الماء حتى برد أسفله، فقلت: يا رسول الله اشرب من هذا اللبن، قال: فشرب حتى رضيتُ، ثم قال: "ألم يأن للرحيل؟ " قلتُ: بلى. قال فارتحلنا بعد مازالت الشمس. واتبعنا سراقة بن مالك. قال: ونحن في جَلد من الأرض. فقلت: يا رسول الله أُتينا. فقال: "لا تحزن إن الله معنا". فدعا عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فارتطمت فرسه إلى بطنها. أُرى فقال: إني قد علمت أنكما قد دعوتما عليّ. فأدعوا لي، فالله لكما أن أرُد عنكما الطلب. فدعا الله، فنجى. فرجع لا يلقى أحداً إلا قال: قد كفيتكم ماههنا. فلا يلقى أحداً إلا ردّه. قال: ووفي لنا.
(الصحيح 4/2309 ح 2009 - ك الزهد والرقائق، ب في حديث الهجرة ... ) ، وأخرجه البخاري في (الصحيح ح 3615 - المناقب، علامات النبوة) .
وانظر حديث البخاري تحت الآية رقم 39 من سورة الأنفال.
قال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، قال ابن شهاب فأخبرني عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: لم أعقل أبويَّ قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طرفي النهار: بكرة وعشية، فلما ابتُلي المسلمون، خرج أبو بكر مهاجراً نحو أرض الحبشة، حتى بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة -وهو سيد القارة- فقال أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح(2/453)
في الأرض وأعبد ربي، قال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يَخرُج ولا يُخرَج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمِل الكَلّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار. ارجع واعبد ربك ببلدك. فرجع، وأرتحل معه ابن الدغنة، فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يُخرج، أتخرجون رجلاً يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل ويقري الضيف، ويُعين على نوائب الحق؟ فلم تكذّب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا لابن الدغنة: مرْ أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل فيها وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا. فقال ذلك ابن الدغنة لأبى بكر، فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره. ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وكان يصلى فيه ويقرأ القرآن فيتقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلاً بكاء لا يملك عينيهِ إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدِم عليهم، فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجداً بفناء داره فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فانْهَهُ، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبي إلا أن يعلن بذلك فسلْه أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا بمقرين لأبي بكر الاستعلان، قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع إلى ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له فقال أبو بكر: فإني أرُد إليك جِوارك، وأرضى بجوار الله عزل جل. والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومئذ بمكة. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمسلمين: "إني أريت دارَ هجرتكم ذات نخل بين لابتين". وهما الحرّتان. فهاجر من هاجر قِبَل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهزّ أبو بكر قِبَل المدينة، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:(2/454)
"على رسلك، فإنى أرجو أن يؤذن لي". فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: "نعم". فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر -وهو الخبط- أربعة أشهر. قال ابن شهاب: قال عروة: قالت عائشة: فبينما نحن يوماً جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبى بكر: هذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متقنعا -في ساعة لم يكن يأتينا فيها- فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر.
قالت: فجاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستأذن، فأذن له، فدخل فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبى بكر: "أَخرِجْ مَن عندك". فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، قال: فإني قد أذن لي في الخروج. فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "نعم". قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتيّ هاتين. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بالثمن. قالت عائشة: فجهزّناهما أحثّ الجِهاز، وصنعنا لهما سُفرة في جِراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سُميت ذات النطاق. قالت: ثم لحق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر بغار في جبل ثَور، فكَمنا فيه ثلاث ليال، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثَقِف لَقِن، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمراً يُكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر مِنحة من غنم فيُريحها عليهما حين تذهب ساعة من العِشاء فيبيتان في رِسلٍ -وهو لَبنُ منحتهما ورضيفهما- حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغَلَس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالى الثلاث. واستأجر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر رجلاً من
بني الديل، وهو من بني عبد بن عدي هاديا خِرّيتا -والخريت: الماهر بالهداية- قد غمس حِلفا في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمِناه، فدفعا اليهود راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صُبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهرة والدليل، فأخذ بهم طريق السواحل.
(الصحيح 7/271-273 ح 3905 - ك مناقب الأنصار، ب هجرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه إلى المدينة) .(2/455)
قال البخاري: حدثني محمد، حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبي، حدثنا عبد العزيز ابن صهيب، حدثنا أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: أقبل نبيّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر شيخ يُعرفَ، ونبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شاب لا يعرف، قال فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: يا أبا بكر مَن هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهدينى السبيل، قال فيحسب الحاسب أنه إنما يعني الطريق، وإنما يعني سبيل الخير. فالتفت أبو بكر فإذا هو بفارس قد لحِقهم، فقال: يا رسول الله، هذا فارس قد لحق بنا، فالتفت نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "اللهم اصرعْه". فصرعه الفرس، ثم قامت تحمحم، فقال: يا نبي الله مرني بما شئت. قال: فقف مكانك، لا تتركنّ أحداً يلحق بنا. قال: فكان أول النهار جاهداً على نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان آخر النهار مَسْلحة له. فنزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جانب الحرّة، ثم بعث إلى الأنصار فجاءوا إلى نبيّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر فسلّموا عليهما وقالوا: اركبا آمنين مطاعين. فركب نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر وحفوا دونهما بالسلاح، فقيل في المدينة: جاء نبي الله، جاء نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأشرفوا ينظرون ويقولون: جاء نبي الله. فأقبل يسير حتى نزل جانب دار أبي أيوب، فإنه ليحدّث أهله إذ سمع به عبد الله بن سلام وهو في نخل لأهله يخترف لهم، فعجِل أن يضع الذي يخترف لهم فيها، فجاء وهي معه، فسمع من نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم رجع إلى أهله، فقال نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي بيوت أهلنا أقرب؟ فقال أبو أيوب: أنا يا نبي الله، هذه داري وهذا بابي. قال: فانطلق فهيء لنا مقيلاً. قال: قوما على بركة الله. فلما جاء نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاء عبد الله بن سلام فقال: أشهد أنك رسول الله، وأنك جئت بحق، وقد علمتْ يهودُ أني سيدهم وابن سيدهم وأعلمهم وابن أعلمهم، فادعُهم فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا فيَّ ماليس فيّ، فأرسل نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأقبلوا فدخلوا عليه، فقال لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا معشر اليهود، ويلكم اتقوا الله، فو الله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني(2/456)
رسول الله حقا، وأنى جئتكم بحق، فأسلموا. قالوا: ما نعلمه -قالوا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالها ثلاث مرار- قال: فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ قالوا: ذاك سيدنا، وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، قال: أفرأيتم إن أسلم؟ قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم. قال: أفرأيتم إن أسلم؟ قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم. قال: أفرأيتم إن أسلم؟ قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم. قال: يا ابن سلام أخرج عليهم، فخرج، فقال: يا معشر اليهود اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وأنه جاء بحق. فقالوا: كذبت، فأخرجهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(الصحيح 7/293-294 ح 3911 - ك مناقب الأنصار، ب هجرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه إلى المدينه) .
قوله تعالى (فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلي وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم)
قال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء - رضي الله عنه - قال: بينما رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ، وفرس له مربوط في الدار، فجعل ينفر، فخرج الرجل فنظر فلم ير شيئاً، وجعل ينفر، فلما أصبح ذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "تلك السكينة تنزلت بالقرآن".
(الصحيح 8/451 ح 4839 - ك التفسير، ب (هو الذي أنزل السكينة) . وأخرجه البخاري (9/716 ح 3614 - ك المناقب، ب علامات النبوة في الإسلام) ، ومسلم (الصحيح 1/547 ح 795 - ك صلاة المسافرين، ب نزول السكينة لقراءة القرآن) كلاهما من طريق شعبة، عن أبي إسحاق به، وفيه أن القاريء كان يقرأ سورة الكهف.
اخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وجعل كلمة الذين كفروا السفلي) وهى الشرك بالله (وكلمة الله هي العليا) وهى: لا إله إلا الله.
قوله تعالى (انفروا خِفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون)
قال الشيخ الشنقيطي: لا يخفى ما في هذه الآية من التشديد في الخروج إلى الجهاد علي كل حال، ولكنه تعالى بين رفع هذا التشديد بقوله (ليس على(2/457)
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج) الآية؛ فهي ناسخة لها.
قال البخاري: حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يُخرجه إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلماته بأن يُدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة".
(الصحيح 13/450 ع 7457 - ك التوحيد، ب قوله تعالى (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين) .
وأخرجه مسلم في (الصحيح 3/1495 ح 1876 - ك الإمارة، ب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله) .
قال ابن حبان: أخبرنا أبو يعلى، حدثنا عبد الرحمن بن سلام الجمحي، حدثنا حمّاد بن سلمة، عن ثابت عن أنس أن أبا طلحة قرأ سورة براءة، فأتى على هذه الآية (انفروا خفافا وثقالا) فقال: ألا أرى ربّي يستنفرني شابا وشيخا، جهّزوني، فقال له بنوه: قد غزوتَ مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى قُبض، وغزوت مع أبي بكر حتى مات، وغزوت مع عمر فنحن نغزو عنك، فقال: جهّزوني، فجهّزوه وركب البحر، فمات، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام، فلم يتغيّر.
(الإحسان 16/152 - ك إخباره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن مناقب الصحابة) ، وأخرجه الحاكم في (المستدرك 3/353) من طريق ابن المبارك عن حماد بن سلمه به، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وسكت الذهبي. وأورده الهيثمي في (مجمع الزوائد 9/312-313) وعزاه إلى أبي يعلى والطبراني وقال: رجاله رجال الصحيح.
وانظر حديث البخاري أيضاً تحت الآية رقم (191) من سورة البقرة.
وانظر حديث أبي هريرة المتقدم عند الآية 216 من سورة البقرة.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (انفروا خفافا وثقالا) قال: شبابا وشيوخا، وأغنياء ومساكين.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (خفافا وثقالا) قال: نِشاطا وغير نِشاط.(2/458)
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)
قوله تعالى (لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لا تبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (لو كان عرضا قريبا) إلى قوله (لكاذبون) إنهم يستطيعون الخروج، ولكن كان تبطئة من عند أنفسهم والشيطان، وزهادة في الخير.
قوله تعالى (عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا) الآية، عاتبه كما تسمعون، ثم أنزل الله التي في (سورة النور) فرخص له أن يأذن لهم إن شاء فقال: (فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم) سورة النور: 26، فجعله الله رخصة في ذلك من ذلك.
قوله تعالى (لا يستئذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستئذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون)
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن ثابت المروزي، حدثني علي بن حسين، عن أبيه عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: (لا يستئذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر) الآية، نسختها التي في النور (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله) إلى قوله (غفور رحيم) .
(السنن ح 2771 - ك الجهاد، ب في الإذن في القفول بعد النهي) ومن طريق أبي داوود وأخرجه البيهقي في (السنن الكبرى 9/173-174) وابن الجوزي في (نواسخ القرآن ص 367-368) ، وحسنه الألباني في صحيح أبي داوود (2/533، ح 249) .(2/459)
إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله) ، فهذا تعيير للمنافقين حين استأذنوا في القعود عن الجهاد من غير عذر، وعذر الله المؤمنين فقال: (لم يذهبوا حتي يستأذنوه) سورة النور: 26.
قوله تعالى (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ولأوضعوا خلالكم) يقول: ولأوضعوا بينكم، خلالكم، بالفتنة.
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد: (وفيكم سماعون) يحدثون أحاديثكم، عيون غير منافقين.
قوله تعالى (لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون)
قال ابن كثير: يقول تعالى محرضاً لنبيه عليه السلام على المنافقين (لقد ابتغوا
الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور) أي: لقد أعملوا فكرهم وأجالوا آراءهم في كيدك وكيد أصحابك وخذلان دينك وإحماله مدة طويلة، وذلك أول مقدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة؛ رمته العرب عن قوسٍ واحدة، وحاربته يهود المدينة ومنافقوها، فلما نصره الله يوم بدر وأعلى كلمته، قال عبد الله بن أبي وأصحابه: هذا أمر قد توجه. فدخلوا في الإسلام ظاهراً. ثم كلما أعز الله الإسلام وأهله غاظهم ذلك وساءهم.
قوله تعالى (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني) يقول: ائذن لي ولا تحرجني (ألا في الفتنة سقطوا) يعني: في الحرج سقطوا.(2/460)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتاده: (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني) ولا تؤثمني، ألا في الإثم سقطوا.
قوله تعالى (إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (إن تصبك حسنة تسؤهم) إن كان فتح للمسلمين، كبر ذلك عليهم وساءهم.
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد: (قد أخذنا أمرنا من قبل) حذرنا.
قوله تعالى (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون)
قال أحمد: ثنا هيثم قال: ثنا أبو الربيع، عن يونس، عن أبي إدريس، عن أبي الدرداء، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لكل شيء حقيقة وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه".
(المسند 6/441-442) ، وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة وعزاه الهيثمي لأحمد والطبراني، وقال: رجاله ثقات (مجمع الزوائد 7/197) ، وصححه الألباني في (ظلال الجنة) ، وله شواهد (انظر الصحيحة 2439، والسنة ح 111 و245) .
وانظر سورة الحديد آية (23) ، قول ابن عباس وقتادة.
قال الترمذي: حدثنا أحمد بن محمد بن موسى، أخبرنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا ليث بن سعد وابن لهيعة، عن قيس بن الحجاج قال. ح وحدثنا عبد الله بن عبد الرحمن، أخبرنا أبو الوليد، حدثنا ليث بن سعد، حدثني قيس بن الحجاج المعنى واحدٌ عن حَنَش الصنعاني عن ابن عباس قال: كنت خلْفَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوماً، فقال: "يا غلام إني أعلّمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسئل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله. واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأفلام وجفّت الصُحُف".
(السنن 4/667 ح 2516 - ك صفة القيامة، ب 59) ، وأخرجه أحمد (المسند ح 2669) عن يونس عن ليث به. قال الترمذي: حسن صحيح وقال محقق المسند: إسناده صحيح. وقال الألباني: صحيح (صحيح الترمذي ح 2043) .(2/461)
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)
قوله تعالى (قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين)
انظر حديث البخاري عن أبي هريرة المتقدم عند الآية (216) من سورة البقرة، وعند الآية (41) من سورة التوبة، وهو حديث: "تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه إلا الجهاد في سبيله ... بأن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة".
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين) يقول: فتح أو شهادة، القتل فهي الشهادة والحياة والرزق، وإما يخزيكم بأيدينا.
قوله تعالى (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون)
قال ابن كثير: يقول تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه: (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم) كما قال تعالى (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى) سورة طه: 31.
وقال (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون) سورة النور آية: 55، 56.
وانظر سورة المنافقون آية (4) .
قوله تعالى (لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلاً لّولّوا إليه وهم يجمحون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (لو يجدون ملجأ) (الملجأ) الحرز في الجبال (والمغارات) الغيران في الجبال.
قوله: (أو مدخلا) و (المدخل) السرب.
قوله تعالى (ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون)
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا هشام، أخبرنا معمر، عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي سعيد قال: بينا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقسم جاء عبد الله بن(2/462)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
ذي الخويصرة التميمي فقال: اعدِل يا رسول الله، فقال: ويلك، ومن يعدِل إذا لم أعدل؟ قال عمر بن الخطاب: دعني أضرب عنقه. قال: دعه فإنّ له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه، يمرُقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، يُنظر في قُذَذِه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في نضيّه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والندم. آيتهم رجلٌ إحدى يديه -أو قال ثدييه- مثل ثدي المرأة، أو قال: مثل البضْعة تَدَردَرُ يخرجون على حين فرقة من الناس.
قال أبو سعيد: أشهد سمعت من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأشهد أن عليا قتلهم وأنا معه، جيء بالرجل عَلى النعت الذي نعته النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال: فنزلت فيه (ومنهم من يلمزك في الصدقات) .
(الصحيح 12/303 ح 6933 - ك استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، ب من ترك قتال الخوارج ... ) .
قوله تعالى (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم)
قال البخاري: حدثنا معاذ بن فضالة، حدثنا هشام، عن يحيى، عن هلال بن أبي ميمونة، حدثنا عطاء بن يسار أنه سمع أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - يُحدث أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله فقال: "إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يُفتح عميكم من زهرة الدنيا وزينتها". فقال رجل: يا رسول الله، أوَ يأتي الخيرُ بالشر؟ فسكت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقيل له: ما شأنك تُكلّم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا يُكلمك؟ فرأينا أنه يُنزل عليه. قال: فمسح عنه الرُّحضاء فقال: "أين السائل؟ "-وكأنه حمِده- فقال: "إنه لا يأتي الخيرُ بالشر، وإن مما يُنبت الربيع يَقتل أو يُلمُّ، إلا آكلة الخضراء، أكلتْ حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ورتعت. وإن هذا المال خضرة حلوة، فنِعم صاحب(2/463)
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل - أو كما قال النبي (وإنه من يأخذه بغير حقّه كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون شهيدا عليه يوم القيامة) .
(الصحيح 3/383-384 - ح 1465 - ك الزكاة، ب الصدقة على اليتامى) ، أخرجه مسلم في (الصحيح 2/728-729 ح 1052 - ك الزكاة، ب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا) .
قال أبو داود: حدثنا عباد بن موسى الأنباري الختلي، ثنا إبراهيم -يعني ابن سعد- قال: أخبرني أبي، عن ريحان بن يزيد، عن عبد الله بن عَمْرو، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سويِّ".
(السنن 2/118 ح 1634 - ك الزكاة، ب من يعطي من الصدقة؟ ... ) ، وأخرجه الترمذي (السنن 3/33 ح 652 - ك الزكاة، ب ما جاء من لا تحل له الصدقة) من طريق: أبي داود الطيالسي وعبد الرزاق. وأحمد (المسند ح 2036) من طريق وكيع، كلهم عن سفيان الثوري، عن سعد بن إبراهيم، عن ريحان بن يزيد به. قال الترمذي: حديث حسن، وأخرجه الحاكم من طريق إبراهيم بن سعد به وسكت عليه هو والذهبي (المستدرك 1/407) وقال الألباني: صحيح (صحيح الترمذي ح 527 - وصحيح الجامع ح 7128) ، وصححه أيضاً محقق المسند.
