ـ[موسوعة الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور]ـ
المؤلف: أ. د. حكمت بن بشير بن ياسين
الناشر: دار المآثر للنشر والتوزيع والطباعة- المدينة النبوية
الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 1999 م
عدد الأجزاء: 4
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو مذيل بالحواشي، وضمن خدمة مقارنة التفاسير](/)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال الطبري مصنف "جامع البيان":
إني لأعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله كيف يلتذ بقراءته؟.
انظر معجم الأدباء 18/63
وقال ابن أبي حاتم الرازي مصنف "تفسير القرآن العظيم مسنداً عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصحابة والتابعين":
فلما لم نجد سبيلاً إلى معرفة شيء من معاني كتاب الله ولا من سنن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا من جهة النقل والرواية وجب أن نميز بين عدول الناقلة والرواة وثقاتهم وأهل الحفظ والثبت والإتقان منهم وبين أهل الغفلة والوهم وسوء الحفظ والكذب واختراع الأحاديث الكاذبة.
وقال أيضاً:
فإن قيل كيف السبيل إلى معرفة ما ذكرت من معاني كتاب الله عز وجل ومعالم دينه؟ قيل: بالآثار الصحيحة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن أصحابه النجباء الألباء الذين شهدوا التنزيل وعرفوا التأويل رضي الله عنهم. فإن قيل فبماذا تعرف الآثار الصحيحة والسقيمة؟ قيل: بنقد العلماء الجهابذة الذين خصهم الله عز وجل بهذه الفضيلة، ورزقهم هذه المعرفة، في كل دهر وزمان.
تقدمة الجرح والتعديل ص 2، 5(1/4)
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
[[أهمية علم التفسير بالمأثور]]
أما بعد: فإن علم التفسير من أجلِّ العلوم وأفضلها وأشرفها باعتبار أساسه وتاريخه وموضوعه وغايته، فأساسه: القرآن الكريم والحديث الشريف، وتاريخه: أول العلوم الإسلامية. وموضوعه: كلام الله تعالى. وغايته: معرفة معانيه وإدراك مراميه. وسنام هذه المعرفة: التفسير بالمأثور لأهميته الكبرى في فهم القرآن العظيم، لأنه تفسير من رب العالمين، أو من رسوله الأمين، أو تفسير صحابي شهد التنزيل وعرف التأويل، (1) أو تفسير تابعي نهل من مدرسة النبوة عن الصحابة المفسرين النابغين.
فلابد من التفسير بالمأثور لمن أراد أن يستجيب لله تعالى فيتدبر كلام الله، وكذا لمن أراد أن يفسر بالرأي يتحتم عليه أن يطلع على معرفة: أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والمكي والمدني، والغريب، والمشكل، والوقف والابتداء، والقراءات وأوجهها، والقراءات الشاذة التفسيرية، والأحاديث المبينة للمجمل والمبهم، والأحاديث المخصصة للعام، والمقيدة للمطلق ... وهذه العلوم لا تؤخذ إلا بالنقل الصحيح ولا تنفك عن التفسير بالمأثور بل هي نابعة منه
ولما أوجب الله عز وجل علينا أن نعمل بهذا القرآن بالاستجابة لأوامره والازدجار عن نواهيه والاعتبار بقصص الأمم السالفة ... فقد كان لزاماً أن نتدبر معاني هذا القرآن وأن ندرك مراميه لنعمل به ونتحرى ما ثبت في تفسيره لنستقيم على نهجه.
_________
(1) المراد بالتأويل: التفسير. وما ذكر اقتباس من الحديث الثابت في دعاء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابن عباس رضي الله عنهما: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل". رواه أحمد في المسند 1/328.(1/5)
ولهذه الأمة تجربة خالدة حينما تدبرت هذا القرآن وأخذته بقوة، حيث أسعفها في طفرتها الكبرى حينما انتشلها من دياجير الجاهلية إلى مشاعل النور (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (1) فلما التزمت بهدية هداها، ولما تركته تركها كما نرى الحال في هذا الزمان.
وبما أن العلماء هم الذين ينصحون الأمة ويحذرونها من مغبَّة البعد عن كتاب الله تعالى وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد صدرت نداءاتهم المتكررة في كل زمان وحثهم الأمة على العودة إلى القرآن والسنة وغالباً ما يواكب هذه النداءات الدعوة لتنقية التفسير من الدخيل بأنواعه أو تصنيف تفسير نقلي بعدما ثبت فشل المدرسة العقلية -عندما زهدت بالأحاديث والآثار الصحيحة إذ لابد من الاستفادة منها- (2) ، وذلك من خلال نصائح العلماء وطلاب العلم والمثقفين، وهو مطلب مهم لأن التفسير علم جامع للقرآن والسنة.
وإن جندياً من جنود القرآن والسنة ليدرك من غير شك أهمية هذا المطلب الإسلامي والمسؤولية التي تناط به وخصوصاً في عصرنا الحاضر، وآمل ساعياً أن أحقق أملاً من الآمال التي تعقد على طلاب العلم.
من أجل هذا المنطلق جاءت فكرة تصنيف هذا الكتاب حيث قررت أن أجمع كل ما صح إسناده من التفسير بالمأثور؛ لأن الرواية التفسيرية الصحيحة تتقبلها النفوس -إن كانت صادقة- بكل اطمئنان وتأخذها بقوة وجدية، وخصوصاً إذا كانت الرواية من الصحيحين أو على شرطهما أو على شرط
_________
(1) الإِسراء 9.
(2) وقد صنف فضيلة د. فهد الرومي في هذا الموضوع كتاباً بعنوان: منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير.(1/6)
أحدهما، أو صحح تلك الرواية بعض النقاد المعتمدين. ويكفينا تجربة تقبل الصحيحين (1) . وهذا التقبل والأخذ يقوي صلة المسلم بالقرآن والسنة وأقوال الصحابة رضوان الله عليهم، وفي الوقت نفسه إن جمع الروايات التفسيرية الصحيحة يؤدي إلى تنقية التفسير من الدخيل بأنواعه، وفي هذا الجمع غربلة لجميع الروايات التفسيرية الثابتة الموجودة في كتب التفسير المسندة المطبوعة والمخطوطة، والموجودة في الكتب المسندة في العلوم الأخرى والتي سيأتي ذكرها في الحواشي والمصادر، وطريقة هذه الغربلة بنقد جميع الأسانيد لتلك الروايات وخصوصاً للأسانيد المتكررة كثيراً، فقد أفردت لها دراسة نقدية خاصة بها كما سيأتي في آخر هذه الديباجة.
هذا ومن فضل الله تعالى ومَنِّه أن هيأ الأسباب لهذا العمل حيث قيض لهذه الأمة في كل عصر ومصر من يقوم بنشر هذا العلم والعناية به، فخلفوا لنا تركة من كتب التفسير المسندة التي خزنت وحفظت كتب السابقين، وهذه من خصائص هذه الأمة.
وإن تكفلَ الله تعالى القرآن بالحفظ والبيان لمن أعظم ما خص الله تعالى هذه الأمة من الفضيلة والشرف حيث قال: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (2) وقال أيضاً: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) . (3) وَعَدَ سبحانه -ووعده حق-، فبَيّن وفصّل بأدق أساليب الفصاحة والبلاغة، قال تعالى (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (4) .
_________
(1) ولا أدعي أن هذه الروايات وصلت مرتبة الصحيحين إلا أن جزءاً كبيراً مأخوذ من الصحيحين أو من كتب أسانيدها على شرطهما أو على شرط أحدهما وذلك في مجال التفسير النبوي.
(2) سورة الحجر 9.
(3) سورة القيامة 17-19.
(4) سورة فصلت 3.(1/7)
وقال عز وجل أيضاً: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (1) .
[[نبذة عن نشأة التفسير بالمأثور]]
كما جعل الله تعالى سنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بياناً للقرآن وتطبيقاً له في أقواله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأفعاله، ليكون الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأسوة الحسنة كما قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) (2) .
وأوحى الله تعالى إلى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبين للأمة ما تحتاج إلى بيانه فقال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (3) . وقد قام الصادق المصدوق صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأداء الأمانة فبلغ الرسالة ونصح الأمة وكشف الغمة. (فكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو المبيِّن عن الله عز وجل أمره، وعن كتابه معاني ما خوطب به الناس، وما أراد الله عز وجل به وعنى فيه، وما شرع من معاني دينه وأحكامه وفرائضه وموجباته وآدابه ومندوبه وسننه التي سنَّها، وأحكامه التي حكم بها وآثاره التي بثها. فلبث صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة والمدينة ثلاثاً وعشرين سنة، يقيم للناس معالم الدين، يفرض الفرائض، ويسن السنن، ويمضي الأحكام ويحرم الحرام ويحل الحلال، ويقيم الناس على منهاج الحق بالقول والفعل. فلم يزل على ذلك حتى توفاه الله عز وجل وقبضه إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى آله أفضل صلاة وأزكاها، وأكملها وأذكاها، وأتمها وأوفاها فثبت عليه السلام حجة الله عز وجل على خلقه بما أدى عنه وبين، وما دل عليه من محكم كتابه ومتشابهه، وخاصه وعامه، وناسخه ومنسوخه، وما بشر وأنذر.
_________
(1) سورة البقرة 219 وقال الطبري عند هذه الآية: أي كما بينت لكم أعلامي وحججي وهي (آياته) في هذه السورة، وعرفتكم فيها ما فيه خلاصكم من عقابي، وبينت لكم حدودي وفرائضي، ونبهتكم فيها على الأدلة على وحدانيتي، ثم على حجج رسولي إليكم، فأرشدتكم إلى ظهور الهدي فكذلك أبين لكم في سائر كتابي الذي أنزلته على نبيي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آياتي وحججي وأوضحها لكم لتتفكروا في وعدي ووعيدي وثوابي وعقابي ... (التفسير 1/347-348) .
(2) سورة الأحزاب 21.
(3) سورة النحل 44.(1/8)
قال الله عز وجل (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)) (1) (2) .
[[نبذة عن مراحل التفسير بالمأثور ومنهج الصحابة والتابعين فيه]]
وما أن فاضت روحه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لتلحق بالرفيق الأعلى إلا ومدرسة النبوة قد بدأت تتحمل هذه المسؤولية من خلال تلك الصفوة التي تهذبت وتربت ونهلت من ذلك البيان، واشتهر منهم في علم التفسير جماعة كالخلفاء الراشدين وابن عباس وابن مسعود وزيد بن ثابت وأُبي بن كعب وأبي موسى الأشعري وعبد الله ابن الزبير (3) ، ومنهم المكثرون كابن عباس وابن مسعود، ومنهم من لم يكثر وذلك بسبب تقدم وفاتهم أو انشغالهم في الإعداد والإدارة والجهاد، وقد نالوا -رضوان الله عليهم- الحظ الأوفر من ذلك الهدي والبيان النبوي، فتلقوه بكل همة وحفظوه وطبقوه بدقة وأمانة، ثم قدموه إلى من بعدهم من التابعين فنشروا ما علموه بحكمة وصيانة مع التحري والتدقيق.
(وتلقى التابعون التفسير عن الصحابة كما تلقوا عنهم علم السنة) (4) ، وقد قام التابعون الذين تحملوا هذا العلم بواجبهم تجاه هذا القرآن العظيم، فكرسوا اهتمامهم وبذلوا جهودهم لتلقي ما ورد من آثار لبيان معاني ومرامي هذا القرآن الكريم، فعرفوا تفسيره وأسباب نزوله، وفضائله وأمثاله، وأحكامه وأقسامه، وغريبه ومعربه، وبينوا المحكم من المتشابه، والناسخ والمنسوخ، والعموم من الخصوص، والمفصل من المجمل، والمقدم من المؤخر، والمطلق من المقيد.
_________
(1) سورة النساء165.
(2) قاله أبن أبي حاتم في تقدمة الجرح والتعديل ص 2.
(3) انظر مقدمة في أصول التفسير ص 40، 41 والإتقان 2/239.
(4) انظر مقدمة في أصول التفسير ص 10.(1/9)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وكان من أعظم ما أنعم الله عليهم اعتصامهم بالكتاب والسنة، فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن، لا برأيه ولا ذوقه، ولا معقوله، ولا قياسه، ولا وجده، فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات والآيات البينات أن الرسول جاء بالهدى ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم: فيه نبأ من قبلهم، وخبر ما بعدهم، وحكم ما بينهم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، فلا يستطيع أن يزيغه إلى هواه، ولا يحرف به لسانه، ولا يخلق عن كثرة الترداد، فإذا ردد مرة بعد مرة لم يخلق ولم يمل كغيره من الكلام، ولا تنقضي عجائبه، ولا تشبع عنه العلماء، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعي إليه هدي إلى صراط مستقيم. فكان القرآن هو الإمام الذي يقتدى به، ولهذا لا يوجد في كلام أحد من السلف أنه عارض القرآن بعقل ورأي وقياس، ولا بذوق ووجد ومكاشفة، ولا قال قط قد تعارض في العقل والنقل، فضلاً عن أن يقول: فيجب تقديم العقل. والنقل -يعني القرآن والحديث وأقوال الصحابة والتابعين- إما أن يفوض وإما أن يؤول. ولا فيهم من يقول: إن له ذوقاً أو وجداً أو مخاطبة أو مكاشفة، تخالف القرآن والحديث ... (1) .
وهذا أنموذج من النماذج الدقيقة التي تدل على رصانة المنهج المتبع عند الصحابة والتابعين في تفسير القرآن الكريم والعمل به، وقد نشروا منهجهم في أصقاع الخلافة آنذاك فحينما بدأت الفتوح على أيديهم في الجزيرة العربية وما جاورها انتشر الصحابة للدعوة إلى الله وتوحيده يفقهون الناس بما أنزل
_________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 13/28، 29.(1/10)
إليهم، فكان ابن عباس في مكة والبصرة، وابن مسعود في الكوفة، والخلفاء الأربعة وزيد بن ثابت وأبي بن كعب في المدينة، وأبو موسى الأشعري باليمن، وعمرو بن العاص بمصر، وكان من منهجهم في التعليم: الفهم والتطبيق العملي لما قرأوا وتعلموا من القرآن الكريم.
أخرج الطبري بسند صحيح عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن (1) .
وكان بعضهم إذا أشكل عليه مسألة سأل من هو أعلم منه في تلك المسألة، ويتكاتبون فيما بينهم إذا كانوا متباعدين.
فقد كتب ابن عباس - رضي الله عنه - إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يسأله عن ستة إخوة وجد فكتب إليه أن اجعله كأحدهم وامح كتابي ... أخرجه ابن أبي شيبة ومحمد بن نصر بسند صحيح عن الشعبي. قاله الحافظ ابن حجر ثم قال: وأخرج الدارمي بسند قوي عن الشعبي قال: كتب ابن عباس إلى علي -وابن عباس بالبصرة- أني أتيت بجد وستة إخوة، فكتب إليه أن أعط الجد سدساً (2) ولا تعطه أحداً بعده (3) .
وقد أثَّر هؤلاء الصحابة -رضوان الله عليهم- في تلاميذهم من التابعين رحمهم الله حيث اجتمع في كل بلد لفيف من التابعين (4) حول هؤلاء الصحابة
_________
(1) أخرجه من طريق محمد بن علي بن الحسن بن شقيق المروزي قال: سمعت أبي يقول: حدثنا الحسين بن واقد، قال: حدثنا الأعمش عن شقيق، عن ابن مسعود به (التفسير رقم 81) ، وأخرجه البيهقي (شعب الإيمان 4/510 رقم 1801) والحاكم من طريق أبي عبد الرحمن عن ابن مسعود بنحوه وصححه الحاكم ووافقه الذهبي (المستدرك 1/557) .
(2) قوله سدساً: صحفت في فتح الباري إلى سبعاً وانظر فتح الباري 12/21 وقارن مع الدارمي 2/354.
(3) فتح الباري 12/21 وسنن الدارمي كتاب الفرائض - باب قول علي في الجد 2/354.
(4) ذكر ابن حبان مشاهير التابعين في مكة والمدينة والبصرة والكوفة ومصر واليمن (انظر مشاهير علماء الأمصار ص 62، 81، 87، 99، 119، 122) .(1/11)
فكان من أصحاب ابن عباس الذين يقولون بقوله ويفتون ويذهبون مذهبه: سعيد بن جبير وجابر بن زيد وطاووس ومجاهد وعطاء بن أبي رباح وعكرمة (1) .
ومن أصحاب ابن مسعود الذين يفتون بفتواه ويقرأون بقراءته علقمة ابن قيس والأسود ابن يزيد ومسروق وعبيد السلماني والحارث بن قيس وعمرو بن شرحبيل (2) .
هذا بالنسبة لابن عباس وابن مسعود وهما مكثران، وهكذا الحال بالنسبة للآخرين من الصحابة المذكورين فلهم تلاميذ سطرت أسمائهم في تراجم الصحابة ومسانيدهم، وقد تتلمذ هؤلاء التابعون على الصحابة المفسرين قراءة وحفظاً وتفسيراً وعملاً.
وكان من منهج الصحابة الدقيق في تعليم التابعين العرض والتفسير والكتابة.
أخرج الطبري بسند صحيح عن ابن أبي مليكة قال: رأيت مجاهداً يسأل ابن عباس في تفسير القرآن ومعه ألواحه، فيقول له ابن عباس: أكتب. قال: حتى سأله عن التفسير كله (3) .
وقال محمد بن إسحاق: حدثنا أبان بن صالح، عن مجاهد قال: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها (4) . وأخرجه الطبري من طريق ابن إسحاق معنعناً به (5) ، وإسناده حسن لأنه ثبت تصريح محمد بن إسحاق بالسماع. فقد أخرجه الحاكم
_________
(1) ذكره علي بن المديني عن يحيى بن سعيد (علل الحديث ومعرفة الرجال ص 45، 48، 49) .
(2) ذكره علي بن المديني (المصدر السابق ص 44) .
(3) أخرجه عن أبي كريب قال حدثنا طلق بن غنام، عن عثمان المكي، عن ابن أبي مليكة به (التفسير رقم 107) .
(4) انظر مقدمة في أصول التفسير ص 44.
(5) التفسير رقم 108.(1/12)
من طريق محمد بن إسحاق سمع أبان بن صالح يحدث عن مجاهد قال: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات أوقفه على كل آية أسأله فيما نزلت وكيف كانت ... (1) .
وكذا كان سعيد بن جبير حريصاً على الكتابة عن ابن عباس. قال الدارمي: أخبرنا مالك بن إسماعيل، ثنا مندل بن علي العنزي، حدثني جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير قال: كنت أجلس إلى ابن عباس فأكتب في الصحيفة حتى تمتلئ ثم أقلب نعلي فأكتب في ظهورها (2) . وأخرجه بن سعد والدارمي أيضاً من طريق يعقوب القمي عن جعفر به مختصراً (3) ، وأخرجه الرامهرمزي من طريق مندل به (4) .
وأخرجه الخطيب البغدادي من طريق حبان عن جعفر بن أبي المغيرة به (5) .
وأخرج الدارمي أيضاً عن أبي النعمان، ثنا عبد الواحد، ثنا عثمان بن حكيم قال: سمعت سعيد بن جبير يقول: كنت أسير مع ابن عباس في طريق مكة ليلاً، وكان يحدثني بالحديث في واسطة الرحل حتى أصبح فأكتبه (6) ، أخرجه الخطيب البغدادي من طريق طارق عن سعيد بن جبير بنحوه (7) .
وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يعرض المصحف على بعض تلاميذه ويبين سبب نزول بعض الآيات فقد روى النسائي بسند صحيح عن كعب بن علقمة عن أبي النضر عن نافع مولى ابن عمر قال: أن ابن عمر كان عرض المصحف يوما وأنا عنده حتى بلغ (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى
_________
(1) المستدرك 2/279.
(2) السنن - باب من رخص في كتابة العلم 1/128.
(3) المصدر السابق والطبقات الكبرى 6/257.
(4) المحدث الفاصل ص371.
(5) تقييد العلم ص 102.
(6) السنن 1/128.
(7) تقييد العلم ص 102، 103.(1/13)
شِئْتُم) فقال: يا نافع هل تعلم من أمر هذه الآية؟ قلت: لا. قال: إنا كنا معشر قريش نجبي النساء، فلما دخلنا المدينة ونكحنا نساء الأنصار أردنا منهن مثل ما كنا نريد، فآذاهن فكرهن ذلك وأعظمنه، وكانت نساء الأنصار قد أخذن بحال اليهود إنما يؤتين على جنوبهن، فأنزل الله: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُم) (1) . وذكره ابن كثير ثم قال: وهذا إسناد صحيح، وقد رواه ابن مردويه عن الطبراني عن الحسين ابن إسحاق عن زكريا بن يحيى الكاتب العمري عن مفضل بن فضالة عن عبد الله بن عياش عن كعب ابن علقمة فذكره (2) .
وأما ابن مسعود - رضي الله عنه - فقد كان يقرأ على تلاميذه السورة ثم يفسرها في وقت كاف. فقد أخرج الطبري بسنده عن مسروق قال: كان عبد الله يقرأ علينا السورة ثم يحدثنا فيها ويفسرها عامة النهار (3) . ولهذا نرى التابعين الذين تحملوا هذا العلم من أفواه الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يرحلون من بلد إلى بلد في طلب تفسير آية واحدة، فهذا سعيد بن جبير يرى أهل الكوفة قد اختلفوا في قول الله تعالى (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ) (4) . فيرحل إلى ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فيسأله عنها فيجيبه بقوله: نزلت هذه الآية (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ) وهي أخر ما نزل وما نسخها شيء.
أخرجه الشيخان واللفظ للبخاري (5) .
_________
(1) البقرة 223.
(2) التفسير 1/465.
(3) أخرجه عن يحيى بن إبراهيم المسعودي عن أبيه، عن أبيه عن جده عن الأعمش عن مسلم عن مسروق به. (التفسير رقم 84) .
(4) النساء 93.
(5) صحيح البخاري - التفسير - سورة النساء، ب (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ) رقم 4590 وصحيح مسلم. التفسير رقم 3023.(1/14)
وهذا مسروق رحل إلى البصرة في طلب تفسير آية فقيل له: الذي يفسرها رجع إلى الشام فتجهز ورحل إليه حتى علم تفسيرها (1) .
وأما زر بن حبيش فيقول: وفدت في خلافة عثمان بن عفان وإنما حملني على الوفادة لقي أبي بن كعب وأصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رواه الخطيب البغدادي بسنده عن زر (2) .
وكان من منهجهم الرائع التورع في التحمل والرواية فيبحثون عن علو الإسناد وعمن هو أهل للرواية، فهذا أبو العالية يقول: كنت أرحل إلى الرجل مسيرة أيام لأسمع منه فأول ما أتفقد صلاته فإن أجده يقيمها أقمت وسمعت منه، وإن أجده يضيعها رجعت ولم أسمع منه، وقلت: هو لغير الصلاة أضيع".
رواه الخطيب البغدادي بسنده عن أبي العالية (3) . وهو القائل أيضاً: كنا نسمع الرواية بالبصرة عن أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم نرض حتى ركبنا إلى المدينة فسمعناها من أفواههم. رواه ابن سعد (4) والبغدادي (5) بسنديهما عنه واللفظ لابن سعد.
وقد ظفر أبو العالية بعَرضه القرآن على أُبي بن كعب وزيد بن ثابت وابن عباس، وصح أنه عرض على عمر رضي الله عن الجميع (6) ، كما حظي برواية نسخة أُبي بن كعب في التفسير كما سيأتي في عرض أشهر الأسانيد في التفسير.
_________
(1) ذكره أبو حيان في البحر المحيط 1/13 وروى ابن عبد البر نحوه في جامع بيان العلم وفضله - ب ذكر الرحلة في طلب العلم 1/94.
(2) الرحلة في طلب الحديث ص 92.
(3) المصدر السابق ص 93 وأخرجه أبو نعيم بنحوه (حلية الأولياء 2/220) .
(4) الطبقات الكبرى 7/113.
(5) الرحلة في طلب الحديث ص 39.
(6) ذكره ابن الجزري في غاية النهاية 1/284 وذكره أبو عمرو الداني فيما نقله عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء 4/208.(1/15)
وأما مسروق فيحذر من التساهل في التفسير فروى أبو عبيد القاسم بن سلام عن هشيم أنبأنا عمرو بن أبي زائدة عن الشعبي عن مسروق قال: اتقوا التفسير فإنما هو الرواية عن الله (1) .
وفي هذه الفترة برزت جماعة من التابعين اشتهروا بمعرفة التفسير فبرعوا ونبغوا فيه ومنهم سعيد بن جبير ت 95 هـ وعكرمة ت 107 هـ ومجاهد ت 101 أو 102 أو 103 أو 104 هـ وأبو العالية ت 90 هـ وقتادة ت 110هـ وعامر الشعبي ت 105هـ ومسروق ت 63 هـ والحسن البصري ت 110 هـ والضحاك بن مزاحم ت 105 أو 106هـ وغيرهم.
وقد استفادوا من تلك المنهجية العلمية الدقيقة التي بوأتهم مكانة مرموقة، فتصدروا مجالس العلم وبدأ بعضهم بتدوين التفسير فكانوا طليعة الفرسان في هذا الميدان، ففي عصرهم بدأ تدوين التفسير، وأول من قام بذلك سعيد ابن جبير الأسدي ت 95 هـ عندما كتب الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان يسأل سعيد ابن جبير أن يكتب إليه بتفسير القرآن وقد استجاب له فصنف التفسير وقد وجد عطاء بن دينار هذا التفسير في الديوان، فرواه عن سعيد وجادة (2) .
وفي هذا العصر انتشرت كتابة التفسير، روى الدارمي عن عمرو بن عون، أنا فضيل، عن عبيد المكتب قال: رأيتهم يكتبون التفسير عن مجاهد. (3)
وأخرجه الخطيب البغدادي من طريق وكيع بن فضيل ابن عياض به (4) .
وأخرج الخطيب البغدادي بسنده عن أبي يحيى الكناسي قال: كان مجاهد يصعد بي إلى غرفته فيخرج إليّ كتبه فأنسخ منها (5) .
_________
(1) انظر المقدمة ص 50 ومجموع الفتاوى 13/374. كلاهما لشيخ الإسلام ابن تيمية.
(2) رواه ابن أبي حاتم عن أبيه في الجرح والتعديل 6/332.
(3) السنن - باب من رخص في كتابة العلم 1/128.
(4) تقييد العلم ص 105.
(5) تقييد العلم ص 105.(1/16)
[[أشهر تفاسير أتباع التابعين وما بعدهم]]
وقد واكب هذا التدوينُ الفتحَ الإسلامي الذي امتدت أطرافه شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً مما أدى إلى اتساع انتشار هذا العلم إضافة إلى ذلك ازدياد الرحلات العلمية، وكان لتدوينه أيضاً أثر كبير في انتشاره وتداوله عند أهل العلم من صغار التابعين وأتباع التابعين مثل:
الضحاك بن مزاحم الهلالي ت 105 هـ أو 106 هـ.
ومقاتل بن سليمان البلخي ت 105هـ وقد طبع تفسيره (1) .
وطاوس بن كيسان اليماني ت 106هـ.
وقتادة بن دعامة السدوسي ت 110هـ.
ومحمد بن كعب القرظي ت 118هـ.
والسدي الكبير 127هـ.
وعبد الله بن يسار المعروف بابن أبي نجيح ت 131 هـ.
وعطاء الخراساني ت 135 هـ وقد حققتُ قطعة من تفسيره (2) .
وزيد بن أسلم العدوي ت 136هـ.
والربيع بن أنس البكري ت 140هـ.
وعلي بن أبي طلحة ت 143هـ استخرج السيوطي أغلب صحيفة علي بن أبي طلحة من تفسيري الطبري وابن أبي حاتم (3) .
وكل هذه التفاسير قد أفرد لكل تفسير مؤلف جمعت في مرويات كل مفسر، وأغلبها رسائل جامعية.
_________
(1) حققه د. عبد الله محمود شحاتة وطبعته الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة.
(2) نشرته مكتبة الدار بالمدينة المنورة.
(3) انظر الإتقان 2/ 6- 46.(1/17)
والأعمش سليمان بن مهران ت 147هـ أو 148هـ (1) .
وغيرهم من المفسرين المتقدمين فقام هؤلاء بجمع نسخ وروايات وصحف كبار التابعين وتدوينها فسطع قبس التفسير في أرجاء العالم الإسلامي آنذاك ثم أزداد تألقاً في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري حيث استنار العلماء الذين تلقوا هذا العلم من شيوخهم واعتنوا به فحفظوه أو كتبوه ثم رووه لتلاميذهم فتوسعت حركة تدوين التفسير وظهرت تفاسير مشابهة للتفاسير المتقدمة وقد تكون أوسع منها مثل: تفسير سفيان الثوري ت 161هـ (2) .
وتفسير معاوية بن صالح ت 158 هـ أو ت 172هـ وهو الراوي لصحيفة علي بن أبي طلحة.
وتفسير شيبان بن عبد الرحمن النحوي ت 164 هـ وهو راوي التفسير عن قتادة.
وتفسير نافع بن أبي نعيم القارئ ت 167هـ أو 169هـ وقد حققتُ قطعة من تفسيره (3) .
وتفسير أسباط بن نصر الهمداني ت 170 هـ وهو الراوي لتفسير السدي.
وتفسير مالك بن أنس إمام دار الهجرة ت 179 هـ.
وتفسير مسلم بن خالد الزنجي ت 179 هـ وقد حققتُ قطعة من تفسيره (4) .
وتفسير عبد الله بن المبارك المروزي ت 181هـ.
_________
(1) كل هؤلاء المفسرين لهم تفاسير ذكرت في كتب طبقات المفسرين للسيوطي والداوودي وعمر نزيه التركي -باللغة التركية- ومعجم المفسرين لعادل نوهيض، وكتب فهارس التراث مثل كشف الظنون وفهرست ابن النديم وتاريخ التراث لسزكين وكتب الإجازات مثل المعجم المفهرس لابن حجر (مخطوط طبع مؤخرا) وللمزيد عن هذه التفاسير وطريقتي في استخراجها من مظانها. انظر مقدمتي لتفسير ابن أبي حاتم -المجلد الثاني- والقواعد المنهجية في التنقيب عن المفقود من الأجزاء والكتب التراثية.
(2) مطبوع في جزء واحد.
(3) نشرت مكتبة الدار بالمدينة المنورة هذه القطع ضمن جزء في التفسير.
(4) نشرت مكتبة الدار بالمدينة المنورة هذه القطع ضمن جزء في التفسير.(1/18)
وتفسير عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ت 182 هـ.
وتفسير هشيم بن بشير السلمي ت 183 هـ.
وتفسير يحيى بن يمان العجلي ت 189 هـ، وقد حققتُ قطعة من تفسيره (1) .
وتفسير إسماعيل بن علية ت 193 هـ.
وتفسير يحيى بن سلام البصري ت 200 هـ (2) .
وفي هذا العصر ازدادت كتب التفسير وبقيت على هيئة أجزاء ونسخ كتفسير الإمام مالك بن أنس فقد وصفه ابن كثير (3) والذهبي (4) وابن حجر (5) والروداني (6) بأنه جزء وكذلك التفاسير التي تقدمت في القائمة السابقة حيث ذكرت الموجودة منها وكلها على هيئة أجزاء ونسخ.
[[أشهر تفاسير القرن الثالث والرابع]]
وفي القرن الثالث والرابع الهجري دخل التفسير في مرحلة جديدة وهي مرحلة الموسوعات الجامعة في التفسير، فظهرت تفاسير ضخمة مروية ومستوعبة لكثير من الأجزاء والنسخ المبثوثة في رحاب العالم الإسلامي آنذاك ذلك العالم الذي استطاعت حضارته أن تجمع وتؤلف بين العرب والعجم والبربر تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولهذا جاءت بعض تفاسير العلماء حافلة بتفاسير السابقين وشاملة للقرآن كله وذلك بسبب انتشار العجمى ومن هذه التفاسير:
_________
(1) نشرته مكتبة الدار بالمدينة المنورة.
(2) توجد منه أجزاء مخطوطة في المغرب وقد حققتْ في تونس، وهذه التفاسير المتقدمة ذكرت في المصادر السابقة في حاشية القائمة السابقة ويضاف إليها الرسالة المستطرفة ومفتاح السعادة ومصباح السعادة.
(3) انظر التفسير 2/192.
(4) انظر سير أعلام النبلاء 8/80.
(5) المعجم المفهرس ل 44 ب.
(6) صلة الخلف بموصول السلف ص 43، 44.(1/19)
تفسير عبد بن حميد الكشي ت 240 هـ (1) .
تفسير ابن جرير الطبري ت 310 هـ.
تفسير ابن المنذر النيسابوري ت 318 هـ (2) [[وقد اتحفني الشيخ عاصم قارئ بوريقات منه]] (*) .
تفسير ابن أبي حاتم الرازي ت 327 هـ (3) .
وقد ذكر الحافظ ابن حجر هذه التفاسير عند كلامه عن الذين اعتنوا بجمع التفسير المسند من طبقة الأئمة الستة فساق أسماءهم -وذكر أولهم بأنه من طبقة شيوخهم- ثم قال: فهذه التفاسير الأربعة قل أن يشذ عنها شيء من التفسير المرفوع والموقوف على الصحابة والمقطوع عن التابعين، وقد أضاف الطبري إلى النقل المستوعب أشياء لم يشاركوه فيها ... (4) .
وكذلك ابن أبي حاتم فقد حاول أن يفسر كل آية بل كل كلمة وحرف وقد يسوق أكثر من عشرة أوجه في الكلمة الواحدة (5) .
ومن هذه التفاسير الموسوعية أيضاً:
1 - تفسير الإمام أحمد بن حنبل الشيباني ت 241هـ.
وتفسيره ضخم حافل بمائة وعشرين ألف رواية، صرح بهذا الرقم أبو الحسين بن المنادي في تأريخه فيما رواه عنه القاضي أبو الحسين أبو يعلى حيث ذكر عبد الله وصالح ابني الإمام أحمد فقال: كان صالح قليل الكتاب عن أبيه، فأما عبد الله فلم يكن في الدنيا أحد أروى عن أبيه أكثر منه لأنه سمع المسند
_________
(1) توجد منه قطعة في حواشي تفسير ابن أبي حاتم في المجلد الثاني.
(2) توجد منه قطعة في ألمانيا الشرقية - مكتبة جوتا.
(3) يوجد نصفه تقريباً وقد حقق في جامعة أم القرى.
(4) العجاب في بيان الأسباب د-3.
(5) انظر تفسير سورة آل عمران رقم 181-198 عند قوله تعالى (وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَة) .
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هذه الزيادة نقلا عن الجزء الذي نشره المؤلف - حفظه الله - في مجلة الجامعة الإسلامية. أقول: وقد طُبعت القطعة (التي أشار إليها المؤلف) بتحقيق الدكتور سعد بن محمد السعد، وهي ضمن كتب هذا البرنامج (المكتبة الشاملة)(1/20)
وهو ثلاثون ألفاً، والتفسير وهو مئة ألف وعشرون ألفاً سمع منها ثمانين ألفاً والباقي وجادة ... (1) ونقله أيضاً الخطيب البغدادي (2) والذهبي (3) ، وأبو موسى المديني في خصائص المسند (4) ، وصرح بهذا الرقم ابن الجوزي (5) .
وقد ذكر هذا التفسير ابن النديم (6) ، وشيخ الإسلام ابن تيمية (7) ، والداوودي (8) ، ومحمد السعدي الحنبلي ت900 هـ (9) ، وحصل الروداني المغربي على إجازة روايته فذكره في ثبته ثم ساق إسناده إلى الإمام أحمد بن جعفر القطيعي عن عبد الله بن الإمام أحمد عن أبيه (10) .
ولكن الإمام الذهبي أنكر وجود هذا التفسير، فبعد أن ذكر قول ابن المنادي قال: لكن ما رأينا أحدا أخبرنا عن وجود هذا التفسير ولا بعضه ولا كراسة منه ولو كان له وجود أو لشيء منه لنسخوه ... (11) .
ويبدو أن الإمام الذهبي لم يحظ بجزء أو كراسة من تفسير الإمام أحمد علما بأن جزءا من تفسير أحمد كان موجودا في زمنه حيث نقله بنصه وفصه الإمام ابن قيم الجوزية -وهو معاصر للذهبي وتوفي ابن القيم سنة751 هـ أي بعد وفاة الذهبي بثلاث سنوات- فقال ابن القيم في بدائع الفوائد: ومن خط
_________
(1) طبقات الحنابلة 1/183.
(2) تاريخ بغداد 9/375.
(3) سير أعلام النبلاء 13/328، 329.
(4) ص 23 من مقدمة أحمد شاكر لمسند أحمد
(5) مناقب الإمام أحمد ص 248.
(6) الفهرست ص 285.
(7) الفتاوي 6/389، 13/355 ودرء تعارض العقل والنقل 4/228.
(8) طبقات المفسرين 2/22.
(9) الجوهر المحصل في مناقب الإمام أحمد في بداية عرضه لمؤلفات الإمام أحمد.
(10) صلة الخلف ص 39
(11) سير أعلام النبلاء 13/522 وانظر 11/328، 329.(1/21)
القاضي من جزء فيه تفسير آيات من القرآن عن الإمام أحمد. ثم ساقه بأكمله في تسع صفحات (1) إضافة إلى ذلك أن الحافظ ابن حجر أفاد من تفسير أحمد وصرح بنقله منه (2) .
والحق أن تفسير الإمام أحمد لم يشتهر كشهرة مسنده الذي ذاع صيته في الآفاق وكثر قصاده إلى العراق.
2- التفسير الكبير لأمير المؤمنين محمد بن إسماعيل البخاري صاحب الصحيح ت 256 هـ.
ذكر بروكلمان نسخة منه في باريس -المكتبة الوطنية- وقطعة منه في الجزائر في المكتبة الوطنية أيضاً (3) . ولعلها من صحيح البخاري.
وقد سألت عن هاتين النسختين فلم أجد أحدا رآهما!! ويبدو من عنوانه أنه تفسير كبير.
3- تفسير أبي مسعود أحمد بن الفرات الرازى ت 258 هـ.
قال إبراهيم بن محمد الطيان: سمعت أبا مسعود يقول: كتبت عن ألف وسبعمائة وخمسين رجلا أدخلت في تصنيفي ثلاث مئة وعشرة وعطلت سائر ذلك وكتبت ألف ألف حديث وخمس مئة ألف حديث فأخذت من ذلك ثلاث مئة ألف في التفسير والأحكام والفوائد وغيره (4) .
4- تفسير القرآن الكريم لابن ماجة القزويني ت 273 هـ.
وصفه ابن كثير بالحافل فقال: ولابن ماجة تفسير حافل (5) .
_________
(1) 3/108-116
(2) انظر مثلا تغليق التعليق 4/228 ومن أراد الاستزادة في إثبات وجود تفسير أحمد فليراجع مقدمتي لمرويات أحمد في التفسير ص 4-11.
(3) تاريخ الأدب العربي 3/179.
(4) انظر تهذيب الكمال 1/425.
(5) البداية والنهاية 11/52.(1/22)
والحافل الكثير الممتلئ (1) ، وذكره ابن خلكان والمزي والذهبي والداوودي (2) ، وللمزيد عن هذا الكتاب راجع مقالي بعنوان: استدراكات على تاريخ التراث العربي (3) ، والكتاب مفقود وقد جمعت روايات تفسيرية كثيرة من سننه، ومن الدر المنثور، ومن تهذيب الكمال في مواضع تراجم الرجال الذين رمز لهم المزي (فق) أي رجال ابن ماجة في التفسير.
5- التفسير الكبير لإسحاق بن إبراهيم بن مخلد المروزي المشهور بابن راهويه ت 238هـ.
ويبدو أنه كبير من عنوانه. ذكره ابن النديم والخطيب البغدادي والسمعاني والداوودي (4) .
6- التفسير لإبراهيم بن إسحاق الحربي ت 285 هـ قال الذهبي في ترجمته: مصنف التفسير الكبير (5) . وهو كسابقه وذكره ابن حجر والداوودي (6) .
7- التفسير لابن أبي داود عبد الله بن سليمان بن الأشعث السجستاني ت 316 هـ. روى المفسر أبو بكر النقاش أنه سمع أبا بكر بن أبي داود يقول: إن في تفسيره مائة ألف وعشرين ألف حديث (7) .
وذكر هذا التفسير الخطيب البغدادي والعليمي والداوودي (8) .
_________
(1) الصحاح 4/1670 والنهاية 1/409.
(2) انظر وفيات الأعيان 4/279 وتهذيب الكمال 4/90، 7/413 وسير أعلام النبلاء 13/277 وطبقات المفسرين 2/274.
(3) نشر في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عدد 67، 68.
(4) انظر الفهرست ص 268، وتاريخ بغداد 8/369، والتحبير في المعجم الكبير 2/190، وطبقات المفسرين 1/103.
(5) تذكرة الحفاظ 2/701.
(6) تهذيب التهذيب 10/281 وطبقات المفسرين 1/7.
(7) انظر سير أعلام النبلاء 13/281 ولسان الميزان 3/295.
(8) انظر تاريخ بغداد 9/464 والمنهج الأحمد 2/15 وطبقات المفسرين 1/336، 337.(1/23)
8- التفسير لسليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني ت 360 هـ.
قال الداوودي في طبقات المفسرين: وله تفسير كبير. ا. هـ.
وقد جمعت روايات تفسيرية من معاجمه الثلاثة وكتاب الدعاء، ومكارم الأخلاق، وجزء من سمع من عطاء. كلها للطبراني المذكور.
9- تفسير القاضي أبي محمد إسحاق بن إبراهيم بن إسحاق البستي ت 307 هـ.
توجد منه نسخة في مكتبة البلدية بالإسكندرية بمصر وقد وصل إلى النصف الثاني ويبدأ من سورة الكهف إلى نهاية التفسير، وصورته من مكتبة فضيلة الشيخ حماد الأنصاري رحمه الله.
وقد قرأت هذا التفسير الجليل ولاحظت عدم التصريح باسم المؤلف في الغلاف ولكن صرح باسمه في الورقة 126 ب، ومما يؤكد أن هذا التفسير لهذا المؤلف ما نقله العيني من هذا التفسير بأسانيد مماثلة له كما صرح باسم المؤلف أيضاً (1) .
ووجدت لهذا التفسير مزايا كبرى:
أولها: أن [[أغلب]] (*) أسانيده على شرط الصحيحين.
ثانيها: أن مؤلفه طويل النفس في إيراد الأحاديث والآثار وعمله كصنيع ابن أبي حاتم في التفسير بالمأثور المجرد من أي قول آخر.
ومن أجل ذلك اقترحت تحقيقه على فضيلة د. عوض العمري وفضيلة د. عثمان المعلم وقد حققاه ونالا به درجة الدكتوراه.
10- تفسير عمر بن أحمد بن عثمان المشهور بابن شاهين ت 385 هـ.
قال الخطيب البغدادي في ترجمته: له التفسير الكبير. ا. هـ.
_________
(1) عمدة القاري 19/14، 22، 8/283، 18/153، 218
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هذه الزيادة نقلا عن الجزء الذي نشره المؤلف - حفظه الله - في مجلة الجامعة الإسلامية(1/24)
وتفسيره كبير كما وصف حيث احتوى على تفاسير منها تفسير أبي الجارود (1) .
وقال الكتاني: وهو في ألف جزء ووجد بواسط في نحو من ثلاثين مجلدا (2) .
فهذه نماذج من كتب التفسير في ذلك العصر الذي برز فيه صرح التفسير بالمأثور شامخا مسندا كاملا للقرآن الكريم، فقد تكاملت أسسه التي أرسيت بثمار تلك الجهود المباركة السابقة، فاجتمعت مع جهود المتقدمين عنايةُ اللاحقين حيث جمعوا وأضافوا ونقدوا، وكان جميعهم عاكفين على هذا العلم، وعضوا عليه بالنواجذ لأنه جمع بين القرآن والسنة، وقد زاد اهتمامهم عندما تلوث هذا العلم بالدخيل بسبب تساهل بعض العلماء في إيرادهم الإسرائيليات بأنواعها، وبسبب صنيع الزنادقة والقصاص والكذابين وأهل الأهواء فوقع التحريف والتأويل والوضع.
فما ورد عن المفسرين الكذابين طرح وفضح كتفسير محمد بن السائب (3) الكلبي وتفسير محمد بن مروان السدي الصغير (4) ، وكذلك ما ورد عن أهل الأهواء كصالح بن محمد الترمذي فقد كان مرجئا جهميا داعية يقول بخلق القرآن (5) ، وكمقاتل بن سليمان البلخي وقد نسبوه إلى الكذب، وقال الشافعي مقاتل قاتله الله تعالى. قال الحافظ ابن حجر: وإنما قال الشافعي فيه ذلك لأنه
_________
(1) انظر تاريخ بغداد 11/267.
(2) الرسالة المستطرفة ص 76، 77.
(3) انظر العجاب د-10 وانظر ترجمته في الضعفاء الكبير 4/76 والمجروحين 2/252، والكامل في الضعفاء ص 2127.
(4) انظر العجاب د-10 وانظر ترجمته في الضعفاء الكبير 4/126 والمجروحين 2/286، والكامل 1266.
(5) انظر العجاب د-10 وانظر ترجمته في المجروحين 1/270 وميزان الاعتدال 2/200.(1/25)
اشتهر عنه القول بالتجسيم (1) . قال إبراهيم الحربي مصنف التفسير الكبير (2) : وإنما جمع مقاتل تفسير الناس وفسر عليه من غير سماع. قال إبراهيم: لم أدخل في تفسيري منه شيئا (3) .
وكذا الحال بالنسبة للزنادقة فقد وضعوا روايات وأحاديث كثيرة ومن المعروف أن كثيرا من هذه الروايات والأحاديث لها علاقة وطيدة بالتفسير.
أخرج ابن عساكر عن ابن علية قال: أخذ هارون الرشيد زنديقا فأمر بضرب عنقه فقال له الزنديق: لم تضرب عنقي؟ قال له: أريح العباد منك قال: فأين أنت من ألف حديث وضعتها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلها ما فيها حرف نطق به؟ قال: فأين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري وعبد الله بن المبارك ينخلانها فيخرجانها حرفا حرفا (4) ؟.
ولهذا انبرى جهابذة السلف إلى نقد الروايات والتفتيش عن الأسانيد، وقد بدأ هذا التحري بعد اندلاع الفتنة في خلافة عثمان - رضي الله عنه - أو في زمن ابن الزبير وقد رجح الرأي الأخير مؤرخ السيرة أ. د. أكرم ضياء العمري (5) .
أخرج مسلم في صحيحه بسنده عن محمد بن سيرين: قال: لم يكونوا يسألون عن الإسناد. فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم. فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم (6) . فكان أهل السنة بالمرصاد لكل من تسول له نفسه أن يأتي بدخيل ولهذا وضعوا ضوابط محكمة وقواعد دقيقة للرواية.
_________
(1) العجاب د-16 وأنظر ترجمته في الضعفاء الكبير 4/228 والمجروحين 2/14والكامل 2427.
(2) انظر تذكرة الحفاظ 2/701.
(3) انظر تهذيب التهذيب 10/281.
(4) انظر تاريخ الخلفاء ص 293.
(5) انظر بحوث في تاريخ السنة المشرفة ص 48-50.
(6) المقدمة - باب بيان أن الإسناد من الدين 1/15.(1/26)
قال محمد بن حاتم بن المظفر: ... وهذه الأمة إنما تنص الحديث عن الثقة المعروف في زمانه المشهور بالصدق والأمانة عن مثله حتى تناهى أخبارهم ثم يبحثون أشد البحث حتى يعرفوا الأحفظ فالأحفظ والأضبط فالأضبط والأطول مجالسة لمن فوقه ممن كان أقل مجالسة ثم يكتبون الحديث من عشرين وجها أو أكثر حتى يهذبوه من الغلط والزلل ويضبطون حروفه ويعدوه عدا ... (1) .
هكذا كان منهجهم في الرواية والتصنيف واستمر الحال على ذلك إلى القرن الثالث والرابع الهجري وكان أكثر المفسرين المصنفين يروون بالإسناد، فبرأوا ذمتهم لأنهم سموا شيوخهم ورواتهم وكانوا يميزون بين الصحيح والسقيم، وبعضهم يرى وجوب هذا التمييز بل وجوب نقد الرواة لمعرفة الثقة من الضعيف مثل ابن أبي حاتم وهو الذي صنف موسوعته في الجرح والتعديل من أجل بيان الثابت من التفسير ومن سنن البشير النذير صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي تبين القرآن الكريم، فها هو يقول في تقدمة الجرح والتعديل: فلما لم نجد سبيلا إلى معرفة شيء من معاني كتاب الله ولا من سنن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا من جهة النقل والرواية وجب أن نميز بين عدول الناقلة والرواة وثقاتهم وأهل الحفظ والثبت والإتقان منهم وبين أهل الغفلة والوهم وسوء الحفظ والكذب واختراع الأحاديث الكاذبة (2) .
إن هذا المنهج الدقيق وتلك الحلقات التفسيرية كانت متصلة من القرن الأول الهجري إلى القرن الرابع الهجري، وبدخول القرن الخامس الهجري بدأ تدريجيا إهمال الأسانيد بحذفها أو باختصارها مما ساعد على شيوع الإسرائيليات ورواج الأحاديث الواهية والموضوعة ونسب الأقوال الباطلة إلى الصحابة والتابعين، وهم برآء منها، وكانت فرصة سانحة للكذابين والوضاعين والزنادقة وأهل الأهواء، فاختلط الصحيح بالسقيم والحق بالباطل وانتشر ذلك في كتب
_________
(1) رواه السخاوي من طريق أبي العباس الدغولي عنه (فتح المغيث 3/3) .
(2) تقدمة الجرح والتعديل ص 5.(1/27)
التفسير بالمأثور، ولم يسلم منها إلا القليل كتفسير البغوي (1) وابن كثير وعبد الرزاق بن رزق الرسعني ت 661هـ (2) الذي روى أغلب تفسيره بإسناده واستمر الحال على ذلك إلى يومنا هذا.
[[من أسباب تأليف هذا التفسير]]
وقد تعالت صيحات وتوصيات لكثير من الغيورين في الأوساط العلمية لتنقية التفسير من الدخيل ولتمييز الصحيح من السقيم، وقد بذلت جهود لا بأس بها لغربلة بعض كتب التفسير من الدخيل وخصوصا في جامعة الأزهر، ولكن لم يقم أحد بنقد التفاسير بتمييز الصحيح من السقيم أو بجمع ما أثر من الصحيح المسند في التفسير، وكنت أفكر بهذا العمل منذ سنة 1404 هـ ولكني كنت أتردد بسبب ضخامة الموضوع وتعدد شعابه، وغزارة مصادره المطبوعة والمخطوطة القريبة والبعيدة، وعندما أسند إليَّ تدريس مادة التفسير ومناهج المفسرين في كلية القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية ومادة طبقات المفسرين ومادة مناهج المفسرين والتفسير الموضوعي في شعبة التفسير بقسم الدراسات العليا والإشراف على رسائل الدكتوراه والماجستير ومناقشتها، رأيت الحاجة ماسّة لتصنيف تفسير بالمأثور ينتقى من الصحيح المسند من كتب التفسير المسندة ومن كتب الفنون الأخرى التي حوت التفسير بالمأثور المسند والتي سيأتي ذكرها في الهوامش وفي قائمة المصادر إن شاء الله، وكان لابد لي من القيام بشيء من هذا في تحضيري للطلاب وخصوصا لطلاب كلية القرآن الكريم باعتبارها كلية تخصص في التفسير إضافة إلى القراءات. فكان من ضمن التحضير نقد الكثير من الروايات التفسيرية معتمدا على أقوال كبار النقاد المشهورين كشيخ الإسلام ابن تيمية وأمير التفسير ابن كثير والحافظ ابن حجر العسقلاني والحافظ الذهبي ومستأنسا بأقوال النقاد المعاصرين، وكان هذا النقد في تفسير السور التالية: سورة الفاتحة والبقرة وآل عمران والمائدة والأنعام والأنفال والحج والإسراء والنور، وتشكل هذه السور ثلث القرآن تقريباً.
_________
(1) ساق أغلب أسانيده في مقدمة كتابه.
(2) انظر الذيل على طبقات الحنابلة 2/274-276 والأعلام 3/292.(1/28)
وقد سبق هذا التحضير عملي في تحقيق المجلد الثاني من تفسير ابن أبي حاتم الرازي (ت 327 هـ) وفيه سورتا آل عمران والنساء وقد بلغ عدد الروايات (4602) رواية فيها المرفوع والموقوف والمرسل، وعند هذا التحقيق لمست أن معظم كتب التفسير بالمأثور للمصنفين المتقدمين مفقودة، ولهذا قررت أن أجمع الروايات التفسيرية لهؤلاء المفسرين، وقد قمت بذلك بعد الانتهاء من التحقيق فجمعت مرويات أشهر المفسرين من أصحاب التفاسير المفقودة كالإمام مالك والشافعي وأحمد ومحمد بن إسحاق وعبد الله بن المبارك ووكيع والدارمي وابن خزيمة وابن ماجة والطبراني ومحمد بن يوسف الفريابي وعبد بن حميد كما جمعت روايات من تفسير ابن أبي حاتم من القسم المفقود من تفسيره، كما قمت بتحقيق تفسير يحيى ابن يمان ونافع بن أبي نعيم ومسلم ابن خالد الزنجي وعطاء الخراساني، برواية أبي جعفر محمد بن أحمد بن نصر الرملي ت 295 هـ (1) .
وقد واكب هذا العمل اكتشاف تفسير آدم بن أبي إياس العسقلاني ت 220 هـ (2) . والاشراف والمناقشة على رسائل الدكتوراه والماجستير في علم التفسير وعلوم القرآن التي ناف عددها على الأربعين رسالة. وظهور بعض التحقيقات في التفسير وعلوم القرآن كتفسير عبد الرزاق الصنعاني وتفسير سعيد بن منصور والنسائي وابن أبي حاتم الرازي ت 327 هـ (3) ، وأبي بكر محمد بن علي بن أحمد الأدفوي ت 388 هـ ويسمى تفسيره (الاستغناء في علوم القرآن) وقد حقق منه سورة الفاتحة، وتفسير (الوسيط بين المقبوض والبسيط) للواحدي ت 468 هـ، كما ظهرت كتب أخرى كموسوعة في فضائل القرآن تصنيف الشيخ محمد رزق الطرهوني، وتحقيق فضائل القرآن للنسائي والفريابي وابن الضريس، والعجاب في بيان الأسباب للحافظ ابن حجر، والصحيح المسند في أسباب النزول لمقبل الوادعي، وتحقيق الناسخ والمنسوخ للنحاس، وتحقيق نواسخ القرآن، وتحقيق تخريج أحاديث الكشاف للزيلعي.
_________
(1) طبعته ونشرته مكتبة الدار بالمدينة المنورة.
(2) وهو المنسوب إلى مجاهد انظر استدراكات على كتاب التراث العربي في كتب التفسير والقراءات بقلمي نُشرت في مجلة الجامعة الإسلامية عدد 85-100 ص 182-186.
(3) يوجد نصفه تقريبا وقد حقق بجامعة أم القرى لنيل ثلاث عشرة رسالة دكتوراه وماجستير.(1/29)
كما وقفت على قطع نادرة من تفسير عبد بن حميد ت 249 هـ وتفسير ابن المنذر النيسابوري ت 318 هـ (1) وتفسير القاضي أبي محمد إسحاق بن إبراهيم البستي ت 307 هـ (2) وتفسير يحيى ابن سلام (3) ، وقد بلغني أنه حقق في بلاد المغرب، وتفسير عبد الرازق الرسعني ت 660 هـ وهو تفسير أغلبه مسند (4) . وأحكام القرآن لإسماعيل بن إسحاق الجهضمي ت 282 هـ. ومن فضل الله تعالى أن أتاح لي بلوغ الإطلاع والاقتناء لهذه الكتب قبل أن تطبع، وقد طبع أغلبها.
إن اجتماع هذه العوامل المتقدمة من تحضير وتحقيق وجمع وإطلاع واقتناء شجعني على أن أخوض غمار موضوع الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور فانتقلت من مرحلة التردد إلى مرحلة التنفيذ، فاقتنيت ما يلزم من مصادر مطبوعة، وحصلت وصورت ما يلزم من المخطوطات والرسائل العلمية المكتوبة بالآلة الكاتبة ومنها ما تقدم ذكره آنفا، ولم أظفر ببعض كتب التفسير الهامة فكلفت بعض الزملاء لتصويرها، كتفسير ابن المنذر ت 318 هـ (*) ، وأحكام القرآن للطحاوي ت 123 هـ (*) ، وتوجد قطعة من الأول في مكتبة جوتا بألمانيا الشرقية وقطعة من الثاني في القيروان في تونس وأما كتاب الطحاوي فبلغني أنه يقوم بتحقيقه باحثان تركيان في مكة المكرمة، ولازلت أنتظر تصوير هذه الكتب.
_________
(1) يوجد قطعة منهما في حواشي تفسير ابن أبي حاتم المجلد الثاني.
(2) يوجد نصفه وقد صورته عن صورة من مكتبة الشيخ حماد الأنصاري رحمه الله عن نسخة الإسكندرية بمصر.
(3) توجد قطعة منه في مكتبة الشيخ حماد الأنصاري رحمه الله.
(4) يحقق بجامعة أم القرى وقد أتحفني الأخ د. عبد العزيز العثيم بقطعة منه.
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: كلاهما (القطعة الموجودة من تفسير ابن المنذر، وأحكام القرآن للطحاوي) ، قد طُبع، وتجده ضمن كتب هذا البرنامج (المكتبة الشاملة)(1/30)
المنهج في الجمع والتخريج والاختصار:
وقد قمت بجولة علمية باحثا عن الكتب المتعلقة بهذا المشروع، فاستكملت مكتبتي حسب الحاجة، وجمعت ما تفرق من الشوارد والفرائد من تحضيراتي وتقييداتي الصالحة لهذا الباب، حيث انتخبت منها الصفو واللباب، ورتبتها حسب سور القرآن الكريم وآياته، ثم بدأت بالتفسير مصدرا السورة بفضائلها إن صحت الرواية، ثم بتفسير القرآن بالقرآن إن وجد وهو قمة البيان وغالبا ما أعتمد على كتاب أضواء البيان ثم تفسير ابن كثير وتفسير القاسمي.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فإن قال قائل: فما أحسن طريق التفسير؟ فالجواب: إن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أُجمل في مكان فإنه قد فسر في موضع آخر وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له (1) .
وقد سلكت هذا الطريق متحرياً ما ثبت عن رسوله الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القائل: "ألا إني أوتيت هذا الكتاب ومثله معه" (2) ، وقدمت ما اتفق عليه الشيخان في صحيحيهما، ثم ما انفرد به أحدهما ولا داعي لتخريج الحديث من مصادر أخرى لأن هدفي من التخريج التوصل إلى صحة الحديث وكفى بإطباق الأمة على صحتهما.
قال الزركشي: لطالب التفسير مآخذ كثيرة أمهاتها أربعة: الأول: النقل عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا هو الطراز الأول ولكن يجب الحذر من الضعيف والموضوع فإنه كثير وإن سواد الأوراق سواد في القلب ... (3) .
_________
(1) مقدمة في أصول التفسير ص 39.
(2) أخرجه أبو داود في السنن - كتاب السنة - باب في لزوم السنة رقم 4604 وما ذكرته قطعة من الحديث وصححه الشيخ الألباني في مشكاة المصابيح 1/58 وصحيح الجامع الصغير 2/375.
(3) البرهان في علوم القرآن2/156.(1/31)
وقد استفدت من تحذير الزركشي، فتركت كل ضعيف وموضوع، فإذا لم أجد الحديث في الصحيحين أو في أحدهما ألجأ إلى كتب التفسير وعلوم القرآن المسندة كفضائل القرآن وأسباب النزول والناسخ والمنسوخ، وإلى كتب الصحاح والسنن والمسانيد والمصنفات والجوامع وغيرها من كتب السيرة والتاريخ والعقيدة المسندة مبتدئا بالأعلى سندا أو بما حكم عليه الأئمة النقاد المعتمدين، وأقوم بتخريجه تخريجا يوصلني إلى صحة الإسناد أو حسنه مستأنسا بحكم النقاد الجهابذة، فإذا لم أجد حديثا مرفوعا فأرجع إلى أقوال الصحابة الذين شهدوا التنزيل. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وحينئذ إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة؛ فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرآن (1) والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح، لاسيما علماؤهم وكبراؤهم (2) .
أما إذ وجدت الحديث المرفوع الثابت فقد أسوق معه بعض أقوال الصحابة الثابتة إذا كان فيها زيادة فائدة وإذا لم يكن فيها فأكتفي بما ثبت من الحديث الشريف، وقد أوردت أقوال الصحابة رضوان الله عليهم بأصح الأسانيد عنهم. علما بأن بعض الأحاديث لا يندرج تحت التفسير مباشرة وإنما لها علاقة وتناسب مع الآية المراد تفسيرها، وفي بعض الأحيان يفيد إيراد ذكر اسم الباب والكتاب عند ذكر المصدر لتوضيح مناسبة إيراد الحديث.
وهذا المنهج المتقدم في إيراد وانتقاء الأحاديث والآثار المروية عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن أصحابه رضوان الله عليهم هو منهج ابن أبي حاتم القائل:
فإن قيل كيف السبيل إلى معرفة ما ذكرت من معاني كتاب الله عز وجل ومعالم دينه؟ قيل: بالآثار الصحيحة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن أصحابه النجباء الألباء الذين شهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل، رضي الله تعالى عنهم،
_________
(1) قوله (من القرآن) كذا في الأصل ولعلها القرائن.
(2) مقدمة في أصول التفسير ص 40.(1/32)
فإن قيل فبماذا تعرف الآثار الصحيحة والسقيمة؟ قيل: بنقد العلماء الجهابذة الذين خصهم الله عز وجل بهذه الفضيلة، ورزقهم هذه المعرفة، في كل دهر وزمان (1) . وكذا منهج سفيان الثوري وعطاء الخراساني وعبد الرزاق ويحيى بن يمان وسعيد بن منصور وابن المنذر فإنهم يقتصرون على الرواية فقط.
فجدير لمن تاقت نفسه ليشتغل بعلم التفسير أن يسلك هذا المنهج فهو المعول عليه في هذا العلم، وقد مكنني من اتباع هذا المنهج العكوف على الأسانيد الواردة في التفسير وانتقاء الصحيح والثابت منها مع تركيز البحث على حكم الأئمة النقاد على هذه الأسانيد (2) .
فإذا لم أعثر على قول صحابي فحينئذ ألجأ إلى ما ثبت من أقوال التابعين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين كمجاهد بن جبر فإنه كان آية في التفسير ... وكسعيد بن جبير وعكرمة مولى ابن عباس وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري ومسروق الأجدع وسعيد بن المسيب وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة والضحاك بن مزاحم وغيرهم من التابعين (3) .
وبالنسبة لأقوال الصحابة والتابعين فأغلبها كتب ونسخ رويت بأسانيد متكررة، فبعضها يتكرر آلاف المرات في تفسيري الطبري وابن أبي حاتم، وبعضها يتكرر مئات المرات فمثلا تكرر إسناد علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أكثر من (1500) مرة في تفسير الطبري وذلك حسب إحصائية الشيخ أحمد عايش الذي قام بجمع روايات علي بن أبي طلحة.
_________
(1) تقدمة الجرح والتعديل ص 2.
(2) انظر مثلا: المنتخب من أسانيد التفسير الثابتة عن ابن عباس بقلمي وانظر الأسانيد الواردة في آخر هذه المقدمة.
(3) المصدر السابق ص 44، 45.(1/33)
وقال الأستاذ سزكين عند تفسير قتادة: ويبدو أنه كان تفسيرا كبير الحجم ذكره الطبري أكثر من (3000) مرة، ربما يكون قد نقل كل مادته بالرواية التالية: حدثنا بشر بن معاذ، حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة.
وقال أيضاً عند تفسير مجاهد: وقد نقل الطبري من هذا التفسير حوالي (700) مرة وذكره بالرواية التالية: حدثنا محمد بن عمرو الباهلي ت 249 هـ قال: حدثنا أبو عاصم النبيل (ت 212 هـ) قال حدثني عيسى بن ميمون المكي قال: حدثنا ابن أبي نجيح عن مجاهد. وذكر أن الطبري نقل من تفسير عطية العوفي عن ابن عباس في (1560) موضعا وبإسناد واحد أيضاً (1) .
وكذا الحال في تفسير ابن أبي حاتم، وتفسير عبد الرزاق الصنعاني الذي روى أغلب تفسيره عن معمر عن قتادة.
[[دراسة أشهر الطرق والأسانيد المتكررة]]
ولهذا قررت أن أجعل دراسة الأسانيد والطرق المتكررة في المقدمة وذلك لعدم التكرار ثم لبيان موضع الحكم على صحتها وحسنها، وما لم أذكره في هذه المقدمة فهو من قبيل غير المتكرر فأحكم عليه في موضع وروده.
وذكرُ الأسانيد في المقدمة من صنيع ابن أبي حاتم الرازي والبغوي في تفسيريهما والحافظ ابن حجر في العجاب في بيان الأسباب وقد رتبت هذه الأسانيد على حروف المعجم كما يلي:
الإسناد إلى أُبي بن كعب - رضي الله عنه -:
- طريق أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أُبي: وقد اعتمد هذا الإسناد كبار المصنفين كالإمام أحمد في مسنده (2) ، وأبو داود في
_________
(1) انظر تاريخ التراث العربي 1/71-75.
(2) انظر مثلا: (5/133، 134) .(1/34)
سننه (1) ، والترمذي في جامعه (2) ، والطبري (3) وابن أبي حاتم (4) في تفسيريهما، وابن خزيمة في التوحيد (5) ، والحاكم في مستدركه (6) ، والواحدي في أسباب النزول (7) ، والبيهقي في الأسماء والصفات (8) ، والثعلبي (9) والبغوي (10) في تفسيريهما. وكثيرا ما اعتمد على هذا الإسناد الطبري وابن أبي حاتم في تفسيريهما، ويرويه ابن أبي حاتم عن عصام بن داود العسقلاني عن آدم بن إياس العسقلاني، عن أبي جعفر به (11) . وقد حكم الحافظ ابن حجر العسقلاني على الإسناد بأنه جيد (12) . كما يرويه ابن أبي حاتم من طريق أبيه عن أحمد بن عبد الرحمن الدشتكي عن عبد الله بن أبي جعفر الرازي عن أبيه به. وقواه الحافظ ابن حجر (13) . ويرويه الحاكم من طريق جعفر بن عون وعبيد الله بن موسى ومحمد بن سابق عن أبي جعفر الرازي به، ويرويه أيضاً من طريق علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن الربيع بن أنس به، وصححه هو والذهبي (14) .
_________
(1) انظر مثلا: كتاب الصلاة - ب من قال أربع ركعات رقم 1182.
(2) انظر مثلا: التفسير - باب ومن سورة الإِخلاص رقم 3364، 3365.
(3) انظر مثلا: (3/342) .
(4) انظر مثلا: سورة البقرة الجزء الثاني رقم 28.
(5) انظر مثلا: ص 41.
(6) انظر مثلا: (2/540) .
(7) انظر مثلا: ص 262.
(8) انظر مثلا: ص 32.
(9) انظر مثلا: الكشف والبيان ل 6 أ.
(10) انظر مثلا: (4/421) .
(11) انظر مقدمة ابن أبي حاتم في التفسير.
(12) قارن فتح الباري 8/172 مع تفسير ابن أبي حاتم سورة البقرة الجزء الثاني رقم 28.
(13) انظر تفسير ابن أبي حاتم سورة البقرة الجزء الأول رقم 1083 وقارن مع العجاب في بيان الأسباب ص 127.
(14) انظر مثلا: المستدرك 2/2766، 323، 401، 540.(1/35)
وقال السيوطي: وأما أُبي بن كعب فعنه نسخة كبيرة يرويها أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عنه وهذا إسناد صحيح (1) . وحسنه الألباني (2) .
وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى هذا الإسناد بأنه معروف فقال: وهذا التفسير معروف عن أبي العالية ورواه عن أبى بن كعب. ورواه ابن أبي حاتم وغيره من (طريق) (3) الربيع عن أبي العالية عن أُبي بن كعب (4) . وقال أيضاً: هكذا رواه ابن أبي حاتم بالإسناد المعروف عن الربيع بن أنس (5) ، ونقل أيضاً عن ابن عبد البر قال: وروى بإسناده (6) في التفسير المعروف عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب ... (7) . بل قد اعتمد شيخ الإسلام هذا الإسناد في تفسير سورة الإخلاص (8) .
وأبو جعفر الرازي هو: عيسى بن أبي عيسى عبد الله بن ماهان صدوق سيء الحفظ خصوصا عن مغيرة. مات في حدود الستين والمائة، وروى له الجماعة إلا البخاري فروى له في الأدب المفرد (9) .
والربيع بن أنس: البكري أو الحنفي، بصري نزل خراسان صدوق له أوهام ورمي بالتشيع مات سنة أربعين ومائة أو قبلها روى له الأربعة (10) .
_________
(1) الإتقان 2/242.
(2) صحيح سنن الترمذي - سورة الإخلاص رقم 2680.
(3) قوله طريق سقط من الأصل.
(4) انظر دقائق التفسير 5/304.
(5) انظر دقائق التفسير 5/304.
(6) أي بإسناد ابن عبد البر.
(7) انظر درء تعارض العقل والنقل 8/438.
(8) ص 48.
(9) انظر التقريب رقم 8019 وتهذيب التهذيب 12/56، 57.
(10) انظر التقريب رقم 1882 وتهذيب التهذيب 3/238، 239.(1/36)
وأبو العالية: هو رفيع بن مهران الرياحي بكسر الراء والياء، ثقة كثير الإرسال، مات سنة تسعين أو بعدها، وروى له الجماعة (1) .
وبما أن الرواية من نسخة فلا يضر سوء حفظ أبي جعفر ولا أوهام الربيع لأن نقلهم هنا عن طريق السطور لا الصدور، فما يروونه عن كتاب، ولهذا صححه الحاكم والذهبي والسيوطي وجوده ابن حجر واعتمده ابن عبد البر وشيخ الإسلام ابن تيمية كما تقدم.
ومما يؤكد أن هذا الإسناد ينقل من كتاب قول ابن أبي حاتم الرازي في مقدمة تفسيره: فأما ما ذكر عن أبي العالية في سورة البقرة بلا إسناد فهو: ما حدثنا عصام بن رواد ثنا آدم، عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية ... (2) .
الإسناد عن أبي العالية رفيع بن مهران الرياحي:
طريق الربيع بن أنس عن أبي العالية: يروي هذا الطريق الطبري وابن أبي حاتم وتقدم الكلام عنه في طريق أُبي بن كعب رضي الله عنه فلينظر هناك.
الأسانيد عن ابن عباس:
روى عنه جمع غفير من التابعين ذكرت طرقهم في كتاب المنتخب في الأسانيد الثابتة المروية عن ابن عباس في التفسير وسأذكر في هذه المقدمة بعض الطرق التي تتكرر كثيرا في التفسير عن ابن عباس وهي:
(1) طريق سعيد بن جبير:
من أشهر الطرق المتكررة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس:
- طريق محمد ابن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس.
_________
(1) انظر التقريب رقم 1953 وتهذيب التهذيب 3/284.
(2) مقدمة تفسير ابن أبي حاتم ص 145.(1/37)
قال الطبري: إن أبا كريب حدثنا قال، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد ابن إسحاق، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: لما أصاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قريشا يوم بدر فقدم المدينة، جمع يهود في سوق بني قينقاع. فقال: يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشا! قالوا: يا محمد، لا تغرنك نفسك أنك قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تأت مثلنا!! فأنزله الله عز وجل في ذلك من قولهم: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) إلى قوله: (لأُولِي الأَبْصَارِ) (1) ، (2) .
وهذا الإسناد يتكرر كثيرا في كتب التفسير وخصوصا في تفسير الطبري وابن أبي حاتم وابن كثير، والراوي دائما عن محمد بن أبي محمد هو محمد ابن إسحاق.
وذكره الحافظ ابن حجر من طريق ابن إسحاق بإسناد حسن عن ابن عباس (3) وفي موضع آخر قال: سنده جيد (4) أي أنه حسن وجود طريق ابن إسحاق إلى ابن عباس وهو نفس الإسناد المذكور حيث ذكره ابن كثير من طريق آخر غير طريق ابن عباس ثم ساقه بهذا الإسناد فقال: ورواه ابن إسحاق أيضاً عن محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس فذكره (5) ، ووردت هذه الرواية في سيرة ابن هشام بدون إسناد، وقد ساق ابن إسحاق مثل هذا المتن بدون إسناد ولعله حذف الإسناد أو حذفه ابن هشام؛ لأن هذه الرواية سبقت
_________
(1) آل عمران 21.
(2) التفسير. رقم 6666.
(3) فتح الباري 7/332
(4) انظر العجاب في بيان الأسباب ل 36 ب.
(5) التفسير 2/12، 13.(1/38)
بروايات محذوفة الأسانيد وكأنه اعتمد على الإسناد نفسه في بداية الروايات؛ لأن هذه الروايات غير المسندة أسندها ابن إسحاق كلها بالإسناد نفسه فيما نقله عنه الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما عن ابن إسحاق (1) .
وأخرج ابن أبي حاتم رواية طويلة من طريق يونس بن بكير به في سبب نزول قوله تعالى (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ) . (2)
وذكره الحافظ ابن حجر مختصرا وحسنه (3) .
وحسنه السيوطي أيضاً في لباب النقول في أسباب النزول بعد أن ذكر رواية ابن أبي حاتم (4) . وقد ساق هذا الطريق في الإتقان ثم قال: وهي طريق جيدة وإسنادها حسن (5) .
وقد اعتبر الشيخ محمد نسيب الرفاعي الذي اختصر تفسير ابن كثير هذا الإسناد من الأسانيد الثابتة حيث ذكر في مقدمة مختصره شرطه أنه يختار أصح الأقوال ولا يسوق الروايات الضعيفة والموضوعة، وأكثر النقل بهذا الإسناد (6) . وفي إسناده محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال عنه الإمام الذهبي: لا يعرف (7) ، [[وفي الكاشف: وثق]] (*) وقال الحافظ ابن حجر: مجهول (8) .
_________
(1) انظر تفسير ابن أبي حاتم رقم 911، 979، 1081، 1088 مع التخريج لأن المحقق ذكر مواضع النصوص في سيرة ابن هشام وقارن مع تفسير الطبري رقم 1520، 1521، 1637، 1638، 1639، 1640.
(2) التفسير سورة آل عمران رقم 1954.
(3) فتح الباري 8/231.
(4) ص 62.
(5) الإتقان 2/242.
(6) انظر مثلا: 1/76، 81، 114.
(7) ميزان الاعتدال 4/26.
(8) التقريب ص 555.
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هذه الزيادة نقلا عن الجزء الذي نشره المؤلف - حفظه الله - في مجلة الجامعة الإسلامية(1/39)
وسكت عنه البخاري وابن أبي حاتم (1) ، وذكره ابن حبان في الثقات (2) ، وقال أحمد شاكر عن توثيق ابن حبان: وكفى بذلك معرفة وتوثيقا (3) .
والحق أن توثيق ابن حبان على درجات تبدأ من الثقة وتصل إلى الضعيف وقسمها الشيخ المعلمي إلى خمس درجات وأثنى الشيخ الألباني على هذا التقسيم واستحسنه (4) ، وقد انبرى الزميل الشيخ عداب الحمش لدراسة منهج ابن حبان في النقد، في رسالته (الإمام ابن حبان ومنهجه في الجرح والتعديل) ، وبعد التتبع والإحصاء تبين له أنهم على ثلاث درجات:
1- فمنهم الثقات وأهل الصدق.
2- ومنهم رواة مرتبة الاعتبار.
3- ومنهم الرواة الذين لا تنطبق عليهم شروط ابن حبان النقدية في المقبول وهؤلاء ذكرهم للمعرفة (5) .