قال أبو داود: حدثنا مسدد، ثنا عيسى بن يونس، ثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار، قال: أخبرني رجلان أنهما أتيا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة، فسألاه منها، فرفع فينا البصر وخفضه، فرآنا جلدين، فقال: "إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لِغَنِيٍّ ولا لقويٍّ مُكتسب".
(السنن 2/118 ح 1633 - ك الزكاة، ب من يعطى من الصدقة؟..) ، وأخرجه النسائي (السنن 5/99-100 - ك الزكاة، ب مسألة القوي المكتسب) ، وأحمد (المسند 4/224) كلاهما من طريق يحيى بن سعيد، عن هشام بن عروة به. قال ابن كثير: إسناد جيد قوي (التفسير 4/106) . قال ابن عبد الهادي في التنقيح (2/1522) وهو حديث إسناده صحيح، ورواته ثقات، قال الإمام أحمد: ما أجوده من حديث، هو أحسنها إسناداً وصححه الألباني أيضاً في (الإرواء 3/381 ح 876) .
انظر حديث مسلم عن أبي هريرة المتقدم عند الآية (273) من سورة البقرة.
قال الطبري بعد أن ساق عدة أقوال في المسكين: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال: "الفقير" هو ذو الفقر والحاجة، ومع حاجته يتعفف عن مسألة الناس والتذلل لهم، في هذا الموضع و"المسكين" هو المحتاج المتذلل للناس بمسألتهم.(2/464)
قال مسلم: حدثني عبد الله بن محمد بن أسماء الضبعي، حدثنا جويرية، عن مالك، عن الزهري؛ أن عبد الله بن عبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب حدثه أن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث حدثه قال: اجتمع ربيعة بن الحارث والعباس بن عبد المطلب فقالا: والله لو بعثنا هذين الغلامين (قالا لي وللفضل بن عباس) إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكلّماه، فأمّرهما على هذه الصدقات، فأدّيا ما يُؤدّي الناس، وأصابا مما يصيب الناس. قال: فبينما هما في ذلك جاء علي بن أبي طالب، فوقف عليهما، فذكرا له ذلك. فقال علي بن أبي طالب: لا تفعلا.
فوالله ما هو بفاعل. فانتحاه ربيعة بن الحارث فقال: والله ما تصنع هذا إلا نفاسةً منك علينا، فوالله لقد نلت صهر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فما نفسناه عليك. قال علي: أرسلوهما، فانطلقا. واضطجع علي. قال: فلما صلّى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر سبقناه إلى الحُجرة، فقمنا عندها، حتى جاء فأخذ بآذاننا، ثم قال: "أخرجا ما تُصرِّران" ثم دخل ودخلنا عليه، وهو يومئذ عند زينب بنت جحش قال: فتواكلنا الكلام، ثم تكلم أحدنا فقال: يا رسول الله أنت أبرّ الناس، وأوصل الناس، وقد بلغنا النكاح، فجئنا لتُؤمِّرنا على بعض هذه الصدقات، فنؤدي إليك كما يُؤدي الناس، ونصيب كما يصيبون. قال: فسكت طويلاً حتى أردنا أن نُكلّمه، قال: وجعلت زينب تُلمع علينا من وراء الحجاب أن لا تُكلماه. قال: ثم قال: "إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس، ادعوا لي محمية (وكان على الخمس) ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب". قال: فجاءاه.
فقال لمحمية: "أنكح هذا الغلام ابنتك" (للفضل بن عباس) فأنكَحَه. وقال لنوفل بن الحارث: "أنكحْ هذا الغلام ابنتك" (لي) فأنكحني. وقال لمحمية: "أصدِقْ عنهما من الخُمُس كذا وكذا".
قال الزهري: ولم يُسمّه لي.
(الصحيح 2/752-753 ح 1072 - ك الزكاة، ب ترك استعمال آل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الصدقة) .(2/465)
أخرج عبد الرزاق عن معمر، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لعامل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غاز في سبيل الله، أو مسكين تصدق عليه منها فأهدى منها لغني".
(المصنف: 4/109، ح 7151) ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أحمد في مسنده (3/56) ، وأبو داود (ك الزكاة، ب من يجوز له أخذ الصدقة وهو غني، ح 3636) ، وابن ماجة (ك الزكاة، ب من تحل له الصدقة، ح 1841) ، وابن الجارود في (المنتقى ح 365) ، وابن خزيمة في (صحيحه ح 2374) ، والحاكم في المستدرك (1/407-408) ، وغيرهم، وقال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه لإرسال مالك بن أنس إياه عن زيد بن أسلم) ، وأقره الذهبي على تصحيحه على شرطهما. قال الحافظ: وصحيحه جماعة (التلخيص الحبير 3/111) ، وصححه الألباني في إرواء الغليل (3/377، رقم 870) .
قال أبو داود: حدثنا محمد بن إبراهيم الأسباطي، ثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن رافع ابن خديج، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "العامل على الصدقة بالحق كالغازي في سبيل الله حتى يرجع إلى بيته".
(السنن 3/132 ح 2936 - ك الخراج والإمارة والفيء، ب في السعاية على الصدقة) ، وأخرجه الترمذي (السنن 3/28 ح 645 - ك الزكاة، ب ما جاء في العامل على الصدقة بالحق) ، من طريق أحمد بن خالد. وابن ماجة (السنن 1/578 ح 1809 - ك الزكاة، ب ما جاء في عمال الصدقة) من طريق: عبدة بن سليمان، ومحمد بن فضيل، ويونس بن بكير، وأحمد (المسند 4/143) من طريق يعقوب عن أبيه، كلهم عن ابن إسحاق به. قال الترمذي: حسن صحيح. وصرح ابن إسحاق بالتحديث عند أحمد وأخرجه ابن خزيمة (4/51 ح 2334) والحاكم في المستدرك (1/406) كلاهما من طريق أحمد بن خالد الوهبي به، وقال حديث صحيح على شرط مسلم، وأقره الذهبي. وقال الألباني: صحيح (صحيح ابن ماجة ح 3996) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (والعاملين عليها) قال: جباتها، الذين يجمعونها ويسعون فيها.(2/466)
قال البخاري: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إني أُعطي قريشاً أتألّفهم، لأنهم حديث عهد بجاهلية".
(الصحيح 6/288 ح 3146 - ك فرض الخمس، ب ما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعطى المؤلفة قلوبهم) .
وأخرجه مسلم في (الصحيح 2/735 ح 133 (1059) - ك الزكاة، ب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام) .
قال البخاري: حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، عن أبيه، عن أبي نُعم، عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: بعث إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشيء، فقسمه بين أربعة وقال: أتألفهم. فقال رجل: ما عَدَلتَ، فقال: يخرج من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الذين".
(الصحيح 8/181 ح 4667 - ك التفسير - سورة التوبة، في الآية) ، وأخرجه مسلم مطولا من طريق عبد الرحمن بن أبي أنعم عن أبي سعيد (الصحيح 2/7410 ح 1064 - ك الزكاة، ب ذكر الخوارج وصفاتهم) .
قال مسلم: وحدثني أبو الطاهر، أحمد بن عمرو بن سرحٍ، أخبرنا عبد الله ابن وهب، أخبرني يونس عن ابن شهاب قال: غزا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غزوة الفتح، فتح مكة، تم خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمن معه من المسلمين، فاقتتلوا بحني، فنصر الله دينه والمسلمين، وأعطى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومئذ صفوان بن أمية مائة من النعم، ثم مائة، ثم مائة.
قال ابن شهاب: حدثني سعيد بن المسيب؛ أن صفوان قال: والله لقد أعطاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أعطاني، وإنه لأبغض الناس إليّ، فما برح يعطني حتى إنه لأحب الناس إليّ.
(الصحيح 4/1806 ح 2313 - ك الفضائل، ب ما سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئاً قط فقال: لا) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: وأما (المؤلفة قلوبهم) فأناس من الأعراب ومن غيرهم، كان نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتألفهم بالعطية كيما يؤمنوا.
انظر حديث الترمذي عن أبي هريرة الآتي عند الآية (32) من سورة النور.(2/467)
قال الطبري: حدثني أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا معقل ابن عبيد الله قال، سألت الزهري عن قوله: (وفي الرقاب) قال: المكاتبون.
وانظر سورة البقرة آية (177) لبيان الرقاب.
قوله تعالى (والغارمين)
قال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى وقتيبة بن سعيد، كلاهما عن حماد بن زيد، قال يحيى: أخبرنا حماد بن زيد عن هارون بن رياب، حدثني كنانة بن نعيم العدوي عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: تحمّلت حمالة فأتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسأله فيها، فقال: "أقم حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها". قال: ثم قال: "يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجلٍ تحمّل حمالةٌ فحلّت له المسألة حتى يُصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلّت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش (أو قال سِداداً من عيش) ، ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحِجا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة، فحلّت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش (أو قال سداداً من عيش) فما سواهنّ من المسألة يا قبيصة سُحتاً يأكلها صاحبها سُحتاً".
(الصحيح 2/722 ح 109) ك الزكاة، ب من تحل له المسألة) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: أما (الغارمون) فقوم غرّقتهم الديون في غير إملاق، ولا تبذير ولا فساد.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (وابن السبيل) الضيف، جعل له فيها حق.
وانظر سورة البقرة آية (177) لبيان ابن السبيل.(2/468)
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)
قوله تعالى (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن العباس مولى بني هاشم، حدثنا محمد بن عمرو زنيج، حدثنا سلمة، حدثني محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان نبتل بن الحارث يأتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيجلس اليهود فيسمع منه، ثم ينقل حديثه إلى المنافقين، فأنزل الله فيه: (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن) .
وأخرجه الطبري بهذا الإسناد عن ابن إسحاق من قوله. وإسناد ابن أبي حاتم هذا حسن، تقدم الكلام عيه عند الآية (113) من سورة آل عمران وتقدم في المقدمة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن) يسمع من كل أحد.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) يعني: يؤمن بالله ويصدق المؤمنين.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم) صرح تعالى في هذه الآية الكريمة، بأن من يؤذي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له العذاب الأليم. وذكر في (الأحزاب) أنه ملعون في الدنيا والآخرة، وأن له العذاب المهين، وذلك في قوله: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا) .
قوله تعالى (ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فإن له نار جهنم خالداً فيها ذلك الخزي العظيم)
انظر سورة المجادلة آية (5) .
قوله تعالى (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة) إلى قوله: (ما تحذرون) صرح في هذه الآية الكريمة بأن المنافقين يحذرون أن ينزل الله سورة تفضحهم وتبين ما تنطوي عليه ضمائرهم من الخبث. ثم بين أنه(2/469)
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)
مخرج ما كانوا يحذرونه، وذكر في موضع آخر أنه فاعل ذلك، وهو قوله تعالى (أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم) إلى قوله: (ولتعرفنهم في لحن القول) ، وبين في موضع آخر شدة خوفهم، وهو قوله: (يحسبون كل صيحة عليهم) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة) قال يقولون القول بينهم، ثم يقولون: عسى الله أن لا يفشي سرنا علينا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قال: كانت تسمى هذه السورة: (الفاضحة) فاضحة المنافقين.
قوله تعالى (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون)
قال الطبري: حدثنا علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا الليث قال، حدثني هشام بن سعيد، عن زيد بن أسلم: أن رجلاً من المنافقين قال لعوف بن مالك في غزوة تبوك: ما لقرائنا هؤلاء، أرغبنا بطوناً وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء؟ فقال له عوف: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذهب عوف إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه، قال زيد: قال عبد الله بن عمر: فنظرت إليه متعلقاً بحقب ناقة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تنكبه الحجارة، يقول: "إنما كنا نخوض ونلعب". فيقول له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون"؟ ما يزيده.
(التفسير 14/333 ح 16911، وأخرجه أيضاً ح 16912) ، وابن أبي حاتم (التفسير - التوبة/65 ح 1307) كلاهما من يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن هشام بن سعد به. وصحح إسناده محمود شاكر في حاشية الطبري. وقال مقبل الوادعي: رجاله رجال الصحيح إلا هشام ابن سعد فلم يخرج له مسلم إلا في الشواهد كما في الميزان (الصحيح المسند من أسباب النزول ص78) وله شاهد من حديث كعب بن مالك، أخرجه ابن أبي حاتم (التفسير ح 1306) من طريق عبد الرحمن ابن كعب، عن أبيه قال محققه: إسناده حسن) .(2/470)
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)
قوله تعالى (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون)
انظر سورة البقرة آية (10-14-205) ، وسورة النساء آية (145) .
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (ويقبضون أيديهم) قال: لا يبسطونها بنفقة في حق.
أخرج الطبري بسنده الحسن قتادة قوله: (نسوا الله فنسيهم) نسوا من الخير، ولم ينسوا من الشر.
قوله تعالى (كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا ... )
قال الطبري: حدثنا محمد بن الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: (فاستمتعوا بخلاقهم) قال بدينهم.
وسنده صحيح.
قال البخاري: حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا غسان قال: حدثني زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لتتبعنّ سَننَ من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جُحر ضبّ لسلكتموه". قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: "فمن".
(الصحيح 6/571 ح 3456 - ك أحاديث الأنبياء، ب ما ذكر عن بني إسرائيل) ، وأخرجه مسلم الصحيح 4/2054 ح 2669 - ك العلم، ب اتباع سنن اليهود والنصارى) .
قوله تعالى (ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة: (والمؤتفكات) قال: قوم لوط، انقلبت بهم أرضهم فجعل عاليها سافلها.(2/471)
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
قوله تعالى (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم)
قال البخاري: حدثنا أبو نعيم، حدثنا زكريا، عن عامر قال: سمعته يقول: سمعت النعمان بن بشير يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى عُضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى".
(الصحيح 10/452 ح 6011 - ك الأدب، ب رحمة الناس والبهائم) ، وأخرجه مسلم (الصحيح 4/1999 ح 2586 - ك البر والصلة، ب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم) .
وانظر حديث البخاري عن أبي موسى الآتي عند الآية (29) من سورة الفتح.
وانظر حديث أحمد عن جرير المتقدم تحت الآية (72) من سورة الأنفال.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ويقيمون الصلاة) قال: الصلوات الخمس.
قوله تعالى (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار)
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا عبد العزيز، عن أبيه، عن سهل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن أهل الجنة ليتراءون الغرف في الجنة كما تتراءون الكوكب في السماء".
(الصحيح 11/424 ح 6555 - ك الرقاق، ب صفة الجنة والنار) ، وأخرجه مسلم (الصحيح 4/2177 ح 2831 - ك الجنة وصفة نعيمها، ب ترائي أهل الجنة الغرف ... ) .
قال أحمد: ثنا عبد الرزاق، أنا معمر عن يحيى بن أبي كثير، عن ابن معانق أو أبي معانق، عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن في الجنة(2/472)
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
غرفة يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها الله لمن أطعم الطعام وألان الكلام وتابع الصيام وصلى والناس نيام".
(المسند 5/343) ، وأخرجه ابن حبان (الإحسان 2/262 ح 509) من طريق عباس بن عبد العظيم عن عبد الرزاق به. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن معانق ووثقه ابن حبان (مجمع الزوائد 10/420) ، وأخرجه الحاكم (المستدرك 1/321) من طريق أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو به. وعزاه الهيثمي للطبراني في الكبير وقال: رجاله ثقات (مجمع الزاوئد 2/254) . وأشار إليه ابن كثير وقال عن إسناده: جيد حسن (التفسير 4/117) ، وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/808 و321) من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً، وقال الحاكم في الموضع الأول: حديث صحيح على شرط الشيخين. وقال في الموضع الثاني: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في كليهما) . وقال المنذري في الترغيب (1/424) : رواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن. وحسن الألباني كلا من الحديثين في موضع من صحيح الترغيب (ح 938 و939) وصححهما في موضع آخر (ح 613 و614) .
انظر حديث مسلم عن أبي سعيد المتقدم عند الآية 95-96 من سورة النساء.
وانظر حديث مسلم عن أبي هريرة المتقدم عند الآية 21 من السورة نفسها.
انظر حديث ابن أبي حاتم عن أبي هريرة المتقدم عند الآية (133) من سورة آل عمران وهو حديث: وصف بناء الجنة، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لبنة من فضة ولبنة من ذهب ... ".
قال الطبري: حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا: حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان وشعبة، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله، في قوله: (جنات عدن) قال: بطنان الجنة، قال ابن بشار في حديثه، فقلت: ما بطنانها؟ وقال ابن المثنى في حديثه، فقلت للأعمش: ما بطنان الجنة؟ قال: وسطها.
قوله تعالى (ورضوان من الله أكبر)
انظر حديث البخاري ومسلم عن أبي سعيد المتقدم تحت الآية رقم (15) من سورة آل عمران.(2/473)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74) وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)
قوله تعالى (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) فأمره الله بجهاد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان، وأذهب الرفق عنهم.
قوله تعالى (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله)
انظر حديث الحاكم عن ابن عباس الآتي عند الآية 18 من سورة المجادلة.
قال الشيخ الشنقيطي: صرح في هذه الآية الكريمة: أن المنافقين ما وجدوا شيئاً ينقمونه أي: يعيبونه وينتقدونه إلا أن الله تفضل عليهم فأغناهم بما فتح الله على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الخير والبركة. والمعنى أنه لا يوجد شيء يحتمل أن يعاب أو ينتقم بوجه من الوجوه، والآية كقوله: (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد) . وقوله (وما تنقمون منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا) . وقوله (الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله) .
قوله تعالى (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون)
انظر سورة آل عمران آية (180) ، وسورة النساء آية (37) .
قال البخاري: حدثنا سليمان أبو الربيع قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر قال: حدثنا نافع بن مالك بن أبي عامر أبو سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان".
(الصحيح 1/111 ح 33 - ك الإيمان، ب علامة المنافق) ، وأخرجه مسلم في (الصحيح 1/78-79 ح 59 - ك الإيمان، ب بيان خصال المنافق) ، وزاد في بعض رواياته: "وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم".(2/474)
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
قوله تعالى (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات)
قال البخاري: حدثني بشر بن خالد أبو محمد، أخبرنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن أبي مسعود قال: لما أُمرنا بالصدقة كنّا نتحامل، فجاء أبو عقيل بنصف صاع وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون: إن الله لغنيٌّ عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رئاء، فنزلت (الذين يلمزون المطّوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم) الآية.