علما أن ابن حبان لم يذكره في المجروحين، ومع هذا لا نستطيع أن نجزم بتوثيق محمد بن أبي محمد ولا بتضعيفه، وكذلك بالنسبة لقول الذهبي: لا يعرف، وقول ابن حجر: مجهول لأن بعض المجهولين قد وثق وبعضهم قد ضعف وبعضهم غير ذلك (6) ، وكذا الحال بالنسبة للذين سكت عنهم البخاري ثم ابن أبي حاتم
_________
(1) التاريخ الكبير 1/225 والجرح والتعديل 8/88.
(2) الثقات 7/392.
(3) تفسير الطبري 1/219 في الحاشية.
(4) انظر التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل 1/438 مع الحاشية.
(5) انظر رواة الحديث الذين سكت عليهم أئمة الجرح والتعديل ص 72.
(6) المصدر السابق ص 189-193.(1/40)
فبعضهم وثق وبعضهم ضعف وبعضهم ما بين درجة الثقة والضعيف (1) . ولكن توجد بعض القرائن تؤكد على تحسين طريق محمد بن أبي محمد وهي:
1- إن الحافظ ابن حجر ذكر هذا الإسناد ضمن أسانيد الثقات عن ابن عباس فقال في مقدمته النفيسة لكتابه (العجاب في بيان الأسباب) : والذين اشتهر عنهم القول في ذلك من التابعين أصحاب ابن عباس وفيهم ثقات وضعفاء فمن الثقات مجاهد بن جبر ويروي التفسير عنه من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد، والطريق إلى ابن أبي نجيح قوية فإذا ورد عن غيره بينته، ومنهم عكرمة ويروى التفسير عنه من طريق الحسين بن واقد عن يزيد النحوي عنه. ومن طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن عكرمة أو سعيد بن جبير -هكذا بالشك- ولا يضر لكونه يدور على ثقة ... ثم ذكر طريق علي بن أبي طلحة وعطاء بن أبي رباح ثم قال: ومن روايات الضعفاء فساقها ... (2) .
2- إن أبا داود روى له وسكت عنه فأخرج رواية الطبري المتقدمة من طريق مصرف بن عمرو الأيامي ثنا يونس يعني ابن بكير قال ثنا محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت به (3) ، فرواية أبي داود له وسكوته عنه يؤيد حكم الحافظ ابن حجر أن إسناده حسن، كما روى له أبو داود رواية أخرى من طريق ابن إسحاق عن مولى لزيد بن ثابت حدثتني ابنة محيصة ...
_________
(1) المصدر السابق ص 244-248 وانظر مقالاً بعنوان سكوت المتكلمين في الرجال عن الراوي الذي لم يجرح ولم يأت بمنكر يعد توثيقا له, نشر في مجلة كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود العدد الثاني عام 1399-1400هـ.
(2) ق 5، 6.
(3) السنن - كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب كيف كان إخراج اليهود من المدينة رقم 3001. وأخرج له رواية أخرى برقم 3002.(1/41)
وسكت عنه أيضاً (1) ، وسكت عنهما المنذري في مختصره لسنن أبي داود وعلق على الروايتين بقوله: في إسناده محمد ابن إسحاق (2) . فقط.
3- قال ابن كثير: قال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه يقول الله تعالى لنبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (3) أي ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب، فأبوا ذلك على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (4) أي يعلمهم بما عندهم من العلم بل والكفر بذلك ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على الأرض يهودي إلا مات، وقال الضحاك عن ابن عباس (فتمنوا الموت) : فسلوا الموت، وقال عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة قوله (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) ، قال: قال ابن عباس: لو تمنى يهود الموت لماتوا، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا عثام سمعت الأعمش قال لا أظنه إلا عن المنهال عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال: لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه، وهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس (5) .
علما بأن طريق الضحاك عن ابن عباس منقطع لأن الضحاك وهو ابن مزاحم لم يسمع من ابن عباس، وحكمه بأن هذه الأسانيد صحيحة إما بمجموعها أو أن بعضها تقوى من الحسن إلى الصحيح لغيره.
_________
(1) المصدر السابق رقم 3002.
(2) 4/233.
(3) البقرة 94.
(4) البقرة 95.
(5) التفسير 1/226.(1/42)
ومن الجدير بالذكر أن ابن كثير صدر الأسانيد بطريق ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد المذكور وأيضا أنه رجحه لأن فحوى معناه المباهلة وهو الرأي الذي تمسك به ابن كثير وردّ به على الطبري، لأن الطبري رجح المراد من التمني أن يدعوا على أنفسهم بالموت (1) .
4- وقد يرجح الطبراني في بعض الأحيان مما يدل أنه يذهب إلى ثبوت هذا الإسناد (2) .
5- وقد روى الطبراني من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت (3) ، وقال الهيثمي: ورجاله موثقون (4) . وبهذا يكون قد اعتمد هذا الإسناد الإمام الطبري والحافظ ابن حجر والهيثمي والسيوطي. كما نقل الذهبي في السيرة بهذا الإسناد وسكت عنه (5) .
ومن الجدير بالذكر أن أغلب روايات محمد بن إسحاق بهذا الإسناد في نطاق المغازي والسير وذلك من خلال استقرائي لتفسير ابن كثير بكامله، وللموجود من تفسير ابن أبي حاتم ولبعض الأجزاء من تفسير الطبري، وكثير من هذه الروايات موجودة في سيرة ابن هشام بالإسناد المذكور أو بحذفه، ومن المعروف أن الأمة قد تقبلت روايات ابن إسحاق في المغازي والسير فلا غرابة من تحسين هذا الإسناد.
وقد أكثر الطبري وابن أبي حاتم في روايتهما عن ابن إسحاق بهذا الإسناد، ورواية ابن أبي حاتم غالبا ما تكون عن محمد بن العباس بن بسام تارة وعن
_________
(1) التفسير 1/227، 228.
(2) انظر جامع البيان 1/252 و10/430 ط. أحمد ومحمود شاكر.
(3) المعجم الكبير 12/68رقم 12498.
(4) مجمع الزوائد 2/14.
(5) انظر السيرة النبوية ص 89.(1/43)
محمد بن يحيى الواسطي تارة كلاهما عن أبي غسان محمد بن عمرو زنيج عن سلمة بن الفضل عن ابن إسحاق به. ورواية الطبري غالبا ما تكون عن أبي كريب محمد بن العلاء عن يونس بن بكير عن ابن إسحاق به. وأبو كريب ثقة، ويونس بن بكير هو ابن واصل الشيباني: صدوق يخطئ. وقد روى له مسلم، ووصفه الذهبي بالإمام الحافظ الصدوق (1) . وقال أيضاً: وهو حسن الحديث (2) . وأما أنه يخطئ فلا يضر لأن ما يرويه عن ابن إسحاق من كتاب وهو السيرة كما تقدم أو من كتاب آخر لابن إسحاق لأن ما يرويه عن ابن إسحاق بإسناد واحد لا يتغير وهو الإسناد الذي نتكلم عنه.
وابن إسحاق: هو محمد بن إسحاق: بن يسار قال الحافظ ابن حجر في التقريب: إمام المغازي صدوق يدلس ورمي بالتشيع والقدر.
وقد تُكلم فيه، وحبَّر له الخطيب البغدادي ترجمة حافلة بلغت عشرين صفحة ذبَّ فيها عنه كل ما قيل فيه (3) .
وقد تقبلت الأمة رواياته في السير والمغازي وكفى بقول الحافظ ابن حجر: إمام المغازي ولكن تدليسه من الطبقة الثالثة الذين لا تقبل روايتهم إلا إذا صرحوا بالسماع وقد صرح في هذا الإسناد بالسماع.
ومحمد بن العباس بن بسام مولى بني هاشم قال عنه ابن أبي حاتم: كتبت عنه وهو صدوق (4) .
ومحمد بن يحيى بن عمرو الواسطي قال عنه ابن أبي حاتم: كتبت عنه مع أبي وكان رجلا صالحا صدوقا في الحديث سئل أبي عنه فقال: ثقة (5) .
_________
(1) سير أعلام النبلاء 9/245.
(2) ميزان الاعتدال 4/478.
(3) تاريخ بغداد 1/214-234.
(4) الجرح والتعديل 8/48.
(5) الجرح والتعديل 8/125.(1/44)
وأبو غسان محمد بن عمرو، لقبه زنيج ثقة.
وسلمة بن الفضل الأبرش: صدوق كثير الخطأ ولكن في غير روايته عن محمد بن إسحاق فقد نقل الحافظ ابن حجر عن يحيى بن معين قال: سمعت جريرا يقول: ليس من لدن بغداد إلى أن يبلغ خراسان أثبت في ابن إسحاق من سلمة (1) .
ونقل الذهبي عن ابن معين قال: كتبنا عنه وليس في المغازي أتم من كتابه. ونقل عَن زنيج قال: سمعت سلمة الأبرش يقول: سمعت المغازي من ابن إسحاق مرتين وكتبت عنه من الحديث مثل المغازي (2) .
وقد ساق الحافظ ابن حجر حديثا بإسناده من طريق سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق ثم قال: هذا حديث حسن صحيح (3) .
(2) طريق عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس:
أشهر من روى عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس: ابن جريج وابن أبي نجيح وعمرو بن دينار.
روى سفيان بن عيينة عن ابن جريج، عن عطاء عن ابن عباس في قوله (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) (4) قال: في شدة خلق، ثم ذكر مولده ونبات أسنانه، رواه الحافظ ابن حجر بإسناده إلى ابن عيينة (5) . وذكره في الفتح وصححه (6) .
_________
(1) انظر تهذيب التهذيب 4/153، 154.
(2) ميزان الاعتدال 2/192 والتاريخ لابن معين 2/226.
(3) موافقة الخُبر الخبر ص 392، 393.
(4) سورة البلد آية 4.
(5) تغليق التعليق 4/3.
(6) 6/365.(1/45)
وقال البخاري: حدثنا محمد بن يوسف، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين فنسخ الله من ذلك ما أحب فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس والثلث وجعل للمرأة الثمن والربع وللزوج الشطر والربع (1) .
وهذه الرواية ثابتة في تفسير محمد بن يوسف الفريابي (2) .
طريق عمرو بن دينار عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس: وقال عبد الرزاق في المصنف: عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار -أظنه- عن عطاء عن ابن عباس قال في أم الولد (3) : والله ما هي إلا بمنزلة بعيرك أو شاتك (4) .
ذكره الحافظ ابن حجر وصححه (5) . وكذا العيني (6) .
(3) طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس:
وهي صحيفة مشهورة تداولها العلماء وأكثرهم نقلا الطبري وابن أبي حاتم في تفسيريهما فقد كادا أن يستوعبا هذه الصحيفة.
ويروي ابن أبي حاتم هذه الصحيفة غالبا عن أبيه، ثنا أبو صالح، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
وأبو صالح: هو عبد الله بن صالح بن محمد بن مسلم الجهني مولاهم المصري كاتب الليث صدوق كثير الغلط ثبت في كتابه. وقد تُكلم فيه،
_________
(1) الصحيح - التفسير - سورة النساء، باب ولكم نصف ما ترك أزواجكم رقم 4578.
(2) انظر فتح الباري 8/245.
(3) أي الأمة المتزوجة والرواية في جواز بيعها.
(4) 7/290 رقم 13218 باب بيع أمهات الأولاد.
(5) موافقة الخُبر الخبر في تخريج آثار المختصر ص 259
(6) عمدة القاري 18/162)(1/46)
وقال الذهبي: الإمام المحدث، وعرض أقوال النقاد وذبَّ عنه معظم ما قيل فيه (1) . ولا داعي لسرد الأقوال فيه لأن الحافظ ابن حجر ذكر القول الفصل في هدي الساري فقال: ظاهر كلام هؤلاء الأئمة أن حديثه في الأول كان مستقيما ثم طرأ عليه فيه تخليط، فمقتضى ذلك أن ما يجيء من روايته عن أهل الحذق كيحيى بن معين وأبي زرعة وأبي حاتم فهو من صحيح حديثه، وما يجيء من رواية الشيوخ عنه فيتوقف فيه. ا. هـ. ثم سرد الأحاديث التي رواها البخاري عنه في صحيحه (2) . والراوي هنا عنه أبو حاتم -في تفسير ابن أبي حاتم- وهو من أهل الحذق فروايته من صحيح حديثه كما قرر الحافظ.
- معاوية بن صالح: صدوق له أوهام.
قال الحافظ ابن حجر في ترجمة علي بن أبي طلحة: ونقل البخاري من تفسيره رواية معاوية بن صالح عنه عن ابن عباس شيئا كثيرا في التراجم وغيرها ولكنه لا يسميه يقول: قال ابن عباس أو يُذكر عن ابن عباس (3) .
- علي بن أبي طلحة: مولى بني العباس، أرسل عن ابن عباس ولم يره، صدوق قد يخطئ. وقد تُكلم في روايته عن ابن عباس بأنه لم يسمع منه (4) وأجاب عن ذلك أبو جعفر النحاس فقال: والذي يطعن في إسناده يقول: ابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس وإنما أخذ التفسير عن مجاهد وعكرمة، وهذا القول لا يوجب طعنا لأنه أخذه عن رجلين ثقتين وهو في نفسه ثقة صدوق. ا. هـ. (5) .
وأرى أن الواسطة هو: مجاهد، إذ قارنت كثير من نصوص مجاهد في التفسير مع روايات علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس، فوجدتها متوافقة غير مختلفة.
_________
(1) سير أعلام النبلاء 10/405-416.
(2) ص 414.
(3) تهذيب التهذيب 7/340.
(4) انظر المراسيل ص 140.
(5) الناسخ والمنسوخ ص 13.(1/47)
ويؤكد هذا أني وقفت على رواية في تفسير النسائي والأموال لابن زنجويه من طريق علي بن أبي طلحة عن مجاهد عن ابن عباس (1) . وذكر الحافظ ابن حجر في كتابه -العجاب في بيان الأسباب- الرواة الثقات عن ابن عباس فقال: وعلي صدوق، ولم يلق ابن عباس لكنه إنما حمل عن ثقات أصحابه فلذلك كان البخاري وأبو حاتم وغيرهما يعتمدون على هذه النسخة (2) .
ونقل السيوطي عن ابن حجر أنه قال: بعد أن عرفت الواسطة وهو ثقة فلا ضير في ذلك (3) .
وروى أبو جعفر النحاس بإسناده عن الإمام أحمد قال: بمصر صحيفة تفسير رواها علي بن أبي طلحة، لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدا ما كان كثيرا (4) . وفي رواية: ما ذهبت باطلا (5) .
وأخرج الآجري من طريق جعفر بن محمد بن فضيل الرأسي قال: حدثنا عبد الله بن صالح كاتب الليث بن سعد قال: حدثنا معاوية بن صالح عن علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله عز وجل (قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) (6) قال: غير مخلوق (7) . وقد بلغ الإمام أحمد بن حنبل هذا الحديث فكتب إلى جعفر بن محمد بن فضيل يكتب إليه بإجازته، فكتب إليه بإجازته، فسُرَ أحمد بهذا الحديث (8) .
نستنتج من هذا أن الإمام أحمد قد اعتمد هذا الطريق.
وقال يوسف بن عبد الهادي الحنبلي ت 909 هـ: وقد نقلت عن ابن عباس تفاسير متعددة لجميع القرآن من طرق شتى ومن أجودها التفسير الذي رواه معاوية بن
_________
(1) تفسير النسائي ص 79، والأموال 1/312 رقم 479.
(2) ص د-9.
(3) الإتقان 2/241.
(4) الناسخ والمنسوخ ص 12 وانظر فتح الباري 8/438 حيث نقل العبارة عن معاني القرآن للنحاس.
(5) المصدر السابق المحقق 1/65.
(6) الزمر 28.
(7) الشريعة ص 77.
(8) الشريعة ص 78.(1/48)
صالح، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. ا. هـ. ثم ذكر الانقطاع وذكر الواسطة مجاهداً وعكرمة (1) .
وقال السيوطي: وقد ورد، عن ابن عباس في التفسير ما لا يحصى كثرة وفيه روايات وطرق مختلفة فمن جيدها طريق علي بن أبي طلحة الهاشمي عنه (2) .
فالإسناد حسن.
وبالنسبة لأبي صالح عبد الله بن صالح أنه صدوق كثير الغلط فلا يضر كثرة غلطه لأن ما يرويه عن نسخة وغلطه في حفظه لا في كتابه وقد تقدم أنه ثبت في كتابه. وكذا الحال بالنسبة لأوهام معاوية بن صالح لأن ما يرويه عن نسخة علي ابن أبي طلحة. قال الحافظ ابن حجر عند الكلام على هذه النسخة: وهذه النسخة كانت عند أبي صالح كاتب الليث رواها عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وهي عند البخاري عن أبي صالح وقد اعتمد عليها في صحيحه هذا كثيرا على ما بيناه فى أماكنه وهي عند الطبري وابن أبي حاتم وابن المنذر بوسائط بينهم وبين أبي صالح. ا. هـ. (3) . وكذا عند الحاكم فقد روى مثل هذا الإسناد وصححه، ووافقه الذهبي (4) . وحسنه الهيثمي (5) .
ولأهمية هذا الطريق اقترحت على الأخ د. أحمد عبد اللطيف عايش أن يدرس هذا الإسناد ويجمع الصحيفة وقد قام بذلك في تحضيره لرسالة الماجستير في جامعة أم القري ومن الموافقة أن أسندت إليّ مناقشة هذه الرسالة وكنت أحد المناقشين لها في عام 1409هـ.
_________
(1) هداية الإنسان إلى الاستغناء بالقرآن 1/212.
(2) الإتقان 2/241.
(3) فتح الباري 8/438، 439.
(4) المستدرك 3/23.
(5) مجمع الزوائد 7/119.(1/49)
الإسناد عن عطاء بن أبي رباح:
- طريق ابن أبي نجيح عنه:
ويرويه الطبري عن محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح عن عطاء بن أبي رباح (1) .
ورجاله ثقات يأتي ذكرهم مفصلا في طرق مجاهد بن جبر، والإِسناد صحيح.
الإسناد عن عكرمة مولى ابن عباس:
- طريق حصين عن عكرمة:
قال الطبري: حدثنا يعقوب قال: ثنا هشيم قال: أخبرنا (حصين) (2) ، عن عكرمة قال: كانت طيرا (3) وذكره ابن كثير وصححه (4) ، وصححه الحافظ ابن حجر أيضاً (5) وله طرق أخرى كثيرة تقدمت في عرض طرق ابن عباس.
الإسناد عن قتادة بن دعامة السدوسي:
روى تفسير قتادة جماعة وأشهرهم:
1- سعيد بن أبي عروبة البصري.
2- شيبان بن عبد الرحمن النحوي.
3- معمر بن راشد الأزدي.
(1) طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة:
يرويه الطبري عن بشر بن معاذ العقدي، عن يزيد بن زريع، عن سعيد ابن أبي عروبة عن قتادة.
وقد صححه الحافظ ابن حجر (6) . ورجاله ثقات على شرط الشيخين إلا بشر ابن معاذ صدوق والإسناد حسن والله أعلم.
_________
(1) انظر مثلا التفسير رقم 1993.
(2) في الأصل حسين وهو تصحيف والتصويب من رواية الطبري بعد هذه الرواية بعشر روايات ومما نقله ابن كثير عن الطبري وحصين هذا هو ابن عبد الرحمن السلمي أبو الهديل الكوفي معروف بالرواية عن عكرمة وبرواية هشيم بن بشير عنه (انظر تهذيب الكمال 6/519-521) .
(3) التفسير 30/298.
(4) التفسير 8/508.
(5) انظر فتح الباري 12/207.
(6) انظر فتح الباري 6/364 وقارن مع تفسير الطبري 14/27 ط. حلبي.(1/50)
- سعيد بن أبي عروبة بن مهران اليشكري، مولاهم أبو النضر البصري [[قال الحافظ ابن حجر في التقريب]] (*) ثقة حافظ، له تصانيف لكنه كثير التدليس، واختلط، وكان من أثبت الناس في قتادة، روى له الجماعة. [[ا. هـ]] (*) وبالنسبة لتدليسه ذكره الحافظ ابن حجر في الطبقة الثانية من المدلسين. وبالنسبة لاختلاطه فقد نقل الحافظ ابن حجر عن ابن حبان في الثقات أنه مات سنة (155 هـ) وبقي في اختلاطه خمس سنين ولا يحتج إلا بما روى عنه القدماء مثل يزيد بن زريع وابن المبارك ... (1) .
وقال ابن عدي: وسعيد من ثقات المسلمين وله أصناف كثيرة وحدث عنه الأئمة ومن سمع منه قبل الاختلاط فإن ذلك صحيح حجة ومن سمع بعد الاختلاط فذلك ما لا يعتمد عليه ... أرواهم عنه عبد الأعلى وهو مقدم في أصحاب قتادة ومن أثبت الناس رواية عنه ... وأثبت الناس عنه يزيد ابن زريع و ... (2) .
ونقل الذهبي عن ابن معين أنه أثبت الناس في قتادة، ونقل عن ابن أبي حاتم أنه ثقة قبل أن يختلط وكان أعلم الناس بحديث قتادة. وكذا نقل عن الطيالسي (3) .
وبالنسبة لتفسيره فقد سئل ابن معين: أيما أحب إليك تفسير سعيد عن قتادة أو تفسير شيبان عن قتادة؟ فقال: سعيد (4) .
ولكن ابن أبي حاتم نقل عن يحيى بن سعيد أنه قال: سعيد بن أبي عروبة لم يسمع التفسير من قتادة (5) .
_________
(1) تهذيب التهذيب 4/65.
(2) الكامل ص 1233 وانظر تهذيب التهذيب 4/65، 66.
(3) سير أعلام النبلاء 6/414، 415.
(4) التاريخ 2/205.
(5) تقدمة الجرح والتعديل ص 240.
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هذه الزيادة نقلا عن الجزء الذي نشره المؤلف - حفظه الله - في مجلة الجامعة الإسلامية.(1/51)
والصحيح أنه سمع التفسير من قتادة بدليل ما رواه البخاري من طريق يزيد ابن زريع، حدثنا سعيد عن قتادة (1) . قال العيني: وسعيد: هو سعيد بن أبي عروبة (2) .
ونقل الذهبي عن أحمد بن حنبل قال: زعموا أن سعيد بن أبي عروبة قال: لم أكتب إلا تفسير قتادة، وذلك أن أبا معشر كتب إليّ أن اكتبه (3) . وقد أفاد الإمام أحمد من تفسير سعيد عن قتادة وصرح أنه من تفسير سعيد (4) . وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة ثابت (5) .
والخلاصة: أن رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة صحيحة وكفى باعتماد البخاري عليها. كما صحح الذهبي رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة (6) .
- يزيد بن زريع: بتقديم الزاي مصغرا، البصري، أبو معاوية ثقة ثبت روى له الجماعة.
- بشر بن معاذ العقدي: بفتح المهملة والقاف، أبو سهل البصري الضرير، صدوق.
وعلى هذا فالإسناد حسن وقد يعود تصحيح ابن حجر لهذا الإسناد بسبب رواية بشر بن معاذ من كتاب التفسير، أو بسبب اعتماد الأئمة النقاد على هذا التفسير والله أعلم.
_________
(1) الصحيح - التفسير - سورة البقرة - باب وعلم آدم الأسماء كلها رقم 4476، والمغازي - باب ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا ... رقم 4068.
(2) عمدة القاري 17/417.
(3) سير أعلام النبلاء 6/417.
(4) الزهد ص 31.
(5) تفسير سورة الإخلاص ص 201.
(6) العلو ص 71.(1/52)
فقولي: أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة فالمراد به اختصار هذا الإسناد.
ويروي ابن أبي حاتم هذا الإسناد عن شيخه محمد بن يحيى عن العباس بن الوليد، ثنا يزيد بن زريع به (1) .
ومحمد بن يحيى: هو ابن عمر الواسطي نزيل بغداد قال ابن أبي حاتم كتبت عنه مع أبي وكان رجلا صالحا صدوقا في الحديث، سئل أبي عنه فقال: ثقة (2) .
والعباس بن الوليد: هو ابن نصر النرسي ثقة روى له الشيخان. وهو معروف بالرواية عن يزيد بن زريع (3) .
ورجاله ثقات على شرط الشيخين إلا محمدا شيخ ابن أبي حاتم والإسناد صحيح. وقولي أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة فالمراد به هذا الإسناد.
(2) طريق شيبان بن عبد الرحمن النحوي عن قتادة:
يرويه ابن أبي حاتم عن موسى بن هارون الطوسي، ثنا الحسين بن محمد المروذي، ثنا شيبان بن عبد الرحمن التميمي عن قتادة (4) .
ورجاله ثقات على شرط الشيخين إلا موسى وهو ثقة فالإسناد صحيح كما يلي:
- شيبان بن عبد الرحمن التميمي النحوي أبو معاوية البصري نزيل الكوفة ثقة صاحب كتاب روى له الجماعة.
_________
(1) انظر مثلا سورة آل عمران رقم 288.
(2) الجرح والتعديل 8/125.
(3) انظر تهذيب التهذيب 5/133.
(4) انظر مثلا التفسير - سورة آل عمران رقم 36.(1/53)
- الحسين بن محمد المروّذي: التميمي نزيل بغداد ثقة روى له الجماعة.
- موسى بن هارون الطوسي: أبو عيسى نزيل بغداد روى عن حسين بن محمد المروّذي تفسير شيبان النحوي عن قتادة. قال ابن أبي حاتم: كتب إليَّ بتفسير شيبان وبكتب محمد بن الحسين وسكت عنه (1) .
ويروي ابن أبي حاتم هذا الإسناد بهذه الصيغة: أخبرنا موسى بن هارون الطوسي فيما كتب إلي ثنا.... الإسناد نفسه (2) .
ووثقه الخطيب البغدادي (3) . وقولي أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن شيبان عن قتادة فهو هذا الإسناد وقد أذكره بتمامه لتمييزه عن الأسانيد المشابهة له، هذا وقد أخرج الإمام البخاري طريق الحسين بن محمد عن شيبان عن قتادة (4) . كما أفاد الإمام أحمد من تفسير شيبان عن قتادة حيث صرح بذلك في مسنده في تسعة مواضع فقط فيقول: ثنا حسين في تفسير شيبان عن قتادة (5) .
(3) طريق معمر بن راشد عن قتادة:
أكثر العلماء نقلا عن معمر بن راشد عن قتادة في التفسير هو عبد الرزاق ابن همام الصنعاني في تفسيره ومصنفه، وأغلب تفسيره عن معمر عن قتادة. وقد صحح إسناده الحافظ ابن حجر (6) وهو كما قال؛ لأن رجاله ثقات والإسناد متصل على شرط الشيخين كما يلي:
_________
(1) الجرح والتعديل 8/168 وانظر غاية النهاية 2/324.
(2) انظر مثلا التفسير - سورة آل عمران رقم 39، 40.
(3) تاريخ بغداد 13/48.
(4) الصحيح - التفسير - سورة آل عمران - باب أمنة نعاسا رقم 4562.
(5) المسند 1/245، 2/392، 437، 3/13، 260، 261، 4/28، 29، 6/29، 449، وقد أتحفني الزميل د. عامر حسن صبري بمعظم هذه المواضع.
(6) انظر مثلا فتح الباري 4/255 وقارن مع تفسير عبد الرزاق ص 486.(1/54)
- معمر بن راشد: الأزدي الأموي، أبو عروة البصري، نزيل اليمن ثقة ثبت فاضل إلا أن في روايته عن ثابت والأعمش وهشام بن عروة شيئا، وكذا فيما حدث بالبصرة روى له الجماعة. أ. هـ. وهو معروف بالرواية عن قتادة بن دعامة وبرواية عبد الرزاق عنه (1) .
- قتادة بن دعامة بن قتادة السدوسي، أبو الخطاب البصري ثقة ثبت روى له الجماعة، ذكره الحافظ ابن حجر في الطبقة الثالثة من المدلسين. وقد سمع من أنس وسعيد بن المسيب وأبي رافع على خلاف ولم يسمع من أبي بردة وخلاس بن عمرو ومجاهد وأبي العالية وسعيد بن جبير (2) . وإسناد عبد الرزاق عن معمر عن قتادة يرويه الطبري وابن أبي حاتم من طريق الحسن بن أبي الربيع -أي الحسن بن يحيى- عن عبد الرزاق به (3) .
الإسناد عن مجاهد بن جبر المخزومي:
اشتهر ابن أبي نجيح برواية التفسير عن مجاهد ويكاد تفسير مجاهد يدور محور إسناده علي ابن أبي نجيح، فمن الطرق إلى ابن أبي نجيح عن مجاهد ما يلي:
أولاً: طريق عيسى بن ميمون عن ابن أبي نجيح عن مجاهد:
ويروي الطبري غالبا هذا الطريق فيقول:
حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى بن ميمون، قال: حدثنا ابن أبي نجيح عن مجاهد (4) .
_________
(1) انظر تهذيب التهذيب 1/243، 244.
(2) انظر المراسيل ص 168-175.
(3) انظر مثلا تفسير الطبري رقم 225 وتفسير ابن أبي حاتم - سورة آل عمران - رقم 10.
(4) انظر مثلا رقم 514.(1/55)
ومحمد بن عمرو: هو أبو بكر الباهلي البصري: ثقة (1) .
وأبو عاصم: هو الضحاك بن مخلد: ثقة ثبت.
وعيسى بن ميمون: هو الجرشي: ثقة.
وابن أبي نجيح: هو عبد الله بن يسار المكي أبو يسار الثقفي مولاهم ثقة رمي بالقدر، وهو من مدلسي المرتبة الثالثة، وقد تُكلم فيه وفي روايته عن مجاهد، فنقل الذهبي أنه لم يسمع التفسير كله من مجاهد، ونقل أيضاً عن البخاري أنه كان يتهم بالاعتزال والقدر، وعن القطان أنه كان من رؤوس الدعاة. وأجاب الذهبي عن ذلك كله فقال: هو من أخص الناس بمجاهد، ونقل عن ابن المديني قال: أما التفسير فهو فيه ثقة يعلمه، قد قفز القنطرة واحتج به أرباب الصحاح ولعله رجع عن البدعة وقد رأى القدر جماعة من الثقات وأخطؤوا (2) .
ونقل ابن أبي حاتم عن وكيع قال: كان سفيان يصحح تفسير ابن أبي نجيح (3) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقول القائل: لا تصح رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد جوابه: أن تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد من أصح التفاسير بل ليس بأيدي أهل التفسير كتاب في التفسير أصح من تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد إلا أن يكون نظيره في الصحة. (4) كما وثقه جمع من الأئمة النقاد كابن معين وأحمد وأبي زرعة والنسائي وابن سعد والعجلي والذهبي (5) . وعلى هذا فرجاله ثقات وإسناده صحيح وصححه الحافظ ابن حجر (6) .
_________
(1) انظر تاريخ بغداد 3/127.
(2) سير أعلام النبلاء 6/125-126.
(3) الجرح والتعديل 5/203.
(4) الفتاوى 17/409 وانظر دقائق التفسير 6/452.
(5) انظر تهذيب التهذيب 6/54، 55 وسير أعلام النبلاء 6/125.
(6) انظر فتح الباري 2/355 والعجاب ص 127 وقارن مع تفسير الطبري 14/193.(1/56)
وقد أورد الطبري هذا الإسناد كثيرا، فإذا قلت: وأخرج الطبري بإسناده الصحيح عن مجاهد فالمراد هذا الإسناد.
ثانيا: طريق ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد:
ورقاء: هو ورقاء بن عمر اليشكري، أبو بشر الكوفي، نزيل المدائن وقد اختلف فيه، فنقل ابن حجر عن حرب قال: قلت لأحمد: ورقاء أحب إليك في تفسير ابن أبي نجيح أو شيبان؟ قال: كلاهما ثقة وورقاء أوثقهما إلا أنهم يقولون لم يسمع التفسير كله، يقولون: بعضه عرض ونقل عن يحيى بن سعيد قال معاذ: قال ورقاء: كتاب التفسير قرأت نصفه على ابن أبي نجيح وقرأ عليَّ نصفه. وعن الدوري قال: قلت لابن معين: أيما أحب إليك تفسير ورقاء أو تفسير شيبان وسعيد عن قتادة؟ قال: تفسير ورقاء، لأنه عن ابن أبي نجيح عن مجاهد. قلت: فأيما أحب إليك تفسير ورقاء أو ابن جريج؟ قال: ورقاء لأن ابن جريج لم يسمع من مجاهد إلا حرفا واحدا. ا. هـ. وقد وثقه أحمد وابن معين ووكيع، وأما ما قيل فيه ففي روايته عن منصور (1) .
قال الحافظ في التقريب: صدوق في حديثه، عن منصور لين. ا. هـ.
روى له الجماعة. وقد أورد البخاري مثل هذا الإسناد في صحيحه في كتاب التفسير باب (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) (2) .
وقد أورد ابن أبي حاتم هذا الإسناد كثيرا في تفسيره يرويه عن حجاج بن حمزة، ثنا شبابة، ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد.
وشبابة: هو ابن سوار المدائني أصله من خراسان يقال: كان اسمه مروان مولى بني فزارة، ثقة حافظ روى له الجماعة.
_________
(1) انظر تهذيب التهذيب 11/114، 115 وهدي الساري ص 450.
(2) الأنفال 22.(1/57)
وحجاج بن حمزة: هو ابن سويد العجلي الخشابي، ونقل ابن أبي حاتم عن أبي زرعة أنه: شيخ مسلم صدوق (1) .
وعلى هذا فالإسناد حسن. فإذا قلت: وأخرج ابن أبي حاتم بإسناده الحسن فالمراد به هذا الإسناد.
ومن الجدير بالذكر أن الحافظ محمد بن يوسف الفريابي ت 212 هـ شيخ البخاري اعتمد كثيرا في تفسيره على إسناد ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد فقد جمعت الروايات التي نقلها الحافظ ابن حجر في تغليق التعليق من هذا التفسير فبلغت 298 رواية (2) . كلها من هذا الطريق إلا بضع روايات رواها من طرق أخرى (3) .
وكذا الحافظ عبد بن حميد ت 249 هـ أورد هذا الإسناد في تفسيره من طريق شيخه شبابة عن ورقاء به (4) .
ثالثا: طريق شبل بن عباد المكي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: ويروي من هذا الطريق الطبري وابن أبي حاتم في تفسيريهما وقد نقل الذهبي مثل هذا الإسناد في كتابه (العلو) ثم قال: هذا ثابت عن مجاهد (5) .
وشبل بن عباد المكي: ثقة فالإسناد صحيح.
كما توجد طرق أخرى عن مجاهد غير طريق ابن أبي نجيح تقدم ذكرها في طرق مجاهد عن ابن عباس، فلا حاجة لتكرارها.
_________
(1) الجرح والتعديل 3/158، 159.
(2) انظر مثلا 4/5، 183، 187، 189، 216، 218، 224، 235، 272 - 5/345، 359، 360، 361.
(3) انظر القاعدة الأولى من كتابي (القواعد المنهجية في التنقيب عن المفقود من الأجزاء والكتب التراثية ص 30، 31.
(4) المصدر السابق ص 32.
(5) ص 97.(1/58)
وما سوى هذه الأسانيد والطرق فانظر في رجالها من حيث التوثيق والتضعيف وذلك بعد التأكد من معرفة الرجل نفسه وطبقته فإذا كان الراوي من رجال الكتب الستة فترجمته من تقريب التهذيب أو تهذيب التهذيب أو كليهما، ولم أذكر موضع الترجمة لسهولة الرجوع إليها ولعدم الإِطالة، أما إذا كان الراوي من غير رجال الكتب الستة فأذكر موضع ترجمته من المصادر التي تتناول الجرح والتعديل. فإذا كان الراوي ثقة فأشير إلى ذلك وإذا كان الراوي ممن اختلف فيه فأنظر في أقواله النقاد جرحا وتعديلا، ثم أغربل أقوالهم وأرجح أقوال المعتدلين القوية تاركا أقوال المتشددين إذا تفردوا وأقوال المتساهلين إذا خالفوا غيرهم، ولا أعتبر أقوال النقاد الذين لا يعتد بهم بسبب قادح فيهم عند أهل السنة والجماعة. وأستأنس بمن يعول عليه في هذا الشأن وخصوصا المعتدلين من المتقدمين والمتأخرين. وقد أوفق بين أقوال النقاد المختلفة ظاهرا بمعرفة مقصود كل واحد منهم وذلك لأن لكل ناقد اصطلاحات خاصة به يستخدمها في حكمه على الراوي. ومن أراد الاطلاع على التراجم فليراجع تحقيقي للمجلد الثاني من تفسير ابن أبي حاتم الرازي ت 328 هـ.
وبالنسبة لمعرفة اتصال الإسناد فإن كان الراوي من رجال الصحيحين وصيغ أدائه كما في الصحيحين أو أحدهما فأعتبر الإسناد متصلا، وإذا كان الراوي من غير رجال الصحيحين فأنظر إلى طبقته واحتمال لقائه مع شيخه وأقرانه من خلال تواريخ البلدان والمواليد والوفيات ثم الرجوع إلى كتب العلل والمراسيل والتدليس. ولم أذكر شيئا من هذا في الكتاب سوى ما ورد بأن فلانا معروف بالرواية عن فلان، أو بأنه لم يلق فلانا، أو أن فلانا من المدلسين وما ذكرته من مدلسين فهو من كتاب تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس للحافظ ابن حجر. وكل ذلك للاختصار وطول المشوار. وبعد بيان حال الرواة واتصال الإسناد والتخريج يأتي الحكم على الإسناد وأستأنس أيضاً ببعض أقوال النقاد(1/59)
من المتقدمين والمتأخرين كما تقدم في إيراد الطرق والأسانيد وكما سيأتي في التفسير.
إن هذا الاستئناس والاعتماد على أقوال النقاد لا يعني أن كل ما صححوه أو حسنوه أو جودوه أثبته في هذا التفسير وإنما أراجعه من خلال معرفة الرواة واتصال الإسناد، فما تبين لي أنه ثابت دونته وما تبين لي أنه غير ثابت من حيث الإسناد أو المتن فقد تركته ومثال ما لم يثبت سنده ما يلي:
أولا:
قال ابن أبي حاتم في التفسير: حدثنا أبي ثنا أبو الجماهر أبنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن عمه، عن ابن عباس قال: صلاة الوسطى: المغرب (1) . وذكره الحافظ ابن حجر وحسن إسناده (2) .
وقوله حدثنا أبي: أي أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي: ثقة.
وأبو الجماهر: هو محمد بن عثمان التنوخي ثقة.
وسعيد بن بشير: الأزدي مولاهم ضعيف عند معظم النقاد، بل صرح ابن نمير أنه يروي عن قتادة المنكرات (3) .
وأما تحسين ابن حجر لهذا الإسناد فلعله اشتبه عليه بسعيد بن أبي عروبة لأن روايته صحيحة عن قتادة، أو أن ابن حجر اعتمد على ما قاله الذهبي: وله عند أهل دمشق تصانيف رأيت له تفسيرا مصنفا، والغالب عليه الصدق (4) .
أو لأنه صاحب قتادة كما نص الذهبي في أول ترجمته في المصدر السابق وبجميع الاحتمالات المتقدمة لا يرقى حديثه إلى الحسن والله أعلم.
_________
(1) سورة البقرة رقم 2527.
(2) فتح الباري 8/196
(3) انظر ميزان الاعتدال 2/129.
(4) انظر ميزان الاعتدال 2/130.(1/60)
ثانيا:
قال الطبري: حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي، قال: ثنا عبيد الله بن موسى قال: أخبرنا إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد عن ابن عباس قال: إن الرجل ليجر إلى النار فتنزوي وينقبض بعضها إلى بعض فيقول لها الرحمن: ما لك؟ فتقول: إنه ليستجير مني فيقول: أرسلوا عبدي. وإن الرجل ليجر إلى النار فيقول: يارب ما كان هذا الظن بك؟ فيقول: ما كان ظنك؟ فيقول: أن تسعني رحمتك قال: فيقول أرسلوا عبدي. وإن الرجل ليجر إلى النار فتشهق إليه النار شهوق البغلة إلى الشعير وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف (1) . ذكره ابن كثير وصحح إسناده (2) .
وأبو يحيى هو القتات معروف بالرواية عن مجاهد بن جبر وبرواية إسرائيل ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي عنه (3) . وقد تُكلم فيه وعنده مناكير كثيرة.
كما تُكلم في رواية إسرائيل عن أبي يحيى القتات بسبب أبي يحيى. قال الحافظ ابن حجر قال الأثرم عن أحمد: روى إسرائيل عن أبي يحيى القتات أحاديث مناكير جدا كثيرة، وأما حديث سفيان عنه فمقارب. فقلت لأحمد: فهذا من قبيل إسرائيل؟ قال: أي شيء أقدر أقول لإسرائيل مسكين من أين يجيء بهذه هو وحديثه عن غيره، أي أنه قد روى عن غير أبي يحيى فلم يجيء بمناكير. وقال علي بن المديني: قيل ليحيى بن سعيد: إن إسرائيل روى عن أبي يحيى القتات ثلاثمائة وعن إبراهيم بن مهاجر ثلاثمائة. فقال: لم يؤت منه أتي منهما جميعا.
يعني: من أبي يحيى ومن إبراهيم (4) .
_________
(1) التفسير 18/187.
(2) التفسير 3/311 ط. المعرفة.
(3) تهذيب الكمال ل 1658.
(4) انظر ترجمته في المصدر السابق وتهذيب التهذيب 12/277، 278.(1/61)
وبهذا يتضح أن الإسناد ضعيف من أجل أبي يحيى القتات.
هذا بالنسبة لما لم يثبت سنده، وأما مثال ما لم يثبت متنه فكما يلي:
أولا:
قال البيهقي في (الأسماء والصفات) : حدثنا أحمد بن يعقوب، حدثنا عبيد بن غنام النخعي، أخبرنا علي بن حكيم، حدثنا شريك عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس أنه قال (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنّ) (1) قال سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم وآدم كآدم ونوح كنوح وإبراهيم كإبراهيم وعيسى كعيسى.
ذكره ابن كثير ثم قال: ثم رواه البيهقي من حديث شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحى عن ابن عباس في قول الله عز وجل (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنّ) قال في كل أرض نحو إبراهيم عليه السلام ثم قال البيهقي إسناد هذا عن ابن عباس صحيح وهو شاذ بمرة لا أعلم لأبي الضحى عليه متابعا والله أعلم (2) .
ثانيا:
قال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا يحيى بن أبي بكير حدثنا زهير بن محمد عن موسى بن جبير عن نافع مولى عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر أنه سمع نبي الله صلي الله عليه وسلم يقول: إن آدم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أهبطه الله تعالى إلى الأرض قالت الملائكة: أي رب، أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ قال: إني أعلم ما لا تعلمون، قالوا: ربنا نحن أطوع لك من بني آدم، قال الله تعالى للملائكة: هلموا ملكين من الملائكة حتى يهبط بهما إلى الأرض فننظر كيف يعملان قالوا: ربنا هاروت وماروت فاهبطا إلى الأرض ومُثلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر فجاءتهما فسألاها نفسها، فقالت: لا والله حتى تكلما بهذه الكلمة من الإشراك فقالا: والله لا نشرك بالله أبدا، فذهبت عنهما ثم
_________
(1) الطلاق آية 12.
(2) انظر تفسير ابن كثير 4/385 ط. المعرفة.(1/62)
رجعت بصبي تحمله فسألاها نفسها فقالت: لا والله حتى تقتلا هذا الصبي فقالا: والله لا نقتله أبدا فذهبت ثم رجعت بقدح خمر تحمله فسألاها نفسها. فقالت: لا والله حتى تشربا هذا الخمر فشربا فسكرا فوقعا عليها وقتلا الصبي فلما أفاقا قالت المرأة: والله ما تركتما شيئا مما أبيتماه علي إلا قد فعلتما حين سكرتما فخُيرا بين عذاب الدنيا والآخرة فاختارا عذاب الدنيا (1) .
وحسنه الحافظ ابن حجر (2) .
ولكن هذه الرواية ثبتت من طريق عبد الله بن عمر عن كعب الأحبار وذلك فيما رواه عبد الرزاق عن الثوري عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر عن كعب بنحوه مختصرا (3) . فهي من الإسرائيليات ومتنها يخالف النقل والعقل لما ثبت في الأحاديث الصحيحة في عصمة الملائكة.
والأمثلة كثيرة جدا في الروايات المعلولة سندا ومتنا أو كليهما، واكتفيت بنماذج منها.
وأما منهجي في الاختصار فهو كالتالي:
(1) نظرا لسهولة الرجوع إلى المصادر في التفسير لترتيبها حسب السور والآيات ولعدم إطالة الحواشي، فقد اكتفيت بذكر المصدر دون ذكر الصفحة والجزء للاختصار حيث رأيت أن الكتاب سيتضخم حجمه، وأما المصادر الأخرى فأوردها بعد الرواية مباشرة وأذكر أسماءها مع الجزء والصفحة، والباب والكتاب إن تعددت الطبعات، وجعلت حروفها صغيرة متميزة وكذا أقوال النقاد في الحكم على الروايات للاختصار.
وهذا المنهج في كل التفسير إلا سورة الفاتحة فذكرناها بحواشيها لكثرة الإحالة إلى غير كتب التفسير وفيها يتبين سبب اختصار الحواشي إذ أن
_________
(1) المسند 6178.
(2) انظر فتح الباري (10/225) .
(3) تفسير عبد الرزاق ص 43.(1/63)
الحواشي تأخذ مساحة كبيرة من التفسير وانظر للمزيد في مجلة الجامعة الإسلامية الأعداد ذوات الأرقام 101، 102 و105، 106 و107 ففيها الحواشي لتفسير الجزء الأول من القرآن الكريم.
(2) اختصار الكلام عن رجال السند وخصوصا إذا تقدم البحث عنهم في تحقيقي لتفسير سورتي آل عمران والنساء من تفسير ابن أبي حاتم. ومن هذا الاختصار سند ابن أبي حاتم إلى السدي وسنده إلى مقاتل بن حيان. وأضيف هنا أن ما يرويه مقاتل بن حيان في التفسير فهو عن مجاهد والحسن البصري والضحاك. رواه الشافعي عن معاذ بن موسى عن بكير بن معروف عن مقاتل ابن حيان. (1)
(3) الاكتفاء بتفسير الطبري أو ابن أبي حاتم أو بكليهما في كثير من الأحيان لشمولهما ولاختصار تعدد المصادر.
(4) في العزو أحيانا تتكرر الكلمة في القرآن الكريم كثيراً جداً، لذا يمكن الرجوع إلى تفسيرها عند أول ورودها فمثلا لفظ (حكيم) تكررت (96) مرة وورد تفسيرها في سورة البقرة عند الآية رقم (32) فلا داعي لتكرار الإحالة لكثرتها. وأما القصص فإنها تتضح من تتماتها في السور الآخرى فإن ورودها في عدة سور يكمل بعضها بعضا. ولهذا يأتي التفسير مبينا للغريب والمبهم وغالبا تجد الإحالة خشية التكرار. والإحالة في بعض الأحيان يكون إلى الآية فقط لأنها مفسِّرة للآية المنشود تفسيرها أو مفسِّرة لبعض أجزاء تلك الآية.
(5) قد لا نجد معاني بعض الكلمات أو المفردات بسبب تقدم معناها في أصل الكلمة أو مشتقاتها فمثلا في قوله تعالي (ذلك كتاب لا ريب فيه) البقرة: 2. تقدم أن معناه لا شك فيه، فيصلح هذا المعنى لبيان الريب في خمسة وعشرين موطنا كما في قوله تعالى:
قوله تعالى (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا) البقرة: 23.
قوله تعالى (ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه) آل عمران: 9.
_________
(1) أحكام القرآن 2/148.(1/64)
قوله تعالى (فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه) آل عمران: 25.
قوله تعالى (الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلي يوم القيامة لا ريب فيه) النساء: 87.
قوله تعالى (كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه) الأنعام: 12.
قوله تعالى (كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب) غافر: 34.
قوله تعالى (إذاً لارتاب المبطلون) العنكبوت: 48.
قوله تعالى (وارتابت قلوبهم) التوبة: 45.
وكذا في سورة الإسراء 99، والكهف 21، والحج 5 و7، والسجدة 2، والشورى 7، والجاثية 26 و32، والتوبة 110. وسورة النور 50، والمائدة 106، والحديد 14، والطلاق 4، والبقرة 282، والمدثر 31، والحجرات 15.
وكذلك قوله تعالى (يوم الدين) ورد في سورة الحجر 35، والشعراء 82، والصافات 20، وص 78، والذاريات 12، والواقعة 56، والمعارج 26، والانفطار 15 و17 و18، المطففين 11. فقد تقدم معناه في سورة الفاتحة أنه يوم الحساب.
(6) وفي بعض الأحيان يتكرر اللفظ لكن المعنى لا يكون متفقاً وذلك حسب السياق كما في قوله (الصراط المستقيم) ، فكل ما ورد في القرآن الكريم من (الصراط المستقيم) هو الإسلام كما في سورة الفاتحة إلا في موضعين، في سورة الأعراف 86، والصافات 23.
(7) بعض الكلمات تتكرر كثيرا فاختصارها كما يلي:
كتاب: ك.
باب: ب.
مخطوط: خ.
لوحة: ل.(1/65)
(8) بالنسبة لأرقام الآيات وأسماء السور فقد اختصرتها في كل صفحة إذ فيها اسم السورة ورقم الآية المفسرة.
(9) إن بعض الآيات واضحة لا تحتاج إلى تفسير، لذا لم يذكر المفسرون من الصحابة والتابعين تفسيرهن. وكذا آيات الصفات لله عز وجل. وقد سلكنا المنهج نفسه في الحالتين.
وأخيرا أشكر الأخوة الأفاضل الذين شاركوا معي في جمع وتخريج (مرويات الإمام أحمد في التفسير) و (مرويات الإمام مالك في التفسير) و (مرويات الإمام الدارمي في التفسير) و (مرويات الإمام ابن ماجة في التفسير) و (مرويات التفسير النبوي) (1) وهؤلاء هم: د. عبد الغفور عبد الخالق البلوشي، والشيخ محمد بن رزق بن طرهوني، والباحث محمد أحمد البزرة، والشيخ محمد إبراهيم السامرائي، ود. جمال محمد السيد، ود. أبو محمد بن عبد الغني الدمنهوري. وقد انتخبت من هذه المصادر بعض الأحاديث المرفوعة الصحيحة والحسنة.
كما أشكر الأخ الفاضل المهندس محمد سامي فرج على مساعدته في برمجة تحويل التفسير المدخل على جهاز الحاسوب (MACINTOSH) إلي جهاز (IBM) وقد نفذها ابني أحمد فلهما جزيل الشكر وكذا للأخ نزار سليم كيخيا على مشاركته في التنسيق والإدخال والإخراج بالحاسوب.
كما أقدم الشكر الجزيل لزوجتي أم أحمد التي هيأت أسباب الهدوء للبحث والدراسة ولأولادي الذين ساعدوني في المشاركة لإدخال المعلومات ونسخ النصوص بآلة التصوير وهم: أحمد وأم الحسن وأم عبد الله وأم معاذ وعمر وبشير وعبد الرحمن.
والحمد لله رب العالمين.
كتبه
حكمت بن بشير بن ياسين
قباء - المدينة المنورة
_________
(1) وسيتم إصداره بعد الانتهاء من التفسير الصحيح إن شاء الله.(1/66)
الاستعاذة
فضائلها وحكمها
من فضائل الاستعاذة أنها تدفع الوسوسة كما في قوله تعالى: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (1) فأمر الله تعالى أن يدفع الوسوسة بالالتجاء إليه والاستعاذة به.
ومن فضائلها أنها تُذهب الغضب، روى الشيخان في صحيحيهما عن سليمان بن صُرَد رضي الله عنه قال: "استب رجلان عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فغضب أحدهما فاشتد غضبه حتى انتفخ وجهه وتغير، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الذي يجد، فانطلق إليه الرجل فأخبره بقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: تعوذ بالله من الشيطان. فقال أترى بي بأس، أمجنون أنا؟ اذهب" (2) .
واللفظ للبخاري.
وقد أمر الله تعالى بالاستعاذة عند أول كل قراءة للقرآن الكريم فقال تعالى (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (3) .
وهذا الأمر على الندب ولا يأثم تاركها وهو قول جمهور أهل العلم (4) .
والمراد من الشيطان: شياطين الإنس والجن. قال تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) (5) .
_________
(1) الأعراف آية 200، وفصلت آية 36.
(2) انظر (فتح الباري رقم 6048 - الأدب، باب ما ينهى عن السباب واللعن) (وصحيح مسلم رقم 2610 - البر والصلة والآداب، باب فضل من يملك نفسه عند الغضب) .
(3) النحل آية 98.
(4) انظر تفسير القرطبي 1/86 وتفسير ابن كثير 1/32.
(5) الأنعام آية 112.(1/67)
وروى الإمام أحمد عن يزيد، أنا المسعودي، عن أبي عمرو الشامي، عن عبيد بن الخشخاش، عن أبي ذر قال: أتيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في المسجد فجلست إليه فقال: يا أبا ذر هل صليت؟ قلت: لا. قال: قم فصلَّ. قال: فقمت فصليت ثم أتيته فجلست إليه، فقال لي: يا أبا ذر استعذ بالله من شر شياطين الإِنس والجن. قال: قلت: يا رسول الله وهل للإنس من شياطين؟ قال: نعم ... الحديث (1) .
وقد صحح الألباني هذا الحديث بعد أن ذكر جزءا منه (2) . ويشهد لبعضه الآية المتقدمة. وذكره ابن كثير من عدة طرق ثم قال: ومجموعها يفيد قوته وصحته (3) .
كما تعوذ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الشيطان ومن همزه ونفخه ونفثه. روى الإمام أحمد عن محمد بن الحسن بن أنس، ثنا جعفر يعني: ابن سليمان، عن علي بن علي اليشكري، عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام من الليل واستفتح صلاته وكبر قال: سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، ثم يقول: لا إله إلا الله ثلاثا، ثم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه، ثم يقول: الله أكبر ثلاثا، ثم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه (4) .
_________
(1) المسند 5/179
(2) صحيح الجامع الصغير 6/258.
(3) التفسير 3/312.
(4) المسند 3/50، وأخرجه الإمام أحمد من حديث عائشة (المسند 6/156) ، ومن حديث عبد الله بن مسعود (المسند 1/403، 404) ومن حديث أبي أمامة الباهلي نحوه (المسند 5/253) .(1/68)
وأخرجه أبو داود (1) وابن ماجة (2) من طريق عمرو بن مرة عن عاصم العنزي، عن ابن جبير بن مطعم عن أبيه نحوه.
قال عمرو: همزه: الموته، ونفثه: الشعر، ونفخه: الكبر.
وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة (3) وحسنه مقبل الوادعي في تحقيقه لتفسير ابن كثير (4) .
ونقل القرطبي عن ابن ماجة قال: الموته يعني: الجنون، والنفث: نفخ الرجل من فيه من غير أن يخرج ريقه، والكبر: التيه (5) .
ومعنى الشيطان: قال الطبري: والشيطان في كلام العرب كل متمرد من الجن والإنس والدواب وكل شيء. ثم استشهد بالآية السابقة ثم بالرواية الآتية (6) .
قال ابن وهب: أخبرني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ركب بِرْذَوْنَا فجعل يتبختر به فجعل يضربه فلا يزداد إلا تبخترا فنزل عنه، وقال: ما حملتموني إلا على شيطان ما نزلت عنه حتى أنكرت نفسي. ذكره ابن كثير وصحح إسناده (7) .
ومعنى الرجيم: قال ابن كثير: والرجيم فعيل بمعنى مفعول أي: أنه مرجوم مطرود عن الخير كله كما قال تعالى: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ
_________
(1) السنن - الصلاة - باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء رقم 764.
(2) السنن - إقامة الصلاة - باب الاستعاذة في الصلاة رقم 807.
(3) 1/136 رقم 658.
(4) 1/30.
(5) الجامع لأحكام القرآن 1/87.
(6) التفسير 1/111، وأخرجه الطبري عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب به (التفسير رقم 136) .
(7) التفسير 1/34.(1/69)
وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ) (1) . وقال تعالى: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلأِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ) (2) وقال أيضاً: (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِين) (3) . إلى غير ذلك من الآيات (4) .
البسملة
كيفية قراءتها
أخرج البخاري في صحيحه بإسناده إلى قتادة قال: سئل أنس كيف كانت قراءة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: كانت مدا، ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم ببسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم (5) .
وثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقطع قراءته آية آية ومنها البسملة.
قال أبو داود: حدثنا سعيد بن يحيى الأموي، حدثني أبي، ثنا ابن جريج، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن أم سلمة (أنها) ذكرت، أو كلمة غيرها، قراءة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ،الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) يقطع قراءته آية آية (6) .
_________
(1) الملك آية 5.
(2) الصافات 7-11.
(3) الحجر 16-18.
(4) التفسير 1/34.
(5) انظر فتح الباري - فضائل القرآن - باب مد القراءة رقم 5046.
(6) السنن - الحروف والقراءات رقم 4001.(1/70)
وأخرجه أبو عمرو الداني من طريق أبي عبيد -وهو القاسم بن سلام- عن يحيى بن سعيد به، وأخرجه أيضاً من طريق محمد بن سعدان عن يحيى بن سعيد به وزيادة: (ثم يقف) بعد كل آية، ثم قال: ولهذا الحديث طرق كثيرة وهو أصل في هذا الباب (1) وفي زيادة قوله: ثم يقف بيان لمعنى التقطيع. وقال ابن الجزري: وهو حديث حسن وسنده صحيح (2) .
وأخرجه الحاكم من طريق حفص بن غياث عن ابن جريج به بلفظ: يقطعها حرفا حرفا. وصححه وسكت عنه الذهبي (3) .
فضائلها
أخرج مسلم بسنده عن أبي سعيد أن جبريل أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا محمد! اشتكيت؟ فقال: نعم، قال: بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد، الله يشفيك. باسم الله أرقيك (4) .
قال الإمام أحمد: ثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن عاصم، عن أبي تميمة الهجيمي، عمن كان رديف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: كنت رديفه على حمار فعثر الحمار، فقلت: تعس الشيطان، فقال لي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تقل تعس الشيطان، فإنك إذا قلت تعس الشيطان تعاظم الشيطان في نفسه وقال: صرعته بقوتي، فإذا قلت باسم الله، تصاغرت إليه نفسه حتى يكون أصغر من ذباب (5) .
_________
(1) المكتفى في الوقف والابتداء ص 147.
(2) النشر في القراءات العشر 1/226.
(3) المستدرك 1/232.
(4) الصحيح رقم 2186 - السلام، باب الطب والمرض والرقى.
(5) المسند 5/59.(1/71)
وأخرجه الإمام أحمد من طرق أخرى عن رديف النبي صلى الله عيه وسلم (1) . وذكره ابن كثير وقال: تفرد به أحمد وهو إسناد جيد (2) .
وأخرجه النسائي (3) والحاكم من طريق خالد الحذاء عن أبي تميمة عن رديف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي (4) ، وصححه محقق عمل اليوم والليلة، وصححه أيضاً الشيخ الألباني (5) .
قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب فضائل القرآن: ثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن الليث، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: آية من كتاب الله أغفلها الناس (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) .
ذكره الحافظ ابن كثير ثم قال: إسناده جيد (6) . وذكره الحافظ ابن حجر وحسنه ثم قال: أخرجه ابن مردويه عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن ناجيه عن خلاد بن أسلم ... وليث هو ابن أبي سليم فيه مقال لكن الأثر يعتضد بما تقدم (7) .
وقد روى عن مجاهد: جعفر بن إياس بن أبي وحشية وتقدم ذكره عند طريق أبي بشر جعفر بن إياس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.
_________
(1) المسند 5/71، 365.
(2) التفسير 1/38، والبداية والنهاية 1/60.
(3) عمل اليوم والليلة رقم 554.
(4) المستدرك 4/292.
(5) صحيح الجامع الصغير 6/169.
(6) تحفة الطالب بمعرفة أحاديث مختصر ابن الحاجب ص 114.
(7) موافقة الخُبُر الخَبَر ص 76.(1/72)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)
نزولها
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد وأحمد بن محمد المروزي وابن السرح، قالوا: ثنا سفيان، عن عمرو، عن سعيد بن جبير، قال قتيبة (فيه) : عن ابن عباس، قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يعرف فصل السورة حتى تنزل عليه (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) .
وهذا لفظ ابن السرح (1) . وصححه ابن كثير (2) .
وأخرجه الواحدي، (3) والحاكم من طريق سفيان بن عيينة به وصححه، وقال الذهبي: أما هذا فثابت (4) .
وأخرجه البزار من طريق سفيان بن عيينة به (5) . قال الهيثمي: رواه البزار بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح (6) والإسناد على شرط الشيخين.
تفسيرها
قوله تعالى (باسم الله)
قال التجيبي مختصر تفسير الطبري (بسم الله) بمعنى: بذكر الله وتسميته أبدأُ وأقرأُ (7) .
_________
(1) السنن رقم 788 - الصلاة، باب من جهر بها -أي البسملة-.
(2) التفسير 1/34.
(3) أسباب النزول ص 15.
(4) المستدرك 1/231.
(5) كشف الأستار 3/40.
(6) مجمع الزوائد 2/109، 6/310.
(7) مختصر تفسير الطبري ص 1.(1/73)
قوله تعالى (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)
أخرج الشيخان بإسنادهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لما خلق الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش أن رحمتي تغلب غضبي". وفي رواية لمسلم: "إن رحمتي سبقت غضبي" (1) . واللفظان لمسلم. وأخرج مسلم أيضاً بإسناده عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أن لله مائة رحمة، أنزل منها واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحوش على ولدها، وأخَّرَ الله تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة" (2) . وأخرجه البخاري بنحوه وزيادة قوله: "حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه" (3) .
وأخرج مسلم بسنده عن أبي هريرة، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة، ما قنط من جنته أحد" (4) وأخرجه البخاري بنحوه وأطول (5) . والرحمن مشتق من الرحمة، وهو قول الجمهور (6) .
والدليل ما أخرجه أحمد قال: ثنا يزيد بن هارون، أخبرنا هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ أن أباه حدثه أنه دخل على عبد الرحمن بن عوف وهو مريض فقال له عبد الرحمن: وصلتك رحمٌ إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قال الله عز وجل: أنا الرحمن خلقت الرحم
_________
(1) صحيح البخاري رقم 7404 - التوحيد، باب قوله تعالى (ويحذركم الله نفسه) ، وصحيح مسلم
- التوبة - باب في سعة رحمة الله تعالى رقم 2751 وما بعده.
(2) المصدر السابق رقم 19.
(3) الصحيح - الأدب، باب جعل الله الرحمة في مائة جزء رقم 6000 البسملة.
(4) الصحيح - التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى رقم 2755.
(5) الصحيح - الرقاق، باب الرجاء مع الخوف رقم 6469.
(6) انظر تفسير القرطبي 1/104، وتفسير ابن كثير 1/42.(1/74)
وشققت لها من اسمي فمن يصلها أصله، ومن يقطعها أقطعه فأبته، أو قال من يبتها أبته (1) .
وأخرجه أيضاً من حديث أبي هريرة بنحوه (2) . وصححه أحمد شاكر والألباني (3) .
وأخرجه الحاكم من طريق يزيد بن هارون به، وسكت عنه هو والذهبي (4) .
وأخرجه أحمد (5) وأبو داود (6) والترمذي (7) والحاكم (8) كلهم من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن ردَّاد الليثي عن عبد الرحمن بن عوف بنحوه.
قال الترمذي: حديث سفيان عن الزهري حديث صحيح. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
والرحمن اسم من أسماء الله التي منع التسمي بها العباد.
كما روى الطبري عن الحسن فقال: حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا حماد بن مسعدة، عن عوف، عن الحسن، قال: "الرحمن" اسم ممنوع (9) . وعوف هو ابن أبي جميلة الأعرابي ثقة وباقي رجاله ثقات أيضاً فالإِسناد صحيح إلى الحسن البصري.
وانظر الروايات عند قوله تعالى في سورة الفاتحة: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيم) .
_________
(1) المسند رقم 1659.
(2) المسند 2/498.
(3) صحيح الجامع الصغير 4/115 والمسند رقم 1659.
(4) المستدرك 4/157.
(5) المسند رقم 1686.
(6) السنن - الزكاة - باب في صلة الرحم رقم 1694.
(7) السنن - البر والصلة - باب ما جاء في قطيعة الرحم رقم 1907.
(8) المستدرك 4/157، 158.
(9) التفسير الصحيح رقم 150.(1/75)
سورة الفاتحة
فضائلها
أخرج مسلم بسنده عن ابن عباس، قال: بينما جبريل قاعد عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. سمع نقيضا من فوقه. فرفع رأسه، فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم، لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم. فسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك. فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته (1) .
وأخرج البخاري بسنده عن أبي سعيد بن المعلى قال مر بي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا أصلي فدعاني فلم آته حتى صليت، ثم أتيت فقال: ما منعك أن تأتي، فقلت: كنت أصلي، فقال: ألم يقل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُول، ثم قال: ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد فذهب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليخرج من المسجد فذكَّرته فقال: الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته (2) .
وأخرج البخاري بسنده عن أبي سعيد الخدري قال: كنا في مسير لنا، فنزلنا فجاءت جارية فقالت: إن سيد الحي سليم وإن نفرنا غيب فهل منكم راق؟ فقام معها رجل ما كنا نأبِنُهُ برقية، فرقاه فبرأ، فأمر له بثلاثين شاة وسقانا لبنا فلما رجع قلنا له أكنت تحسن رقية أوكنت ترقي؟ قال: لا ما رقيت إلا بأم الكتاب، قلنا: لا تحدثوا شيئا حتى نأتي أو نسأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: وما كان يدريه أنها رقية اقسموا واضربوا لي بسهم (3) .
_________
(1) الصحيح - صلاة المسافرين، باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة رقم 806.
(2) الصحيح 8/381 رقم 4703 - التفسير - سورة الحج، باب فضل ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم، وفي رقم 5006 - ك فضائل القرآن - باب فضل فاتحة الكتاب.
(3) الصحيح - فصائل القرآن - باب فضل الفاتحة رقم 5007.(1/76)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
(الحمد لله)
فضائلها
روى مسلم في صحيحه بإسناده عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن (أو تملأ) ما بين السماوات والأرض ... الحديث (1) .
قال الترمذي: حدثنا يحيى بن حبيب بن عربي، حدثنا موسى بن إبراهيم ابن كثير الأنصاري، قال: سمعت طلحة بن خراش قال: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله.
ثم قال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث موسى بن إبراهيم وقد روى علي بن المديني وغير واحد عن موسى بن إبراهيم هذا الحديث (2) ، وأخرجه ابن ماجة (3) وصححه الألباني (4) ،وأخرجه ابن أبي الدنيا (5) والخرائطي (6) وابن حبان (7) كلهم من طريق موسى بن إبراهيم بن كثير به، والحديث السابق الصحيح شاهد له.
قال أبو داود: حدثنا أبو توبة، قال: زعم الوليد، عن الأوزاعي، عن قرة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم".
_________
(1) كتاب الطهارة - باب فضل الوضوء رقم 322.
(2) السنن - الدعاء - باب ما جاء أن دعوة المسلم مستجابة رقم 3383.
(3) السنن - الأدب - باب فضل الحامدين رقم 3800.
(4) صحيح سنن ابن ماجة 2/319 رقم 3065 وسلسلة الأحاديث الصحيحة رقم 1497.
(5) الشكر ص 21.
(6) فضيلة الشكر لله على نعمه ص 35.
(7) موارد الظمآن رقم 2326.(1/77)
قال أبو داود: رواه يونس وعقيل وشعيب وسعيد بن عبد العزيز عن الزهري عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرسلا (1) .
وأخرجه ابن أبي شيبة (2) ، والنسائي (3) ، وابن ماجة (4) ، وابن حبان (5) ، والدارقطني (6) ، والبيهقي (7) كلهم من طريق قرة به نحوه.
وقال الدارقطني: تفرد به قرة عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وأرسله غيره عن الزهري عن النبي صلى لله عليه وسلم، وقرة ليس بقوي في الحديث، ورواه صدقة عن محمد بن سعيد عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يصح الحديث، وصدقة ومحمد بن سعيد ضعيفان والمرسل هو الصواب (8) وكذا ضعفه الألباني (9) . وحسنه النووي ثم قال: وقد روي موصولا كما ذكرنا وروي مرسلا ورواية الموصول جيدة الإسناد وإذا روي الحديث موصولا ومرسلا، فالحكم للاتصال عند جمهور العلماء لأنها زيادة ثقة وهي مقبولة عند الجماهير (10) . وحسنه ابن الصلاح والعراقي وابن حجر (11) ، والسبكي وذكر تخريج البغوي وابن الصلاح من طريق
_________
(1) السنن - الأدب - باب الهدي في الكلام رقم 4840.
(2) المصنف - الأدب - باب ما قالوا فيما يستحب أن يبدأ به الكلام 9/115 رقم 6734.
(3) عمل اليوم والليلة رقم 494.
(4) السنن - النكاح - باب خطبة النكاح رقم 1984.
(5) الإِحسان بترتيب صحيح ابن حبان 1/102 وموارد الظمآن رقم 578 و1993.
(6) السنن - الصلاة 1/229.
(7) السنن الكبرى 3/209 وشعب الإِيمان كما ذكره الزيلعي في تخريجه لأحاديث الكشاف ل 2.
(8) السنن - الصلاة 1/229.
(9) ضعيف الجامع الصغير 4/147.
(10) الأذكار ص 94.
(11) انظر الفتوحات الربانية على الأذكار النبوية 3/288، 6/63.(1/78)
الأوزاعي عن قرة به (1) ، وحسنه السيوطي (2) . والعجلوني وقال: ألَّف فيه السخاوي جزءاً (3) .
قوله تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ)
قال الشيخ المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: لم يذكر لحمده هنا ظرفا مكانيا ولا زمانيا. وذكر في سورة الروم أن من ظروفه المكانية: السماوات والأرض في قوله (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض) الآية (4) وذكر في سورة القصص أن من ظروفه الزمانية: الدنيا والآخرة في قوله: (َهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَة) الآية (5) . وقال في أول سورة سبأ (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (6) (7) .
قال الطبري: حدثنا علي بن الحسن الخراز، قال: حدثنا مسلم بن عبد الرحمن الجرمي، قال: حدثنا محمد بن مصعب القرقساني، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن الأسود بن سريع: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ليس شيء أحب إليه الحمد، من الله تعالى، ولذلك أثنى على نفسه فقال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) .
ورجاله ثقات إلا مبارك بن فضالة صدوق، والإسناد حسن. ورواية الحسن البصري عن الأسود بن سريع قيل إنها منقطعة (8) . ولكن صرح الحسن
_________
(1) طبقات الشافعية الكبرى 1/6، 7، 12، 15.
(2) الجامع الصغير بشرح الفيض القدير 5/13.
(3) كشف الخفاء 2/119.
(4) الروم 18.
(5) القصص 70.
(6) سبأ 1.
(7) أضواء البيان 1/101.
(8) المراسيل لابن أبي حاتم ص 93.(1/79)
البصري بالسماع فيما نقله الضياء المقدسي (1) . وقرر ذلك الإمام البيقهي (2) . إضافة إلى ذلك أنه على شرط أرباب الصحاح كابن حبان (3) ، والحاكم ووافقه الذهبي (4) ، والضياء كما تقدم. وقد صححه الأستاذ أحمد شاكر في تحقيقه لتفسير الطبري (5) .
قال الطبري: حدثنا يونس بن عبد الأعلى الصدفي، قال: أنبأنا ابن وهب، قال حدثني عمر بن محمد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه قال: أخبرني السلولي عن كعب، قال: من قال "الحمد لله" فذلك ثناء على الله (6) .
أخرجه ابن أبي حاتم من طريق وهيب عن سهيل بن أبي صالح به (7) . ورجال إسناد الطبري ثقات إلا سهيل بن أبي صالح.
قال الحافظ ابن حجر: صدوق تغير حفظه بآخره روى له الجماعة، ورواية البخاري له مقرونا وتعليقا (8) . وقد تُكلم في روايته عن أبيه وأجاب عن ذلك محمد بن طاهر المقدسي، بأن سماعه من أبيه صحيح (9) . وعلى هذا فالإسناد حسن إلى كعب. وقد رجح ابن كثير هذا التفسير (10) .
_________
(1) المختارة 4/742.
(2) السنن الكبرى 9/77.
(3) الإحسان 1/171 ح 231.
(4) المستدرك 3/416.
(5) 1/731.
(6) التفسير رقم 153.
(7) التفسير رقم 10.
(8) التقريب ص 259.
(9) شروط الأئمة الستة ص 12.
(10) التفسير 1/37.(1/80)
قوله تعالى (رَبِّ الْعَالَمِينَ)
أي رب السماوات السبع والأرضين ومن فيهن وما بينهن حيث بين الله تعالى ذلك عندما ذكر مناظرة فرعون لموسى فقال تعالى (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) (1) .
وأخرج الطبري عن بشر بن معاذ العقدي قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) قال: كل صنف عالم (2) .
وإسناده حسن.
قوله تعالى (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)
قال ابن كثير: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة ورحمن أشد مبالغة من رحيم.
أخرج مسلم بإسناده عن أبي هريرة مرفوعا في الحديث القدسي: "قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين. ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين. قال الله تعالى: حمدني عبدي ... وإذا قال: الرحمن الرحيم. قال الله تعالى: أثنى علي عبدي ... الحديث (3) .
وقد تقدم في البسملة ذكر بعض الروايات التي تتعلق ببيان قوله تعالى: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) .
وقد بين الله تعالى سعة رحمته فقال: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) (4) .
_________
(1) الشعراء آية 23.
(2) التفسير رقم (163) .
(3) الصحيح - الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة رقم 395. وقد قطعت هذا الحديث حسب موافقته لآيات سورة الفاتحة كصنيع ابن أبي حاتم الرازي في تفسيره.
(4) الأعراف 156.(1/81)
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
قوله تعالى (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)
بين الله عز وجل يوم الدين بأنه يوم الحساب كما في قوله تعالى (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (1) .
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبيه قال: ثنا محمود بن غيلان، ثنا سفيان بن عيينة، عن حميد الأعرج في قول الله: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قال: يوم الجزاء (2) .
ورجاله ثقات إلا الأعرج: لا بأس به وهو المفسر فإسناده صحيح إليه.
وروى البخاري عند تفسير هذه الآية معلقاً عن مجاهد: بالدين: بالحساب، مدينيين: محاسبين (3) .ووصله عبد بن حميد من طريق أبي نعيم عن سفيان عن منصور عن مجاهد في قوله تعالى: (بِالدِّينِ) قال: بالحساب.
وقوله محاسبين، وصله أيضاً عبد بن حميد من طريق شبابة، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد به (4) . وكلا الإسنادين صحيحان.
أخرج مسلم بإسناده عن أبي هريرة مرفوعا في الحديث القدسي المتقدم وفيه أنه قال. وإذا قال: مالك يوم الدين. قال: مجدني عبدي (وقال مرة: فوض إلي عبدي) (5) .
وأخرج الشيخان عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أخنع اسم عند الله يوم القيامة رجل تسمى بملك الأملاك" (6) .
_________
(1) الانفطار 17 - 19.
(2) التفسير 1/157 رقم 26.
(3) التفسير- سورة الفاتحة، الفتح 8/156.
(4) انظر تغليق التعليق 4/171.
(5) الصحيح - الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة رقم 395.
(6) فتح الباري - الأدب، باب أبغض إلى الله رقم 6205، وصحيح مسلم - الآداب، باب تحريم التسمي بملك الأملاك رقم 2143.(1/82)
قال الإمام أحمد: سألت أبا عمرو الشيباني عن أخنع اسم عند الله؟ فقال: أوضع اسم عند الله (1) . وذكر ابن كثير حديث الشيخين في التفسير (2) . وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل، ثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، قال معمر: وربما ذكر ابن المسيب، قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر وعمر وعثمان يقرؤن (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وأول من قرأها (ملك يوم الدين) مروان، قال أبو داود: هذا أصح من حديث الزهري عن أنس، والزهري عن سالم عن أبيه (3) .
أخرجه ابن أبي داود من طريق أبي المطرف عن الزهري به، دون ذكر ابن المسيب (4) . وذكر والترمذي أن عبد الرزاق رواه عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب مرفوعا به (5) .
وأخرجه حفص بن عمر الدوري من طريق سليمان التيمي عن الزهري عن سعيد بن المسيب والبراء بن عازب مرفوعا به دون ذكر عثمان (6) .
وهذه القراءة ثابتة قرأ بها عاصم والكسائي (7) . وقد ذكر هذا الحديث ابن كثير من رواية ابن أبي داود ثم قال: مروان عنده علم بصحة ما قرأه لم يطلع عليه ابن شهاب (8) .
_________
(1) المسند رقم 7325.
(2) 1/51. سقطت هذه الرواية من طبعة الشعب لتفسير ابن كثير.
(3) السنن - الحروف والقراءات رقم 4000.
(4) المصاحف ص 93.
(5) السنن - القراءات، باب في فاتحة الكتاب 5/186.
(6) جزء من قراءات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رقم (1) بتحقيقي.
(7) انظر التيسير ص 18 والإِقناع ص 595.
(8) التفسير 1/40.(1/83)
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
قوله تعالى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: قوله تعالى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) أشار في هذه الآية الكريمة إلى تحقيق معنى لا إله إلا الله لأن معناها مركب من أمرين: نفي وإثبات. فالنفي: خلع جميع المعبودات غير الله تعالى في جميع أنه العبادات، والإثبات: إفراد رب السماوات والأرض وحده بجميع أنواع العبادات على الوجه المشروع، وقد أشار إلى النفي من الإله إلا الله بتقديم المعمول الذي هو (إياك) ، وقد تقرر في الأصول، في مبحث دليل الخطاب الذي هو مفهوم المخالفة، وفي المعاني في مبحث القصر: أن تقديم المعمول من صيغ الحصر، وأشار إلى الإثبات منها بقوله (نعبد) وقد بين معناها المشار إليه هنا مفصلا في آيات أخر كقوله (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم) الآية (1) . فصرح بالإثبات منها بقوله (اعْبُدُوا رَبَّكُم) وصرح بالنفي منها في آخر الآية الكريمة بقوله: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) . (2) وكقوله (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (3) فصرح بالإثبات بقوله (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ) وبالنفي: بقوله (وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (4) .
وثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وصيته لابن عباس: "وإذا استعنت فاستعن بالله ... ". (5) .
وأخرج مسلم بإسناده عن أبي هريرة مرفوعا في الحديث القدسي المتقدم: فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين. قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل.
_________
(1) البقرة 21.
(2) البقرة 22.
(3) النحل 36.
(4) أضواء البيان 1/103.
(5) انظر سورة البقرة آية (45) .(1/84)
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، ثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة في قوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) قال: يأمركم أن تخلصوا له العبادة، وأن تستعينوه على أمركم (1) .
ورجاله ثقات إلا الحسن وعبد الوهاب فصدوقان وعبد الوهاب هو ابن عطاء الخفاف صدوق ربما أخطأ ومن مدلسي المرتبة الثالثة الذين لا يقبل تدليسهم إلا إذا صرحوا بالسماع ولكن عبد الوهاب معروف بصحبة سعيد بن أبي عروبة وكتب كتبه لأنه كان مستملي سعيد وروايته عن سعيد قديمة قبل الاختلاط (2) . وأما سعيد بن أبي عروبة ثقة ولكنه مدلس إلا أنه من المرتبة الثانية فلا يضر وخصوصا أنه أثبت الناس في قتادة بل قد روى البخاري له في الصحيح في كتاب التفسير عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة (3) . وقد سئل ابن معين: أيما أحب إليك تفسير سعيد عن قتادة أو تفسير شيبان عن قتادة؟ فقال: سعيد (4) . ونقل الذهبي عن أحمد بن حنبل قال: زعموا أن سعيد بن أبي عروبة قال: لم أكتب إلا تفسير قتادة، وذلك أن أبا معشر كتب إليَّ أن اكتبه (5) . فالإسناد حسن إلى قتادة.
وقال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) أي لا نطلب العون إلا منك وحدك، لأن الأمر كله بيدك وحدك لا يملك أحد منه معك مثقال ذرة، وإتيانه بقوله (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) بعد قوله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) فيه إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتوكل إلا على من يستحق العبادة؛ لأن غيره ليس بيده الأمر، وهذا
_________
(1) التفسير 1/158 رقم 29.
(2) انظر تهذيب التهذيب 6/450، 451.
(3) 5/127 باب سورة آل عمران، قوله تعالى (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة) ، وانظر عمدة القاري 17/155.
(4) التاريخ 2/205.
(5) سير أعلام النبلاء 6/417.(1/85)
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
المعنى المشار إليه هنا جاء مبينا واضحا في آيات أخر كقوله (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْه) الآية (1) . وقوله (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْت) الآية. (2) وقوله (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) (3) . وقوله (قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا) (4) . إلى غير ذلك من الآيات (5) .
قوله تعالى (اهْدِنَا)
أي ارشدنا ووفقنا. قال الأدفوي: (هدى) أرشد كما قال جل ثناؤه: (وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ) (6) .
و (هدى) : بيّن. كما قال جل ثناؤه (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ) (7) .
و (هدى) : بمعنى ألهم. كما قال تبارك اسمه (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (8) . أي ألهمه مصلحته وقيل إتيان الأنثى.
و (هدى) : بمعنى دعا. كما قال جل ثناؤه (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) (9) . وأصل هذا كله: أرشد، ويكون (هدى) : بمعنى وفق ومنه (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (10) . لا يوفقهم ولا يشرح للحق والإيمان صدورهم (11) .
وقد علمنا الله تعالى كيفية الهداية إلى الصراط المستقيم بقوله تعالى: (ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم) (12) .
_________
(1) هود 123.
(2) التوبة 129.
(3) المزمل 9.
(4) الملك 29.
(5) أضواء البيان 1/104.
(6) سورة ص 22.
(7) سورة فصلت 17.
(8) سورة طه 50.
(9) سورة الرعد 7.
(10) سورة البقرة 258.
(11) تفسير الأدفوي ص 587-598.
(12) سورة آل عمران 101.(1/86)
قوله تعالى (الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)
وهو: دين الإسلام. وقد بين الله تعالى ذلك في قوله: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (1) . فقد ذكر الله عز وجل أن الصراط المستقيم هو دين إبراهيم كما في الآية الأولى ثم بين أن هذا الدين هو الإسلام كما في الآية الثانية، وقد ثبت هذا التفسير عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال الإمام أحمد: ثنا الحسن بن سوار أبو العلاء، ثنا ليث يعني: ابن سعد، عن معاوية بن صالح أن عبد الرحمن بن جبير حدثه عن أبيه عن النواس ابن سمعان الأنصاري عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فذكر حديثا طويلا والشاهد فيه: والصراط: الإسلام (2) .
وأخرجه الإمام أحمد (3) أيضاً والترمذي (4) وحسنه، والنسائي (5) ، كلهم من طريق خالد بن معدان عن جبير بن نفير به مختصرا، وأخرجه الطبري (6) وابن أبي حاتم (7) والآجري (8) من طريق معاوية ابن صالح عن عبد الرحمن بن جبير به باختصار فذكروا الشاهد نفسه.
_________
(1) الأنعام 161-163.
(2) المسند 4/182.
(3) المسند 4/182.
(4) سنن الترمذي - أبواب الأمثال، رقم 3019.
(5) تفسير النسائي ص 89.
(6) التفسير رقم 187.
(7) التفسير رقم 33.
(8) الشريعة ص 12.(1/87)
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
وذكره ابن كثير ثم قال: وهو إسناد حسن صحيح (1) . وصححه أيضاً السيوطي (2) والألباني (3) . كما ثبت أيضاً عن أبي العالية فيما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن عاصم عن أبي العالية (4) .
وإسناده حسن.
قوله تعالى (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)
والذين أنعم الله عليهم هم: الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون، قال الله تعالى (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً) (5) .
قوله تعالى (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم)
والمغضوب عليهم هم: اليهود. قال الله تعالى فيهم (فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ) (6) . وقال أيضاً: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) (7) .
وثبت ذلك أيضاً عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال الإمام أحمد: ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن بديل العقيلي، أخبرني عبد الله بن شقيق أنه أخبره من سمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو بوادي القرى وهو على فرسه فسأله رجل من بني القين فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من هؤلاء؟ قال: "هؤلاء المغضوب
_________
(1) 1/43.
(2) الجامع الصغير بشرح فيض القدير 4/254.
(3) صحيح الجامع الصغير 4/4.
(4) المصنف 11/367 رقم 20758.
(5) سورة البقرة 90.
(6) سورة المائدة 60، وانظر تفسير الطبري 1/185، وأضواء البيان 1/106.
(7) التفسير رقم 198.(1/88)
عليهم وأشار إلى اليهود. قال: فمن هؤلاء؟ قال: هؤلاء الضالين يعني النصارى، قال وجاءه رجل فقال: استشهد مولاك أو قال غلامك فلان قال: بل يجر إلى النار في عباءة غلَّها (1) . وأخرجه الطبري من طريق عبد الرزاق به وصححه أحمد شاكر (2) ، وذكر ابن كثير رواية ابن مردويه من طريق إبراهيم بن طهمان عن بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن أبي ذر مرفوعا مقتصرا على الشاهد (3) . وذكر الحافظ ابن حجر رواية ابن مردويه وحسن الإسناد (4) . وأخرجه أحمد (5) والترمذي من طريق سماك بن حرب قال: سمعت عباد بن حبيش يحدث عن عدي بن حاتم فذكره مرفوعا ومطولا، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث سماك بن حرب (6) . وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق سماك أيضاً به (7) . ولكن الطبري أخرجه من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن عدي مقتصرا على الشاهد (8) .
قوله تعالى (وَلا الضَّالِّينَ)
والضالون: هم النصارى كما قال تعالى: (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) (9) .
_________
(1) المسند 5/32, 33 و5/77.
(2) التفسير رقم 198.
(3) التفسير 1/46
(4) فتح الباري 8/159.
(5) المسند 4/384، 379.
(6) السنن - التفسير - باب ومن سورة الفاتحة 5/202، 203.
(7) التفسير رقم 41.
(8) التفسير رقم 207.
(9) سورة المائدة 77.(1/89)
وهؤلاء هم النصارى كما صرح بذلك الطبري (1) وابن كثير (2) ، بل قال ابن كثير: وأخص أوصاف النصارى الضلال. وأيضا فإن السياق يدل على أنهم النصارى لأن الآيات التي قبلها صريحة في النصارى قال تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيح ... ) (3) . وقال تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ ... ) (4) . وثبت هذا التفسير عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن المراد بالضالين هم: النصارى. كما تقدم من حديث أبي ذر وعدي بن حاتم، وقال ابن أبي حاتم بعد أن ساق حديث عدي: ولا أعلم بين المفسرين في هذا الحرف اختلافا (5) . وقال أبو الليث السمرقندي: وقد أجمع المفسرون أن المغضوب عليهم أراد به اليهود، والضالين أراد به النصارى (6) .
_________
(1) التفسير 1/487.
(2) التفسير 3/148، 149.
(3) سورة المائدة 72.
(4) سورة المائدة 73.
(5) التفسير 1/163.
(6) بحر العلوم 1/242.(1/90)
ذكر آمين وفضلها
أخرج الشيخان بسنديهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقولوا آمين، فمن وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه (1) .
وأخرج مسلم بسنده عن حطان بن عبد الله الرقاشي، قال: صليت مع أبي موسى الأشعري صلاة، فلما كان عند القعدة قال رجل من القوم: أُقرت (2) الصلاة بالبر والزكاة؟ قال: فلما قضى أبو موسى الصلاة وسلم انصرف، فقال: أيكم القائل كلمة كذا وكذا؟ قال: فأرمَّ القوم (3) ، ثم قال: أيكم القائل كلمة كذا وكذا؟ فأرمَّ القوم فقال: لعلك ياحطان قلتها قال: ما قلتها ولقد رهبت أن تبكعني (4) ، بها فقال رجل من القوم أنا قلتها، ولم أرد بها إلا الخير، فقال أبو موسى: أما تعلمون كيف تقولون في صلاتكم؟ إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطبنا فبين لنا سنتنا وعلمنا صلاتنا، فقال: إذا صليتم فأقيموا صفوفكم، ثم ليؤمكم أحدكم، فإذا كبر فكبروا، وإذا قال: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقولوا: آمين. يجبكم الله.... (5) .
قال الإمام أحمد ثنا علي بن عاصم، عن حصين بن عبد الرحمن، عن عمر بن قيس، عن محمد بن الأشعث، عن عائشة قالت: بينا أنا عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
_________
(1) صحيح البخاري 8/159 رقم 4475 - التفسير، باب غير المغضوب عليهم ولا الضالين وصحيح مسلم رقم 410 - الصلاة، باب التسميع والتحميد والتأمين.
(2) قوله: أُقرت أي قرنت بها وأقرت معهما.
(3) قوله فأرمَّ القوم أي سكتوا ولم يجيبوا.
(4) قوله: ولقد رهبت أن تبكعني بها: أي خفت أن تستقبلني بما أكره. قال ابن الأثير: البكع نحو التقريع، وفسره النووي بالتبكيت والتوبيخ. ا. هـ. وهذه المعاني أفدتها من حاشية صحيح مسلم.
(5) الصحيح - الصلاة - باب التشهد في الصلاة رقم 404.(1/91)
إذ استأذن رجل من اليهود، فأذن له فقال: السام عليك، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وعليك. قالت: فهممت أن أتكلم، قالت: ثم دخل الثانية فقال مثل ذلك، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وعليك. قالت: ثم دخل الثالثة فقال: السام عليك، قالت: بل السام عليكم وغضب الله إخوان القردة والخنازير، أتحيون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما لم يحيه به الله؟ قالت: فنظر إليَّ فقال: مه إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش، قالوا قولا فرددناه عليهم فلم يضرنا شيئا ولزمهم إلى يوم القيامة إنه لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها وعلى قولنا خلف الإمام آمين (1) .
أخرجه ابن ماجة من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن عائشة مرفوعا مقتصرا على الشاهد بلفظ: "ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين" (2) .
وصحح المنذري (3) والبوصيري (4) إسناد ابن ماجة، وذكر المنذري أن الطبراني رواه في المعجم الأوسط بإسناد حسن وصححه مغلطاي (5) ، والألباني (6) .
وكلمة آمين ليست من القرآن الكريم.
_________
(1) المسند 6/134، 135.
(2) السنن رقم 856 - إقامة الصلاة - باب الجهر بآمين.
(3) الترغيب والترهيب 1/328 - الصلاة، باب الترغيب في التأمين خلف الإمام.
(4) مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجة 1/106.
(5) انظر فيض القدير شرح الجامع الصغير 5/440-441.
(6) صحيح سنن ابن ماجه ح 697(1/92)
سورة البقرة
فضائلها
أخرج مسلم بسنده عن معاوية (يعني: ابن سلام) عن زيد، أنه سمع أبا سلام يقول: حدثني أبو أمامة الباهلي، قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "اقرأوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، اقرأوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيابتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف، تحاجان عن أصحابهما، اقرأوا سورة البقرة. فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة"، وقال معاوية: بلغني أن البطلة السحرة.
(الصحيح - صلاة المسافرين - رقم 804، ب قراءة القرآن وسورة البقرة) .
وأخرج أيضاً بإسناده عن أبي هريرة، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر. إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة".
(الصحيح - صلاة المسافرين - رقم 780، ب استحباب صلاة النافلة) .
وأخرج الشيخان بسنديهما عن أسيد بن حضير قال: بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوط عنده إذ جالت الفرس فسكت فسكنت، فقرأ فجالت الفرس، فسكت وسكت الفرس، ثم قرأ فجالت الفرس فانصرف وكان ابنه يحيى قريبا منها فأشفق أن تصيبه فلما اجتَّره رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها، فلما أصبح حدّث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: اقرأ يا ابن حضير، اقرأ يا ابن حضير، قال فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى، وكان منها قريبا، فرفعت رأسي فانصرفت إليه، فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها، قال وتدري ما ذاك؟ قال: لا، قال: تلك الملائكة دنت لصوتك. ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها، لا تتوارى منهم(1/93)
الم (1)
((صحيح البخاري 9/93 ح 5018 - فضائل القرآن - ب نزول السكينة والملائكة) ، و (صحيح مسلم رقم 796 - صلاة المسافرين، ب نزول السكينة لقراءة القرآن) . واللفظ للبخاري) .
وقال الإمام أحمد: ثنا سليمان بن داود، قال: أخبرنا حسين قال: ثنا إسماعيل بن جعفر، قال: أخبرني عمرو بن حبيب بن هند الأسلمي عن عروة، عن عائشة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من أخذ السبع الأول فهو حبر. ((المسند 6/73) ، ذكره الهيثمي ثم قال: رواه أحمد والبزار، ورجال البزار رجال الصحيح غير حبيب بن هند الأسلمي وهو ثقة (مجمع الزوائد 7/162) ، وأخرجه الحاكم من طريق إسماعيل بن جعفر به، وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 1/564) ، وقد خرّج هذا الحديث الشيخ محمد رزق طرهوني تخريجا وافيا وتوصل إلى تصحيحه أيضاً (موسوعة فضائل سور وآيات القرآن 1/124، 125)) .
قوله تعالى (الم)
قال الدارمي: حدثنا أبو عامر قبيصة أنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: تعلموا هذا القرآن، فإنكم تؤجرون بتلاوته بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول بـ (الم) ، ولكن بألف، ولام، وميم بكل حرف عشر حسنات.
((سنن الدارمي 2/429 - ك فضائل القرآن، ب فضل من قرأ القرآن) ، وأخرجه أبو القاسم ابن منده في الرد على من يقول الم حرف (ص 44) من طريق عبد الرزاق عن سفيان به. وقد صححه الألباني في عدة مواضع (انظر السلسلة الصحيحة رقم 660، وصحيح الجامع رقم 6345)) .
وقد توقف في تفسير هذه الآية وغيرها من الحروف المقطعة جمع من العلماء كالخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم وغيرهم من الصحابة والتابعين وأتباعهم، ولم يثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه فسرها، فيستحسن أن نقول: الله أعلم بالمراد منها، ولكن ثبت عن بعض المفسرين من الصحابة والتابعين وأتباعهم أنهم بينوا تفسيرها واختلفوا فيها وأسوق هنا ما ثبت عنهم من الأوجه الآتية:(1/94)
الوجه الأول: أنها قسم أقسم الله به وهو من أسمائه:
وأخرج الطبري: بسنده الحسن من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: هو قسم أقسم الله به، وهو من أسماء الله.
وأخرج الطبري من طريق يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا ابن علية قال حدثنا خالد الحذاء، عن عكرمة قال (الم) قسم.
وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق أبي سعيد الأشج عن ابن علية به
ورجاله ثقات وإسناده صحيح.
الوجه الثاني: أنها فواتح يفتح الله بها القرآن.
قال الطبري: حدثنا أحمد بن حازم الغفاري قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا سفيان عن مجاهد قال: (الم) فواتح.
(ورجاله ثقات إلا أحمد بن حازم الغفاري وهو أبو عمرو الكوفي صاحب المسند ذكره ابن حبان في الثقات وقال: كان متقنا. ت 276 هـ (انظر تذكرة الحفاظ ص 594) . هذا وقد رواه الطبري من طرق أخرى إلى مجاهد، وأبو نعيم هو الفضل بن دكين. فالإِسناد صحيح) .
الوجه الثالث: أنها اسم من أسماء القرآن.
قال عبد الرزاق الصنعاني: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: (الم) قال: اسم من أسماء القرآن.
(ورجاله ثقات وإسناده صحيح، وأخرجه الطبري، وابن أبي حاتم، من طريق الحسن بن يحيى عن عبد الرزاق به) .
الوجه الرابع: أنها اسم من أسماء الله.
قال البيهقي: وأخبرنا أبو الحسين بن بشران، ثنا دعلج بن أحمد، ثنا محمد بن سليمان، حدثنا عبيد الله بن موسى، ثنا إسماعيل بن أبي خالد عن السدي قال: فواتح السور من أسماء الله عز وجل.(1/95)
((الأسماء والصفات ص 120) ، وإسناده صحيح إلى السدي -وهو الكبير- فرجاله ثقات إلى السدي إلا محمد بن سليمان وهو ابن الحارث الباغندي اختلف فيه (انظر لسان الميزان 5/186 وسير أعلام النبلاء 13/386) ، ولكن قد روي من طرق أخرى إلى السدي (انظر تفسير الطبري رقم 233-235)) .
قوله تعالى (ذلِكَ اْلْكِتَابُ)
قال الطبري: حدثني يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا ابن علية قال: أخبرنا خالد الحذاء عن عكرمة قال: (ذَلِكَ الْكِتَابُ) هذا الكتاب
(وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق أبي سعيد الأشج عن ابن علية به. وإسناده صحيح تقدم، وقد روي عن مجاهد والسدي وابن جريج نحوه [. واستناداً على هذه الرواية يكون معنى الكتاب: القرآن لأن الإِشارة إليه، واختصاص ذلك بالإشارة للبعيد حكم عرفي لا وضعي، فإن العرب تعارض بين اسمي الإشارة، فيستعملون كلا منهما مكان الآخر، وهذا معروف في كلامهم، وفي التنزيل من ذلك آيات كثيرة. ومن جرى على أن ذلك إشارة للبعيد يقول: إنما صحت الإشارة بذلك، هنا إلى ما ليس ببعيد، لتعظيم المشار إليه، ذهابا إلى بعد درجته وعلو مرتبته ومنزلته في الهداية والشرف (انظر تفسير القاسمي 1/32-33)) .
قوله تعالى (لا رَيْبَ فِيهِ)
قال عبد الرزاق الصنعاني: أخبرنا معمر عن قتادة (لا رَيْبَ فِيهِ) يقول: لاشك فيه.
((تفسير عبد الرزاق ص 31) ، ورجاله ثقات وإسناده صحيح، وأخرجه الطبري من طريق الحسن بن يحيى عن عبد الرزاق به. قال ابن أبي حاتم الرازي: ولا أعلم في هذا الحرف اختلافا بين المفسرين، منهم: ابن عباس، وسعيد بن جبير، وأبو مالك، ونافع مولى ابن عمر، وعطاء بن أبي رباح، وأبو العالية، والربيع بن أنس وقتادة، ومقاتل بن حيان، والسدي، وإسماعيل بن أبي خالد) .
قوله تعالى (هُدَىً)
قال الطبري: حدثني أحمد بن حازم الغفاري قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن بيان، عن الشعبي: (هُدَىً) قال: هدى من الضلالة.
(وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق أبيه عن أبي نعيم وعيسى بن جعفر عن سفيان، ومن طريق عبد الرزاق عن الثوري به. وسفيان هو الثوري وبيان هو ابن بشر الأحمسي، وأبو نعيم هو الفضل بن دكين. وإسناده صحيح) .(1/96)
ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
قوله تعالى (لِلْمُتَّقِينَ)
قال ابن ماجه: حدثنا هشام بن عمار، ثنا يحيى بن حمزة، ثنا زيد بن واقد، ثنا مغيث بن سمي عن عبد الله بن عمرو، قال: قيل لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أي الناس أفضل؟ قال: كل مخموم القلب، صدوق اللسان، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد.
((السنن رقم 4216 - الزهد، ب الورع والتقوى) . قال البوصيري: هذا إسناد صحيح رواه البيهقي في سننه من هذا الوجه (مصباح الزجاجة 3/299 رقم 1504) . وصححه أيضاً الشيخ الألباني (صحيح سنن ابن ماجة رقم 3397)) .
قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن يحيى أنبأ أبو غسان محمد بن عمرو زنيج، ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال فيما حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد ابن ثابت عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: يقول الله سبحانه وبحمده (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) أي الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى ويرجون رحمته بالتصديق بما جاء منه.
وإسناده حسن تقدم.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن يحيى، ثنا العباس بن الوليد ثنا يزيد بن زريع، حدثني سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في قوله (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) من هم؟ نعتهم الله فأثبت نعتهم ووصفهم.
وإسناده صحيح تقدم.
وقد عدد الله تعالى أصنافا من المتقين في قوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) سورة البقرة آية: 177.(1/97)
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
قوله تعالى (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)
وقال سعيد بن منصور حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد قال كنا عند عبد الله بن مسعود جلوساً فذكرنا أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما سبقونا به فقال عبد الله: إن أمر محمد كان بيّناً لمن رآه والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيماناً أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ: (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) -إلى قوله- (الْمُفْلِحُونَ) .
((انظر تفسير ابن كثير 1/81) . وأخرجه ابن أبي حاتم، وابن مردويه (انظر تفسير ابن كثير 1/81 ق) ، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 2/260) ، وأخرجه الواحدي (الوسيط بين المقبوض والبسيط 1/195) ، كلهم من طريق الأعمش به. وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في (الكافي الشافي ص 4-5 ح 22) ، والبوصيري في (المطالب العالية 3/69)) .
قال الدارمي: أخبرنا أبو المغيرة قال: ثنا الأوزاعي ثنا أسيد بن عبد الرحمن، عن خالد بن دريك، عن ابن محيريز قال: قلت لأبي جمعة رجل من الصحابة: حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: نعم، أحدثك حديثا جيدا، تغدينا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، فقال: يا رسول الله، أحد خير منا؟ أسلمنا وجاهدنا معك، قال: "نعم، قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني".
((سنن الدارمي 2/308 - ك الرقاق، ب في فضل آخر هذه الأمة) ، وأخرجه أحمد في مسنده (4/106) عن أبي المغيرة به، والطبراني في الكبير (4/27، رقم 3538) من طريق أبي المغيرة ويحيى بن عبد الله البابلتي كلاهما عن الأوزاعي به. ورجاله ثقات إلا أنه قد اختلف في إسناده. فأخرجه أحمد في مسنده (4/106) عن أبي المغيرة أيضاً به ولكنه قال: ... حدثني صالح بن محمد قال حدثني أبو جمعة ... فذكر صالح بن محمد بدل عبد الله بن محيريز. وكذا رواه الحاكم في (المستدرك 4/85) من طريق أبي المغيرة بهذا الإسناد فقال: صالح بن محمد. ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأقره الذهبي. وقد ذكر الحافظ في الفتح (7/6) لفظ رواية أبي المغيرة عن الأوزاعي، ثم قال: وإسناده حسن وقد صححه الحاكم) .(1/98)
قال الطبري: حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري قال: حدثنا سفيان، عن عاصم، عن زرِّ قال: (بِالْغَيْب) : القرآن.
(وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق أبي سعيد الأشج عن أبي أحمد الزبيري به. وإسناده حسن. وعاصم هو ابن بهدلة بن أبي النجود معروف بالرواية عن زر بن حبيش وبرواية الثوري وابن عيينة عنه (تهذيب الكمال ل 634)) .
وقال الطبري: حدثنا بشر بن معاذ العقدي، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في قوله (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْب) ، قال: آمنوا بالجنة والنار، والبعث بعد الموت، وبيوم القيامة، وكل هذا غيب.
وإسناده حسن.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، ثنا صفوان، ثنا الوليد، ثنا عثمان بن الأسود، عن عطاء بن أبي رباح في قول الله عز وجل (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْب) فقال: من آمن بالله فقد آمن بالغيب.
((وصفوان هو ابن صالح معروف بالرواية عن الوليد بن مسلم وبرواية أبي زرعة الرازي عنه (انظر تهذيب الكمال ل 609) . ورجاله ثقات وإسناده صحيح) .
وقال أيضاً: حدثنا أبي، ثنا شهاب بن عباد، ثنا إبراهيم بن حميد عن إسماعيل بن أبي خالد (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْب) قال: بغيب الإسلام.
(وإسناده صحيح. وذكر ابن كثير هذه الأقوال ثم قال: فكل هذه متقاربة في معنى واحد لأن جميع هذه المذكورات من الغيب الذي يجب الإيمان به (التفسير 1/81)) .
قال مسلم في صحيحه: حدثني أبو خيثمة زهير بن حرب، حدثنا وكيع عن كهمس، عن عبد الله بن بريدة، عن يحيى بن يعمر، وحدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري، وهذا حديثه: حدثنا أبي. حدثنا كهمس عن ابن بريدة، عن يحيى بن يعمر، قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلا المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي(1/99)
سيكل الكلام إليَّ. فقلت: أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم، وذكر من شأنهم وأنهم يزعمون أن لا قدر. وأن الأمر أنف. قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني. والذي يحلف به عبد الله بن عمر! لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه، ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب، قال: بينما نحن عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر. لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد. حتى جلس إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه. ووضع كفيه على فخذيه. وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا" قال: صدقت، فعجبنا له، يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإِيمان، قال: "أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره" قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإِحسان، قال: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك". قال: فأخبرني عن الساعة قال: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل" قال: فأخبرني عن أمارتها، قال: "أن تلد الأمة ربتها. وأن ترى الحفاة العراة، العالة، رعاء الشاء، يتطاولون في البنيان" قال ثم انطلق، فلبثت مليا، ثم قال لي: "يا عمر! أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "فإنه جبريل، أتاكم يعلمكم دينكم".
((الصحيح ـ ك الإيمان، ب بيان الإيمان والإسلام والإحسان رقم 1) . وأخرجه البغوي من طريق يزيد بن هارون عن كهمس به ثم نقل عن الفراء أنه قال: فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل الإسلام في هذا الحديث اسما لما ظهر من الأعمال، والإيمان اسما لما بطن من الاعتقاد، وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإِيمان، أو التصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد، وجماعها الدين ولذلك قال: "ذلك جبرائيل أتاكم يعلمكم أمر دينكم". ثم ساق حديثا صحيحاً ليدلل على أن الأعمال من الإيمان (معالم التنزيل 1/46)) .(1/100)
قال الطبري: حدثني محمد بن عمرو بن العباس، الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد، قال: حدثنا عيسى بن ميمون المكي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: أربع آيات من سورة البقرة في نعت المؤمنين وآيتان في نعت الكافرين وثلاث عشرة في المنافقين.
(ورجاله ثقات وإسناده صحيح تقدم وأخرجه الثوري بلفظه. (تفسير سفيان الثوري ص 41) ، وأخرجه آدم في تفسيره (ص 69) عن ورقاء عن ابن أبي نجيح به، وأخرجه الواحدي (أسباب النزول ص 19) من طريق شبل عن ابن أبي نجيح به) .
قوله تعالى (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن يحيى، أنبأ أبو غسان محمد بن عمرو زنيج، ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال: فيما حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس: يقول الله سبحانه وبحمده (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) يقيمون الصلاة بفرضها.
وإسناده حسن تقدم.
قوله تعالى (وَممَّا رَزَقنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وَممَّا رَزَقنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) عبَّر في هذه الآية الكريمة بمن التبعيضية الدالة على أنه ينفق لوجه الله بعض ماله لا كله، ولم يبين هنا القدر الذي ينبغي إنفاقه، والذي ينبغي إمساكه ولكنه بين في مواضع أخر أن القدر الذي ينبغي إنفاقه: هو الزائد على الحاجة وسد الخلة التي لابد منها، وذلك قوله (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) والمراد بالعفو: الزائد على قدر الحاجة التي لابد منها على أصح التفسيرات، وهو مذهب الجمهور ... وقوله تعالى (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) الإسراء آية: 29، فنهاه عن البخل بقوله: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ) ، ونهاه عن الإسراف بقوله (وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) فيتعين الوسط بين الأمرين، كما بينه بقوله (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) الفرقان آية: 67.(1/101)
وبالإسناد الحسن المتقدم الذي رواه ابن أبي حاتم إلى ابن عباس (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) يؤتون الزكاة احتسابا بها.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن يحيى أنبأ العباس بن الوليد ثنا يزيد بن زريع، ثنا سعيد، عن قتادة (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) فأنفقوا مما أعطاكم الله، فإنما هذه الأموال عواري وودائع عندك يا ابن آدم أوشكت أن تفارقها.
ورجاله ثقات وإسناده صحيح.
وقال الطبري: حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) قال: زكاة أموالهم.
وسنده حسن.
قوله تعالى (وآلَّذِينَ يُؤمِنُونَ بِمَاَ أُنزِلَ إلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ من قَبْلِكَ)
روى الطبري وابن أبي حاتم بالإِسناد المتقدم عن ابن إسحاق ... عن ابن عباس (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) أي يصدقونك بما جئت من الله وما جاء به من قبلك من المرسلين، لا يفرقون بينهم ولا يجحدون بما جاؤهم به من ربهم.
وروى ابن أبي حاتم بالإسناد المتقدم عن قتادة قوله (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) فآمنوا بالفرقان وبالكتب التي قد خلت قبله من التوراة والزبور والإِنجيل.
قوله تعالى (وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)
قال عبد الرحمن بن يزيد بن رستة الحافظ في "كتاب الإيمان": ثنا أبو زهير عبد الرحمن بن مغراء، أخبرنا الأعمش، عن أبي ظبيان ح ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي ظبيان عن علقمة عن عبد الله قال: الصبر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله.(1/102)
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)
(رواه الحافظ ابن حجر بإسناده إلى ابن رستة به، ثم قال: وهذا موقوف صحيح (تغليق التعليق 2/22) ، وصححه العيني (عمدة القاري 1/130) . وأخرجه ابن أبي خيثمة في التاريخ (انظر تغليق التعليق 2/21) ، والحاكم كلاهما من طريق الأعمش به، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي (المستدرك 2/446)) .
روى الطبري وابن أبي حاتم بالإسناد الحسن المتقدم إلى ابن عباس (وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) أي: بالبعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان، أي لا هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما كان قبلك ويكفرون بما جاءك من ربك قوله تعالى (أُولَئِكَ عَلى هُدىً مِن رَّبِهمْ)
روى الطبري وابن أبي حاتم بالإسناد الحسن المتقدم إلى ابن عباس (أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) أي على نور من ربهم، وإستقامة على ما جاءهم.
قوله تعالى (وأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
روى الطبري وابن أبي حاتم بالإسناد الحسن المتقدم إلى ابن عباس: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي الذين أدركوا ما طلبوا، ونجوا من شر ما منه هربوا.
قال ابن أبي حاتم: أخبرنا موسى بن هارون الطوسي فيما كتب إلي ثنا الحسن بن محمد المروذي، ثنا شيبان بن عبد الرحمن، عن قتادة (أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) قال: قوم استحقوا الهدى والفلاح بحق، فأحقه الله لهم، وهذا نعت أهل الإيمان.
قوله تعالى (إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)
أخرج الطبري بسنده عن طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ، قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله جل ثناؤه أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأول.
وإسناده حسن.(1/103)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
وروى الطبري وابن أبي حاتم بالإِسناد الحسن المتقدم عن محمد ابن إسحاق ... عن ابن عباس (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي بما أنزل إليك وإن قالوا: إنا قد آمنا بما جاءنا من قبلك، (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي أنهم قد كَفروا بما عندهم من ذكرك وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق فقد كفروا بما جاءك، وبما عندهم مما جاءهم غيرك، فكيف يسمعون منك إنذاراً وتحذيراً؟ وقد كفروا بما عندهم من علمك.
قوله تعالى (خَتَم الله عَلَى قُلُوبِهِمْ)
أخرج مسلم بسنده عن حذيفة، قال: كنا عند عمر. فقال: أيكم سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يذكر الفتن؟ فقال قوم: نحن سمعناه، فقال: لعلكم تعنون فتنة الرجل في أهله وجاره؟ قالوا: أجل. قال: تلك تكفرها الصلاة والصيام والصدقة. ولكن أيكم سمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يذكر الفتن التي تموج موج البحر؟ قال حذيفة: فأسكت القوم، فقلت: أنا، قال: أنت، لله أبوك! قال حذيفة: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا؟ فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكته بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة مادامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا، كالكوز مُجَخِّيا، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا، إلا ما أشرب من هواه". قال حذيفة: وحدثته، أن بينك وبينها بابا مغلقا يوشك أن يكسر. قال عمر: أكسراً، لا أبالك! فلو أنه فتح لعله كان يعاد. قلت: لا. بل يكسر. وحدثته، أن ذلك الباب رجل يقتل أو يموت. حديثا ليس بالأغاليط. قال أبو خالد: فقلت لسعد: يا أبا مالك! ما أسود مربادا؟ قال: شدة البياض في سواد. قال، قلت: فما الكوز مجخيا؟ قال: منكوسا.
((الصحيح رقم 231 - الإيمان، ب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا) ، وذكره ابن كثير في التفسير مختصرا (1/89) . قوله مربادا: والمربد المولّع بسواد وبياض (ترتيب القاموس المحيط 2/286) .
قوله كالكوز مُجَخِّيا: مائلا (ترتيب القاموس المحيط 1/453)) .(1/104)
خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
قال الإمام أحمد: حدثنا صفوان بن عيسى، أخبرنا محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زادت، حتى يعلو قلبه ذاك الرين الذي ذكر الله عز وجل في القرآن: (كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) .
((المسند رقم 7941) ، أخرجه الترمذي (السنن - التفسير - سورة المطففين رقم 3334) ، وابن ماجة (السنن - الزهد - ب ذكر الذنوب رقم 4244) من طريق محمد بن عجلان به، وقال الترمذي: حسن صحيح، وأخرجه الطبري، والحاكم (المستدرك 2/517) من طريق صفوان بن عيسى به، وصححه الحاكم وسكت عنه الذهبي، وصححه الألباني (صحيح ابن ماجه 2/417) ، وأحمد شاكر (المسند رقم 7941)) .
وقال الطبري: فأخبر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله عز وجل والطبع، فلا يكون للإيمان إليها مسلك، ولا للكفر منها مخلص، فذلك هو الطبع. والختم الذي ذكره الله تبارك وتعالى في قوله: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِم) ، نظير الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف، التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفض ذلك عنها ثم حلها، فكذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم، إلا بعد فضه خاتمه وحله رباطه عنها.
وأخرج الطبري وابن أبي حاتم بإسناديهما عن محمد بن إسحاق بسنده الحسن عن ابن عباس (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) أي عن الهدى أن يصيبوه أبدا بغير ما كذبوك به من الحق الذي جاءك من ربك، حتى يؤمنوا به، وإن آمنوا بكل ما كان قبلك.
وأخرج ابن أبي حاتم بالإسناد الصحيح من طريق شيبان عن قتادة قال: استحوذ عليهم الشيطان إذا أطاعوه فختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة فهم لا يبصرون هدى ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون.(1/105)
قوله تعالى (وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أبْصَارِهِمْ)
قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله: لا يخفى أن الواو في قوله: (وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ) محتملة في الحرفين أن تكون عاطفة على ما قبلها، وأن تكون استئنافية. ولم يبين ذلك هنا، ولكن بين في موضع آخر أن قوله (وَعَلَى سَمْعِهِمْ) معطوف على قوله (عَلَى قُلُوبِهِمْ) وأن قوله (وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ) استئناف والجار والمجرور خبر المبتدأ الذي هو (غِشَاوَةٌ) وسوغ الابتداء بالنكرة فيه اعتمادهما على الجار والمجرور قبلها. ولذلك يجب تقديم هذا الخبر، لأنه هو الذي سوغ الابتداء بالمبتدأ.... فتحصل أن الختم على القلوب والأسماع، وأن الغشاوة على الأبصار وذلك في قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً) الجاثية: 23. فإن قيل: قد يكون الطبع على الأبصار أيضاً. كما في قوله تعالى في سورة النحل (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ) الآية، النحل 108. فالجواب: أن الطبع على الأبصار المذكور في آية النحل: هو الغشاوة المذكورة في سورة البقرة والجاثية، والعلم عند الله تعالى.
((أضواء البيان 1/109، 110)) .
قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا بِالله وَبِاليَوْمِ الآخِرِ وَمَاهُم بِمُؤْمِنِينَ)
وهذا الصنف من الناس هم المنافقون كما سماهم الله تعالى في مطلعٍ سورة المنافقون (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) وقال أيضاً (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) النساء: 142.
وقد تقدم في الآية رقم (3) قول مجاهد: أربع آيات من سورة البقرة في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين.
قال الشيخ الشنقيطي عند هذه الآية: لم يذكر هنا بيانا عن هؤلاء المنافقين، وصرح بذكر بعضهم بقوله (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ) التوبة: 101.(1/106)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)
ونهى تعالى رسوله عن الصلاة عليهم والدعاء لهم فحينما صلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على عبد الله ابن أبي بن سلول أنزل الله تعالى: (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِه) التوبة: 84.
(وانظر صحيح مسلم - صفات المنافقين رقم 2774) .
كما بين سبحانه وتعالى بعض صفاتهم في قوله تعالى (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ) النساء: 143.
وقد عرَّفنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بعض صفاتهم حتى نحذرهم ولكي لا نتصف بها، فأخرج الشيخان بسنديهما عن أبي هريرة مرفوعاً: "أربع من كن فيه كان مناففا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر".
((فتح الباري - الإيمان، ب علامة المنافق رقم 43) ، وصحيح مسلم (الإيمان، ب بيان خصال المنافق رقم 601) . واللفظ للبخاري) .
وأخرجا أيضاً عن أبي هريرة مرفوعاً: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان".
((نفس المصدرين السابقين رقم 33، 107)) .
وأخرج مسلم بسنده عن عبد الله بن عمر مرفوعاً: "مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة".
((الصحيح - صفات المنافقين وأحكامهم رقم 2784)) .
وقد أخبر سبحانه وتعالى عن مصيرهم الرهيب فقال (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّار) النساء: 145، وسيأتي تفسيرها.
وأخرج الطبري وابن أبي حاتم من طريق ابن إسحاق عن ابن عباس: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) يعني المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم.
وإسناده حسن.(1/107)
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
قوله تعالى (يُخَادِعُونَ الله وَالَّذِينَءَامَنُوا)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن يحيى أنبأ العباس بن الوليد ثنا يزيد بن زريع، ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في قوله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) ، نعت المنافق عند كثير: خنع الأخلاق يصدق بلسانه، وينكر بقلبه، ويخالف بعمله، ويصبح على حال، ويمسي على غيره، ويمسي على حال، ويصبح على غيره، يتكفأ تكفأ السفينة كلما هبت ريح هبت معها.
وإسناده صحيح.
قوله تعالى (وَمَا يَخْدَعُونَ إلا أَنْفُسَهمْ وما يشعرون)
قال الطبري: حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب قال: سألت ابن زيد عن قوله (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) قال: ما يشعرون أنهم ضروا أنفسهم، بما أسروا من الكفر والنفاق، وقرأ قول الله تعالى ذكره (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً)
قال: هم المنافقون حتى بلغ (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ) المجادلة: 18، قد كان الإِيمان ينفعهم عندكم.
وهذا من قبيل تفسير القرآن بالقرآن ولهذا أوردته هنا، وابن وهب هو عبد الله وابن زيد هو عبد الرحمن، والإسناد صحيح إليه.
قال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن قتادة في قوله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) ، حتى بلغ (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) ، قال: هذه في المنافقين.
(ورجاله ثقات وإسناده صحيح) .
قوله تعالى (في قلوبِهِم مَرَضٌ)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن من طريق محمد ابن إسحاق عن ابن عباس (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَض) أي شك، ثّم قال ابن أبي حاتم: وكذا روي عن مجاهد والحسن وعكرمة والربيع بن أنس والسدي وقتادة.(1/108)
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)
وقال أيضاً: حدثنا أبو زرعة، ثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، ثنا عبد العزيز بن عبد الصمد، عن مالك بن دينار، عن عكرمة (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَض) قال: الزنا.
((ورجاله ثقات إلا مالك بن دينار صدوق فالإسناد حسن)) .
وقال أيضاً: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَض) قال: ذلك في بعض أمور النساء.
((ورجاله ثقات على شرط الشيخين إلا أحمد بن منصور الرمادي وهو ثقة، فالإسناد صحيح)) .
قوله تعالى (فَزَادَهُم الله مَرَضاً)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بالإسناد الحسن من طريق ابن إسحاق بسنده الحسن عن ابن عباس: (فَزَادَهُم الله مَرَضاً) أي: شكا.
قال الطبري: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً) قال زادهم رجسا، وقرأ قول الله عز وجل (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) قال: شرا إلى شرهم، وضلالة إلى ضلالتهم.
(وإسناده صحيح إلى ابن زيد وهو عبد الرحمن. وهذا التفسير من قبيل تفسير القرآن بالقرآن، وذكره ابن كثير ثم قال: وهذا الذي قاله عبد الرحمن رحمه الله حسن، وهو الجزاء من جنس العمل، وكذلك قاله الأولون، وهو نظير قوله تعالى أيضاً (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ)) .
قوله تعالى (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا عصام بن رواد العسقلاني ثنا آدم، ثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية في قوله: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم) قال: الأليم: الموجع في القرآن كله.
(ثم قال: وكذلك فسره سعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم وقتادة وأبو مالك وأبو عمران الجوني ومقاتل بن حيان
وإسناد ابن أبي حاتم إلى أبي العالية جيد تقدم) .(1/109)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)
قوله تعالى (وَإذا قِيلَ لَهُم لا تفسدوا في الأرْض قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصلِحُون ألاْ إنَّهُمْ هُمُ اْلمُفْسِدُونَ ولَكِن لايَشْعُرُون)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية: في قوله (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ) يعني لا تعصوا في الأرض، وكان فسادهم ذلك معصية الله لأنه من عصى الله في الأرض، أو أمر بمعصية الله فقد أفسد في الأرض لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة.
(وإسناده حسن) .
وأخرج الطبري وابن أبي حاتم بإسناديهما الحسن من طريق ابن إسحاق قال: فيما حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) أي: إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب.
وأخرج ابن أبي حاتم بإسناده الجيد عن أبي العالية في قوله: (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ) قال: هم المنافقون.
قوله تعالى (وإذا قِيلَ لَهُم آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء ألا إنَّهُم هُمُ السُفَهَاءُ ولَكن لا يعلمون)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية (قَالُوا أنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء) يعنون: أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله تعالى (وإذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا)
أخرج ابن أبي حاتم بإسناده الحسن عن ابن إسحاق قال: فيما حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (وإذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا) أن صاحبكم رسول الله، ولكنه إليكم خاصة.(1/110)
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
قوله تعالى (وإذا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إنَّا مَعَكُمْ إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ)
وبه عن ابن عباس (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) من يهود الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(وأخرجه أيضاً الطبري) .
وأخرج الطبري عن بشر بن معاذ العقدي قال: حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد، عن قتادة: قوله (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) أي: رؤسائهم في الشر.
(وإسناده حسن) .
وأخرج الطبري بإسناده الصحيح عن مجاهد في قول الله عز وجل (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) قال: إذا خلا المنافقون إلى أصحابهم من الكفار.
وأخرج ابن أبي حاتم بإسناده الحسن من طريق ابن إسحاق قال: فيما حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) أي: إنا على مثل ما أنتم عليه.
وأخرج الطبري بإسناده الحسن عن قتادة (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) إنما نستهزئ بهؤلاء القوم ونسخر بهم.
وثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الشياطين من الإنس والجن كما تقدم في الاستعاذة.
قوله تعالى (الله يستهزئ بِهِمْ ويَمُدُّهُم فِي طُغْيانِهِم يَعْمَهُون)
أخرج الطبري من طريق ابن المبارك، وأخرج ابن أبي حاتم، من طريق الحجاج بن محمد كلاهما عن ابن جريج قراءة عن مجاهد (يمدهم) قال: يزيدهم.
((واللفظ للطبري. وإسناده صحيح)) .
وأخرج ابن أبي حاتم بإسناده الجيد عن أبي العالية قوله (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) يعني يترددون. يقول زادهم ضلالة إلى ضلالتهم وعمى إلى عماهم.
وبه في قوله (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ) يعني: في ضلالتهم.
وأخرج الطبري بإسناده الحسن عن قتادة (فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي في ضلالتهم يعمهون.(1/111)
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)
وأخرج الطبري وابن أبي حاتم بالإسناد الحسن من طريق علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس (يَعْمَهُونَ) قال يتمادون.
قوله تعالى (أُولَئِكَ الَّذِين اشْترَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى)
أخرج الطبري بإسناده الحسن عن قتادة قوله (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى) قال: استحبوا الضلالة على الهدى.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بالإسناد الحسن من طريق محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى) أي الكفر بالإيمان.
وأخرج الطبري بإسناده الصحيح عن مجاهد (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى) آمنوا ثم كفروا.
قوله تعالى (فَمَا رَبِحت تِجَارَتُهُم وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ)
أخرج ابن أبي حاتم بإسناده الحسن عن قتادة في قوله (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) قال: هذه في المنافقين.
وأخرج أيضاً عن محمد بن يحيى: أنبأ العباس بن الوليد ثنا يزيد بن زريع، ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في قوله (فَمَا رَبِحت تِجَارَتُهُم وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) قد والله رأيتموهم فخرجوا من الهدى إلى الضلالة ومن الجماعة إلى الفرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة، يقول (فَمَا رَبِحت تِجَارَتُهُم وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) .
((وإسناده صحيح. وأخرجه الطبري من طريق بشر بن معاذ عن يزيد به)) .
قوله تعالى (مَثَلُهم كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوقَدَ نَاراً فَلَمَّا أضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَب الله بِنُورهِم وَتَركَهُم فِي ظُلمَات لا يُبْصِرُونَ)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً) إلى آخر الآية: هذا مثل ضربه الله(1/112)
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)
للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالإِسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العز كما سلب صاحب النار ضوءه (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَات) يقول: في عذاب.
وإسناده حسن.
وأخرج الطبري بسنده الحسن من طريق ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ضرب الله للمنافقين مثلا، فقال: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ) أي: يبصرون الحق ويقولون به، حتى إذا خرجوا به من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فيه، فتركهم في ظلمات الكفر، فهم لا يبصرون هدى ولا يستقيمون على حق.
((وأخرج ابن أبي حاتم جزءا منه من طريق ابن إسحاق به)) .
قوله تعالى (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) يقول: لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه.
(وإسناده حسن) .
وأخرج الطبري من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) عن الخير.
وبه (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) أي فلا يرجعون إلى الهدى ولا إلى خير فلا يصيبون نجاة ما كانوا على ما هم عليه.
(وإسناده حسن) .
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) أي: لا يتوبون ولا يذكرون.(1/113)
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) الآية، ظاهر هذه الآية أن المنافقين متصفون بالصمم والبكم، والعمى. ولكنه تعالى بين في موضع آخر أن معنى صممهم، وبكمهم، وعماهم، هو عدم انتفاعهم بأسماعهم وقلوبهم وأبصارهم، وذلك في قوله جل وعلا (وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) الأحقاف: 26.
قوله تعالى (أوْ كَصَيِّبِ مِنَ السَّمَاء)
قال البخاري: حدثنا محمد -هو ابن مقاتل أبو الحسن المروزي- قال: أخبرنا عبد الله قال: أخبرنا عبيد الله، عن نافع، عن القاسم بن محمد عن عائشة: "أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا رأى المطر قال: صيباً نافعاً".
(فتح الباري 2/518) .
أخرج الطبري عن محمد بن إسماعيل الأحمسي قال: حدثنا محمد بن عبيد قال: حدثنا هارون بن عنترة عن أبيه عن ابن عباس في قوله (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ) قال: القطر.
((ورجاله ثقات إلا هارون لا بأس به فالإِسناد حسن: ومحمد بن عبيد هو الطنافسي معروف بالرواية عن هارون بن عنترة (تهذيب الكمال ل 1430) . وأخرجه إبراهيم الحربي في "غريب الحديث" من طريق الثوري عن هارون بلفظ: المطر. (انظر تغليق التعليق 2/394) ، وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق أحمد بن بشير عن هارون به، ثم قال: وكذلك فسره أبو العالية والحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وعطية العوفي وقتادة وعطاء الخراساني والسدي والربيع ابن أنس. ورواه البخاري معلقا عن ابن عباس بصيغة الجزم بلفظ: المطر. (فتح الباري 2/518) . ووصله الطبري بسنده من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال الصيب: المطر. (وإسناده حسن) .
قوله تعالى (فِيه ظُلمَاتٌ وَرعدٌ وبرقٌ يَجعلونَ أصَابعَهُم فِي آذانهم مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذرَ المَوت والله مُحِيط بِالكَافِرين)
أخرج ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (فِيهِ ظُلُمَاتٌ) . يقول: ابتلاء.
(وإسناده حسن) .(1/114)
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)
وأخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما من طريق محمد بن إسحاق قال: فيما حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس (فِيهِ ظُلُمَاتٌ) أي هم في ظلمة ما هم فيه من الكفر والحذر من القتل على الذي هم عليه من الخلاف والتخوف لكم على مثل ما وصف من الذي هو في ظلمة الصيب.
(وإسناده حسن) .
أخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم من طريق بكير بن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أقبلت يهود إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: يا أبا القاسم أخبرنا ما هذا الرعد؟. قال: ملك من ملائكة الله موكل بالسحاب بيده أو في يده مخاريق من نار يزجر به السحاب ويسوقه حيث أمره الله. قالوا: فما هذا الصوت الذي يسمع؟ قال: صوته. قالوا: صدقت.
((المسند رقم 2483) ، والترمذي في (السنن - التفسير سورة الرعد رقم 3117) ، والنسائي في (السنن الكبرى كما في تحفة الأشراف 4/394) . واللفظ لابن أبي حاتم وقد ساقه مقتصرا على موضع تفسير الرعد والحديث طويل، وقال الترمذي: حسن غريب وفي تحفة الأحوذي: حسن صحيح غريب (تحفة الأحوذي 8/542-544) ، وذكره الهيثمي ونسبه إلى أحمد والطبراني: وقال: ورجالهما ثقات (مجمع الزوائد 8/242) . وصححه أحمد شاكر في تعليقه على مسند أحمد (المسند رقم 2483) ، والألباني في (صحيح سنن الترمذي رقم 2492) . ولهذا الحديث شاهد من القرآن في قوله تعالى ( ... وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) الرعد: 13. وفيه تسبيح هذا الملك بحمد الله تعالى والملائكة معطوف على الرعد فهو عطف عام على خاص، كما تقدم في سورة البقرة آية: 98 (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ... ) .
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن ابن إسحاق بسنده عن ابن عباس قال: (وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) والله منزل ذلك بهم من النقمة أي محيط بالكافرين.
وأخرج عبد بن حميد عن شبابة عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله (وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) قال: الله جامعهم.(1/115)
وإسناده حسن. وأخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن بن صباح عن شبابة به وزاد قوله: يعني يوم القيامة (تغليق التعليق 4/171، 172) . وهذه الزيادة من ابن أبي حاتم أو من الحسن.
قوله تعالى (يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ) يقول: يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين.
(وإسناده حسن) .
وأخرج الطبري وابن أبي حاتم من طريق ابن إسحاق قال: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس (يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ) أي: لشدة ضوء الحق.
(وإسناده حسن) .
قوله تعالى (كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا)
وأخرجا أيضاً بالإسناد الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) يقول: كلما أصاب المنافقون من الإسلام عزا اطمأنوا وإن أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر. يقول (وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا) كقوله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) الحج: 11.
(واللفظ للطبري) .
وأخرجا من طريق ابن إسحاق بالإسناد الحسن عن ابن عباس: (كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا) أي: يعرفون الحق ويتكلمون به، فهم من قولهم به على استقامة، فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا متحيرين.(1/116)
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)
وأخرج ابن أبي حاتم قال: حدثنا عصام بن رواد العسقلاني بها، ثنا آدم، ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله (كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا) فمثله كمثل قوم ساروا في ليلة مظلمة لها مطر ورعد وبرق على جادة كلما أبرقت أبصروا الجادة فمضوا فيها، فإذا ذهب البرق تحيروا فكذلك المنافق كلما تكلم بكلمة الإخلاص أضاء له، وكلما شك تحير ووقع في الظلمة.
(وإسناده جيد، وأخرجه الطبري من طريق عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه به، وقال ابن أبي حاتم: وروي عن الحسن وقتادة والسدي والربيع بن أنس نحو ذلك) .
قوله تعالى (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن من طريق ابن إسحاق بسنده إلى ابن عباس (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم) أي لما تركوا من الحق بعد معرفته.
قوله تعالى (يا أيها الناس اعبدوا ربكم)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما عن ابن إسحاق بسنده الحسن إلى ابن عباس قال: قال الله (يا أيها الناس اعبدوا ربكم) للفريقين جميعا من الكفار والمنافقين، أي وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم.
قال الإمام أحمد: ثنا عفان ثنا أبو خلف موسى بن خلف كان يعد من البدلاء قال: ثنا يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن جده ممطور عن الحارث الأشعري أن نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله عز وجل أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن فكاد يبطيء فقال له عيسى إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وأن تأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن فإما أن تبلغهن وإما أبلغهن ففال له: يا أخي إني أخشى إن سبقنني أن أعذب أو يخسف(1/117)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)
بي قال: فجمع يحيى بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد وقعد على الشرف فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله عز وجل أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وأمركم أن تعملوا بهن أولهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً فإن مثل ذلك مثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بورق أو ذهب فجعل يعمل ويؤدي عمله إلى غير سيده فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك وإن الله عز وجل خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأمركم بالصلاة فإن الله عز وجل ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت فإذا صليتم فلا تلتفتوا وأمركم بالصيام فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك وأمركم بالصدقة فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدوا يديه إلى عنقه وقربوه ليضربوا عنقه فقال هل لكم أن أفتدي نفسي منكم فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه وأمركم بذكر الله كثيرا وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعا في أثره فأتى حصنا حصينا فتحصن فيه وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله عز وجل.
((المسند رقم 4/202) . وقال ابن كثير بعد أن ساق الحديث: هذا حديث حسن والشاهد منه في هذه الآية قوله: (وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً) ، وهذه الآية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده لا شريك له. ا. هـ التفسير (1/110، 111)) .
قوله تعالى (الذي خلقكم والذين من قبلكم)
بين سبحانه وتعالى أطوار خلق الإنسان في سورة المؤمنون (الآيات 12-14) فقال (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين) .(1/118)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
قوله تعالى (لعلكم تتقون)
أخرج ابن أبي حاتم عن موسى بن عبد الرحمن المسروقي ثنا أبو داود الحفري عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد (لعلكم تتقون) لعلكم تطيعونه.
(ورجاله ثقات وسفيان هو الثوري وأبو داود الحفري اسمه: عمر بن سعد ابن عبيد الكوفي، وإسناده صحيح. وأخرجه الطبري من طريق ابن وكيع عن أبيه عن سفيان به) .
قوله تعالى (الذي جعل لكم الأرض فراشا)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية (الذي جعل لكم الأرض فراشا) قال: مهادا.
(وأخرجه محمد بن يوسف الفريابي في تفسيره عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد بلفظه (تغليق
التعليق 3/491) وإسناده حسن) .
قوله تعالى (والسماء بناء)
أخرج الطبري عن بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد، عن سعيد عن قتادة في قول الله (والسماء بناء) قال: جعل السماء سقفاً لك.
ويزيد هو ابن زريع، وسعيد هو ابن أبي عروبة. والإسناد حسن تقدم.
قوله تعالى (وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم)
روى ابن أبي حاتم عن أبيه ثنا أحمد بن حنبل، ثنا عباد بن العوام ثنا سفيان بن حسين عن الحكم، عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: يرسل الله الريح فتحمل الماء من السحاب فيمر به السحاب فتدر كما تدر الناقة، وثجاج مثل العزالي غير أنه متفرق.
(ورجاله ثقات والحكم هو ابن عتيبة الكندي معروف برواية سفيان ابن حسين عنه (تهذيب الكمال 7/114-116) . وهو مدلس لكن تدليِسه لا يضر لأنه من مدلسي الطبقة الثانية كما قرر الحافظ ابن حجر (طبقات المدلسين ص 20) . ورواية سفيان بن حسين عن الزهري فيها مقال لكنه لم يرو هنا عن الزهري. فالإسناد صحيح. قوله: العزالى: جمع عزلاء: والمراد بها هنا مصب الماء من الراوية. (ترتيب القاموس المحيط 3/218) . ومن في قوله تعالى (من الثمرات) لبيان الجنس. فيكون شاملا لكل الثمرات كما في قوله تعالى (ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات) سورة النحل آية (11)) .(1/119)
قوله تعالى (فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون)
أخرج الطبري بإسناده الحسن عن قتادة (فلا تجعلوا لله أنداداً) أي عدلاء.
وأخرج ابن أبي حاتم بإسناده الجيد عن أبي العالية في قوله (أنداداً) أي عدلا شركا.
ثم قال: وروي عن الربيع بن أنس وقتادة والسدي وأبي مالك وإسماعيل ابن أبي خالد نحو ذلك.
أخرج الشيخان في صحيحيهما لسنديهما عن ابن مسعود أنه قال: قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك.
((صحيح البخاري رقم 4477 - التفسير - سورة البقرة - ب قوله تعالى (فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون) ، وصحيح مسلم - رقم 141، 142 - الإيمان، ب كون الشرك أقبح الذنوب)) .
قال الإمام أحمد: حدثنا هشيم، أنا أجلح عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس أن رجلا قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما شاء الله وشئت. فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أجعلتني والله عدلا؟ بل ما شاء الله وحده.
((المسند رقم 1839) . ورجاله ثقات إلا الأجلح فصدوق وإسناده حسن، وصححه أحمد شاكر والألباني في (صحيح سنن ابن ماجة 1/362 رقم 1720) ، وأخرجه النسائي في (عمل اليوم والليلة ص 545، 546) ، وابن ماجة (السنن - الكفارات - باب النهي أن يقال ما شاء الله وشئت رقم 211) من طريق الأجلح به. وقد روى هذا الحديث جمع من الصحابة بألفاظ متقاربة. فأخرجه أحمد (المسند 5/393) ، والنسائي (عمل اليوم والليلة ص 554) بإسناد صحيح من حديث حذيفة ابن اليمان، وأخرجه النسائي من حديث عبد الله بن يسار في (عمل اليوم والليلة ص 545)
وصححه محققه. وأخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن رجل صحابي. (المصنف 11/28 رقم 19813) ، وأخرجه أحمد (المسند 5/73) ، وابن ماجة (السنن - الكفارات - ب النهي أن يقال ما شاء الله وشئت. بعد رقم 2118) من حديث طفيل بن سخبرة وهو حديث طويل والشاهد فيه آخره: لا تقولوا ما شاء الله وما شاء محمد. قال البوصيري مشيرا إلى رواية ابن ماجة: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات على شرط مسلم. (مصباح الزجاجة 2/152) . وبهذا يكون الإسناد صحيحا لغيره، وقد صححه الألباني في (صحيح سنن ابن ماجة 1/362 رقم 1721) . وذكره ابن كثير (التفسير 1/109-110) . والسيوطي (الدر المنثور 1/88) عند تفسير هذه الآية) .(1/120)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم الضحاك بن مخلد حدثني أبو عمر حدثني أبو عاصم أنبأ شبيب بن بشر ثنا عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى (فلا تجعلوا لله أندادا) قال: الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاء سوداء، في ظلمة الليل. وهو أن يقول: والله وحياتك يا فلانة وحياتي. ويقول: لولا كلبه هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص. وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت. وقول الرجل: لولا الله وفلان. لا تجعل فيها فلان، فإن هذا كله به شرك.
(وإسناده حسن. وقال ابن حجر: سنده قوي (العجاب في بيان الأسباب ص 51) ، وقال مؤلف تيسير العزيز الحميد (ص 587) : وسنده جيد) .
وأخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما إلى ابن إسحاق بسنده الحسن عن ابن عباس (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) أي: لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر، وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول من توحيده هو الحق لاشك فيه.
وأخرج ابن أبي حاتم قال: حدثنا محمد بن يحيى ثنا العباس بن الوليد ثنا يزيد بن زريع ثنا سعيد عن قتادة (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) إن الله خلقكم وخلق السموات والأرض ثم أنتم تجعلون له أندادا.
(ورجاله ثقات وإسناده صحيح) .
قوله تعالى (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده عن ابن إسحاق بسنده الحسن عن ابن عباس (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا) أي في شك مما جاءكم به.
وأخرجه أيضاً، بإسناده الجيد عن أبي العالية بلفظ: في شك. ثم قال: وكذلك فسره الحسن وقتادة والربيع بن أنس.(1/121)
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
أخرج الطبري بإسناده الصحيح عن مجاهد (فأتوأ بسورة من مثله) مثل القرآن.
وأخرج الطبري وابن أبي حاتم من طريق يزيد عن سعيد عن قتادة (فأتوا بسورة من مثله) يعني: من مثل هذا القرآن حقا وصدقا لا باطل فيه ولا كذب.
(وإسناده صحيح) .
قوله تعالى (وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم من طريق ابن إسحاق بسنده عن ابن عباس (وادعوا شهداءكم من دون الله) من استطعتم من أعوانكم على ما أنتم عليه إن كنتم صادقين.
(واللفظ للطبري وإسناده حسن) .
وأخرج الطبري بإسناده الصحيح عن مجاهد (وادعوا شهداءكم) ناس يشهدون.
قوله تعالى (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا)
أخرج الطبري بإسناده الحسن عن قتادة: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا) أي لا تقدرون على ذلك ولا تطيقونه.
وأخرج الشيخان في صحيحيهما بسنديهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة.
((فتح الباري - فضائل القرآن، ب كيف نزل الوحي رقم 4981) ، (وصحيح مسلم رقم 239 - الإيمان، ب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) واللفظ لمسلم. وذكره ابن كثير ثم قال: وإنما كان الذي أوتيته وحيا أي: الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز للبشر أن يعارضوه بخلاف غيره من الكتب الإلهية لأنها ليست معجزة عند كثير من العلماء والله أعلم. (التفسير 1/114)) .(1/122)
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
قوله تعالى (فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة)
قال الطبري: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا أبو معاوية، عن مسعر، عن عبد الملك بن ميسرة الزراد، عن عبد الرحمن بن سابط، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن مسعود، في قوله (وقودها الناس والحجارة) قال: هي حجارة من كبريت، خلقها الله يوم خلق السموات والأرض في السماء الدنيا، يعدها للكافرين.
(ورجاله ثقات والإسناد صحيح وأبو كريب هو محمد بن العلاء، وأبو معاوية: محمد بن حازم وكلاهما ثقة. وأخرجه الحاكم من طريق مسعر به. ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي (المستدرك 2/261) . وتعقبه الشيخ مقبل الوادعي بقوله: والأثر على شرط مسلم فإن عبد الرحمن بن سابط ليس من رجال البخاري كما في تهذيب التهذيب والكاشف والخلاصة (انظر هامش تفسير ابن كثير 1/115) . وقد بين الله سبحانه في سورة الأنبياء أن الكفار وأصنامهم من هؤلاء الناس والحجارة فقال (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون) الآية 98) .
قوله تعالى (أعدت للكافرين)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بإسناديهما عن محمد بن إسحاق بسنده الحسن عن ابن عباس (أعدت للكافرين) أي لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر.
وقد وردت عدة أحاديث تدل على أن النار موجودة الآن ومنها ما يلي:
أخرج الشيخان في صحيحيهما بسنديهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ناركم جزء من سبعين جزءا من نار جهنم. قيل: يا رسول الله إن كانت لكافية، قال: فضلت عليهن بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها".
((صحيح البخاري رقم 3265 - بدء الخلق، ب صفة النار وأنها مخلوقة) ، (وصحيح مسلم
رقم 2843 - الجنة وصفة نعيمها، ب في شدة حر نار جهنم) ، وذكره السيوطي في (الدر المنثور 1/90، 91)) .(1/123)
وأخرج الشيخان في صحيحيهما بسنديهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تحاجت الجنة والنار، فقالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة مالي لايدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم. قال الله تبارك وتعالى للجنة أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار إنما أنت عذاب أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منهما ملؤها، فأما النار فلا تمتليء، حتى يضع رجله فتقول قط قط قط، فهناك تمتليء ويزوى بعضها إلى بعض ولا يظلم الله عز وجل من خلقه أحدا وأما الجنة فإن الله عز وجل ينشيء لها خلقا".
((صحيح البخاري رقم 4850 - التفسير سورة ق، ب وتقول هل من مزيد) ، (وصحيح مسلم رقم 2846 - الجنة وصفة نعيمهما، ب النار يدخلها الجبارون) . وذكره ابن كثير مختصرا (التفسير 1/116)) .
وأخرج الشيخان بسنديهما عن أبي هريرة مرفوعاً: "إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة فإن شدة الحر من فيح جنهم.
((صحيح البخاري 2/15 رقم 533 - المواقيت، ب الإبراد بالظهر في شدة الحر) ، (وصحيح مسلم رقم 615 - المساجد، ب استحباب الإبراد، بالظهر) ، واللفظ للبخاري. وقد أخرجه أيضاً من حديث ابن عمر وذكره ابن كثير مختصرا (التفسير 1/116)) .
وأخرج مسلم بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. إذ سمع وجبة. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تدرون ما هذا؟ " قال قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: "هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفا. فهو يهوي في النار إلى الآن، حتى انتهى إلى قعرها".
(الصحيح رقم 2844 - الجنة وصفة نعيمها، ب في شدة حر نار جهنم) . وذكره ابن كثير (التفسير 1/116) .
قوله تعالى (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار)
أخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج ثنا وكيع عن الأعمش عن عبد الله ابن مرة عن مسروق قال: قال عبد الله: أنهار الجنة تفجر من جبل مسك.
(ورجاله ثقات وإسناده صحيح) وله شاهد يأتي في تفسير سورة الكوثر.(1/124)
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
وقال الشيخ الشنقيطي عند هذه الآية: لم يبين هنا أنواع هذه الأنهار ولكنه بين ذلك في قوله (فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى) سورة محمد: 15.
وقد عقد البخاري في صحيحه باباً في صفة الجنة والنار فساق أحاديث كثيرة في صفة الجنة وكذا مسلم في صحيحه وورد أيضاً كتاب بعنوان الجنة ونعيمها فمن أراد الاستزادة فليرجع إليهما.
أخرج مسلم بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "سيحان وجيحان، والفرات والنيل، كل من أنهار الجنة".
((الصحيح رقم 2839 - كتاب الجنة ونعيمها، ب ما في الدنيا من أنهار الجنة) . وذكره السيوطي في (الدر المنثور 1/94)) .
وقال الإمام أحمد: ثنا عفان ثنا سليمان عن ثابت عن أنس بن مالك قال كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعجبه الرؤيا الحسنة وربما قال رأى أحد منكم رؤيا فإذا رأى الرؤيا الرجل الذي لا يعرفه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سأل عنه فإن كان ليس به بأس كان أعجب لرؤياه إليه فجاءت إليه امرأة فقالت يا رسول الله رأيت كأني دخلت الجنة فسمعت وجبة ارتجت لها الجنة فلان بن فلان وفلان بن فلان حتى عدت اثني عشر رجلا فجيء بهم عليهم ثياب طلس تشخب أوداجهم دما فقيل اذهبوا بهم إلى نهر البيدخ أو البيدح فغمسوا فيه فخرجوا منه وجوههم مثل القمر ليلة البدر ثم أتوا بكراسي من ذهب فقعدوا عليها وأتوا بصحفة فأكلوا منها فما يقلبونها لشق إلا أكلوا فاكهة ما أرادوا وجاء البشر من تلك السرية فقال كان من أمرنا كذا وكذا وأصيب فلان وفلان حتى عد اثني عشر رجلا الذين عدت المرأة فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علي بالمرأة قصي على هذا روياك فقصت فقال هو كما قالت.
((المسند 3/257) . وأخرجه النسائي في السنن الكبرى من طريق أبي هشام المخزومي عن سليمان بن المغيرة به (تحفة الأشراف 1/138) . ورجاله ثقات وثابت هو البناني وقد تكلم فيه من جهة الاختلاط إلا أن أبا بكر البرديجي قال: ثابت عن أنس صحيح من حديث شعبة والحمادين وسليمان بن المغيرة فهم ثقات (تهذيب التهذيب 2/4) ، فالإسناد صحيح. وذكره السيوطي ونسبه إليهما وإلى عبد بن حميد في مسنده وأبي يعلى والبيهقي في (الدلائل) والمقدسي في (صفة الجنة) وصححه (1/94-95)) .(1/125)
قوله تعالى (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل)
أخرج ابن أبي حاتم بإسناده الجيد عن أبي العالية يعني (كلما رزقوا منها من ثمرة) قال: كلما أوتوا منه بشيء ثم أوتوا بآخر قالوا هذا الذي أوتينا من قبل.
وأخرج الطبري بإسناده الصحيح المتقدم عن مجاهد (قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) يقولون: ما أشبهه به.
وأخرج الطبري بإسناده الحسن عن قتادة: (قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) أي في الدنيا.
وأخرج الطبري عن ابن بشار قال: حدثنا ابن مهدي قال: حدثنا سفيان قال: سمعت عمرو بن مرة يحدث عن أبي عبيدة قال: نخل الجنة نضيد أصلها إلى فرعها، وثمرها مثل القلال كلما نزعت منها ثمرة عادت مكانها أخرى.
((رجاله ثقات وإسناده صحيح وابن بشار هو محمد، وابن مهدي هو عبد الرحمن، وسفيان هو الثوري، وأبو عبيدة هو ابن عبد الله بن مسعود معروف برواية عمرو بن مرة عنه. (انظر تهذيب التهذيب 8/102)) .
قوله تعالى (وأتوا به متشابها)
أخرج ابن أبي حاتم عن أحمد بن سنان الواسطي، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس قال: ليس في الجنة شيء يشبه ما في الدنيا إلا الأسماء.
((ورجاله ثقات وإسناده صحيح. أخرجه سفيان الثوري عن الأعمش به وقال الشيخ مقبل سنده صحيح على شرط الشيخين إشارة إلى طريق الثوري (انظر تفسير ابن كثير 1/119 مع الهامش) .
وأخرجه الطبري من طريق محمد عبيد عن الأعمش به، ومن طريق مؤمل وابن بشار عن سفيان به) .
وأخرج ابن أبي حاتم بإسناده الجيد عن أبي العالية (وأتوا به متشابها) يشبه بعضه بعضا ويختلف في الطعم. ثم قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد والضحاك والربيع بن أنس والسدي نحو ما حكينا عن أبي العالية.(1/126)
قوله تعالى (ولهم فيها أزواج مطهرة)
وقد بين سبحانه وتعالى نوعا من طهارة الأزواج في سورة الرحمن عند قوله (فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان) آية: 56.
وقال الشيخ الشنقيطي عند هذه الآية: لم يبين هنا صفات تلك الأزواج ولكنه بين صفاتهن الجميلة في آيات أخر كقوله (وعندهم قاصرات الطرف عين) الصافات: 48. وقوله (كأنهن الياقوت والمرجان) الرحمن: 58. وقوله (وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون) الواقعة: 22. وقوله (وكواعب أتراباً) النبأ: 33. إلى غير ذلك من الآيات المبينة لجميل صفاتهن.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (أزواج مطهرة) يقول: مطهرة من القذر والأذى.
وأخرج الطبري بإسناده الصحيح عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره (ولهم فيها أزواج مطهرة) قال: مطهرة من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني والولد.
وأخرج الشيخان بسنديهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أول زمر تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها ولا يمتخطون ولا يتغوطون. آنيتهم فيها الذهب، أمشاطهم من الذهب والفضة، ومجامرهم الألوة، ورشحهم المسك. ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن. لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد، يسبحون الله بكرة وعشيا".
((صحيح البخاري رقم 3245 - بدء الخلق، ب ما جاء في صفة الجنة) ، (وصحيح مسلم رقم 2834 وما بعده - كتاب الجنة وصفة نعيمها، ب أول زمرة تدخل الجنة) ، واللفظ للبخاري. وذكره السيوطي في الدر المنثور (1/98)) .(1/127)
قوله تعالى (وهم فيها خالدون)
أخرج ابن أبي حاتم بإسناده عن ابن إسحاق بسنده الحسن عن ابن عباس: (وهم فيها خالدون) أي خالدا أبدا يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبدا لا انقطاع له.
وانظر رواية البخاري من حديث أبي سعيد في سورة مريم آية (39) .