(الصحيح 8/181 ح 4668 - ك التفسير - سورة التوبة، ب الآية) ، (الصحيح 2/706 ح 1018 - ك الزكاة، ب الحمل أجرة يتصدق بها..) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات) قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وجاءه رجل من الأنصار بصاع من طعام، فقال بعض المنافقين: والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياء، وقالوا: إن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا الصاع.
وانظر حديث كعب بن مالك الطويل الآتي عند قوله تعالى (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) آية (118) سورة التوبة وفيه أن أبا خيثمة الأنصاري هو الذي تصدق بصالح التمر حين لمزه المنافقون. (صحيح مسلم رقم 2679) .
قوله تعالى (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بأسانيد مرسلة يقوي بعضها بعضا عن الشعبي وقتادة ومجاهد أن هذه الآية نزلت حينما استغفر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبعض المنافقين.(2/475)
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)
قوله تعالى (فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة في قوله: (بمقعدهم خلاف رسول الله) قال: هي غزوة تبوك.
قال البخاري: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، قال: حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ناركم جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم". قيل: يا رسول الله إن كانت لكافية، قال: "فُضّلت عليهن بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرِّها".
(الصحيح 6/380-381 ح 3265 - ك بدء الخلق، ب صفة النار وأنها مخلوقة) ، وأخرجه مسلم (4/2184 ح 2843 - ك الجنة وصفة نعيمها ... ، ب في شدة حر نار جهنم ... ) .
انظر حديث البخاري ومسلم عن أبي هريرة المتقدم عند الآية (24) من سورة البقرة.
وانظر حديث البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير الآتي عند الآية (14) من سورة الليل.
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة شدة حر نار جهنم -أعاذنا الله والمسلمين منها- وبين ذلك في مواضع أخر كقوله: (نارا وقودها الناس والحجارة) وقوله: (كلا إنها لظى نزاعة للشوى) . وقوله: (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها) . وقوله: (يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد) وقوله: (وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه) الآية. وقوله: (وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم) . إلى غير ذلك من الآيات.(2/476)
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)
قوله تعالى (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيراً جزاء بما كانوا يكسبون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيراً) قال: هم المنافقون والكفار الذين اتخذوا دينهم هزوا ولعباً. يقول الله تبارك وتعالى: (فليضحكوا قليلاً) في الدنيا (وليبكوا كثيرا) في النار.
قوله تعالى (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج، فقل لن تخرجوا معي أبداً) إلى قوله: (الخالفين) عاقب الله في هذه الآية الكريمة المتخلفين عن غزوة تبوك بأنهم لا يؤذن لهم في الخروج مع نبيه، ولا القتال معه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأن شؤم المخالفة يؤدي إلى فوات الخير الكثير. وقد جاء مثل هذا في آيات أخر كقوله: (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم) إلى قوله: (كذلكم قال الله من قبل) . وقوله: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة) الآية. إلى غير ذلك من الآيات. والخالف هو الذي يتخلف عن الرجال في الغزو فيبقى مع النساء والصبيان.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (فاقعدوا مع الخالفين) والخالفون الرجال.
انظر حديث الترمذي عن أبي ذر الآتي عند الآية (44) من سورة الإسراء.
قوله تعالى (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون)
أخرج البخاري بسنده عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: لما مات عبد الله بن أبي بن سلول دعى له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليصلي عليه، فلما قام رسول(2/477)
وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86)
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وثبت إليه فقلت يا رسول الله أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا كذا وكذا -أعدد عليه قوله- فتبسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: "أخر عني يا عمر".
فلما أكثرت عليه قال: "إني خيرت فاخترت، لو أعلم إني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها". قال: فصلى عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم انصرف.
فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً) إلى (وهم فاسقون) قال: فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والله ورسوله أعلم.
(الصحيح ح 1366 - ك الجنائز، ب ما يكره من الصلاة على المنافقين) ، وح 4671 - ك التفسير، ب (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم)) .
قوله تعالى (ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون)
انظر آية (55 و73) من السورة نفسها.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (وتزهق أنفسهم) في الحياة الدنيا.
قوله تعالى (وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله اسئذنك أولوا الطّول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة، أنه إذا أنزل سورة فيها الأمر بالإيمان، والجهاد مع نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، استأذن الأغنياء من المنافقين في التخلف عن الجهاد مع القدرة عليه، وطلبوا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتركهم مع القاعدين المتخلفين عن الغزو. وبين في موضع آخر أن هذا ليس من صفات المؤمنين، وإنه من صفات الشاكين الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، وذلك في قوله (لا يستئذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستئذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون) . وبين أن السبيل عليهم بذلك، وأنهم مطبوع على قلوبهم(2/478)
وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)
بقوله (إنما السبيل على الذين يستئذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم) الآية. وبين في موضع آخر شدة جزعهم من الخروج إلى الجهاد كقوله (فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت) الآية. وقوله (فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد) إلى غير ذلك من الآيات.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (استأذنك أولوا الطول) يعني: أهل الغني.
قوله تعالى (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطُبع على قلوبهم فهم لا يفقهون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) قال: الخوالف هن النساء.
وانظر سورة البقرة آية (7) عند قوله تعالى (ختم الله على قلوبهم) .
قوله تعالى (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم)
انظر حديث أنس عند البخاري المتقدم تحت الآية (95) من سورة النساء.
قال مسلم: حدثنا محمد بن عباد المكي، حدثنا سفيان قال: قُلت لسهيل: إن عمراً حدثنا عن القعقاع، عن أبيك قال: ورجوتُ إن يُسقط عني رجلاً. قال: فقال: سمعته من الذي سمعه منه أبي. كان صديقا له بالشام. ثم حدثنا سفيان، عن سهيل، عن عطاء بن يزيد، عن تميم الداري، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الدين النصيحة" قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم".
(الصحيح 1/74 - ك الإيمان، ب بيان أن الدين النصيحة) .(2/479)
وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)
قوله تعالى (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه)
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، حدثنا حماد، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة قال: وحدثني القاسم بن عاصم الكليني -وأنا لحديث القاسم أحفظ- عن زهدم قال: كنا عند أبي موسى فأتى ذكرُ دجاجة وعنده رجل من بني تيم الله أحمر كأنه من الموالي، فدعاه للطعام فقال: إني رأيته يأكل شيئاً فقذرته فحلفت أن لا أكل. فقال: هلم فلأحدثكم عن ذلك: إني أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نفر من الأشعريين نستحمله، فقال: والله لا أحملكم، وما عندي ما أحملكم. وأُتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنهب إبل فسأل عنا فقال: أين النفر الأشعريون؟ فأمر لنا بخمس ذود غُرِّ الذرى، فلما انطلقنا قلنا: ما صنعنا. لا يبارك لنا. فرجعنا إليه فقلنا: إنا سألناك أن تحملنا، فحفلتَ أن لا تحملنا، أفنسيت؟ قال: لستُ أنا حملتكم، ولكن الله حملكم، وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها.
(الصحيح 6/272 ح 3132 - ك فرض الخمس، ب ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين ... ) ، (وصحيح مسلم 3/1269 - ك الأيمان، ب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها..، مطولا) .
قوله تعالى (رضوا أن يكونوا مع الخوالف وطَبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون)
انظر سورة البقرة آية (7) عند قوله تعالى (ختم الله على قلوبهم) .
قوله تعالى (وسيرى الله عملكم ورسوله ... )
انظر حديث مسلم عن أبي هريرة الآتي عند الآية (37) من سورة سبأ.
وفيه إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.(2/480)
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
قوله تعالى (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين)
قال البخاري: حدثنا يحيى، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن عبد الله أن عبد الله بن كعب قال: سمعت كعب بن مالك حين تخلف عن تبوك، والله ما أنعم الله عليّ من نعمة بعد إذ هداني أعظم من صدقي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا حين أُنزل الوحيُ (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم) -إلى قوله- (الفاسقين) .
(الصحيح 8/191 ح 4673 - ك التفسير - سورة التوبة، ب الآية) ، وأخرجه مسلم في (الصحيح 4/2127-2128 ح 2769 ضمن حديث توبة كعب بن مالك الطويل - ك التوبة، ب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه) .
وانظر سورة الأنعام آية (124) لبيان الرجس: الشيطان.
قوله تعالى (الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وأجدر ألا يعملوا حدود ما أنزل الله على رسوله) قال: هم أقل علماً بالسنن.
قوله تعالى (ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وصلوات الرسول) يعنى: استغفار النبي عليه السلام.(2/481)
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)
قوله تعالى (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان)
قال البخاري: حدثنا حجّاج بن منهال، حدثنا شعبة قال: حدثني عدي بن ثابت قال: سمعت البراء - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الأنصار لا يحبّهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله".
وقال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا شعبة، عن عبد الله بن عبد الله بن جَبر، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "آية الإيمان حُب الأنصار، وآية النفاق بُغض الأنصار".
(الصحيح 7/141 ح 3783، 3784 - ك مناقب الأنصار، ب حب الأنصار من الإيمان) . وأخرجهما مسلم (الصحيح 1/85 ح 74، 75 - ك الإيمان، ب الدليل على أن حب الأنصار ... من الإيمان) .
قال الطبري: حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: المهاجرون الأولون، الذين صلوا القبلتين.
ورجاله ثقات وسنده صحيح.
قوله تعالى (رضي الله عنهم ورضوا عنه)
انظر حديث البخاري عن أبي سعيد الخدري المتقدم تحت الآية (15) من سورة آل عمران.
قوله تعالى (وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم)
قال ابن كثير: وقوله (لا تعلمهم نحن نعلمهم) لا ينافي قوله تعالى (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول) سورة محمد آية (30) . لأن هذا من باب التوسم فيهم بصفات يعرفون بها، لا أنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق والريب على التعيين. وقد كان يعلم أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقاً، وإن كان يراه صباحاً ومساءً.(2/482)
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
قال الطبري: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (سنعذبهم مرتين) قال: القتل والسباء.
وسنده صحيح.
أحرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (سنعذبهم مرتين) عذاب الدنيا، وعذاب القبر.
قوله تعالى (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم)
قال البخاري: حدثنا مؤمّل، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا عوف حدثنا أبو رجاء، حدثنا سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لنا: "أتاني الليلة آتيان فابتعثاني، فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة، فتلقانا رجالٌ شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء وشطر كأقبح ما أنت راء قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة. قالا لي: هذه جنة عدن، وهذاك منزلك. قالا: أما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم خلطوا عملا صالحاً وآخر سيئا، تجاوز الله عنهم".
(الصحيح 8/192 ح 4674 - ك التفسير - سورة التوبة، ب الآية) .
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن ابن عباس قوله: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً) قال: كان عشرة رهط تخلفوا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة تبوك، فلما حضر رجوع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد، فكان ممر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا رجع من المسجد عليهم، فلما رآهم قال: "من هؤلاء الموثقون أنفسهم بالسواري؟ ". قالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له، تخلفوا عنك يا رسول الله أوثقوا أنفسهم، وحلفوا أنهم لا يطلقهم أحد، حتى يطلقهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويعذرهم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله هو الذي يطلقهم ويعذرهم، رغبوا(2/483)
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين". فلما بلغهم ذلك قالوا: نحن -والله- لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله هو الذي يطلقنا فانزل الله: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم) فلما نزلت أرسل إليهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأطلقهم وعذرهم.
قوله تعالى (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ... )
قال البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث، عن عقيل، عن الزهري، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واستُخلف أبو بكر بعبده، وكفر من كفر من العرب، قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله". فقال: والله لأُقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقاتلتهم على منعه. فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيتُ الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق.
قال ابن بُكير وعبد الله عن الليث (عناقاً) وهو أصحّ.
(الصحيح 13/264 ح 7284، 7285 - ك الاعتصام بالكتاب والسنة، ب الاقتداء بسنن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... ) ، وأخرجه مسلم (الصحيح 1/53 ح 2 - ك الإيمان، ب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ... ) من حديث ابن عمر بنحوه.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لما نزلت (وآخرون اعترفوا بذنوبهم ... ) أرسل إليهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأطلقهم وعذرهم، فجاؤوا بأموالهم فقالوا: يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا، واستغفر لنا، قال: "ما أمرت أن آخذ أموالكم". فأنزل الله: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ... ) الآية.(2/484)
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
قوله تعالى ( ... وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم)
قال البخاري: حدثنا حفص بن عمر، حدثنا شعبة، عن عمرو، عن عبد الله بن أبي أوفي قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أتاه قومٌ بصدقتهم قال: "اللهم صلِّ على آل فلان. فأتاه أبي بصدقته فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى".
(الصحيح 3/423 ح 1497 - ك الزكاة، ب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة) ، وأخرجه مسلم في (الصحيح 2/756-757 ح 1078 - ك الزكاة، ب الدعاء لمن أتى بصدقة) .
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى، ثنا أبو عوانة، عن الأسود ابن قيس، عن نبيح العنزي، عن جابر بن عبد الله: أن امرأة قالت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صلِّ عليَّ وعلى زوجي. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلَّى الله عليك وعلى زوجك".
(السنن 2/88-89 ح 1533 - ك الصلاة، ب الصلاة على غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، وأخرجه الترمذي (الشمائل ح 93، 94) والنسائي (عمل اليوم والليلة ح 423) وإسماعيل القاضي في (فضل الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ح 77) من طرق عن الأسود به مختصراً، وأخرجه أحمد (المسند 3/303) من
طريق سفيان عن الأسود به مطولاً. وحسنه ابن حجر (فتح الباري 7/398) وقال الألباني: إسناده صحيح (فضل الصلاة ح 77) .
أخرج الطبري بسنده الحسنِ عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (إن صلاتك سكن لهم) يقول: رحمة لهم.
قوله تعالى (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات)
انظر حديث البخاري عن أبي هريرة المتقدم عند الآية (276) من سورة البقرة. وهو حديث: "من تصدق بعدل تمرة ... ".
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (وأن الله هو التواب الرحيم) يعنى: إن استقاموا.
قوله تعالى (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)
انظر الآية (94) من السورة نفسها، وانظر حديث البخاري عن أنس المتقدم عند الآية (143) من سورة البقرة. وهو حديث: "أنتم شهداء الله في الأرض ... ".(2/485)
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
قوله تعالى (وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: وكان ثلاثة نفر لم يوثقوا أنفسهم بالسواري، أرجوا سنة، لا يدرون أيعذبون أويتاب عليهم؟ فأنزل الله تعالى - يعني قوله: (وآخرون مرجون لأمر الله) .
قوله تعالى (والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين) إلى قوله (لا تقم فيه أبداً ... )
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (والذين اتخذوا مسجداً ضراراً) وهم أناس من الأنصار، ابتنوا مسجداً فقال لهم أبو عامر: ابنوا مسجدكم، واستمدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم، فآتي بجند من الروم، فأخرج محمداً وأصحابه. فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: قد فرغنا من بناء مسجدنا، فنحب أن تصلي فيه، وتدعو لنا بالبركة، فأنزل الله: (لا تقم فيه أبداً) .
قوله تعالى (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه)
قال مسلم: حدثني محمد بن حاتم، حدثنا يحيى بن سعيد، عن حميد الخرّاط قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن قال: مرّ بي عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري قال: قلت له: كيف سمعت أباك يذكر في المسجد الذي أسس على التقوى؟ قال: قال أبي: دخلتُ على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيت بعض نسائه، فقلت: يا رسول الله أي المسجدين الذي أسس على التقوى؟ قال: فأخذ كفّا من حصباء فضرب به الأرض، ثم قال: "هو مسجدكم هذا". (لمسجد المدينة) قال: فقلت: أشهد أني سمعت أباك هكذا يذكره.
(الصحيح 2/1015 ح 1398 - ك الحج، ب بيان أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة) .(2/486)
لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك، عن زيد بن رباح وعبيد الله بن أبي عبد الله الأغر، عن أبي عبد الله الأغرّ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام".
(الصحيح 3/76 ح 1190 - ك فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، ب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة) ، وأخرجه مسلم (2/1012 ح 1394 - ك الحج، ب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة) .
قوله تعالى (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين)
قال ابن ماجة: حدثنا هشام بن عمار، ثنا صدقة بن خالد، ثنا عتبة بن أبي حكيم، حدثني طلحة بن نافع، أبو سفيان قال: حدثني أبو أيوب الأنصاري، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، أن هذه الآية نزلت (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهّرين) قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم في الطهور، فما طهوركم؟ ". قالوا: نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة ونستنجي بالماء. قال: "فهو ذاك. فعليكموه".
(السنن 1/127 ح 355 - ك الطهارة، ب الاستنجاء بالماء) ، وأخرجه الدارقطني في (سننه 1/62) ، والحاكم في (المستدرك 1/155 - ك الطهارة) كلاهما من طريق محمد بن شعيب بن شابور عن عتبة به. قال الحاكم: هذا حديث كبير صحيح في كتاب الطهارة. ووافقه الذهبي. وأخرجه الضياء (المختارة 6/218-219 ح 2231) من طريق الدارقطني به. وله شواهد في (مجمع الزوائد 1/221-213) . وقال الألباني: صحيح (صحيح ابن ماجه 1/63) .
قال الحاكم: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن خالد بن خلي، ثنا أحمد بن خالد الوهبي، ثنا محمد بن إسحاق عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) ، قال: لما نزلت هذه الآية بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى عويم بن ساعدة فقال: ما هذا الطهور الذي أثنى الله(2/487)
عليكم به؟ فقالوا: يا نبي الله ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل دبره -أو قال مقعدته- فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ففي هذا".
(المستدرك 1/187 - ك الطهارة) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي وأخرجه الطبراني في الكبير (11/67 ح 11065) من طريق محمد بن إسحاق به، وقال الهيثمي في المجمع (1/212) وإسناده حسن إلا أن ابن إسحاق مدلس وقد عنعنه ويشهد له ما تقدم.
قوله تعالى (أم مّن أسس بنيانه على شفا جرف هارٍ فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (فانهار به) يعني قواعده (في نار جهنم) .
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا المعلى بن أسد، حدثنا عبد العزيز بن المختار، عن عبد الله الداناج، عن طلق بن حبيب، عن جابر بن عبد الله قال: رأيت الدخان من مسجد الضرار حين انهار.
(وأخرجه الطبري في تفسيره، أخرجه الحاكم في (المستدرك 4/596) عن عبد العزيز بن المختار.
وقال الحاكم: "هذا إسناد صحيح، وصحح إسناده أيضاً محمود شاكر في تعليقه على الطبري) .