قوله تعالى (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها)
أخرج ابن أبي حاتم بإسناده الجيد عن أبي العالية في قوله (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها) فإذا جاءت آجالهم، وانقطعت مدتهم صاروا كالبعوضة، تحيا ما جاعت وتموت إذا رويت. فكذلك هؤلاء الذين ضرب لهم هذا المثل إذا امتلئوا من الدنيا رياً أخذهم الله فأهلكهم.
وأخرج الطبري وابن أبي حاتم عن الحسن بن أبي الربيع قال: أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة قال: لما ذكر الله تبارك وتعالى العنكبوت والذباب قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يذكران؟ فأنزل الله (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها) .
(ثم قال ابن أبي حاتم: وروي عن الحسن وإسماعيل بن أبي خالد نحو قول السدي وقتادة. والإسناد إلى قتادة حسن، وكون هذا السبب روي من طرق أخرى فإن هذه الطرق المرسلة يقوي بعضها بعضا) .
قوله تعالى (فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا)
وأخرج الطبري بإسناده الصحيح عن مجاهد في قوله (مثلا ما بعوضة) يعني الأمثال صغيرها وكبيرها يؤمن بها المؤمنون ويعلمون أنها الحق من ربهم ويهديهم الله بها ويضل بها الفاسقين يقول: يعرفه المؤمنون فيؤمنون به ويعرفه الفاسقون فيكفرون به.
وأخرج ابن أبي حاتم بإسناده الجيد عن أبي العالية (فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم) يعني: هذا المثل.(1/128)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)
وأخرج الطبري بإسناده الحسن عن قتادة، قوله (فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم) أي يعلمون أنه كلام الرحمن وأنه الحق من الله.
وأخرج ابن أبي حاتم بإسناده الجيد عن أبي العالية (وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيراً) فهم أهل النفاق.
قوله تعالى (وما يضل به إلا الفاسقين)
وأخرج ابن أبي حاتم بإسناده الصحيح عن قتادة قوله (وما يضل به إلا الفاسقين) فسقوا فأضلهم الله على فسقهم.
قوله تعالى (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه)
أخرج ابن أبي حاتم بإسناده الجيد عن أبي العالية في قوله (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) إلى قوله (أولئك هم الخاسرون) قال هي ست خصال في المنافقين إذا كانت فيهم الظهرة على الناس أظهروا هذه الخصال: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وأفسدوا في الأرض، وإذا كانت الظهرة عليهم أظهروا الخصال: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا.
وأخرج الطبري بإسناده الحسن عن قتادة: قوله (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) ، فإياكم ونقض هذا الميثاق، فإن الله قد كره نقضه وأوعد فيه، وقدم فيه في آي القرآن حجة وموعظة ونصيحة، وإنا لا نعلم الله جل ذكره أوعد في ذنب ما أوعد في نقض الميثاق. فمن أعطى عهد الله وميثاقه من ثمرة قلبه فلْيفِ به لله.
أخرج ابن أبي حاتم عن أحمد بن سنان الواسطي ثنا وهب بن جرير ثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد قال: سألت أبي فقلت قوله (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) إلى آخر الآية. فقال هم الحرورية.(1/129)
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)
(ورجاله ثقات وإسناده صحيح. قال ابن كثير: وهذا الإسناد وإن صح عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - فهو تفسير على المعنى لا أن الآية أريد منها التنصيص على الخوارج الذين خرجوا على علي بالنهروان فإن أولئك لم يكونوا حال نزول الآية وإنما هم داخلون بوصفهم فيها مع من دخل لأنهم سموا بالخوارج لخروجهم عن طاعة الإمام والقيام بشرائع الإسلام (التفسير 1/124)) .
قوله تعالى (ويقطعون ما أمر به أن يوصل)
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي عند هذه الآية: لم يبين هنا هذا الذي أمر به أن يوصل وقد أشار إلى أن منه الأرحام بقوله (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم) سورة محمد: 22.
وأخرج الطبري بإسناده الحسن عن قتادة: (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) فقطع والله ما أمر الله به أن يوصل بقطيعة الرحم والقرابة.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن الصباح ثنا يزيد بن هارون، ويحي بن عباد، وشبابة بن سوار. قالوا: ثنا شعبة عن عمرو بن قرة عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: الحرورية الذين قال الله: (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) . والسياق: ليزيد.
(وإسناده صحيح وانظر قول الحافظ ابن كثير آنفا) .
قوله تعالى (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون)
أخرج سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود في قوله عز وجل (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم) قال: هي مثل الآية التي في أول المؤمن (ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) .
((التفسير ص 43) . ورجاله ثقات وإسناده صحيح. وأخرجه الطبري وابن أبي حاتم من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان به. وأبو إسحاق هو: السبيعي، وأبو الأحوص هو: عوف بن مالك) .(1/130)
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
وأخرج الطبري بإسناده الحسن عن قتادة قوله (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا) الآية قال: كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم فأحياهم الله وخلقهم ثم أماتهم الموتة التي لابد منها ثم أحياهم للبعث يوم القيامة فهما حياتان وموتتان.
قوله تعالى (ثم إليه ترجعون)
أخرج ابن أبي حاتم بإسناده الجيد عن أبي العالية (ثم إليه ترجعون) قال: ترجعون إليه بعد الحياة.
قوله تعالى (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات)
وتفصيل هذه الآية في قوله تعالى (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) سورة فصلت: 9-12، وانظر تفسير ابن كثير.
وأخرج مسلم بإسناده عن أبي هريرة، قال: أخذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيدي فقال: "خلق الله، عز وجل، التربة يوم السبت. وخلق فيها الجبال يوم الأحد. وخلق الشجر يوم الاثنين. وخلق المكروه يوم الثلاثاء. وخلق النور يوم الأربعاء. وبث فيها الدواب يوم الخميس. وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة. في آخر الخلق. في آخر ساعة من ساعات الجمعة. فيما بين العصر إلى الليل".
((الصحيح رقم 2789 - صفات المنافقين، ب ابتداء الخلق وخلق آدم) . وقد تكلم بعض الأئمة النقاد في متن هذا الحديث وأجاب عنهم آخرون وقد سرد د. أحمد بن عبد الله الزهراني أقوال العلماء النقاد ثم عقبها بالإجابات ومنها أن هذا الحديث غير مخالف للقرآن الكريم، فأجاد وأفاد (تفسير ابن أبي حاتم - سورة البقرة 1/268)) .(1/131)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
وأخرج الطبري بإسناده الحسن عن قتادة قوله (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) نعم والله سخر لكم ما في الأرض.
وأخرج الطبري وابن أبي حاتم عن الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا، ثم استوى إلى السماء) . قال: خلق الأرض قبل السماء، فلما خلق الأرض ثار منها دخان، فذلك حين يقول (ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات) . قال: بعضهن فوق بعض، وسبع أرضين، بعضهن تحت بعض.
(ورجاله ثقات إلا الحسن بن يحيى صدوق فالإسناد حسن) .
وأخرج ابن أبي حاتم بإسناده الجيد عن أبي العالية في قوله (ثم استوى إلى السماء) يقول: ارتفع.
وأخرج الطبري بإسناده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله حيث ذكر خلق الأرض قبل السماء، ثم ذكر السماء، وذلك أن الله خلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء (ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات) ، ثم دحا الأرض بعد ذلك، فذلك قوله (والأرض بعد ذلك دحاها) .
وأخرج الطبري وابن أبي حاتم بإسناديهما الحسن عن قتادة في قوله (فسواهن سبع سموات) قال: بعضهن فوق بعض بين كل سماء مسيرة خمسمائة عام.
قوله تعالى (وهو بكل شيء عليم)
أخرج الطبري بإسناده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: العالم الذي قد كمل في علمه.(1/132)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
قوله تعالى (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)
أخرج مسلم بإسناده عن عائشة قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خلقت الملائكة من نور. وخلق الجان من مارج من نار. وخلق آدم مما وصف لكم"
((الصحيح رقم 2996 - الزهد، ب في أحاديث متفرقة)) .
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن بن محمد بن الصباح ثنا سعيد بن سليمان ثنا مبارك بن فضالة ثنا الحسن قال: قال الله للملائكة: (إني جاعل في الأرض خليفة) قال لهم إني فاعل.
(ورجاله ثقات إلا الحسن ومبارك فصدوقان ومبارك مدلس لا تقبل روايته إلا إذا صرح بالسماع وقد صرح فالإسناد حسن. وأخرجه الطبري من طريق جرير بن حازم ومبارك وأبي بكر الهذلي كلهم عن الحسن وقتادة بلفظه) .
قال محمد بن سعد. أخبرنا هوذة بن خليفة، أخبرنا عوف عن قسامة بن زهير قال سمعت أبا موسى الأشعري يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسهل والحزن والخبيث والطيب وبين ذلك".
((الطبقات الكبرى 1/26) . وأخرجه أحمد (المسند 4/400) ، والترمذي (السنن رقم 2955 - التفسير - سورة البقرة) عن يحيى بن سعيد ومحمد بن جعفر عن عوف به. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه أبو داود من طريق يزيد بن زريع ويحيى بن سعيد (السنن رقم 4693 - السنة، ب في القدر) ، وأخرجه الحاكم من طريق معمر كلهم عن عوف به، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي (المستدرك 2/261، 262) ، وصححه الألباني في (السلسلة الصحيحة رقم 1630) ، وأحمد شاكر في (تفسير الطبري رقم 645) . وذكره السيوطي ونسبه إليهم وإلى غيرهم (الدر المنثور 1/118)) .
أخرج البخاري ومسلم بسنديهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "خلق الله آدم وطوله ستون ذراعا، ثم قال: اذهب فسلم على أولئك الملائكة فاستمع ما يحيونك، تحيتك وتحية ذريتك. فقال: السلام عليكم فقالوا: السلام عليك ورحمة الله. فزادوه: ورحمة الله فكل من يدخل الجنة على صورة آدم، فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن".(1/133)
((صحيح البخاري رقم 3326 - الأنبياء، ب خلق آدم) ، (وصحيح مسلم رقم 2840 - الجنة وصفة نعيمها، ب يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير) . واللفظ للبخاري. وذكره السيوطي ونسبه إليهما وإلى غيرهما (الدر المنثور 1/118)) .
قال مسلم: حدثنا حسن بن علي الحلواني. حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع. حدثنا معاوية (يعني ابن سلام) عن زيد، أنه سمع أبا سلام يقول: حدثني عبد الله ابن فروخ، أنه سمع عائشة تقول: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل. فمن كبر الله، وحمد الله، وهلل الله، وسبح الله، واستغفر الله، وعزل حجرا عن طريق الناس، أو شوكة أو عظما عن طريق الناس، وأمر بمعروف، أو نهى عن منكر، عدد تلك الستين والثلاثمائة السلامى. فإنه يمشي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار".
قال أبو توبة: وربما قال (يمسي) .
((الصحيح رقم 1007 - الزكاة، ب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف)) .
قوله تعالى (قالوا أتجعل من يفسد فيها ويسفك الدماء)
قال الحاكم: أخبرني عبد الله بن موسى الصيدلاني، ثنا إسماعيل بن قتيبة، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لقد أخرج الله آدم من الجنة قبل أن يدخلها أحد قال الله تعالى إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء وقد كان فيها قبل أن يخلق بألفي عام الجن بنو الجان فأفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء فلما قال الله (إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) يعنون الجن بني الجان فلما أفسدوا في الأرض بعث عليهم جنودا من الملائكة فضربوهم حتى ألحقوهم بجزائر البحور قال فقال الملائكة أتجعل فيها من يفسد فيها كما فعل أولئك الجن بنو الجان قال فقال الله (إني أعلم ما لا تعلمون) .
(وصححه ووافقه الذهبي. (المستدرك 2/261) . وقد يكون هذا الخبر من أهل الكتاب ولكنه من الأخبار التي لا تخالف نصا من الكتاب والسنة) .(1/134)
وأخرج الطبري وابن أبي حاتم بإسناديهما الحسن عن قتادة في قوله (أتجعل فيها من يفسد فيها) قال كان الله أعلمهم أنه إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء فذلك حين قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها.
قوله تعالى (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك)
أخرج مسلم بإسناده عن أبي ذر عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل أي الكلام أفضل؟ قال: ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده. سبحان الله وبحمده.
((الصحيح رقم 2731 - الذكر والدعاء، ب فضل سبحان الله وبحمده) ، وأخرجه البغوي في تفسيره من طريق مسلم به) .
وأخرج الطبري وابن أبي حاتم بإسناديهما الحسن عن قتادة في قوله (ونحن نسبح بحمدك) قال: التسبيح، التسبيح.
وأخرج الفريابي عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد (نسبح لك ونقدس لك) قال: نعظمك.
وإسناده حسن.
وأخرج الطبري بإسناده الصحيح عن مجاهد في قول الله (ونقدس لك) قال: نعظمك ونكبرك.
وأخرج الطبري وابن أبي حاتم بإسناديهما الحسن عن قتادة في قوله (ونقدس لك) قال: التقديس: الصلاة.
قوله تعالى (قال إني أعلم ما لا تعلمون)
قال الطبري: وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد -وحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا مؤمل- قالا جميعا: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إني أعلم ما لا تعلمون) قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها.
(وإسناده صحيح. وأخرجه اللالكائي من طريق علي بن بذيمة عن مجاهد بلفظه. (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ص 546)) .(1/135)
وأخرج الطبري بإسناده الصحيح عن مجاهد في قول الله تعالى (إني أعلم ما لا تعلمون) قال: علم من إبليس المعصية.
وأخرجه الطبري أيضاً من طرق أخرى عن مجاهد بنحوه.
وأخرج الطبري بإسناده الحسن عن سعيد عن قتادة قال: (إني أعلم ما لا تعلمون) فكان في علم الله أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة.
أخرج البخاري ومسلم بإسناديهما عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم -وهو أعلم بهم-: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون".
((صحيح البخاري رقم 555 - مواقيت الصلاة، ب فضل صلاة العصر) ، (وصحيح مسلم رقم 210 - المساجد ومواضع الصلاة، ب فضل صلاتي الصبح والعصر) واللفظ للبخاري. وذكره ابن كثير ثم قال: فقولهم أتيناهم وهم يصلون من تفسير قوله لهم (إني أعلم ما لا تعلمون) . (التفسير 1/130)) .
قوله تعالى (وعلم آدم الأسماء كلها)
قال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عبد الله الأسدي وخلاد بن يحيى قالا: أخبرنا مسعر بن أبي حصين قال: قال لي سعيد بن جبير أتدري لم سمي آدم؟ لأنه خلق من أديم الأرض.
((الطبقات الكبرى 1/26) ، ورجاله ثقات إلا خلاد بن يحيى بن صفوان السلمي صدوق وقد تابعه محمد ابن عبد الله الأسدي. وأبو حصين هو: عثمان بن عاصم بن حصين الأسدي. فالإسناد صحيح) .
وأخرجه الطبري عن أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد، قال حدثنا مسعر، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، قال: خلق آدم من أديم الأرض، فسمى آدم.(1/136)
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)
(ورجاله ثقات إلا أحمد بن إسحاق وهو الأهوازي: صدوق. وأبو حصين: هو عثمان بن عاصم المتقدم في رواية ابن سعد فالإسناد حسن. وانظر إلى قوله تعالى (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة) وقد ورد في الحديث المتفق عليه أن الله تعالى علمه أسماء كل شيء) .
فأخرج الشيخان بسنديهما عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو الناس، خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا ... " الحديث.
((الصحيح رقم 4476 - التفسير - سورة البقرة، ب قول الله (وعلم آدم الأسماء كلها)) .
(وصحيح مسلم رقم 322 - الإيمان، ب أدنى أهل الجنة منزلة فيها) . واللفظ للبخاري) .
قال ابن حبان: أخبرنا محمد بن عمر بن يوسف، حدثنا محمد بن عبد الملك ابن زنجويه، حدثنا أبو توبة، حدثنا معاوية بن سلام، عن أخيه زيد بن سلام، قال سمعت أبا سلام قال: سمعت أبا أمامة أن رجلاً قال: يا رسول الله أنبي كان آدم؟ قال: نعم مكلم. قال: فكم كان بينه وبين نوح؟ قال: عشرة قرون.
((الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) 14/69 ح 6190) ، وذكره ابن كثير بسنده ومتنه ثم قال: وهذا على شرط مسلم ولم يخرجه، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام. ا. هـ (قصص الأنبياء 1/60) . وأخرجه الطبراني في (المعجم الكبير ح 7545) من طريق أبي توبة الربيع بن نافع به. وذكره الهيثمي في (مجمع الزوائد 8/210) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير أحمد بن خليد الحلبي وهو ثقة. وأخرجه الحاكم من طريق أبي توبة وأطول وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 2/262) ، وصححه أيضاً محقق الإحسان) .
قوله تعالى (ثم عرضهم على الملائكة)
وأخرج الطبري بإسناده الحسن عن معمر عن قتادة في قوله (وعلم آدم الأسماء كلها) ، قال: علمه اسم كل شيء، هذا جبل، وهذا بحر، وهذا كذا وهذا كذا، لكل شيء. ثم عرض تلك الأشياء على الملائكة فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين.(1/137)
وأخرج الطبري وابن أبي حاتم بإسناديهما الحسن عن قتادة (ثم عرضهم) قال علمه اسم كل شيء ثم عرض تلك الأسماء على الملائكة.
قوله تعالى (فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين)
وأخرج الطبري بإسناده الصحيح عن مجاهد في قوله (بأسماء هؤلاء) قال: بأسماء هذه التي حدثت بها آدم.
قوله تعالى (قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا)
تقدم حديث مسلم ورواية الطبري وابن أبي حاتم عند قوله تعالى (ونحن نسبح بحمدك) .
قوله تعالى (إنك أنت العليم الحكيم)
أخرج ابن أبي حاتم بإسناده الجيد عن أبي العالية قوله (الحكيم) قال: حكيم في أمره.
قوله تعالى (قال يا آدم أنبئهم بأسماءهم فلما أنبأهم بأسماءهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض)
أخرج الطبري بإسناده الحسن عن سعيد عن قتادة قوله (قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم) فأنبأ كل صنف من الخلق باسمه وألجأه إلى جنسه.
قوله تعالى (وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون)
أخرج الطبري بإسناده الحسن عن معمر عن قتادة في قوله (وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) قال: أسروا بينهم فقالوا: يخلق الله ما يشاء أن يخلق، فلن يخلق خلقا إلا ونحن أكرم عليه منه.
وأخرج ابن أبي حاتم بإسناده الجيد عن أبي العالية (وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) فكان الذي كتموا قولهم لن يخلق ربنا خلقا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم.(1/138)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)
قوله تعالى (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم)
قال الشيخ الشنقيطي عند هذه الآية: لم يبين هنا هل قال لهم ذلك قبل خلق
آدم أو بعد خلقه؟ وقد صرح في سورة الحجر وص بأنه قال لهم ذلك قبل خلق
آدم. فقال في الحجر (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) وقال في
سورة ص (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) .
وأخرج ابن أبي حاتم بإسناده الجيد عن أبي العالية في قول الله (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) قال للملائكة الذين كانوا في الأرض.
قوله تعالى (فسجدوا إلا إبليس أبي واستكبر)
وأخرج الطبري بإسناده الحسن عن معمر عن قتادة قوله (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن) الكهف: 50. كان من قبيل من الملائكة يقال لهم: الجن.
وهذا التفسير مستنبط من قوله تعالى (فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه) .
وأخرج الطبري عن محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي عن عوف، عن الحسن، قال: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط وإنه لأصل الجن، كما أن آدم أصل الإنس.
(وذكره ابن كثير وصحح إسناده (التفسير 1/140)) .
قال الشيخ الشنقيطي عند هذه الآية: لم يبين هنا موجب استكباره في زعمه، ولكنه بينه في مواضع أخر كقوله (قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) الأعراف: 12. وقوله (قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون) الحجر: 33.(1/139)
وأخرج الطبري بإسناده الحسن عن سعيد عن قتادة قوله: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) فكانت الطاعة لله والسجدة لآدم أكرم الله آدم أن أسجد له ملائكته.
ومعنى: استكبر أي تكبر فالسين للمبالغة.
((انظر تفسير القاسمي 2/101)) .
وقد بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معنى الكبر وخطره. فأخرج مسلم بإسناده عن ابن مسعود عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ... الكبر بطر الحق وغمط الناس".
((الصحيح رقم 147 - الإيمان، ب تحريم الكبر وبيانه)) .
وأخرج ابن أبي حاتم بإسناده الصحيح عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قوله (أبى واستكبر وكان من الكافرين) حسد عدو الله إبليس آدم على ما أعطاه الله من الكرامة، وقال: أنا ناري وهذا طيني. فكان بدء الذنوب الكبر، استكبر عدو الله أن يسجد لآدم.
قوله تعالى (وكان من الكافرين)
أخرج ابن أبي حاتم بإسناده الجيد عن أبي العالية في قوله (وكان من الكافرين) يعني: من العاصين.
وأخرج البغوي عند آخر هذه الآية بإسناده عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، أنا جرير ووكيع وأبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي ويقول يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فأطاع فله الجنة وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار".
((التفسير 1/63) وإسناده صحيح. وأخرجه مسلم في (صحيحه من حديث أبي هريرة - كتاب الإيمان، ب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة رقم 133)) .(1/140)
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)
قوله تعالى (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، ثنا عبدة بن سليمان عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن ابن عباس قال: إنما سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض.
(ورجاله ثقات على شرط الشيخين وإسناده صحيح. وأبو الضحى هو مسلم بن صبيح الهمداني) .
وأخرجه ابن أبي حاتم بإسناده الجيد عن أبي العالية قال: قال الله تبارك وتعالى (يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة) قال: خلق الله آدم يوم الجمعة وأدخله الجنة يوم الجنة فجعله في جنات الفردوس.
وله شاهد من الصحيح كما سيأتي عند قوله تعالى (فأخرجهما مما كانا فيه) .
وقوله تعالى (أنت وزوجك) يوحي أن حواء قد خلقت. وقد أخبرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن خلقها فأخرج الشيخان بسنديهما عن أبي هريرة مرفوعاً: "استوصوا بالنساء، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء".
((فتح الباري رقم 3331 - أحاديث الأنبياء، ب خلق آدم وذريته) ، (وصحيح مسلم رقم 60 - الرضاع، ب الوصية بالنساء) . واللفظ للبخاري. قال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث: قيل فيه إشارة إلى أن حواء خلقت من ضلع آدم الأيسر وقيل من ضلعه القصير. أخرجه ابن إسحاق وزاد اليسرى من قبل أن يدخل الجنة وجعل مكانه لحم. (فتح الباري 6/368)) .
قوله تعالى (وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة ... )
وأخرج الطبري بإسناده الصحيح عن مجاهد في قوله (رغدا) قال: لا حساب عليهم.
وأخرج الطبري بإسناده الحسن عن سعيد عن قتادة قوله (يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما) ثم إن البلاء الذي كتب على الخلق، كتب على آدم كما ابتلي الخلق قبله، أن الله جل ثناؤه أحل له ما في الجنة أن يأكل منها رغدا حيث شاء، غير شجرة واحدة نهي عنها، وقدم إليه فيها، فما زال البلاء حتى وقع بالذي نهي عنه.
انظر الآية رقم (58) من السورة نفسها.(1/141)
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)
قوله تعالى (فأزلهما الشيطان عنها)
أخرج ابن أبي حاتم عن أبيه قال: ثنا خالد بن خداش المهلبي ثنا حماد بن زيد عن الزبير بن خريت، عن عكرمة قال: إنما سمي الشيطان لأنه تشيطن.
(ورجاله ثقات إلا خالد بن خداش صدوق فالإسناد حسن) .
وقد فصل الله تعالى كيف أزلهما الشيطان كما في سورة طه آية (116-123) قال تعالى (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) .
قوله تعالى (فأخرجهما مما كانا فيه)
أخرج مسلم بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها".
((الصحيح رقم 854 - الجمعة، ب فضل يوم الجمعة) ، وذكره ابن كثير في التفسير (1/148) .
وانظر الآيات السابقة من سورة طه) .
قوله تعالى (وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو)
أخرج آدم بن أبي إياس بإسناده الصحيح عن مجاهد في قول الله (اهبطوا بعضكم لبعض عدو) يعني: إبليس وآدم.
قوله تعالى (ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الجيد عن أبي العالية في قوله (ولكم في الأرض مستقر) هو قوله (الذي جعل لكم الأرض فراشا) البقرة: 22.(1/142)
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)
قوله تعالى (فتلقى آدم من ربه كلمات)
أخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله (فتلقى آدم من ربه كلمات) هو قوله (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) .
((التفسير ص 35) ، وإسناده صحيح. وأخرجه الطبري بإسناده عن سعيد عن قتادة عن الحسن بلفظه. وهذا من قبيل تفسير القرآن بالقرآن) .
قوله تعالى (فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم)
قال المروزي: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أنبأ جرير وأبو معاوية، عن الأعمش، عن سعيد بن عبيدة، عن المستورد بن أحنف، عن صلة بن زفر، عن حذيفة قال: صلبت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة، فكان إذا مر بآبة رحمة سأل، وإذ مر بآية عذاب تعوذ، وإذا مر بآية فيها تنزيه لله سبح.
((تعظيم قدر الصلاة 1/327 رقم 315) . ورجاله ثقات على شرط مسلم وإسناده صحيح. وقد روى أبو داود وأحمد والترمذي في الشمائل والطبراني في المعجم الكبير ومسند الشاميين والبيهقي في السنن الكبرى وشعب الإِيمان من حديث عوف بن مالك الأشجعي قال: قمت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة فقام فقرأ سورة البقرة لا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف وتعوذ. وحسنه محقق شعب الإيمان انظر (شعب الإيمان 5/57 مع الحاشية) ، وانظر (مسند أحمد 2/24) ، (وسنن النسائي الدعاء في السجود 2/223) ، والسنن (الكبرى 2/310) (والمعجم الكبير 18/61 رقم 113) ، (وتحفة الأشراف 8/213 رقم 10912)) .
قوله تعالى (قلنا اهبطوا منها جميعا)
انظر الآية السابقة رواية آدم بن أبي إياس عن مجاهد.
قال عبد الرزاق قال: نا معمر، وأخبرني عوف أيضاً عن قسامة عن أبي موسى أن الله حين أهبط آدم من الجنة إلى الأرض علمه صنعة كل شيء وزوده من ثمار الجنة، فثماركم هذه من ثمار الجنة غير أن هذه تتغير وتلك لا تتغير.
((التفسير ص 35) ، ورجاله ثقات وإسناده صحيح. وقسامة: هو ابن زهير المازني معروف بالرواية عن أبي موسى الأشعري وبرواية عوف بن أبي جميلة الأعرابي عنه. (انظر تهذيب الكمال ل 1129)) .(1/143)
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)
قوله تعالى (فإما يأتينكم مني هدى)
أخرج ابن أبي حاتم بإسناده الجيد عن أبي العالية في قوله (فإما يأتينكم مني هدى) قال: الهدى: الأنبياء والرسل والبيان.
قوله تعالى (فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)
وبه عن أبي العالية في قوله (فمن تبع هداي) يعني: البيان.
قوله تعالى (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)
أخرج مسلم بإسناده عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون. ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم (أو قال بخطاياهم) فأماتهم إماتة. حتى إذا كانوا فحما، أذن بالشفاعة. فجيء بهم ضبائر ضبائر. فبثوا على أنهار الجنة. ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم. فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل". فقال رجل من القوم: كأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد كان بالبادية.
(الصحيح رقم 185 - الإيمان، ب إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار) ، وذكره ابن كثير (التفسير 1/150) . قوله: ضبائر ضبائر: أي جماعات في تفرقة (شرح مسلم للنووي 3/38) .
وأخرج ابن أبي حاتم بإسناده الصحيح عن سعيد عن قتادة قوله (والذين كفروا) قال: المشركون من قريش.
وقد ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا مر بآية عذاب تعوذ، كما في آخر تفسير آية (37) من هذه السورة.
قوله تعالى (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم)
وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
قال عبد بن حميد في التفسير: حدثنا أبو نعيم ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق عن عبيدة بن ربيعة عن عبد الله بن مسعود قال: إلياس هو إدريس، ويعقوب هو إسرائيل.
((انظر تغليق التعليق 4/9) ، وحسنه الحافظ ابن حجر (فتح الباري 6/373)) .(1/144)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)
وأخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي من طريق بكير بن شهاب عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس أن اليهود قالوا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فأخبرنا عما حرم إسرائيل على نفسه؟ قال: اشتكى عرق النسا فلم يجد شيئاً يلائمه إلا لحوم الإبل وألبانها ...
وهذا جزء من حديث تقدم تخريجه عند الآية (19) من هذه السورة عند تفسير: الرعد. وروى الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن عمير مولى ابن عباس عن ابن عباس أن إسرائيل كقولك: عبد الله.
((انظر تفسير ابن كثير 1/151) . ورجاله ثقات وعنعنة الأعمش لا تضر لأن المعنى معروف في
اللغة السريانية. (انظر تفسير القرطبي 1/331)) .
أخرج ابن أبي حاتم بإسناده عن محمد بن إسحاق بسنده الحسن عن ابن عباس قال: يا أهل الكتاب للأحبار من اليهود (اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) أي بلائي عندكم وعند آبائكم لما كان نجاهم به من فرعون وقومه.
وقد بين الله تعالى بعض النعم التي أنعم بها علي بني إسرائيل ومنها: قوله تعالى (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى) البقرة: 57.
وقوله (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ... ) البقرة: 49.
وقوله (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) القصص: 5. وقوله (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين) البقرة: 47. وقد فضلهم على أهل زمانهم كما سيأتي عند تفسير هذه الآية. وقوله (وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون ... ) البقرة: 50. وقوله (وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ... ) البقرة 60.(1/145)
قوله تعالى (وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم)
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا ما عهده وما عهدهم، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر كقوله (وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار) المائدة: 12. فعهدهم هو المذكور في قوله (لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا) وعهده هو المذكور في قوله (لأكفرن عنكم سيئاتكم) الآية. وأشار إلى عهدهم أيضاً بقوله (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولاتكتمونه) آل عمران: 187. إلى غير ذلك من الآيات.
وأخرج ابن أبي حاتم بإسناده عن محمد بن إسحاق بسنده الحسن عن ابن عباس (أوفوا بعهدي) الذي أخذت في أعناقكم للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ جاءكم. (أوف بعهدكم) أنجز لكم ما وعدتكم عليه بتصديقه واتباعه فوضع عنكم ما كان عليكم من الإصر والأغلال التي كانت في أعناقكم بذنوبكم التي كانت من إحداثكم.
قوله تعالى (وإياي فارهبون)
وبه عن ابن عباس (فارهبون) أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره.
وأخرج ابن أبي حاتم بإسناده الجيد عن أبي العالية (وإياي فارهبون) فاخشون. ثم قال: وكذا روي عن السدي والربيع بن أنس وقتادة.
قوله تعالى (وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم)
أخرج ابن أبي حاتم بإسناده الجيد عن أبي العالية: في قوله (وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم) يقول: يا معشر أهل الكتاب آمنوا بما أنزلت على محمد مصدقا لما معكم يقول: لأنهم يجدون محمدا مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل.(1/146)
وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)
وأخرج الطبري بإسناده الصحيح عن مجاهد في قول الله (وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم) يقول: إنما أنزلت القرآن مصدقا لما معكم التوارة والإنجيل.
قوله تعالى (ولا تكونوا أول كافر به)
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن إسحاق بإسناده الحسن عن ابن عباس (ولا تكونوا أول كافر به) وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم.
وأخرج بإسناده الجيد عن أبي العالية في قوله (ولا تكونوا أول كافر به) يقول: لا تكونوا أول من كفر بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قوله تعالى (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا)
قال الإمام أحمد: ثنا يونس وسريج بن النعمان قالا ثنا فليح عن سعيد بن عبد الله بن عبد الرحمن أبي طوالة عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من تعلم علما مما يبتغي به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة". قال سريج في حديثه يعني ريحها.
((المسند رقم 2338) ، وأخرجه ابن ماجة (المقدمة - ب الانتفاع بالعلم والعمل به) من طريق يونس وسريج به. وصححه الألباني (صحيح الجامع الصغير 5/272)) .
قوله (وإياي فاتقون)
راجع الآثار الواردة في ذكر المتقين عند قوله تعالى (هدى للمتقين) .
قوله تعالى (ولا تلبسوا الحق بالباطل)
أخرج ابن أبي حاتم بإسناده الجيد عن أبي العالية في قوله: (ولا تلبسوا الحق بالباطل) يقول: ولا تخلطوا الحق بالباطل وأدوا النصيحة لعباد الله في أمر محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ولا تلبسوا الحق بالباطل) الحق الذي لبسوه بالباطل: هو إيمانهم ببعض ما في التوراة. والباطل الذي لبسوا به الحق:
كفرهم ببعض ما في التوراة وجحدهم له. كصفات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيرها مما كتموه(1/147)
وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
وجحدوه وهذا يبينه قوله تعالى (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) الآية البقرة: 85. والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب كما تقدم.
وأخرج ابن أبي حاتم بإسناده الصحيح عن قتادة في قول الله (ولا تلبسوا الحق بالباطل) قال: لا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام إن دين الله الإسلام، واليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله. ثم قال: وروي عن سعيد بن جبير والربيع بن أنس نحو ما ذكرنا عن أبي العالية وروي عن الحسن نحو قول قتادة.
قوله تعالى (وتكتموا الحق وأنتم تعلمون)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن ابن إسحاق بسنده عن ابن عباس (وتكتموا الحق وأنتم تعلمون) أي لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وبما جاء به وأنتم تجدونه عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم.
وأخرج الطبري بإسناده الصحيح عن مجاهد في قول الله (وتكتموا الحق وأنتم تعلمون) قال: يكتم أهل الكتاب محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهم يجدونه عندهم في التوراة والإنجيل.
قوله تعالى (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا عصام بن رواد، ثنا آدم، ثنا مبارك بن فضالة عن الحسن في قوله (وأقيموا الصلاة) قال: فريضة واجبة لا تنفع الأعمال إلا بها وبالزكاة. (ورجال الإسناد ثقات إلا عصاما ومباركا فصدوقان، ومبارك كثير التدليس ولكن روايته عن الحسن يحتج بها. (انظر تهذيب التهذيب 10/29) ، فالإسناد حسن. وقال أيضاً: حدثنا علي بن الحسين، ثنا عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم، ثنا الوليد ثنا عبد الرحمن بن نمر قال: سألت الزهري عن قول الله (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) قال الزهري: إقامتها أن تصلي الصلوات الخمس لوقتها. قال المحقق حسن الإسناد ... وأصله في الصحيحين مرفوعا: أي الأعمال أحب إلى الله قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصلاة على وقتها ... " الحديث(1/148)
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)
قوله تعالى (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم)
أخرج الشيخان بسنديهما عن أسامة - رضي الله عنه - مرفوعاً: "يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون أي فلان ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت أمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه".
((صحيح البخاري رقم 2989 - بدء الخلق، ب صفة النار) ، (وصحيح مسلم رقم 2989 - الزهد، ب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله) . واللفظ للبخاري وقد اقتصرت على ذكر الشاهد. وأخرجه البغوي في (التفسير 1/68) بإسناده عن البخاري به) .
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن محمد بن إسحاق بسنده عن ابن عباس (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) أي تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة والعهد من التوراة، (وتنسون أنفسكم) أي تتركون أنفسكم.
وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) قال: كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وبالبر ويخالفون فعيرهم الله.
((التفسير ص 35) ، وإسناده صحيح) .
قال الحافظ الذهبي: حديث أبي صالح كاتب الليث حدثني معاوية بن صالح عن سليم بن عامر أن أبا أمامة حدثه قال: خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد صلاة الصبح فقال: "إني رأيت رؤيا هي حق فاعقلوها، أتاني رجل فأخذ بيدي فاستتبعني حتى أتى جبلا وعرا فقال لي ارقه. قلت لا أستطيع. فقال إني سأسهله لك، فجعلت كلما رفعت قدمي وضعتها على درجة حتى استوينا على سواء الجبل، فانطلقنا فإذا نحن برجال ونساء مشققة أشداقهم، قلت: ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء يقولون ما لا يفعلون -فذكر خبراً طويلاً يقول فيه- ثم رفعت رأسي فإذ ثلاثة نفر تحت العرش. قلت ما هؤلاء؟ قال: أبوك إبراهيم وموسى وعيسى وهم ينتظرونك".
(إسناده جيد، رواه أبو إسماعيل الترمذي عن كاتب الليث، وهو ملي بمعرفته إن شاء الله (العلو ص 82)) .(1/149)
قوله تعالى (وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون)
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن محمد بن إسحاق بسنده عن ابن عباس (وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) أي تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسولي فتنقضون ميثاقي وتجحدون بما تعلمون من كتابي.
قوله تعالى (واستعينوا بالصبر والصلاة)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (واستعينوا بالصبر والصلاة) . الاستعانة بالصبر على أمور الدنيا والآخرة لا إشكال فيها. وأما نتيجة الاستعانة بالصلاة.
فقد أشار لها تعالى في آيات من كتابه، فذكر أن من نتائج الاستعانة بها: النهي عما لا يليق وذلك في قوله (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) وأنها تجلب الرزق وذلك في قوله (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى) ولذا كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة.
قال الإمام أحمد: ثنا إسماعيل بن عمر وخلف بن الوليد قالا ثنا يحيى بن زكريا يعني ابن زائدة عن عكرمة بن عمار عن محمد بن عبد الله الدولي قال: قال عبد العزيز أخو حذيفة قال حذيفة كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا حزبه أمر صلى.
((المسند 5/388) ، وأخرجه أبو داود (السنن رقم 1319 - الصلاة، ب وقت قيام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالليل) ، والطبري في (التفسير رقم 850) من طريق يحيى بن زكريا به. وقد صححه أحمد شاكر في تحقيقه لتفسير الطبري، وحسنه الألباني (صحيح الجامع الصغير 4/215)) .
وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا كهمس بن الحسن عن الحجاج بن الفرافصة، قال أبو عبد الرحمن -هو عبد الله بن يزيد-: وأنا قد رأيته في طريق فسلم علي وأنا صبي، رفعه إلى ابن عباس، أو أسنده إلى ابن عباس، قال: وحدثنا همام بن يحيى أبو عبد الله صاحب البصري، أسنده إلى ابن عباس، وحدثني عبد الله بن لهيعة ونافع بن يزيد المصريان عن قيس بن الحجاج عن حنش الصنعاني عن ابن عباس، ولا أحفظ حديث بعضهم من بعض،(1/150)
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)
أنه قال: كنت رديف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا غلام، أو يا غليم، ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بها؟ فقلت: بلى، فقال: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، قد جف القلم بما هو كائن، فلو أن الخلق كلهم جميعا أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه، وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه، واعلم أن الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا.
((المسند رقم 2804) ، وصححه أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (4/233 ح 2669) ، أخرجه الترمذي (السنن رقم 2516 - صفة القيامة، ب 59) من طريق عبد الله بن لهيعه والليث بن سعد عن قيس به نحوه مختصرا ثم قال: هذا حديث حسن. وصححه الشيخ الألباني (صحيح سنن الترمذي 2/309 رقم 2043) . وحسنه الحافظ ابن رجب الحنبلي في رسالة بشرح هذا الحديث اسمها: "نور الاقتباس في مشكاة وصية - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لابن عباس رضي الله عنهما ص23، 24". وفي كتابه جامع العلوم والحكم (ص 174)) .
وقال الطبري: حدثنا محمد بن العلاء، ويعقوب بن إبراهيم، قالا: حدثنا ابن عليه، قال: حدثنا عيينة بن عبد الرحمن، عن أبيه: أن ابن عباس نعي إليه أخوه قثم، وهو في سفر، فاسترجع. ثم تنحى عن الطريق، فأناخ فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) .
(ورجاله ثقات وإسناده صحيح وأبو عيينة هو عبد الرحمن بن جوشن. وأخرجه المروزي (تعظيم قدر الصلاة 1/222 رقم 201) ، والحاكم (المستدرك 2/269-270) من طريق هشيم عن خالد بن صفوان عن زيد بن علي بن الحسين عن أبيه به، وصححه الحاكم وأقره الذهبي) .
وأخرج ابن أبي حاتم بإسناده الجيد عن أبي العالية يقول: َاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ على مرضات الله. واعلموا أنها من طاعة الله.
وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل الاستعانة بالصبر انظر مثلا (جامع الأصول 6/429-441) .(1/151)
وأخرج المروزي والحاكم من طريق إسحاق بن إبراهيم، أنا عبد الرزاق أنا معمر، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أمه أم كلثوم بنت عقبة، وكانت من المهاجرات الأول، في قوله (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) قال غشي على عبد الرحمن بن عوف غشية حتى ظنوا أنه فاضت نفسه فيها فخرجت امرأته: أم كلثوم إلى المسجد تستعين بما أمرت به من الصبر والصلاة.
((تعظيم قدر الصلاة 1/223، 224 رقم 205) ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي (المستدرك 2/269) . وأخرجه عبد الرزاق في التفسير بنحوه (التفسير ص 50، 51)) .
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن بن محمد بن الصباح، ثنا سفيان بن عيينة قال: حدثونا يعني: ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله (واستعينوا بالصبر) قال: الصبر: الصيام.
(ورجاله ثقات وإسناده صحيح) .
قوله تعالى (وإنها لكبيرة)
أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن بن محمد بن الصباح، ثنا شبابة، ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله (وإنها لكبيرة) قال: الصلاة.
(ورجاله ثقات إلا ورقاء صدوق والإسناد حسن) .
وانظر الروايات الواردة عند قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة ... ) آية: 153 من هذه السورة.
قوله تعالى (إلا على الخاشعين)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (إلا على الخاشعين) يعني: المصدقين بما أنزل الله تعالى.
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية في قوله (إلا على الخاشعين) قال يعني: الخائفين.
وأخرج عبد بن حميد عن شبابة عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله (إلا على الخاشعين) على المؤمنين حقا.
((انظر تغليق التعليق 4/171، 172) ، وإسناده حسن) .(1/152)
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)
قوله تعالى (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم)
قال الطبري: حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا أبو داود الحفري عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: كل ظن في القرآن فهو علم.
(وذكره ابن كثير ثم قال: وهذا سند صحيح. (التفسير 1/162)) .
ولو لم يقل مجاهد كل ظن لكان أحسن لأن بعض الآيات تخالف ما ذهب إليه مثل قوله تعالى (وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون) الجاثية: 24. وقوله (لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون) البقرة 78. وقوله (ما لهم به من علم إلا اتباع الظن) النساء: 157. وقوله (إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون) الأنعام: 116. وغيرها من الآيات في باب (ظن) فلو جعلها على سبيل التغليب لكان أحسن والله أعلم.
وأخرج ابن أبي حاتم بإسناده الجيد عن أبي العالية في قوله (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم) قال: الظن هاهنا اليقين.
قال الشيخ الشنقيطي عند هذه الآية: المراد بالظن هنا: اليقين كما يدل عليه قوله تعالى (وبالآخرة هم يوقنون) .
قوله تعالى (وأنهم إليه راجعون) .
وأخرج ابن أبي حاتم بإسناده عن أبي العالية في قوله (وأنهم إليه راجعون) قال: يستيقنون أنهم يرجعون إليه يوم القيامة.
قوله تعالى (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين)
أخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى (وأني فضلتكم على العالمين) قال: فضلوا على عالم ذلك الزمان.
((التفسير ص 35) ، وإسناده صحيح) .
وأخرج الطبري بإسناده الصحيح عن مجاهد قال عند هذه الآية: على من هم بين ظهرانيه.(1/153)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
وأخرج ابن أبي حاتم بإسناده الجيد عن أبي العالية (وأني فضلتكم على العالمين) قال: بما أعطوا من الملك والرسل والكتب على عالم من كان في ذلك الزمان، فإن لكل زمان عالما.
(وذكره ابن كثير ثم قال: وروي عن مجاهد والربيع بن أنس وقتادة وإسماعيل ابن أبي خالد نحو ذلك ويجب الحمل على هذا لأن هذه الأمة أفضل منهم لقوله تعالى خطابا لهذه الأمة (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ)) .
والدليل من السنة ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن بهز بن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "أنتم تتمون سبعون أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله".
((أخرجه أحمد (المسند 5/3) ، والترمذي وحسنه (السنن - التفسير - سورة آل عمران رقم 3001) ، وابن ماجه (السنن - الزهد - باب صفة أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رقم 4287) ، والطبري، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 4/84) وكلهم من طريق بهز به. وقال ابن كثير: وهو حديث مشهور (التفسير2/78 ط الشعب)) .
وأخرج الشيخان بسنديهما عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته".
((فتح الباري رقم 3649 - فضائل أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، (وصحيح مسلم رقم 212 - فضائل الصحابة، ب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)) .
قوله تعالى (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئاً)
فسر الطبري هذه الآية بقوله: واتقوا يوما لا تقضي نفس عن نفس شيئاً ولا تغني عنها غنى.
ثم استدل بما ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: حدثنا أبو كريب ونصر بن عبد الرحمن الأزدي قالا، حدثنا المحاربي، عن أبي خالد الدالاني يزيد بن عبد الرحمن، عن زيد ابن أبي أنيسة، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"رحم الله عبدا كانت عنده لأخيه مظلمة في عرض -قال أبو كريب في حديثه: أو مال، أو جاه- فاستحله قبل أن يؤخذ منه، وليس ثم دينار ولا درهم،(1/154)
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
فإن كانت له حسنات أخذوا من حسناته، وإن لم تكن له حسنات حملوا عليه من سيئاتهم".
(وأخرجه أيضاً من طريق مالك عن المقبري عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا بنحوه، ومن طريق مالك أخرجه البخاري. (فتح الباري - الرقاق، ب القصاص يوم القيامة 6534)) .
وقال تعالى (يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا) لقمان: 33.
قال ابن كثير بعد أن ذكر هذه الآية: فهذا أبلغ المقامات أن كلا من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الآخر شيئاً.
وقال الطبري أيضاً: حدثني موسى بن سهل الرملي، حدثنا نعيم بن حماد قال، حدثنا عبد العزيز الدراوردي، عن عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يموتن أحدكم وعليه دين، فإنه ليس هناك دينار ولا درهم، إنما يقتسمون الحسنات والسيئات. وأشار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيده يمينا وشمالا".
((وصحح إسناده الأستاذ أحمد شاكر والصواب أن إسناده حسن لأن الدراوردي صدوق كان يحدث من كتب غيره فيخطئ. قال النسائي: حديثه عن عبيد الله العمري منكر، ونعيم بن حماد صدوق يخطيء كثيرا وقد تتبع ابن عدي ما أخطأ فيه وقال: باقي حديثه مستقيم، ولم يذكر ابن عدي هذا الحديث من أخطائه (الكامل ص 2482-2485) . وباقي رجاله ثقات والحديث السابق شاهد له وعلى هذا فالإسناد حسن) .
قوله تعالى (ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ مها عدل ولا هم ينصرون)
أخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله (ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل) لو جاءت بكل شيء لم يقبل منها.
(وإسناده صحيح) .
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية في قوله (ولا يؤخذ منها عدل) يعني فداء.
(ثم قال: وروي عن أبي مالك والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والربيع بن أنس نحو ذلك) .(1/155)
وقال الشيخ الشنقيطي عند هذه الآية: ظاهر هذه الآية عدم قبول الشفاعة مطلقاً يوم القيامة. ولكنه بين في مواضع أخر أن الشفاعة المنفية هي الشفاعة للكفار، والشفاعة لغيرهم بدون إذن رب السموات والأرض. أما الشفاعة للمؤمنين بإذنه فهي ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع. فنص على عدم الشفاعة للكفار بقوله (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) الأنبياء: 28. وقد قال (ولا يرضى لعباده الكفر) الزمر: 7. وقال تعالى عنهم مقررا له (فما لنا من شافعين) الشعراء: 100. وقال (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) المدثر: 48.
إلى غير ذلك من الآيات. وقال في الشفاعة بدون إذنه (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) البقرة: 255. وقال (وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) النجم: 26. وقال (يؤمئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا) طه: 109. إلى غير ذلك من الآيات وادعاء شفعاء عند الله للكفار أو بغير إذنه، من أنواع الكفر به جل وعلا. كما صرح بذلك قوله (ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون) يونس: 18.
وقال الألوسي عند قوله تعالى (ولا يقبل منها شفاعة) إن النفي مخصص بما قبل الإذن لقوله تعالى (لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن) طه: 109.
(روح المعاني 1/252) .
قوله تعالى (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب)
أخرج الشيخان بسنديهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة فرأى اليهود تصوم عاشوراء فقال: ما هذا قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، قال: فأنا أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه.
((صحيح البخاري رقم 2004 - الصيام، ب صيام يوم عاشوراء) ، (وصحيح مسلم رقم 128 - الصيام، باب أي يوم يصام عاشوراء) . واللفظ للبخاري. وذكره ابن كثير في (التفسير 1/167) .(1/156)
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (يسومونكم سوء العذاب) بينه بقوله بعده (يذبحون أبناءكم ... ) الآية.
وقال الطبري: حدثنا به العباس بن الوليد الآملي، وتميم المنتصر الواسطي قالا، حدثنا يزيد بن هرون قال، أخبرنا الأسبغ بن زيد (الجهني) قال، حدثنا القاسم ابن أبي أيوب قال، حدثنا سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم خليله -أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا، وائتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالا منهم الشفار، يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه ففعلوا فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم، وأن الصغار يذبحون، قال: توشكون أن تفنوا بني إسرائيل، فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة ما كانوا يكفونكم! فاقتلوا عاما كل مولود ذكر، فتقل أبناؤهم، ودعوا عاما. فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان، فولدته علانية آمنة، حتى إذا كان القابل حملت بموسى.
(ورجاله ثقات إلا الأصبغ صدوق يغرب والخبر ليس من غرائبه لأنه روي من طرق أخرى (انظر مثلا تفسير الطبري رقم 892) . وغالبا ما يكون من أخبار أهل الكتاب ولكن لا ضير لأن هذا الخبر من قبيل المسكوت عنه فلا نصدقه ولا نكذبه ونسوقه لا اعتقادا بسلامته من التحريف وإنما للتوسع في باب الأخبار والاستشهاد والاعتبار، وأن صح إلى ابن عباس (انظر تفسير القاسمي 1/44، 45)) .
قوله تعالى (وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (بلاء من ربكم عظيم) قال: نعمة. ثم قال ابن أبي حاتم وروي عن مجاهد وأبي مالك والسدي نحو ذلك.(1/157)
وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
قوله تعالى (وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون)
قال الطبري: حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار الرمادي قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: أوحى الله جل وعز إلى موسى أن أسر بعبادي ليلا إنكم متبعون. قال: فسرى موسى ببني إسرائيل ليلا، فاتبعهم فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث، وكان موسى في ستمئة ألف. فلما عاينهم فرعون قال (إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون) الشعراء: 54-56.
فسرى موسى ببني إسرائيل حتى هجموا على البحر، فالتفتوا فإذا هم برهج دواب فرعون، فقالوا: يا موسى، أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا! هذا البحر أمامنا، وهذا فرعون قد رهقنا بمن معه! قال: عسى ربكم أن
يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون. قال: فأوحى الله جل ثناؤه إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر، وأوحى إلى البحر أن اسمع لموسى وأطع إذا ضربك. قال: فبات البحر له أفكل -يعني: له رعدة- لا يدري من أي جوانبه يضربه قال: فقال يوشع لموسى: بماذا أمرت؟ قال: أمرت أن أضرب البحر. قال: فاضربه. قال: فضرب موسى البحر بعصاه، فانفلق فكان فيه اثنا عشر طريقا، كل طريق كالطود العظيم، فكان لكل سبط منهم طريق يأخذون فيه. فلما أخذوا في الطريق قال بعضهم لبعض: مالنا لا نرى أصحابنا؟ قالوا لموسى: أين أصحابنا لا نراهم؟ قال: سيروا فإنهم على طريق مثل طريقكم. قالوا: لا نرضى حتى نراهم. قال سفيان، قال عمار الدهني: قال موسى: اللهم أعني على أخلاقهم السيئة. قال: فأوحى الله إليه أن قل بعصاك هكذا. وأومأ إبراهيم بيده يديرها على البحر. قال موسى بعصاه على(1/158)
الحيطان هكذا، فصار فيها كوى ينظر بعضهم إلى بعض. قال سفيان: قال أبو سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس: فساروا حتى خرجوا من البحر. فلما جاز آخر قوم موسى، هجم فرعون على البحر هو وأصحابه........ وقيل لموسى: اترك البحر رهوا -قال: طرقا على حاله- قال: ودخل فرعون وقومه في البحر، فلما دخل آخر قوم فرعون، وجاز آخر قوم موسى، أطبق البحر على فرعون وقومه، فأغرقوا.
(ورجاله ثقات والإسناد صحيح، وأبو سعيد هو عبد الكريم بن مالك الجزري، والخبر غالبا ما يكون من أخبار أهل الكتاب وهو شبيه بما تقدم في الآية السابقة ولكن له شواهد من القرآن ذكر بعضها الشيخ الشنقيطي عند تفسيره لهذه الآية فقال: لم يبين هنا كيفية فرق البحر بهم، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر كقوله (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) الشعراء: 63، وقوله (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً) الآية، طه 77) .
قوله تعالى (وأغرقنا آل فرعون)
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا كيفية إغراقهم ولكنه بينها في مواضع أخر كقوله (فأتبعوهم مشرقين فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم وأزلفنا ثم الآخرين وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين) الشعراء: 60-64. وقوله (فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم) طه: 78. وقوله (واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون) الدخان: 24. وقوله (رهوا) أي ساكنا على حالة انفلاقه حتى يدخلوا فيه، إلى غير ذلك من الآيات.(1/159)
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51)
قوله تعالى (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة)
بين الله تعالى مكان الواعدة في سورة طه آية (80) فقال (يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ... ) . والطور سيأتي ذكره عند الآية (63) من هذه السورة إن شاء الله.
وقال الشيخ الشنقيطي عند هذه الآية: لم يبين هنا هل واعده إياها مجتمعة أو متفرقة؟ ولكنه بين في سورة الأعراف أنها متفرقة، وأنه واعده أولا ثلاثين، ثم أتمها بعشر. وذلك في قوله تعالى (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة) .
صفة موسى عليه السلام
أخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليلة أسري بي رأيت موسى وإذا هو رجل ضرب، رجل كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى فإذا هو رجل ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس، وأنا أشبه ولد إبراهيم - رضي الله عنه - به. ثم أتيت بإناءين في أحدهما لبن وفي الآخر خمر فقال: اشرب أيهما شئت فأخذت اللبن فشربته، فقيل: أخذت الفطرة، أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك".
((الصحيح رقم 3394 - الأنبياء - باب قوله تعالى: (وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ... ) .
- ضَرب: بفتح الضاد وسكون الراء: نحيف.
- شنوءة: حي من اليمين ينسبون إلى شنوءة وهو عبد الله بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد ولقب شنوءة لشنآن كان بينه وبين أهله. (فتح الباري 6/429) .
- الديماس: الحمَّام، وقيل الكن، وفي حديت المسيح: كأنه خرج من ديماس يعنى في نضرته وكثرة ماء وجهه (انظر لسان العرب 6/88)) .(1/160)
قوله تعالى (لم اتخذتم العجل من بعده)
بين الله تعالى من أي شيء هذا العجل وصفته وصرح بذكر السامري الذي صنع العجل في قوله (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار) الأعراف 148. وقوله (ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار) طه 87-88.
((أضواء البيان 1/140)) .
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحجاج بن حمزة ثنا شبابة، ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله (العجل) حسيل البقرة -ولد البقرة-.
(وإسناده حسن) .
قوله تعالى (وأنتم ظالمون)
وأخرج ابن أبي حاتم بإسناده الحسن عن مجاهد قوله: الظالمين. قال: أصحاب العجل.
قوله تعالى (ثم عفونا عنكم من بعد ذلك)
أخرج ابن أبي حاتم بإسناده الجيد عن أبي العالية في قوله (ثم عفونا عنكم من بعد ذلك) يعني: من بعد ما اتخذوا العجل.
قوله تعالى (لعلكم تشكرون)
أخرج ابن أبي حاتم عن أبيه قال: ثنا ابن أبي عمر العدني ثنا سفيان، عن مسعر، عن عون بن عبد الله في قوله (لعلكم) قال: إن لعل من الله واحب.
(رجاله ثقات وإسناده صحيح) .
قوله تعالى (وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون)
أخرج ابن أبي حاتم بإسناده الجيد عن أبي العالية في قوله (وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان) قال: فرق فيه بين الحق والباطل.
وأخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان) قال: الكتاب هو الفرقان فرق بين الحق والباطل.(1/161)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)
قوله تعالى (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)
أخرج الطبري عن عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان بن عيينة قال، قال أبو سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال موسى لقومه (توبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم) قال: أمر موسى قومه -عن أمر ربه عز وجل- أن يقتلوا أنفسهم، قال: فاحتبى الذين عكفوا على العجل فجلسوا، وقام الذين لم يعكفوا على العجل، وأخذوا الخناجر بأيديهم، وأصابتهم ظلمة شديدة، فجعل يقتل بعضهم بعضا، فانجلت الظلمة عنهم وقد أجلوا عن سبعين ألف قتيل، كل من قتل منهم كانت له توبة، وكل من بقي كانت له توبة.
(أبو سعيد هو عبد الكريم بن مالك الجزري. ورجاله ثقات وإسناده صحيح والخبر عن أهل الكتاب وهو من قبيل المسكوت عنه) .
وأخرج الطبري بإسناده الصحيح عن مجاهد في قول الله تعالى (باتخاذكم العجل) قال: كان موسى أمر قومه عن أمر ربه أن يقتل بعضهم بعضاً بالخناجر فجعل الرجل يقتل أباه ويقتل ولده فتاب الله عليهم.
قوله تعالى (فتوبوا إلى بارئكم)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية (فتوبوا إلى بارئكم) أي إلى خالقكم.
قوله تعالى (فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم ... ) الآية
قال الطبري: حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري وقتادة في قوله (فاقتلوا أنفسكم) قال: قاموا صفين يقتل بعضهم بعضا، حتى قيل لهم: كفوا! قال قتادة: كانت شهادة للمقتول وتوبة للحي.
(وإسناده حسن) .(1/162)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
قوله تعالى (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة)
قال ابن أبي حاتم: حدثني أبي قال كتب إلي أحمد بن حفص بن عبد الله النيسابوري حدثني أبي حدثني إبراهيم بن طهمان عن عباد بن إسحاق عن أبي الحويرث عن ابن عباس أنه قال في قول الله (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) أي علانية. أي حتى نرى الله.
(وفي إسناده أبو الحويرث وهو عبد الرحمن بن معاوية الرزقي، صدوق سيء الحفظ، ولكن المتن لا يحتمل الخطأ لأن له شواهد من اللغة وأهل التفسير كما سيأتي، وباقي رجاله ما بين ثقة وصدوق فالإسناد حسن) .
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة في قول الله تعالى (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) أي عيانا. ثم قال: وكذا فسره الربيع بن أنس: عيانا.
قوله تعالى (فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون)
روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله (فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم) قال: أخذتهم الصاعقة أي ماتوا ثم بعتهم الله تعالى. -ليكملوا بقية آجالهم-.
((التفسير ص 37) وإسناده صحيح. والتتمة من رواية الطبري رقم 960، وابن أبي حاتم رقم 547) .
قوله تعالى (وظللنا عليكم الغمام)
أخرج الطبري بإسناده الصحيح عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه (وظللنا عليكم الغمام) قال: هو بمنزلة السحاب.
قوله تعالى (وأنزلنا عليكم المن)
أخرج الشيخان بسنديهما عن سعيد بن زيد - رضي الله عنه - قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين".
((صحيح البخاري رقم 4478 - التفسير - سورة البقرة، ب قوله تعالى (وظللنا عليكم الغمام)) ، (وصحيح مسلم رقم 157-162 - الأشربة، ب فضل الكمأة ومداواة العين)) .(1/163)
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كان المن ينزل عليهم على الأشجار فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاءوا.
وأخرج الفريابي عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله (المن) قال: صمغة.
((تغليق التعليق 4/173) ، وإسناده حسن) .
قوله تعالى (والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم ... ) الآية
أخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله (وأنزلنا عليكم المن والسلوى) قال: كان المن ينزل عليهم مثل الثلج والسلوى طير كانت تحشرها عليهم ريح الجنوب.
((التفسير ص 37) ، وإسناده صحيح) .
وأخرج الطبري بإسناده الصحيح عن مجاهد قال: السلوى: طائر.
قوله تعالى (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية)
ومعنى ادخلوا هنا أي اسكنوا كما جاء في قوله تعالى (قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيت شئتم رغدا ... ) الأعراف: 116.
وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله (ادخلوا هذه القرية) قال: بيت القدس.
((التفسير ص 27) ، وإسناده صحيح. وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق عبد الرزاق به ثم قال: وروي عن الربيع بن أنس والسدي نحو ذلك) .
قوله تعالى (فكلوا منها حيث شئتم رغداً)
أخرج ابن أبي حاتم عن حجاج بن حمزة ثنا شبابة، ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد (رغدا) قال: لا حساب عليهم.
(وإسناده حسن) .
قوله تعالى (وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم)
أخرج الطبري بإسناده الصحيح عن مجاهد (ادخلوا الباب سجدا) قال: باب الحطة من باب إيلياء من بيت المقدس.(1/164)
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)
وأخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "قيل لبني إسرائيل (ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة) فدخلوا يزحفون على أستاههم فبدلوا، وقالوا حطة حبة في شعرة".
((الصحيح رقم 4479 - التفسير - سورة البقرة - ب (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً ... )) . وأخرجه أيضاً من حديث أبي هريرة من طريق آخر بلفظ: وقالوا: حبة في شعرة) ، (الصحيح رقم 4641 - التفسير - سورة الأعراف - ب (وقولوا حطة)) .
وقال الطبري عن محمد بن بشار قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله (ادخلوا الباب سجدا) قال: ركعا من باب صغير.
(وأخرجه الحاكم من طريق أبي حذيفة عن سفيان به. وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 2/262)) .
وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن الحسن وقتادة: أي احطط عنا خطايانا، فدخلوا على غير الجهة التي أمرو بها، دخلوا متزحفين على أوراكهم وبدلوا قولا غير الذي قيل لهم فقالوا: حبة في شعيرة.
انظر الآية رقم (71) من السورة نفسها.
((التفسير ص 37) ، وإسناده صحيح) .
وأخرج الطبري عن أبي كريب قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قوله (حطة) مغفرة.
(وأخرجه الحاكم من طريق أبي حذيفة عن سفيان به. وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 2/262)) .
قوله تعالى (وسنزيد المحسنين)
وقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه إذا مر بآية رحمة سأل.
((انظر آخر تفسير آية 37 من هذه السورة)) .
قوله تعالى (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم)
أخرج الحاكم: عن أبي بكر محمد بن عبد الله الشافعي، ثنا إسحاق بن الحسن، ثنا أبو حذيفة، ثنا سفيان، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما ادخلوا الباب سجدا قال بابا ضيقا قال ركعا، وقوله حطة قال: مغفرة. فقالوا: حنطة ودخلوا على أستاههم فذلك قوله تعالى (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم) .(1/165)
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
(وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 2/262) . وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق يحيى بن آدم عن سفيان به ثم قال: وروى عن عطاء ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك والحسن والربيع ويحيى بن رافع نحو ذلك) .
قوله تعالى (فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون)
أخرج الشيخان بسنديهما عن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الطاعون رجس أرسل على طائفة من بني إسرائيل -أو على من كان قبلكم- فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها لا تخرجوا فرارا منه". قال أبو النضر: لا يخرجكم إلا فرارا منه.
((صحيح البخاري رقم 3473 - الأنبياء) ، (وصحيح مسلم - السلام، ب الطاعون والطيرة رقم 2218 وما بعده) . واللفظ للبخاري وسقناه مختصرا) .
قوله تعالى (وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا)
قال الطبري: حدثني عبد الكريم قال، أخبرنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان، عن أبي سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ذلك في التيه.
ضرب لهم موسى الحجر فصار فيه اثنتا عشرة عينا من ماء، لكل سبط منهم عين يشربون منها.
(وأبو سعيد: هو عبد الكريم بن مالك الجزري. ورجاله ثقات والإسناد صحيح وقد أخرج الطبري بأسانيد صحيحة عن قتادة ومجاهد بنحوه) .
قوله تعالى (قد علم كل أناس مشربهم)
أخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله (قد علم كل أناس مشربهم) قال: كانوا اثني عشر سبطا لكل سبط عين.
((التفسير ص 37) ، وإسناده صحيح) .
قوله تعالى (كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين)
أخرج ابن أبي حاتم بإسناده الجيد عن أبي العالية في قوله (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) يقول: لا تسعوا في الأرض فسادا.(1/166)
وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
وأخرج أيضاً بإسناده الصحيح عن شيبان عن قتادة (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) قال: لا تسيروا في الأرض مفسدين.
قوله تعالى (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها)
قال عبد الرزاق نا معمر عن قتادة في قوله (لن نصبر على طعام واحد) قال: ملوا طعامهم، وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه مثل ذلك، فقالوا: (ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها) .
((التفسير ص 37) ، وإسناده صحيح) .
وأخرج الطبري بإسناده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (وفومها) يقول: الحنطة والخبز.
وأخرج نافع بن أبي نعيم القاري في "تفسيره" قال: سمعت الأعرج يقول: سمعت عبد الله بن عباس يقول في قول الله عز وجل (فومها) قال: الحنطة ثم قال ابن عباس أما سمعت قول أحيحة بن الجلاح حيث يقول:
قد كنت أغنى الناس شخصا واحدا ... ورد المدينة عن زراعة فوم
((تفسير القرآن ليحيى بن يمان، وتفسير لنافع بن أبي نعيم رقم 37) .
الأعرج: هو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج أخذ القراءة عرضا عن أبي هريرة وابن عباس وتلا عليه نافع بن أبي نعيم وصفه الذهبي بالإمام الحافظ الحجة المقري ت 117 هـ (سير أعلام النبلاء 5/69، 70) . أحيحه بن الجلاح: بن الحريشي الأوسي شاعر جاهلي من دهاة العرب وشجعانهم (الأعلام 1/277))
وأخرج الطبري بإسناده الصحيح عن مجاهد (وفومها) قال الخبز.
وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة والحسن: الفوم: الخبز.
((التفسير ص 37) ، وإسناده صحيح) .
قوله تعالى (قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير)
أخرج ابن أبي حاتم بإسناده الصحيح عن قتادة: (أتستبدلون الذي هو أدنى -الذي هو شر- (بالذي هو خير) .(1/167)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
قوله تعالى (اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم)
أخرج الطبري بإسناده الحسن عن قتادة (اهبطوا مصرا) أي مصرا من الأمصار فإن لكم ما سألتم.
قوله تعالى (ضربت عليهم الذلة)
أخرج عبد الرزاق عن معمر عن الحسن وقتادة في قوله (ضربت عليهم الذلة) قالا: يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون.
((التفسير ص 38) ، وإسناده صحيح) .
قوله تعالى (والمسكنة)
أخرج ابن أبي حاتم بإسناده الجيد عن أبي العالية: في قوله (ضربت عليهم الذلة والمسكنة) قال: المسكنة: الفاقة.
ثم قال: وروي عن السدي والربيع نحو ذلك.
قوله تعالى (وباءوا بغضب من الله)
أخرج عبد الرزاق في "تفسيره" عن معمر عن قتادة في قوله (فباءوا) قال: فانقلبوا. وهذا التفسير يعود لقوله تعالى (فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين) .
((انظر تغليق التعليق 4/172) ، وإسناده صحيح) .
قوله تعالى (ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق)
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبان، حدثنا عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتله نبي، أو قتل نبيا، وإمام ضلالة، وممثل من الممثلين".
((المسند رقم 3868) ، وصححه أحمد شاكر، وذكره الهيثمي ونسبه إلى أحمد والبزار ونسبه إلى أحمد والبزار ونص أن رجالهما ثقات (مجمع الزوائد 5/236) . ولكن عاصما هذا هو ابن بهدلة صدوق له أوهام فالإسناد حسن وحسنه أيضاً الشيخ مقبل الوادعي. (انظر حاشية تفسير ابن كثير 1/186)) .(1/168)
قوله تعالى (ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون)
أخرج ابن أبي حاتم بإسناده الصحيح عن قتادة (ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) اجتنبوا المعصية والعدوان فإن بهما هلك من هلك قبلكم من الناس.
قوله تعالى (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين) إلى قوله (ولاهم يحزنون) . فأنزل الله تعالى بعد هذا (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) سورة آل عمران: 85.
ثم قال الطبري: وهذا الخبر يدل على أن ابن عباس كان يرى أن الله جل ثناؤه كان قد وعد من عمل صالحا -من اليهود والنصارى والصابئين- على عمله، في الآخرة الجنة، ثم نسخ ذلك بقوله (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) .
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن سعيد عن قتادة قال: إنما سموا نصارى لأنهم كانوا بقرية يقال لها ناصرة ينزلها عيسى بن مريم فهو اسم تسموا به ولم يؤمروا به.
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مجاهد قوله (والصابئين) قال: بين المجوس واليهود لا دين لهم.
وقال الطبري: حدثنا محمد بن عبد الأعلى. قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحسن قال: حدثني زياد: أن الصابئين يصلون إلى القبلة، ويصلون الخمس. قال: فأراد أن يضع عنهم الجزية. قال: فخبر بعد أنهم يعبدون الملائكة.
(ورجاله ثقات وإسناده صحيح. (وزياد: هو زياد بن أبيه، واسم أبيه: عبيد، ادعاه معاوية أنه أخوه والتحق به فعرف بزياد بن أبي سفيان ونسبه ابن الأثير إلى أمه سمية أدرك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يره ولاه معاوية العراق. ت 53 هـ. انظر تاريخ خليفة ص 219، والإستيعاب 1/567، أسد الغابة 2/119، تهذيب تاريخ ابن عساكر 5/409، الوافي بالوفيات 15/10)) .(1/169)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)
قوله تعالى (من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (من آمن بالله) يعني من وحد الله. (واليوم الآخر) من آمن باليوم الآخر يقول آمن بما أنزل الله.
قوله تعالى (فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)
أخرج ابن أبي حاتم عن أبيه ثنا هشام بن خالد ثنا شعيب بن إسحاق ثنا سعيد ابن أبي عروبة، عن قتادة قال: أجر كبير لحسناتهم وهي الجنة.
(ورجاله ثقات إلا هشام بن خالد وهو ابن الأزرق الدمشقي صدوق. فالإسناد حسن) .
قوله تعالى (وإذ أخذنا ميثاقكم)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية قوله (ميثاقكم) يقول: أخذ مواثيقهم أن يخلصوا له ولا يعبدوا غيره.
قوله تعالى (ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ورفعنا فوقكم الطور) أوضحه بقوله (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة) .
قوله تعالى (خذوا ما آتيناكم بقوة)
لم يبين هنا هذا الذي آتاهم ما هو، ولكنه بين في موضع آخر أنه الكتاب الفارق بين الحق والباطل.
وذلك في قوله (وإذا آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون) .
وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور) قال: الطور: الجبل، اقتلعه الله فرفعه فوقهم، فقال: (خذوا ما آتيناكم بقوة) ، والقوة: الجد، وإلا قذفته عليكم، قال: فأقروا بذلك أنهم يأخذون ما أوتوا بقوة.
((التفسير ص 38) ، وإسناده صحيح) .(1/170)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية في قوله (خذوا ما آتيناكم بقوة) أي بطاعة.
وقال عبد بن حميد: ثنا شبابة، ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله (بقوة) يعمل بما فيه.
((انظر تغليق التعليق 4/173) ، وإسناده حسن) .
قوله تعالى (واذكروا ما فيه لعلكم تتقون)
أخرج ابن أبي حاتم بإسناده الجيد عن أبي العالية في قوله (واذكروا ما فيه) يقول: أقرّوا ما في التوراة واعملوا به.
قوله تعالى (ثم توليتم من بعد ذلك)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن قتادة في قوله (من بعد ذلك) قال: من بعد ما أتاهم.
قوله تعالى (فلولا فضل الله عليكم ورحمته)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية في قوله (ورحمته) قال: القرآن. ثم قال وروي عن قتادة والربيع بن أنس ومجاهد والحسن والضحاك وهلال بن يساف نحو ذلك.
وكأنهم استنبطوا هذا التفسير من قوله تعالى (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) الإسراء: 82.
قوله تعالى (لكنتم من الخاسرين)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (لكنتم من الخاسرين) قال: خسروا الدنيا والآخرة.
وقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه إذا مر بآية رحمة سأل. انظر آخر تفسير آية (37) من هذه السورة.(1/171)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
قوله تعالى (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين)
قال الشيخ الشنقيطي: عند هذه الآية: أجمل قصتهم هنا وفصلها في سورة الأعراف في قوله (واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديداً قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين) الأعراف: 163-165.
أخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت) قال: نهوا عن صيد الحيتان في يوم السبت، فكانت تشرع إليهم يوم السبت بلوا بذلك فاصطادوها فجعلهم الله قردة خاسئين.
((التفسير ص 38) ، وإسناده صحيح) .
وأخرج مسلم بسنده عن ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعاً: إن الله لم يجعل لمسخ نسلا ولا عقبا. وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك.
((الصحيح رقم 2663 - القدر، ب بيان أن الآجال والأرزاق وغيرها) . وهذا الشاهد في الحديث حيث ورد أطول من هذا اللفظ) .
أخرج عبد الرزاق: عن معمر عن قتادة في قوله (خاسئين) قال: صاغرين.
((التفسير ص 38) ، وإسناده صحيح. وأخرجه الطبري بلفظه عن محمد بن بشار قال: حدثا أبو أحمد الزبيري قال: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد. وإسناده صحيح) .
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية بلفظ: أذلة صاغرين.
قوله تعالى (فجعلناها نكالا لما بين يديها)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية في قوله (فجعلناها نكالا لما بين يديها) أي عقوبة لما خلا من ذنوبهم.(1/172)
فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)
وأخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله تعالى (لما بين يديها) ما مضى من خطاياهم إلى أن هلكوا به.
قوله تعالى (وما خلفها)
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مجاهد قوله (وما خلفها) التي قد أهلكوا بها يعني: خطاياهم.
وأخرج بسنده الجيد عن أبي العالية في قوله (وما خلفها) أي عبرة لمن بقي بعدهم من الناس.
قوله تعالى (وموعظة للمتقين)
قال الإمام عبيد الله بن بطة: حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن سلم حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل".
((إبطال الحيل ص 46، 47) . ذكره ابن كثير ثم قال: وهذا إسناد جيد، وأحمد بن مسلم هذا وثقه الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي وباقي رجاله مشهورون على شرط الصحيح (التفسير 1/193)) .
وأخرج عبد الرزاق: عند تفسير هذه الآية عن معمر عن قتادة في قوله (فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة) ، قال: لما بين يديها من ذنوبهم، وما خلفها من الحيتان، وموعظة للمتقين من بعدهم.
((التفسير ص 38) ، وإسناده صحيح) .
قوله تعالى (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي)
قال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ثنا يزيد بن هارون أبنا هشام ابن حسان عن محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني قال: كان رجل في بني(1/173)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)
بني إسرائيل عقيم لا يولد له، وكان له مال كثير، وكان ابن أخيه وارثه فقتله، ثم احتمله ليلا فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يدعيه عليهم حتى تسلحوا، وركب بعضهم إلى بعض فقال ذو الرأي والنهى على ما يقتل بعضكم بعضا وهذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيكم؟ فأتوا موسى فذكروا له: فقال (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة فقالوا: أتتخذونا هزوا؟ قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) . قال: فلو لم يعترضوا البقرة، لأجزت عنهم أدنى بقرة ولكنهم شددوا فشدد عليهم حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها. فقال: والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهبا. فأخذوها بملء جلدها ذهبا فذبحوها فضربوه بعضها فقام فقالوا من قتلك؟ فقال هذا. لابن أخيه. ثم مال ميتا فلم يعط من ماله شيء ولم يورث قاتل بعد.