قوله تعالى (لا يزال بنيانهم الذي بنوا رِيبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (ريبة) شكا، (إلا أن تقطع قلوبهم) يعنى: الموت.
قوله تعالى (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم) يعني: بالجنة.(2/488)
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
قوله تعالى (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (التائبون) قال: تابوا من الشرك، ثم لم ينافقوا في الإسلام.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (العابدون) قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (الحامدون) قوم حمدوا الله على كل حال.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عثمان التنوخي أبو الجماهر، ثنا الهيثم بن حميد، أخبرني العلاء بن الحارث، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبي أمامة أن رجلاً قال: يا رسول الله، ائذن لي في السياحة، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله تعالى".
(السنن 2/5 ح 2486 - ك الجهاد، ب في النهي عن السياحة) ، وأخرجه ابن أبى حاتم (التفسير - التوبة/112 ح 1668) عن أبيه، والحاكم (المستدرك 2/73 - ك الجهاد) . من طريق عبيد بن شريك، كلاهما عن أبي الجماهر به. وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وذكره القرطبي في (تفسيره 8/270) ونقل عن أبي محمد عبد الحق تصحيحه. وقال الألباني: حسن.
(صحيح أبي داود ح 2172) .
قال الطبري حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله قال: (السائحون) الصائمون.
وسنده حسن، وأخرجه بأسانيد صحاح عن أبي هريرة وابن عباس موقوفاً أيضاً.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (والحافظون لحدود الله) يعني: القائمين على طاعة الله، وهو شرط اشترطه على أهل الجهاد، إذا وفوا لله بشرطه، وفى لهم بشرطهم.(2/489)
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
قوله تعالى (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قُربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم)
قال البخاري: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: "لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أي عمّ، قل لا إله إلا الله، أحاجّ لك بها عند الله. فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لأستغفرن لك ما لم أُنه عنك"، فنزلت (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) .
(الصحيح 8/192 ح 4675 - ك التفسير - سورة التوبة، ب الآية) ، وأيضاً 7/233 - ك مناقب الأنصار. باب قصة أبي طالب) ، وأخرجه مسلم في (الصحيح 1/54 ح 24 - ك الأيمان، ب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت) .
قال مسلم: حدثنا يحيى بن أيوب ومحمد بن عبّاد (واللفظ ليحيى) قالا: حدثنا مروان بن معاوية، عن يزيد (يعني ابن كيسان) ، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي".
(الصحيح 2/671 ح 976 - ك الجنائز، ب استئذان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ربه عز وجل في زيارة قبر أمه) .
قال الترمذي: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الخليل كوفي، عن علي قال: سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان، فقلت له: أتستغفر لأبويك وهما مشركان، فقال: أوليس استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك، فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزلت: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ... ) .(2/490)
(السنن 5/281 ح 3101 - ك التفسير، ب ومن سورة التوبة) ، وأخرجه النسائي (السنن 4/91 - ك الجنائز، ب النهي عن الاستغفار للمشركين) من طريق عبد الرحمن بن مهدي. وأحمد (المسند ح 771 و1085) عن يحيى بن آدم ووكيع وعبد الرحمن. وابن أبي حاتم (التفسير - التوبة/113 ح 1700) من طريق أبي نعيم. والحاكم (المستدرك 2/335) من طريق أبي نعيم وأبي حذيفة ووكيع، كلهم عن سفيان به، وعند هؤلاء جميعاً زيادة وهي: نزول قوله تعالى (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة ... ) . قال الترمذي: حديث حسن. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال الألباني: حسن (صحيح الترمذي ح 2477) وكذا قال أحمد شاكر: إسناده صحيح. قال الألباني في أحكام الجنائز (ص65) : في هذا الحديث أن سبب نزول الآية غير السبب المذكور في الحديث الذي قبله -يعني حديث المسيب-، ولا تعارض بينهما لجواز تعدد سبب النزول كما وقع ذلك في غير آية وقد أيد هذا الحافظ في الفتح. (508/8 ط1 من السلفية) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) الآية، فكانوا يستغفرون لهم، حتى نزلت هذه الآية فلما نزلت، أمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم، ولم ينههم أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا، ثم أنزل الله: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه) الآية.
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا هذه الموعدة التي وعدها إياه، ولكنه بينها في سورة مريم بقوله (قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قال: (تبين له) حين مات وعلم أن التوبة قد انقطعت عنه يعني في قوله: (من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) .
أخرج الطبري بسند صحيح عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات (فلما تبين له أنه عدو الله تبرأ منه) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه) يعني: استغفر له ما كان حيا، فلما مات أمسك عن الاستغفار له.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (فلما تبين له أنه عدو الله) لما مات على شركه (تبرأ منه) .(2/491)
قال الطبري: حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا سفيان، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله قال: (الأواه) الدعّاء.
ورجاله ثقات إلا عاصم فإنه صدوق فهو حسن.
قال الطبري: حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن سلمة، عن مسلم البطين، عن أبي العبيدين قال: سئل عبد الله عن (الأواه) فقال: الرحيم.
ورجاله ثقات فهو صحيح.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (إن إبراهيم لأواه) يعني: المؤمن التواب.
ويمكن الجمع بين الأقوال أن المؤمن الذي يدعو الله كثيرا يكون من المؤمنين والتوابين الذين يستحقون رحمة الله تعالى.
قوله تعالى (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون) قال: بيان الله للمؤمنين في الاستغفار للمشركين خاصة، وفي بيانه طاعته ومعصيته عامة، فافعلوا أو ذروا.
قوله تعالى (إن الله له ملك السموات والأرض ... )
انظر حديث الترمذي عن أبي ذر الآتي عند الآية (44) من سورة الإسراء (هو حديث الأطيط) .
قوله تعالى (لقد تاب الله على النبي والهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة ... )
قال البخاري: حدثنا أحمد بن صالح قال: حدثني ابن وهب قال أخبرني يونس. ح قال أحمد: وحدثنا عنبسة، حدثنا يونس، عن ابن شهاب قال: أخبرني عبد الرحمن بن كعب قال: أخبرني عبد الله بن كعب -وكان قائد كعب(2/492)
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)
من بنيه حين عميَ- قال: سمعت كعب بن مالك في حديثه (وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا) قال في آخر حديثه: إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله ورسوله، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أمسِك بعض مالك، فهو خير لك".
(الصحيح 8/192-193 ح 4676 - ك التفسير - سورة التوبة، ب الآية) .
وانظر رواية مسلم الآتية تحت الآية رقم (118) من نفس السورة.
قال ابن حبان: أخبرنا عبد الله بن محمد بن سلم، قال: حدثنا حرملة بن يحيى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس أنه قِيل لعمر بن الخطاب: حدِّثنا من شأن العسرة، قال: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا، أصابنا فيه عطش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء، فلا يرجع حتى نظن أن رقبته ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره، فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله قد عوّدك الله في الدعاء خيرا، فادعُ لنا، فقال: "أتُحب ذلك؟ " قال: نعم. قال: فرفع يديه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلم يرجعهما حتى أظلّت سحابة، فسكبت، فملأوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها جاوزت العسكر.
(الإحسان 4/223 ح 1383) ، وأخرجه الحاكم في (المستدرك 1/159 - ك الطهارة) من طريق محمد ابن الحسن العسقلاني عن حرملة به وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
وأخرجه الضياء المقدسي (المختارة 1/278 ح 168) من طريق يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب به وأورده الهيثمي في (مجمع الزوائد 6/194-195) وعزاه للبزار والطبراني ثم قال: ورجال البزار ثقات.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (في ساعة العسرة) في غزوة تبوك.
وأخرجه الطبري بسنده الحسن عن قتادة بنحوه.
قال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عُقيل، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب بن(2/493)
مالك -وكان قائد كعب بن مالك- قال: سمعت كعب بن مالك يُحدّث حين تخلف عن قصة تبوك، فوالله ما أعلم أحداً أبلاه الله في صدق الحديث أحسن مما أبلاني، ما تعمّدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى يومي هذا كذبا، وأنزل الله عز وجل على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين -إلى قوله- وكونوا مع الصادقين) .
(الصحيح 8/194 ح 4678 -ك التفسير- سورة التوبة، ب (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) .
قوله تعالى (وعلى الثلاثة الذين خُلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: أما قوله: (خلفوا) فخلّفوا عن التوبة.
قال مسلم: حدثني أبو الطاهر، أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن سرح، مولى بني أمية، أخبرني ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: ثم غزا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غزوة تبوك وهو يريد الروم ونصارى العرب بالشام.
قال ابن شهاب: فأخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، أن عبد الله بن كعب كان قائد كعب، من بنيه، حين عمي. قال: سمعت كعب بن مالك يُحدّث حديثه حين تخلف عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة تبوك. قال كعب بن مالك: لم أتخلف عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك، غير أنّي قد تخلّفت في غزوة بدر، ولم يُعاتِب أحداً تخلف عنه، إنما خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمسلمون يريدون عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدتُ مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أُحبُ أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدرٌ أذكر في الناس منها، وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة تبوك، أنّي لم أكن(2/494)
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
قطّ أقوى ولا أيسر منّي حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما جمعتُ قبلها راحلتين قط، حتى جمعتهما في تلك الغزوة، فغزاها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حرّ شديد، واستقبل سفراً بعيدا ومفازاً، واستقبل عدواً كثيراً، فجلا للمسلمين أمرهم ليتأهّبوا أُهبة غزوهم، فأخبرهم بوجههم الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ (يريد بذلك الديوان) قال كعب: فقلّ رجل يريد أن يتغيّب، يظن أن ذلك سيخفي له، ما لم ينزل فيه وحيٌ من الله عز وجل، وغزا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، فأنا إليها أصعر، فتجهزّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمسلمون معه، وطفقتُ أغدو لكي أتجهزّ معهم، فأرجعُ ولم أقض شيئاً، وأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك، إذا أردت. فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجِدّ، فأصبح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غادياً والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئا، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فأدركهم، فيا ليتني فعلتُ، ثم لم يُقدّر ذلك لي، فطفقت، إذا خرجت في الناس، بعد خروج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يحزُنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلاً مغموصا عليه في النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء. ولم يذكرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بلغ تبوكاً فقال وهو جالس في القوم تبوك: "ما فعل كعب بن مالك؟ " قال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه بُرداه والنظر في عِطفيه. فقال له معاذ ابن جبل: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً. فسكت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فبينما هو على ذلك رأى رجلاً مبيضا يزول به السراب فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كن أبا خيثمة" فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري. وهو الذي تصدّق بصاع التمر حين لمزه المنافقون. فقال كعب بن مالك: فلما بلغني أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد توجه قافلا من تبوك، حضرني بثّي، فطفقت أتذكر الكذب وأقول: بِمَ أخرج من سخطه غدا؟ وأستعين على ذلك(2/495)
كل ذي رأى من أهلي. فلما قيل لي: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أظلّ قادما، زاح عني الباطل، حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبداً. فأجمعت صدقه. وصبّح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون، فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسول الله علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله، حتى جئتُ، فلمّا سلّمتُ، تبسم تبسُّم المغضبَ ثم قال: "تعال" فجئتُ أمشي حتى جلست بين يديه.
فقال لي: "ما خلّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ " قال: قلتُ: يا رسول الله إني، والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أني سأخرج من سخطه بعُذر، ولقد أُعطيتُ جدلا، ولكني، والله لقد علمتُ، لئن حدثّتك اليوم حديثَ كذب ترضى به عني، ليُوشكن الله أن يُسخطك عليّ، ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليّ فيه، إني لأرجو فيه عقبى الله. والله ما كان لي عذرٌ. والله ما كنتُ قط أقوى ولا أيسر منّي حين تخلفت عنك. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أما هذا، فقد صدق. فقم حتى يقضي الله فيك". فقمتُ.
وثار رجال من بني سلمة فاتّبعوني، فقالوا لي: والله ما علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا. لقد عجزت في أن لا تكون اعتذرتَ إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما اعتذر به إليه المخلّفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لك. قال: فوالله ما زالوا يؤنِّبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأكذّب نفسي. قال: ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي من أحد؟ قالوا: نعم، لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك. قال: قلت: من هما؟ قالوا: مُرارة بن ربيعة العامري، وهلال بن أمية الواقفي. قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً، فيهما أسوة. قال: فمضيت حين ذكروهما لي. قال: ونهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسلمين عن كلامنا، أيها الثلاثة، من بين من تخلف عنه. قال:(2/496)
فاجتنبنا الناس. وقال: تغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض. فما هي بالأرض التي أعرف. فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان. وأما أنا فكنت أشبّ القوم وأجلدهم؛ فكنتُ أخرج وأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق ولا يُكلّمني أحد، وآتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأُسلم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه بردّ السلام، أم لا؟ ثم أصلي قريبا منه وأُسارقه النظر، فإذا أقبلتُ على صلاتي نظر إلي، وإذا التفتُ نحوه أعرض عني، حتى إذا طال ذلك عليّ من جفوة المسلمين، مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي، وأحب الناس إلي، فسلّمت عليه، فوالله ما ردّ عليّ السلام. فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمنّ أني أحب الله ورسوله؟ قال فسكت. فعُدت فناشدته. فسكت فعُدت فناشدته. فقال: الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي، وتولّيت، حتى تسوّرت الجدار. فبينا أنا أمشي في سوق المدينة، إذا نبطي من نبط أهل الشام، ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة، يقول: من يدُلّ على كعب بن مالك. قال: فطفق الناس يشيرون له إليّ، حتى جاءني فدفع إليّ كتاباً من مَلك غسان، وكنت كاتباً، فقرأته فإذا فيه: أما بعد؛ فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحَقْ بنا نواسك. قال: فقلت حين قرأتها: وهذه أيضاً من البلاء. فتياممتُ بها التنور فسجرتها بها، حتى إذا مضت أربعون من الخمسين، واستلبث الوحي، إذا رسول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأتيني فقال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرك أن تعتزل امرأتك. قال فقلتُ: أُطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها، فلا تقربنّها. قال: فأرسل إلى صاحبيَّ بمثل ذلك. قال فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر. قال: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت له: يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: "لا.(2/497)
ولكن لا يقربّنك". فقالت: إنه والله ما به حركةٌ إلى شيء، ووالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. قال: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله في امرأتك؟ فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه. قال: فقلت: لا استأذن فيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وما يدريني ماذا يقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب. قال: فلبثت بذلك عشر ليال، فكمُل لنا خمسون ليلة من حين نُهي عن كلامنا. قال: ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة، على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله عز وجل منا، قد ضاقت عليّ نفسي وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفي على سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر. قال: فخررتُ ساجداً، وعرفتُ أن قد جاء فرج. قال فآذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الناس بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشّروننا، فذهب قَبل صاحبيّ مبشرون، وركض رجل إليّ فرسا، وسعى ساع من أسلم قِبلي، وأوفي الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعتُ صوته يُبشرني، فنزعتُ له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، فانطلقت أتأمم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتلقاني الناس فوجاً فوجاً، يُهنئوني بالتوبة ويقولون: لِتَهنئْك توبة الله عليك، حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالس في المجلس، وحوله الناس، فقام طلحة بن عبيد الله يُهرول حتى صافحني وهنّأني، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره. قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة. قال كعب: فلمّا سلمت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال -وهو يبرق وجهه من السرور- ويقول: "أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك". قال فقلت: أمِن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ فقال: لا، بل من عند الله" وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سُرّ استنار وجهه، كأن وجهه قطعة قمر. قال: وكنا نعرف ذلك. قال: فلما جلستُ بين يديه قلتُ:(2/498)
يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أمسك بعض مالك فهو خير لك". قال فقلت؟ فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. قال: وقلت: يا رسول الله إن الله إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أُحدث إلا صدقا ما بقيت. قال: فوالله ما علمتُ أن أحداً من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرتُ ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى يومي هذا، أحسن مما أبلاني الله به. والله ما تعمّدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى يومي هذا. وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي. قال: فأنزل الله عز وجل: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كان يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم) حتى بلغ: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) قال كعب: والله ما أنعم الله عليّ من نعمة قط بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا. إن الله قال للذين كذبوا، حين أنزل الوحي، شرّ ما قال لأحد، وقال الله: (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لترضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) قال
كعب: كنا خُلّفنا، أيها الثلاثة، عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين خلفوا له فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال الله عز وجل: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) وليس الذي ذكر الله مما خُلفنا، تخلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا، وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه.
(الصحيح 4/2120-2128 - ك التوبة، ب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه) ، وأخرجه البخاري مختصراً (الصحيح - ك التفسير - سورة التوبة) .(2/499)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)
قال البخاري: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله - رضي الله عنه -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن الصدق يهدي إلى البرّ، وإن البرّ يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صدّيقا وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدى إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يُكتب عند الله كذاباً".
(الصحيح 10/523 ح 6094 - ك الأدب،، ب قول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)) .
انظر رواية البخاري من حديث كعب بن مالك المذكورة عند الآية (117-119) من هذه السورة. وفيها: فوالله ما أعلم أحداً أبلاه الله في صدق الحديث أحسن مما أبلاني ... وأنزل الله عز وجل على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين) إلى قوله (وكونوا مع الصادقين) .
وقد ذكر البخاري هذه الرواية في تفسير التوبة آية (119) .
قوله تعالى (ولا يطأون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين)
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد المروزي، حدثنا علي بن الحسين، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: (إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما) ، (وما كان لأهل المدينة) إلى قوله (يعملون) نسختها الآية التي تليها (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) .
(السنن ح 2505 - ك الجهاد، ب في النسخ نفير العامة بالخاصة) ، ومن طريق أبي داود، أخرجه ابن الجوزي في نواسخ القرآن (ص364-365 مختصراً) ، وقال الألباني: حسن (صحيح أبي داود 2/475-476 ح 2187) .
انظر حديث أبي عبس المتقدم تحت الآية رقم (216) من سورة البقرة.(2/500)
وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
قوله تعالى (ولا ينفقون نققة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة) الآية، قال: ما ازداد قوم من أهليهم في سبيل الله بُعدا إلا ازدادوا من الله قرباً.
قوله تعالى (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)
قال البخاري: حدثنا حبان بن موسى، أخبرنا عبد الله، عن يونس، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، والله المعطي وأنا القاسم، ولا تزال هذه الأمة ظاهرين على من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون".