((وأخرجه عبد بن حميد في تفسيره عن يزيد بن هارون به، وأخرجه آدم بن أبي إياس في تفسيره عن أبي جعفر الرازي عن هشام بن حسان به (انظر تفسير ابن كثير 1/194) ، وأخرجه عبد الرزاق (التفسير ص 38) . والطبري) من طريق أيوب عن محمد بن سيرين عن عبيدة بنحوه. والإِسناد صحيح إلى عبيدة، وقد صححه الحافظ ابن حجر عند ذكر قصة البقرة (فتح الباري 6/440) ، وما رواه من الإسرائيليات، إلا أن لبعضه شاهد من القرآن الكريم في قوله تعالى (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) البقرة 72-73) .
قوله تعالى (قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك)
أخرج عبد الرزاق: عن معمر عن قتادة: الفارض: الهرمة. يقول ليست بالهرمة ولا البكر (عوان بين ذلك) .
((التفسير ص 39) ، وإسناده صحيح) .
قوله تعالى (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها كسر الناظرين)
أخرج عبد الرزاق: عن معمر قال قتادة: هي الصافي لونها.
((التفسير ص 39) ، وإسناده صحيح) .(1/174)
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)
أخرج الطبري بإسناده الحسن عن سعيد عن قتادة (تسر الناظرين) أي: تعجب الناظرين.
قوله تعالى (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون)
أخرج الطبري عن الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة قال: لو أخذ بنو إسرائيل بقرة لأجزأت عنهم ولولا قولهم (وإنا إن شاء الله لمهتدون) لما وجدوها.
(ورجاله ثقات إلا الحسن فصدوق فالإسناد حسن) .
قال الطبري: حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثام بن علي، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لو أخذوا أدنى بقرة اكتفوا بها، لكنهم شددوا فشدد الله عليهم.
وذكره ابن كثير ثم قال: إسناده صحيح وقد رواه غير واحد عن ابن عباس وكذا قال عبيدة والسدي ومجاهد وعكرمة وأبو العالية وغير واحد.
(التفسير 1/198) .
قوله تعالى (قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها)
أخرج ابن أبي حاتم بإسناده الحسن عن شيبان النحوي عن قتادة قوله (لا ذلول) قال: يعني: صعبة يقول لم يذلها العمل.
وأخرج بإسناده الجيد عن أبي العالية (تثير الأرض) قال: يعني ليست بذلول تثير الأرض.
وأخرج بإسناده الجيد أيضاً عن أبي العالية (ولا تسقي الحرث) يقول: لا تعمل في الحرث.
أخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله (مسلمة) لا عيب فيها.
((التفسير ص 39) ، وإسناده صحيح) .(1/175)
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
وأخرج الطبري بإسناده الصحيح عن مجاهد (مسلمة) يقول: مسلمة من الشية و (لا شية فيها) لا بياض فيها ولا سواد.
وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة (لا شية فيها) : لا بياض فيها.
(وإسناده صحيح) .
قوله تعالى (قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن شيبان عن قتادة (قالوا الآن جئت بالحق) قال: قالوا: الآن بينت لنا.
قوله تعالى (وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (فادارأتم فيها) قال: اختلفتم فيها.
قوله تعالى (والله مخرج ما كنتم تكتمون)
وبه عن مجاهد في قول الله (والله مخرج ما كنتم تكتمون) قال: تغيبون.
قوله تعالى (فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون)
تقدم تفسيره في رواية عبيدة عند قوله تعالى (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ... ) الآية.
وقال الشيخ الشنقيطي عند هذه الآية: وأشار في هذه الآية إلى أن إحياء قتيل بني إسرائيل دليل على بعث الناس بعد الموت، لأن من أحيا نفسا واحدة بعد موتها قادر على إحياء جميع النفوس. وقد صرح بهذا في قوله (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) .
قوله تعالى (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)
أخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك) قال: قست قلوبهم من بعد ما أراهم الله الآية، فهي كالحجارة أو أشد(1/176)
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
قسوة، ثم عذر الحجارة، فقال (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله) .
((التفسير ص 40) ، وإسناده صحيح) .
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية في قوله (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك) يعني به: بني إسرائيل.
وقال الشيخ الشنقيطي عند هذه الآية: لم يبين هنا سبب قسوة قلوبهم، ولكنه أشار إلى ذلك في مواضع أخر كقوله (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية) وقوله (فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم) الآية.
أخرج الطبري بإسناده الصحيح عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله) قال: كل حجر يتفجر منه الماء، أو يتشقق عن ماء، أو يتردى من رأس جبل، فهو من خشية الله عز وجل. نزل بذلك القرآن.
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده عن محمد بن إسحاق بسنده الحسن عن ابن عباس (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله) أي وإن من الحجارة لألين من قلوبكم عما تدعون إليه من الحق (وما الله بغافل عما تعملون) .
وإسناد الخشوع إلى الحجارة من باب الحقيقة لا من باب المجاز -كما قيل- وقد وردت أحاديث صحيحة تدل على ذلك فعن أنس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "هذا جبل يحبنا ونحبه".
(أخرجه الشيخان (صحيح مسلم رقم 1365 - الحج، ب فضل المدينة)) .
وقال أيضاً: "إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني أعرفه الآن".
(أخرجه مسلم (الصحيح رقم 2277 - الفضائل، ب فضل نسب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتسليم الحجر عليه قبل النبوة)) .(1/177)
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
قوله تعالى (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن ابن إسحاق عن ابن عباس قال: ثم قال لنبيه محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولمن معه من المؤمنين يؤيسهم منهم (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم) .
وأخرج الطبري بإسناد حسن عن قتادة (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم) قال: هم اليهود.
قوله تعالى (وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن ابن إسحاق عن ابن عباس (وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله) وليس قوله سمعوا التوراة كلهم قد سمعها ولكنهم الذين سألوا موسى رؤية ربهم فأخذتهم الصاعقة فيها.
وأخرج الطبري بإسناده الصحيح عن مجاهد قال: فالذين يحرفونه والذين يكتمونه هم العلماء منهم.
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية قال: عمدوا إلى ما أنزل الله في كتابهم من نعت محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فحرفوه عن مواضعه.
وأخرج بسنده الحسن عن شيبان النحوي عن قتادة (ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون) قال: هم اليهود وكانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه بعد ما سمعوه ووعوه.
أخرج البخاري بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن اليهود جاءوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكروا أن رجلا منهم وامرأة زنيا. فقال لهم رسول الله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون. فقال عبد الله ابن سلام: كذبتم، إن فيها الرجم. فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها. فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك،(1/178)
فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم، فقالوا صدق يا محمد، فيها آية الرجم. فأمر بهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرجما. قال عبد الله: فرأيت الرجل يجنأ على المرأة يقيها الحجارة.
(الصحيح رقم 3635- المناقب، قول الله تعالى (يعرفونه كما يعرفون أبناؤهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون)) .
قوله تعالى (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم عند ربكم أفلا تعقلون)
وأخرج ابن إسحاق بسنده الحسن عن ابن عباس (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) أي أن صاحبكم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولكنه خاصة إليكم. وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: لا تحدثوا العرب بهذا فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم فكان منهم فأنزل الله (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ... ) .
(انظر تفسير ابن كثير 1/207) .
وأخرج ابن أبي حاتم بإسناده الجيد عن أبي العالية في قول الله (أتحدثونهم بما فتح الله عليكم) في كتابكم من نعت محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله (أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به) قال: كانوا يقولون: إنه سيكون نبي فجاء بعضهم لبعض فقالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحتجوا به عليكم.
(التفسير ص40) .
قوله تعالى (أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية قوله (أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون) يعني: ما أسروا من كفرهم بمحمد وتكذيبهم به وهم يجدونه مكتوبا عندهم.
وأخرج الطبري بإسناده الحسن عن قتادة (أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون) ، من كفرهم وتكذيبهم محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خلا بعضهم إلى بعض، (وما يعلنون) إذا لقوا أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالوا: آمنا. ليرضوهم بذلك.(1/179)
أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية في قوله (وما يعلنون) حين قالوا للمؤمنين آمنا.
قوله تعالى (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية: يقول الله (ومنهم أميون) يعنى اليهود.
والمراد بالأميين الذين لا يكتبون ومنه قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنا أمة أمية لا نكتب
ولا نحسب".
أخرجه الشيخان من حديث ابن عمر (صحيح البخاري رقم 1913- الصوم، ب قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا نكتب ولا نحسب) ، (وصحيح مسلم رقم 15- الصيام، ب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال) .
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (لا يعلمون الكتاب) يقول: لا يعلمون الكتاب ولا يدرون ما فيه.
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية: بلفظ: لا يدرون ما فيه.
وقال الشيخ الشنقيطي عند هذه الآية: اختلف العلماء في المراد بالأماني هنا على قولين:
أحدهما: أن المراد بالأمنية القراءة، أي: لا يعلمون من الكتاب إلا قراءة
ألفاظ دون إدراك معانيها. وهذا القول لا يتناسب مع قوله (ومنهم أميون) لأن الأمي لا يقرأ.
الثاني: أن الاستثناء منقطع، والمعنى لا يعلمون الكتاب، لكن يتمنون أماني باطلة، ويدل لهذا القول: قوله تعالى (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم) . وقوله (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب) .
ويؤيد ما ذهب إليه الشيخ قول ابن عباس وقتادة ومجاهد وأبي العالية:
فأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني) قال: أمثال البهائم، لا يعلمون شيئاً، قال: إلا أماني. قال: يتمنون على الله الباطل وما ليس لهم.
(التفسير ص40) .(1/180)
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
وأخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (لا يعلمون الكتاب إلا أماني) يقول: إلا أحاديث.
وأخرج الطبري بإسناده الصحيح عن مجاهد (لا يعلمون الكتاب إلا أماني) إلا كذباً.
(التفسير ص 81) .
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية في قوله (إلا أماني) يتمنون على الله ما ليس لهم.
قوله تعالى (وإن هم إلا يظنون)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (وإن هم إلا يظنون) إلا يكذبون.
وأخرج بسنده الحسن عن قتادة (وإن هم إلا يظنون) قال: يظنون بغير الحق.
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية يعني قوله (وإن هم إلا يظنون) يظنون الظنون بغير الحق.
قوله تعالى (فويل)
أخرج ابن المبارك عن سعيد بن أبي أيوب عن ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أنه قال: الويل: واد في جهنم، لو سيرت فيه الجبال لماعت من حره.
(الزهد رقم 323 باب صفة النار برواية نعيم بن حماد) ، ورجاله ثقات وإسناده صحيح، وابن عجلان اسمه: محمد، وابن المبارك: هو عبد الله.
وأخرجه الطبري عن محمد بن بشار قال، حدثنا ابن مهدي. قال، حدثنا سفيان، عن زياد بن فياض، قال: سمعت أبا عياض يقول: الويل: ما يسيل من صديد في أصل جهنم.
ورجاله ثقات وإسناده صحيح وأبو عياض هو عمرو بن الأسود العنسي.(1/181)
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
قوله تعالى (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل حدثني أبي حدثني أبي الضحاك بن مخلد، أنبا شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس: (للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) قال: هم أحبار اليهود.
ورجاله ثقات سوى شبيب بن بشر صدوق يخطيء وتقدم الكلام عن هذا الطريق في المقدمة والمتن لا يحتمل
الخطأ بل السياق يشهد له لأن أغلب الذين يكتبون من أهل الكتاب من أولئك الأحبار. فالإسناد حسن.
وأخرج البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحدث، تقرؤنه محضاً لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلا، لا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم، لا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل عليكم.
(الصحيح رقم 7363- الاعتصام، ب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء) .
وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم، ثم يقولون هذا من عند الله) قال: كان ناس من بني إسرائيل كتبوا كتبا ليتأكلوا بها الناس، ثم قالوا هذه من عند الله وما هي من عند الله.
(التفسير ص 40) ، وإسناده صحيح.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل حدثني أبي عمرو بن الضحاك حدثني أبي الضحاك بن مخلد أنبا شبيب عن بشر عن عكرمة عن ابن عباس: (للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله
ليشتروا به ثمنا قليلا) أحبار يهود وجدوا صفة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محمد مكتوباً في التوراة أكحل أعين ربعة جعد الشعرة حسن الوجه فلما وجدوه في التوراة محوه حسداً وبغياً. فأتاهم نفر من قريش من أهل مكة فقالوا: أتجدون في التوراة نبياً أمياً؟ فقالوا نعم نجده طويلا أزرق سبط الشعر. فأنكرت قريش. وقالوا ليس هذا منا.
وإسناده حسن تقدم، وله شواهد يأتي ذكرها منها قول أبي العالية الآتي.(1/182)
وأخرج الطبري بإسناده الصحيح عن مجاهد في قول الله (للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله) قال: هؤلاء الذين عرفوا أنه من عند الله يحرفونه.
قوله تعالى (فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون)
أخرج مسلم بسنده عن جرير مرفوعاً: "من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل
بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء".
(الصحيح رقم 15- العلم، ب من سن سنة حسنة أو سيئة) .
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية قال: عمدوا إلى ما أنزل الله في كتابهم من نعت محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فحرفوه عن مواضعه يبتغون بذلك غرضا من غرض الدنيا قال الله عز وجل (فويل لهم مما كتبت أيديهم) .
وبه عن أبي العالية (وويل لهم مما يكسبون) يعني من الخطة.
وأخرج سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن علقمة قال: سألت ابن عباس عن قوله تعالى (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) قال: نزلت في المشركين وأهل الكتاب.
(انظر تفسير ابن كثير (1/210) ، ورجاله ثقات وإسناده صحيح.
قوله تعالى (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة)
أخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة -رضى الله عنه- قال: لما فتحت خيبر أهديت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ٍ شاة فيها سم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اجمعوا لي من كان هاهنا من يهود، فجمعوا له، فقال: إني سائلكم عن شيء، فهل أنتم صادقي عنه؟ فقالوا: نعم. قال لهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من أبوكم؟ قالوا: فلان. فقال: كذبتم، بل أبوكم فلان. قالوا: صدقت. قال: فهل أنتم صادقي عن شيء إن سألت عنه؟ فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبنا عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا. فقال لهم: من(1/183)
وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)
أهل النار؟ قالوا: نكون فيها يسيرا، ثم تخلفونا فيها. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اخسئوا فيها، والله لا نخلفكم فيها أبدا. ثم قال: هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم. قال: هل جعلتم في هذه الشاة سما؟ قالوا: نعم.
قال: ما حملكم على ذلك؟ قالوا: إن كنت كاذبا نستريح، وإن كنت نبيا لم يضرك.
(الصحيح 3169- الجزية والموادعة- باب إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يعفى عنهم؟) .
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده عن محمد بن إسحاق بسنده الحسن عن ابن عباس قال: قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدنية ويهود تقول إنما مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما يعذب الناس بكل ألف سنة من أيام الدنيا يوما واحدا في النار من أيام الآخرة فإنما هي سبعة أيام ثم ينقطع العذاب فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) .
وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) قال: أياما معدودة بما أصبنا في العجل.
(التفسير ص 40, 41) .
قوله تعالى (قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله مالا تعلمون)
أخرج الطبري بإسناده الصحيح عن مجاهد (قل أتخذتم عند الله عهدا) أي موثقا من الله بذلك أنه كما تقولون.
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن شيبان النحوي عن قتادة (أم تقولون على الله ما لا تعلمون) قال: قال القوم الكذب والباطل وقالوا على الله مالا يعلمون.
قوله تعالى (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده عن محمد بن إسحاق بسنده الحسن عن ابن عباس (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته) أي من عمل. بمثل أعمالكم وكفر بمثل ما كفرتم به حتى يحيط كفره. بما له من حسنة.(1/184)
بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
وأخرج عبد الرزاق عن معمر في قوله تعالى (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته) قال: السيئة: الشرك، والخطيئة: الكبائر.
(التفسير 41) ، وإسناده صحيح.
وأخرج الطبري بإسناده الصحيح عن مجاهد (بلى من كسب سيئة) شركا. (وأحاطت به خطيئته) قال: ما أوجب الله فيه النار.
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية في قوله (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته) قال: الكبيرة الموجبة.
وقال الطبري: حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد في قوله (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته) قال: كل ذنب محيط، فهو ما وعد الله عليه النار.
ورجاله ثقات وإسناده صحيح.
قال ابن ماجة: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة. ثنا خالد بن مخلد. حدثني سعيد بن مسلم بن بانك، قال: سمعت عامر بن عبد الله بن الزبير يقول: حدثني عوف بن الحارث عن عائشة، قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عائشة! إياك ومحقرات الأعمال. فإن لها من الله طالباً".
(السنن- الزهد رقم 4243- باب ذكر الذنوب) قال البوصيري: إسناده صحيح ورجاله ثقات. وأخرجه أحمد بسنده عن سهل بن سعد بنحوه (المسند 5/331) . وحسن إسناده الحافظ ابن حجر (فتح الباري 11/329) ، وذكره ابن كثير في (التفسير 1/213) .
قوله تعالى (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده عن محمد بن إسحاق بسنده الحسن عن ابن عباس (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) أي خالدا أبداً.
ثم قال وروي عن السدي نحو ذلك.(1/185)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
قوله تعالى (والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده عن محمد ابن إسحاق بسنده الحسن عن ابن عباس (والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) أي من آمن بما كفرتم وعمل ما تركتم من دينه فلهم الجنة خالدين فيها يخبرهم أن
الثواب بالخير والشر مقيم على أهله لا انقطاع له.
قوله تعالى (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله)
وبه عن ابن عباس: ثم قال يؤنبهم (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل -أي ميثاقكم- لا تعبدون إلا الله) .
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية قوله (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله) قال أخذ مواثيقهم أن يخلصوا له ولا يعبدوا غيره وبالوالدين إحساناً إلى آخر الآية.
قوله تعالى (وبالوالدين إحساناً)
أخرج الشيخان بسنديهما عن ابن مسعود قال: قلت: يا رسول الله أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها. قال: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين. قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله… الحديث.
(صحيح البخاري رقم 527- مواقيت الصلاة، ب فضل الصلاة لوقتها) ، (وصحيح مسلم رقم 85- الإيمان، ب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال) ، ذكره ابن كثير في (التفسير 1/214) .
قوله تعالى (واليتامى)
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، ثنا يحيى بن محمد المديني، ثنا عبد الله ابن خالد بن سعيد بن أبي مريم، عن سعيد بن عبد الرحمن (بن يزيد) بن رقيش، أنه سمع شيوخا من بني عمرو بن عوف ومن خاله عبد الله بن أبي أحمد، قال: قال علي بن أبي طالب: حفظت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يتم بعد احتلام، ولا صمات يوم إلى الليل".(1/186)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
(السنن- الوصايا 3/115 رقم 2873، ب متى ينقطع اليتم) . وصححه الألباني بالشواهد والمتابعات بعد أن خرجه تخريجاً وافياً (صحيح الجامع الصغير 6/613 وإرواء الغليل 5/79-83) وقال الإمام أحمد: ثنا عبد الوهاب بن عطاء أخبرنا جرير بن حازم عن قيس ابن سعد عن يزيد بن هرمز: أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن سهم ذي القربى، لمن هو؟ وعن اليتيم، متى ينقضي يتمه؟ وعن المرأة والعبد يشهدان الغنيمة؟ وعن قتل أطفال المشركين؟ فقال ابن عباس: لولا أن أرده عن شيء يقع فيه ما أجبته، وكتب إليه: إنك كتبت إلي تسأل عن سهم ذي القربى لمن
هو، وإنا كنا نراها لقرابة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأبى ذلك علينا قومنا، وعن اليتيم متى ينقضي يتمه، قال: إذا احتلم وأونس منه خير، وعن المرأة والعبد يشهدان الغنيمة، فلا شيء لهما، ولكنهما يحذيان ويعطيان، وعن قتل أطفال المشركين، فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقتلهم، وأنت فلا تقتلهم، إلا أن تعلم منهم
ما علم الخضر من الغلام حين قتله!.
(وصححه أحمد شاكر (المسند رقم 2685) ، والألباني وقال: إسناده صحيح على شرط مسلم (إرواء الغليل 5/82) .
قوله تعالى (والمساكين)
أخرج الشيخان بسنديهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الذي ليس له غنى ويستحي، أو لا يسأل الناس إلحافاً".
(صحيح البخاري 1476- الزكاة، ب قوله تعالى (لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً)) ، (وصحيح مسلم رقم 1039- الزكاة، ب المسكين الذي لا يجد غنى ولا يفطن له) . واللفظ للبخاري.
قوله تعالى (وقولوا للناس حسناً)
أخرج مسلم بسنده عن أبي ذر - رضي الله عنه - مرفوعاً: "لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق".
(الصحيح 2626- البر والصلاة، ب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء) .(1/187)
وذكره ابن كثير في التفسير، وقال قبل أن ساق هذا الحديث: فالحسن من القول: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحلم ويعفو ويصفح ويقول للناس حسنا كما قال الله وهو كل خلق حسن رضيه الله.
(التفسير 1/214) .
قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين ثنا أحمد بن عبد الرحمن -يعني- الدشتكي حدثني أبي عن أبيه عن الأشعث عن جعفر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: في قوله (وقولوا للناس حسنا) قال الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
ورجاله ما بين ثقة وصدوق إلا جعفر وهو ابن أبي المغيرة وثقه جماعة وقال ابن مندة: ليس بالقوى من سعيد بن جبير وقد ساق ابن مندة رواية عنه ثم قال: لم يتابع عليه ولكن الذهبي أجاب عن ذلك.
(انظر ميزان الاعتدال 1/417 والثقات لابن حبان 6/134 والثقات لابن شاهين ص 55) . هذا وقد اعتمد ابن كثير هذا التفسير كما تقدم آنفًا.
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية في قوله (وقولوا للناس حسنا) يقول: قولوا للناس معروفا.
قوله تعالى (وآتوا الزكاة)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يعني بالزكاة: طاعة الله والإخلاص.
قوله تعالى (ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده عن محمد بن إسحاق بسنده الحسن عن ابن عباس (ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون) أي تركتم ذلك كله.
وأخرج بسنده الصحيح عن قتادة قوله (معرضون) قال: عن كتاب الله عز وجل.
قوله تعالى (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية في قوله (لا تسفكون دماءكم) يقول: لا يقتل بعضكم بعضا.(1/188)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: قوله (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم) ، أي: لا يقتل بعضكم بعضا، (ولا تخرجون أنفسكم من دياركم) ، ونفسك يا ابن آدم أهل ملتك.
ويؤيد هذا القول ما رواه الشيخان بسنديهما عن النعمان بن بشير أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
(صحيح البخاري رقم 6011- الأدب، ب رحمة الناس والبهائم) ، (وصحيح مسلم رقم 2586- البر والصلة، ب تراحم المؤمنين) . واللفظ لمسلم. وذلك أن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة (انظر تفسير ابن كثير 1/216) .
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية في قوله (ولا تخرجون أنفسكم من دياركم) يقول: لا يخرج بعضكم بعضا من الديار وكان في بني إسرائيل إذا استضعفوا قوما أخرجوهم من ديارهم، وقد أخذ عليهم الميثاق أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم.
قوله تعالى (ثم أقررتم وأنتم تشهدون)
وبه عن أبي العالية (ثم أقررتم وأنتم تشهدون) يقول: أقررتم بهذا الميثاق وأنتم شهود.
وأخرج بسنده الحسن المتقدم عن ابن عباس في قوله (ثم أقررتم وأنتم تشهدون) إن هذا حق من ميثاقي عليكم.
قوله تعالى (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض)
روى محمد بن إسحاق بن يسار سبب نزول هذه الآية فقال: حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم) والآية قال: أنبأهم الله ذلك من(1/189)
ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)
فعلهم وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم وافترض عليهم فداء أسراهم فكانوا فريقين طائفة منهم بنو قينقاع وهم حلفاء الخزرج، والنضير. وقريظة وهم حلفاء الأوس فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج وخرجت النضير وقريظة مع الأوس، يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه حتى تسافكوا دماءهم بينهم وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما عليهم ومالهم والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان ولا يعرفون جنة ولا ناراً ولا بعثا ولا قيامة ولا كتابا ولا حلالا وحراما فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم تصديقا لما في التوراة وأخذا به بعضهم من بعض يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس ويفتدي النضر وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم ويطلبون ما أصابوا من دمائهم وقتلوا من قتلوا منهم فيما بينهم مظاهرة لأهل الشرك عليهم يقول الله تعالى ذكره حيث أنبأهم بذلك (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) أي تفادونهم بحكم التوراة وتقتلونهم وفي حكم التوراة أن لا يقتل ولا يخرج من داره ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ويعبد الأوثان من دونه ابتغاء عرض الدنيا؟ ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج فيما بلغني نزلت هذه القصة.
ذكره ابن كثير في (التفسير 1/216) . وإسناده حسن تقدم وقد أخرجه ابن أبي حاتم مقطعا في عدة مواضع من طريق محمد بن يحيى عن أبي غسان عن سلمة عن محمد بن إسحاق به.
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد إلى أبي العالية قال: وقد أخذ عليهم الميثاق إن أسر بعضهم أن يفادوهم فأخرجوهم عن ديارهم ثم فادوهم فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض آمنوا بالفدية ففدوا وكفروا بالإخراج من الديار فأخرجوا.
وأخرج بسنده الصحيح عن قتادة قوله (وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم) قال: والله إن فداءهم لإيمان وإن إخراجهم لكفر.(1/190)
وأخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (وإن يأتوكم أسارى تفدوهم) يقول: إن وجدته في يد غيرك فديته، وأنت تقتله بيدك؟.
قوله تعالى (فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ... ) أخرج ابن أبي حاتم بسنده عن ابن إسحاق بسنده الحسن عن ابن عباس (فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب) إلى قوله (ولا هم ينصرون) فأنبهم بذلك من فعلهم وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم وافترض عليهم فداء أسراهم.
قوله تعالى (ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون)
قال ابن حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ثنا عفان ثنا حماد عن عطاء ابن السائب عن عبد الله بن حبيب السلمي قال: كان يكون أول الآية عاما، وأخرها خاصا وقرأ هذه الآية (يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون) .
ورجاله ثقات إلا الحسن وعطاء بن السائب فصدوقان وعطاء اختلط ولكن رواية حماد عنه قبل الاختلاط نص على ذلك الحافظان ابن عبد البر (التمهيد 1/109) ، وابن حجر العسقلاني (فتح الباري 3/642) .
فالإسناد حسن.
قوله تعالى (أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة قوله (أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة) قال: استحبوا قليل الدنيا على كثير الآخرة.
قوله تعالى (فلا يخفف عنهم العذاب)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية في قوله (فلا يخفف عنهم العذاب ولاهم ينصرون) قال: هو كقوله (هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون) المرسلات: 35.
وقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه إذا مر بآية عذاب تعوذ كما نقدم في آخر تفسير آية (37) من هذه السورة.(1/191)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)
قوله تعالى (وآتينا عيسى ابن مريم البينات)
قال الشيخ الشنقيطي عند هذه الآية: لم يبين هنا ما هذه البينات ولكنه بينها في مواضع أخر كقوله (ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) آل عمران 49. إلى غير ذلك من الآيات.
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن من طريق ابن إسحاق بسنده عن ابن عباس (ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى بن مريم البينات) أي الآيات التي وضع على يديه من إحياء الموتى وخلقه من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وإبراء الأسقام والخبر بكثير من الغيوب مما يدخرون في بيوتهم، وما رد عليهم من التوراة مع الإنجيل الذي أحدث إليه ثم ذكر كفرهم بذلك كله.
صفة عيسى ابن مريم عليه السلام
تقدم ذكرها عند قوله تعالى (وإذ واعدنا موسى) آية (51) أنه مربوع الخلق في الحمرة والبياض سبطًا.
قوله تعالى (وأيدناه بروح القدس)
أخرج ابن أبي حاتم عن أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل ثنا أبي، ثنا أبي ثنا شبيب بن بشر ثنا عكرمة عن ابن عباس في قول الله (أيدنا) يقول: قوينا.
ورجاله ثقات إلا أحمد وشبيب فصدوقان وشبيب يخطئ ولكن المتن لا يحتمل الخطأ بل تؤيده اللغة.
وقال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وأيدناه بروح القدس) هو جبريل على الأصح ويدل لذلك قوله تعالى (نزل به الروح الأمين) والشعراء: 193 الآية، وقوله (فأرسلنا إليها روحنا) الآية مريم: 17.(1/192)
أخرج ابن أبي حاتم عن أحمد بن سنان الواسطى ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا سفيان عن سلمة بن كهيل ثنا أبو الزعراء قال: قال عبد الله: روح القدس: جبريل. ثم قال: وروى عن محمد بن كعب القرظي قتادة وعطية العوفي والسدي والربيع بن أنس وإسماعيل بن أبي خالد نحو ذلك.
ويؤيد هذا القول ما تقدم وما رواه الشيخان بسنديهما عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع حسان بن ثابت الأنصاري يستشهد أبا هريرة: أنشدك بالله هل سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يا حسان أجب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، اللهم أيده بروح القدس". قال: أبو هريرة: نعم.
(صحيح البخاري رقم 453- الصلاة، ب الشعر في المسجد) ، (وصحيح مسلم رقم 2485 - فضائل الصحابة، ب فضائل حسان بن ثابت) . واللفظ للبخاري.
قوله تعالى (أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم فريقا كذبتم وفريقا تقتلون)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن ابن إسحاق بسنده عن ابن عباس قال: ومارد عليهم من التوراة مع الإنجيل الذي أحدث الله إليه ثم ذكر كفرهم بذلك كله قال (أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون.
قال البخاري: وقال يونس عن الزهري قال عروة قالت عائشة رضي الله عنها: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في مرضه الذي مات فيه: يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم".
(الصحيح 4428- المغازى، ب مرض النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ووفاته) . وصله الحافظ ابن حجر بسنده عن أبي بكر بن أبي داود ثنا أحمد بن صالح ثنا عنبسة ثنا يونس به. (تغليق التعليق 4/162) . وأخرجه الحاكم من طريق أحمد بن صالح عن عنبسة به. وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 3/58) . وأخرجه الطبراني من حديث ابن عباس بنحوه وحسن إسناده الهيثمي (مجمع الزوائد 9/35) وقد تتبع الحافظ ابن حجر أغلب طرقه فقال: وهذا وصله البزار والحاكم والإسماعيلي من طريق عنبسة بن خالد عن يونس بهذا الإسناد. وقال البزار: تفرد به عنبسة عن يونس، أي بوصله، وإلا فقد رواه موسى بن عقبة(1/193)
في المغازي عن الزهري لكنه أرسله، وله شاهدان مرسلان أيضاً أخرجهما إبراهيم الحربي في (غريب الحديث) ، له أحدهما من طريق يزيد بن رومان والآخر من رواية أبي جعفر الباقر، وللحاكم موصول من حديث أم مبشر قالت قلت يا رسول الله ما تتهم بنفسك؟ فإني لا أتهم يا بنى إلا الطعام الذي أكل بخيبر وكان ابنها بشر ابن البراء بن معرور مات، فقال: وأنا لا أتهم غيرها. وهذا أوان انقطاع أبهري، وروى ابن سعد عن شيخه الواقدي بأسانيد متعددة في قصة الشاة التي سمت له بخيبر، فقال في آخر ذلك: وعاش بعد ذلك ثلاث سنين حتى كان وجعه الذي قبض فيه. وجعل يقول: "ما زلت، أجد ألم الأكلة التي أكلتها بخيبر عدادا حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري" عرق في الظهر وتوفى شهيداً. ا. هـ.
(فتح الباري 8/131، وانظر تغليق التعليق 4/162, 163) .
قوله تعالى (وقالوا قلوبنا غلف)
أخرج ابن أبي حاتم عن أحمد بن سنان ثنا أسباط بن محمد عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إنما سمي القلب لتقلبه.
وأخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قالوا (قلوبنا غلف) قال في غطاء.
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية (قلوبنا غلف) لا تفقه.
وأخرجه الطبري بلفظه بسنده الحسن عن قتادة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عمرو الأودي ثنا أبو أسامة عن النضر بن عربي عن عكرمة (قلوبنا غلف) قال: عليها طابع.
ورجاله ثقات وإسناده صحيح. وأبو أسامة هو حماد بن أسامة معروف برواية عمرو الأودي عنه.
(انظر تهذيب الكمال 7/221) .
وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله (قلوبنا غلف) قال: هو كقوله (قلوبنا في أكنة) فصلت: 5.
(التفسير ص 41) ، وإسناده صحيح.
قوله تعالى (بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون) أخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله (فقليلا ما يؤمنون) قال: لا يؤمن منهم إلا قليل.
(التفسير ص 41) .(1/194)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)
قوله تعالى (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم) وهو القرآن الذي أنزل على محمد مصدق لما معهم من التوراة والإنجيل.
وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا محمد بن عبيد الله بن المنادي فيما كتب إلي ثنا يونس بن محمد ثنا شيبان النحوي عن قتادة قوله (ولما جاءهم كتاب من عند الله) قال: هو الفرقان الذي أنزله الله على محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ورجاله ثقات إلا محمداً صدوق فالإسناد حسن.
قوله تعالى (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا)
قال محمد بن إسحاق: حدثنى محمد بن أبي محمد أخبرني عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل مبعثه فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور وداود بن سلمة: يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ونحن أهل شرك وتخبروننا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته. فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم، فأنزل الله في ذلك من قولهم (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم) الآية.
(انظر تفسير ابن كثير 1/222) . وإسناده حسن تقدم وأخرجه الطبري من طريق يونس بن بكير عن ابن إسحاق. وكذا ابن أبي حاتم من طريق يونس به.
وأخرج عبد بن حميد عن شبابة ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله (يستفتحون) قال: يستنصرون.
(انظر تغليق التعليق 4/172-174 وإسناده حسن) .
قال الإمام أحمد: ثنا يعقوب قال حدثني أبي عن ابن إسحاق قال حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن محمود بن لبيد أخي بني عبد الأشهل(1/195)
عن سلمة بن سلامة بن وقش وكان من أصحاب بدر قال كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل قال فخرج علينا يوما من بيته قبل مبعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيسير فوقف على مجلس عبد الأشهل قال سلمة وأنا يومئذ أحدث من فيه سنا علي بردة مضطجعا فيها بفناء أهلي فذكر البعث والقيامة والحساب والميزان والجنة والنار فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان لا يرون أن بعثا كائن بعد الموت فقالوا له ويحك يا فلان ترى هذا كائن أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يجزون فيها بأعمالهم قال نعم والذي يحلف به لود، أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدنيا يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبق به عليه وأن ينجوا من تلك النار غدا. قالوا له ويحك وما آية ذلك قال نبي يبعث من نحو هذه البلاد وأشار بيده نحو مكة واليمن قالوا ومتى تراه قال فنظر إلي وأنا من أحدثهم سنا فقال أن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه قال سلمة فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله تعالى رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو حي بين أظهرنا فآمنا به وكفر به بغيا وحسدا فقلنا ويلك يا فلان ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت قال بلى وليس به.
(المسند 3/467) ، أخرجه أبو نعيم الأصبهاني (دلائل النبوة 1/84) ، والبيهقي (دلائل النبوة 2/78، 79) , والحاكم (المستدرك 3/417) ، من طريق محمد بن إسحاق به، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وذكره الهيثمي ونسبه إلى أحمد والطبراني ثم قال: ورجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع (مجمع الزوائد 8/230) . وذكره السيوطي ونسبه إليهم وزاد ابن قانع (الدر 1/217) .
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن سعيد عن قتادة قوله (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا كانت اليهود تستفتح بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على كفار العرب من قبل، وقالوا: اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده في التوراة يعذبهم ويقتلهم! فلما بعث الله محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرأوا أنه بعث من غيرهم، كفروا به حسدا للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) .
أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة مختصراً. (التفسير ص 41) ، وهو مرسل ويتقوى بالمرسل الثابت التالي:(1/196)
فقد أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية قال: كانت اليهود تستنصر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - على مشركي العرب: يقولون اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبا عندنا حتى يعذب المشركين ونقتلهم. فلما بعث الله محمداً، ورأوا أنه من غيرهم كفروا به حسد للعرب وهم يعلمون أنه رسول الله. فقال الله (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) . فلعنة الله على الكافرين.
قوله تعالى (بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن ابن إسحاق بسنده عن ابن عباس يقول الله (بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده) أي أن الله جعله في غيرهم.
وأخرج بسنده الجيد عن أبي العالية (أن يكفروا بما أنزل الله) قال: اليهود كفروا بما أنزل على محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وبه عن أبي العالية (بما أنزل الله) قال: هم اليهود قال لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا) يعني: حسدا.
وأخرجه الطبري بلفظه بسنده الحسن عن قتادة.
قوله تعالى (فباءوا بغضب على غضب)
أخرج عبد الرزاق عن الثوري عن أبي بكير، عن عكرمة في قوله (فباءوا بغضب على غضب) قال: كفرهم بعيسى وكفرهم بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(التفسير ص 41) . أبو بكير: في الأصل أبو بكر والتصويب من رواية الطبري وأيضاً، فإن أبا بكير اسمه مرزوق التيمي الكوفي معروف الرواية عن عكرمة وبرواية الثوري عنه. ورجال الإسناد ثقات إلا أبا بكر فقد ذكره ابن حبان في الثقات كما صرح الحافظ ابن حجر (انظر تهذيب التهذيب 10/87) ، إلا أن هذه الرواية قد ثبتت من طرق أخرى كما سيأتي فالإسناد حسن على الأقل.
وأخرجه ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية بنحوه. وأخرجه الطبري بسنده الحسن عن قتادة بلفظ: غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وبعيسى، وغضب عليهم بكفرهم بالقرآن وبمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(1/197)
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)
قوله تعالى (وللكافرين عذاب مهين)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مقاتل بن حيان قوله (عذاب مهين) يعني بالمهين: الهوان.
وانظر ما ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في آخر تفسير آية (37) من هذه السورة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى، حدثنا ابن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا سجنا في جهنم يقال له بولس تعلوهم نار الأنيار يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار".
(المسند 2/179) ، وأخرجه الترمذي (السنن- صفة القيامة رقم 2492) ، من طريق عبد الله ابن المبارك عن محمد بن عجلان به. ثم قال: حديث حسن صحيح. وحسنه الشيخ الألباني (صحيح الجامع 6/327) ، وذكر ابن كثير رواية الإمام أحمد (التفسير 1/223) .
قوله تعالى (ويكفرون بما وراءه)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية (ويكفرون بما وراءه) أي بما بعده يعني: ما بعد التوراة.
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن سعيد عن قتادة بلفظ بما بعده.
قوله تعالى (ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل) الآية
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن محمد بن إسحاق بسنده عن ابن عباس ثم أنبأهم (برفع) الطور عليهم واتخاذ العجل إلها دون ربهم.
قوله: برفع في الأصل: رفع. والتصويب من (سيرة ابن هشام 2/190) .
وقال الشيخ الشنقيطي عند هذه الآية: لم يبين هنا ما هذه البينات وبينها في مواضع أخر كقوله (فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات) وقوله (فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء) الآية وقوله (فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق) الآية. إلى غير ذلك من الآيات.(1/198)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)
قوله تعالى (وأُشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم)
أخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله (وأشربوا في قلوبهم العجل) قال: أشربوا حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم.
(التفسير ص 41) ، وإسناده صحيح.
قوله تعالى (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين)
الخطاب لليهود فحينما زعموا أنهم أولياء لله رد عليهم سبحانه وتعالى بقوله (قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين. ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين)
الجمعة: 6-7.
وقال عبد الرزاق: قال معمر عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة في قوله (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) قال: قال ابن عباس: قال أبو جهل: لئن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه، فبلغ ذلك رسول الله، فقال: "لو فعل لأخذته الملائكة عياناً". قال: وقال ابن عباس: لو تمنى اليهود الموت لماتوا، ولو خرج الذين يباهلون النبي لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا.
(التفسير ص 41، 42) ، ورجاله ثقات وإسناده صحيح. وذكره ابن كثير في التفسير مختصرا وصحح إسناده (1/222) . وأخرج البخاري الشطر المرفوع (الصحيح ح 4958- التفسير) .
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي ثنا علي بن محمد الطنافس ثنا عثام قال سمعت الأعمش قال: لا أظنه إلا عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: قال لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه.
وذكره ابن كثير في التفسير (1/226) وصحح إسناده.
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن ابن إسحاق بسنده عن ابن عباس سيقول الله لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) أي ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب، فأبوا ذلك على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(1/199)
قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)
وأخرج بسنده الجيد عن أبي العالية قال: قال الله تعالى لليهود إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت. فلم يفعلوا حيث قالوا (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) وقالوا (نحن أبناء الله وأحباؤه فقال الله لهم ذلك.
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس، وذلك أنهم قالوا (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) سورة البقرة: 111، وقالوا (نحن أبناء الله وأحباؤه) سورة المائدة: 18. فقيل لهم (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) .
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية (إن كنتم صادقين) بما تقولون أنه كما تقولون.
قوله تعالى (ولن تمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن محمد ابن إسحاق بسنده الحسن عن ابن عباس قال: يقول الله لنبيه (ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين) أي يعلمهم بما عندهم من العلم بك، والكفر بذلك، ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على الأرض يهودي إلا مات.
وقال أيضاً حدثنا موسى بن هارون الطوسي فيما كتب إلي ثنا الحسين بن محمد المروذي ثنا شيبان بن عبد الرحمن عن قتادة قوله (والله عليم) قال: عالم.
ورجاله ثقات وإسناده صحيح.
وقد ذكر سبحانه وتعالى شبه هذه الآية في سورة الجمعة آية (7) . ثم أكد بأنهم يفرون من الموت فقال (قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون) الجمعة: 8.
قوله تعالى (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان(1/200)
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)
عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة) قال: اليهود.
وأخرجه الحاكم من طريق قبيصة بن عقبة عن سفيان به وصححه ووافقه الذهبي. (المستدرك 2/263) ، وأخرجه الطبري بإسناده الصحيح عن مجاهد.
قوله تعالى (ومن الذين أشركوا يود أحدهم)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية (يود أحدهم) يعني: المجوس.
قوله تعالى (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة)
أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن بن محمد بن الصباح ثنا إسماعيل بن علية عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة) قال: حببت إليهم الخطيئة طول العمر.
ورجاله ثقات إلا الحسن فصدوق فالإسناد حسن.
قوله تعالى (وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده عن محمد بن إسحاق بسنده الحسن عن ابن عباس (وما هو بمزحزحه من العذاب) أي ماهو بمنجيه وذلك أن المشرك لايرجو بعثا بعد الموت، فهو يحب طول الحياة، وأن اليهودي قد عرف ماله في الآخرة من الخزي بما ضيع ما عنده من العلم.
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية (وماهو بمزحزحه من العذاب أن يعمر) يقول: وإن عمر فماذاك بمغنيه من العذاب ولا منجيه منه.
قوله تعالى (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك، بإذن الله)
أخرج البخاري بسنده عن أنس قال سمع عبد الله بن سلام بقدوم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في أرض يخترف فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال إني سائلك عن ثلاث لايعلمهن إلا نبي فما أول أشراط الساعة، وما أول طعام أهل الجنة وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه قال: أخبرني بهن جبريل آنفا، قال جبريل: قال نعم، قال ذاك عدو(1/201)
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)
اليهود من الملائكة، فقرأ هذه الآية (من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك ... ) الحديث.
(الصحيح رقم 4480- التفسير- سورة البقرة، ب قوله من كان عدوا لجبريل) . قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري 8/166) في هذا الحديث: تلا عليه الآية مذكراً له سبب نزولها والله أعلم.
وسبب نزول هذه الآية ما أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم بإسناد حسن من طريق بكير بن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: أقبلت يهود إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: يا أبا القاسم إنا نسألك عن أشياء فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك قال: فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه: إن قال: الله على ما نقول وكيل. قالوا: فأخبرنا من صاحبك الذي يأتيك من الملائكة. فإنه ليس من نبي إلا يأتيه ملك بالخبر فهي التي نتابعك إن أخبرتنا قال: جبريل. قالوا ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال ذاك عدونا لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالنبات والقطر والرحمة. فأنزل الله عز وجل (من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك) إلى آخر الآية.
راجع مواضع تخريجه والحكم على إسناده في الآيه (19) عند قوله تعالى (فيه ظلمات ورعد وبرق) . واللفظ لابن أبي حاتم وقد ساقه مقتصرا على الشاهد والحديث طويل.
أخرج الشيخان بسنديهما عن ابن مسعود أن محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى جبريل له ستمائة جناح.
(صحيح البخاري رقم 4857- التفسير- سورة والنجم، ب فأوحى إلى عبده ما أوحى) ، (وصحيح مسلم رقم 174- الإيمان، ب في ذكر سدرة المنتهى) . واللفظ للبخاري.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ثنا أبو معاوية ثنا الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن عمير مولى ابن عباس عن ابن عباس: قال إنما قوله جبريل كقوله عبد الله وعبد الرحمن.
ورجاله ثقات إلا الحسن صدوق فالإسناد حسن. وأخرجه من طريق سفيان عن الأعمش به.
وإسناده صحيح.(1/202)
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية في قوله (فإنه نزله على قلبك) يقول نزل الكتاب على قلبك جبريل بإذن الله عز وجل.
قوله تعالى (مصدقا لما بين يديه)
وبه عن أبي العالية (مصدقا لما بين يديه) يعني: من التوراة والإنجيل.
وأخرجه الطبري بسنده الحسن عن قتادة بلفظه.
قوله تعالى (وهدى وبشرى للمؤمنين)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قوله (هدى وبشرى للمؤمنين) جعل الله هذا القرآن: هدى وبشرى للمؤمنين لأن المؤمن إذا سمع القرآن وحفظه ووعاه انتفع به واطمأن إليه وصدق بموعود الله الذي وعد فيه وكان على يقين من ذلك.
قوله تعالى (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال)
أخرج البخاري عن عكرمة تعليقا بصيغة الجزم فقال: وقال عكرمة: جبر، وميك، وسراف: عبد. إيل: الله.
(الصحيح- التفسير- سورة البقرة- باب قوله (من كان عدوا لجبريل)) ، ووصله الطبري، والحربي في غريب الحديث (انظر تغليق التعليق 4/175) ، بأسانيد يقوي بعضها بعضا عن عكرمة وعن ابن عباس.
قوله تعالى (فإن الله عدو للكافرين)
أخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ... الحديث.
(الصحيح- الرقاق، ب التواضع 11/340، 341 رقم 6502) .
قوله تعالى (ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون)
أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن الحسين ثنا محمد بن عبد الله بن نمير ثنا يونس ابن بكير ثنا ابن إسحاق بسنده الحسن عن ابن عباس: قال: قال ابن صوريا(1/203)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك فأنزل الله عز وجل في ذلك قوله (ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون) .
وأخرجه الطبري من طريق أبي كريب عن يونس بن بكر به.
قوله تعالى (الفاسقون)
أخرج ابن أبي حاتم عن أبيه عن سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن ابن جريج عن مجاهد (الفاسقون) قال: العاصون.
ورجاله ثقات وإسناده صحيح.
قوله تعالي (أو كما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن ابن إسحاق بسنده عن ابن عباس قال: قال مالك بن الضيف حين بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكرهم ما أخذ عليهم من الميثاق وما عهد إليهم في محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والله ما عهد إلينا في محمد ولا أخذ علينا ميثاقا فأنزل الله عز وجل (أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم) .
وأخرجه أيضاً الطبري من طريق أبي كريب عن يونس بن بكير عن ابن إسحاق به.
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن سعيد عن قتادة (نبذه فريق منهم) يقول: نقضه فريق منهم.
قوله تعالى (ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: قوله (نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب) يقول: نقض فريق من الذين أوتوا الكتاب (كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون) : أي أن القوم كانوا يعلمون، ولكنهم أفسدوا علمهم، وجحدوا وكفروا وكتموا.(1/204)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن بن محمد بن الصباح ثنا شبابة ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد (نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله ... ) الآية. ذكر يهود.
وإسناده حسن.
قوله تعالى (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج ثنا أبو أسامة عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال آصف كاتب سليمان وكان يعلم الاسم (الأعظم) وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه، فلما مات سليمان أخرجته الشياطين فكتبوا (بين*) كل سطرين سحرا وكفرا وقالوا هذا الذي كان سليمان يعمل بها. قال فأكفره جهال الناس وسبوه، ووقف علماؤهم فلم يزل جهالهم يسبوه حتى أنزل على محمد (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا) .
(*) في الأصل بلفظ من والتصويب من الدر المنثور 1/95. وأخرجه النسائي (التفسير رقم 14)
عن محمد بن العلاء عن أبي أسامة به. ورجاله ثقات إلا المنهال وهو ابن عمرو صدوق ربما وهم وهذه
الرواية ليست من أوهامه لأنها قد وردت من طريق آخر بلفظ مشابه كما سيأتي فالإسناد حسن. هذا
وقد صحح الحافظ ابن حجر رواية الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير (انظر فتح الباري 10/224) .
وقال الواحدي: أخبرنا محمد بن عبد العزيز القنطري، أخبرنا أبو الفضل الحدادي، أخبرنا أبو يزيد الخالدي، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا جرير، أخبرنا حصين بن عبد الرحمن، عن عمران بن الحارث قال: بينما نحن عند ابن عباس إذ قال: إن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء، فيجيء أحدهم بكلمة حق، فإذا جرب من أحدهم الصدق كذب معها سبعين كذبة، فيشربها قلوب الناس. فاطلع على ذلك سليمان فأخذها فدفنها تحت الكرسي، فلما مات سليمان قال شيطان بالطريق فقال: ألا أدلكم على كنز سليمان الممنع الذي(1/205)
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)
لا كنز له مثله؟ قالوا: نعم، قال: تحت الكرسي، فأخرجوه فقالوا: هذا سحر.
فتناسخته الأمم، فأنزل الله تعالى عذر سليمان (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان) .
(أسباب النزول ص 29) ، وأخرجه الحاكم من طريق إسحاق بن إبراهيم به، وصححه الذهبي (المستدرك 2/265) .
وهاتان الروايتان من أخبار أهل الكتاب ولكنها لا تتعارض مع الكتاب والسنة بل لبعض فقراتها شواهد فهي توافق عصمة سليمان عليه السلام وتبريء ساحته مما ألصق به من مفتريات الإسرائيليات.
واستراق الشياطين السمع ثابت كما في قوله تعالى (ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين وحفظاها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين) الحجر: 16-18.
وقد حذرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تصديق الكهنة والسحرة والاستعانة بهم في أي حال من الأحوال، فأخرج أبو داود (السنن رقم 3904- الطب، ب في الكاهن) ، والترمذي، (السنن رقم 135- الطهارة، ب في كراهية إتيان الحائض) ، وابن ماجة (السنن رقم 639- الطهارة، ب النهي عن إتيان الحائض) ، وأحمد (المسند رقم 9279، 10170) ، والدارمي (السنن 9532) . كلهم من طريق حماد بن سلمة عن حكيم الأثرم عن أبي تميمة الهجيمي عن أبي هريرة: "من أتى حائضا أو امرأة في دبرها أو كاهنا فقد كفر بما أنزل علي محمد - صلى الله عليه وسلم -". واللفظ للترمذي. وقد تكلم في سماع أبي تميمة من أبي هريرة ولكن أخرجه الإمام أحمد (المسند رقم 9532) من طريق خلاس عن أبي هريرة مرفوعاً قال: "من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -". وقد حسن السيوطي الرواية الأولى (فيض القدير شرح الجامع الصغير 6/23) ، وصححها الألباني في (صحيح سنن الترمذي 1/44 وإرواء الغليل 7/68-70) ، وصحح أحمد شاكر الرواية الثانية في تحقيقه لمسند أحمد.
قوله تعالى (يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وما أنزل على الملكين) قال: التفريق بين المرء وزوجه.
ويستنتج من هذا التفسير أن ما في قوله (وما أنزل) موصولة وهو قول الجمهور بما نقله الحافظ ابن حجر (انظر فتح الباري 10/4) .(1/206)
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية قال: قال الله (وما أنزل على الملكين) قال: لم ينزل عليهما السحر. يقول: علما الإيمان والكفر فالسحر من الكفر، فهما ينهيان عنه أشد النهي.
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت) فالسحر سحران: سحر تعلمه الشياطين وسحر يعلمه هاروت وماروت.
وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: فكانا يعلمان الناس السحر، فأخذ عليهما أن لاتعلما أحدا حتى تقولا (إنما نحن فتنة فلا تكفر) .
التفسير ص 42. وإسناده صحيح.
قوله تعالى (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه)
أخرج مسلم بسنده عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - مرفوعاً: "إن إبليس يضع عرشه على الماء. ثم يبعث سراياه. فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة. يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا. فيقول: ما صنعت شيئا. قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته. قال فيدنيه منه ويقول: نعم أنت".
(الصحيح رقم 2813- صفات المنافقين) . وذكره ابن كثير في (التفسير 1/252) .
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وتفريقهما أن يؤخذ كل واحد منهما عن صاحبه ويبغض كل واحد منهما إلى صاحبه.
أخرج البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: سحر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل من بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم، حتى كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله. حتى إذا كان ذات يوم -أو ذات ليلة- وهو عندي، لكنه دعا ودعا ثم قال: ياعائشة، أشعرت أن الله أفتاني فيما استفيته فيه؟ أتاني رجلان، فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال(1/207)
أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال: مطبوب. قال: من طبه؟ قال: لبيد ابن الأعصم. قال: في أي شيء؟ قال: في شط ومشاطة، وجف طلع نخلة ذكر. قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان. فأتاها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ناس من أصحابه. فجاء فقال: ياعائشة، كان ماءها نقاعة الحناء، وكأن رءوس نخلها رءوس الشياطين. قلت: يا رسول الله أفلا استخرجته؟ قال: قد عافانى الله، فكرهت أن أثير على الناس فيه شرا. فأمر بها فدفنت".
تابعه أبو أسامة وأبو ضمرة وابن أبي الزناد عن هشام. وقال الليث وابن عيينة عن هشام: (في مشط ومشاطة) ويقال: المشاطة ما يخرج من الشعر إذا مشط، والمشاطة من مشاطة الكتان.
(الصحيح 10/221 رقم 5763- الطب، ب السحر وقول الله تعالى (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ... ) الآية.
قوله تعالى (وماهم بضارين به من أحد إلا بإذن الله)
قال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ثنا سعيد بن سليمان ثنا سلام بن مسكين قال: سمعت الحسن يقول: في قوله (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله) أي: لايضر هذا السحر إلا من دخل فيه.
ورجاله ثقات إلا الحسن بن الصباح صدوق، فالإسناد حسن.
قوله تعالى (ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن سعيد عن قتادة (ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق) بقول: قد علم ذلك أهل الكتاب في عهد الله إليهم: أن الساحر لاخلاق له عند الله يوم القيامة.
وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة (وماله في الآخرة من خلاق)
ليس له في الآخرة جنة عند الله.
(التفسير ص43) , وإسناده صحيح. وأخرجه الطبري بلفظ: حجة.
وأخرج عن الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر قال: قال الحسن (ماله في الآخرة من خلاق) قال: ليس له دين.
وإسناده حسن.(1/208)
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)
قوله تعالى (ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله)
أخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله (لمثوبة من عند الله) قال: ثواب من عند الله.
وإسناده صحيح.
وأخرجه ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية بلفظه ثم قال: وروي عن الحسن وقتادة والسدي والربيع بن أنس نحو ذلك.
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا)
قال محمد بن إسحاق: حدثنى محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس (راعنا) أي: ارعنا سمعك.
(تفسير ابن كثير 1/262) ، وإسناده حسن.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج ثنا أبو معاوية عن عبد الملك عن عطاء (لا تقولوا راعنا) قال: كانت لغة تقولها الأنصار فنهى الله عنها قال (لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا) .
ورجاله ثقات، إلا عبد الملك وهو: ابن أبي سليمان ميسرة العزرمي: صدوق له أوهام ولكنه توبع حيث أخرجه الطبري من طريق عبد الرزاق عن عطاء بنحوه. فالأسناد حسن وأخرج الطبري بسنده الحسن عن معمر عن قتادة في قوله (لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا) قال: كانوا يقولون: راعنا سمعك! فكان اليهود يأتون فيقولون مثل ذلك مستهزئين، فقال الله (لاتقولوا راعنا وقولوا انظرنا) .
قال القاسمي: وهذه الآية نظير قوله تعالى في سورة النساء آية (46) (من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا لياً باُلسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيراً لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا) .
(محاسن التأويل 2/216، وانظر تفسير ابن كثير 1/261) .
وأخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (لاتقولوا راعنا) لا تقولوا خلافاً.(1/209)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النصر، حدثنا عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، حدثنا حسان بن عطية، عن أبي منيب الجرشي، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بعثت بالسيف حتى يعبد الله لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم".
(المسند رقم 5115) ، وصححه أحمد شاكر. والشاهد فيه قوله: "ومن تشبه بقوم فهو منهم".
لأن الله تعالى نهى عن مشابهة الكافرين قولا وفعلا. (انظر تفسير ابن كثير 1/261) ، وأخرجه أبو داود (السنن رقم 4031- اللباس- باب في لبس الشهرة) من طريق أبي النضر به مقتصرا على الشاهد، وحسنه عبد القادر الأرناؤط (انظر هامش جامع الأصول 10/657) . ونقل الشيخ مقبل الوادعي عن شيخ الإسلام ابن تيمية: سنده جيد (انظر هامش تفسير ابن كثير 1/261) .
وأخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (وقولوا انظرنا) فهمنا بين لنا يا محمد.
قوله تعالى (وللكافرين عذاب أليم)
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن قتادة (وللكافرين عذاب أليم)
أى: موجع.
وقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه إذا مر بآية عذاب تعوذ كما تقدم في آخر تفسير آية (37) من هذه السورة.
قوله تعالى (والله يختص برحمته من يشاء)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مجاهد (يختص برحمته من يشاء) قال: النبوة. ثم قال وروي عن الربيع بن أنس نحو ذلك.
قوله تعالى (ما ننسخ من آية أو ننسها)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (ما ننسخ من آية) يقول: ما نبدل من آية أو نتركها لا نبدلها.(1/210)
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)
وقال الطبري: حدثنا سوار بن عبد الله العنبري قال: حدثنا خالد بن الحارث قال: حدثنا عوف، عن الحسن أنه قال في قوله (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها) قال: إن نبيكم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقرىء قرآنا، ثم نسيه فلم يكن شيئاً، ومن القرآن ما قد نسخ وأنتم تقرأونه.
ورجاله ثقات وإسناده صحيح إلى الحسن فهو مرسل وله شواهد تأتي بعد الرواية التالية.
وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله (ما ننسخ من آية أو ننسها)
قال: كان الله تعالى ذكره ينسي نبيه ما شاء وينسخ ما شاء.
(التفسير ص 44) ، وإسناده صحيح إلى قتادة وهو مرسل وله شواهد.
قال مسلم: وحدثني زهير بن حرب وهرون بن عبد الله. قالا: حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج. قال: سمعت عطاء يقول: سمعت ابن عباس يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لو أن لابن آدم ملء واد مالا لأحب أن
يكون إليه مثله. ولا يملأ نفس ابن آدم إلا التراب. والله يتوب على من تاب".
(صحيح مسلم رقم 1049-1050- الزكاة، ب لو أن لابن آدم واديين لابتغى ثالثا) .
وأخرج مسلم بسنده عن أبي الأسود، عن أبيه. قال: بعث أبو موسى
الأشعري إلى قراء أهل البصرة. فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرأوا القرآن.
فقال: أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم. فاتلوه. ولا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم. كما قست قلوب من كان قبلكم. وإنا كنا نقرأ سورة. كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة. فأنسيتها. غير أني قد حفظت منها: لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثاً. ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. وكنا نقر سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات. فأنسيتها. غير أني حفظت منها: يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون. فتكتب شهادة في أعناقكم.
فتسألون عنها يوم القيامة.
(صحيح مسلم رقم 1049-1050- الزكاة، ب لو أن لابن آدم واديين لابتغى ثالثا) .(1/211)
وأخرج البخاري بسنده عن ابن مسعود مرفوعا قال: "إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت ذكروني ... ".
(الصحيح رقم 401- الصلاة، ب التوجه نحو القبة حيث كان) .
وأخرج البخاري ومسلم بسنديهما عن أبي سعيد الخدرى مرفوعا وفيه: "فقد أريت هذه الليلة ثم أنسيتها".
(صحيح البخاري رقم 2027- الاعتكاف، ب الاعتكاف في العشر الأواخر) ، (وصحيح
مسلم رقم 1167- الصيام، ب فضل ليلة القدر) واللفظ للبخاري، وفي رواية مسلم للفظ: رأيت.
ويقصد ليلة القدر.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عصام بن رواد العسقلانى ثنا آدم عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن عبيد بن عمير في قول الله (ما ننسخ من آية أو ننسها)
يقول أو نتركها نرفعها من عندكم فنأت بمثلها، أو بخير منها ومثلها.
ورجاله ثقات، إلا عصام العسقلاني وورقاء فصدوقان. فالإسناد حسن.
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (ماننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) كان ينسخ الآية بالآية بعدها، ويقرأ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - الآية أو أكثر من ذلك، ثم تنسى وترفع.
وما تقدم على قراءة ننسها. أما على قراءة ننسأها فقد أخرج الطبري بأسانيد يقوي بعضها بعضا عن عطاء وابن أبي نجيح ومجاهد وعبيد بن عمير وعطية قوله (ننسأها) نؤخرها وبلفظ نرجئها.
وأخرج البخاري بسنده عن ابن عباس قال: قال عمر - رضي الله عنه -: أقرؤنا أبي، وأقضانا علي وإنا لندع من قول أبي، وذاك أن أبيا يقول: لا أدع شيئا سمعته من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد قال الله تعالى (ماننسخ من آية أو ننسأها) .
(الصحيح 8/167 رقم 4881- التفسير- سورة البقرة، ب قوله (ما ننسخ من آية أو ننسأها)) .
قوله تعالى (نأت بخير منها أو مثلها)
وأخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (نأت بخير منها أو مثلها) يقول خير لكم في المنفعة وأرفق بكم.(1/212)
وأخرج عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة وأما قوله (نأت بخير منها أو مثلها) يقول آية فيها تخفيف، فيها رخصة، فيها أمر، فيها نهي.
(التفسير ص 44) ، وإسناده صحيح.
قوله تعالى (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل)
قال الشيخ الشنقيطي عند هذه الآية: لم يبين هنا هذا الذي سأل موسى من قبل من هو؟ ولكنه بينه في موضع آخر. وذلك في قوله (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة) .
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن محمد بن إسحاق بسنده عن ابن عباس قال: قال رافع بن حريملة ووهب بن زيد لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يا محمد ايتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرأه، وفجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك فأنزل الله في ذلك عن قولهم (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل) .
وأخرج الشيخان بسنديهما عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - مرفوعاً: "إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته".
(صحيح البخاري 13/264 رقم 7289- الاعتصام، ب ما يكره من كثرة السؤال) ، (وصحيح مسلم- الفضائل، ب توقيره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وترك إكثار سؤاله) . واللفظ للبخارى. وذكره ابن كثير في (التفسير 1/267) .
وأخرج الشيخان بسنديهما عن أبي هريرة مرفوعاً قال: "ذرونى ما تركتكم.
فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم. وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه".
(صحيح البخاري 13/248 رقم 7288- الإعتصام ب الإقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ، (وصحيح مسلم- الحج 2/975 رقم 1337، ب فرض الحج مرة في العمر) . واللفظ لمسلم وهو مختصر من حديث فرض الحج. وذكره ابن كثير في (التفسير 1/268) .(1/213)
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)
وأخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل) ، أن يريهم الله جهرة. فسألت قريش محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يجعل الله لهم الصفا ذهبا، قال: نعم! وهو لكم كمائدة بنى إسرائيل إن كفرتم! فأبوا ورجعوا.
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل) ، وكان موسى يسأل، فقيل له (أرنا الله جهرة) .
قوله تعالى (ومن تبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل)
تقدم الكلام عن الإيمان في قوله تعالى (الذين يؤمنون بالغيب ... ) الآية (3) من هذه السورة.
وأضيف هنا حديث شعب الإيمان وحديث تذوق طعم الإيمان فقد أخرج الشيخان بسنديهما عن أبي هريرة مرفوعاً: "الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان".
(صحيح البخاري رقم 9- الإيمان، ب أمور الإيمان) ، وصحيح مسلم- رقم 57- الإيمان، ب بيان عدد شعب الإيمان) . واللفظ لمسلم ولفظ البخاري مختصر.
قوله: شعبة بالضم أي قطعة والمراد الخصلة أو الجزء (فتح الباري 1/52) .
وأخرج مسلم بسنده عن العباس بن عبد المطلب أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول:
"ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولاً".
(الصحيح رقم 56- الإيمان، ب الدليل على أن من رضي بالله ربا ... ) .
وأخرج الشيخان بسنديهما عن أنس مرفوعاً: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار".
(صحيح البخاري رقم 16- الإيمان، ب حلاوة الإيمان) ، وصحيح مسلم رقم 67- الإيمان, ب بيان خصال من اتصف لهن وجد حلاوة الإيمان) . واللفظ للبخاري.(1/214)
هذا والأحاديث كثيرة جداً في خصال الإيمان وشعبه وصنف فيها المؤلفات وأشملها كتاب شعب الإيمان للحليمي، وشعب الإيمان للبيهقي، وأحاديثه كلها مسندة واختصره القزويني وهو جزء لطيف ومحقق ومخرج، وكتاب شيخ الإسلام ابن تيمية. ومن الكتب المسندة في الإيمان: كتاب الإمام أحمد وابن أبي شيبة، والقاسم بن سلام، وابن مندة.
قوله تعالى (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده عن ابن إسحاق بسنده الحسن عن ابن عباس قال: فكان حيي بن أخطب، وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود للعرب حسداً إذ خصهم الله برسوله. وكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام بما استطاعا فأنزل الله تعالى فيهما (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق) .
وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في قوله (ود كثير من أهل الكتاب) قال: هو كعب بن الأشرف.
(التفسير ص 44) ، وإسناده صحيح.
قوله تعالى (من بعد ما تبين لهم الحق)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية في قوله (من بعد ما تبين لهم الحق) من بعد ما تبين أن محمداً رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل فكفروا به حسدا وبغيا إذ كان من غيرهم.
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (من بعد ما تبين لهم الحق) من بعد ما تبين لهم أن محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والإسلام دين الله.
قوله تعالى (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة في قوله (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره) نسخ ذلك كله بقوله (فاقتلوا(1/215)
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)
المشركين حيث وجدتموهم) التوبة: 5، وقوله (قاتلوا الذين لايؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) إلى قوله (وهم صاغرون) التوبة: 29، فنسخ هذا.
واللفظ لابن أبي حاتم. وأخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة بنحوه (التفسير ص 44) .
وكذا أخرجه ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية.
أخرج البخاري بسنده عن عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أخبره أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركب على حمار، على قطيفة فدكية، وأردف أسامة ابن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر قال حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي ابن سلول، وذلك قبل أن يسلم عبد الله ابن أبي فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود والمسلمين وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه، ثم قال لاتغبروا علينا، فسلم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهم ثم وقف فنزل، فدعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله بن أبي ابن سلول أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول، إن كان حقاً، فلا تؤذينا به في مجلسنا، ارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه، فقال عبد الله بن رواحة بلى يا رسول الله، فاغشنا به في مجالسنا، فإنا نحب ذلك، فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون فلم يزل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخفضهم حتى سكنوا ثم ركب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يا سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب يريد عبد الله بن أبي قال كذا وكذا قال سعد بن عبادة يا رسول الله، اعف عنه، واصفح عنه، فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك لقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه فيعصبونه بالعصابة فلما أبي الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق بذلك، فذلك فعل به ما رأيت، فعفا عنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه يعفون عن المشركين، وأهل الكتاب، كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى، قال الله عز وجل (ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى(1/216)
كثيراً) الآية، وقال الله (ود كثر من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسدا من عند أنفسهم) إلى آخر الآية، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتأول العفو ما أمره الله به، حتى أذن الله فيهم فلما غزا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدراً، فقتل الله به صناديد كفار قريش، قال ابن أبي ابن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان، هذا أمر قد توجه فبايعوا الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الإسلام فأسلموا.
(الصحيح رقم 4566- التفسير- آل عمران، ب (ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً)) .
قوله تعالى (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية في قوله (تجدوه عند الله) فيقول تجدوا ثوابه عند الله.
قوله تعالى (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى)
وبه عن أبي العالية قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا يهودي. وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا نصراني. ثم قال وروي عن مجاهد والربيع والسدي نحو ذلك.
قوله تعالى (تلك أمانيهم)
وبه عن أبي العالية (تلك) يقول أمانى تمنوها على الله بغير حق.
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (تلك أمانيهم) أماني يتمنونها على الله كاذبة.
قوله تعالى (قل هاتوا برهانكم)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية (قل هاتوا برهانكم) أي: حجتكم. ثم قال: وروي عن مجاهد والسدي والربيع نحو ذلك.
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (هاتوا برهانكم) هاتوا بينتكم.
قوله تعالى (إن كنتم صادقين)
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية (إن كنتم صادقين) بما تقولون أنه كما تقولون.(1/217)
بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
قوله تعالى (بلى من أسلم وجهه)
وبه عن أبي العالية (بلى من أسلم وجهه) يقول الله: من أخلص لله.
قوله تعالى (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن ابن إسحاق بسنده عن ابن عباس قال: لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتتهم أحبار يهود فتنازعوا عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقال رافع بن حريملة: ما أنتم على شيء وكفر بعيسى وبالإنجيل. فقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود ما أنتم على شيء وجحد بنبوة موسى وكفر بالتوراة فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهما (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء) .
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء) قال: بلى! قد كانت أوائل النصارى على شيء، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا، وقالت النصارى (ليست اليهود على شيء) ولكن القوم ابتدعوا وتفرقوا.
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية قال: حدثنا عصام ابن رواد ثنا آدم عن أبي جعفر عن الربيع عن أبي العالية قال: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء. وقالت النصارى ليست اليهود على شيء) قال: هولاء أهل الكتاب الذين كانوا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قوله تعالى (وهم يتلون الكتاب)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن ابن إسحاق بسنده عن ابن عباس (وهم يتلون الكتاب) قال أي كل يتلو في كتابه تصديق ما كفر به أن تكفر اليهود بعيسى وعندهم في التوراة فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى بالتصديق بعيسى، وفي الإنجيل ما جاء به من التوراة من عند الله وكل يكفر بما في يدي صاحبه.(1/218)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)
قوله تعالى (كذلك قال الذين لايعلمون مثل قولهم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (قال الذين لايعلمون مثل قولهم)
قال: قالت النصارى مثل قول اليهود قبلهم.
وأخرجه ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية.
قوله تعالى (فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون)
قال ابن كثير: وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحج (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد) الحج: 17، وكما قال تعالى (قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم) سبأ: 26.
(التفسير 1/274) .
قوله تعالى (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ... ) الآية
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها) النصارى، كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى، ويمنعون الناس أن يصلوا فيه.
وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها) قال: هو بختنصر وأصحابه خربوا بيت المقدس، وأعانته على ذلك النصارى، قال الله (أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين) وهم النصارى لا يدخلون المسجد إلا مسارقة إن قدر عليهم عوقبوا (لهم في الدنيا خزي) قال: يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون.
(التفسير ص 44) ، وإسناده صحيح.
وقال الشيخ الشنقيطي عند هذه الآية: قال بعض العلماء: نزلت في صد المشركين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن البيت الحرام في عمرة الحديبية عام ست. وعلى هذا القول: فالخراب معنوي، وهو خراب المساجد بمنع العبادة فيها. وهذا القول يبينه ويشهد له قوله تعالى (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام) الآية(1/219)
وقال بعض العلماء: الخراب المذكور هو الخراب الحسي. والآية نزلت فيمن خرب بيت المقدس وهو بختنصر أو غيره وهذا القول يبينه ويشهد له قوله جل وعلا (فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا) .
ويؤيد القول الأول قوله تعالى (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون، إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة آتى الزكاة ويخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين) التوبة: 18،17. وقوله تعالى (ومالهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لايعلمون) الأنفال: 34.
قوله تعالى (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله)
القول الأول: أن الآية منسوخة: قال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قال: وأما ما نسخ من القرآن شأن القبلة، قال الله تبارك وتعالى (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) قال: فصلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحو بيت المقدس وترك البيت العتيق، ثم صرفه الله تبارك وتعالى إلى البيت العتيق وقال (إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) .
(الناسخ والمنسوخ رقم 21 ص 146) . وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق الحسن بن محمد بن الصباح عن حجاح بن محمد به. وأخرجه الحاكم (المستدرك 2/267، 268) من طريق ابن جريج به وصححه ووافقه الذهبي. وهو كما قالا، وعثمان هو ابن عطاء. ضعيف ولايضر إذ هو مقرون بابن جريج.
وعطاء هو: الخراساني حيث صرح ابن الجوزي بذلك فأخرجه من طريق أحمد بن حنبل عن حجاج بن محمد قال: أنبأ ابن جريج عن عطاء الخرساني عن ابن عباس بلفظه (نواسخ القرآن ص 144) ولعل الحاكم والذهبي صححاه على أن المقصود بعطاء: ابن أبي رباح ويؤيد ذلك ما ذكره الحافظ ابن حجر فقال عند عرضه لطرق ابن عباس في التفسير: ومن طريق ابن جريح عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس لكن فيما يتعلق بالبقرة وآل عمران وما عدا ذلك يكون عطاء والخرساني، وهو لم يسمع من ابن عباس فيكون منقطعا إلا إن صرح ابن جريج بأنه عطاء بن أبي رباح (العجاب في بيان الأسباب ص د-9) .
وعلى هذا تبقى المسألة محتملة فإن كان عطاء بن أبي رباح فالإسناد صحيح، وإن كان الخراساني الإسناد ضعيف ويقويه رواية علي بن أبي طلحة التالية.(1/220)
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كان أول ما نسخ من القرآن القبلة. وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما هاجر إلى المدينة، وكان أكثر أهلها اليهود، أمره الله عز وجل أن يستقبل بيت المقدس. ففرحت اليهود. فاستقبلها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بضعة عشر شهرا، فكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحب قبلة إبراهيم عليه السلام، فكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله تبارك وتعالى (قد نرى تقلب وجهك في السماء) إلى قوله (فولوا وجوهكم شطره) سورة البقرة: 144، فارتاب من ذلك اليهود وقالوا: (ماولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) فأنزل الله عز وجل (قل لله المشرق والمغرب) وقال (أينما تولوا فثم وجه الله) سورة البقرة: 142.
وأخرج الإمام أحمد (انظر نواسخ القرآن ص 145) ، والطبري بأسانيد حسنة عن قتادة بنحوه.
القول الثانى: أنها محكمة وتفسيرها في صلاة السفر تطوعاً.
أخرج مسلم بسنده عن ابن عمر قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه قال: وفيه نزلت (فأينما تولوا فثم وجه الله) .
(الصحيح رقم 33- الصلاة، ب جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت) .
القول الثالث: أنها محكمة وتفسيرها استقبال الكعبة.
قال الطبري: أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن أبي سنان، عن الضحاك، والنضر بن عربي، عن مجاهد في قول الله عز وجل (فأينما تولوا فثم وجه الله) قال: قبلة الله، فأينما كنت من شرق أو غرب فاستقبلها.