(الصحيح 6/250-251 ح 3116 - ك فرض الخمس، ب قول الله تعالى (فأن لله خمسه)) ، وأخرجه مسلم في (الصحيح 3/1524، ح 1037 - ك الأمارة، ب قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ... ) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) فإنها ليست في الجهاد، ولكن لما دعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على مضر بالسنين أجدبت بلادهم، وكانت القبيلة منهم تقبل بأسرها حتى يحلوا بالمدينة من الجهد، ويعتلوا بالإسلام وهم كاذبون، فضيقوا على أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأجهدوهم، وأنزل الله يخبر رسول الله أنهم ليسوا مؤمنين، فردهم رسول الله إلى عشائرهم، وحذر قومهم أن يفعلوا فعلهم، فذلك قوله: (ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) يقول: ما كان المؤمنون لينفروا جميعا،
ويتركوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحده (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) يعنى عصبة، يعنى السرايا، ولا يتسروا إلا بإذنه، فإذا رجعت السرايا وقد نزل بعدهم قرآن،(2/501)
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)
تعلمه القاعدون من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالوا: إن الله قد أنزل على نبيكم بعدكم قرآنا، وقد تعلمناه. فيمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على نبيهم بعدهم، ويبعث سرايا أخر، فذلك قوله: (ليتفقهوا في الدين) يقول: يتعلمون ما أنزل الله على نبيه، ويعلموا السرايا إذا رجعت إليهم لعلهم يحذرون.
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين)
قال ابن كثير: وقوله تعالى (وليجدوا فيكم غلظة) أي: وليجد الكفار منكم غلظة عليهم في قتالكم لهم، فإن المؤمن الكامل هو الذي يكون رفيقاً لأخيه المؤمن، غليظاً على عدوه الكافر، كما قال تعالى: (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) سورة المائدة آية: 54.
وقال تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم) سورة الفتح آية: 29. وقال تعالى: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) سورة التوبة آية: 73، وسورة التحريم آية: 9.
قوله تعالى (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون)
قال ابن كثير في قوله تعالى (وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم) أي: زادتهم شكاً إلى شكهم، وريباً إلى ريبهم؛ كما قال تعالى: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً) سورة الإسراء آية: 82. وقال تعالى (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يومنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد) سورة فصلت آية: 44.
انظر سورة البقرة آية (125) عند قوله تعالى (في قلوبهم مرض) ، وانظر سورة الأنفال آية (2) .(2/502)
أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
قوله تعالى (أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يّذكّرون)
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (يفتنون) ، قال: يبتلون (في كل عام مرة أو مرتين) ، قال: بالسِنة والجوع.
قوله تعالى (وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون)
قال ابن كثير: وقوله: (وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون) هذا أيضاً إخبار عن المنافقين أنهم إذا أنزلت سورة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (نظر بعضهم إلى بعض) أي: تلفتوا (هل يراكم من أحد ثم انصرفوا) أي: تولوا عن الحق وانصرفوا عنه. وهذا حالهم في الدين لا يثبتون عند الحق ولا يقبلونه ولا يفهمونه؛ كما قال تعالى (فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمرٌ مستنفرة فرت من قسورة) سورة المدثر الآيات: 49-51. وقال تعالى: (فما للذين كفروا قبلك مهطعين. عن اليمين وعن الشمال عزين) سورة المعارج آية: 36، 37.
قوله تعالى (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حربص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم)
قال الشيخ الشنقيطي: هذه الآية الكريمة تدل على أن بعث هذا الرسول الذي هو من أنفسنا الذي هو متصف بهذه الصفات المشعرة بغاية الكمال، وغاية شفقته علينا هو أعظم منن الله تعالى، وأجزل نعمة علينا، وقد بين ذلك في موضع أخر؛ كقوله تعالى (لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم) الآية. وقوله: (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار) .(2/503)
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
قال البخاري: حدثنا محمد بن عُبيد الله أبو ثابت، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن عُبيد بن السبّاق، عن زيد بن تابت قال: بعث إليّ أبو بكر لمقتل أهل اليمامة وعنده عمر، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل بقراء القرآن في المواطن كلها فيذهب قرآن كثير، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت: كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال عمر: هو والله خير. فلم يزل عمر يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر عمر ورأيتُ في ذلك الذي رأى عمر قال زيد: قال أبو بكر: وإنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فتتبع القرآن فاجمعه. قال زيد: فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل عليّ مما كلفني من جمع القرآن.
قلتُ: كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال أبو بكر: هو والله خير.
فلم يزل يحثّ مراجعتي حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر، ورأيت في ذلك الذي رأيا. فتتبَعت القرآن أجمعه من العُسُب والرقاع واللخاف وصدور الرجال فوجدت آخر سورة التوبة (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) إلى آخرها مع خزيمة -أو أبي خزيمة- فألحقتها في سورتها. وكانت الصحف عند أبي بكر حياته حتى توفاه الله عز وجل، ثم عند عمر حياته حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر.
قال محمد بن عبيد الله: اللخاف يعني الخزَف.
(الصحيح 13/195 ح 7191 - ك الأحكام، ب يستحب للكاتب أن يكون أميناً عاقلاً) .
قال البخاري: حدثنا عبد السلام بن مطهر قال: حدثنا عمر بن علي، عن معن بن محمد الغِفاري، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة عن(2/504)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن الذين يُسر، ولن يُشاد الدين أحد إلا غلبه، فسدِّدوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدُّلجة".
(الصحيح 1/116 ح 39 - ك الإيمان، ب الدين يسر ... ) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم) قال: جعله الله من أنفسهم، فلا يحسدونه على ما أعطاه الله من النبوة والكرامة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: (عزيز عليه ما عنتم) قال: ما ضللتم.
قوله تعالى (حريص عليكم)
قال مسلم: وحدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن القرشي، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد ناراً، فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه، فأنا آخذ بحُجَزِكم وأنتم تقَحَّمون فيه".
(الصحيح 4/1789 ح 2284 - ك الفضائل، ب شفقته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أمته) ، وأخرجه البخاري (الصحيح ح 6483 - ك الرقاق، ب الانتهاء عن المعاصي) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (حريص عليكم) حريص على ضالهم أن يهديه الله.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (فإن تولوا فقل حسبي الله) يعني الكفار، تولوا عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهذه في المؤمنين.
وانظر سورة آل عمران آية (173) .(2/505)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)
سورة يونس
قوله تعالى (الر تِلْكَ آيات الْكِتَابِ الْحَكِيمِ)
انظر سورة البقرة آية (1-2) ، وانظر سورة آل عمران آية (158) لبيان: الحكيم.
قوله تعالى (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ)
قال ابن كثير: يقول تعالى منكرا على من تعجب من الكفار من إرسال المرسلين من البشر كما أخبر تعالى عن القرون الماضين من قولهم: (أبشر يهدوننا) وقال هود وصالح لقومهما: (أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم) وقال تعالى مخبراً عن كفار قريش أنهم قالوا: (أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب) سورة ص آية: 5.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم) ، يقول: سبقت لهم السعادة في الذكر الأول.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (قدم صدق) ، قال: خير.
قوله تعالى (إِنَّ رَبَّكُمُ الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)
انظر عن بيان خلق السموات والأرض في ستة أيام في سورة فصلت آية (9-11) .
أخرج الطري بسنده الصحيح عن مجاهد: (يدبر الأمر) قال: يقضيه وحده.
قال ابن كثير: وقوله (ما من شفيع إلا من بعد إذنه) كقوله تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) وكقوله تعالى: (وكم من ملك في السموات(3/3)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)
لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن له الله لمن يشاء ويرضى) وقوله: (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) سورة سبأ: 23.
وانظر سورة البقرة آية (255) قوله تعالى (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) .
قوله تعالى (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ الله حقاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ)
وانظر تفسير قوله تعالى (كما بدأنا أول خلق نعيده) الأنبياء: 104.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (يبدأ الخلق ثم يعيده) ، قال: يحييه ثم يميته. ا. هـ.
قال أبو جعفر الطبري: وأحسبه أنا قال: ثم يحييه.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (والذين كفروا لهم شراب من حميم) الآية وذكر في هذه الآية الكريمة: أن الذين كفروا يعذبون يوم القيامة بشرب الحميم وبالعذاب الأليم، والحميم: الماء الحار، وذكر أوصاف هذا الحميم في آيات أخر كقوله: (يطوفون بينها وبين حميم آن) ، وقوله: (وسقوا ماء حميم فقطع أمعائهم) ، وقوله: (يصب من فوق رؤوسهم الحميم. يصهر به ما في بطونهم والجلود) ، قوله: (وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه) الآية، وقوله: (فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم) . وذكر في موضع آخر أن الماء الذي يسقون صديد -أعاذنا الله وإخواننا المسلمين من ذلك بفضله ورحمته- وذلك في قوله تعالى: (من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه) الآية. وذكر في الموضع الآخر أنهم يسقون مع الحميم الغساق، كقوله: (هذا فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج) وقوله: (لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا) والغساق: صديد أهل النار، -أعاذنا الله والمسلمين منها- وأصله من غسقت العين سال دمعها، وقيل: هو لغة، البارد المنتن، والحميم الآنى: الماء البالغ غاية الحرارة.(3/4)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7)
قوله تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ الله ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ الله فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ)
قال ابن كثير: يخبر تعالى عما خلق من الآيات الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه أنه جعل الشعاع الصادر عن جرم الشمس ضياء وجعل شعاع القمر نوراً، هذا فن وهذا فن آخر، ففاوت بينهما لئلا يشتبها، وجعل سلطان الشمس بالنهار وسلطان القمر بالليل، وقدر القمر منازل، فأول ما يبدو صغيرا ثم يتزايد نوره ... وجرمه حتى يستوسق ويكمل إبداره، ثم يشرع في النقص حتى يرجع إلى حالته الأولى في تمام شهر كقوله تعالى: (والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون) وقوله تعالى: (والشمس والقمر حسبانا) الآية.
وانظر سورة الإسراء آية (12) .
قال ابن كثير: وقوله: (يفصل الآيات) أي نبين الحجج والأدلة (لقوم يعلمون) وقوله: (إن في اختلاف الليل والنهار) أي تعاقبهما إذا جاء هذا ذهب هذا وإذا ذهب هذا جاء هذا لا يتأخر عنه شيئاً كقوله تعالى: (يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا) وقال: (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر) الآية.
وقال تعالى: (فالق الإصباح وجعل الليل سكنا) الآية.
قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: قوله (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون) ، قال: إذا شئت رأيت صاحب دنيا، لها يفرح، ولها يحزن، ولها يسخط، ولها يرضى.(3/5)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (يهديهم ربهم بإيمانهم) ، قال: يكون لهم نوراً يمشون به.
قوله تعالى (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
قال مسلم: وحدثني الحسن بن علي الحلواني وحجاج بن الشاعر. كلاهما عن أبي عاصم. قال حسن: حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج. أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يأكل أهل الجنة فيها ويشربون. ولا يتغوطون ولا يمْتخطون ولا يبولون. ولكن طعامهم ذاك جُشاء كرشح المسك. يُلهمون التسبيح والحمد، كما يُلهمون النفس". قال وفي حديث حجاج: "طعامهم ذلك".
(صحيح مسلم 4/2181- ك الجنة وصفة نعيمها وأهلها، ب في صفات الجنة وأهلها، وتسبيحهم فيها بكرة وعشيا) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (دعواهم فيها سبحانك اللهم) يقول: ذلك قولهم فيها (وتحيتهم فيها سلام) .
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر تعالى في هذه الآية: أن تحية أهل الجنة في الجنة سلام، أي يسلم بعضهم على بعض ذلك، ويسلمون على الملائكة، وتسلم عليهم الملائكة بذلك، وقد بين تعالى هذا في مواضع أخر، كقوله: (تحيتهم يوم يلقونه سلام) الآية، وقوله: (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم) الآية، وقوله: (لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما) الآية، وقوله: (لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما وسلاما) وقوله: (سلام قولا من رب رحيم) إلى غير ذلك من الآيات. ومعنى السلام: الدعاء: بالسلامة من الآفات، والتحية مصدر حياك الله. ومعنى أطال حياتك. ا. هـ.
وانظر بداية سورة الفاتحة لبيان (الحمد لله رب العالمين) .(3/6)
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)
قوله تعالى (وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير) ، قال: هو دعاء الرجل على نفسه وماله بما يكره أن يستجاب له.
وانظر سورة الإسراء آية (11) ، وانظر سورة البقرة آية (15) لبيان (في طغيانهم يعمهون) .
قوله تعالى (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
قال ابن كثير: يخبر تعالى عن الإنسان وضجره وقلقه إذا مسه الشر كقوله: (وِإذا مسه الشر فذو دعاء عريض) أي كثير وهما في معنى واحد وذلك لأنه إِذا أصابته شدة قلق وجزع منها وأكثر الدعاء عند ذلك فدعا الله في كشفها ورفعها عنه في حال اضطجاعه وقعوده وقيامه وفي جميع أحواله فإِذا فرج الله شدته وكشف كربته أعرض ونأى بجانبه وذهب كأنه ما كان به من ذلك شيء (مرّ كأن لم يدعنا إِلى ضر مسه) .
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه) ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الإنسان في وقت الكرب، يبتهل إلى ربه بالدعاء في جميع أحواله، فإذا أفرج الله كربه، أعرض عن ذكر ربه، ونسى ما كان فيه كأنه لم يكن فيه قط. وبين هذا في مواضع أخر كقوله: (وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة نسى ما كان يدعو إليه من قبل) الآية، وقوله: (فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم) الآية، وقوله: (وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه شر فذو(3/7)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
دعاء عريض) والآيات في مثل ذلك كثيرة. إلا أن الله استثنى من هذه الصفات الذميمة عباده المؤمنين، بقوله في سورة هود: (ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عنى إنه لفرح فخور إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير) .
قوله تعالى (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ)
انظر سورة الإسراء آية (17) .
قوله تعالى (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الأرض مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)
انظر تفسير آية (165) من سورة الأنعام، وانظر حديث مسلم عن أبي سعيد المتقدم في الآية نفسها.
قوله تعالى (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا آئت بقرآن غير هذا أو بدله) ، وهو قول مشركي أهل مكة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثم قال لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون) ، لبث أربعين سنة.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى: (قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي) الآية: أمر الله تعالى: في هذه الآية الكريمة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أن يقول: إنه ما يكون له أن يبدل شيئاً من القرآن من تلقاء نفسه، ويفهم من قوله من تلقاء نفسي أن الله تعالى يبدل منه ما شاء بما شاء. وصرح بهذا المفهوم في مواضع أخر كقوله (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل) الآية، وقوله: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) الآية، وقوله: (سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى) .(3/8)
قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)
قوله تعالى (قُلْ لَوْ شَاءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ولا أدراكم به) ، ولا أعلمكم.
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك بن أنس، عن ربيعة ابن أبي عبد الرحمن، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه سمعه يقول: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، ولا بالأبيض الأمهق وليس بالآدم، وليس بالجعد القطط ولا بالسبط. بعثه الله على رأس أربعين سنة، فأقام بمكة عشر سنين وبالمدينة عشر سنين، فتوفاه الله وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء".
(صحيح البخاري 6/652- ك المناقب، ب صفة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ح 3548. (وأخرجه مسلم 4/1824، 1825- ك الفضائل، ب صفة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ح 113)
قوله تعالى (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى الله كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ)
قال ابن كثير: وقال في هذه الآية الكريمة (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون) وكذلك من كذب بالحق الذي جاءت به الرسل وفات عليه الحجج لا أحد أظلم منه.
قال تعالى (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ الله قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأرض سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)
انظر سورة البقرة آية (213) .
قوله تعالى (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)
قال ابن كثير: ثم أخبر تعالى أن هذا الشرك حادث في الناس كائن بعد أن لم يكن وأن الناس كلهم كانوا على دين واحد وهو الإسلام قال ابن عباس: كان(3/9)
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، ثم وقع الاختلاف بين الناس وعبدت الأصنام والأنداد والأوثان، فبعث الله الرسل بآياته وبيناته وحججه البالغة وبراهينه الدامغة (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة) .
قال تعالى (وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ)
قال ابن كثير: أي يقول هؤلاء الكفرة المكذبون المعاندون: لولا أنزل على محمد آية من ربه يعنون كما أعطى الله ثمود الناقة أو أن يحول لهم الصفا ذهبا أو يزيح عنهم جبال مكة ويجعل مكانها بساتين وأنهاراً أو نحو ذلك مما الله عليه قادر ولكنه حكيم في أفعاله وأقواله كما قال تعالى: (تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا. بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا) وكقوله: (وما منعنا أن نرسل بالآيات إِلا أن كذب بها الأولون) الآية، يقول تعالى: إِن سنني في خلقي أني إِذا أتيتهم ما سألوا، فإن آمنوا وإِلا عاجلتهم بالعقوبة. ولهذا لما خير رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين إعطائهم ما سألوا فإن آمنوا وإِلا عذبوا وبين إِنظارهم اختار إنظارهم ... (فانتظروا إني معكم من المنتظرين) أي إِن كنتم لا تؤمنون حتى تشاهدوا ما سألتم فانتظروا حكم الله فيّ وفيكم. هذا مع أنهم قد شاهدوا من آياته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعظم مما سألوا حين أشار بحضرتهم إِلى القمر ليلة إِبداره فانشق اثنَتين فرقة من وراء الجبل وفرقة من دونه. وهذا أعظم من سائر الآيات الأرضية مما سألوا وما لم يسألوا، ولو علم الله منهم أنهم سألوا ذلك استرشادا وتثبيتا لأجابهم، ولكن علم أنهم إِنما يسألون عنادا وتعنتا فتركهم فيما رابهم وعلم أنهم لا يؤمن منهم أحد كقوله تعالى: (إِن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية) الآية، وقوله تعالى: (ولو أننا نزلنا إِليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إِلا أن يشاء الله) الآية.(3/10)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
قوله تعالى (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آَيَاتِنَا قُلِ الله أَسْرَعُ مكراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ)
انظر آية (12) من السورة نفسها، وسورة البقرة آية (177) ، وسورة الإسراء آية (83) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (إذا لهم مكر في آياتنا) قال: استهزاء وتكذيب.
قوله تعالى (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)
قال ابن كثير: يحفظكم ويكلؤكم بحراسته (حتى إِذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها) أي بسرعة سيرهم رافقين فبينما هم كذلك إِذ (جاءتها) أي تلك السفن (ريح عاصف) أي شديدة (وجاءهم الموج من كل مكان) أي اغتلم البحر عليهم (وظنوا أنهم أحيط بهم) أي هلكوا (دعوا الله مخلصين له الدين) أي لا يدعون معه صنما ولا وثنا بل يفردونه بالدعاء والابتهال كقوله تعالى (وإِذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوراً) . سورة الإسراء: 67.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة في قوله (دعوا الله مخلصين له الدين) قال: إذا مسهم الضر في البحر أخلصوا له الدعاء.
قوله تعالى (فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)
قال الحاكم: أخبرنا أبو زكريا العنبري، ثنا محمد بن عبد السلام، ثنا إسحاق بن إبراهيم، أنبأ النضر بن شميل، ثنا عيينة بن عبد الرحمن الغطفاني قال: سمعت أبي يحدث عن أبي بكر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تبغ ولا تكن باغيا فإن الله يقول (إنما بغيكم على أنفسكم) ".
هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (المستدرك 2/338- ك التفسير، سورة يونس صححه الذهبي) .
وانظر سورة الإسراء آية (66-68) .(3/11)
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
قوله تعالى (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرض مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)
هذا المثل شبيه بالمثل المتقدم في سورة الكهف آية (45) وسورة الزمر آية (21) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها) ، الآية، إي والله، من تشبث بالدنيا وحدب عليها، لتوشك الدنيا أن تلفظه وتقضي منه.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (وازينت) قال: أنبتت وحسنت.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (كأن لم تغن بالأمس) ، يقول: كأن لم تعش، كأن لم تنعم.
قوله تعالى (والله يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)
قال أحمد: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا همام عن قتادة، عن خليد المصري عن أبي الدرداء قال قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما طلعت شمس قط إلا بعث بجنبتيها ملكان يناديان يسمعان أهل الأرض إلا الثقلين يا أيها الناس هلموا إلى ربكم فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى ... " الحديث.
(المسند 5/197، والزهد ص 19، وأخرجه أيضاً أبو داود الطيالسي (ح 979) ، وابن حبان في صحيحه (الإحسان ح 686 و3329) ، والحاكم في المستدرك (2/444-445) ، وأبو نعيم في الحلية (1/226 و2/233-234 و9/60) ، والبغوي في شرح السنة (ح 4045) وغيرهم من طرق عن قتادة به، وصحح إسناده الحاكم، وأقره الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع (3/122) : رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، وأورده الألباني في (الصحيحة ح 443) وقال إسناد صحيح على شرط مسلم. وقد صرح قتادة بالتحديث عند الحاكم وأخرجه الطبري (ح 17608) وابن أبي حاتم في تفسيره (سورة يونس ح 2009) تحت هذه الآية من طريق عباد بن راشد عن قتادة به، وزادا: قال: وأنزل ذلك في القرآن في قوله: (والله يدعو إلى دار السلام ويهدى من يشاء إلى صراط مستقيم) واللفظ للطبري، وعباد صدوق له أوهام، وصحح إسناده أحمد شاكر رحمه الله) .(3/12)
وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)
قال الحاكم: حدثني أبو الطيب طاهر بن يحيى البيهقي -بها من أصل كتاب خاله- ثنا خالي الفضل بن محمد البيهقي، ثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، حدثني خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي بن الحسين وتلا هذه الآية (والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) قال: حدثني جابر بن عبد الله قال: خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوماً فقال: "إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي يقول أحدهما لصاحبه اضرب له مثلا فقال: اسمع سمعة اذنك واعقل عقل قلبك إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارا ثم بنى فيها بيتا ثم جعل فيها مأدبة ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامهم فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من ترك فالله هو الملك والدار الإسلام والبيت الجنة وأنت يا محمد الرسول من أجابك دخل الإسلام ومن دخل الإسلام دخل الجنة ومن دخل الجنة أكل منها".
هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه (المستدرك 2/338-339 ك التفسير، سورة يونس.
وصححه ووافقه الذهبي) .
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله: (والله يدعو إلى دار السلام) ، قال: (الله) هو السلام، وداره الجنة.
وقوله تعالى (ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) أي إلى دين الإسلام كما تقدم في سورة الفاتحة.
قوله تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)
قال مسلم: حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة. قال: حدثني عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيّض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل".(3/13)
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)
(صحيح مسلم 1/163 ح 181- ك الإيمان، ب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى) . وقد أخرجه الترمذي (السنن 5/286 ح 3105- ك التفسير، ب ومن سورة يونس) ، وأحمد (المسند 6/15-16) ، وابن أبي حاتم (التفسير- سورة يونس/26 ح 2034) ، وابن خزيمة (التوحيد 1/443-444 ح 258) ، من طرق عن حماد بن سلمة بن وجاء عند الترمذي وابن خزيمة: عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قوله تعالى (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) قال: "إذا دخل ... الحديث. ووقع عند أحمد وابن أبي حاتم ذكر الحديث كما عند مسلم وفي آخره: ثم قرأ (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (للذين أحسنوا الحسنى) ، يقول: للذين شهدوا أن لا إله إلا الله.
قال تعالى (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)
قال ابن كثير: لما أخبر تعالى عن حال السعداء الذين يضاعف لهم الحسنات ويزدادون على ذلك عطف بذكر حال الأشقياء فذكر تعالى عدله فيهم وأنه يجازيهم على السيئة بمثلها لا يزيدهم على ذلك (وترهقهم) أي تعتريهم وتعلوهم ذلة من معاصيهم وخوفهم منها كما قال: (وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل) الآية، وقال تعالى (ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رؤوسهم) الآيات، وقوله (ما لهم من الله من عاصم) أي مانع ولا واق يقيهم العذاب كقوله تعالى (يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر) وقوله: (كأنما أغشيت وجوههم) الآية إخبار عن سواد وجوههم في الدار الآخرة كقوله تعالى (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون) وقوله تعالى (وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة) الآية.(3/14)
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وترهقهم ذلة) ، قال: تغشاهم ذلة وشدة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما) ، قال: ظلمة من الليل.
قوله تعالى (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر في هذه الآية الكريمة أنه يوم القيامة يجمع الناس جميعا، والآيات بمثل ذلك كثيرة. وصرح في الكهف بأنه لا يترك منهم أحدا بقوله (وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا) .
قال أحمد: حدثنا موسى بن داود حدثنا ابن لهيعة عن أبي الزبير أنه سأل جابراً عن الورود قال سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: نحن يوم القيامة على كوم فوق الناس، فيدعى بالأمم بأوثانها وما كانت تعبد الأول فالأول ثم يأتينا ربنا عز وجل بعد ذلك فيقول ما تنتظرون فيقولون ننتظر ربنا عز وجل فيقول: أنا ربكم.
فيقولون حتى ننظر إليه قال فيتجلى لهم عز وجل وهو يضحك ويعطي كل إنسان منهم منافق ومؤمن نوراً وتغشاه ظلمة ثم يتبعونه معهم المنافقون على جسر جهنم فيه كلاليب وحسك، يأخذون من شاء ثم يطفأ نور المنافقين وينجو المؤمنون فتنجو أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفا لا يحاسبون ثم الذين يلونهم كأضوأ نجم في السماء ثم ذلك حتى تحل الشفاعة فيشفعون حتى يخرج من قال لا إله إلا الله ممن في قلبه ميزان شعيرة فيجعل بفناء الجنة ويجعل أهل الجنة يهريقون عليهم من الماء حتى ينبتون نبات الشيء في السيل ويذهب حرقهم ثم يسأل الله عز وجل حتى يجعل له الدنيا وعشرة أمثالها.
(المسند 3/345، 346. والحديث في صحيح مسلم (1/177، 178 ح 191) من طريق ابن جريج عن أبي الزبير به، وقد وقع في بعضه تصحيف وتخليط، نبه عليه محمد فؤاد عبد الباقي وبين حقيقته، فلينظر هناك.(3/15)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)
قال ابن كثير: وقال الله تعالى في هذه الآية الكريمة إخبارا عما يأمر به المشركين وأوثانهم يوم القيامة (مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون) أنهم أنكروا عبادتهم، وتبرؤوا منهم، كما قال تعالى: (سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا) الآية.
قوله تعالى (هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت) قال: تختبر.
قال الشيخ الشنقيطي: صرح في هذه الآية الكريمة بأن كل نفس يوم القيامة تبلو أي تخبر وتعلم ما أسلفت أي قدمت من خير وشر، وبين هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله (ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر) وقوله (يوم تبلى السرائر) وقوله (ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا. اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) وقوله (ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا) الآية.
قوله تعالى (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ)
قال ابن كثير: يحتج تعالى على المشركين باعترافهم بوحدانيته وربوبيته على وحدانية إلاهيته فقال تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض) أي من ذا الذي ينزل من السماء ماء المطر فيشق الأرض شقا بقدرته ومشيئته فيخرج منها (حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأباً) أإله مع الله؟ فسيقولون الله (أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه) وقوله: (أمن يملك السمع والأبصار) أي الذي وهبكم هذه القوة السامعة، والقوة الباصرة،(3/16)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34)
ولو شاء لذهب بها ولسلبكم إياها كقولة تعالى: (قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار) الآية. وقال: (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم) الآية.
وانظر سورة آل عمران آية (27) لبيان قوله (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي) .
قوله تعالى (كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)
قال ابن كثير: وقوله (كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا) الآية، أي كما كفر هؤلاء المشركون واستمروا على شركهم وعبادتهم مع الله غيره مع أنهم يعترفون بأنه الخالق المتصرف في الملك وحده الذي بعث رسله بتوحيده، فلهذا حقت عليهم كلمه الله أنهم أشقياء من ساكني النار كقوله: (قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين) .
قوله تعالى (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)
قال الشيخ الشنقيطي: ألقم الله تعالى المشركين في هذه الآيات حجرا بأن الشركاء الذين تعبدونهم من دونه لا قدرة لهم على فعل شيء وأنه هو وحده جل وعلا الذي يبدأ الخلق ثم يعيده بالإحياء مرة أخرى وأنه يهدي من يشاء.
وصرح بمثل هذا في آيات كثيرة كقوله (الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون) وقوله تعالى (واتخذوا من دونه آلهة لا يَخلقون شيئاً وهم يُخلقون ولا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا) .
قال الطبري: حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: (فأنى تؤفكون) ، قال: أنى تصرفون؟.
رجاله ثقات وسنده صحيح.
انظر سورة الأنبياء آية (104) .(3/17)
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)
قوله تعالى (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى) ، قال: الأوثان، الله يهدي منها ومن غيرها من شاء لما شاء.
قوله تعالى (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شيئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ)
انظر سورة الأنعام آية (116) .
قوله تعالى (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا الليث، حدثنا سعيد المقبري عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة".
(الصحيح 8/619 ح 4981- ك فضائل القرآن، ب كيف نزل الوحي ... ) ، وأخرجه مسلم (الصحيح- ك الإيمان، ب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) .
قوله تعالى (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)
قال ابن كثير: وهذا هو المقام الثالث في التحدي فإنه تعالى تحداهم ودعاهم إن كانوا صادقين في دعواهم أنه من عند محمد فليعارضوه بنظير ما جاء به وحده وليستعينوا بمن شاءوا وأخبر أنهم لا يقدرون على ذلك ولا سبيل لهم إليه فقال تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً) ثم تقاصر معهم إلى عشر سور منه(3/18)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43)
فقال في أول سورة هود: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) ثم تنازل إلى سورة فقال في هذه السورة: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) وكذا في سورة البقرة وهي مدنية تحداهم بسورة منه وأخبر أنهم لا يستطيعون ذلك أبدا فقال: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار) الآية، سورة البقرة آية: 24.
وانظر سورة البقرة آية (23) .
قوله تعالى (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ)
قال الشيخ الشنقيطي: التحقيق أن تأويله هنا هو حقيقة ما يؤول إليه الأمر يوم القيامة، كما قدمنا في أول آل عمران ويدل لصحة هذا قوله في الأعراف (هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء) الآية.
قوله تعالى (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ)
قال الشيخ الشنقيطي: أمر الله تعالى نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذه الآية الكريمة، أن يظهر البراءة من أعمال الكفار القبيحة إنكارا لها وإظهارا لوجوب التباعد عنها وبين هذا المعنى في قوله (قل يا أيها الكافرون) إلى قوله (ولي دين) ونظير ذلك قول إبراهيم الخليل -وأتباعه- لقومه (إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله) الآية.
قوله تعالى (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ)
انظر سورة الأحقاف آية (26) .
قال ابن كثير: أي ينظرون إليك وإلى ما أعطاك الله من التؤدة والسمت الحسن والخلق العظيم، والدلالة الظاهرة على نبوتك لأولي البصائر والنهى.(3/19)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)
وهؤلاء ينظرون كما ينظر غيرهم ولا يحصل لهم من الهداية شيء كما يحصل لغيرهم، بل المؤمنون ينظرون إليك بعين الوقار، وهؤلاء الكفار ينظرون إليك بعين الاحتقار (وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا) الآية.
وانظر سورة البقرة آية (42) وسورة النمل آية (80) وسورة الروم آية (52) .
قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شيئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)
قال مسلم: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن بهرام الدارمي، حدثنا مروان (يعني ابن محمد الدمشقي) ، حدثنا سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: "يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرّما. فلا تظالموا. يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته. فاستهدوني أهدكم. يا عبادى! كلكم جائع إلا من أطعمته. فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته. فاستكسوني أكسكم. يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا. فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضرّي فتضروني. ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي! لو أن أولكم وأخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم. ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي! لو أن أولكم وأخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً. يا عبادي! لو أن أولكم وأخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني. فأعطيتُ كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخيَط إذا أدخل البحر. يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم. ثم أوفيكم إياها. فمن وجد خيرا فليحمد الله. ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه".
قال سعيد: كان أبو إدريس الخولاني، إذا حدث بهذا الحديث، جثا على ركبتيه.
(الصحيح 4/1994-1995 ح 2577- ك البر والصلة، ب تحريم الظلم) .(3/20)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)
قوله تعالى (ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار)
قال الشيخ الشنقيطي: بين تعالى في هذه الآية الكريمة، أن الكفار إذا حشروا استقلوا مدة مكثهم في دار الدنيا، حتى كأنها قدر ساعة عندهم وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله في آخر الأحقاف (كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار) الآية وقوله في آخر النازعات (كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها) وقوله في آخر الروم (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا إلا ساعة) الآية.
قوله تعالى (يتعارفون بينهم)
قال الشيخ الشنقيطي: صرح في هذه الآية الكريمة أن أهل المحشر يعرف بعضهم بعضاً فيعرف الأباء الأبناء كالعكس ولكنه بينه في مواضع أخر أن هذه المعارفة لا أثر لها، فلا يسأل بعضهم بعضاً شيئاً كقوله: (ولا يسأل حميم حميما يبصرونهم) ، وقوله: (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) .
قوله تعالى (وإما نرينّك بعض الذي نعدهم أو نتوفّينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (وإما نرينك بعض الذي نعدهم) من العذاب في حياتك (أو نتوفينك) ، قبل (فإلينا مرجعهم) .
قوله تعالى (ولكل أمة رسول ... )
قال الشيخ الشنقيطي: صرح تعالى في هذه الآية الكريمة أن لكل أمة رسولا وبين هذا في مواضع أخر كقوله (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا) الآية، وقوله (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) وقوله (ولكل قوم هاد) إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى (فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون)
وانظر حديث البخاري ومسلم المتقدم عند الآية (31) من سورة البقرة (وهو حديث الشفاعة) .(3/21)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)
قال الشيخ الشنقيطي: أوضح الله تعالى معنى هذه الآية الكريمة في سورة الزمر بقوله (وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون) .
قوله تعالى (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ)
قال ابن كثير: يقول تعالى مخبراً عن كفر هؤلاء المشركين في استعجالهم العذاب وسؤالهم عن وقته قبل التعيين مما لا فائدة لهم فيه كقوله: (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق) أي كائنة لا محالة وواقعة وإن لم يعلموا وقتها عينا، ولهذا أرشد تعالى رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى جوابهم فقال: (قل لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعا) الآية، أي لا أقول إلا ما علمني ولا أقدر على شيء مما استأثر به إلا أن يطلعني الله عليه فأنا عبده ورسوله إليكم ... (لكل أمة أجل) أي لكل قرن مدة من العمر مقدرة فإذا انقضى أجلهم (فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) كقوله: (ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها) الآية. سورة المنافقون آية: 11.
قوله تعالى (لكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)
قال الشيخ الشنقيطي: صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بأن لكل أمة أجلا، وأنه لا يسبق أحد أجله المحدد له، ولا يتأخر عنه. وبين هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله: (ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون) وقوله: (إن أجل الله إذا جاء لا يأخر لو كنتم تعلمون) وقوله: (ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها) الآية. إلى غير ذلك من الآيات.(3/22)
أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
قوله تعالى (أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون)
قال الشيخ الشنقيطي: بين تعالى في هذه الآية الكريمة، أن الكفار يطلبون في الدنيا تعجيل العذاب كفرا وعنادا، فإذا عاينوا العذاب آمنوا، وذلك الإيمان عند معاينة العذاب وحضوره لا يقبل منهم، وقد أنكر ذلك تعالى عليهم هنا بقوله: (أثم إذا ما وقع آمنتم به) ونفى أيضاً قبول إيمانهم في ذلك الحين بقوله: (آلآن وقد كنتم به تستعجلون) . وأوضح هذا المعنى في آيات أخر، كقوله (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين، فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون) وقوله: (حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لآ إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين، آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) .
قوله تعالى (ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ)
قال ابن كثير: (ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد) أي يوم القيامة يقال لهم هذا تبكيتاً وتقريعا كقوله: (يوم يدعون إلى نار جهنم دعاً هذه النار التي كنتم بها تكذبون أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تحزون ما كنتم تعملون) .
قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأرض لَافْتَدَتْ بِهِ)
انظر حديث البخاري عن أنس المتقدم عند الآية (91) من سورة آل عمران وهو حديث: "يجاء بالكافر يوم القيامة ... ".
وانظر سورة آل عمران آية (91) .