ورجاله ثقات إلا أبا سنان وهو سعيد بن سنان الرجمي معروف برواية وكيع عنه. (انظر تهذيب التهذيب 4/45) وهو صدوق له أوهام وباقي رجاله ثقات وأخرجه الطبري عن ابن جريج عن مجاهد, وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق إبراهيم بن أبي بكر عن مجاهد.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج ثنا عبدة بن سليمان الكلابي عن نضر بن العربي عن عكرمة عن ابن عباس (فأينما تولوا فثم وجه الله) قبلة الله أينما توجهت شرقا أو غربا.
ورجاله ثقات وإسناده صحيح.(1/221)
وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
قال الله تعالى (وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه)
أخرج البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياى فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله لي ولد فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولداً.
(الصحيح رقم 4482 -التفسير- سورة البقرة، ب (وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه)) .
وأخرج الشيخان بسنديهما عن أبي موسى الأشعري قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله، يدعون له الولد ثم يعافيهم ويرزقهم".
(صحيح البخاري رقم 7378- التوحيد، ب قول الله تعالى (إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين)) ، (وصحيح مسلم -صفات المنافقين، ب لا أحد أصبر على أذى من الله) . وذكر ابن كثير هذين الحديثين في تفسيره (1/282) .
وقال الشنقيطي عند هذه الآية: هذا الولد المزعوم -على زاعمه لعائن الله- قد جاء مفصلا في آيات أخر كقوله (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون) وقوله (ويجعلون لله البنات) الآية.
قوله تعالى (كل له قانتون)
وأخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله عز وجل (كل له قانتون) قال: مطيعون. قال: طاعة الكافر في سجود ظله.
وكأنه استنبط هذا القول من قوله تعالى (ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال) الرعد: 15، ومن قوله تعالى (أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون) النحل: 48.
وأخرجه الطبري بسنده الحسن عن قتادة بلفظ: مطيعون.
قوله تعالى (بديع السموات والأرض)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية: يعني قوله (بديع السموات والأرض) ابتدع خلقها ولم يشركه في خلقها أحد.(1/222)
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
قوله تعالى (وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون)
والقضاء فصل الأمر قولا كان ذلك أو فعلا ومثال القول قوله تعالى (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) الإسراء: 23، (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبير) الإسراء: 4، ومن الفعل قوله (فقضاهن سبع سماوات في يومين) فصلت: 12.
(انظر المفردات للراغب ص 406) .
وقال ابن كثير عند هذه الآية: يبين بذلك تعالى كمال قدرته وعظيم سلطانه وأنه إذا قدر أمرا فإنما يقول له كن فيكون كن أي مرة واحدة فيكون أي فيوجد على وفق ما أراد كما قال تعالى (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) وقال تعالى (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) وقال تعالى (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر) .
(التفسير 1/283) .
وقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه إذا مر بآية تنزيه سبح كما تقدم في آخر تفسير آية (37) من هذه السورة.
قوله تعالى (وقال الذين لايعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية)
ورد فيها ثلاثة أقوال وهي:
القول الأول: أنهم يهود.
أخرج ابن إسحاق بسنده الحسن عن ابن عباس قال: قال رافع بن حريملة لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يا محمد إن كنت رسولاً من الله كما تقول فقل لله فيكلمنا حتى نسمع كلامه فأنزل الله في ذلك من قوله (وقال الذين لايعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية) .
(انظر تفسير ابن كثير 1/283, 284) . وأخرجه الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما عن ابن إسحاق به.
القول الثاني: أنهم كفار الرب.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية قوله (لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية) قال: هو قول كفار العرب.
وأخرجه الطبري بسنده الحسن عن قتادة بلفظه.(1/223)
القول الثالث: أنهم النصارى.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله عز وجل (وقال الذين لايعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية) قال: النصارى تقوله.
واختار الطبري القول الثالث لأن السياق فيهم.
وتعقبه ابن كثير فقال: وفي ذلك نظر وحكى القرطبي (لولا يكلمنا الله) أي يخاطبنا بنبوتك يا محمد -قلت- وهو ظاهر السياق والله أعلم. وقال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة والسدي في تفسير هذه الآية هذا قول كفار العرب (كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم) قال: هم اليهود والنصارى ويؤيد هذا القول وأن القائلين ذلك هم مشركو العرب قوله تعالى (وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتي مثل ما أوتي رسل الله) الآية وقوله تعالى (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا) إلى قوله (قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولاً) ، وقوله تعالى (وقال الذين لايرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا) الآية وقوله تعالى (بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على كفر مشركي العرب وعتوهم وعنادهم وسؤالهم ما لاحاجة لهم به.
قوله تعالى (لولا يكلمنا الله)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن قتادة في قوله (لولا يكلمنا الله) قال: فهلا يكلمنا الله!.
قوله تعالى (كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية يقول الله (كذلك قال الذين من قبلهم) يعني: اليهود والنصارى أو غيرهم.
ثم قال: وروي عن السدي وقتادة والربيع بن أنس نحو ذلك.
وما روى عن قتادة أخرجه الطبري بسنده الحسن بلفظ: اليهود النصارى وغيرهم.
وأخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد بلفظ: هم اليهود.(1/224)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)
قوله تعالى (قد بينا الآيات لقوم يوقنون)
قال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبو عبد الله الطهراني فيما كتب إلي أنبا عبد الرزاق أنبا معمر عن قتادة يعني قوله (آيات لقوم يوقنون) قال: معتبرا لمن اعتبر.
ورجاله ثقات وإسناده صحيح.
قوله تعالى (إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا)
أخرج البخاري بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن هذه الآية التي في القرآن (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا) قال في التوراة يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا وحرزا للأميين أنت عبدي
ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولاغليظ ولاسخاب بالأسواق ولايدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويصفح ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله فيفتح بها أعينا عميا وآذانا عميا وقلوبا غلفا.
(الصحيح رقم 4838- التفسير سورة الفتح، ب (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا)) .
وأخرج الشيخان بسنديهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصفا ذات يوم فقال: يا صباحاه فاجتمعت إليه قريش قالوا: مالك؟ قال: أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم أو يمسيكم أما كنتم تصدقوني؟ قالوا: بلى، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب تبا لك، ألهذا جمعتنا، فأنزل الله (تبت يدا أبي لهب) .
(صحيح البخاري رقم 4801- التفسير- سورة سبأ ب (إن هو إلا نذير لكم)) ،
(وصحيح مسلم رقم 355- الإيمان، ب قوله تعالى (وأنذر عشيرتك الأقربين)) .
وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره عند هذه الآية.
قوله تعالى (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم)
يبينه قوله تعالى (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك) سورة البقرة: 145.(1/225)
وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
قوله تعالى (قل إن هدى الله هو الهدى)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة (قل إن هدى الله هو الهدى) قال: خصومة علمها الله محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه رضي الله عنهم يخاصمون لها أهل الضلالة.
وأخرج الشيخان بسنديهما عن معاوية - رضي الله عنه - مرفوعاً: "لايزال من أمتي أمة قائمة لأمر الله لايضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك".
(صحيح البخاري 6/632 رقم 3641- المناقب) ، (وصحيح مسلم رقم 1037- الإمارة، ب قوله تعالى: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين") . واللفظ للبخاري. وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق قتادة مرسلاً. وذكره ابن كثير في التفسير (1/286) .
قوله تعالى (الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن معمر عن قتادة في قوله (الذين آتيناهم الكتاب) قال: اليهود والنصارى.
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن سعيد عن قتادة قوله (الذين آتيناهم الكتاب) هؤلاء أصحاب نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آمنوا بكتاب الله وصدقوا به.
وأخرجه ابن أبي حاتم بإسناد حسن من طريق شيبان عن قتادة. واختار الطبري القول الأول.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة ثنا إبراهيم بن موسى أبنا ابن أبي زائدة أنا داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس في قوله (يتلونه حق تلاوته) قال: يتبعونه حق اتباعه. ثم قرأ إذا تلاها يقول: اتبعها.
وروي عن عكرمة، وعطاء، ومجاهد، وأبي رزين، وإبراهيم ذلك. ورجاله ثقات وإسناده صحيح إلى ابن عباس.
وأخرج المروزى عن إسحاق بن إبراهيم، أنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد مثله.
(تعظيم قدر الصلاة 1/396 رقم 384) . ورجاله ثقات وإسناده صحيح.
قوله تعالى (ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون)
أخرج مسلم بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "والذي نفس محمد بيده! لايسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصرانى، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار".
(الصحيح- الإيمان، رقم 153، ب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) .(1/226)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
قوله تعالى (يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين. واتقوا يوما لاتجزي نفس عن نفس شيئا ولايقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولاهم ينصرون)
تقدم تفسير هاتين الآيتين عند الآية رقم (47 و48) .
قوله تعالى (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات)
اختلف المفسرون في المراد بالكلمات.
القول الأول: هي خصال عشر من سنن الإسلام.
أخرج عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس في قوله (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات) قال ابتلاه الله بالطهارة.
(التفسير ص 46) ورجاله ثقات وإسناده صحيح، وأخرجه الحاكم من طريق ابن طاوس به وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 2/266) ، وابن طاوس هو عبد الله. وأخرجه الطبري وابن أبي حاتم من طريق عبد الرزاق به ثم قال ابن أبي حاتم وروي عن أبي صالح وأبي الجلد ومجاهد وسعيد بن المسيب والنخعي والشعبي نحو ذلك.
القول الثانى: ما أخرجه الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (واذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن) قال الله لإبراهيم: إني مبتليك بأمر فما هو؟ قال: تجعلني للناس إماما! قال: نعم. قال: ومن ذريتي. قال: لا ينال عهدي الظالمين. قال: تجعل البيت مثابة للناس. قال: نعم. قال: وأمنا. قال: نعم. قال: وتجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك. قال: نعم.
قال: وترينا مناسكنا وتتوب علينا. قال: نعم قال: وتجعل هذا البلد آمنا.
قال: نعم. قال: وترزق أهله من الثمرات من آمن منهم. قال: نعم.
وأخرج ابن أبي شيبة عن وكيع عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن) قال: ابتلي بالآيات التي بعدها.
(المصنف 11/521 رقم 11876- الفضائل، ب ما ذكر مما أعطى الله إبراهيم) . ورجاله ثقات وإسناده صحيح.(1/227)
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
القول الثالث: ما أخرجه ابن أبي حاتم بسنده الحسن من طريق ابن إسحاق بسنده عن ابن عباس قال: الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم فأتمهن فراق قومه في الله حين أمر بفراقهم، ومحاجته نمرود في الله حين وقفه على ماوقفه عليه من خطر الأمر الذي فيه خلافهم، وصبره على قذفه إياه في النار ليحرقوه في الله على هول ذلك من أمرهم والهجرة بعد ذلك من وطنه وبلاده في الله حين أمره بالخروج عنهم، وما أمره به من الضيافة والصبر عليها، وماله وما ابتلى به من ذبح ولده، حين أمره بذبحه فلما مضى على ذلك من أمر الله وأخلصه البلاء قال الله له أسلم قال: أسلمت لرب العالمين. على ما كان من خلاف الناس وفراقهم.
القول الرابع: ما أخرجه الطبري عن يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء قال: قلت للحسن: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن) قال: ابتلاه بالكوكب، فرضي عنه، وابتلاه بالقمر، فرضي عنه، وابتلاه بالشمس، فرضي عنه، وابتلاه بالنار، فرضي عنه، وابتلاه بالهجرة، وابتلاه بالختان.
ورجاله ثقات وإسناده صحيح وأبو رجاء هو: محمد بن سيف الحداني. وأخرجه إسناده الحسن عن قتادة عن الحسن بنحوه وزاد ابتلاه بذبح ابنه.
وقال الطبري: ما حاصله أنه يحتمل أن يكون المراد بالكلمات جميع ما ذكر ويحتمل أن يكون بعض ذلك ولايجوز الجزم بشيء منها إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر عن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو إجماع من الحجة ولم يصح شيء من ذلك.
قوله تعالى (فأتمهن)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية (فأتمهن) أي: عمل بهن.
وقال الطبري: حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا دواد، عن عكرمة، عن ابن عباس (فأتمهن) ، أي فأداهن.
ورجاله ثقات وإسناده صحيح وعبد الأعلى هو ابن عبد الأعلى وداود: هو ابن أبي هند. وعبد الأعلى هذا معروف روايته عن داود بن أبي هند. (انظر تهذيب التهذيب 6/96) .(1/228)
قوله تعالى (قال إني جاعلك للناس إماما ومن ذريتي)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية قوله (إني جاعلك للناس إماما) فجعله الله إماما يؤتم ويقتدى به.
ثم قال: وروي عن الحسن وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان وقتادة والربيع ابن أنس نحو ذلك.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن محمد ابن إسحاق بسنده عن ابن عباس (ومن ذريتي قال لاينال عهدي الظالمين) يخبره أي أنه كان في ذريته ظالم لاينال عهده ولاينبغي له أن يوليه شيئا من أمره، وإن كانوا من ذرية خليله، ومحسن ستنفذ فيه دعوته ويبلغ فيه ما أراب من مسألته.
وأخرج بسنده الجيد عن أبي العالية قال إبراهيم: يا رب (ومن ذريتي) يقول اجعل من ذريتي من يؤتم به ويقتدى به. يقول: ليس كل ذريتك يا إبراهيم على الحق.
قوله تعالى (قال لاينال عهدى الظالمين)
اختلف المفسرون في تفسير العهد.
القول الأول: الأمان.
أخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله (لاينال عهدي الظالمين) قال لاينال عهد الله في الآخرة الظالمون، فأما في الدنيا قد ناله الظالم وأمن به، وأكل وأبصر وعاش.
(التفسير ص 46) ، وإسناده صحيح.
القول الثانى: دين الله.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية قال: قال الله (لاينال عهدي الظالمين) فعهد الله الذي عهد إلى عباده دينه قال: لاينال ديني الظالمين.
القول الثالث: الإمامة.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (قال لاينال عهدي الظالمين) قال: لا يكون إماما ظالما.(1/229)
القول الرابع: أنه لاعهد عليك لظالم أن تطيعه في ظلمه.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ثنا إسحاق الأزرق ثنا سفيان عن هارون بن عنترة عن أبيه عن ابن عباس في قوله (لاينال عهدى الظالمين) قال: ليس لظالم عليك عهد في معصية الله أن نطيعه.
وروي عن مجاهد، وعطاء، ومقاتل بن حيان نحو ذلك.
ورجاله ثقات إلا الحسن فصدوق وهارون لا بأس به. فالإسناد حسن.
واختار الطبري أن هذه الآية وإن كانت ظاهرة في الخبر أنه لاينال عهد الله بالإمامة ظالما ففيها إعلام من الله لإبراهيم الخليل أنه سيوجد من ذريتك من هو ظالم لنفسه كما تقدم عن مجاهد وغيره.
ويؤيد هذا الإختيار قول الشيخ الشنقيطي عند هذه الآية: يفهم من هذه الآية أن الله علم أن من ذرية ابراهيم ظالمين. وقد صرح تعالى في مواضع أخر بأن منهم ظالما غير ظالم. كقوله (ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين) الصافات: 113، وقوله (وجعلها كلمة باقية في عقبه) الزخرف: 28.
قوله تعالى (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (مثابة للناس) قال: يثوبون إليه.
وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد بلفظ: لايقضون منه وطرا.
(التفسير ص 46) ، وإسناده صحيح.
قال عبد الرزاق نا الثوري عن أبي الهذيل عن سعيد بن جبير في قوله (مثابة للناس) قال: يحجون ثم يحجون لايقضون منه وطراً.
ورجاله ثقات إلا أبا الهذيل وهو غالب بن الهذيل الأودى صدوق رمي بالرفض والأثر ليس له علاقة بالرافضة. فالإسناد حسن.
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن سعيد عن قتادة بلفظ: مجمعا.
وأخرجه ابن أبي شيبة عن وكيع عن غالب عن سعيد بن جبير بلفظ يحجون ثم يعودون.
(المصنف 4/112) .(1/230)
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
قوله تعالى (وأمنا)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) يقول أمنا من العدو وأن يحمل فيه السلاح، وقد كانوا في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لايسبون.
وأخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (وأمنا) قال: تحريمه، لايخاف فيه من دخله.
قوله تعالى (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)
اختلف المفسرون في المراد بالمقام على أقوال:
القول الأول: هو الحجر الذي قام عليه إبراهيم عند بنائه الكعبة.
أخرج البخاري بسنده عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: وافقت الله في ثلاث، أو وافقني ربي في ثلاث، قلت يا رسول الله: لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى، وقلت يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب ...
(الصحيح رقم 4483- التفسير- سورة البقرة, قوله تعالى (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)) .
وأخرج مسلم بسنده عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - في الحديث الطويل والشاهد فيه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استلم الركن فرمل ثلاثا، ومشى أربعا، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) فجعل المقام بينه وبين البيت.
(الصحيح رقم 1218- الحج، ب حجة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) .
وأخرج البخاري بسنده عن ابن عمر قال: قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فطاف بالبيت سبعا ثم صلى خلف المقام ركعتين ...
(الصحيح 3/484 رقم 1623- الحج، ب صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لسبوعه ركعتين) .
القول الثانى: الحج كله أي الحرم وعرفات.
قال عبد الرزاق: نا ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في قوله (مقام إبراهيم) قال: الحج كله مقام إبراهيم.(1/231)
وأخرجه الطبري من طريق ابن جريج به. وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق حجاج من ابن جريج به وأطول وفيه قال ابن جريج سألت عطاء. وعطاء هذا ابن أبي رباح فالإسناد صحيح، وقد نبه على هذه الفائدة -عدم تصريح ابن جريج باسم والد عطاء- الحافظ ابن حجر فقال: ومن طريق ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس لكن فيما يتعلق بالبقرة وآل عمران، وما عدا ذلك يكون عطاء هو: الخراساني، وهو لم يسمع من ابن عباس، فيكون منقطعا. إلا إن صرح ابن جريج بأنه عطاء ابن أبي رباح. (العجاب في بيان الأسباب ص د-9) .
القول الثالث: عرفة والمزدلفة والجمار.
قال الطبري: حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء بن أبي رباح (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) قال: لأني قد جعلته إماما، فمقامه: عرفة والمزدلفة والجمار.
ورجاله ثقات، وإسناده صحيح. وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عن ابن نجيح عن مجاهد بنحوه (التفسير ص 46) . والصحيح القول الأول لما ثبت في الصحيح وقد رجحه الطبري (التفسير 3/36) ، وابن كثير (التفسير 1/298) ، والبغوي (التفسير 1/113) .
فصل: وثيقة تاريخية ثابتة عن مقام إبراهيم
قال البيهقي: أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان، أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن كامل، حدثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل السلمي، حدثنا أبو ثابت، حدثنا الدراوردي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضى الله عنها أن المقام كان زمان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وزمان أبي بكر - رضي الله عنه - ملتصقا بالبيت ثم أخره عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
ذكره ابن كثير ثم قال: وهذا إسناد صحيح مع ما تقدم.
(التفسير 1/299) .
ويقصد بما تقدم الآثار التالية عن الإمام أنس بن مالك وقتادة ومجاهد.
فقال عبد الله بن وهب: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، أن أنس ابن مالك حدثهم، قال رأيت المقام فيه أصابعه عليه السلام، وأخمص قدميه غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم.
(انظر المصدر السابق) . وإسناده صحيح إلى أنس.(1/232)
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه. ولقد تكلفت هذه الأمة شيئاً ما تكلفته الأمم قبلها. ولقد ذكر لنا بعض من رأى أثر عقبه وأصابعه فيه، فما زالت هذه الأمة يمسحونه حتى اخلولق وانمحى.
وأخرج عبد الرزاق مصنفه عن ابن جريج حدثني عطاء وغيره من أصحابنا قال: أول من نقله عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
وذكره ابن كثير، والحافظ ابن حجر وصحح إسناده (فتح الباري 8/169) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي ثنا ابن أبي عمر العدنى قال: قال سفيان: كان المقام في سقع البيت على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -- وبعد قوله (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) قال: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا، فرده عمر إليه. وقال سفيان: لا أدرى كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله. قال سفيان: لا أدري أكان لاصقا بها أم لا.
وسفيان هذا هو ابن عيينة، كما صرح ابن كثير حيث نقل رواية ابن أبي حاتم كاملة (التفسير 1/299، 300) .
قوله تعالى (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)
قال ابن أبي حاتم: حدثني سهل بن بحر العسكرى بالري ثنا جعفر بن حميد أنا ابن المبارك عن زكريا بن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد (واتخذوا من مقام إبراهم مصلى) قال: مدعى.
ورجاله ثقات، إلا العسكري صدوق فالإسناد حسن.
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قال: أمروا أن يصلوا عنده.
قوله تعالى (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين)
قال الطبري. حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيرى قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن عبيد بن عمير (أن طهرا بيتي للطائفين) قال: من الأوثان والريب.
وأخرجه أيضاً من طريق ابن جريج عن عطاء به. وعطاء هو ابن أبي رباح كما قرر الحافظ ابن حجر في مقدمة كتاب (العجاب في بيان الأسباب) . ورجاله ثقات إلا أحمد صدوق فالإسناد حسن.(1/233)
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين ثنا يحيى بن خلف ثنا عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة (والطائفين) قال: الطائفون: من يعتنقه.
ورجاله ثقات إلا يحيى بن خلف: صدوق فالإسناد حسن.
وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله (أن طهرا بيتي للطائفين)
قال: من الشرك وعبادة الأوثان.
(التفسير ص 46) .
قوله تعالى (والعاكفين)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي ثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد بن سلمة ثنا ثابت قال: قلت لعبد الله بن عبيد بن عمير: ما أرأني إلا مكلم الأمير أن يمنع الذين ينامون في المسجد الحرام فإنهم يجنبون ويحدثون؟. قال: لا تفعل فإن عمر سئل عنهم فقال: هم العاكفون.
ورجاله ثقات، وإسناده صحيح وذكره ابن كثير ثم قال: وقد ثبت في الصحيح أن ابن عمر كان
ينام في مسجد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو عزب. (التفسير 1/301) .
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (والعاكفين) قال: العاكفون أهله.
قوله تعالى (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا)
أخرج الشيخان بسنديهما عن عمرو بن سعيد مرفوعاً إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامريء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، ولايعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها فقولوا إن الله قد أذن لرسوله، ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالماس وليببغ الشاهد الغائب ...
(صحيح البخاري رقم 104- العلم، ب ليبلغ الشاهد الغائب) ، (وصحيح مسلم رقم 1354- الحج، ب تحريم مكة وصيدها) .
وأخرج مسلم بسنده عن رافع بن خديج قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم ما بين لابتيها" -يريد المدينة-.
(صحيح مسلم رقم 1361- الحج، ب فضل المدينة)(1/234)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
قوله تعالى (وارزق أهله من الثمرات)
دعا إبراهيم عليه الصلاة والسلام بهذا الدعاء لأنه كان بواد غير ذي زرع وقد حكى الله تعالى عنه أنه قال (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ... ) الآية. سورة إبراهيم: 37. وقد استجاب الله سبحانه وتعالى لإبراهيم فصار يجبى إليه ثمرات كل شيء كما قال تعالى (أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء) سورة القصص: 57.
قوله تعالى (من آمن منهم بالله واليوم الآخر)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (من آمن منهم بالله واليوم الآخر) يعني من وحّد الله وآمن باليوم الآخر.
قوله تعالى (ومن كفر فأمتعه قليلا)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أُبي بن كعب - رضي الله عنه - (ومن كفر) إن هذا من قول الرب قال: ومن كفر فأمتعه قليلا.
قال ابن كثير: عند هذه الآية وهذا كقوله تعالى (إن الذين يفترون على الله الكذب لايفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم) .
والآية في سورة النحل 116, 117.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عصام بن رواد، ثنا آدم، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح قال: سمعت عكرمة قال: قال الله (ومن كفر) -أيضاً- فإني أرزقه من الدنيا حين استرزق إبراهيم لمن آمن.
قال ابن أبي نجيح: سمعت هذا من عكرمة، ثم عرضته على مجاهد فلم ينكره.
ورجاله ثقات إلا عصام بن رواد صدوق فالإسناد حسن.
قوله تعالى (ثم اضطره إلى عذاب النار وبئس المصير)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحجاج بن حمزة، ثنا شبابة، ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح قوله (ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير) قال: ثم مصير الكافر إلى النار.
قال ابن أبي نجيح سمعته من عكرمة، فعرضته على مجاهد فلم ينكره.
وإسناده حسن.(1/235)
وأخرج الشيخان بسنديهما عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - مرفوعاً: "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته".
(صحيح البخاري رقم 4686- التفسير- سورة هود، ب قوله (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة)) ، (وصحيح مسلم 2583- البر والصلة، ب تحريم الظلم) .
قوله تعالى (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم)
قال عبد الرزاق: نا معمر، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت) قال: القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك.
(التفسير ص 47) ، وأيوب هو السختياني. وأخرجه الطبري عن الحسن بن يحيى عن عبد الرزاق به. وذكر الحافظ ابن حجر رواية الطبري وصحح إسنادها (فتح البارى 8/170) .
قال الشيخ الشنقيطي عند هذه الآية: ذكر في هذه الآية رفع إبراهيم وإسماعيل لقواعد البيت. وبين في سورة الحج أنه أراه موضعه بقوله (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) أي: عينا له محله وعرفناه به.
وأخرج البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أن إبراهيم قال لإسماعيل: يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر. قال: فاصنع ما أمرك ربك. قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتا -وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها- قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني. حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) .
(الصحيح 6/396-398 رقم 3664- الأنبياء، ب يزفون: النسلان في المشي) .
وهذا طرف من آخر الحديث الطويل الذي ذكر فيه قصة إسماعيل وأمه في البيت الحرام.(1/236)
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)
وأخرج الشيخان بسنديهما عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: ألم تري أن قومك بنوا الكعبة واقتصروا عن قواعد إبراهيم، فقلت: يا رسول الله ألا تردها على قواعد إبراهيم قال: لولا حدثان قومك بالكفر فقال عبد الله بن عمر لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أرى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ترك استلام الركنين الذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم.
(صحيح البخاري رقم 4484- التفسير- سورة البقرة، ب قوله تعالى (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من
البيت وإسماعيل ... )) ، وصحيح مسلم- الحج رقم 1333، ب نقض الكعبة وبنائها) . واللفظ للبخاري.
وأخرج الشيخان بسنديهما عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: "ألم تري قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا على قواعد إبراهيم، فقلت: يا رسول الله ألا تردها على قواعد إبراهيم؟ قال: لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت".
(صحيح البخاري 3/439 رقم 1583- الحج، ب فضل مكة وبنيانها) ، (وصحيح مسلم- الباب السابق رقم 400) . وذكر ابن كثير هذه الروايات التي في الصحيحين (التفسير 1/313، 314) .
وقد قام عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما بما أراد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنقض حجارة الكعبة ثم بناها من جديد وأدخل الحجر وجعل لها بابا للدخول وآخر للخروج وزاد في طول الكعبة. وقد أخرج مسلم بسنده عن عطاء قال: لما احترق البيت زمن يزيد بن معاوية، حين غزاها أهل الشام، فكان من أمره ما كان، تركه ابن الزبير. حتى قدم الناس الموسم. يريد أن يجرئهم أو يحربهم على أهل الشام. فلما صدر الناس قال: يا أيها الناس! أشيروا علي في الكعبة. أنقضها ثم أبني بناءها.
أو أصلح ما وهي منها؟ قال ابن عباس: فإني قد فرق لي رأي فيها. أرى أن تصلح ما وهي منها. وتدع بيتا أسلم الناس عليه. وأحجارا أسلم الناس عليها وبعث عليها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقال ابن الزبير: لو كان أحدكم احترق بيته، ما رضي حتى يجده. فكيف بيت ربكم؟ إني مستخير ربي ثلاثا. ثم عازم على أمري. فلما مضى الثلاث أجمع رأيه على أن ينقضها. فتحاماه الناس أن ينزل، بأول الناس يصعد فيه، أمر من السماء. حتى صعده رجل فألقى منه حجارة.(1/237)
فلما لم يره الناس أصابه شيء تتابعوه. فنقضوه حتى بلغوا به الأرض. فجعل ابن الزبير أعمدة. فستر عليها الستور. حتى ارتفع بناؤه. وقال ابن الزبير: إني سمعت عائشة تقول: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لولا أن الناس حديث عهدهم بكفر، وليس عندي من النفقة ما يقوي على بنائه، لكنت أدخلت فيه من الحجر خمس أذرع، ولجعلت لها بابا يدخل الناس منه، وبابا يخرجون منه قال: فأنا اليوم أجد ما أنفق. ولست أخاف الناس. قال: فزاد فيه خمس أذرع من الحجر.
حتى أبدى أساً نظر الناس إليه. فبنى عليه البناء. وكان طول الكعبة ثماني عشرة ذراعا. فلما زاد فيه استقصره. فزاد في طوله عشر أذرع. وجعل له بابين: أحدهما يدخل منه، والآخر يخرج منه. فلما قتل ابن الزبير. الحجاج إلى عبد الملك بن مروان يضره بذلك. ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أس نظر إليه العدول من أهل مكة. فكتب إليه عبد الملك: إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء. أما ما زاد في طوله فأقره. وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه.
وسد الباب الذي فتحه. فنقضه وأعاده إلى بنائه.
(الصحيح رقم 402- الحج، ب نقض الكعبة بنائها) .
قوله تعالى (ربنا واجعلنا مسلمين لك)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا عصام بن رواد ثنا آدم عن ورقاء عن ابن أبي نجيح قال: سمعت عكرمة مولى ابن عباس يقول: قال إبراهيم: تجعلنا مسلمين لك؟ قال الله: نعم.
وإسناده حسن. وكأنه يعني أن الله تعالى استجاب له. وكذا الأثر الذي يليه.
قوله تعالى (ومن ذريتا أمة مسلمة لك)
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده المتقدم آنفا عن عكرمة قال: قال إبراهيم (ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) فقال الله: نعم.
وهو كما قال فقد استجاب الله تعالى فقال (ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب) العنكبوت: 27.(1/238)
رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
وقوله تعالى (وأرنا مناسكنا)
أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن بن محمد بن الصباح ثنا حجاج عن ابن جريج عن عطاء (وأرنا مناسكنا) أخرجها لنا، علمناها.
ورجاله ثقات، إلا الحسن صدوق الإسناد حسن. وحجاج هو ابن محمد. وعطاء هو ابن أبي رباح.
وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة بلفظ: أرنا منسكنا وحجنا.
وأخرج الثوري عن ابن جريج عن عطاء بلفظ: مذابحنا.
وإسنادهما صحيح. وأخرجه الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد بلفظه.
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: قوله (وأرنا مناسكنا) فأراهما مناسكهما: الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والإفاضة من عرفات، والإفاضة من جمع، ورمي الجمار، حتى أكمل الله الدين - أو: دينه.
وقال أيضاً: حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال ابن المسيب، قال علي بن أبي طالب: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قال: فعلت أي رب، فأرنا مناسكنا -أبرزها لنا، علمناها- فبعث الله جبريل، فحج به.
وإسناده صحيح.
قال أبو داود الطيالسي: حدثنا حماد بن سلمة عن أبي عاصم الغنوي عن أبي الطفيل (قلت لابن عباس) يزعم قومك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف على بعير بالبيت وأن ذلك سنة، قال صدقوا وكذبوا، قلت ما صدقوا وكذبوا؟ قال: صدقوا طاف على بعير وليس بسنة، إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لايصرف الناس عنه ولايدفع فطاف على بعير كي يسمع كلامه ولاتناله أيديهم (قلت) يزعمون أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد رمل بالبيت وأن ذلك سنة، قال: صدقوا وكذبوا (قلت) ماصدقوا وكذبوا؟ قال: صدقوا قد رمل وكذبوا ليست بسنة، إن قريشاً قالت دعوا محمداً وأصحابه حتى يموتوا موت النغف فلما صالحوا رسول(1/239)
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أن يجيء في العام المقبل فيقيم بمكة ثلاثة أيام فقدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه والمشركون من قبل قعيقعان قال لأصحابه ارملوا وليس بسنة (قلت) يزعم قومك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد سعى بين الصفا والمروة وأن ذلك سنة، قال: صدقوا إن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - لما رأى المناسك عرض له شيطان عند المسعى فسابقه فسبقه إبراهيم، ثم انطلق به جبريل عليه السلام حتى أتى به منى فقال مناخ الناس هذا، ثم انتهى إلى جمرة العقبة فعرض له شيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم انتهى به إلى الجمرة الوسطى فعرض له شيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم انتهى إلى الجمرة القصوى فعرض له شيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم أتى به جمعا فقال هذا المشعر الحرام، ثم أتى به عرفة فقال هذه عرفة، قال ابن عباس: أتدري لم سميت عرفة؟ قال لا، قال لأن جبريل قال له عرفت، قال ابن عباس: أتدري كيف كانت التلبية؟ قال: إن إبراهيم لما أمر أن يؤذن في الناس بالحج أمرت الجبال فخفضت رؤسها ورفعت له القرى فأذن في الناس بالحج.
(منحة المعبود 1/207 رقم 992) ، وأخرجه أحمد (المسند رقم 707) من طريق حماد بن سلمة به.
وصححه محققه أحمد شاكر، وأخرجه ابن أبي حاتم عن أبي داود له. وذكره الهيثمي ثم قال: رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله ثقات (مجمع الزوائد 3/359) . وقال في موضع آخر رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير أبي عاصم وهو ثقة (مجمع الزوائد 8/200, 201) . وهو كما قال فقد وثقه يحيى بن معين (انظر تهذيب التهذيب 12/143) . وذكره ابن كثير مختصرا وسكت عنه (التفسير 1/320) .
ولمعظم هذا الحديث شواهد في (صحيح مسلم) سردها محققو مسند أحمد (4/437 ح 2707 ط الموسوعة الحديثية بإشراف معالي أ. ك. عبد الله التركي.
قوله تعالى (وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا عصام بن رواد، ثنا آدم، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح قال: سمعت عكرمة مولى ابن عباس يقول: قال الله لإبراهيم إني مبتليك بأمر فما هو؟ قال إبراهيم: تجعلني للناس إماما. قال الله: نعم. قال إبراهيم: وتتوب علينا؟ قال الله: نعم.
وإسناده حسن.(1/240)
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
قوله تعالى (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم)
قال الشيخ الشنقيطي عند هذه الآية والتي قبلها: لم يبين هنا من هذه الأمة التي أجاب الله بها دعاء نبيه إبراهيم وإسماعيل. ولم يبين هنا أيضاً: هذا الرسول المسئول بعثه فيهم من هو؟ ولكنه يبين في سورة الجمعة أن تلك الأمة العرب، والرسول هو سيد الرسل محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذلك في قوله (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفى ضلال مبين وآخرين منهم لما يلحقوا بهم) لأن الأميين العرب بالإجماع والرسول المذكور نبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إجماعا. ولم يبعث رسول من ذرية إبراهيم وإسماعيل إلا نبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحده.
وقال ابن كثير عند هذه الآية: والمراد بذلك محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد بعث فيهم كما قال تعالى (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم) ومع هذا لا ينفي رسالته إلى الأحمر والأسود لقوله تعالى (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) .
قال الحاكم: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا أحمد بن عبد الجبار ثنا يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال: حدثني ثور ابن يزيد عن خالد بن معدان عن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنهم قالوا يا رسول الله أخبرنا عن نفسك فقال دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاءت له بصرى وبصرى من أرض الشام.
قال الحاكم خالد بن معدان من خيار التابعين صحب معاذ بن جبل فمن بعده من الصحابة فإذا أسند حديث إلى الصحابة فإنه صحيح الإسناد وإن لم يخرجاه ووافقه الذهبي (المستدرك 2/600) ، وذكره ابن كثير من طريق محمد بن إسحاق به وقال: وهذا إسناد جيد قوي (البداية والنهاية 2/275) . وفي التفسير قال: وهذا إسناد جيد وروي له شواهد من وجوه أخر (4/360 ط المعرفة) . ساق الشواهد وهي أحاديث يقوي بعضها بعضاً. وصححه الألباني (السلسلة الصحيحة ح 1545) .
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية قوله (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم) يعني: أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقيل قد استجيب لك وهو كائن في آخر الزمان.(1/241)
قوله تعالى (يتلو عليهم آياتك)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن سعيد عن قتادة قوله (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك) قال: ففعل الله ذلك، فبعث فيهم رسولاً من أنفسهم يعرفون وجهه ونسبه يخرجهم من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى صراط العزيز الحميد.
قوله تعالى (والحكمة)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة والحكمة أي: السنة.
قوله تعالى (إنك أنت العزيز الحكيم)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية (العزيز) يقول عزيز في نقمته إذا انتقم، (الحكيم) قال: حكيم في أمره.
قوله تعالى (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية (ومن يرغب عن ملة إبراهيم) قال: رغبت اليهود والنصارى عن ملة إبراهيم وابتدعوا اليهودية والنصرانية وليست من الله وتركوا دين إبراهيم.
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة بنحوه.
قال الشيخ الشنقيطي عند هذه الآية: لم يبين هنا ما ملة إبراهيم وبينها بقوله (قل إنني هدانى ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) فصرح في هذه الآية بأنها دين الإسلام الذي بعث الله به نبيه محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وكذا في قوله (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم) الآية.
قوله تعالى (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب) يقول: ووصى بها يعقوب بنيه بعد إبراهيم.(1/242)
وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
قال الشيخ الشنقيطي عند هذه الآية: أشار إلى أنه دين الإسلام هنا بقوله (فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) وصرح بذلك في قوله (إن الدين عند الله الإسلام) وقوله (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) .
قوله تعالى (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية قوله (أم كنتم شهداء) يعني: أهل الكتاب.
قوله تعالى (قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق)
أخرج البخاري تعليقاً عن أبي بكر وابن عباس وابن الزبير: أن الجد أب.
(الصحيح 5/214- الفرائض، ب ميراث الجد مع الأب والأخوة) . قال ابن حجر في (تغليق التعليق) : أما قول أبي بكر أن الجد أب فأسنده المؤلف -أي البخاري- في فضل أبي بكر وكذا قول ابن الزبير (وانظر فتح الباري 7/17 رقم 3658) وأما قول ابن عباس فقد ذكر من أخرجه كالبيهقي وسعيد بن منصور (تغليق التعليق 5/215) ، وسنن سعيد بن منصور رقم (40-52) ، والسنن الكبرى (6/246) . وقد ذكر ابن كثير هذه الرواية مستشهدا لمن استدل بهذه الآية في جعل الجد أبا وحجب به الإخوة (التفسير 1/323, 324) .
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية قوله (إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق) فسمى عمه أباه.
قوله تعالى (ونحن له مسلمون)
أخرج الشيخان بسنديهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: "الأنبياء إخوة لعلات" أمهاتهم شتى ودينهم واحد".
(صحيح البخاري رقم 3443- الأنبياء، ب قول الله (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت)) ، (وصحيح مسلم رقم 2365- الفضائل، ب فضائل عيسى) . وذكره ابن كثير مستدلا على أن الإسلام هو ملة الأنبياء قاطبة وإن تنوعت شرائعهم (التفسير 1/324) .
قوله: إخوة لعلات: وفي رواية أولاد علات كما في الصحيحين وقال النووي عندها قال العلماء: أولاد العلات بفتح العين المهملة وتشديد اللام هم الإخوة لأب من أمهات شتى وأما الأخوة من الأبوين فيقال لهم: أولاد الأعيان. قال جمهور العلماء: معنى الحديث: أصل إيمانهم واحد وشرائعهم مختلفه فإنهم متفقون أصول التوحيد وأما في فروع الشرائع فوقع فيها الاختلاف (صحيح مسلم بشرح النووي 15/119، 120) . وقال ابن حجر: العلات الضرائر (الفتح 6/849) .(1/243)
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (مسلمين) يقول: موحدين.
قوله: مسلمين كذا في الأصل وكأنه قد فسره عند لفظ: مسلمين. في موضع آخر ثم به هنا باللفظ نفسه.
قوله تعالى (تلك أمة قد خلت لها ماكسبت ولكم ماكسبتم ولاتسألون عما كانوا يعملون)
أخرج مسلم بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: " ... ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه".
(الصحيح رقم 2699- الذكر، ب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن) .
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية (تلك أمة قد خلت لها ماكسبت ولكم ماكسبتم) يعني: إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي ثنا محمد بن وهب بن عطية الدمشقي ثنا الوليد بن مسلم ثنا القاسم بن هزان الخولاني ثنا الزهري ثنا سعيد بن مرجانة قال: قال ابن عباس قوله عز وجل (ماكسبت) من العمل.
ورجاله ثقات إلا القاسم قال عنه أبو حاتم: شيخ محله الصدق. والمتن له شاهد من اللغة فالإسناد حسن أما الوليد بن مسلم هو القرشي الدمشقي ثقة لكنه يدلس (الجرح والتعديل 7/123) ، (انظر تهذيب التهذيب 11/151-155) وقد صرح، لسماع فلا ضير.
قال الطبري وأصل الكسب العمل. وانظر الآية (141) من هذه السورة.
قوله تعالى (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا ... ) الآية
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس قال: قال عبد الله بن صوريا الأعور لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مالهدى إلا ما نحن عليه فاتبعنا يا محمد تهتد. وقالت النصارى مثل ذلك، فأنزل الله عز وجل (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفاً) (انظر تفسير ابن كثير 1/324) ، وإسناده حسن.(1/244)
وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)
قوله تعالى (قل بل ملة إبراهيم حنيفا)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (حنيفا) يقول: حاجا.
وقال الطبري: حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا القاسم بن الفضل، عن كثير أبي سهل، قال: سألت الحسن عن (الحنيفية) قال: حج البيت.
ورجاله ثقات وإسناده صحيح.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي ثنا قبيصة وعيسى بن جعفر قالا ثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد (حنيفا) قال متبعا.
وإسناده صحيح. وتفسير الآية يستوعب القولين السابقين.
قوله تعالى (قولوا آمنا بالله وما أُنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ... )
أخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان أهل الكتاب يقرؤن التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاتصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا (آمنا بالله وما أنزل إلينا ... ) الآية.
(الصحيح رقم 4485- التفسير- سورة البقرة، ب (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا)) .
ومن فضل هذه الآية ما أخرجه مسلم بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في ركعتي الفجر: في الأولى منهما: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا) البقرة. الآية 136. الآية التي في البقرة. وفي الآخرة منهما: (آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون) .
(الصحيح رقم 727- صلاة المسافرين، ب استحباب ركعتي سنة الفجر) .
وأخرج الطبري بسنده عن قتادة قال: أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا ويصدقوا بأنبيائه ورسله كلهم ولايفرقوا بين أحد منهم.(1/245)
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)
قوله تعالى (والأسباط)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية قال (الأسباط) هم: يوسف وإخوته بنو يعقوب اثنا عشر رجلا ولد كل رجل منهم أمة فسموا الأسباط.
وأخرجه الطبري بسنده الحسن عن قتادة بنحوه.
قال الشيخ الشنقيطي: عند قوله تعالى (وما أنزل إلى إبراهيم) : لم ييين هنا هذا الذي أنزل إلى إبراهيم، ولكنه بيّن في سورة الأعلى أنه صحف وأن من جملة ما في تلك الصحف (بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى) وذلك في قوله (إن هذا لفى الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى) .
قوله تعالى (وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون)
قال الشيخ الشنقيطي عند هذه الآية: لم يبين هنا ما أوتيه موسى وعيسى، ولكنه بينه في مواضع أخر. فذكر أن ما أوتيه موسى هو التوراة المعبر عنها بالصحف في قوله (صحف إبراهيم وموسى) وذلك كقوله (ثم آتينا موسى الكتاب) وهو التوراة بالإجماع. وذكر أن ما أوتيه عيسى هو الإنجيل كما في قوله (وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل) .
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن شيبان عن قتادة قال: أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا به ويصدقوا بكتبه كلها وبرسله.
قوله تعالى (لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون)
وأخرج بسنده الصحيح عن سعيد عن قتادة قوله (لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) قال: أمر الله المؤمنين أن لا يفرقوا بين أحد منهم.
قوله تعالى (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا) ونحو هذا، قال: أخبر الله سبحانه أن الإيمان هو العروة الوثقى، وأنه لايقبل عملا إلا به، ولا تحرم الجنة إلا على من تركه.(1/246)
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)
قوله تعالى (فإنما هم في شقاق)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية (في شقاق) يعني في فراق.
وأخرجه الطبري بسنده الحسن عن قتادة.
قوله تعالى (فسيكفيكهم الله)
وقد أنجز الله وعده وهزم الأحزاب وحده فكفى نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومكنه من أعدائه فقتل قريظة وسباهم وأجلى بني النضير.
(انظر صحيح البخاري -المغازي- ب مرجع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة ومحاصرته إياهم وباب حديث بني النضير ومخرجه إليهم) .
قوله تعالى (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة)
أخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله (صبغة الله) قال: دين الله.
(التفسير ص 48) ، وإسناده صحيح.
وقال الطبري: حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله (صبغة الله) قال: دين الله، (ومن أحسن من الله صبغة) ومن أحسن من الله دينا.
وإسناده جيد.
وأخرج الطبري بإسناده الصحيح عن مجاهد في قول الله (صبغة الله) قال: فطرة الله التي فطر الناس عليها.
قوله تعالى (قل أتحاجوننا في الله)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (قل أتحاجوننا في الله) أتجادلوننا؟.
قوله تعالى (أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيلِ وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى) أولئك أهل الكتاب كتموا الإسلام وهم يعلمون أنه دين الله، واتخذوا اليهودية والنصرانية، وكتموا محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهم يعلمون أنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل.
انظر الآية رقم (136) من السورة نفسها.(1/247)
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141) سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)
قوله تعالى (ومن اظلم ممن كتم شهادة عنده من الله)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية قال (ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله) قال: هم اليهود والنصارى كتموا الإسلام، وهم يعلمون أنه دين الله، وكتموا محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهم يعلمون أنه رسول الله، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل أنه ليس يهوديا.
وأخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله) قال: في قول يهود لإبراهيم وإسماعيل ومن ذكر معهما، إنهم كانوا يهود أو نصارى. فيقول الله: لاتكتموا مني شهادة إن كانت عندكم فيهم. وقد علم أنهم كاذبون.
وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: الشهادة: النبي مكتوبا عندهم هو الذين كتموا.
قوله تعالى (تلك أمة قد خلت لها ماكسبت ولكم ماكسبتم ... ) الآية
تقدمت هذه الآية برقم (134) فلينظر تفسيرها هناك.
وأخرج ابن أبي حاتم عند هذه الآية بسنده الحسن عن ابن إسحاق بسنده عن ابن عباس قال: قال عبد الله بن صوريا الأعور لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما الهدى إلا ما نحن عليه فاتبعنا يا محمد تهتدي. وقالت النصارى مثل ذلك. فأنزل الله (تلك أمة قد خلت لها ماكسبت ولكم ماكسبتم ولاتسألون عما كانوا يعملون) .
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله تعالى (تلك أمة قد خلت) يعني: إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط.
قوله تعالى (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب ... ) الآية
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: اليهود.(1/248)
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)
وأخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله عز وجل (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم) قال: اليهود تقوله، حين ترك بيت المقدس.
ورجاله ثقات وإسناده صحيح تقدم، وصححه أيضاً الحافظ ابن حجر (فتح الباري 8/171) .
وأخرج الطبري وابن أبي حاتم والبيهقي بالإسناد الحسن عن ابن إسحاق عن ابن عباس قال: لما صرفت القبلة عن الشام إلى الكعبة، وصرفت في رجب، على رأس سبعة عشر شهرا من مقدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة - أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفاعة بن قيس، وقردم بن عمرو، وكعب بن الأشرف، ونافع بن أبي نافع -هكذا قال ابن حميد، وقال أبو كريب: ورافع بن أبي رافع- والحجاج بن عمرو -حليف كعب بن الأشرف- والربيع بن الربيع بن (أبي) الحقيق، وكنانة بن أبي الحقيق، فقالوا: يا محمد، ماولاك عن قبلتك التي كنت عليها، وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه؟ ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك! وإنما يريدون فتنته عن دينه. فأنزل الله فيهم (سيقول السفهاء من الناس ماولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) إلى قوله (إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) .
(واللفظ للطبري تفسير الطبري رقم 2149 وتفسير سورة البقرة - الجزء الثاني رقم (8) لابن أبي حاتم ودلائل النبوة 2/575) . قال الحافظ ابن حجر: وكان التحويل في نصف شهر رجب من السنة الثانية على الصحيح وبه جزم الجمهور، ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس (فتح الباري 1/97) .
وسيأتي حديث متفق عليه له علاقة بالآية عند قوله تعالى (وما كان الله ليضيع إيمانكم)
قوله تعالى (يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية في قول الله (يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) يقول: يهديهم إلى المخرج من الشبهات والضلالات والفتنة.
وقد تقدم في سورة الفاتحة أن الصراط المستقيم: الإسلام كما ثبت في القرآن وعن النبي.(1/249)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)
قوله تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)
أخرج البخاري بسنده عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعى نوح يوم القيامة فيقول لبيك وسعديك يا رب، فيقول هل بلغت؟ فيقول نعم، فيقال لأمته هل بلغكم، فيقولون ما أتانا من نذير، فيقول من يشهد لك؟ فيقول محمد وأمته فيشهدون أنه قد بلغ، ويكون الرسول عليكم شهيدا، فذلك قوله جل ذكره (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) والوسط العدل.
(الصحيح رقم 4487- تفسير سورة البقرة، ب (وكذلك جعلناكم أمة وسطا)) .
وقال عبد الرزاق الصنعاني: نا معمر عن قتادة قال في قوله (أمة وسطا) قال: عدولا لتكون هذه الأمة شهداء على الناس أن الرسل قد بلغتهم، ويكون الرسول على هذه الأمة شهيدا، أن قد بلغ ما أرسل به.
وإسناده صحيح. وأخرج البخاري بسنده عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: " ... والوسط: العدل"
(الصحيح ح 4487) .
أخرج البخاري بإسناده عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: مروا بجنازة فأثنوا عليها خيراً، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجبت. ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا، فقال وجبت. فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: ما وجبت؟ قال: هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار. أنتم شهداء الله في الأرض.
(الصحيح رقم 1367- الجنائز، ب ثناء الناس على الميت) .
وأخرج بإسناده أيضاً عن أبي الأسود قال: قدمت المدينة -وقد وقع بها مرض- فجلست إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فمرت بهم جنازة فأثني على صاحبها خيراً، فقال عمر - رضي الله عنه -: وجبت. ثم مر بأخرى فأثني على صاحبها خيراً، فقال عمر - رضي الله عنه -: وجبت. ثم مر بالثالثة فأثني على صاحبها شرا، فقال(1/250)
وجبت. فقال أبو الأسود: فقلت وما وجبت يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة. فقلنا: وثلاثة؟ قال: وثلاثة. فقلنا: واثنان؟ قال: واثنان. ثم لم نسأله عن الواحد.
(الصحيح رقم 1368- الجنائز- ب ثناء الناس على الميت) .
وقال ابن أبي حاتم حدثنا عصام بن رواد، ثنا آدم، ثنا أبو جعفر عن الربيع، عن أبي العالية (لتكونوا شهداء على الناس) يقول: لتكونوا شهداء على الأمم التي خلت قبلكم، بما جاءتهم به رسلهم وبما كذبوهم.
(تفسير سورة البقرة- الجزء الثاني- رقم 20، 28) .
وبه عن أبي العالية عن أبي بن كعب (لتكونوا شهداء على الناس) فكانوا شهداء على الناس يوم القيامة، كانوا شهداء على قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم شعبي، وآل فرعون، أن رسلهم قد بلغتهم وأنهم كذبوا وهي في قراءة أبي بن كعب (وتكونوا شهداء على الناس يوم القيامة) .
وإسنادهما جيد. (تفسير سورة البقرة- الجزء الثاني- رقم 20، 28) .
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ويكون الرسول عليكم شهيدا)
لم يبين هنا هل هو شهيد عليهم في الدنيا والآخرة؟ ولكنه بين في موضع آخر: أنه شهيد عليهم في الآخرة وذلك في قوله (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا. يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا) .
(أضواء البيان 1/49) .
قوله تعالى (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم) الآية. ظاهر هذه الآية قد يتوهم منه الجاهل أنه تعالى يستفيد بالاختبار علما لم يكن يعلمه، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا بل هو تعالى(1/251)
عالم بكل ما سيكون قبل أن يكون. وقد بين أنه لايستفيد بالاختبار علما لم يكن يعلمه بقوله جل وعلا (وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور) فقوله (والله عليم بذات الصدور) بعد قوله (ليبتلي) دليل قاطع على أنه لم يستفد بالاختبار شيئا لم يكن عالما به، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، لأن العليم بذات الصدر وغني عن الاختبار وفي هذه الآية بيان عظيم لجميع الآيات التي يذكر الله فيها اختباره لخلقه.
ومعنى (إلا لنعلم) أي علما يترتب عليه الثواب والعقاب فلا ينافي أنه كان عالما به قبل ذلك، وفائدة الاختبار ظهور الأمر للناس. أما عالم السر والنجوى فهو عالم بكل ما سيكون كما لايخفى.
أخرج البخاري ومسلم بسنديهما عن ابن عمر رضي الله عنهما بينا الناس يصلون الصبح في مسجد قباء إذ جاء جاء فقال أنزل الله على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرآنا أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، فتوجهوا إلى الكعبة.
واللفظ للبخاري. (الصحيح رقم 4488- تفسير سورة البقرة، ب (وماجعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ... ) . ومسلم (الصحيح رقم 526- المساجد، ب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) قال: لنميز أهل اليقين من أهل الشرك والريبة.
وأخرج ابن أبي حاتم بإسناده الحسن عن ابن إسحاق ... عن ابن عباس: أي ابتلاء واختبارا.
ثم قال وروي عن الحسن وعطاء وقتادة نحو ذلك.
قوله تعالى (وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: قال الله عز وجل (وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله) يعني: تحويلها على أهل الشك والريب.
واللفظ لابن أبي حاتم(1/252)
وأخرج الطبري: بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله عز وجل (وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله) قال: ما أمروا به من التحول إلى الكعبة من بيت المقدس.
وقال عبد الرزاق: نا معمر عن قتادة في قوله تعالى (لكبيرة إلا على الذين هدى الله) قال: كبيرة حين حولت القبلة إلى المسجد الحرام فكانت كبيرة إلا على الذين هدى الله.
وإسناده صحيح
وأخرجه الطبري بإسناده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله) يقول: إلا على الخاشعين يعني: المصدقين بما أنزل الله تبارك وتعالى.
وأخرج ابن أبي حاتم بإسناده الحسن عن محمد بن إسحاق ... عن ابن عباس (وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله) ، أي الذين ثبت الله.
قوله تعالى (وما كان الله ليضيع إيمانكم ... ) الآية
أخرج البخاري ومسلم بسنديهما عن البراء رضى الله عنه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت وأنه صلى أو صلاها صلاة العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون، قال أشهد بالله لقد صليت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله (وماكان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم) .
واللفظ للبخاري (الصحيح 8/141 رقم 4486- تفسير سورة البقرة، ب (سيقول السفهاء من الناس…)) ، ومسلم (الصحيح رقم 525- المساجد، ب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة) .(1/253)
والمراد بالإيمان هنا الصلاة وقد أخرج الطبري عن إسماعيل بن موسى قال أخبرنا شريك، عن أبي إسحاق، عن البراء في قول الله عز وجل (وما كان الله ليضيع إيمانكم) قال: صلاتكم نحو بيت المقدس.
وأخرجه من طريق أبي أحمد الزبيري عن شريك به نحوه. وفي إسناده شريك وهو ابن عبد الله النخعي: صدوق يخطئ كثيراً وتغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة ت 177هـ. وأخرجه أحمد (انظر مسائل الخلال ل 112ب) . وابن أبي حاتم من طريق شريك به. ورواية ابن أبي حاتم مقرونا مع حديج إلا أن حديج وهو ابن معاوية صدوق يخطئ وبما أن الحديث المتفق عليه السابق شاهد لحديث البراء، فالإسناد حسن.
وأخرج ابن أبي حاتم بإسناده الحسن عن ابن إسحاق ... عن ابن عباس (وما كان الله ليضيع إيمانكم بالقبلة الأولى وتصديقكم نبيكم واتباعه إلى القبلة الأخرى أي: ليعطينكم أجرهما جميعا.
قوله تعالى (إن الله بالناس لرؤوف رحيم)
تقدم الكلام عن بيان الرحيم في سورة الفاتحة.
قوله تعالى (قد نرى تقلب وجهك في السماء ... ) الآية
أخرج البخاري بسنده عن أنس - رضي الله عنه - قال: لم يبق ممن صلى القبلتين غيري.
(الصحيح 8/173 رقم 4489- تفسير سورة البقرة، ب (قد نرى تقلب وجهك في السماء ... ) .
وأخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: لما هاجر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة، وكان (أكثر) أهلها اليهود، أمره الله أن يستقبل بيت المقدس. ففرحت اليهود. فاستقبلها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بضعة عشر شهرا، فكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحب قبلة إبراهيم عليه السلام، وكان يدعو وينظر إلى السماء فأنزل الله عز وجل (قد نرى تقلب وجهك في السماء) سورة البقرة الآية: 144- فارتاب من ذلك اليهود وقالوا: (ماولاهم عن
قبلتهم التي كانوا عليها) . فأنزل الله عز وجل (قل لله المشرق والمغرب) .
واللفظ للطبري. وأخرجه النحاس من طريق بكر بن سهل (الناسخ والمنسوخ 1/58-59) ، والبيهقي (السنن الكبرى 2/12-13) من طريق عثمان بن سعيد الدارمي كلاهما عن عبد الله بن صالح به.(1/254)
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
أخرج الشيخان بسنديهما عن ابن عمر، قال: بينما الناس في صلاة الصبح بقباء إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أنزل عليه الليلة. وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها. وكانت وجوههم إلى الشام. فاستداروا إلى الكعبة.
(صحيح البخاري رقم 4488- التفسير, ب (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول)) ، (وصحيح مسلم رقم 526- المساجد، ب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة) .
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية (قد نرى تقلب وجهك في السماء) يقول: قد نرى نظرك إلى السماء.
قوله تعالى (لنولينك قبلة ترضاها)
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية (فلنولينك قبلة ترضاها) وذلك أن الكعبة كانت أحب القبلتين إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان يقلب وجهه في السماء، وكان يهوي الكعبة، فولاه الله قبلة كان يهواها ويرضاها.
وأخرجه الطبري بسند حسن عن قتادة وابن عباس بنحوه.
وقال الشيخ الشنقيطي قوله تعالى (فلنولينك قبلة ترضاها) بينه قوله بعده (فول وجهك شطر المسجد الحرام) .
قوله تعالى (فول وجهك شطر المسجد الحرام)
قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج، ثنا أبو سفيان يعني المعمري، عن معمر، عن قتادة، قوله (فول وجهك شطر المسجد الحرام) قال: توجه.
(ورجاله ثقات وإسناده صحيح، وأبو سفيان العمري هو: محمد بن حميد معروف بالرواية عن معمر بن راشد وبرواية أبي سعيد عبد الله بن سعيد الأشج عنه (انظر تهذيب الكمال ل 1191) .
أخرج الطبري بسنده الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (شطر المسجد الحرام) نحوه. وكذا أخرجه بسنده الصحيح عن مجاهد. وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة (التفسير ص 50) . وإسناده صحيح.
وقال الطبري: حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا ابن جريج قال، قلت لعطاء: سمعت ابن عباس يقول: إنما أمرتم بالطواف ولم(1/255)
تؤمروا بدخوله. قال: قال: لم يكن ينهى عن دخوله، ولكني سمعته يقول: أخبرني، أسامة بن زيد أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها، ولم يصل حتى خرج، فلما خرج ركع في قبل القبلة ركعتين، وقال: هذه القبلة.
(ورجاله ثقات إلا يحيى بن سعيد بن أبان الأموي صدوق فالإسناد حسن. وعطاء هو ابن أبي رباح كما قرر الحافظ ابن حجر في مقدمة (العجاب في بيان الأسباب) .
وقال الطبري: حدثنا، أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عميرة بن زياد الكندي، عن علي (فول وجهك شطر المسجد الحرام) قال: شطره: قبله.
أخرجه ابن أبي حاتم من طريق الفضل بن دكين عن إسرائيل به، ثم قال وروي عن البراء بن عازب وابن عباس ومجاهد وقتادة نحو ذلك. وأخرجه الحاكم (المستدرك 2/269) ، والبيهقي (السنن الكبرى 2/3) ، من طريق سفيان الثورى عن أبي إسحاق السبيعي به. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وذكره ابن كثير وقال: هذا قول أبي العالية ومجاهد وعكرمة وسعيد ابن جبير وقتادة والربيع بن أنس وغيرهم (التفسير 1/335) ، وانظر تفسير ابن أبي حاتم (2 رقم 61-65) .
قوله تعالى (وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن معمر عن قتادة (وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) أي: تلقاءه.
قوله تعالى (وإن الذين أُوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم)
انظر الآية (146) بعد التالية.
قوله تعالى (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم تابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين)
هذه الآية مبينة ومؤكدة لقوله تعالى (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى)
الآية (120) من هذه السورة.
قوله تعالى (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) يقول: يعرفون أن البيت الحرام هو القبلة.(1/256)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
انطر تفسير آية (75) من السورة نفسها وهو حديث البخاري عن ابن عمر رجم اليهود اللذين زنيا.
قوله تعالى (وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون)
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد (وإن فريقا منهم) قال: من أهل الكتاب.
وأخرج بسنده الحسن عن قتادة قوله (وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون) فكتموا محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قوله تعالى (ولكل وجهة هو موليها)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية (ولكل وجهة هو موليها) قال: لليهودي وجهة هو موليها، وللنصراني وجهة هو موليها، وهداكم الله أنتم أيتها الأمة للقبلة التي هي القبلة.
وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى (ولكل وجهة هو موليها) قال: هي صلاتهم إلى بيت المقدس، وصلاتهم إلى الكعبة.
وأخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله عز وجل (ولكل وجهة) قال: لكل صاحب ملة. (وجهة) قبلة (هو موليها) قال: هو مستقبلها.
قوله تعالى (فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية قوله (فاستبقوا الخيرات) يقول: سارعوا في الخيرات. (يأت بكم الله جميعا) يعني: يوم القيامة.
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (فاستبقوا الخيرات) يقول: لا تغلبن على قبلتكم.
قوله تعالى (ومن حيث خرجت فول وجوهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم)
انظر الآية السابقة.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية (لئلا يكون للناس عليكم
حجة يعني به أهل الكتاب حين قالوا صرف محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الكعبة، وقالوا اشتاق(1/257)
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه، وكان حجتهم على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند انصرافه إلى البيت الحرام، أن قالوا سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا.
وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة وابن أبي نجيح عن مجاهد قوله تعالى (لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم) قال: هم مشركوا العرب.
قالوا -حين صرفت القبلة إلى الكعبة-: قد رجع إلى قبلتكم فيوشك أن يرجع إلى دينكم. قال الله تعالى (فلا تخشوا الناس واخشوني) .
ورجاله ثقات وإسناده صحيح.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده عن أبي العالية قوله (إلا الذين ظلموا منهم) يعني: مشركي قريش، يقول أنهم سيحتجون عليكم بذاك.
وأخرجه الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (إلا الذين ظلموا منهم) قوم محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال مجاهد: حجتهم، قولهم: قد راجعت قبلتنا.
قوله تعالى (ولأتم عليكم نعمتي ولعلكم تهتدون)
لقد أنجز الله وعده وأتم شرائع الدين كما قال تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) المائدة: 3.
قوله تعالى (كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم)
وأخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله عز وجل (كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم) كما فعلت بكم فاذكروني.
وقال ابن أبي حاتم: حدثني أبي، ثنا محمد بن خلف العسقلاني، ثنا آدم، ثنا أبو جعفر حدثني الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله (كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يعني: محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ا. هـ. وإسناده جيد، تقدم نحوه في المقدمة.
قوله تعالى (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون)
أخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يقول الله تعالى:
أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأٍ خير منهم، وإن تَقرب إلي شِبراً تقربتُ إليه ذراعاً؛ وإن تقرب إليَّ ذِراعاً تقْربتُ إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هَرْوَلة".
(الصحيح- التوحيد، ب قوله تعالى (ويحذركم الله نفسه) ح 7405، وأخرجه مسلم في (صحيحه 4/2061 ح 2675- الذكر، ب الحث على ذكر الله تعالى) .(1/258)
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)
وأخرج مسلم بسنده عن أبي سعيد الخدرى وأبي هريرة أنهما شهدا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده".
(الصحيح رقم 2700- الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار) .
وقال الإمام أحمد: ثنا روح ثنا شعبة عن الفضيل بن فضالة رجل من قيس ثنا أبو رجاء العطاردي قال خرج علينا عمران بن حصين وعليه مطرف من خز لم نره عليه قبل ذلك ولا بعده فقال إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من أنعم الله عز وجل عليه بنعمة فإن الله عز وجل يحب أن يرى أثر نعمته على خلقه". وقال روح ببغداد: يحب أن يرى أثر نعمته على عبده.
(المسند 4/438) . ورجاله ثقات وإسناده صحيح وأبو رجاء العطاردي هو عمران بن ملحان.
وذكره ابن كثير عند قوله تعالى (واشكروا لي ولا تكفرون) (التفسير 1/341) .
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية قال: إن الله يذكر من ذكره ويزيد من شكره، ويعذب من كفره يعني قوله (فاذكروني أذكركم) .
وقال ابن أبي شيبة: حدثنا عفان قال حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت قال: قال أبو عثمان النهدي: إني لأعلم حين يذكرني ربي، قالوا: وكيف ذاك؟
قال: إن الله يقول (فاذكروني أذكركم) فإذا ذكرت الله ذكرني.
(المصنف 13/547) . ورجاله ثقات وإسناده صحيح، وثابت هو ابن أسلم البناني معروف بالرواية عن أبي عثمان النهدي وبرواية حماد بن سلمة عنه. (انظر تهذيب الكمال 4/344) . وأبو عثمان النهدى هو عبد الرحمن بن مل من كبار التابعين.
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة)
وانظر الروايات الواردة تحت قوله تعالى (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) الآية (45) من هذه السورة.
وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أمه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وكانت من المهاجرات الأول، في قوله (واستعينوا بالصبر والصلاة) قال: غشي على عبد الرحمن بن عوف(1/259)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)
غشية ظنوا أن نفسه فيها فخرجت امرأته أم كلثوم أبي المسجد تستعين بما أمرت أن تستعين من الصبر والصلاة، قال: فلما أفاق قال: أغشى علي؟ قالوا: نعم، قال: صدقتم إنه أتاني ملكان في غشيتي هذه، فقالا: انطلق نحاكمك إلى العزيز الأمين، قال: فانطلقا بي، فلقيهما ملك آخر، فقال: أين تريدان؟ قالا: نحاكمه إلى العزيز الأمين، قال: فأرجعاه، فإن هذا ممن كتبت لهم السعادة وهم في بطون أمهاتهم، وسيمتع الله به بنيه ما شاء الله قال: فعاش شهرا ثم مات.
ورجاله ثقات وإسناده صحيح وأخرجه الحاكم من طريق عبد الرزاق به بنحوه وصححه ووافقه الذهبي. (المستدرك 2/269) .
وأخرج مسلم بسنده عن صهيب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "عجبا لأمر
المؤمن. إن أمره كله خير. وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن. إن أصابته سراء شكر.
فكان خيراً له. وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له".
(الصحيح رقم 2999- كتاب الزهد والرقائق، بيان المؤمن أمره كله خير) .
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، ثنا عبدة بن سليمان المروزي، أبنا ابن المبارك، أبنا ابن لهيعة، عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير، قال: الصبر: اعتراف العبد لله بما أصاب منه، واحتسابه عند الله رجاء ثوابه وقد يجزع الرجل وهو متجلد لا يرى منه إلا الصبر.
(في إسناده ابن لهيعة وهو عبد الله بن لهيعة صدوق اختلط بعد احتراق كتبه، وعطاء بن دينار لم يسمع من سعيد بن جبير. أما بالنسبة لابن لهيعة فقد روى عنه ابن المبارك وهو أحد العبادلة، ورواية العبادلة عنه صحيحة قبل الإحتراق، وأما بالنسبة لعطاء بن دينار فإنه يروي تفسير سعيد بن جبير وجادة لأنه وجد هذا التفسير في ديوان الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، وهو الذي أمر سعيد بن جبير أن يفسر القرآن (الجرح والتعديل 6/332) . والوجادة احتج بها المحدثون. وباقي رجاله ثقات إلا عبدة صدوق فالإسناد حسن والله أعلم(1/260)
وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)
قوله تعالى (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون)
قال ابن كثير: يخبر تعالى أن الشهداء في برزخهم أحياء يرزقون كما جاء في صحيح مسلم أن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تهوي إلى قناديل معلقة تحت العرش فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال: ماذا تبغون؟ فقالوا: يا ربنا وأي شيء نبغي وقد أعطيتنا ما لم تعطي أحد من خلقك؟ ثم عاد إليهم بمثل هذا فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يسألوا، قالوا: نريد أن تردنا إلي الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل فيك مرة أخرى -لما يرون من ثواب الشهادة- فيقول الرب جل جلاله: إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون.
(التفسير 1/342) ، وانظر (صحيح مسلم- ك الأمارة - ب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون رقم 1887) .
قال الطبري حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان وعبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن الحارث بن فضيل، عن محمود بن لبيد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الشهداء على بارق، نهر باب الجنة، في قبة خضراء -وقال عبدة في روضة خضراء- يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشياً.
وذكره ابن كثير عند تفسير قوله تعالى (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء ولكن عند ربهم يرزقون) ثم قال: وهو إسناد جيد. وهو كما قال، وعنعنة ابن إسحاق محمولة على الاتصال لأنه صرح بالسماع فيما أخرجه الحاكم عن طريق يزيد بن هارون عن محمد بن إسحاق حدثني الحارث بن فضيل الأنصاري به، وصححه وسكت عنه الذهبي (المستدرك 2/74) وأخرجه الإمام أحمد عن طريق إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق به (المسند رقم 2390) ، وقال الهيثمي: ورجال أحمد ثقات (مجمع الزوائد 5/298) ، وصححه السيوطي في الجامع الصغير مع فيض القدير (4/180 ح 4956) ، وحسنه الألبانى (صحيح الجامع الصغير 3/235, 236) ، وصححه أحمد شاكر في تحقيقه للمسند(1/261)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)
قوله تعالى (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين)
قال ابن كثير: أخبرنا تعالى أنه يبتلي عباده: أي يختبرهم ويمتحنهم كما قال تعالى (ولنبلوكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم) سورة محمد: 31، فتارة بالسراء وتارة بالضراء من خوف وجوع كما قال تعالى (فأذاقها الله لباس الجوع والخوف) سورة النحل، 112، فإن الجائع والخائف كل منهما يظهر ذلك عليه، ولهذا قال لباس الجوع والخوف وقال ههنا (بشيء من الخوف والجوع) أي بقليل من ذلك.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بالإسناد الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع) ونحو هذا، قال أخبر الله المؤمنين أن الدنيا دار بلاء، وأنه مبتليهم فيها، وأمرهم بالصبر، وبشرهم فقال (وبشر الصابرين) ثم أخبرهم أنه فعل هكذا بأنبيائه وصفوته لتطيب أنفسهم فقال (مستهم البأساء والضراء وزلزلوا) .
وقال أحمد: حدثنا عبد الوهاب في تفسير سعيد، عن قتادة قال: لقد ذكر لنا أن الرجل كان يعصب على بطنه الحجر ليقيم به صلبه من الجوع وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ماله دثار غيرها.
(الزهد ص 31-32) ، وإسناده حسن.
وقال أبو داود الطيالسي حدثنا شعبة وهشام وحماد بن سلمة كلهم عن عاصم بن بهدلة، عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال: قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل حتى يبتلي الرجل على قدر دينه فان كان صلب الدين اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب ذلك أو قدر ذلك فما يبرح البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة.(1/262)
(المسند ص 29-30 رقم 215) . ورجاله ثقات إلا عاصم بن أبي النجود صدوق له أوهام وإسناده حسن، وأخرجه ابن سعد (الطبقات الكبرى 2/209) ، وابن أبي شيبة (المصنف 3/233) ، وأحمد (المسند رقم 1481 والزهد ص 53) ، وابن منيع وابن أبي عمرو والنسائي في الكبرى (انظر المقاصد الحسنة ص 60) ، والدورقي (مسند سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - ص 87 رقم 41) ، وعبد بن حميد (المنتخب 1/180 رقم 146) ، والدارمي (السنن- الرقاق، ب أشد الناس ابتلاء 20/320) .
والترمذي (السنن - الزهد، ب ما جاء في الصبر على البلاء رقم 2398) ، وابن ماجة (السنن- الفتن، ب الصبر على البلاء رقم 4033) ، وأبو يعلى (المسند 2/143 رقم 142) ، والبزار (البحر الزخار 3/253 رقم 1154) ، وابن حبان (موارد الظمآن رقم 599) ، والدارقطني (العلل 4/315-318 رقم 590) ، والطحاوي (مشكل الآثار 3/61- 62) ، وبحشل (تاريخ واسط 253) ، والحاكم (المستدرك 1/41) ، والبيهقي (السنن الكبرى 3/372) ، والبغوي (شرح السنة 5/244) ، وأبو نعيم الأصفهاني (حلية الأولياء 1/368) ، والخطيب البغدادي (تاريخ بغداد 3/378) كلهم من طريق عاصم بن أبي النجود به. قال الترمذى: هذا حديث حسن صحيح. قال البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى إلا عن سعد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا نعلم رواه عن سعد بهذا اللفظ إلا مصعب وروى هذا الحديث عن عاصم جماعة منهم حماد والعلاء بن المسيب وهاشم صاحب الدستوائي وغيرهم. ا. هـ. ولكن أخرجه الطحاوي أيضاً من طريق سماك عن مصعب به (مشكل الآثار 3/62) .
وقال الدارقطني: ورواه القاسم بن مالك والمحاربي عن العلاء بن المسيب عن ابن أبي النجود عن مصعب بن سعد عن سعد ... ورواه أيضاً سماك بن حرب عن مصعب بن سعد عن سعد حدث به عن شريك والمحفوظ حديث عاصم عن مصعب (العلل 4/316-318) . وسكت عنه الحاكم وقال الذهبي: على شرط مسلم. وقال الألباني: حسن صحيح (صحيح سنن ابن ماجة 2/371 رقم 3249) ، وأخرجه ابن حبان من طريق العلاء بن المسيب عن أبيه عن سعد بنحوه (موارد الظمآن رقم 698) ، ولكن المسيب لن يسمع من سعد (انظر تهذيب التهذيب 10/153) . وله شواهد منها ما أخرجه ابن ماجة (السنن رقم 4024) ، والحاكم (المستدرك 4/307) ، والبيهقي (السنن الكبرى 3/372) عن أبي سعيد الخدري بنحوه. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. قال البوصيري. هذا إسناد صحيح ورجاله ثقات ... (مصباح الزجاجة 3/248) .
قوله تعالى (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون) قال: أخبر الله سبحانه وتعالى أن المؤمن إذا سلم لأمر الله ورجع واسترجع عند المصيبة،(1/263)
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
كتب الله له ثلاث خصال من الخير: الصلاة من الله والرحمة وتحقيق سبيل الهدى.
وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من استرجع عند المصيبة، جبر الله مصيبته وأحسن عقابه وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه.