قوله تعالى (هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)
انظر سورة آل عمران آية (27) .(3/23)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)
قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)
قال ابن كثير: يقول تعالى ممتناً على خلقه بما أنزله من القرآن العظيم على رسوله الكريم: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم) أي زاجر عن الفواحش (وشفاء لما في الصدور) أي من الشبه والشكوك وهو إزالة ما فيها من رجس ودنس، وهدى ورحمة أي يحصل به الهداية والرحمة من الله تعالى، وإنما ذلك للمؤمنين به والمصدقين الموقنين بما فيه، كقوله تعالى: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا) وقوله: (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء) الآية.
قوله تعالى (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)
قال الحاكم: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا السري بن يحيى، ثنا قبيصة، ثنا سفيان، عن أسلم المنقري عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنزلت عليّ سورة وأمرت أن أقرئكها". قال: قلت: أسميت لك قال: نعم. قلت لأبي: أفرحت بذاك يا أبا المنذر؟ قال: وما يمنعني والله تعالى وتبارك يقول (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) .
(المستدرك 3/304- ك معرفه الصحابة) وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وأخرجه أبو داود عن سفيان به (السنن ح 3980) وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود 3367) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (قل بفضل الله وبرحمته) ، يقول: فضله الإسلام، ورحمته القرآن.
قوله تعالى (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: إن أهل الجاهلية كانوا يحرمون أشياء أحلها الله من الثياب وغيرها، وهو قول الله:(3/24)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60) وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
(قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا) ، وهو هذا.
فأنزل الله تعالى (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده) الآية، سورة الأعراف: 32.
وانظر سورة الأعراف آية (32) .
قوله تعالى (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)
قال ابن كثير: يخبر تعالى نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه يعلم جميع أحواله وأحوال أمته وجميع الخلائق في كل ساعة وأوان ولحظة وأنه لا يعزب عن علمه وبصره مثقال ذرة في حقارتها وصغرها في السموات ولا في الأرض ولا أصغر منها ولا أكبر إلا في كتاب مبين كقوله (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) .
وانظر حديث البخاري ومسلم الآتي عند الآية (34) من سورة لقمان، وهو حديث جبريل الطويل في بيان شرائع الإسلام والإيمان.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (إذ تفيضون فيه) ، يقول: إذ تفعلون.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وما يعزب) ، يقول: لا يغيب عنه.
وانظر سورة الزلزلة لبيان: مثقال ذرة.
قوله تعالى (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)
قال ابن حبان: أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى، قال: حدثنا عبد الرحمن بن صالح الأزدي، قال: حدثنا ابنُ فضيل، عن عُمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة(3/25)
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن من عباد الله عبادا ليسوا بأنبياء، يغبطهم الأنبياء والشهداء، قيل: مَن هم لعلّنا نحبهم؟ قال: هم قوم تحابوا بنور الله من غير أرحام ولا انتساب، وجوههم نور على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم قرأ: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) .
(الإحسان 2/332-333 ك البر والإحسان- ب الصحة والمجالسة) . وقال محققه: إسناده صحيح. وأخرجه الطبري في (التفسير 11/132) عند تفسير الآية عن أبي هشام الرفاعي عن ابن فضيل به. وأخرج الحاكم في (المستدرك 4/170) عن ابن عمر نحوه. وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وقال العراقى: رواه النسائي في سننه الكبرى ورجاله ثقات (اتحاف السادة 6/174) ، وصحح الشيخ محمود شاكر إسناد رواية أبي هريرة في حاشية الطبري، وله شاهد صحيح أخرجه أحمد من طريق أبي مالك الأشعري حسنه المنذري في (الترغيب 4/21-22) ، وقال الهيثمي: رجاله وثقوا (مجمع الزوائد 10/276-277) .
قوله تعالى (الذين آمنوا وكانوا يتقون)
ثم بين الله تعالى من هم أولياء الله فقال في الآية التالية (الذين آمنوا وكانوا يتقون) ثم بين جزاءهم في الدنيا والآخرة كما في الآية التالية.
وانظر سورة البقرة آية (2) لبيان المتقين.
قوله تعالى (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم)
قال ابن كثير: وأما بشراهم في الآخرة فكما قال تعالى: (لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون) وقال تعالى: (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم) .
قال مسلم: حدثنا محمد بن أبي عمر المكي، حدثنا عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا،(3/26)
لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
ورؤيا المسلم جزء من خمس وأربعين جزءا من النبوة، والرؤيا ثلاثة: فرؤيا الصالحة بشرى من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان. ورؤيا مما يُحدث المرءُ نفسه.
فإن رأى أحدكم ما يكره، فليقم فليصل، ولا يحدث بها الناس". قال: "وأحب القيد وأكره الغل، والقيد ثبات في الدين". فلا أدري هو في الحديث أم قاله ابن سيرين.
(الصحيح 4/1773 ح 2263- ك الرؤيا) . وأخرجه البخاري في (صحيحه - التعبير، القيد في المنام ح 7017) .
قال البخاري: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، حدثني سعيد ابن المسبب أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لم يبق من النبوة إلا المبشرات. قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة".
(الصحيح 12/391 ح 6990 ك التعبير، ب المبشرات) ، وأخرجه مسلم في (صحيحه من حديث ابن عباس- ك الصلاة، ب النهي عن القراءة القرآن في الركوع والسجود 1/348 ح 479) .
قال أحمد: ثنا أبو معاوية قال: ثنا الأعمش، عن منهال بن عمرو، عن زاذان عن البراء بن عازب قال: خرجنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد فجلس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجلسنا حوله وكأن على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت في الأرض فرفع رأسه فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثا ثم قال: "إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، قال: فيصعدون بها فلا يمرون -يعني بها- على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن(3/27)
أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح لهم فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي به إلى السماء السابعة فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى.
قال: فتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيقولان له: وما عملك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت، فينادي مناد في السماء: أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة قال: فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره. قال: ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد ... ".
(المسند 4/287-288) ، أخرجه أبو داود (السنن 4/239-240 ح 4753- ك السنة، ب في المسئلة في القبر وعذاب القبر) من طريق جرير وأبي معاوية. وأخرجه الحاكم (1/37-38- ك الإيمان) من طريق أبي معاوية كلاهما عن الأعمش به، وليس عند أبي داود قوله: "ابشر بالذي يسرك..". قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ... ولم يخرجاه بطوله. وقال الألباني: صحيح (صحيح الجامع ح 1672) .
قال ابن ماجة: حدثنا علي بن محمد، ثنا وكيع، عن علي بن المبارك، عن يحيى ابن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عبادة بن الصامت قال: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قوله الله سبحانه (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) قال: "هي الرؤيا الصالحة، يراها المسلم، أو ترى له".
(سنن ابن ماجة 2/1283- ك تعبير الرؤيا، ب الرؤيا الصادقة يراها المسلم أو ترى له ح 3898) ، أخرجه أحمد والترمذي والحاكم (المستدرك 2/340) من طريق يحيى بن أبي كثير به نحوه. وقال الترمذي: حسن وصححه الحاكم ووافقه الذهبي (المسند 5/315) ، (السنن 4/534- الرؤيا، ب قوله (لهم البشرى في الحياة الدنيا) . وللحديث طرق عن عبادة به نحوه (انظر تفسير ابن كثير 4/215) . وذكره الألباني في صحيح ابن ماجة وسقط حكمه عليه (2/338) . وأورده في السلسة الصحيحة (ح 1786) .(3/28)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
قوله تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)
انظر سورة الإسراء آية (12) .
قوله تعالى (قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرض إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)
قال ابن كثير: يقول تعالى منكرا على من ادعى أن له (ولداً سبحانه هو الغني) أي تقدس عن ذلك هو الغني عن كل ما سواه وكل شيء فقير إليه (له ما في السموات وما في الأرض) أي فكيف يكون له ولد مما خلق وكل شيء مملوك له عبد له (إن عندكم من سلطان بهذا) أي ليس عندكم دليل على ما تقولونه من الكذب والبهتان (أتقولون على الله ما لا تعلمون) إنكار ووعيد أكيد وتهديد شديد كقوله تعالى (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شيئاً إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هذا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) .
قوله تعالى (مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ)
انظر سورة الرعد آية (26) لبيان متاع: إنه قليل ذاهب.
قوله تعالى (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ)
انظر قصة نوح في سورة الأعراف آية (59-64) .
وانظر حديث مسلم عن أنس المتقدم تحت الآية (59) من سورة الأعراف وهو حديث الشفاعة الطويل، وفيه: "ولكن ائتوا نوحاً أول رسول ... ".(3/29)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (أمركم عليكم غمة) قال: لا يكبر عليكم أمركم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (ثم اقضوا إلي ولا تنظرون) قال: اقضوا إلي ما كنتم قاضين.
قوله تعالى (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآَيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأرض وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)
وهذه قصة موسى مع فرعون والسحرة وإيمانهم وقد تقدمت في سورة الأعراف آية (103-128) .
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (وتكون لكما الكبرياء في الأرض) قال: الملك.
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر تعالى عن موسى في هذه الآية، أنه قال: إن الله سيبطل سحر سحرة فرعون. وصرح في مواضع أخر بأن ذلك الذي قال موسى، أنه سيقع؛ من إبطال الله لسحرهم؛ أنه وقع بالفعل، كقوله: (فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين) ونحوها من الآيات.(3/30)
فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ذرية من قومه) يقول: بني إسرائيل.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) ، لا تعذبنا بأيدي قوم فرعون، ولا بعذاب من عندك، فيقول قوم فرعون: لو كانوا على حق ما سلطنا عليهم ولا عذبوا، فيفتنوا بنا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال: وذلك حين منعهم فرعون الصلاة، فأمروا أن يجعلوا مساجدهم في بيوتهم، وأن يوجهوا نحو القبلة.
قوله تعالى (وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ)
في هذه الآيات دعاء موسى وهارون ودمار فرعون وقومه وقد تقدمت في سورة الأعراف آية (129-137) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ربنا اطمس على أموالهم) ، قال: بلغنا أن زروعهم تحولت حجارة.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس: وقال موسى قبل أن يأتي فرعون: (واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) ، فاستجاب الله له، وحال بين فرعون وبين الإيمان حتى أدركه الغرق، فلم ينفعه الإيمان.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية قال (قد أجيبت دعوتكما) قال: دعا موسى وأمّن هارون.(3/31)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
قوله تعالى (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)
قال البخاري: حدثني محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "قدِم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة واليهود تصوم عاشوراء فقالوا: هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه: "أنتم أحق بموسى منهم، فصوموا".
(الصحيح 8/198 ك التفسير- سورة يونس ح 4680) .
قال الترمذي: حدثنا عبد بن حميد، حدثنا الحجاج بن منهال، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لما أغرق الله فرعون قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، فقال جبريل: يا محمد فلو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة".
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. (سنن الترمذي 5/287- ك التفسير، سورة يونس) ، وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي 3/61-62) . وأخرجه أحمد في المسند (ح 2144) ، والحاكم في المستدرك بنحوه (2/340) وصححه وقال: إلا أكثر أصحاب شعبة أوقفوه على ابن عباس. ووافقه الذهبي وقال: عامة أصحاب شعبة أوقفوه. وابن الملقن. وصححه أحمد شاكر في تحقيقه للمسند.
قوله تعالى (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية) ، يقول: أنكر ذلك طوائف من بني إسرائيل، فقذفه الله على ساحل البحر ينظرون إليه.
قوله تعالى (ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه بوأ بني إسرائيل مبوأ صدق. وبين ذلك في آيات أخر كقوله. (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون(3/32)
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)
مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها) الآية، وقوله: (كم تركوا من جنات ونعيم وكنوز ومقام كريم) إلى قوله: (كذلك وأورثناها بني إسرائيل) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (مبوأ صدق) قال بوأهم الله الشام وبيت القدس.
قوله تعالى (فما اختلفوا حتى جاءهم العلم)
انظر حديث ابن ماجة عن أنس المتقدم عند الآية (105) من سورة آل عمران. وهو حديث: "إن بني إسرائيل افترقت ... ".
قوله تعالى (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ)
قال ابن كثير: وهذا فيه تثبيت للأمة وإعلام لهم أن صفة نبيهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - موجودة في الكتب المتقدمة التي بأيدي أهل الكتاب كما قال تعالى (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل) الآية.
قال الحاكم: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ، ثنا يحيى ابن محمد ابن يحيى، ثنا مسدد، ثنا المعتمر بن سليمان، عن محمد بن عمرو، عن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "المراء في القرآن كفر". تابعه عمر بن أبي سلمة عن أبيه.
(المستدرك 2/223- ك التفسير، سورة يونس- الآية) . وصححه ووافقه الذهبي، وأخرجه أبو داود (السنن- السنة، ب النهي عن الجدال في القرآن ح 4603) ، وأحمد في المسند (2/286، 424، 375) ، وابن حبان في (الإحسان 4/324-325 ح 1464) من طرق عن محمد بن عمرو وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (ح 3847) ، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند ومحقق الإحسان. ونسبه الهيثمي إلى أحمد بإسناد حسن وقال: رجال أحدهما رجال الصحيح (المجمع 7/151) .
قال الشيخ الشنقيطي: صرح تعالى في هذه الآية الكريمة، أن من حقت عليه كلمة العذاب، وسبقت له في علم الله الشقاوة لا ينفعه وضوح أدلة الحق، وذكر(3/33)
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)
هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله تعالى (وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون) وقوله: (وإن يروا آية يعرضوا) الآية، وقوله: (وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين) وقوله: (وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم معرضون) وقوله: (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون) ، حق عليهم سخط الله بما عصوه.
قوله تعالى (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين) ، يقول: لم يكن هذا في الأمم قبلهم، لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين حضرها العذاب، فتركت، إلا قوم يونس، لما فقدوا نبيهم وظنوا أن العذاب قد دنا منهم، قذف الله في قلوبهم التوبة، ولبسوا المسوح، وفرقوا بين كل بهيمة وولدها، ثم عجوا إلى الله أربعين ليلة. فلما عرف الله الصدق من قلوبهم، والتوبة والندامة على ما مضى منهم، كشف الله عنهم العذاب بعد أن تدلى عليهم قال: وذكر لنا أن قوم يونس كانوا بنينوى أرض الموصل.
قال ابن كثير: واختلف المفسرون هل كشف عنهم العذاب الأخروي مع الدنيوي أو إنما كشف عنهم في الدنيا فقط؟ على قولين:
(أحدهما) إنما كان ذلك في الحياة الدنيا كما هو مقيد في هذه الآية.
(والثاني) فيهما لقوله تعالى (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون. فآمنوا فمتعناهم إلى حين) فأطلق عليهم الإيمان. والإيمان منقذ من العذاب الأخروي وهذا هو الظاهر والله أعلم.(3/34)
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)
قال الشيخ الشنقيطي: ظاهر هذه الآية الكريمة أن إيمان قوم يونس ما نفعهم إلا في الدنيا دون الآخرة، لقوله (كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا) ويفهم من مفهوم المخالفة في قوله (في الحياة الدنيا) أن الآخرة ليست كذلك، ولكنه تعالى أطلق عليهم إسم الإيمان من غير قيد في سورة "الصافات" والإيمان منقذ من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، كما أنه بين في "الصافات" أيضاً كثرة عددهم وكل ذلك في قوله تعالى: (وأرسلناه إلى مئة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين) .
قوله تعالى (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً) ، (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله) سورة يونس: 100، ونحو هذا في القرآن، فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من قد سبق له من الله السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأول.
قال ابن كثير: يقول تعالى (ولو شاء ربك) يا محمد لأذن لأهل الأرض كلهم في الإيمان بما جئتهم به فآمنوا كلهم ولكن له حكمة فيما يفعله تعالى كقوله تعالى (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) وقال تعالى (أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً) ولهذا قال تعالى (أفأنت تكره الناس) أي تلزمهم وتلجئهم (حتى يكونوا مؤمنين) أي ليس ذلك عليك ولا إليك بل الله (يضل من يشاء ويهدي من يشاء) ، (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء) (لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين) .(3/35)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102)
قال الشيخ الشنقيطي: صرح تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه لو شاء إيمان جميع أهل الأرض لآمنوا كلهم جميعاً، وهو دليل واضح على كفرهم واقع بمشيئته الكونية القدرية. وبين ذلك في آيات كثيرة كقوله (ولو شاء الله ما أشركوا) الآية وقوله: (ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها) وقوله: (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى) إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى (أفانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)
قال الشيخ الشنقيطي: بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن من لم يهده الله فلا هادي له، ولا يمكن أحدا أن يقهر قلبه على الانشراح إلى الإيمان إلا إذا أراد الله به ذلك. وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً) ، وقوله (إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدى من يضل) الآية، وقوله: (إنك لا تهدي من أحببت) الآية، وقوله: (ومن يضلل الله فلا هادي له) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ويجعل الرجس) ، قال: السخط.
قوله تعالى (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيات وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حقاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ)
قال الشيخ الشنقيطي: أمر الله جل وعلا جميع عباده أن ينظروا ماذا خلق في السموات والأرض من المخلوقات الدالة على عظم خالقها، وكماله، وجلاله، واستحقاقه لأن يعبد وحده جل وعلا. وأشار لمثل ذلك بقوله: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) الآية.(3/36)
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم) ، يقول: وقائع الله في الذين خلوا من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود.
قال ابن كثير: وقوله (فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم) ، أي فهل ينتظر هؤلاء المكذبون لك يا محمد من النقمة والعذاب إلا مثل أيام الله في الذين خلوا من قبلهم من الأمم الماضية المكذبة لرسلهم (قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا) أي ونهلك المكذبين بالرسل (كذلك حقاً علينا ننج المؤمنين) حقاً أوجبه الله تعالى على نفسه الكريمة كقوله: (كتب ربكم على نفسه الرحمة) وكما جاء في الصحيحين عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إن الله كتب كتابا فهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي".
قوله تعالى (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)
انظر سورة الكافرون آية (1-2) .
قوله تعالى (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)
قال الشيخ الشنقيطي: أوضح هذا المعنى في قوله (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها) الآية.
وانظر سورة البقرة آية (135) لبيان معنى حنيفا.
قوله تعالى (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)
انظر سورة الأنعام آية (17) .(3/37)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
قوله تعالى (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ)
انظر سورة الإسراء آية (15) .