كما ثبت في فضل الاسترجاع ما أخرجه مسلم بسنده عن أم سلمة أنها قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، إلا أخلف الله له خيراً منها". قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة؟ أول بيت هاجر أبي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالت أرسل إلي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاطب بن أبي بلتعة يخطبني له، فقالت: إن لي بنتاً وأنا غيور فقال أما ابنتها فندعوا الله أن يغنيها عنها وأدعو الله أن يذهب بالغيرة.
(الصحيح- ك الجنائز، ب ما يقال عند المصيبة رقم 918) .
وانظر استرجاع ابن عباس في تفسير سورة البقرة آية (45) .
قوله تعالى (أولئك عليه صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية (أولئك عليه صلوات من ربهم ورحمة) يقول: فالصلوات والرحمة على الذين صبروا واسترجعوا.
وقوله تعالى (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما)
أخرج الشيخان عن عروة بن الزبير أنه قال (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) فما أرى على أحد شيئاً أن لا يطوف بهما. فقالت عائشة: لو كانت كما تقول كانت فلا جناح عليه أن لايطوف بهما، إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار: كانوا يهلون لمناة، وكانت مناة حذو قديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما(1/264)
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
جاء الإسلام سألوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فأنزل الله (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) .
(صحيح البخاري - التفسير، سورة البقرة، ب (إن الصفا والمروة) رقم 4495) ، (وصحيح مسلم - ك الحج، ب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن رقم 1277) .
قال الإمام أحمد: ثنا شريح قال: ثنا عبد الله بن المؤمل، عن عطاء بن أبي رباح، عن صفية بنت شيبة، عن حبيبة بنت أبي تجزئ قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم وهو يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة السعى يدور به إزاره وهو يقول: اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي.
(المسند 6/421-422) . وأخرجه أيضاً من طريق موسى بن عبيدة عن صفية بنت شيبة (المسند 6/437) ، وفي الطريق الأول عبد الله بن المؤمل، وفي الطريق الثاني موسى بن عبيدة وكلاهما ضعيف وله شاهد في الصحيح، وقد ثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سعى بين الصفا والمروة وأمر أصحابه بذلك. (انظر صحيح البخاري- ك الحج، ب ما يلبس المحرم من الثياب- والأردية والإزر رقم 1545) ، (وصحيح مسلم- ك الحج، ب بيان وجوه الإحرام ... رقم 143) فالإسناد حسن لغيره وصححه الألباني. (صحيح الجامع الصغير 1/327) . وذكره ابن كثير بطريقيه ثم قال: وقد استدل بهذا الحديث على مذهب من يرى أن السعي بين الصفا والمروة ركن في الحج كما هو مذهب الشافعي ومن وافقه، وقيل إنه بواجب وليس بركن، وقيل بل مستحب ... والقول الأول أرجح لأنه عليه السلام طاف بينهما وقال: لتأخذوا عنى مناسككم، فكل ما فعله في حجته تلك واجب لابد من فعله في الحج إلا ما خرج بدليل (التفسير 1/347) .
وأخرج مسلم من حديث جابر الطويل وفيه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما فرغ من طوافه بالبيت رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلي الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: إن الصفا والمروة من شعائر الله "أبدأ بما بدأ الله به" فبدأ بالصفا.
(الصحيح - ك الحج، ب حجة النبي رقم 1218) .
انظر الآية رقم (233) من السورة نفسها عند قوله تعالى (فلا جناح عليهما) .
قوله تعالى (ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم) قال: من تطوع خيرٌ له، تطوع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكانت من السنن.(1/265)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)
قوله تعالى (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون. إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم)
أخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة: والله لولا آيتان في كتاب الله ما حدثتكم شيئاً أبداً (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى ... إلي ... الرحيم) .
(الصحيح- ك الحرث والمزارعة- في الغوص ح 2350) ، أخرجه مسلم في (صحيحه- ك فضائل الصحابة- ب من فضائل أبي هريرة ح 2492) .
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا ما اللاعنون ولكنه أشار إلى ذلك في قوله (أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (ويلعنهم اللاعون) قال: اللاعنون: البهائم.
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (ويلعنهم اللاعنون) : من ملائكة الله ومن المؤمنين.
قوله تعالى (إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتاده في قوله تعالى (إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا) يقول: أصلحوا فيما بينهم وبين الله، وبينوا الذي جاءهم من الله فلم يكتموه ولم يجحدوا به، أولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم.
قوله تعالى (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار ... ) يعني بالناس أجمعين: المؤمنين.
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة به.(1/266)
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
قوله تعالى (خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية (خالدين فيها ... ) يعني: في النار، في اللعنة لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون.
وبه في قوله (لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون) قال: هو كقوله (هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون) (المرسلات 35، 36) .
قوله تعالى (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم. إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المُسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون)
قال الترمذي: حدثنا علي بن خشرم، حدثنا عيسى بن يونس عن عبيد الله ابن أبي زياد القداح، كذا قال عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم) وفاتحة آل عمران (الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم) .
(جامع الترمذي (5/517 ح 3478- ك الدعوات، ب 65) وأخرجه أبو داود في سننه (2/80 ح 1496) وابن ماجه (2/1267 ح 3855) وأحمد في المسند (6/461) والدارمي في السنن (2/450) وابن أبي حاتم (التفسير - آل عمران/1 ح 4) من طرق، عن عبيد الله بن زياد به. قال الترمذي حسن صحيح. وقال السيوطي: صحيح (الجامع الصغير مع فيض القدير 1/510 ح 1032) . وحسنه الألباني (صحيح الجامع رقم 991) ، وكذا حسنه الدكتور حكمت بشير في تحقيقه لابن حاتم. والحديث وإن تكلم فيه البعض لأجل شهر بن حوشب وعبيد الله بن أبي زياد، فإن له شاهداً من حديث أبي أمامة مرفوعاً: "اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في سور ثلاث: البقرة, وآل عمران، وطه". وأخرجه ابن ماجة (رقم 3856) والحاكم في المستدرك (1/506) ، وعزاه الألباني لجماعة آخرين، منهم: أبو عبد الله القرشي في (الفوائد) وزاد: قال القاسم أبو عبد الرحمن: فالتمست في البقرة فإذا هو في آية الكرسي (لا إله إلا هو الحي القيوم) وفي آل عمران فاتحتها (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) وفي طه (وعنت الوجوه للحي القيوم) ثم قال الألباني: وهذا إسناد حسن. (الصحيحة 2/383 ح 746) . قال البوصيري: عن إسناد ابن ماجه: فيه غيلان، لم أر لأحد فيه كلاماً لا بجرح ولا توثيق، وباقي رجال الإسناد ثقات. قلت: وغيلان هو ابن أنس، قال عنه ابن حجر: مقبول وقد تابعه عبد الله بن العلاء بن زبر عند أبي الله القرشي الماضي سياقه وغيره، فيكون حديث أبي أمامة هذا حسناً إن شاء الله، وهو شاهد قوي يعضد حديث أسماء بنت يزيد المتقدم.(1/267)
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم ووكيع وأحمد (كما في ابن كثير) بسند حسن عن أبي الضحى في قول الله (وإلهكم إله واحد) قال: لما نزلت هذه الآية عجب المشركون وقالوا: إن محمداً يقول: إلهكم إله واحد، فليأتنا بآية إن كان من الصادقين فأنزل الله تعالى ( ... إن في خلق السموات والأرض ... لآيات لقوم يعقلون) .
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن عطاء بن أبي رباح نحوه.
وأبو الضحى: مسلم بن صبيح تابعي وعطاء تابعي والمرسلان يقوي أحدهما الآخر ولهما حكم الرفع.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (إن في خلق السموات والأرض) الآية.
لم يبين هنا وجه كونهما آية، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر. كقوله: (أفلم ينظروا إلي السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج. تبصرة وذكرى لكل عبد منيب) وقوله: (الذي خلق سبع سموات طباقاً ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور. ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير. ولقد زينا السماء الدنيا. بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين. وأعتدنا لهم عذاب السعير) وقوله في الأرض: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور) .
قوله تعالى: (واختلاف الليل والنهار) لم يبين هنا وجه كون اختلافهما آية، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر كقوله: (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلي يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون؟ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلي يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون؟ ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) إلى غير ذلك من الآيات.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن أبي مالك -غزوان الغفاري- (الفلك) قال: السفينة.(1/268)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)
أخرج الطيالسي (المسند رقم 1089) وأحمد (المسند 4/11، 12) والطبراني (المعجم الكبير 19/208 رقم 208) كلهم من طريق وكيع بن عدس عن أبي رزين العقيلي قال: قلت: يا رسول الله كيف يحيى الله الموتى؟ قال: أما مررت بوادي ممحل ثم مررت به خضراً؟ قال: بلى. قال: فكذلك النشور أو قال: كذلك يحيى الله الموتى.
وهذا لفظ الطيالسي وفي سنده وكيع بن عدس مقبول ولكن قد توبع في رواية ابن أبي حاتم فأخرجه من طريق سليمان بن موسى عن أبي رزين، والإسناد حسن. وأخرجه الحاكم من الطريق نفسه وصحيحه ووافقه الذهبي (المستدرك 4/560) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (وتصريف الرياح والسحاب المسخر) قال: قادر والله ربنا على ذلك، إذا شاء جعلها رحمة لواقح للسحاب ونشرا بين يدي رحمته، وإذا شاء جعلها عذاباً ريحاً عقيماً لا تلقح، إنما هي عذاب على من أرسلت عليه.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (والسحاب المسخر بين السماء والأرض) لم يبين هنا كيفية تسخيره، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر كقوله (وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون)
وقوله (ألم تر أن الله يزجي سحاباً ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاماً فترى الودق يخرج من خلاله) .
قوله تعالى (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله)
أخرج البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال. قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك.
تقدم تخريجه عند الآية (22) .
وانظر الآية رقم (22) من السورة نفسها.(1/269)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية في قوله عز وجل (يحبونهم كحب الله) يقول: يحبون تلك الأوثان كحب الله. أي كحب الذين آمنوا ربهم.
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة وعن مجاهد بسند صحيح نحوه.
قوله تعالى (ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية في قوله: (ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب) يقول: لو قد عاينوا العذاب.
وأخرج أيضاً بسنده الحسن عن قتادة قوله (العذاب) أي: عقوبة الآخرة.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب) الآية. المراد بالذين ظلموا: الكفار وقد بين ذلك بقوله في آخر الآية (وما هم بخارجين من النار) ويدل لذلك قوله تعالى عن لقمان مقرراً له (يا بنَيَّ لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) وقوله جل وعلا: (والكافرون هم الظالمون) وقوله: (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين) .
قوله تعالى (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية في قوله (إذ تبرأ الذين اتبعوا)
قال: تبرأت القادة من الأتباع يوم القيامة إذ رأت العذاب.
وأخرج أيضاً بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (إذ تبرأ الذين اتبعوا) قال: هم الجبابرة والقادة والرؤوس في الشر والشرك (من الذين اتبعوا) وهم الأتباع والضعفاء.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا) الآية.. أشار هنا ألي تخاصم أهل النار. وقد بين منه غير ما ذكر هنا في مواضع أخر كقوله (ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم أبي بعض(1/270)
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم؟ بل كنتم مجرمين. وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً.
وأخرج الحاكم بسنده عن ابن عباس في قوله تعالى (وتقطعت بهم الأسباب)
قال: المودة.
وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 2/272) .
وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى (وتقطعت بهم الأسباب) قال: هو الوصل الذي كان بينهم في الدنيا.
قوله تعالى (وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار)
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية: فقالت الأتباع: لو أن لنا كرة إلى الدنيا فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا.
وبه عن أبي العالية.. يقول الله (كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم) يقول: أعمالهم الخبيثة حسرات عليهم يوم القيامة.
وأخرج الطبري والحاكم عن ابن مسعود في قصة ذكرها فقال: فليس نفس إلا وهي تنظر إلي بيت في الجنة وبيت في النار، وهو يوم الحسرة، قال: فيرى أهل النار الذين في الجنة، فيقال لهم: لو عملتم! فتأخذهم الحسرة قال: فيرى أهل الجنة البيت الذي في النار فيقال: لولا أن منَّ الله عليكم.
وهذا لفظ الطبري، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي (المستدرك 4/496-498) وأحمد شاكر في تحقيقه لتفسير الطبري.(1/271)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)
قوله تعالى (يا أيها الناس كلوا مما الأرض حلالاً طيباً ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين. إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون)
أخرج مسلم (الصحيح - كتاب الجنة باب 16 رقم 2865) عن عياض بن حمار المجاشعي في الحديث القدسي: كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللتُ لهم ...
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله (خطوات الشيطان) يقول: عمله.
وأخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قال: خطيئته.
وعن قتادة بسند حسن قال: خطاياه.
وقد بين في الآية التالية أنواعاً من خطوات الشيطان فقال: (إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) .
قال الشخ الشنقيطي: قوله تعالى (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) لم يبين هنا هذا الذي يقولونه عليه بغير علم، ولكنه فصله في مواضع أخر فذكر أن ذلك الذي يقولونه بغير علم هو: أن الله حرم البحائر والسوائب ونحوها، وأن له أولاداً، وأن له شركاء، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً. فصرح بأنه لم يحرم ذلك بقوله: (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب) وقوله: (وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله) الآية. وقوله: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً) الآية وقوله: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام) إلي غير ذلك من الآيات. ونزه نفسه عن الشركاء المزعومة بقوله: (سبحانه وتعالى عما يشركون) ونحوها من الآيات، ونزه نفسه عن الأولاد(1/272)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)
المزعومة بقوله: (قالوا اتخذ الله ولداً سبحانه) الآية. ونحوها من الآيات فظهر من هذه الآيات تفصيل ما أجمل في اسم الموصول الذي هو (ما) ، من قوله: (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) .
قوله تعالى (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن محمد بن إسحاق بسنده عن ابن عباس قال: دعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اليهود إلى الإسلام فرغبهم فيه وحذرهم عذاب الله ونقمته، فقال له رافع بن خارجة ومالك بن عوف بل نتبع يا محمد ما وجدنا عليه آباءنا فهم كانوا أعلم وخيراً منا فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك من قولهما (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه ءاباءنا أو لو كان ءاباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون) .
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية (بل نتبع ما ألفينا) : أي ما وجدنا.
قوله تعالى (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة قوله: (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء) قال: هذا مثل ضربه الله تعالى للكافر، يقول: مثل هذا الكافر كمثل هذه البهيمة التي لا تسمع الصوت ولا تدري ما يقال لها، فكذلك الكافر يقال له ولا ينتفع. بما يقال له.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (صم بكم عمي) يقول: صم عن الحق فلا يسمعونه، ولا ينتفعون به ولا يعقلونه، عمي عن الحق والهدى فلا يبصرونه، بكم عن الحق فلا ينطقون به.
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (صم بكم عمي) يقول: لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه.
وانظر الآية رقم (17) من السورة نفسها.(1/273)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله)
أخرج مسلم بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: "أيها الناس! إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً. وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين. فقال: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم) وقال: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) ثم ذكر الرجل يطيل السفر. أشعث، أغبر. يمد يديه إلي السماء. يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام. فأنى يستجاب لذلك؟.
(الصحيح- الزكاة- باب 19 ح 1015) .
وأخرج البخاري تعليقاً (الصحيح- الأطعمة، باب 56 ج 9 ص 582) عن أبي هريرة مرفوعاً: "الطاعم الشاكر مثل الصائم الصابر".
وقد وصله الحافظ ابن حجر من طرق كثيرة وفيها من المتابعات والشواهد التي تدل على ثبوته.
(تغليق التعليق 4/491-493) .
قوله تعالى (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله)
قال ابن كثير: وقد خصص الجمهور من ذلك ميتة البحر لقوله تعالى (أحل لكم صيد البحر وطعامه) وحديث العنبر في الصحيح. وفي المسند والموطأ والسنن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته". اهـ.
وصححه الترمذي (السنن- الطهارة 1/100، 101) وصححه البخاري فيما سأله الترمذي عنه (علل الترمذي 1/136) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي (المستدرك 1/140) وقال البيهقي حديث صحيح (المعرفة 1/152) وقال البغوي: صحيح متفق على صحته (شرح السنة 2/55) وصححه ابن الملقن ونقل تصحيح ابن الأثير، وقال ابن كثير: إسناده جيد (التفسير 6/126) . والألباني (صحيح سنن ابن ماجة 1/67) وفي السنة تخصيص آخر وهو ما أخرجه أحمد (المسند رقم 5723) وابن ماجة (السنن- الصيد- باب صيد الجراد والحيتان) .(1/274)
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
عن ابن عمر مرفوعاً: أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال.
وقد روي موقوفاً وهو أصح وله حكم الرفع.
وصححه الألباني، (سلسلة الأحاديث الصحيحة 1118) .
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى: (وما أهل به لغير الله) قال: ما ذبح لغير الله مما لم يسم عليه.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية: ما ذكر عليه غير اسم الله.
قال مسلم: حدثنا قتيبة بن سعيد. حدثنا ليث عن يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله؛ أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول، عام الفتح، وهو بمكة: "إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام".
فقيل: يا رسول الله. أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال: "لا. هو حرام". ثم قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عند ذلك: "قاتل الله اليهود. إن الله عز وجل لما حرم عليهم شحومها. أجملوه ثم باعوه. فأكلوا ثمنه".
(الصحيح (3/1207 ح 1581- ك المساقاة، ب تحريم بيع الخمر والميتة..) .
الحديث فيه زيادة تشريع، حيث لم يقتصر التحريم على تناول عين تلك المحرمات، بل حرم بيعها أيضاً. كل ذلك إبعاد للأمة من التلبس بتلك القازورات بأي وجه من الوجوه إلا ما استثني من دباغ جلود الميتة.
قال الترمذي: حديثا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، حدثنا سلمة بن رجاء قال حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي واقد الليثي قال: قدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة وهم يجبون أسنمة الإبل ويقطعون أليات الغنم قال: ما قطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة.(1/275)
حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، حدثنا أبو النضر، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار نحوه.
(السنن (4/74ح1480- ك الأطعمة، ب ما قطع من الحي فهو ميت) وأخرجه أحمد من طريق عبد الصمد وحماد بن خالد عن عبد الرحمن. قال الترمذي: حديث حسن غريب ... والعمل على هذا عند أهل العلم. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي (المستدرك 4/239) وحسنه السيوطي (الجامع الصغير مع فيض القدير 5/461) ، وصححه الألباني (صحيح الجامع الصغير 5/150-151) . وانظر تفصيل الكلام على طرق هذا الحديث في (البدر المنير 2/180-192) .
قوله تعالى ( ... فمن اضطر غير باغ ولاعاد فلا إثم عليه)
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا سبب اضطراره، ولم يبين المراد بالباغي والعادي، ولكنه أشار في موضع آخر إلى أن سبب الاضطرار المذكور المخمصة، وهي الجوع وهو قوله (فمن اضطر في مخمصة) وأشار أبي أن المراد بالباغي والعادي المتجانف للإثم، وذلك في قوله (فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم) والمتجانف المائل، ومنه قول الأعشى:
تجانف عن حجراليمامة ناقتي ... وما قصدت من أهلها لسوائكا
فيفهم من الآية أن الباغى والعادي كلاهما متجانف لإثم، وهذا غاية ما يفهم منها.
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (فمن اضطر) يعني: إلى شيء مما حرم (غير باغ ولا عاد) يقول: من أكل شيئاً من هذه وهو مضطر فلا حرج، ومن أكله وهو غير مضطر فقد بغى واعتدى.
أخرج آدم بن أبي، إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (غير باغ ولا عاد) يقول: غير قاطع سبيل، ولا مفارق الأئمة ولا خارج في معصية الله عز وجل.
قوله تعالى (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية قوله: (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ... ) قال: هم أهل الكتاب كتموا ما أنزل الله عليهم في كتابهم من الحق والهدى والإسلام وشأن محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونعته. اهـ. والعبرة بعموم اللفظ.
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة نحوه.(1/276)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
وبه عن أبي العالية قوله: (أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار) يقول: ما أخذوا عليه من الأجر فهو نار في بطونهم.
قوله تعالى (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار)
وبه عن أبي العالية في قوله (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) : اختاروا الضلالة على الهدى والعذاب على المغفرة.
وبه عن أبي العالية في قوله (فما أصبرهم على النار) قال: ما أصبرهم وأجرأهم على عمل أهل النار.
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: فما أجرأهم على العمل الذي يقربهم إلى النار.
انظر الآية رقم (16) من السورة نفسها.
قوله تعالى (ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنده الحسن عن السدي (وإن الذين اختلفوا في الكتاب) يقول: هم اليهود والنصارى. في عداوة بعيدة.
انظر الآية رقم (137) من السورة نفسها.
قوله تعالى (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية قال: كانت اليهود تقبل قبل المغرب، وكانت النصارى تقبل قبل المشرق، فقال الله: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب) يقول: هذا كلام الإيمان وحقيقة العمل.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة نحوه.
وأخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب) ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله.
انظر سورة لقمان آية (34) .(1/277)
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
قوله تعالى (ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه)
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا هل هذا المصدر مضاف إلي فاعله فيكون الضمير عائدا إلى المال ولكنه ذكر في موضع آخر لم يدل على أن المصدر مضاف إلى فاعله وأن المعنى على حبه أي حب مؤتي المال لذلك المال وهو قوله تعالى (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) ولا يخفى أن بين القولين تلازما في المعنى.
وأخرج الطبري وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن مسعود (وآتى المال على حبه) أي: يؤتيه وهو صحيح شحيح يأمل العيش ويخشى الفقر.
وصححه الحاكم ووافقه الذهبي (المستدرك 2/272) .
وأخرج الشيخان بسنديهما عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال:: أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى".
(صحيح البخاري- الزكاة، ب 11 رقم 1419) ، (وصحيح مسلم- الزكاة، ب 31 رقم 1032) وقوله تعالى (ذوي القربى)
قال ابن خزيمة: حدثنا أحمد بن عبدة، أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن حميد ابن عبد الرحمن، عن أمه أم كلثوم بنت عقبة -، قال سفيان: وكانت قد صلّت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القبلتين- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح".
(صحيح ابن خزيمة (4/78 ح 2386- ك الزكاة، ب فضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح) وأخرجه الحاكم في (المستدرك 1/406) من طريق معمر وابن عيينة عن الزهري به.
وقال الحاكم: هدا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وعزاه الهيثمي في (المجمع 3/116) للطبراني في الكبير، وقال: رجاله رجال الصحيح. ونقل في حاشية (المطالب العالية (1/257) قول البوصيري: رواه الطبراني بسند صحيح. وقال الألباني: صحيح (الإرواء 3/404) ، وقال محقق صحيح ابن خزيمة: إسناده صحيح.(1/278)
قال الإمام أحمد: ثنا يزيد بن هارون قال أنا هشام عن حفصة عن سلمان بن عامر قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "الصدقة على المسكين صدقة، والصدقة على ذي الرحم اثنتان: صلة وصدقة".
(المسند 4/18) ، وأخرجه الحميدي (المسند ص 362 و363) ، والترمذي (السنن - الزكاة رقم 658) ، وابن ماجة (السنن - الزكاة رقم 1494) ، والحاكم (المستدرك 1/407) كلهم عن سلمان بن عامر، وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وصححه ابن كثير في التفسير، والألباني في صحيح سنن الترمذي، وابن ماجة) . وله شاهد في الصحيح من حديث زينب امرأة عبد الله (صحيح البخاري -الزكاة - في الزكاة على الزوج والأيتام ح 1466) .
وقوله تعالى (واليتامى)
تقدم حديث: "لا يتم بعد احتلام" عند الآية (83) .
وقوله تعالى (والمساكين)
تقدم بيانه عند الآية (83) أيضاً وهو حديث: "ليس المسكين الذي ترده
اللقمة ... ".
وقوله تعالى (وابن السبيل)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين.
وقوله تعالى (وفي الرقاب)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مقاتل بن حيان في قول الله: (وفي الرقاب) قال: هم المكاتبون.
قال مسلم: حدثنا محمد بن المثنى العنزي، حدثنا يحيى بن سعيد عن عبد الله ابن سعيد (وهو ابن أبي هند) . حدثني إسماعيل بن أبي حكيم عن سعيد بن مرجانة، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من أعتق رقبة مؤمنة، أعتق الله، بكل إرب منها، إرباً منه من النار".
(الصحيح (2/1147 ح 1509- ك العتق) .
الحديث يبين عظم فضل تحرير الرقاب.(1/279)
وقوله تعالى (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية في قوله (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا) فمن أعطى عهد الله ثم نقضه، انتقم منه، ومن أعلى ذمة رسول الله ثم غدر بها فرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خصمه يوم القيامة.
قال البخاري: حدثنا سليمان أبو الربيع قال حدثنا إسماعيل بن جعفر قال حدثنا نافع بن مالك بن أبي عامر أبو سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان".
(الصحيح 1/89 ح 33، 34- ك الإيمان، ب علامة المنافق) وأخرجه مسلم في صحيحه (1/78ح85, 59)
الحديث يدل على أن الوفاء بالعهد من علامات الإيمان.
وقوله تعالى (والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس)
أخرج عبد الرزاق والطبري وابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة (والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس) قال: البأساء: البؤس، والضراء: الزمانة في الجسد، وحين البأس قال: حين القتال.
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا مالمراد بالبأس؟ ولكنه أشار في موضع آخر إلى أن البأس القتال، وهو قوله (قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا) كما هو ظاهر من سياق الكلام.
قوله تعالى (أولئك الذين صدقوا)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية (أولئك الذين صدقوا) يقول: تكلموا بكلام الإيمان وحققوا بالعمل.(1/280)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم)
أخرج البخاري عن ابن عباس قال: كان في بنى إسرائيل القصاص، ولم تكن فيهم الدية، فقال الله عز وجل لهذه الأمة: (كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء) فالعفو أن يقبل الدية في العمد (فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) بالمعروف ويؤدى بإحسان (ذلك تخفيف من ربكم ورحمة) وكتب على من كان قبلكم (فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم) قتل بعد قبول الدية.
وأخرج البخاري (الصحيح -العلم، باب 39 رقم 111) ومسلم (الصحيح- الحج، باب فضل المدينة رقم 1370) عن علي رضى الله عنه مرفوعاً: لا يقتل مسلم بكافر.
وقد نص الإمام إسماعيل القاضي الجهضمي في كتابه (أحكام القرآن) على الجمع بين هذه الآية وقوله تعالى (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس فقال: الجمع بين الآيتين أولى فتحمل النفس على المكافئة.
(انظر الصحيح 12/198) .
قوله تعالى (والأنثى بالأنثى)
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (والأنثى بالأنثى) وذلك أنهم كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة ولكن كانوا يقتلون الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة، فأنزل الله تعالى: (النفس بالنفس والعين بالعين) فجعل الأحرار في القصاص سواء فيما بينهم في العمد سواء رجالهم ونساءهم، في النفس وما دون النفس، وجعل العبيد مستوين فيما بينهم في العمد، في النفس وفيما دون النفس رجالهم ونساءهم.(1/281)
وأخرج البخاري عن أنس بن مالك قال: خرجت جارية عليها أوضاح بالمدينة، قال: فرماها يهودي بحجر. قال: فجيء بها إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبها رَمق.
فقال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فلان قتلك"؟ فرفعت رأسها، فأعاد عليها قال: فلان قتلك؟ فرفعت رأسها فقال لها في الثالثة: فلان قتلك؟ فخفضت رأسها.
فدعا به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقتله بين الحجرين.
(الصحيح- ك الديات، ب إذا كل بحجر أو بعصا.. ح 6877) ، قوله تعالى (فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف)
وأخرج البخاري عن أنس أن الربيع عمته كسرت ثنية جارية، فطلبوا إليها العفو، فأبوا فعرضوا الأرش، فأبوا فأتوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبوا إلا القصاص، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالقصاص، فقال أنس بن النضر: يا رسول الله أتكسر ثنية الربيع؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا أنس.
كتاب الله القصاص". فرضي القوم، فعفوا، فقال رسول الله: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره".
(الصحيح- تفسير سورة البقرة رقم 4500) .
وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة (فاتباع بالمعروف) قال: يتبع الطالب بالمعروف، ويؤدي إليه المطلوب بالإحسان.
أخرج عبد الرزاق عن قتادة في قوله تعالى (فمن عفي له من أخيه شيء)
قال: إذا قتل الرجل عمداً، ثم أخذت منه الدية فقد عفى له عن القتل.
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد (فمن عفي له من أخيه شيء) وهو العفو عن الدم وأخذ الدية. ثم قال (فمن اعتدى) يقول: بعد أخذه الدية (فله عذاب أليم) .
أخرج عبد الرزاق عن قتادة في قوله تعالى (فمن اعتدى بعد ذلك) قال: هو القتل بعد أخذ الدية. يقول: من قتل بعد أن يأخذ الدية فعليه القتل، لا تقبل منه الدية.(1/282)
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)
قوله تعالى (ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن أبي الجوزاء قال (القصاص) القرآن.
ويشهد له ما تقدم في الصحيح عن أنس: كتاب الله: القصاص.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح بسنده قتادة في قوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب) قال: جعل الله في القصاص حياة إذا ذكره الظالم المعتدي كف عن القتل.
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية نحوه.
قوله تعالى (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (إن ترك خيراً) يعني: مالاً.
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: قوله (إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين) : فكان لا يرث مع الوالدين غيرهم، إلا وصية إن كانت للأقربين، فأنزل الله بعد هذا (ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث) فبين الله سبحانه ميراث الوالدين، وأقر وصية الأقربين في ثلث مال الميت.
أخرج البخاري (الصحيح- الوصايا- ب 2 رقم 2742) ومسلم (الصحيح-الوصية- ب الوصية بثلث رقم 1628) عن سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه قال: جاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعودنى وأنا بمكة وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها قال: "يرحم الله ابن عفراء". قلت: يا رسول الله أوصي بمالي كله؟ قال: لا. قلت: فالشطر؟ قال: لا. قلت: الثلث؟ قال: فالثلث والثلث كثير.
وثبت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: إن الله أعطى كل ذي حق حقه لا وصية لوارث.
(أخرجه أحمد (المسند4/187) والترمذي وقال: حسن صحيح (السنن- الوصايا- ب ما جاء لا وصية لوارث رقم 2121) وذكره الحافظ ابن حجر له شواهد كثيرة ونقل عن الشافعي أنه متواتر (فتح الباري 5/372) . وصححه الألباني وقال: إنه متواتر، نقلاً من السيوطى (الإرواء ح 1655) .(1/283)
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
أخرج البخاري عن ابن عباس قال: كان المال للولد، وكانت الوصية للوالدين فنسخ الله من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الأنثين وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس وجعل للمرأة الثمن والربع، وللزوج الشطر والربع.
(الصحيح -الوصايا- باب 6 رقم 2747) .
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر، ثنا شعبة، عن بديل، عن علي بن أبي طلحة، عن راشد بن سعد، عن أبي عامر (الهوزني عبد الله بن لحي) ، عن المقدام، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من ترك كلا فإلىّ. وربما قال: إلى الله وإلى رسوله. ومن ترك مالاً فلورثته، وأنا وارث من لا وارث له: أعقلُ له، وأرثه، والخال وارث من لا وارث له: يعقل عنه، ويرثه".
(السنن 3/123) - ك الفرائض، ب في ميراث ذوي الأرحام ح 2899) ، وأخرجه النسائي في الكبرى (تحفة الأشراف 8/510) وابن ماجه (2/914 ح 2738) وأحمد في مسنده (4/131, 133) والطبراني في الكبير (20/265 ح 626) ، والحاكم في المستدرك (4/344) من طرق عن بديل بن ميسرة به. قال أبو زرعة الرازي: حديث حسن (علل ابن أبي حاتم 2/50 ح 1636) وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وحسنه العلامة ابن القيم رحمه الله، ورد على من تكلم فيه في بحث له نافع (تهذيب السنن 4/170-171) وحسنه الألباني (صحيح الجامع 6147) . هذا مع تصحيح ابن حبان له، حيث أخرجه في صحيحه (الإحسان 7/611 ح 6003) .
قوله تعالى (فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه) وقد وقع أجر الميت على الله وبرئ من إثمه.
وأخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى (فمن بدله بعد ما سمعه) قال: من بدل الوصية بعد ما سمعها فإن إثم ما بدل عليه.
قوله تعالى (فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (فمن خاف من موص جنفاً) يعني: إثماً، يقول: إذا أخطأ الميت في وصيته أو حاف فيها فليس على الأولياء حرج أن يردوا خطأه إلى الصواب.(1/284)
فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه) قال: هذا حين يُحضر الرجل وهو يموت فإذا أسرف أمروه بالعدل، وإذا قصر قالوا: افعل كذا، اعط فلاناً كذا.
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن عائشة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: يرد من صدقة الحائف في حياته ما يرد من وصية المجنف عند موته.
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)
قال البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن أبي سهيل عن أبيه عن طلحة بن عبيد الله: أن أعرابياً جاء إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثائر الرأس فقال: يا رسول الله، أخبرني ماذا فرض الله عليَّ من الصلاة؟ فقال: "الصلوات الخمس إلا أن تطوع شيئاً". فقال: أخبرني بما فرض الله عليَّ من الصيام؟ فقال: "شهر رمضان إلا أن تطوع شيئاً".
(الصحيح (4/102 ح 1891) - كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان..) وأخرجه مسلم (1/40-41 ح 11) - ك الإيمان، ب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإيمان) .
أخرج البخاري عن عائشة رضى الله عنها قالت: كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصومه، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه فلما نزل رمضان كان رمضان الفريضة وترك عاشوراء فكان من شاء صامه ومن شاء لم يصمه.
(الصحيح- تفسير سورة البقرة رقم 5404) .
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن مجاهد (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) : أهل الكتاب.(1/285)
أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
قوله تعالى (أياماً معدودات فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيراً فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون)
أخرج البخاري (الصحيح- الصوم، باب 34 ح 1944) ومسلم (الصحيح- الصيام، باب جواز الصوم والفطر في رمضان للمسافر ح 88) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ الكديد أفطر فأفطر الناس.
قال أبو عبد الله البخاري: والكديد ماء بين عسفان وقديد.
أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أأصوم في السفر؟ -وكان كثير الصيام- فقال: "إن شئت فصم وإن شئت فأفطر".
(الصحيح- الصوم، باب 33 ح 1943) .
أخرج البخاري عن أنس بن مالك قال: كنا نسافر مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم.
قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، أخبرنا أبو معاوية، عن عاصم، عن مورق، عن أنس - رضي الله عنه - قال: كنا مع الني - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السفر، فمنا الصائم ومنا المفطر، قال: فنزلنا منزلاً في يوم حار، أكثرنا ظلاً صاحب الكساء، ومنا من يتقي الشمس بيده، قال: فسقط الصوام، وقام المفطرون فضربوا الأبنية، وسقوا الركاب، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ذهب المفطرون اليوم بالأجر".
(الصحيح (3/788 ح 1119- ك الصيام، ب أجر المفطر في السفر إذا تولى لعمل) .
وانظر الأحاديث الآتية عند الآية (185) من السورة نفسها.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: إن شاء تابع وإن شاء فرق لأن الله يقول: (فعدة من أيام أخر) .(1/286)
أخرج البخاري عن ابن أبي ليلى حدثنا أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نزل رمضان فشق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكيناً ترك الصوم ممن يطيقه، ورخص لهم في ذلك فنسختها (وأن تصوموا خير لكم) فأمروا بالصوم.
أخرج البخاري عن ابن عمر قرأ (فدية طعام مساكين) قال: هي منسوخة.
(الصحيح- الصوم- ب 39 ح 1949) .
وأخرج البخاري عن سلمة بن الأكوع قال: لما نزلت (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها.
(الصحيح- التفسير، ب 26 ح 4507) .
وثبت عن ابن عباس أنه يرى عدم النسخ ففد أخرج البخاري بسنده عن عطاء سمع ابن عباس يقرأ (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) قال ابن عباس: ليست بمنسوخة هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فليطعمان مكان كل يوم مسكيناً.
(الصحيح- التفسير- سورة البقرة، ب 35 ح 4505) .
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يتصدق بكل يوم نصف صاع.
وأخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عباس (فمن تطوع يراً) فزاد طعام مسكين آخر فهو خير له وأن تصوموا خير لكم.
قوله تعالى (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ... )
أخرج البخاري عن ابن عمر يقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الشهر هكذا وهكذا، وخنس الإبهام في الثالثة".
(الصحيح- الصوم، ب 11 ح 1908) .(1/287)
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
أخرج البخاري عن ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إنا أمة أميَّة لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا". يعني: مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين.
(الصحيح- الصوم، ب 13 ح 1913) .
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) لم يبين هنا هل أنزل في الليل أو النهار؟ ولكنه بين في غير هذا الموضع أنه أنزل في ليلة القدر من رمضان وذلك في قوله (إنا أنزلناه في ليلة القدر) ، وقوله (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) ...
وأخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند حسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال له رجل: إنه قد وقع في قلبي الشك من قوله (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) وقوله (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) وقوله (إنا أنزلناه في ليلة القدر) وقد أنزل الله قرآناً في شوال وذي القعدة وغيره. قال: إنما أنزل في رمضان في ليلة القدر وليلة مباركة جملة واحدة، ثم أنزل على مواقع النجوم رسلاً في الشهور والأيام.
وقوله تعالى (هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان)
أخرج الشيخان عن أبي هريرة مرفوعاً: "إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين".
(صحيح البخاري- الصوم، ب 5 ح 1899) ، (وصحيح مسلم- الصيام، ب فضل شهر رمضان ح 758) . وهذا الحديث بيان بعض أفراد الآية.
قوله تعالى (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)
أخرج الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر رمضان فقال: "لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له".
(صحيح البخاري- الصوم، ب 11 ح 1906) ، (وصحيح مسلم- الصيام ح 760) .
وقوله تعالى (ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أُخر)
انظر الآية السابقة رقم (184) .(1/288)
قوله تعالى (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون)
قال أبو داود الطيالسي: حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر -جعفر بن إياس اليشكري- عن عبد الله بن شقيق، عن رجاء بن أبي رجاء، عن محجن، قال أخذ محجن بيدي حتى انتهينا إلى مسجد البصرة ... فذكر الحديث أبي أن قال: أخذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيدي حتى انتهينا إلى سدة المسجد، فإذا رجل يركع ويسجد ويركع ويسجد فقال لي: "من هذا"؟ فقلت: هذا فلان، فجعلت أطريه وأقول: هذا هذا، فقال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تسمعه فتهلكه". ثم انطلق بي حتى بلغ باب حجره، ثم أرسل يدي، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خير دينكم أيسره". قالها ثلاثاً.
(المسند ص 183 ح 1295-1296) وأخرجه أحمد في المسند (5/32) ، والبخارى في الأدب المفرد (1/433 ح 341) ، والطبراني في المعجم الكبير (20/296 ح 704) ، والمزي في تهذيبه (9/160) -من طريق الطبراني- أربعتهم من طريق أبي عوانة. وأخرجه أحمد في المسند (4/338) ، والطبراني في الكبير (ح 705) ، كلاهما من طريق شعبة، كلاهما -شعبة وأبو عوانة- عن أبي بشر به نحوه. قال الحافظ العراقى: إسناد جيد (تخريج الإحياء 1/40) . وقال الهيثمى: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح خلا رجاء، وقد وثقه ابن حبان. (مجمع الزوائد 3/308) قلت: ووثقه أيضاً العجلي (تاريخ الثقات ص 160 رقم 440) . ورمز السيوطي للحديث بالحسن (الجامع الصغير مع فيض القدير 2/236) ، وصححه الألباني (صحيح الجامع ح 1769) .
وأخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) قال: اليسر الإفطار في السفر، والعسر الصيام في السفر.
أخرج البخاري عن أنس مرفوعاً: "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا".
(الصحيح- العلم- باب 11 ح 69) وأخرجه مسلم في صحيحه (3/1359 ح 1734) .
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن زيد بن أسلم في قوله (ولتكبروا الله على ما هداكم) قال: التكبير يوم الفطر.(1/289)
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
قوله تعالى (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع ... )
انظر تفسير آية 152.
وأخرج البخاري (الصحيح- الجهاد- باب 131 ح 2992) ومسلم (الصحيح- الذكر- باب 13 ح 2704، بسنديهما عن أبي موسى الأشعري قال: كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكنا إذا أشرفنا على واد هللنا وكبرنا، ارتفعت أصواتنا فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنه معكم إنه سميع قريب تبارك اسمه وتعالى جده".
واللفظ للبخاري. أخرج البخاري (الصحيح- الدعوات، باب 22 ح 6340) ومسلم (الصحيح في الذكر والدعاء، باب 25 ح 2735) بسنديهما عن أبي هريرة مرفوعاً: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يُستجب لي".
وفي صحيح مسلم عنه بلفظ: "لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم".
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة وأبي عبد الله الأغر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ ".
(الصحيح 3/35-36 ح 1145- ك التهجد، ب الدعاء والصلاة من آخر الليل) . وأخرجه مسلم (1/521- ك صلاة المسافرين، ب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل) .
قال الترمذي: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن. أخبرنا محمد بن يوسف عن ابن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن جبير بن نفير أن عبادة بن الصامت حدثهم أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا أتاه الله إياها أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، فقل رجل من القوم: إذا نكثر، قال: الله أكثر".
(جامع الترمذي (5/566 ح 3573- ك الدعوات، ب في انتظار الفرج وغير ذلك) قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب. وقال الحافظ ابن حجر: صحيح (فتح الباري 11/96) .(1/290)
وقال الألباني- حسن صحيح (صحيح الترمذي ح 2827) وقال مرة: إسناده حسن. (صحيح الأدب المفرد ص 264/حاشية) . وللحديث شاهد من رواية أبي سعيد الخدرى - رضي الله عنه -، أخرجه أحمد في (المسند 3/18) ، والبخاري في الأدب المفرد (رقم 710 ب ما يدخر للداعي من الأجر والثواب) ، وأبو يعلى في مسنده (2/296 ح 1019) ، والطبراني في الدعاء (2/801-802 ح 35-37) .
والحاكم في المستدرك (1/493) ، من طرق، عن أبي المتوكل الناجي، عن أبي سعيد به نحوه، وفيه زيادة خصلة ثالثة وهي: وإما أن يدخر له في الآجرة. قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ... ووافقه الذهبي. وعزاه الهيثمي: لأحمد والبزار وأبي يعلى والطبراني، ثم قال: ورجال أحمد وأبي يعلي وأحد إسنادي البزار رجاله رجال الصحيح، غير علي بن علي الرفاعي وهو ثقة (مجمع الزوائد 10/148- 149) . وقال الحافظ ابن عبد البر: محفوظ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حديث أبي سعيد الخدري (تجريد التمهيد ص53، والتمهيد 5/343) . وقال الألباني. صحيح (صحيح الأدب المفرد رقم 547/710) .
وقال في حاشية الكتاب المذكور: إسناد حديث أبي سعيد صحيح، وصححه الحاكم والذهبي، وأقره الحافظ. يعني: ابن حجر في (الفتح) في الموضع المذكور عاليه.
قال الترمذي: حدثنا محمد بن بشار. حدثنا أبي عاصم. حدثنا الحجاج الصواف عن يحيى بن أبي كثير عن أبي جعفر عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله: "ثلاث دعوات مستجابات: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده".
حدثنا علي بن حجر. حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن هشام الدستوائى عن يحيى ابن أبي كثير بهذا الإسناد نحوه: وزاد فيه: "مستجابات لا شك فيهن".
(السنن 5/502 ح 3448- ك الدعوات، ب 48) وأخرجه الطيالسي في مسنده (رقم 2517) وأبو داود في سننه (2/187 ح 1536) وابن ماجه في سننه (2/1270 ح 3862) ، والبخارى في الأدب المفرد (1/103 ح 32- ب دعوة الوالدين) وأحمد في المسند (2/258) وابن حبان في صحيحه (الإحسان 4/167 ح 2688) كلهم من طريق هشام الدستوائي، عن يحيى به مثله. واختلف في تعيين (أبي جعفر) راويه عن أبي هريرة، وقد نقل الشيخ الألباني الخلاف في ذلك، وخلص إلى أنه: إما مجهول أو منقطع أو مرسل، إلا أن الحديث حسن لغيره، وذلك لوجود شاهد له من حديث عقبة بن عامر عند أحمد وغيره (انظر: السلسلة الصحيحة 2/147-149ح 596) . والحديث قال عنه الترمذي: حسن. وحسنه كذلك الحافظ ابن حجر -فيما نقله الشيخ الألباني عنه في المصدر السابق- وحسنه الشيخ الألباني -كما مضى- (صحيح الأدب المفرد 24/32، صحيح الجامع ح 3031) وصححه الشيخ أحمد شاكر (حاشية المسند رقم 7501) .(1/291)
قوله تعالى ( ... لعلهم يرشدون)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية (لعلهم يرشدون) يعني يهتدون.
قوله تعالى (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنهم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم)
أخرج البخاري بسنده عن البراء - رضي الله عنه - قال: كان أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان الرجل صائماً فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائماً فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: "أعندك طعام؟ " قالت: لا ولكن أنطلق فأطلب لك وكان يومه يعمل فغلبته عيناه فجاءته امرأته فلما رأته قالت: خيبة لك فلما انتصف النهار غشي عليه فذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزلت هذه الآية (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) ففرحوا بها فرحاً شديداً، ونزلت: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود) .
(الصحيح- الصوم- باب 15- ح 1915) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عباس (الرفث) : الجماع.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم والحاكم بسند صحيح عن ابن عباس (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) قال: هن سكن لكم وأنتم سكن لهن.
وصحيحه الحاكم ووافقه الذهبي (المستدرك 2/275) .
أخرج البخاري بسنده عن البراء - رضي الله عنه -: "لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله: (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم) .
(الصحيح- تفسير سورة البقرة- باب 27 ح 4508) .(1/292)
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: في قوله تعالى ذكره: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) ، وذلك أن المسلمين كانوا في شهر رمضان إذا صلوا العشاء حُرِّم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة. ثم إن ناساً من المسلمين أصابوا الطعام والنساء في رمضان بعد العشاء منهم عمر بن الخطاب، فشكوا ذلك إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنزل الله: (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن) يعني: انكحوهن، (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) .
قال مسلم: حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر. قال ابن أيوب: حدثنا إسماعيل بن جعفر. أخبرني عبد الله بن عبد الرحمن (وهو ابن معمر بن حزم الأنصاري أبو طوالة) أن أبا يونس مولى عائشة أخبره عن عائشة رضي الله عنها؛ أن رجلاً جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستفتيه، وهي تسمع من وراء الباب، فقال: يا رسول الله! تدركني الصلاة وأنا جنب. أفأصوم؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب، فأصوم" فقال: لست مثلنا. يا رسول الله! قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال: "والله! إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم. بما أتقى".
(الصحيح 2/781 ح1110- ك الصيام، ب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب) .
فيه بيان جواز الجماع ليلة الصيام حتى يتبين الصبح كالأكل والشرب.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: المباشرة: هو الجماع ولكن الله يكني.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة ومجاهد (وابتغوا ما كتب الله لكم) قال: الولد.
وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة (وابتغوا ما كتب الله لكم) قال: الرخصة التي كتبت لكم.(1/293)
قوله تعالى (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ... )
قال البخاري: حدثنا آدم بن أبي إياس، حدثنا شعبة حدثنا عبد العزيز بن صهيب قال سمعت أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "تسحروا، فإن في السحور بركة"
(الصحيح 4/139 ح 1923- كتاب الصيام، باب بركة السحور من غير إيجاب) وأخرجه مسلم (2/770 ح 1095) .
أخرج البخاري بسنده عن سهل بن سعد قال: أنزلت (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود) ولم ينزل (من الفجر) وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعده (من الفجر) فعلموا أنما يعني: الليل من النهار.
(الصحيح- تفسير سورة البقرة، ب 28 ح 4511) .
قال الترمذي: حدثنا هناد. حدثنا ملازم بن عمرو. حدثني عبد الله بن النعمان عن قيس بن طلق. حدثني أبي طلق بن علي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "كلوا واشربوا ولا يهيدنكم الساطع المصعد وكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر".
(جامع الترمذي 3/76 ح 705- ك الصوم، ب ما جاء في بيان الفجر) ، وأخرجه أبو داود (2/304 ح 2348) وأحمد في مسنده (4/23) والطبراني في الكبير (8/403-404 ح 8257) وابن خزيمة في صحيحه (3/211 ح 1930) ، والدارقطى في سننه (2/166 ح 7) كلهم من طريق عبد الله بن النعمان به. وعند الدارقطني والطبراني قصة وقعت بين عبد الله بن النعمان وقيس بن طلق، وهو عند أحمد مختصر بلفظ: "ليس الفجر المستطيل في الأفق، ولكنه المعترض الأحمر". قال الترمذي: حديث حسن غريب من هذا الوجه. وغمزه الدارقطني بقيس بن طلق، وتوقف ابن خزيمة في صحته لعدم معرفته عبد الله بن النعمان بعدالة ولا جرح. وقد رد الشيخ الألبانى ذلك فقال عن قيس بن طلق: وثقه ابن معين والعجلي وابن حبان، ووهاه أبو حاتم، وقال الحافظ: صدوق. قال: فمثله حسن الحديث إن(1/294)
شاء الله تعالى إن لم يخالف. ثم رأيت الذهبي ذكر عن ابن القطان أنه قال: يقتضي أن يكون خبره حسناً لا صحيحاً. فالحمد لله على توقيفه (الصحيحه 5/50-51) , وأما عبد الله بن النعمان، فقال: وثقه ابن معين والعجلي وابن حبان، وقد روى عنه ثقتان ... فحاله قريب من حال شيخه قيس بن طلق، ولكنه قد توبع، فقال عبد الله بن بدر السحيمي: حدثني جدي قيس بن طلق به، أخرجه الطحاوي (1/325) . وجملة القول: أن الحديث حسن. وله شاهد من حديث سمرة بن جندب مرفوعاً نحوه ... (الصحيحة 5/51) . وقال لي حاشية ابن خزيمة: إسناده حسن.
أخرج البخاري (الصحيح -الصوم- باب 16 ح 1916) ومسلم (الصحيح -الصيام- ح 1090) عن عبدي بن حاتم - رضي الله عنه - قال: لما نزلت (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود) عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادي، فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي، فغدوت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت له ذلك فقال: "إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار".
أخرج الطبري وأحمد (المسند 5/405) بسند صحيح عن أبي هريرة مرفوعاً: "إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه".
وقوله تعالى (ثم أتموا الصيام إلي الليل)
أخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة قال: "نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الوصال في الصوم".
(الصحيح -الصوم- باب 49 ح 1965) .
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر".
(الصحيح 4/198 ح 1957- ك الصيام، ب يفطر بما تيسر من الماء أو غيره) ، وأخرجه مسلم (2/771 ح 1098) .
أخرج البخاري بسنده عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا أقبل الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم".
(الصحيح -الصوم، ب 43 ح 1954) .(1/295)
قوله تعالى (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد)
قال البخاري: حدثنا قتيبة حدثنا ليث عن ابن شهاب عن عروة وعمرة بنت عبد الرحمن أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: "وإن كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليدخل رأسه وهو في المسجد فأرَجِّلُهُ، وكان لا يدخل البيت إلا الحاجة إذا كان معتكفاً".
(الصحيح 4/273 ح 2029- ك الصيام، ب لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان) . وأخرجه مسلم (1/244 ح 297) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) في رمضان أو في غير رمضان فحرم الله أن ينكح النساء ليلاً ونهاراً حتى يقضي اعتكافه.
قوله تعالى (تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (تلك حدود الله) يعني: طاعة الله.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن مجاهد (لعلهم يتقون) قال: يطيعون.
قوله تعالى (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (وتدلوا بها إلى الحكام) قال: هذا في الرجل يكون عليه مال، وليس عليه فيه بينة، فيجحد المال، ويخاصمهم إلى الحكام وهو يعرف أن الحق عليه، وقد علم أنه آثم آكل حراماً.
أخرج البخاري عن أم سلمة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنكم تخَتصمون إليَّ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً بقوله فإنما أقطع له قطعة من النار، فلا يأخذها".
(الصحيح- الشهادات، ب من أقام البينة ح 2680) ومسلم (الصحيح -الأقضية، ب الحكم بالظاهر ح 1713)(1/296)
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
وذكره ابن كثير ثم قال: فدلت هذه الآية وهذا الحديث أن حكم الحاكم لا يغير الشيء في نفس الأمر، فلا يحل في نفس الأمر حراماً هو حرام ولا يحرم حلالاً هو حلال، وإنما هو ملزم في الظاهر، فإن طابق في نفس الأمر فذاك، وإلا فللحاكم أجره وعلى المحتال وزره.
قال الإمام أحمد: ثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، ثنا سليمان بن بلال، عن سهيل بن أبي صالح، عن عبد الرحمن بن سعيد، عن أبي حميد الساعدي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يحل لامرئ أن يأخذ مال أخيه بغير حقه وذلك لما حرم الله مال المسلم على المسلم".
(المسند 5/425) . وأخرجه ابن حبان في صحيحه (الإحسان 7/587 ح 5946) ، والبيهقي في سننه (6/100) ، كلاهما من طريق سليمان بن بلال، عن سهيل به. وقد وقع في إسناد البيهقي: عبد الرحمن بن سعد (بدل) عبد الرحمن بن سعيد، وقال البيهقي: هو ابن سعد بن مالك، وسعد بن مالك هو أبو سعيد الخدري، ورواه أبو بكر بن أبي أويس، عن سليمان، فقال: عبد الرحمن بن سعيد ... يعنى: كما في رواية أحمد وابن حبان.
وقد رجح الشيخ الألباني رواية (عبد الرحمن بن سعيد) وأنه: عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع أبو محمد المدني (إرواء الغليل 5/280) . ولعل الصواب عبد الرحمن بن سعد، وهو ابن أبي سعيد الخدري كما ذهب البيهقي، وذلك أن عبد الرحمن بن سعيد هو المعروف بالرواية عن أبي حميد، ولم أقف على من ذكر عبد الرحمن بن سعيد في الرواة عن أبي حميد. وقد وقع اختلاف آخر في إسناد هذا الحديث، وبين البيهقي في السنن (6/97) ذلك الخلاف، ثم روى، إسناده عن علي بن المديني -إمام العلل- أنه قال: الحديث عندي حديث سهيل -يعنى المتقدم عاليه عند أحمد وابن حبان- (السنن 6/100) ، وكذا نقله عن ابن المديني: ابن حجر رحمه الله (التلخيص الحبير 3/46) . وقال عنه الهيثمي: رواه أحمد والبزار، ورجال الجميع رجال الصحيح. (مجمع الزوائد 4/171) . وهذا من الأدلة أيضاً على ترجيح القول بـ (عبد الرحمن بن سعيد) ؛ لأن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع ليس من رواة الصحيح وقال عنه الشيخ الألباني: صحيح (الإرواء 5/279) . وله شواهد عدة تنظر في (الإرواء) و (التلخيص الحبير 3/46) ، غير أن حديث أبي حميد أصح ما في الباب، كما في (التلخيص) ، لابن حجر. علماً أن لفظ حديث أبي حميد عند ابن حبان والبيهقي: "لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس منه.....".(1/297)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
قوله تعالى (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ... )
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية قال: بلغنا أنهم قالوا: يا رسول الله لم خلقت الأهلة؟ فأنزل الله (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس) يقول: جعلها الله مواقيت لصوم المسلمين وإفطارهم وعدة نسائهم ومحل دينهم.
وأخرجه الطبري بنحوه بسند حسن عن قتادة. فيتقوى المرسل.
وبه إلى أبي العالية (قل هي مواقيت للناس والحج) يقول: مواقيت لحجهم ومناسكهم.
انظر حديث البخاري ومسلم عن ابن عمر المتقدم عند الآية (185) من السورة نفسها، وهو حديث "لا تصوموا حتى تروا الهلال ... ".
قوله تعالى (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها)
أخرج البخاري بسنده عن البراء قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره، فأنزل الله (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها) .
(الصحيح- تفسير سورة البقرة- باب 29 ح 4512) . وأخرجه مسلم بسنده عن البراء بلفظ: "كانت الأنصار إذا حجوا فرجعوا لم يدخلوا البيوت إلا من ظهورها ... ) .
(الصحيح- التفسير ح 3026) .
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ولكن البر من اتقى) يصرح هنا بالمراد بمن اتقى، ولكنه بينه بقوله: (ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) .(1/298)
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)
قوله تعالى (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ... )
قال البخاري: حدثنا عثمان قال أخبرنا جرير عن عصفور عن أبي وائل عن أبي موسى قال: جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، ما القتال في سبيل الله؟ فإن أحدنا يقاتل غضباً ويقاتل حمية. فرفع إليه رأسه -قال: وما رفع رأسه إلا أنه كان قائماً- فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله عز وجل".
(الصحيح 1/222 ح 123- ك العلم، ب سأل وهو قائم عالماً جالساً) . وأخرجه مسلم (3/1512 ح 1904) .
قال البخاري: حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال قلت لأبى أسامة: حدثكم عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قتل النساء والصبيان".
(الصحيح 6/148 ح 3015- ك الجهاد، ب قتل النساء في الحرب) . وأخرجه مسلم (الصحيح 3/1364 ح 1744- ك الجهاد، ب تحريم قتل النساء والصبيان) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) لأصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمروا بقتال الكفار.
أخرج مسلم عن بريدة مرفوعاً: "اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلّوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً".
(الصحيح -الجهاد- باب 2 ح 1731) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند حسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (ولا تعتدوا) يقول: لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير ولا من ألقى السلم وكف يده فإن فعلتم هذا فقد اعتديتم.
قوله تعالى (واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ... )
بين الله تعالى أن هذا الأمر في الحرب حيث قال في سورة الأنفال: (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) آية: 57.(1/299)
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية قوله (والفتنة أشد من القتل) يقول: الشرك أشد من القتل.
وصح عن قتادة كما في تفسير عبد الرزاق.
وأخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قال: ارتداد المؤمن إلى الوثن أشد عليه من القتل.
قوله تعالى (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين)
أخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام) قال: نسخها قوله تعالى (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن مجاهد (فإن قاتلوكم) في الحرم (فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين) ، لا تقاتل أحداً فيه، فمن عدا عليك فقاتلك فقاتله كما يقاتلك.
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن أنس ابن مالك - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاء رجل فقال: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: اقتلوه".
(الصحيح 4/59 ح 1846- ك جزاء الصيد، ب دخول الحرم ومكة بغير إحرام) .
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مقاتل بن حيان (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام) يعني: الحرم. (حتى يقاتلوكم فيه) يقول: إن قاتلوكم في الحرم فاقتلوهم (كذلك جزاء الكافرين) .
قوله تعالى (فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند حسن عن مجاهد (فإن انتهوا) : فإن تابوا (فإن الله غفور رحيم) .(1/300)
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)
قوله تعالى (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) يقول: شرك.
قال البخاري: وزاد عثمان بن صالح عن ابن وهب قال أخبرني فلان وحيوة بن شريح عن بكر بن عمرو المعافري أن بُكير عبد الله حدثه عن نافع "أن رجلاً أتى ابن عمر فقال: با أبا عبد الرحمن ما حملك على أن تحج عاماً وتعتمر عاماً وتترك الجهاد في سبيل الله عز وجل وقد علمت ما رغب الله فيه؟ قال: يا ابن أخي، بُني الإسلام على خمس: إيمان بالله ورسوله، والصلوات الخمس، وصيام رمضان وأداء الزكاة، وحج البيت. قال: يا أبا عبد الرحمن. ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفىء إلى أمر الله) ، (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) قال: فعلنا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان الإسلام قليلاً، فكان الرجل يفتن في دينه: إما قتلوه، وإما يعذبونه، حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة.
(الصحيح 8/183-184 ح 4514- ك التفسير- سورة البقرة- نفس التبويب) .
قوله تعالى (فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية قوله (فلا عدوان إلا على الظالمين) يعني على من أبى أن يقول: لا إله إلا الله.
وصح عن قتادة ومجاهد كما في الطبري ويؤكد ما ذكره هؤلاء رواية الإمام مسلم، عن أبي هريرة عن عمر بن الخطاب مرفوعاً: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله".
(الصحيح- الإيمان- باب 8 ح 32) .
قوله تعالى (الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص ... )
أخرج أحمد (المسند 3/345) عن جابر بن عبد الله قال: لم يكن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى ويغْزَوْا، فإذا حضره أقام حتى ينسلخ.
(وصحح إسناده ابن كثير في التفسير والحافظ ابن حجر في "العجاب في بيان الأسباب" وقال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد 6/66) .(1/301)
الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
وأخرج الطبري بأسانيد يقوي بعضها بعضاً عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي ومقسم والضحاك وعطاء بن أبي رباح في قول الله تعالى (الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص) قال: فخرت قريش بردِّها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الحديبية محرماً في ذي القعدة عن البلد الحرام فأدخله الله مكة في العام المقبل من ذي القعدة فقضى عمرته، وأقصه بما حيل بينه وبينها يوم الحديبية. واللفظ لمجاهد.
قوله تعالى (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند حسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) فهذا ونحوه نزل بمكة والمسلمون يومئذ قليل وليس لهم سلطان يقهر المشركين. وكان المشركون يتعاطونهم بالشتم والأذى فأمر الله المسلمين من يجازى منهم أن يجازى بمثل ما أتي إليه، أو يصبر أو يعفو فهو أمثل. فلما هاجر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة وأعز الله سلطانه أمر المسلمين أن ينتهوا في مظالمهم إلى سلطانهم وأن لا يعدو بعضهم على بعض كأهل الجاهلية.
قال ابن كثير: وقوله (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) أمر بالعدل حتى في المشركين كما قال (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) .
قوله تعالى (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين)
أخرج البخاري بسنده عن حذيفة (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) قال: نزلت في النفقة.
(الصحيح- تفسير سورة البقرة- باب 31 ح 4516) .(1/302)
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم، وأبو داود (المسند ص 599) والترمذي (السنن- تفسير سورة البقرة ح 2972) والنسائي في تفسيره والحاكم (المستدرك 2/275) وصححه ووافقه الذهبي وقال الترمذي: حسن صحيح غريب. وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي ح 2373) .
واللفظ للطبري عن أسلم أبي عمران التجيي قال: كنا بالقسطنطينية وعلى أهل مصر عقبة بن عامر الجهني صاحب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد صاحب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فخرج من المدينة صف عظيم من الروم، قال: وصففنا صفاً عظيماً من المسلمين، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، ثم خرج إلينا مقبلاً، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله! ألقى بيده إلى التهلكة! فقام أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية على هذا التأويل! وإنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار! إنا لما أعز الله دينه وكثر ناصريه, قلنا فيما بيننا بعضنا لبعض سراً من رسول الله: إن أموالنا قد ضاعت، فلو أنا أقمنا فيها، فأصلحنا ما ضاع منها! فأنزل الله في كتابه يرد علينا ما هممنا به، فقال: (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) ، بالإقامة التي أردنا أن نقيم في الأموال ونصلحها، فأمرنا بالغزو.
فما زال أبو أيوب غازياً في سبيل الله حتى قبضه الله.
وسيأتي مزيد من الأحاديث في فضل الإنفاق في سبيل الله عند الآيات التي ذكرت فضل الإنفاق في سبيل الله في هذه السورة.
وفي قوله (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) فيه حث على الإحسان وهو لمصلحة المحسن كما قال تعالى (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم) .
قوله تعالى (وأتموا الحج والعمرة لله)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وأتموا الحج والعمرة لله) يقول: من أحرم بحج أو بعمرة، فليس له أن يحل حتى يتمها، تمام الحج يوم النحر إذا رمى جمرة العقبة وزار البيت فقد حلّ من إحرامه كله، وتمام العمرة إذا طاف بالبيت وبالصفا والمروة فقد حلّ.(1/303)
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)
انظر حديث مسلم تحت الآية (125) من سورة البقرة، وهر حديث جابر الطويل في صفة حجة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفيه:
قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: "قدمت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالبطحاء وهو منيخٌ فقال: أحججت؟ قلت نعم. قال: مما أهللت؟ قلت: لبيك بإهلال كإهلال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال: أحسنت، طف بالبيت وبالصفا والمروة ثم أحل. فطفت بالبيت وبالصفا والمروة، ثم أتيت امرأة من قيس ففلت رأسي، ثم أهللت بالحج، فكنت أفت به حتى كان في خلافة عمر فقال: إن أخذنا بكتاب الله فإنه يأمرنا بالتمام، وإن أخذنا بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنه لم يحل حتى يبلغ الهَدْيُ مَحِلَّه".
(الصحيح 3/720 ح 1795- ك العمرة، ب متى يحل المعتمر) .
قوله تعالى (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله)
ساق البخاري عند ذكره لهذه الآية قول عطاء: الإحصار من كل شيء يحبسه.
وذكر وصله الحافظ ابن حجر وقال: وهي مسألة اختلاف بين الصحابة وغيرهم. فقال كثير منهم: الإحصار من كل حابس حبس الحاج من عدو ومرض وغير ذلك حتى أفتى ابن مسعود رجلاً لدغ بأنه محصر، أخرجه ابن جرير بإسناد صحيح عنه.
وقال النخعي والكوفيون: الحصر الكسر والمرض والخوف، واحتجوا بحديث حجاج بن عمرو (فتح الباري 3/4) . والحديث أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من كسر أو عرج فقد حل".
(أخرجه أبو داود (السنن- الحج ح 1882) والترمذي (السنن- الحج ح 940) وابن ماجه (السنن- المناسك ح 3077) وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. صححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه) . وصححه الحاكم ووفقه الذهبي (المستدرك 1/470) .(1/304)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قال: (الحصر) الحبس كله.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن ابن عباس أنه قال: (الحصر) حصر العدو.
(صححه الحافظ ابن حجر فتح الباري 4/3) .
أخرج البخاري بسنده عن ابن عباس قال: قد أحصر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فحلق رأسه وجامع نساءه ونحر هديه حتى اعتمر قابلاً.
(الصحيح- المحصر- باب 1 ح 1809) .
أخرج البخاري بسنده عن عائشة قالت: دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ضباعة بنت الزبير فقال لها: "لعلك أردت الحج؟ قالت: والله لا أجدني إلا وجعة فقال لها: حجي واشترطي، قولي: اللهم محلي حيث حبستني".
(الصحيح- النكاح- باب 15 ح 5089) .
أخرج الطبري بأسانيد ثابتة عن ابن عمر (فما استيسر من الهدي) قال: الإبل والبقر.
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء حدثنا جويرية عن نافع أن عبيد الله بن عبد الله وسالم بن عبد الله أخبراه أنهما كلما عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ليالي نزل الجيش بابن الزبير فقالا: لا يضرك أن لا تحج العام، وإنا نخاف أن يحال بينك وبين البيت. فقال: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فحال كفار قريش دون البيت, فنحر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هديه، وحلق رأسه. وأشهدُ كم أني قد أوجبت العمرة إن شاء الله، أنطلق، فإن خلِّىَ بيني وبين البيت طفت، وإن حيل بيني وبينه فعلت كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا معه. فأهل بالعمرة من ذي الحليفة، ثم سار ساعة، ثم قال: إنما شأنهما واحد، أشهدُ كم أني قد أوجبت حجة مع عمرتي. فلم يحل منهما حتى دخل يوم النحر وأهدى، وكان يقول: لا يحل حتى يطوف طوافاً واحداً يوم يدخل مكة.
(الصحيح4/4 ح 1807 - ك الحج، ب إذا أحصر المعتمر) .(1/305)
قال البخاري: حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك. وحدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر عن حفصة رضي الله عنهما زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنها قالت: يا رسول الله، ما شأن الناس حَلوا بعمرة ولم تَحلل أنت من عمرتك؟
قال: "إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر".
(صحيح البخاري 3/493 ح 1566- ك الحج، ب التمتع والقرآن والإفراد) ، وأخرجه مسلم (2/902 ح 1229- ك الحج، ب القارن لا يتحلل إلا وقت تحلل المفرد) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي) يقول: من أحرم بحج أو عمرة، ثم حبس عن البيت بمرض يجهده أو عذر يحبسه، فعليه ذبح ما استيسر من الهدي، شاة فما فوقها يذبح عنه. فإن كانت حجة الإسلام، فعليه قضاؤها، وإن كانت حجة بعد حجة الفريضة أو عمرة، فلا قضاء عليه. ثم قال: (ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله) ، فإن كان أحرم بالحج فمحله يوم النحر، وإن كان أحرم بعمرة فمحل هديه إذا أتى البيت.
أخرج البخاري بسنده عن ابن عباس قال: سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عمن حلق قبل أن يذبح ونحوه؟ فقال: "لا حرج لا حرج".
(الصحيح- الحج- باب الذبح قبل الحلق ح 1721) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند صحيح عن إبراهيم النخعي عن علقمة (ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله) فإن عجل فحلق قبل أن يبلغ الهدي محله فعليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك.
قال إبراهيم: فذكرته لسعيد بن جبير. فقال: هذا قول ابن عباس وعقد بيده ثلاثين.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مقاتل بن حيان قوله (حتى يبلغ الهدي محله) ومحله مكة فإذا بلغ الهدي مكة حل من إحرامه وحلق رأسه، وعليه الحج من قابل وذلك عن عطاء بن أبي رباح.(1/306)
قوله تعالى (فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك)
أخرج البخاري (الصحيح- تفسير سورة البقرة- باب 32 ح 4517) ومسلم (الصحيح -الحج- باب 10 ح 81) عن كعب بن عجرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف عليه ورأسه يتهافت قملاً فقال: أيؤذيك هوامك؟ قلت: نعم. قال: فاحلق رأسك. قال: ففي نزلت هذه الآية (فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) فقال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صم ثلاثة أيام أو تصدق بعذق بين ستة مساكين أو انسك ما تيسر". واللفظ لمسلم.
وفي رواية لمسلم بلفظ: "احلق رأسك ثم اذبح شاة نُسكاً".
(الصحيح- الحج ح 84) .
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (فمن كان منكم مريضاً) يعني بالمرض: أن يكون برأسه أذى أو قرح.
أخرج الطبري بأسانيد عن مجاهد وعطاء بن أبي رباح أنهما قالا: ما كان في القرآن أو كذا، أو كذا فصاحبه بالخيار أي ذلك شاء فعل.
(وصححه الحافظ ابن حجر في تغليق التعليق (5/206) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: النسك بمكة أو بمنى.
قوله تعالى (فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي من لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام)
قال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن ابن عمر رضي الله عنهما قال "تمتع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج، فتمتع الناس مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي، ومنهم من لم يهد، فلما قدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(1/307)
مكة قال الناس: "من كان منكم أهدى فانه لا يحل لشيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج، فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ... " الحديث.
(الصحيح 3 /630 ح 1691- ك الحج، ب من ساق البدن معه) ، وأخرجه مسلم (2/901 ح 1227- ك الحج، ب وجوب الدم على المتمتع ... ) .
قال البخاري: حدثنا إسحاق بن منصور، أخبرنا النضر، أخبرنا شعبة، حدثنا أبو جمرة قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن المتعة فأمرني بها، وسألته عن الهدي، فقال: فيها جزور أو بقرة أو شاة أو شرك في دم. قال: وكأن ناساً كرهوها، فنمت فرأيت في المنام كأن إنساناً ينادي: حج مبرور، ومتعة متقبلة. فأتيت ابن عباس رضي الله عنهما فحدثته، فقال: الله أكبر، سنة أبي القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال: وقال آدم ووهب بن جرير وغندر عن شعبة (عمرة متقبلة، وحج مبرور) .
(الصحيح 3/534 ح 1688- ك الحج, ب (فمن تمتع العمرة إلى الحج ... ) .
وقال البخاري: وقال أبو كامل فضيل بن حسين البصري، حدثنا أبو معشر، حدثنا عثمان بن غياث، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن متعة الحج فقال: "أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع وأهللنا، فلما قدمنا مكة قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي"، فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب، وقال: "من قلد الهدي فإنه لا يحل له حتى يبلغ الهدي محله". ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج، فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وقد تم حجنا وعلينا الهدي كما قال الله تعالى (فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم) إلى أمصاركم، الشاة تجزى، فجمعوا نسكين في عام بين الحج والعمرة، فإن الله تعالى أنزله في كتابه وسنّه نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(1/308)
وأباحه للناس غير أهل مكة، قال الله (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) وأشهر الحج التي ذكر الله تعالى: شوال وذو القعدة وذو الحجة، فمن تمتع في هذه الأشهر فعليه دم أو صوم".
(الصحيح 3/433 ح 1572- ك الحج, ب قول الله تعالى (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) .
أخرج البخاري بسنده عن ابن عباس قال: كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من الفجور في الأرض، وكانوا يسمون المحرم صفر ويقولون: إذا برأ الدبر وعفا الأثر، حلّت العمرة لمن اعتمر. قال فقدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه رابعة مهلين بالحج وأمرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يجعلوها عمرة، قالوا: يا رسول الله أي الحلّ؟ قال: "الحل كله".
(الصحيح- كتاب مناقب الأنصار- باب أيام الجاهلية ح 2832) .
وقد ساق الحافظ ابن حجر، هذا الحديث في أسباب نزول هذه الآية في (العجاب في بيان الأسباب) .
أخرج البخاري بسنده عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: أنزلت آية المتعة في كتاب الله، ففعلناها مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم ينزل قرآن يُحرمه ولم ينه عنها حتى مات.
(الصحيح - تفسير سورة البقرة، ب 33 ح 4518) ، وأخرجه مسلم في صحيحه (2/900 ح 172) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند صحيح عن علقمة (فإذا أمنتم) : فإذا برأتم.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن عروة في قوله (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) قال يقول: إذا أمنت حين تحصر من كسرك من وجعك فعليك أن تأتى البيت فتكون متعة لك أبي قابل، ولا حل لك حتى تأتي البيت.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند حسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) يقول: من أحرم بالعمرة في أشهر الحج.(1/309)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) من يوم الفطر إلى يوم عرفة فعليه ما استيسر من الهدي.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية (فمن لم يجد) يعني الهدي إذا كان متمتعاً.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن سعيد بن جبير أنه قال في المتمتع: إذا لم يجد الهدي صام يوماً قبل يوم التروية ويوم التروية ويوم عرفة.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام) آخرهن يوم عرفة من ذي الحجة.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن عكرمة قال: صيام ثلاثة أيام يعني أيام العشر من حين يحرم آخرها يوم عرفة.
أخرج البخاري بسنده عن ابن عباس قال: يطوف الرجل بالبيت ما كان حلالاً حتى يهل بالحج، فإذا ركب إلى عرفة فمن تيسر له هدية من الإبل أو البقر أو الغنم ما تيسر له من ذلك أي ذلك شاء غير إن لم يتيسر له فعليه ثلاثة أيام في الحج وذلك قبل يوم عرفة فإن كان آخر يوم من الأيام الثلاثة يوم عرفة فلا جناح عليه.
(الصحيح- تفسير سورة البقرة ح 4521) .
أخرج البخاري بسنده عن ابن عمر مرفوعاً: فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.
(الصحيح- الحج- باب 104 ح 1691) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (وسبعة إذا رجعتم) قال: هي رخصة إن شاء صامها في الطريق وإن شاء صامها بعد ما يرجع إلى أهله.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) يقول: المتعة لأهل الأمصار ولأهل الآفاق وليس على أهل مكة.(1/310)
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)
قوله تعالى (الحج أشهر معلومات ... )
أخرج البخاري بسنده عن ابن عباس قال: ... وأشهر الحج التي ذكر الله تعالى: شوال وذو القعدة وذو الحجة فمن تمتع في هذه الأشهر فعليه دم أو صوم.
(الصحيح- الحج، ب 37 ح 1572) .
أخرج الطبري والحاكم عن ابن عمر قال: (الحج أشهر معلومات) قال: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة.
وصححه الحاكم ووافقه الذهبي (المستدرك 2/276) وصححه الحافظ ابن حجر (الفتح 3/420) .