قوله تعالى (وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ)
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا ما حكم الله به بين نبيه وبين أعدائه، وقد بين في آيات كثيرة أنه حكم بنصره عليهم، وإظهار دينه على كل دين، كقوله: (إذا جاء نصر الله والفتح) إلى آخر السورة، وقوله: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) إلى آخرها وقوله: (أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه) الآية. إلى غير ذلك من الآيات.(3/38)
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)
سورة هود
قوله تعالى (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) ، أحكمها الله من الباطل، ثم فصلها بعلمه، فبين حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (ثم فصلت) قال: فسرت.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة في قوله: (من لدن حكيم خبير) يقول: من عند حكيم خبير.
قوله تعالى (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ)
قال ابن كثير: (ألا تعبدوا إلا الله) أي نزل هذا القرآن المحكم المفصل لعبادة الله وحده لا شريك له كقوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) وقال (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) وقوله (إنني لكم منه نذير وبشير) أي إني لكم نذير من العذاب إن خالفتموه، وبشر بالثواب إن أطعتموه كما جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صعد الصفا فدعا بطون قريش الأقرب ثم الأقرب فاجتمعوا فقال: "يا معشر قريش أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا تصبحكم ألستم مصدقي؟ " فقالوا: ما جربنا عليك كذبا قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد". ا. هـ.
(صحيح البخاري- ك الإيمان، ب ما جاء إن الأعمال بالنيات) ، (وصحيح مسلم- ك الوصية، ب الوصية بالثلث) .(3/39)
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)
قال الشيخ الشنقيطي: هذه الآية فيها الدلالة الواضحة على أن الحكمة العظمى التي أنزل القرآن من أجلها هي: أن يعبد الله جل وعلا وحده، ولا يشرك به في عبادته شئ، لأن قوله جل وعلا: (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ألا تعبدوا إلا الله) الآية- صريح في أن آيات هذا الكتاب فصلت من عند الحكيم الخبير لأجل أن يعبد الله وحده، سواء قلنا إن (أن) هي المفسرة أو أن المصدر المنسبك منها ومن صلتها مفعول من أجله، لأن ضابط (أن) المفسرة أن يكون ما قبلها متضمنا معنى القول، ولا يكون فيه حروف القول.
قوله تعالى (النبي لكم منه نذير وبشير)
انظر حديث ابن عباس الآتي عند الآية (214) من سورة الشعراء.
قوله تعالى (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير)
قال الشيخ الشنقيطي: هذه الآية الكريمة تدل على أن الأستغفار والتوبة إلى الله تعالى من الذنوب سبب لأن يمتع الله من فعل ذلك متاعا حسنا إلى أجل مسمى؛ لأنه رتب ذلك على الأستغفار والتوبة ترتيب الجزاء على شرطه. والظاهر أن المراد بالمتاع الحسن، سعة الرزق، ورغد العيش، والعافية في الدنيا، وأن المراد بالأجل المسمى: الموت، ويدل لذلك قوله تعالى في هذه السورة الكريمة عن نبيه هود عليه الصلاة والسلام: (ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم) وقوله تعالى عن نوح: (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا) .
قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا غندر عن شعبة، عن عمرو ابن مرة، عن أبي بردة. قال: سمعت الأغرّ، وكان من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،(3/40)
وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
يُحدث ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "يا أيها الناس! توبوا إلى الله. فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة".
(صحيح مسلم 4/2075-2076- ك الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، ب استحباب الاستغفار والاستكثار منه) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى) ، فأنتم في ذلك المتاع، فخذوا بطاعة الله ومعرفة حقه، فإن الله منعم يحب الشاكرين، وأهل الشكر في مزيد من الله. وذلك قضاؤه الذي قضى.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (إلى أجل مسمى) قال: الموت.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (ويؤت كل ذي فضل فضله) ، قال: ما احتسب به من ماله أو عمل بيده أو رجله أو كلمة، أو ما تطوع به من أمره كله.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (ويؤت كل ذي فضل فضله) أي: في الآخرة.
قوله تعالى (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور)
قال الشيخ الشنقيطي: يبين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لا يخفى عليه شئ، وأن السر كالعلانية عنده، فهو عالم بما تنطوي عليه الضمائر وما يعلن وما يسر، والآيات المبينة لهذا كثيرة جدا، كقوله: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) وقوله جل وعلا: (واعلموا أن يعلم ما في أنفسكم فاحذروه) وقوله: (فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين) ، وقوله: (وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء) الآية.(3/41)
أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
قال البخاري: حدثنا الحسنُ بن محمد بن صباح حدثنا حجّاج قال: قال ابن جريج: أخبرني محمد بن عباد بن جعفر أنه سمعَ ابن عباس يَقرأ (ألا إنهم تثنوني صدورُهم) قال سألته عنها فقال: أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء، وأن يجامعوا نساءهم فيفضون إلى السماء، فنزل ذلك فيهم.
(صحيح البخاري 8/349- ك التفسير- سورة هود، ب (الآية) ح 4681) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (ألا حين يستغشون ثيابهم) يقول: يغطون رؤوسهم.
قوله تعالى (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ويعلم مستقرها) يقول: حيث تأوي (ومستودعها) يقول: إذا مات.
قوله تعالى (وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملاً)
قال الشيخ الشنقيطي: صرح في هذه الآية الكريمة أنه خلق السماوات والأرض لحكمة ابتلاء الخلق، ولم يخلقهما عبثا ولا باطلا. ونزه نفسه تعالى عن ذلك، وصرح بأن من ظن ذلك فهو من الذين كفروا وهددهم بالنار، قال تعالى: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للكافرين من النار) وقال تعالى: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم) وقال: (وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون) ، وقال: (الذي خلق الموت والحياة ليلوكم أيكم أحسن عملاً) إلى غير ذلك من الآيات. وانظر سورة فصلت آية (12) لبيان الستة أيام.(3/42)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
قال البخاري: حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب حدَّثَنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "قال الله عز وجل: أنفِق أنفق عليك.
وقال: يدُ الله مَلأى لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار. وقال: أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماء والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يده، وكان عرشه على الماء وبيده الميزان يخفِض ويرفع".
(صحيح البخاري 8/202- ك التفسير- سورة هود، ب (الآية) ح 4684) ، وأخرجه مسلم في (صحيحه 2/691 ح 37- ك الزكاة، ب الحث على النفقة) .
قال البخاري: حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا جامع بن شداد عن صفوان بن محرز أنه حدثه عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: دخلت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعقلت ناقتي بالباب. فأتاه ناس من بني تميم فقال: اقبلوا البشرى يا بني تميم قالوا: قد بشرتنا فأعطنا (مرتين) . ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن فقال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن أن لم يقبلها بنو تميم.
قالوا: قد قبلنا يا رسول الله. قالوا: جئنا نسألك عن هذا الأمر. قال: كان الله ولم يكن شيء غيره. وكان عرشه على الماء. وكتب في الذكر كل شيء.
وخلق السموات والأرض. فنادى مناد: ذهبت ناقتك يا ابن الحصين. فانطلقت فإذا هي يقطع دونها السراب. فوالله لوددت أني كنت تركتها.
(الصحيح 6/330-331 ح 3191- ك بدء الخلق، ب ما جاء في قوله تعالى (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده ... )) .
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (وكان عرشه على الماء) قبل أن يخلق شيئاً.(3/43)
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)
قوله تعالى (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ)
قال الطبري حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا الثوري عن عاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس: (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة) قال: إلى أجل محدود.
وسنده حسن.
وانظر سورة الأنعام آية (10) قول السدي، فحاق: وقع..
قوله تعالى (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ)
انظر سورة فصلت آية (50) ، وسورة الشورى آية (48) ، وانظر سورة البقرة آية (177) لبيان: ضراء.
قوله تعالى (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)
انظر سورة العصر آية (2-3) .
قوله تعالى (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ والله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)
قال ابن كثير: يقول تعالى مسليا لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عما كان يتعنت به المشركون فيما كانوا يقولونه عن الرسول كما أخبر تعالى عنهم في قوله: (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا) فأمر الله تعالى رسوله صلوات الله وسلامه عليه وأرشده إلى أن لا يضيق بذلك منهم صدره ولا يهيدنه ذلك ولا يثنية عن دعائهم إلى الله عز وجل آناء الليل وأطراف النهار كما قال تعالى (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون) الآية.
انظر حديث ابن عباس الآتي عند الآية (214) من سورة الشعراء وهو حديث: "إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد".(3/44)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)
قوله تعالى (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)
انظر سورة البقرة آية (23) وسورة يونس آية (38) .
قوله تعالى (فهل أنتم مسلمون)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (فهل أنتم مسلمون) قال: لأصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قوله تعالى (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
هذه الآية مطلقة وقد قيدتها آية أخرى كما في قوله تعالى (من كان يريد العاجلة عجلنا فيها ما نشاء لمن نريد) الإسراء آية: 18، فقيد الأمر في هذه الآية تقييدين:
أحدهما: تقييد المعجل بمشيئته تعالى.
والثاني: تقييد المعجل له. بإرادته تعالى.
قال الدارمي: أخبرنا عصمة بن الفضل، ثنا حرمي بن عمارة، عن شعبة، عن عَمْرو بن سليمان، عن عبد الرحمن بن أبان بن عثمان، عن أبيه قال: خرج زيد بن ثابت من عند مروان بن الحكم بنصف النهار، قال: فقلت ما خرج هذه الساعة من عند مروان إلا وقد سأله عن شيء فأتيته فسألته، قال: نعم سألني عن حديث سمعته من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "نضّر الله امرا سمع منا حديثا فحفظه، فأداه إلى من هو أحفظ منه، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. لا يعتقد قلب مسلم على ثلاث خصال إلا دخل الجنة". قال: قلت: ما هي؟ قال: "إخلاص العمل، والنصيحة لولاة الأمر، ولزوم الجماعة، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم. ومن كانت الآخرة نيته جعل الله غناه في قلبه،(3/45)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)
وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة. ومن كانت الدنيا نيته فرق الله عليه شمله، وجعل فَرَقَهُ بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له".
(السنن 1/75- المقدمة، ب الاقتداء بالعلماء ح 233) ، وأخرجه ابن حبان في صحيحه (الإحسان 2/454-455) من طريق أبي داود الطيالسي عن شعبة به. وقال محققه: إسناده صحيح.
وانظر تفسير سورة طه آية (132) في حديث عثمان بن عفان ففيه المزيد من تصحيح النقاد لهذا الحديث.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن أنس بن مالك في قوله (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها) قال: نزلت في اليهود والنصارى.
(التفسير- سورة هود/15 ح 156) ، وأخرجه الطبري (التفسير 15/265 ح 23-18) من طريق همام عن قتادة به. وصحح إسناده محقق ابن أبي حاتم) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون) ، أي: لا يظلمون.
يقول: من كانت الدنيا همه وسدمه، وطلبته ونيته، جازاه الله بحسناته في الدنيا ثم يفضى إلى الآخرة، وليس له حسنة يعطى بها جزاء. وأما المؤمن، فيجازى بحسناته في الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة (وهم فيها لا يبخسون) ، أي في الآخرة لا يظلمون.
قوله تعالى (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (أفمن كان على بينة من ربه) وهو محمد، كان على بينة من ربه.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، عن الحسن البصري قوله: (ويتلوه شاهد منه) ، قال: لسانه.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (ويتلوه شاهد منه) ، قال: معه حافظ من الله ملك.(3/46)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)
قال الطبري: وأولى هذه الأقوال في تأويل قوله (ويتلوه شاهد منه) قول من قال: "هو جبريل"، لدلالة قوله (ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة) على صحة ذلك. وذلك أن نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يتل قبل القرآن كتاب موسى، فيكون ذلك دليلا على صحة قول من قال: "عنى به لسان محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو: محمد نفسه، أو: "علي"، على قول من قال: "عنى به علي" ولا يعلم أن أحدا كان تلا ذلك قبل القرآن أو جاء به.
قوله تعالى (ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده)
قال الشيخ الشنقيطي: صرح تعالى في هذه الآية الكريمة: أن هذا القرآن لا يكفر به أحد كائنا من كان إلا دخل النار. وهو صريح في عموم رسالة نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى جميع الخلق، والآيات الدالة على ذلك كثيرة، كقوله تعالى: (وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ) وقوله: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) ، وقوله: (وما أرسلناك إلا كافة للناس) الآية. وقوله (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) الآية.
قال الحاكم: أخبرني محمد بن علي الصنعاني بمكة ثنا علي بن المبارك الصنعاني ثنا زيد بن المبارك الصنعاني عن عبد الرزاق عن معمر عن أبي عَمْرو البصري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما من أحد يسمع بي من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني ولا يؤمن بي إلا دخل النار فجعلت أقول أين تصديقها في كتاب الله؟ حتى وجدت هذه الآية (ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده) قال: الأحزاب الملل كلها.
هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. (المستدرك 2/342- ك التفسير- سورة هود. صححه الذهبي) ، وأخرجه مسلم بدون ذكر الآية بنحوه (الصحيح- الإيمان، ب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد 1/134 ح 240) .(3/47)
قوله تعالى (فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك)
قال الشيخ الشنقيطي: نهى الله وعلا في هذه الآية الكريمة عن الشك عن هذا القرآن العظيم وصرح أنه الحق من الله. والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة جدا كقوله (الم ذلك الكتاب لا ريب فيه) الآية وقوله: (الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين) وغير ذلك من الآيات. والمرية: الشك.
قوله تعالى (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون)
قال الشيخ الشنقيطي: صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بأن أكثر الناس لا يؤمنون، وبين ذلك أيضاً في مواضع كثيرة، كقوله (وما أكثر الناس لو حرصت بمؤمنين) وقوله (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك) ، وقوله (ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين) وقوله (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين) إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى (ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم..)
قال البخاري: حدثنا مسدد، حدثنا يزيد بن زُريع، حدثنا سعيد وهشام قالا: حدثنا قتادة عن صفوان بن محرز قال "بينا ابن عمر يطوف إذ عرض رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن -أو قال يا ابن عمر- هل سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في النجوى؟ فقال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "يُدنى المؤمن من ربه". وقال هشام: يدنو المؤمن حتى يضع عليه كنفه فيُقرره بذنوبه: تعرف ذنب كذا؟ يقول: أعرف، يقول ربِّ أعرف (مرتين) فيقول سترتها في الدنيا، وأغفرها لك اليوم. ثم تطوى صحيفة حَسناته. وأما الآخرون -أو الكفار- فينادى على رءوس الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم". وقال شيبان عن قتادة: حدثنا صفوان.
(صحيح البخاري 8/204- ك التفسير- سورة هود- ب (الآية) ح 4685) . وأخرجه مسلم في (صحيحه- ك التوبة، ب قبول توبة القاتل 4/2120 ح 2769) .
وانظر حديث مسلم الآتي عند الآية (23) من سورة سبأ.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قال: (الأشهاد) الملائكة.(3/48)
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20)
قوله تعالى (الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون)
أنظر سورة الأعراف آية (86) وانظر قول الشيخ الشنقيطي في الآية التالية.
قوله تعالى (أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ)
قال ابن كثير: (أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء) أي بل كانوا تحت قهره وغلبته وفي قبضته وسلطانه وهو قادر على الانتقام منهم في الدار الدنيا قبل الآخرة لكن يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار وفي الصحيحين: "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخده لم يفلته".
قوله تعالى (يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ)
قال الشيخ الشنقيطي: بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أن الكفار الذين يصدون الناس عن سبيل الله ويبغونها عوجا، يضاعف لهم العذاب يوم القيامة، لأنهم يعذبون على ضلالهم، ويعذبون أيضاً على إضلالهم غيرهم، كما أوضحه تعالى بقوله: (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فوق العذاب بما كانوا يفسدون) . وبين في موضع آخر أن العذاب يضاعف للأتباع والمتبوعين، وهو قوله: (حتى إذا اداركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفا من النار قال لكل ضعف) الآية.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون) ، صم عن الحق فما يسمعونه، بُكم فما ينطقون، عمي فلا يبصرونه ولا ينتفعون به.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: أخبر الله سبحانه أنه حال بين أهل الشرك، وبين طاعته في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا، فإنه قال: (ما كانوا يستطيعون السمع) ، وهي طاعته (وما كانوا يبصرون) وأما في الآخرة، فإنه قال: (فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم) سورة القلم: 42-43.(3/49)
أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)
قوله تعالى (أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)
قال ابن كثير: أي خسروا أنفسهم لأنهم أدخلوا ناراً حامية فهم معذبون فيها لا يفتر عنهم من عذابها طرفة عين كما قال تعالى (كلما خبت زدناهم سعيرا) (وضلّ عنهم) أي ذهب عنهم (ما كانوا يفترون) من دون الله من الأنداد والأصنام فلم تجد عنهم شيئاً بل ضرتهم كل الضرر كما قال تعالى: (وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين) .
قوله تعالى (لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون)
انظر سورة النحل آية (62) لبيان (لا جرم) أي: بلى.
قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: (وأخبتوا إلى ربهم) يقول: خافوا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (وأخبتوا إلى ربهم) الإخبات: التخشع والتواضع.
قوله تعالى (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع)
قال الشيخ الشنقيطي: ضرب الله تعالى في هذه الآية الكريمة المثل للكافر بالأعمى والأصم، وضرب المثل للمؤمن بالسميع والبصير، وبين أنهما لا يستويان ولا يستوي الأعمى والبصير، ولا يستوي الأصم والسميع، وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة: قوله: (وما يستوي الأعمي ولا البصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور إن أنت إلا نذير) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع) الآية، هذا مثل ضربه الله للكافر والمؤمن. فأما الكافر فصم عن الحق فلا يسمعه، وعمي عنه فلا يبصره. وأما المؤمن فسمع الحق فانتفع به، وأبصره فوعاه وحفظه وعمل به.(3/50)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
قوله تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ)
في هذه الآيات قصة نوح مع قومه وقد تقدم طرف منها في سورة الأعراف آية (59-64) وانظر سورة الشعراء آية (105-117) .
انظر حديث مسلم عن أنس المتقدم تحت الآية (59) من سورة الأعراف وهو حديث الشفاعة الطويل، وفيه: "ولكن ائتوا نوحاً أول رسول بعثه الله ... ".
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن الملأ من قوم نوح قالوا له: ما نراك اتبعك منا إلا الأسافل والأراذل. وذكر في سورة الشعراء، أن اتباع الأراذل له في زعمهم مانع لهم من اتباعه بقوله: (أنؤمن لك واتبعك الأرذلون) . وبين في هذه السورة الكريمة: أن نوحاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أبى أن يطرد أولئك المؤمنين الذين اتبعوه بقوله: (وما أنا بطارد الذين(3/51)