قوله تعالى (فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند حسن عن ابن عمر (فمن فرض فيهن الحج) قال: من أهلّ بالحج.
أخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه".
(صحيح البخاري- الحج، ب 4 ح 1521) ، (وصحيح مسلم- الحج ح 1350) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عباس (فلا رفث) التعريض بذكر الجماع.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عباس (الرفث) الجماع.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عمر (الرفث) إتيان النساء والتكلم بذلك.
أخرج البخاري (الصحيح- الإيمان ح 48) ومسلم (الصحيح- الإيمان ح 64) عن عبد الله ابن مسعود مرفوعاً: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر".
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عمر (الفسوق) إتيان معاصي الله في الحرم.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند حسن عن ابن عباس قال (الفسوق) المعاصي.(1/311)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عمر (الجدال في الحج) السباب والمراء والخصومات.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند حسن عن ابن عباس (الجدال) أن تماري صاحبك حتى تغضبه.
وقوله تعالى (وما تفعلوا من خير يعلمه الله)
يبينه قوله تعالى (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره) سورة الزلزلة آية (7) .
قوله تعالى (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ... )
أخرج البخاري بسنده عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس فأنزل الله تعالى (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) .
(الصحيح- الحج، ب 6 ح 1523) .
قوله تعالى (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم)
أخرج البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت عكاظ ومجنّة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية، فتأثموا أن يتجروا في المواسم فنزلت (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم) في مواسم الحج.
(الصحيح- تفسير سورة البقرة، ب 34 ح 4519) .
أخرج أحمد: عن أبي أمامة التيمى قال: قلت لابن عمر: إلا قوم نكرَى فهل لنا حج؟ قال: أليس تطوفون بالبيت وتأتون المعرَّف، وترمون الجمار، وتحلقون رؤوسكم؟ فقلنا بلى، قال: جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأله عن الذي سألتني عنه فلم يدر ما يقول له حتى نزل جبريل عليه السلام عليه بهذه الآية (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) إلى آخر الآية، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنتم حجاج".
(المسند ح 6434) ، وأخرجه أبو داود (السنن- المناسك، ب الكرى ح 1733) ، والطبري وابن أبي حاتم وعبد الرزاق والحاكم في (المستدرك 1/449) وصححه ووافقه الذهبي. وقال ابن كثير: وهو قوي جيد (التفسير 1/349) . وصححه الألباني في (صحيح سنن أبي داود) ، وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند) .(1/312)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)
قوله تعالى (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين)
انظر الآية رقم (233) من السورة نفسها.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن المعرور بن سويد قال رأيت ابن عمر حين دفع من عرفة كأني أنظر إليه، رجل أصلع على بعير له يوضع وهو يقول: إنا وجدنا الإفاضة الإيضاع.
والإيضاع: أن يعد الرجل بعيره ويحمله على العدو الحثيث.
قال الترمذي: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان بن عيينة عن سفيان الثوري
عن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الحج عرفات، الحج عرفات، الحج عرفات، أيام منى ثلاث (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه) ومن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج.
قال ابن أبي عمر: قال سفيان بن عيينة، وهذا أجود حديث رواه الثوري.
(جامع الترمذي 5/214 ح 2975) وأخرجه أبو داود (2/485 ح 1949) والنسائي (5/256) وابن ماجة (رقم 3015) والحاكم في المستدرك (2/278) ، من طرق عن بكير بن عطاء به. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال الحاكم. حديث صحيح ولم يخرجاه وصحح إسناده الحافظ ابن كثير (التفسير 1/350) . وصححه الألباني (صحيح ابن ماجة رقم 2441) .
قال ابن ماجة: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وعلي بن محمد، قالا: ثنا وكيع. ثنا إسماعيل بن أبي خالد عن عامر، يعني الشعبي، عن عروة بن مضرس الطائي؛ أنه حج، على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فلم يدرك الناس إلا وهم يجمع.
قال، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقلت: يا رسول الله!. إني أنضيت راحلتي.
وأتعبت نفسي. والله! إن تركت من جبل إلا وقفت عليه. فهل لي من حج؟
فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من شهد معنا الصلاة، وأفاض من عرفات، ليلاً أو نهاراً فقد قضى تفثه وتم حجه".(1/313)
(السنن 2/1004 ح 3016- ك المناسك، ب من أتي عرفة في الفجر…) ، وأخرجه أبو داود (2/486 ح 1950) ، والنسائي (5/263) ، والترمذي (3/229 ح 891) ، وأحمد في المسند (4/261) من طرق، عن الشعبي به. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وصححه الألباني (صحيح ابن ماجة رقم 2442)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن عمرو بن ميمون قال: سألت عبد الله ابن عمرو عن المشعر الحرام فسكت حتى إذا هبطت يدي رواحلنا بالمزدلفة قال: أين السائل عن المشعر الحرام؟ هذا المشعر الحرام.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عمر: (المشعر الحرام) : المزدلفة كلها.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مجاهد قوله (لمن الضالين) قال: لمن الجاهلين.
قوله تعالى (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله ... )
قال الشيخ الشنقيطي: عند قوله تعالى (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) لم يبين هنا المكان المأمور بالإفاضة منه المعبر عنه بلفظة (حيث) ، التي هي كلمة تدل على المكان كما تدل (حين) على الزمان، ولكنه يبين ذلك بقوله (فإذا أفضتم من عرفات) .
أخرج البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحُمس، وكان سائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها، فذلك قوله تعالى (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) .
(الصحيح- تفسير سورة البقرة ح 4520) ، وأخرجه مسلم في صحيحه (2/893-894 ح 1219) .
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه بأنه قال: "سئل أسامة وأنا جالس: كيف كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسير في حجة الوداع حين دفع؟ قال: كان يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص".(1/314)
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)
قال هشام والنص فوق العنق. قال أبو عبد الله: فجوة: متسع، والجمع فجوات وفجاء، وكذلك ركوة وركاء. مناص: ليس حين فرار.
العنقُ. سير مسبطِر للإبل والدابة (القاموس المحيط باب: ع ن ق) . (الصحيح 3/518 ح 1666 كَ الحج، ب السير إذا دفع عن عرفة) .
أخرج البخاري بسنده عن ابن عباس قال: يطوف الرجل بالبيت ما كان حلالاً حتى يهل بالحج، فإذا ركب إلى عرفة فمن تيسر له هدية من الإبل أو البقر أو الغنم ما تيسر له من ذلك أي ذلك شاء غير إن لم يتيسر له فعليه ثلاثة أيام في الحج وذلك قبل يوم عرفة فإن كان آخر يوم من الأيام الثلاثة يوم عرفة فلا جناح عليه ثم لينطلق حتى يقف بعرفات من صلاة العصر إلى أن يكون الظلام ثم ليدفعوا من عرفات إذا أفاضوا منها حتى يبلغوا جمعاً الذي يبيتون به ثم ليذكر الله كثيراً، وأكثروا التكبير والتهليل قبل أن تصبحوا، ثم أفيضوا فإن الناس كانوا يفيضون، وقال الله تعالى: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم) حتى ترموا الجمرة.
(الصحيح ح 4521- ك التفسير، سورة البقرة، ب ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) .
قوله تعالى (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم ... ) قال: إهراقه الدماء.
وبه عن مجاهد (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم)
قال: تفاخرت العرب بينها بفعل آبائها يوم النحر حين فرغوا فأمروا بذكر الله مكان ذلك.
أخرج ابن أبي حاتم بسند حسن عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يقفون في المواسم فيقول الرجل منهم: كان أبي يطعم ويحمل الحمالات ويحمل الديات ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم فأنزل الله تعالى على نبيه محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فاذكروا الله كذكركم آباءكم) يعني: ذكر آبائهم في الجاهلية أو أشد ذكراً.(1/315)
فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند صحيح عن عطاء بن أبي رباح (فاذكروا الله كذكركم آباءكم) قال: هو الصبي أول ما يلهج من الكلام يا أبه، يا أمه.
قوله تعالى (فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق)
أخرج ابن أبي حاتم بسند حسن عن ابن عباس قال: كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيقولون: اللهم اجعله عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن، لا يذكرون من أمر الآخرة شيئاً فأنزل الله فيهم (فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق) .
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا) يعني: نصراً ورزقاً. ولا يسأل لآخرته شيئاً.
قوله تعالى (ومنهم من يقول ربنا آتنا الدنيا حسنة والآخرة حسنة وقنا عذاب النار)
أخرج البخاري بسنده عن أنس: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار".
(الصحيح- تفسير سورة البقرة- باب 36 ح 4522) .
قال مسلم: حدثنا أبو الخطاب، زياد بن يحيى الحساني. حدثنا محمد بن أبي عدي عن حميد عن ثابت، عن أنس؛ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عاد رجلاً من المسلمين قد خفت فصار مثل الفرخ. فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه؟. "قال: نعم. كنت أقول: اللهم! ما كنت معاقبي به في الآخرة، فعجله لي في الدنيا. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "سبحان الله! لا تطيقه -أو لا تستطيعه- أفلا قلت: اللهم! آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" قال، فدعا الله له. فشفاه.
(الصحيح 4/2068-2069 ح 2688- ك الذكر والدعاء..، ب كراهة الدعاء بتعجيل العقوبة في الدنيا) .(1/316)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) قال في الدنيا عافية وفي الآخرة عافية.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة (ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) قال: هذا عبد نوى الآخرة لها شخص ولها أنفق ولها عمل وكانت الآخرة هي سدمه وطلبته ونيته.
قوله تعالى (أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب)
أخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم والحاكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أتاه رجل فقال: إني آجرت نفسي من قوم على أن أخدمهم ويحجوا بي فقال ابن عباس: هذا من الذين قال الله (أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب) .
وصححه الحاكم ووافقه الذهبي (المستدرك 1/481) .
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مجاهد (سريع الحساب) إحصاء سريع الإحصاء.
قوله تعالى (واذكروا الله في أيام معدودات ... )
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (واذكروا الله في أيام معدودات) يعني أيام التشريق.
أخرج مسلم بسنده عن نبيشة الهذلي مرفوعاً: أيام التشريق أيام أكل وشرب.
(الصحيح -الصيام- 23 ح 114) .
قوله تعالى (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى ... )
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند حسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (فمن تعجل في يومين) بعد يوم النحر (فلا إثم عليه) يقول: من نفر من منى في يومين بعد النحر فلا إثم عليه (ومن تأخر فلا إثم عليه) في تأخره فلا حرج عليه.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن عطاء بن أبي رباح في التعجل في يومين: أي في النهار يخرج قال: إذا زالت الشمس إلى الليل.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (لمن اتقى) معاصي الله عز وجل.(1/317)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)
قوله تعالى (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله، أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند حسن عن ابن عباس: لما أصيبت هذه السرية أصحاب خبيب بالرجيع بين مكة والمدينة، فقال رجال من المنافقين: يا ويح هؤلاء المفتونين الذين هلكوا هكذا! لا هم قعدوا في بيوتهم، ولا أدوا رسالة صاحبهم! فأنزل الله عز وجل في ذلك من قول المنافقين، وما أصاب أولئك النفر من الشهادة والخير من الله: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا) أي: ما يظهر بلسانه من الإسلام (ويشهد الله على ما في قلبه) أي: من النفاق (وهو ألد الخصام) أي: ذو جدال إذا كلمك وراجعك (وإذا تولى) أي: خرج من عندك (سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد) أي: لا يحب عمله ولا يرضاه (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد. ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله) الذين شروا أنفسهم لله بالجهاد في سبيل الله والقيام بحقه حتى هلكوا على ذلك -يعني هذه السرية-.
أخرج الشيخان عن عائشة مرفوعاً: "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم".
(صحيح البخاري- تفسير سورة البقرة، ب 37 ح 4523) (وصحيح مسلم- العلم، ب الألد الخصم ح 2668) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (ألد الخصام) : ظالم لا يستقيم.(1/318)
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة (وهو ألد الخصام) : شديد القسوة في معصيته لله جدل بالباطل.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن ابن عباس (وإذا تولى) أي خرج من عندك.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن ابن عباس (ويهلك الحرث) : الزرع.
(والنسل) قال: نسل كل دابة.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن النضر بن عربي عن مجاهد قيل له: يا أبا الحجاج: وكيف هلاك الحرث والنسل؟ قال: يلي في الأرض فيعمل فيها بالعدوان والظلم فيحبس بذلك القطر من السماء، فيهلك بحبس القطر الحرث والنسل.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن ابن عباس (والله لا يحب الفساد) أي لا يحب عمله ولا يرضى به.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن أبي رجاء العطاردي قال: سمعت علياً في هذه الآية (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا) إلى (والله رؤوف بالعباد) قال علي: اقتتلا ورب الكعبة.
وأخرجه ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بلفظ: اقتتل اقتتل هذان.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مجاهد في قول الله (ولبئس المهاد) قال: بئس ما مهدوا لأنفسهم.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند حسن عن المغيرة بن شعبة قال: كنا في غزاة، فتقدم رجل فقاتل حتى قتل، فقالوا: ألقى هذا بيديه إلى التهلكة، فكتب فيه أبي عمر - رضي الله عنه -، فكتب عمر: ليس كما قالوا هو من الذين قال الله فيهم (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله) .
وهذا لفظ ابن أبي حاتم.(1/319)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن ابن عباس (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله) أي قد شروا أنفسهم من الله بالجهاد في سبيله والقيام بحقه حتى هلكوا على ذلك يعني: السرية.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله) قال: هم المهاجرون والأنصار.
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان) الآية.
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله عز وجل (ادخلوا في السلم) قال: ادخلوا في الإسلام جميعاً.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن قتادة (في السلم) يعني الموادعة.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (ادخلوا في السلم كافة) قال: ادخلوا في الإسلام جميعاً (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) يقول: خطاياه.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن ابن عباس في قوله (خطوات الشيطان) يقول: عمله.
وينظر تفسير آية (168) عند قوله تعالى (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) .
قوله تعالى (إن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مقاتل بن حيان (فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات) يعني بالبينات: ما أنزل الله من الحلال والحرام.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية (فاعلموا أن الله عزيز حكيم) يقول: عزيز في نقمته إذا انتقم، حكيم في أمره.
قوله تعالى (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة)
قال الطبراني: حدثنا علي بن عبد العزيز، ثنا أبو غسان، ثنا عبد السلام بن حرب، عن أبي خالد الدالاني، عن المنهال بن عمرو، عن أبي عبيدة، عن(1/320)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)
مسروق، عن عبد الله بن مسعود (ح) وحدثنا محمد بن النضر الأزدي وعبد الله ابن أحمد بن حنبل والحضرمي، قالوا: ثنا إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة الحراني، ثنا محمد بن سلمة الحراني، عن أبي عبد الرحيم، عن زيد بن أبي أنيسة، عن المنهال بن عمرو، عن أبي عبيدة بن عبد الله، عن مسروق بن الأجدع، ثنا عبد الله بن مسعود، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم قياماً أربعين سنة، شاخصة أبصارهم إلى السماء ينتظرون فصل القضاء، قال: وينزل الله -عز وجل- في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي، ثم ينادي مناد: أيها الناس ألم ترضوا من ربكم ... " فذكر الحديث بطوله في رؤية المؤمنين ربهم عز وجل، وإعطاء المؤمنين نورهم كل على قدر عمله، وصفة الجنة ونعيمها ودخول المؤمنين إليها ... إلخ.
(المعجم الكبير 9/416 ح 9763) . وأخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في (السنة 2/520 ح 1203) ، والحاكم في المستدرك (2/376-377) ، وابن مردويه في تفسير -كما في تفسير ابن كثير (1/248-249) من طرق عن المنهال بن عمرو به نحوه. قال ابن منده- وقد أخرجه في كتاب الإيمان. إسناد صحيح (حاشية العلل للدارقطني 5/244) وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ، ووافقه الذهبي.
وقال المنذري: رواه ابن أبي الدنيا والطبراني من طرق، أحدها صحيح. (الترغيب 4/391) . وقال الهيثمي: رواه الطبراني من طرق، رجال أحدها رجال الصحيح غير أبي خالد الدالاني، وهو ثقة. (مجمع الزوائد 10/343) . وحسن إسناده الحافظ الذهبي، قال الألباني عقبه: هو كما قال أو أعلى. ثم نقل عن الذهبي قوله في الأربعين: حديث صحيح. (مختصر العلو ص 110-111 ح 69) . هذا وقد ذكر الحافظ الدارقطني خلافاً على المنهال بن عمرو في رفع هذا الحديث ووقفه، ثم صحح الحديث من الطريقين الذين رواهما الطبراني، فقال: والصحيح حديث أبي خالد الدالاني وزيد بن أبي أنيسة، عن المنهال، عن أبي عبيدة، عن مسروق، عن عبد الله مرفوعاً (علل الدارقطني 5/243-244، سؤال رقم 854) .
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة) يقول: والملائكة يجيئون في ظلل من الغمام والله تبارك وتعالى يجيء فيما يشاء. وهي في بعض القراءة (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام) وهي كقوله (ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا)) الفرقان آية 25.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام) وذلك يوم القيامة.(1/321)
سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)
قوله تعالى (سل بني إسرائيل كم آتياهم من آية بينة ... ) الآية
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة) ما ذكر الله في القرآن وما لم يذكر، وهم اليهود.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية (سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة) قال: آتاهم الله آيات بينات: عصى موسى ويده وأقطعهم البحر وأغرق عدوهم وهم ينظرون وظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى.
وقوله تعالى (ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب)
وبه عن أبي العالية قوله (ومن يبدل نعمة الله) يقول: من يكفر بنعمة الله من بعد ما جاءته. وبنحوه أخرجه الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد.
قوله تعالى (زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا)
بين الله عز وجل المزين لهم في عدة مواطن كما في قوله تعالى (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم) (النحل آية 4) . وقوله تعالى (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً فإن الله يضل من يشاء) (فاطر آية 8) . وقوله تعالى (وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم) (فصلت 25) .
قوله تعالى (والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند صحيح عن قتادة (والذين اتقوا فوقهم) قال: فوقهم في الجنة.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة) لم يبين هنا فوقية هؤلاء المؤمنين على هؤلاء الكفرة، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر كقوله (فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الآرائك ينظرون) وقوله (أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون) .(1/322)
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
قوله تعالى (والله يرزق من يشاء بغير حساب)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن سعيد بن جبير (بغير حساب) قال: لا يحاسب الرب.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن ميمون بن مهران (بغير حساب) قال: غدقاً.
قوله تعالى (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما، قوله (كان الناس أمة واحدة) قال: كانوا على الإسلام كلهم.
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد (كان الناس أمة واحدة) قال يعني بالناس: آدم.
أخرج الطبري والحاكم بسند صحيح عن ابن عباس: كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله: كان الناس أمة واحدة فاختلفوا.
(وصححه الحاكم ووافقه الذهبي المستدرك 2/546) . وصحح إسناده ابن كثير في التفسير (1/250) .
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أُبي بن كعب في قول الله تعالى (كان الناس أمة واحدة) قال: كانوا أمة واحدة حيث عرضوا على آدم ففطرهم الله يومئذ على الإسلام وأقروا له بالعبودية، وكانوا أمة واحدة مسلمين كلهم ثم اختلفوا من بعد آدم (وأنزل معهم الكتاب بالحق) قال: أنزل الكتاب عند الاختلاف.(1/323)
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
قوله تعالى (وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أُبيَّ قوله (وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه) يعني بني إسرائيل أوتوا الكتاب والعلم من بعد ما جاءتهم البينات.
وبه عن أُبيَّ في قوله (بغيا بينهم) يقول: بغياً على الدنيا وطلب ملكها وزخرفها وزينتها، أيهم يكون له الملك والمهابة في الناس، فبغى بعضهم على بعض فضرب بعضهم رقاب بعض.
وقوله تعالى (فهدى الله الذين آمنوا لا اختلفوا فيه من الحق بإذنه)
اخرج البخاري (الصحيح- الجمعة- باب فرض الجمعة ح 876) ومسلم (الصحيح - الجمعة ح 855) وأحمد (المسند 2/274) عن أبي هريرة مرفوعاً: "نحن الآخرون الأولون يوم القيامة نحن أول الناس دخولاً الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتينا الكتاب من بعدهم فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فهذا اليوم الذي هدانا الله له والناس لنا فيه تبع غداً لليهود وبعد غد للنصارى". واللفظ لأحمد.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي بن كعب (فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه) يقول: فهداهم الله عند الاختلاف، أنهم أقاموا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف. أقاموا على الإخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف، واعتزلوا الاختلاف، فكانوا شهداء على الناس يوم القيامة. كانوا شهداء على قوم نوح، وقوم هود وقوم صالح، وقوم شعيب، وآل فرعون، أن رسلهم قد بلغتهم وأنهم كذبوا رسلهم.
قوله تعالى (والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية في قول الله تعالى (والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) يقول: يهديهم للخروج من الشبهات والضلالات والفتن.(1/324)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
قوله تعالى (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب)
ينظر آية (177) من هذه السورة في قوله تعالى (والصابرين في البأساء والضراء) .
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: أخبر الله سبحانه المؤمنين أن الدنيا دار بلاء وأنه مبتليهم فيها، وأخبر أنه هكذا فعل بأنبيائه وصفوته لتطيب أنفسهم فقال: (مستهم البأساء والضراء) .
أخرج البخاري بسنده عن ابن أبي مليكة قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذِبوا) خفيفة، ذهب بها هناك وتلا (حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب) فلقيت عروة بن الزبير فذكرت له ذلك فقال: قالت عائشة: معاذ الله، والله ما وعد الله رسوله من شيء قط إلا علم أنه كائن قبل أن يموت ولكن لم يزل البلاء بالرسل حتى خافوا أن يكون من معهم يكذبونهم. فكانت تقرؤها (وظنوا أنهم قد كذبوا) مثقلة.
(الصحيح- تفسير سورة البقرة ح 2524 و2525)
وفي تفسير سورة يوسف عند قوله تعالى (حتى إذا استيأس الرسل) قال عروة: فما هذه الآية؟ قالت: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم فطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من، قومهم وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك.
(الصحيح- تفسير سورة يوسف ح4695) .
أخرج البخاري بسنده عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال:(1/325)
"قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد من دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون".
(الصحيح- الإكراه، ب 1 ح 6943) .
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى (ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء) قال: نزلت في يوم الأحزاب, أصاب النبي وأصحابه يومئذ بلاء وحصر فكانوا كما قال الله عز وجل (وبلغت القلوب الحناجر) .
قوله تعالى (يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل ... )
أخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة مرفوعاً: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ. بمن تعول".
(الصحيح- النفقات، ب 2 ح 5356) .
وأخرج أحمد (المسند 2/471) ، وأبو داود (السنن- الزكاة، ب في صلة الرحم 2/320) ، والنسائي (الزكاة، ب الصدقة عن ظهر غنى 2/62) ، وابن حبان (موارد الظمآن ح 828) ، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 1/415) عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال يوماً لأصحابه: "تصدقوا". فقال رجل: يا رسول الله عندي دينار. قال: "أنفقه على نفسك" قال: إن عندي آخر. قال: "أنفقه على زوجتك". قال: إن عندي آخر. قال: "أنفقه على ولدك". قال: إن عندي آخر. قال: "أنفقه على خادمك". قال: إن عندي آخر قال: "أنت أبصر".
وينظر تفسير آية (83 و177) من هذه السورة.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (يسألونك ماذا ينفقون) قال: سألوه فأفتاهم في ذلك فللوالدين والأقربين وما ذكر معهما.(1/326)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)
قوله تعالى (وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم)
ينظر تفسير آية (197) من هذه السورة.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة قوله (فإن الله به عليم) قال: محفوظ ذلك عند الله عالم به شاكر له وإنه لا شيء أشكر من الله ولا أجزأ بخير من الله.
قوله تعالى (كتب عليكم القتال وهو كره لكم ... ) الآية
أخرج الشيخان بسنديهما عن ابن عباس مرفوعاً: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا".
(صحيح البخاري- الجهاد، ب فضل الجهاد ح 2783) ، (وصحيح مسلم- الإمارة، ب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد ح 1353) .
أخرج مسلم بسنده عن أبي هريرة مرفوعاً: "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة نفاق".
(الصحيح- الإمارة، ب ذم من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو) ، والبخاري في (الصحيح - الجهاد، ب الغدوة والروحة في سبيل الله ح 2792) ومسلم (الصحيح- الإمارة، ب فضل الغدوة والروحة في سبيل الله ح 1881) عن سهل بن سعد الساعدي مرفوعاً: "لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها".
أخرج عبد الرزاق بسند صحيح عن قتادة في قوله (وهو كره لكم) قال: شديد عليكم.
قوله تعالى (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم)
قال الشيخ الشنقيطي: لم يصف هذا الخير هنا بالكثرة وقد وصفه في قوله (فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيراً كثيراً) .
قوله تعالى (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به ... )
أخرج الطبري وابن أبي حاتم عن جندب بن عبد الله أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث رهطاً وبعث عليهم أبا عبيدة بن الجراح أو عبيدة بن الحارث، فلما ذهب ينطلق بكى صبابة أبي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجلس. فبعث عليهم مكانه عبد الله بن جحش(1/327)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)
وكتب له كتاباً وأمره ألا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا، فقال: "لا تكرهن أحداً على السير معك من أصحابك". فلما قرأ الكتاب، استرجع، وقال: سمعاً وطاعة لله ولرسوله. فخبرهم الخبر وقرأ عليهم الكتاب، فرجع رجلان ومضى بقيتهم، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه. ولم يدروا أن ذلك اليوم من رحب أو من جمادى؟ فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الشهر الحرام، فأنزل الله تعالى (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير) الآية.
وأخرجه البيهقي في (السنن الكبرى 9/11) ، وحسنه الحافظ ابن حجر (العجاب في بيان الأسباب ق 87 ب) وصححه السيوطي في الدر المنثور.
قوله تعالى (والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مقسم مولى ابن عباس قوله (والمسجد الحرام) يقول: وصد عن المسجد الحرام.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة (وإخراج أهله منه) قال: إخراج محمد وأصحابه من مكة أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده المتقدم عن جندب بن عبد الله قوله (والفتنة أكبر من القتل) قال: في الشرك.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (وإخراج أهله منه أكبر عند الله) من ذلك ثم عيَّر المشركين بأعمالهم أعمال السوء فقال (والفتنة أكبر من القتل) أي: الشرك بالله أكبر من القتل.
قوله تعالى (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) لم يبين هنا هل استطاعوا ذلك أولا؟ ولكنه بين في موضع(1/328)
آخر أنهم لم يستطيعوا، وأنهم حصل لهم اليأس من رد المؤمنين عن دينهم، وهو قوله تعالى (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم) الآية.. وبين في مواضع أخر أنه مظهر دين الإسلام على كل دين كقوله في براءة، والصف، والفتح (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله) .
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن عروة بن الزبير (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) أي هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه غير تائبين ولا نازعين.
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) يعني: كفار قريش.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن محمد بن كعب قوله (ومن يرتدد منكم عن دينه) قال: من يرتد عن الحق.
قوله تعالى (إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله والله غفور رحيم)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن جندب بن عبد الله قال: بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رهطاً وبعث عليهم عبد الله بن جحش فقال بعض المشركين: إن لم يكونوا أصابوا وزراً فليس لهم أجر، فأنزل الله عز وجل: (إن الذين آمنوا ... ) الآية كلها.
قوله تعالى (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما) .
أخرج أحمد بسنده عن عمر بن الخطاب قال: لما نزل تحريم الخمر قال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت الآية في سورة البقرة (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير) قال: فدعي عمر فقرئت عليه. فقال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت الآية التي في سورة النساء (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) فكان منادي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أقام الصلاة(1/329)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)
نادى: أن لا يقربن الصلاة سكران، فدعي عمر فقرئت عليه. فقال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً. فنزلت الآية التي في المائدة. فدعي عمر فقرئت عليه فلما بلغ (فهل أنتم منتهون) قال عمر: انتهينا انتهينا.
(المسند ح 378) ، وأبو داود (السنن، الأشربة ح 3670) ، والترمذي (السنن- التفسير ح 3049) ، والحاكم (المستدرك 2/278) ، وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند ونقل ابن كثير تصحيحه عن علي بن المديني، وصححه الترمذي والحاكم ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي.
أخرج البخاري بسنده عن ابن عمر قال: سمعت عمر - رضي الله عنه - على منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أما بعد أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والخمر ما خامر العقل".
(الصحيح- تفسير سورة المائدة- باب 10 ح 4619) .
قال مسلم: حدثنا أبو الربيع العتكي وأبو كامل قالا: حدثنا حماد بن زيد، حدثنا أيوب عن نافع، عن ابن عمر. قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كل مسكر خمر. وكل مسكر حرام. ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها، لم يتب، لم يشربها في الآخرة".
(الصحيح 3/1587 ح 2003- ك الأشربة، ب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام) .
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن ابن عمر قال: الميسر هو القمار.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن ابن عباس قال: الميسر هو القمار.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند حسن عن ابن عباس قوله (قل فيهما إثم كبير) يعني ما ينقص من الدين عند شربها (ومنافع) يقول: فيما يصيبون من لذتها وفرحها إذا شربوا، (وإثمهما أكبر من نفعهما) يقول ما يذهب من الدين والإثم فيه، أكبر مما يصيبون في فرحها إذا شربوها.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (قل فيهما إثم كبير) لم يبين هنا ما هذا الإثم الكبير؟ ولكنه بين في آية أخرى أنه إيقاع العداوة والبغضاء بينهم والصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهي قوله (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون) .(1/330)
قوله تعالى (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ... ) الآية
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند حسن عن ابن عباس (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو) قال: العفو ما فضل عن أهلك.
وينظر تفسير آية (215) من هذه السورة.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند حسن عن ابن عباس قوله (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو) قال: كان هذا قبل أن تفرض الصدقة.
قال مسلم: حدثنا قتيبة بن سعيد. حدثنا ليث. ح وحدثنا محمد بن رمح.
أخبرنا الليث عن أبي الزبير، عن جابر. قال: أعتق رجل من بني عذرة عبداً له عن دبر. فبلغ ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "ألك مال غيره؟ " فقال: لا.
فقال: "من يشتريه مني؟ " فاشتراه نعيم بن عبد الله العدوي بثمانمائة درهم.
فجاء بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدفعها إليه. ثم قال: "ابدأ بنفسك فتصدق عليها. فإن فضل شيء فلأهلك. فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك. فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا" يقول: فبين يديك وعن يمينك وعن شمالك.
(الصحيح 2/692-693 ح 997- ك الزكاة، باب الإبتداء في النفقة بالنفس....) وهذا على القول بأن العفو معناه: ما فضل عن مال المسلم.
قوله تعالى (كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند حسن عن ابن عباس (كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة) قال: يعني في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها.
وأخرج عبد الرزاق بسند صحيح عن قتادة في قوله تعالى (لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة) قال: يقول: لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة، فتعرفون فضل الآخرة على الدنيا.(1/331)
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
قوله تعالى (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ... ) الآية
(أخرج أحمد (المسند ح 3002) ، والطبري وابن أبي حاتم في تفسيريهما والنسائي (السنن- الوصايا، باب ما للوصي من مال اليتيم 5/276) والحاكم (المستدرك 2/278) عن ابن عباس قال: لما نزلت (ولا تقربوا هال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) عزلوا أموال اليتامى حتى جعل الطعام يفسد واللحم ينتن فذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزلت (وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح) قال: فخالطوهم.
وهذا لفظ أحمد. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في (صحيح سنن النسائي ح 3430) وحسنه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.
قوله تعالى (ولو شاء الله لأعنتكم)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند حسن عن ابن عباس (ولو شاء الله لأعنتكم) يقول: لو شاء الله لأخرجكم فضيق عليكم ولكنه وسع ويسر فقال (ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف) سورة النساء آية (6) .
قوله تعالى (ولا تَنْكِحوا المشركات حتى يؤمن)
قال الشيخ الشنقيطي: ظاهر عمومه شمول الكتابيات، ولكنه بين في آية أخرى أن الكتابيات لسن داخلات في هذا التحريم، وهي قوله تعالى (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) فإن قيل الكتابيات لا يدخلن في اسم المشركات بدليل قوله (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين) وقوله (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين) والعطف يقتضي المغايرة، فالجواب أن أهل الكتاب داخلون في اسم المشركين كما صرح به تعالى في قوله (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصاري المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) .(1/332)
وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند حسن عن ابن عباس قوله (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) ثم استثنى نساء أهل الكتاب فقال (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين) المائدة آية (5) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن عمر بن الخطاب قال: المسلم يتزوج النصرانية ولا يتزوج النصراني المسلمة.
قوله تعالى (ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ... ) الآية
أخرج البخاري (الصحيح- النكاح، ب الأكفاء في الدين ح 5090) ومسلم (الصحيح - الرضاع، ب استحباب نكاح ذات الدين ح 1466) عن أبي هريرة مرفوعاً: "تنكح النساء لأربع: لمالها وجمالها وحسبها ودينها فاظفر بذات الدين تربت يداك".
قوله تعالى (ولا تُنْكحوا المشركين حتى يؤمنوا)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن الزهري وقتادة في قوله (ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا) قال: لا يحل لك أن تنْكح يهودياً ولا نصرانياً ولا مشركاً من غير أهل دينك.
قوله تعالى (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض حتى يطهرن)
أخرج مسلم بسنده عن أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم، لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت. فسأل أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنزل الله تعالى (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض) إلى آخر الآية فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح". فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه. فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله! إن اليهود تقول: كذا وكذا. فلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى ظننا أن قد وجد عليهما. فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فأرسل في آثارهما. فسقاهما. فعرفا أن لم يجد عليهما.
(الصحيح- الحيض، ب جواز غسل الحائض رأس زوجها ح 302)(1/333)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
أخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى) قال: قذر.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند حسن عن ابن عباس قوله (فاعتزلوا النساء في المحيض) يقول: اعتزلوا نكاح فروجهن.
أخرج أحمد (المسند 2121) والدارمي (السنن- الطهارة، ب من قال عليه الكفارة 1/255) والبيهقي (السنن الكبرى 1/317 (والترمذي) السنن، ب الطهارة ح 137) والنسائي (عشرة النساء ح 221، 222) وأبو يعلى (المسند ح 2432) والطبراني (المعجم الكبير ح 12135) والبغوي (شرح السنة ح 315) والحاكم (المستدرك 1/171، 172) كلهم عن ابن عباس قال: "أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي يأتي امرأته وهي حائض أن يتصدق بدينار أو نصف دينار".
(وصححه أحمد شاكر في تعليقه على سنن الترمذي حيث أخرجه من خمسين طريقاً. وصححه الحاكم ووفقه الذهبي. وصححه ابن القطان وابن الملقن. والألباني انظر (مرويات الدارمي التفسير ص 82-98) .
قوله تعالى (فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين)
قال مسلم: حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار. قال ابن المثنى: حدثنا محمد بن جعفر. حدثنا شعبة عن إبراهيم بن المهاجر؛ قال سمعت صفية تحدث عن عائشة؛ أن أسماء سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن غسل المحيض؟ فقال: "تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها فتطهر. فتحسن الطهور. ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكاً شديداً.
حتى تبلغ شؤن رأسها. ثم تصب عليها الماء. ثم تأخذ فرصة ممسكة فتطهر بها"
فقالت أسماء: وكيف تطهر بها؟ فقال: "سبحان الله تطهرين بها" فقالت عائشة (كأنها تخفي ذلك) تتبعين أثر الدم. وسألته عن غسل الجنابة؟ فقال: "تأخذ ماء فتطهر، فتحسن الطهور. أو تبلغ الطهور. ثم تصب على رأسها فتدلكه. حتى تبلغ شؤن رأسها. ثم تفيض عليها الماء". فقالت عائشة: نعم النساء نساء الأنصار لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين.(1/334)
(الصحيح 1/261- ك الحيض، ب استحباب استعمال المغتسلة من الحيض فرصة من مسك في موضع الدم) .
انظر أحاديث أبو هريرة وابن عباس وجابر وغيرهم الآتية عند الآية (108) من سورة التوبة، في ثناء الله عز وجل على الأنصار في طهورهم.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله) لم يبين هنا هذا المكان المأمور بالإتيان منه المعبر عنه بلفظة "حيث" ولكنه بين أن المراد به الإتيان في القبل في آيتين.
إحداهما: هي قوله هنا (فأتوا حرثكم) لأن قوله (فأتوا) أمر بالإتيان بمعنى الجماع وقوله (حرثكم) يبين أن الإتيان المأمور به إنما هو في محل الحرث يعني بذر الولد بالنطفة، وذلك هو القبل دون الدبر كما لا يخفى، لأن الدبر ليس محل بذر للأولاد، كما هو ضروري.
الثانية: قوله تعالى (فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم) لأن المراد بما كتب الله لكم الولد على قول الجمهور وهو اختيار ابن جرير.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند حسن عن ابن عباس يعني قوله (فإذا تطهرن) يقول: إذا طهرت من الدم وتطهرت بالماء.
أخرج البخاري (الصحيح -الحيض، ب 5 ح 303) ومسلم (الصحيح- الحيض، ب 3 ح 294) عن ميمونة قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمرها فاتزرت وهي حائض".
أخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قوله تعالى (فأتوهن من حيث أمركم الله) يقول: طئوهن غير حيّض.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن مسروق الأجدع قال: قلت لعائشة: ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضاً؟ قالت: كل شيء إلا الجماع.
أخرج الطبري وان أبي حاتم بسند حسن عن ابن عباس (فأتوهن من حيث أمركم الله) قال: من حيث جاء الدم، من ثم أمرت أن تأتي.(1/335)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن ابن عباس (فأتوهن من حيث أمركم الله) يقول: في الفرج لا تعدوه إلى غيره فمن فعل شيئاً من ذلك فقد اعتدى.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن الشعبي قال: التائب من الذنب كمن لا ذنب له ثم قرأ (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) .
أخرج مسلم (الصحيح- التوبة، ب في الحض على التوبة ح 2 ص 2102) عن أبي هريرة مرفوعاً: "لله أشد فرحاً بتوبة أحدكم من أحدكم بضالته إذا وجدها".
قوله تعالى (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ... ) الآية
أخرج البخاري (الصحيح- تفسير سورة البقرة ح 4528) ومسلم (الصحيح- النكاح، ب جواز جماعه امرأته في قبلها 117، 118) عن جابر بن عبد الله قال: كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول فنزلت (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أني شئتم) .
(أخرج أحمد (المسند ح 2703) ، والترمذي (السنن- تفسير سورة البقرة ح 2980) ، والطبري وابن أبي حاتم في تفسيريهما عن ابن عباس قال: جاء عمر بن الخطاب إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله هلكت. قال: "وما الذي أهلكك"؟ قال: حولت رحلي البارحة. قال: فلم يرد عليه شيئاً. قال: فأوحى الله إلى رسوله هذه الآية (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) أقبل وأدبر واتقوا الدبر والحيضة.
(وحسنه الترمذي والألباني في صحيح سنن الترمذي وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند وصححه الحافظ ابن حجر في فتح الباري 8/191) . وذكره الهيثمي وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات (مجمع الزوائد 6/319) .
قال الترمذي: حدثنا محمد بن بشار. حدثنا عبد الرحمن بن مهدى. حدثنا سفيان عن ابن خثيم عن ابن سابط عن حفصة بنت عبد الرحمن عن أم سلمة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قوله: (نساءكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) يعني صِماماً واحداً.(1/336)
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)
(جامع الترمذي 5/215-216 ح 2979- ك التفسير، ومن سورة البقرة) . وأخرجه أحمد في مسنده (6/318-319) , وأبو يعلى في المسند (12/407 ح 6972) ، والطبري في (تفسيره 2/369) ، من طرق عن عبد الرحمن بن مهدي به. وأخرجه أحمد (6/318) ، والدارمي في (سننه 1/204-205 ح 1124) ، والبيهقي في سننه (7/195) وفيه عندهم قصة. قال الترمذي: هذا حديث حسن ... وصححه الألباني على شرط مسلم (آداب الزفاف ص 103) وللحديث شاهد من رواية ابن عباس - رضي الله عنه -، أخرجه أبو داود في سننه (2/618-620 ح 2164) وفيه تفسير الآية بقوله: أي: مقبلات ومدبرات ومستلقيات، يعني بذلك: موضع الولد. (وانظر مرويات الدارمي في التفسير ص 101-102 ح 159) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن ابن عباس قوله (فأتوا حرثكم أنى شئتم) يعني بالحرث: الفرج، يقول: تأتيه كيف شئتت مستقبله ومستدبره، وعلى أي ذلك أردت بعد أن لا تجاوز الفرج إلى غيره وهو قوله (فأتوهن من حيث أمركم الله) .
قوله تعالى (وقدموا لأنفسكم)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن عكرمة (وقدموا لأنفسكم) قال: الولد.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مقاتل بن حيان (وقدموا لأنفسكم) يقول: طاعة ربكم وأحسنوا عبادته.
قوله تعالى (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند حسن عن ابن عباس قوله: (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم) يقول: لا تجعلني عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير، ولكن كفر عن يمينك واصنع الخير.
أخرج البخاري بسنده عن عبد الرحمن بن سمرة مرفوعاً: "وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير".
(الصحيح- الأيمان والنذور، ب 1 ح 1622) .
أخرج مسلم بسنده عن أبي هريرة مرفوعاً: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي خير وليكفر عن يمينه".
(الصحيح- الأيمان، ب 3 ح 13) .(1/337)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)
قوله تعالى (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور رحيم)
أخرج البخاري بسنده عن عروة عن عائشة رضي الله عنها (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) قال: قالت: أنزلت في قوله: لا والله، وبلى والله.
(الصحيح 11/547 ح 6663- الأيمان والنذور، ب (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم)) .
أخرج مالك بسنده عن عائشة أنها كانت تقول: لغو اليمين قول الإنسان: لا والله بلى والله.
(الموطأ- الأيمان والنذور، ب اللغو في اليمين 2/477) وأخرجه أحمد في (العلل ومعرفة الرجال ص 245) ، وأبو داود (السنن -الأيمان والنذور، ب لغو اليمين ح 3254) ، والطبري وابن أبي حاتم في تفسيريهما، وهذا لفظ مالك. (وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود ح 278) .
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) قال: هو الرجل يحلف على الشيء يرى أنه كذلك وليس كذلك (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان) قال: أن تحلف على الشيء وأنت تعلمه.
قوله تعالى (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر ... ) الآية
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند حسن عن سعيد بن المسيب في قوله (للذين يؤلون) : يحلفون.
أخرج البخاري عن أنس بن مالك يقول: آلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من نسائه وكانت انفكت رجله فأقام لا مشربة له تسعاً وعشرين ثم نزل فقالوا: يا رسول الله آليت شهراً فقال: الشهر تسع وعشرون.
(الصحيح- الطلاق، ب قول الله تعالى (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة، أشهر) إلى قوله (سميع عليم) (ح 5289) ، وأخرج نحوه مسلم عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب (الصحيح- الطلاق- ب 5 ح 32-34) .
أخرج ابن أبي حاتم بسند حسن عن عائشة قالت: كان إيلاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أقسم بالله لا أقربكن شهراً".(1/338)
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)
أخرج البخاري بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما كان يقول في الإيلاء الذي سمى الله: لا يحل لأحد بعد الأجل إلا أن يمسك بالمعروف أو يعزم الطلاق كما أمر الله عز وجل.
وبسند آخر عن ابن عمر: إذا مضت أربعة أشهر يوقف حتى يطلق ولا يقع عليه الطلاق حتى يطلق.
قال البخاري: ويذكر ذلك عن عثمان وعلي وأبي الدرداء وعائشة واثني عشر رجلاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(الصحيح- الطلاق- باب 21) وقد وصل الحافظ ابن حجر هذه المعلقات في (تغليق التعليق 4/466-468) وصحح بعضها في (فتح الباري 9/428 و429) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر) وهو الرجل يحلف لامرأته بالله لا ينكحها، فيتربص أربعة أشهر فإن هو نكحها كفر عن يمينه بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام.
قوله تعالى (فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عباس الفيء: الجماع.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن الحسن (فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم) قال: لا كفارة عليه.
قوله تعالى (وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ... ) الآية
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند حسن عن ابن عباس قال: عزم الطلاق انقضاء الأربعة الأشهر.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن ابن مسعود قال في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر فهى تطليقة بائنة، وتعتد ثلاثة قروء.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن علي بن أبي طالب قال: يُوقَف المولى عند انقضاء الأربعة الأشهر حتى يفيء أو يطلق.
وأخرجه بنحوه بسند صحيح عن ابن عمر.(1/339)
وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: إن مضت أربعة أشهر قبل أن ينكحها أجبره السلطان: إما أن يفيء فيراجع وإما أن يعزم فيطلق كما قال الله سبحانه.
قال ابن كثير: وقوله (وإن عزموا الطلاق) فيه دلالة على أن الطلاق لا يقع بمجرد مضي الأربعة أشهر كقول الجمهور من المتأخرين، وذهب آخرون إلى أنه يقع بمضي أربعة أشهر تطليقة وهو مروي بأسانيد صحيحة عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت.
قوله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ... ) الآية
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) ظاهر هذه الآية شمولها لجميع المطلقات، ولكنه بين في آيات أخر خروج بعض المطلقات من هذا العموم، كالحوامل المنصوص على أن عدتهن وضع الحمل، في قوله (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) . وكالمطلقات قبل الدخول المنصوص على أنهن لا عدة عليهن أصلا، بقوله: (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهنّ وسرحوهنّ سراحاً جميلاً) .
أما اللواتى لا يحضن، لكبر أو صغر فقد بين أن عدتهن ثلاثة أشهر في قوله (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن) .
(أخرج مالك (الموطأ- الطلاق، ب ما جاء في الأقراء 2/576) ، والشافعي (ترتيب المسند 2/60) ، والطبري وابن أبي حاتم بسند صحيح عن عائشة قالت: الأقراء: الأطهار. وأخرجه الطبري بأسانيد ثابتة عن زيد بن ثابت وابن عمر وابن عباس وغيرهم من التابعين. أخرج أحمد (المسند 6/420، 463، 464) وأبو داود (السنن- الطهارة، ب في المرأة تستحاض ح 280) والنسائي (السنن- الطهارة، ذكر الأقراء 1/121) عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها أتت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(1/340)
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
فشكت إليه الدم فقال لها رسول الله: "إنما ذلك عرق فانظري إذا أتاك قرؤك فلا تصلي فإذا مرّ قرؤك فتطهري، ثم صلي ما بين القرء أبي القرء".
ثم قال: هذا الدليل على أن الأقراء حيض.
(وصححه الألباني (صحيح سنن النسائي ح 205) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند صحيح عن مجاهد (يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) قال: حيض.
وأخرج الطبري بسند صحيح عن علي بن أبي طالب بنحوه.
وبأسانيده عن ابن مسعود وعمر بن الخطاب أيضاً.
قوله تعالى (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) قال: كانت المرأة تكتم حملها حتى تجعله لرجل آخر، فنهاهن الله تعالى عن ذلك.
أخرج الطبري بسنده الصحيح مجاهد في قول الله تعالى ذكره (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) قال: لا يحل للمطلقة أن تقول: إني حائض. وليست بحائض، ولا تقول: إني حبلى. وليست بحبلى. ولا تقول: لست بحبلى، وهي حبلى.
قوله تعالى (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً)
قال الشيخ الشنقيطي: ظاهر هذه الآية الكريمة أن أزواج كل المطلقات أحق بردهن لا فرق في ذلك بين رجعية وغيرها. ولكنه أشار في موضع آخر إلى أن البائن لا رجعة له عليها، وذلك في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) .
وذلك لأن الطلاق قبل الدخول بائن، كما أنه أشار هنا إلى أنها إذا بانت
بانقضاء العدة لا رجعة له عليها، وذلك في قوله تعالى (وبعولتهن أحق بردهن(1/341)
في ذلك لأن الإشارة بقوله (ذلك) راجعة إلى زمن العدة المعبر عنه في الآية بثلاثة قروء. واشترط هنا في كون بعولة الرجعيات أحق بردهن إرادتهم الإصلاح بتلك الرجعة، في قوله (إن أرادوا إصلاحا) ولم يتعرض لمفهوم هذا لا بنية الإصلاح بل يقصد الإضرار بها؛ لتخالعه أو نحو ذلك، أن رجعتها حرام عليه، كما هو مدلول النهي في قوله تعالى (ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن ابن عباس قوله (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً) يقول: إذا طلق الرجل امرأته تطليقة أو تطليقتين وهي حامل، فهو أحق برجعتها ما لم تضع.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك) : في عدتهن.
وبنحوه أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة.
قوله تعالى (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن ابن عباس قال: إني أحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة لأن الله يقول: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) .
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا ما هذه الدرجة التي للرجال على النساء، ولكنه أشار لها في موضع آخر وهو قوله تعالى (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) ... وقد أشار تعالى إلى نقص المرأة وضعفها الخلقيين الطبيعيين، بقوله: (أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين) ... وأشار بقوله: (وبما أنفقوا من أموالهم) إلى أن الكامل في وصفه وقوته وخلقته يناسب حاله أن يكون قائما على الضعيف الناقص خلقة.(1/342)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (وللرجال عليهن درجة)
قال: فضل ما فضله الله به عليها الجهاد، وفضل ميراثه على ميراثها، وكل ما فضل به عليها.
قوله تعالى (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) الآية
أخرج مالك (الموطأ- الطلاق- باب جامع الطلاق 2/588) والترمذي (السنن- الطلاق واللعان 3/488) والطبري وابن أبي حاتم بسند صحيح عن عروة بن الزبير: كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان ذلك له، وإن طلقها ألف مرة، فعمد رجل إلى امرأته فطلقها حتى إذا شارفت انقضاء عدتها راجعها ثم طلقها ثم قال: لا والله لا آويك إلي ولا تحلين أبداً فأنزل الله تبارك وتعالى (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) فاستقبل الناس الطلاق جديداً من يومئذ من كان طلق منهم أو لم يطلق. واللفظ لمالك.
وأخرجه الترمذي والحاكم وصححه (المستدرك 2/279، 280) والبيهقي (السنن الكبرى 7/333) وصححه أحمد شاكر في تعليقه على الطبري كلهم عن عروة عن عائشة وتكلم في سنده بسبب يعلى بن شبيب ولكنه روي من طرق مرسلة تقويه.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند حسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) قال: إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين فليتق الله في التطليقة الثالثة، فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها، أو يسرحها بإحسان فلا يظلمها من حقها شيئاً.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) قال: يطلق الرجل امرأته طاهراً من غير جماع، فإذا حاضت ثم طهرت فقد تم القرء ثم يطلق الثانية كما يطلق الأولى، إن أحب أن يفعل، فإذا طلق الثانية ثم حاضت الحيضة الثانية فهما تطليقتان وقرءان -مثنى قرء- ثم قال الله تعالى ذكره في الثالثة (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) فيطلقها في ذلك القرء كله إن شاء حين تجمع عليها ثيابها.(1/343)
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أيما امرأة سألت زوجها طلاقاً في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة".
(السنن 2/268 ح 2226- ك الطلاق، ب في الخلع) . وأخرجه ابن ماجه (2/662- ك الطلاق، ب كراهية الخلع للمرأة رقم 2055) وابن الجارود في (المنتقى رقم 748) ، وابن حبان في صحيحه (الإحسان 9/490 ح 4184) والحاكم في (المستدرك 2/200) وغيرهم من طرق عن أيوب به. وأخرجه الترمذي (3/484- ك الطلاق، ب ما جاء في المختلعات رقم 1187) ووقع في إسناده: عن أبي قلابة عمن حدثه عن ثوبان. المبهم في إسناد الترمذي هو أبو أسماء الرحبي كما تقدم.
قال الترمذي: حديث حسن. وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي.
قال الألباني: إنما هو على شرط مسلم وحده. (الإرواء 7/100) وحسَّنه السيوطي (فيض القدير مع الجامع الصغير 3/138 ح 2944) . وصححه الألباني (الإرواء 7/100) .
قوله تعالى (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله)
قال الشيخ الشنقيطي عند هذه الآية: صرح في هذه الآية الكريمة بأن الزوج لا يحل له الرجوع في شيء مما أعطى زوجته، إلا على سبيل الخلع، إذا خافا ألا يقيما حدود الله، فيما بينها، فلا جناح عليهما إذن في الخلع. أي: لا جناح عليها هي في الدفع، ولا عليه هو في الأخذ.
وصرح في موضع آخر بالنهي عن الرجوع في شيء مما أعطى الأزواج زوجاتهم، ولو كان المعطى قنطاراً وبين أن أخذه بهتان وإثم بين، وبين أن السبب المانع من أخذ شيء منه هو أنه أفضى إليها بالجماع. وذلك في قوله تعالى: (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً) وبين في موضع آخر أن محل النهى عن ذلك إذا لم يكن عن طيب النفس من المرأة، وذلك في قوله: (فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً) وأشار إلى ذلك بقوله: (ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة) .(1/344)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله) إلا أن يكون النشوز وسوء الخلق من قبلها فتدعوك إلى أن تفتدي منك فلا جناح عليك فيما افتدت به.
قوله تعالى (فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليها فيما افتدت به)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به) هو تركها إقامة حدود الله استخفافاً بحق زوجها وسوء خلقها فتقول له: والله لا أبر لك قسماً، ولا أطأ لك مضجعاً، ولا أطيع لك أمراً، فإذا فعلت ذلك، فقد حل له منها الفدية ولا يأخذ أكثر مما أعطاها شيئاً ويخلي سبيلها إن كانت الإساءة من قبلها.
أخرج البخاري بسنده عن ابن عباس: أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين ولكني أكره الكفر في الإسلام. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أتردين عليه حديقته؟ " قالت: نعم. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أقبل الحديقة وطلقها تطليقة".
(الصحيح- الطلاق، ب الخلع وقول الله تعالى (لا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً) ح 5273) .
انظر الآية رقم (233) من السورة نفسها.
قوله تعالى (تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون)
انظر سورة البقرة آية (187) .
قوله تعالى (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند حسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره) يقول: إن طلقها ثلاثاً فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة قال: جعل الله الطلاق ثلاثاً، فإذا طلقها واحدة فهو أحق بها ما لم تنقض العدة، وعدتها ثلاث حيض. فإن انقضت العدة قبل أن يكون راجعها، فقد بانت منه بواحدة، وصارت أحق بنفسها، وصار خاطباً من الخطاب. فكان الرجل إذا أراد طلاق أهله نظر(1/345)
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)
حيضتها، حتى إذا طهرت طلقها تطليقة في قبل عدتها عند شاهدي عدل. فإن بدا له مراجعتها راجعها ما كانت في عدتها، وإن تركها حتى تنقضي عدتها، فقد بانت منه بواحدة. وإن بدا له طلاقها بعد الواحدة وهي في عدتها نظر حيضتها، حتى إذا طهرت طلقها تطليقة أخرى في قُبْل عدتها. فإن بدا له مراجعتها راجعها، فكانت عنده على واحدة. وإن بدا له طلاقها طلقها الثالثة عند طهرها، فهذه الثالثة التي قال الله تعالى ذكره: لا تحل له حتى تنكح زوجاً.
أخرج الشيخان بسنديهما عن عائشة رضي الله عنها أن رفاعة القرظي تزوج امرأة ثم طلقها فتزوجت آخر فأتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت له أنه لا يأتيها، وإنه ليس معه إلا مثل هدبة. فقال: "لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك".
(صحيح البخاري- الطلاق، في 37 ح 5317) ، (وصحيح مسلم- النكاح، ب لا تحل المطلقة ثلاثاً لمطلقها حتى تنكح زوجاً غيره ح 1433) .
أي حتى يحصل الجماع معه. وقد نقل ابن حجر عن ابن المنذر قال: أجمع العلماء على اشتراط الجماع لتحل للأول.
(فتح الباري 9/467) وينظر تفسير الآية السابقة.
قوله تعالى (فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله) يقول: إذا تزوجت بعد الأول فدخل الآخر بها، فلا حرج على الأول أن يتزوجها إذا طلق الآخر أو مات عنها فقد حلت له.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (إن ظنا أن يقيما حدود الله) : إن ظنا أن نكاحهما على غير دُلسة.
والتدليس: إخفاء العيب. (النهاية لابن الأثير 2/130) .
وانظر الآية رقم (233) من السورة نفسها.(1/346)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
قوله تعالى (وإذا طلقكم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه)
قال الشيخ الشنقيطي: ظاهر قوله تعالى في هذه الآية الكريمة (فبلغن أجلهن) انقضاء عدتهن بالفعل، ولكنه بين في موضع آخر أنه لا رجعة إلا في زمن العدة خاصة، وذلك في قوله تعالى (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك) ، لأن الإشارة في قوله (ذلك راجعة إلى زمن العدة المعبر عنه بثلاثة قروء في قوله تعالى (والمطلقات يتربصن) الآية. فاتضح من تلك الآية أن معنى (فبلغن أجلهن) أي: قاربن انقضاء العدة، وأشرفن على بلوغ أجلها.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مقاتل بن حيان قوله (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن) يعني ثلاثة قروء، يعني ثلاث حيض (فأمسكوهن بمعروف) يقول: فأمسكوهن من قبل أن تغتسل من حيضتها الثالثة بطاعة الله (أو سرحوهن بمعروف) بطاعة الله إذا اغتسلت من حيضتها الثالثة.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند صحيح عن مجاهد (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف. ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا) قال: كان الرجل يطلق المرأة ثم يراجعها ثم يطلقها ثم يراجعها يضارها فنهاهم الله عن ذلك.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا) الآية
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بالنهى عن إمساك المرأة مضارة لها، لأجل الاعتداء عليها بأخذه ما أعطاها، لأنها إذا طال عليها الإضرار افتدت منه، ابتغاء السلامة من ضرره. وصرح في موضع آخر بأنها إذا أتت بفاحشة مبينة جاز له عضلها، حتى تفتدى منه وذلك في قوله تعالى (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) .(1/347)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى (ولا تمسكوهن ضراراً) قال: هو الرجل يطلق امرأته فإذا بقي من عدتها يسير راجعها يضارها بذلك ويطول عليها فنهاهم الله تعالى عن ذلك فأمرهم أن يمسكوهن بمعروف أو يسرحوهن بمعروف.
وفي قوله تعالى (ولا تتخذوا آيات الله هزواً)
أخرج أبو داود (السنن- الطلاق، ب الطلاق على الهزل 2/259) والترمذي (السنن- الطلاق، ب في الجد والهزل في الطلاق 3/381) وابن ماجة (السنن - الطلاق، ب من طلق أو نكح أو رجع لاعباً ح 2039) عن أبي هريرة مرفوعاً به: "ثلاثة جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة".
وحسنه الترمذي، وكذا حسنه ابن حجر (التلخيص الحبير 3/210) ، والسيوطي في (الجامع الصغير 3/300 ح 3451) ، والألباني في (صحيح الجامع ح 3027) ، وصحح إسناده الحاكم ووافقه الذهبي (المستدرك 2/197) .
قوله تعالى (واذكروا نعمت الله عليكم)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (نعمة الله) يقول: عافية الله.
أخرج مسلم (الصحيح- الزهد- ح 9 ص 2255) عن أبي هريرة مرفوعاً: "انظروا إلى من أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله".
قوله تعالى (وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مقاتل بن حيان قوله (وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة) يعني بالحكمة: الحلال والحرام وما سن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يعظكم به واتقوا الله) في أمره ونهيه.(1/348)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)
قوله تعالى (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ... ) الآية
قال الشيخ الشنقيطي: ظاهر قوله تعالى في هذه الآية الكريمة (فبلغن أجلهن) انقضاء عدتهن بالفعل، ولكنه بين في موضع آخر أنه لا رجعة إلا في زمن العدة خاصة، وذلك في قوله تعالى (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك) لأن الإشارة في قوله تعالى (ذلك) راجعة إلى زمن العدة المعبر عنه بثلاثة قروء في قوله تعالى (والمطلقات يتربصن) الآية. فاتضح من تلك الآية أن معنى فبلغن أجلهن.
أي: قاربن انقضاء العدة، وأشرفن على بلوغ أجلها.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: فهذا الرجل يطلق امرأته تطليقة أو تطليقتين، فتنقضي عدتها، ثم يبدو له في تزويجها وأن يراجعها، وتريد المرأة فيمنعها أولياؤها من ذلك، فنهى الله سبحانه أن يمنعوها.
(أخرج البخاري (الصحيح- التفسير- سورة البقرة، ب (إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) ح 4529) عن الحسن: أن أخت معقل بن يسار طلقها زوجها فتركها حتى انقضت عدتها فخطبها فأبى معقل فنزلت (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) فهذا في الرجل يطلق امرأته تطليقة أو تطليقتين، فتنقضي عدتها ثم يبدو له في تزويجها وأن يراجعها، وتريد المرأة فيمنعها أولياؤها من ذلك. فنهى الله سبحانه أن يمنعوها.
قال ابن ماجة: حدثنا أبو كريب. ثنا عبد الله بن المبارك، عن حجاج، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعن عكرمة، عن ابن عباس.
قالا: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا نكاح إلا بولي".
وفي حديث عائشة: "والسلطان ولي من لا ولي له".(1/349)
(السنن- النكاح، ب لا نكاح إلا بولي 1880) حديث ابن عباس أخرجه أحمد والبيهقي من طريق حجاج به. وله طريق آخر من سعيد بن جبير عند الطبراني في المعجم الكبير (انظر: الإرواء 6/238، المسند 1/250، سنن البيهقي 7/109، 110) ، وأخرجه من طريق سعيد بن جبير الطبراني في الأوسط (1/318 ح 525) . قال الهيثمي عنه: رجاله رجال الصحيح. (مجمع الزوائد 4/186) وحديث عائشة أخرجه أحمد وابن أبي شيبة والطحاوي والبيهقي من طريق حجاج به، وله طرق أخرى عنها (انظر: الإرواء 6/247، المسند 6/260) قال الألباني. صحيح. (صحيح ابن ماجه 1/317) .
ذكره ابن كثير (1/415) .
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مقاتل بن حيان قوله (إذا تراضوا بينهم بالمعروف) يعني بمهر وبينة ونكاح مؤتنف.
قوله تعالى (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضآرّ والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالاً عن تراضٍ منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف)
قال البخاري: حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة، عن الأشعث عن أبيه، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل عليها وعندها رجل، فكأنه تغير وجهه كأنه كره ذلك، فقالت: إنه أخي، فقال: "انظرن ما إخوانكن، فإنما الرضاعة من المجاعة".
(الصحيح- النكاح، ب من قال لا رضاع بعد حولين 9/146 ح 5102) ، وأخرجه مسلم في (صحيحه 2/1078 ح 1455) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: فجعل الله سبحانه الرضاع حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة، ثم قال (فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما) إن أرادا أن يفطماه قبل الحولين وبعده.
وبه قوله تعالى (فلا جناح عليهما) قال فلا حرج عليهما.(1/350)
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند صحيح عن مجاهد قال: حولين كاملين: سنتين.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند صحيح عن مجاهد قال: (لا تضآرّ والدة بولدها) لا تأبى أن ترضعه ليشق ذلك على أبيه، ولا يضار الوالد بولده، فيمنع أمه أن ترضعه ليحزنها.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة قوله (لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده) قال: نهى الله تعالى عن الضرار وقدم فيه، فنهى الله أن يضار الوالد فينتزع الولد من أمه، إذا كانت راضية بما كان مسترضعا به غيرها ونهيت الوالدة أن تقذف الولد إلى أبيه ضرارا.
قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا وهيب أخبرنا هشام، عن أبيه، عن زينب ابنة أبي سلمة، عن أم سلمة: قلت يا رسول الله، هل لي من أجر في بني أبي سلمة أن أنفق عليهم، ولست بتاركتهم هكذا وهكذا، إنما همَ بنيَّ. قال: "نعم لك أجر ما أنفقت عليهم".
(صحيح البخاري - النفقات، ب وعلى الوارث مثل ذلك 9/514 ح 5369) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة قال: (وعلى الوارث مثل ذلك) , على وارث الولد.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة قال (وعلى الوارث مثل ذلك) قال: الولي من كان.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة قال (وعلى الوارث مثل ذلك) قال: وعلى وارث الولد ما كان على الوالد من أجر الرضاع، إذا كان الولد لا مال له.
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر في هذه الآية الكريمة أن الرجل إذا أراد أن يطلب لولده مرضعة غير أمه لا جناح عليه في ذلك، إذا سلم الأجرة المعينة في العقد،(1/351)
ولم يبين هنا الوجه الموجب لذلك ولكنه بينه في سورة الطلاق بقوله تعالى (وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى) والمراد بتعاسرهم: امتناع الرجل من دفع ما تطلبه المرأة، وامتناع المرأة من قبول الإرضاع بما يبذله الرجل ويرضى به.
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد قال: (وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم) خيفة الضيعة على الصبي (فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما أتيتم بالمعروف) قال: حساب ما أرضع به الصبي.
قوله تعالى (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف)
قال الشيخ الشنقيطي: ظاهر هذه الآية الكريمة أن كل متوفي عنها تعتد بأربعة أشهر وعشر، ولكنه بين في موضع آخر أن محل ذلك ما لم تكن حاملا، فإن كانت حاملا كانت عدتها وضع حملها، وذلك في قوله (وأُلات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) ويزيده إيضاحاً ما ثبت في الحديث المتفق عليه من إذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لسبيعة الأسلمية في الزواج بوضع حملها بعد وفاة زوجها بأيام، وكون عدة الحامل المتوفى عنها بوضع حملها هو الحق، كما ثبت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلافا لمن قال: تعتد بأقصى الأجلين. ا. هـ.
روى مالك: عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة، أن الفريعة بنت مالك بن سنان، وهي أخت أبي سعيد الخدري، أخبرتها: أنها جاءت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة. فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا. حتى إذا كانوا بطرف القدوم لحقهم فقتلوه. قالت: فسألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أرجع إلى أهلي في بني خدرة. فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة قالت: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم" قالت: فانصرفت. حتى إذا كنت في الحجرة ناداني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو أمر بي فنوديت له فقال: "كيف قلت"؟ فرددت عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي. فقال: "امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله".(1/352)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً. قالت: فلما كان عثمان بن عفان, أرسل إلي فسألني عن ذلك؟ فأخبرته. فاتبعه وقضى به.
(الموطأ 2/591، ك الطلاق، ب مقام المتوفى عنها زوجها في بيتها ... ) ، وأخرجه أبو داود (2/291 ك الطلاق، ب المتوفى عنها زوجها تنتقل، ح 2300) ، والترمذي (ك الطلاق، ب ما جاء أين تعتد المتوفى عنها زوجها ح 1204) كلاهما من طريق مالك به، وأخرجه أحمد في المسند (6/420) من طريق بشر بن المفصل عن سعد بن إسحاق به. وأخرجه ابن ماجه (رقم 2031- كتاب الطلاق، باب أين تعتد المتوفى عنها زوجها) من طريق سليمان بن حيان، والحاكم في (المستدرك 2/208) من طريق يحيى بن سعيد كلهم عن سعد بن إسحاق بن كعب به. أما ما وقع عند مالك باسم (سعيد بن إسحاق فقد قال ابن عبد البر: هكذا قال يحيى -أي راوي الموطأ- تابعه بعضهم وأكثر الرواة يقولون فيه: سعد بن إسحاق وهو الأشهر (التمهيد 21/27) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيرهم. وقال ابن عبد البر: حديث مشهور معروف. (التمهيد 21/31) . وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد، ونقل عن الذهلي قوله: حديث صحيح محفوظ. ووافق الذهبي الحاكم على تصحيحه. وصححه الألباني في (صحيح سنن أبي داود ح 2016) .
قال البخاري: حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا أيوب بن موسى قال: أخبرني حميد بن نافع، عن زينب ابنة أبي سلمة قالت: لما جاء نعي أبي سفيان من الشام دعت أم حبيبة رضي الله عنها بصفرة في اليوم الثالث فمسحت عارضيها وذراعيها وقالت إني كنت عن هذا لغنية لولا أني سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشراً".
(الصحيح - الجنائز، ب إحداد المرأة على غير زوجها 3/146 ح 1280) وأخرجه مسلم في (صحيحه 2/1125 ح 1486) .
قال مسلم: وحدثنا حسن بن الربيع، حدثنا ابن إدريس عن هشام، عن حفصة، عن أم عطية، أن رسول الله قال: "لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث. إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً. ولا تلبس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عصب. ولا تكتحل ولا تمس طيباً. إلا إذا طهرت، نبذة من قسط أو أظفار".
(صحيح مسلم 2/127 ح 141 ولعده - الطلاق، ب وجوب الإحداد) .(1/353)
وقال: حدثنا محمد بن المثنى العنزي. حدثنا عبد الوهاب. قال: سمعت يحيى ابن سعيد. أخبرني سليمان بن يسار؛ أن أبا سلمة بن عبد الرحمن وابن عباس اجتمعا عند أبي هريرة. وهما يذكران المرأة تنفس بعد وفاة زوجها بليال.
فقال ابن عباس: عدتها آخر الأجلين. وقال أبو سلمة: قد حلت. فجعلا يتنازعان ذلك. قال: فقال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي (يعني أبا سلمة) فبعثوا كريباً (مولى ابن عباس) إلى أم سلمة يسألها عن ذلك؟ فجاءهم فأخبرهم؛ أن أم سلمة قالت: إن سبيعة الأسلمية نفست بعد وفاة زوجها بليال. وإنها ذكرت ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فأمرها أن تتزوج.
(الصحيح- الطلاق، ب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل 2/1122 ح 1485) ، وأخرجه البخاري في (صحيحه 8/623 ح 4909) .
قال البخاري: حدثنا حبان. حدثنا عبد الله. أخبرنا عبد الله بن عون، عن محمد بن سيرين قال: جلست إلى مجلس فيه عظم من الأنصار وفيهم عبد الرحمن ابن أبي ليلى، فذكرت حديث عبد الله بن عتبة في شأن سبيعة بنت الحارث، فقال عبد الرحمن: ولكن عمه كان لا يقول ذلك، فقلت: إني لجريء إن كذبت على رجل في جانب الكوفة. ورفع صوته. قال: ثم خرجت فلقيت مالك ابن عامر -أو مالك بن عوف- قلت: كيف كان قول ابن مسعود في المتوفى عنها زوجها وهي حامل؟ فقال: قال ابن مسعود: أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون لها الرخصة؟ لنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى.
(البخاري 8/193 ح 4532، كتاب التفسير - سورة البقرة الآية 234) .
قال البخاري: وقال الليث: حدثني يونس، عن ابن شهاب قال: حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن أباه كتب إلى عمر بن عبد الله بن الأرقم الزهري يأمره أن يدخل على سبيعة بنت الحارث الأسلمية فيسألها عن حديثها وعن ما قال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين استفتته. فكتب عمر بن عبد الله بن الأرقم إلى عبد الله ابن عتبة يخبره أن سبيعة بنت الحارث أخبرته أنها كانت تحت سعد بن خولة(1/354)
-وهو من بني عامر بن لؤي وكان ممن شهد بدراً- فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك -رجل من بني عبد الدار- فقال لها: ما لي أراك تجملت للخطاب ترجين النكاح؟ فإنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر. قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت عليَّ ثيابي حين أمسيت وأتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزويج إن بدا لي.
تابعه أصبغ عن ابن وهب عن يونس وقال الليث: حدثني يونس عن ابن شهاب وسألناه فقال: أخبرني محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان مولى بني عامر بن لؤي أن محمد بن إياس بن البكير -وكان أبوه شهد بدراً- أخبره.
(البخاري 7/360 ح 3991- ك المغازي، وأخرجه موصولاً 9/469 ح 5319) ، وأخرجه مسلم في صحيحه (2/1122 ك الطلاق، ب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل رقم 1484) .
قال مسلم: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد. قالا: حدثنا يزيد بن هارون. أخبرنا يحيى بن سعيد، عن حميد بن نافع؛ أنه سمع زينب بنت أبي سلمة تحدث عن أم سلمة وأم حبيبة. تذكران أن امرأة أتت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فذكرت له أن بنتاً لها توفي عنها زوجها. فاشتكت عينها فهي تريد أن تكحلها فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قد كانت إحداكن ترمى بالبعرة عند رأس الحول. وإنما هي أربعة أشهر وعشر".
(مسلم 2/1126 ح 1486 إلى 1488- ك الطلاق، ب وجوب الإحداد في عدة الوفاة وتحريمه في غير ذلك إلا ثلاثة أيام) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: فهذه عدة المتوفى عنها زوجها إلا أن تكون حاملا، فعدتها أن تضع ما في بطنها.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قال: (فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف) ، قال: الحلال الطيب.(1/355)
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
قوله تعالى (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ)
انظر الآية رقم (233) من السورة نفسها.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: يعرض لها في عدتها، يقول لها: "إن رأيت أن لا تسبقيني بنفسك، ولوددت أن الله قد هيأ بيني وبينك، ونحو هذا عن الكلام، فلا حرج".
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قال: (أو أكننتم في أنفسكم) ، قال: الإكنان: ذكر خطبتها في نفسه، لا يبديه لها. هذا كله حل معروف.
قوله تعالى (وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لا تقل لها: إني عاشق، وعاهديني ألا تتزوجي غيري ... ونحو هذا.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة قال (ولكن لا تواعدوهن سراً) قال: هذا في الرجل يأخذ عهد المرأة وهي في عدتها أن لا تنكح غيره، فنهى الله عن ذلك وقدم فيه، وأحل الخطبة والقول بالمعروف، ونهى عن الفاحشة والخضع عن القول.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن معمر عن قتادة عن الحسن في قوله تعالى (ولا تواعدوهن سراً) قال: هو الفاحشة.
قوله تعالى (إلا أن تقولوا قولا معروفا)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: هو قوله: إن رأيت أن لا تسبقيني بنفسك.
قوله تعالى (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قال: (حتى يبلغ الكتاب أجله) قال: حتى تنقضي العدة.(1/356)
لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
قوله تعالى (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: المس: النكاح.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قال: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) ، قال: ليس لها صداق إلا متاع بالمعروف.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الفريضة: الصداق.
قوله تعالى (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: فهذا الرجل يتزوج المرأة، ولم يسم لها صداقا ثم يطلقها من قبل أن ينكحها، فأمر الله سبحانه وتعالى أن يمتعها على قدر عسره ويسره، فإن كان موسراً متعها بخادم أو شبه ذلك، وإن كان معسراً متعها بثلاثة أثواب ونحو ذلك.
قوله تعالى (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: فهذا في الرجل يتزوج المرأة وقد سمى لها صداقا، ثم يطلقها قبل أن يمسها (والمس الجماع) فلها نصف صداقها ليس لها أكثر من ذلك.
قوله تعالى (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: هي المرأة الثيب أو البكر يزوجها غير أبيها، فجعل الله العفو إليهن، إن شئن عفون فتركن، وإن شئن أخذن نصف الصداق.(1/357)
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)
قوله تعالى (أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: وهو أبو الجارية البكر، جعل الله سبحانه العفو إليه، ليس لها معه أمر إذا طلقت ما كانت في حجره.
قوله تعالى (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قال: (ولا تنسوا الفضل بينكم) قال إتمام الزوج الصداق، وترك المرأة الشطر.
قوله تعالى (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ)
قال البخاري: حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك قال: حدثنا شعبة قال: الوليد بن العيزار أخبرني قال: سمعت أبا عمرو الشيباني يقول: حدثنا صاحب هذا الدار -وأشار أبي دار عبد الله- قال: سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: "الصلاة على وقتها". قال: ثم أي؟ قال: "ثم بر الوالدين".
قال: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله". قال: حدثني بهن، ولو استزدته لزادني.
(الصحيح - مواقيت الصلاة، فضل الصلاة لوقتها 2/9 ح 527) ، وأخرجه مسلم في (صحيحه 1/89 ح 85) .
قال مسلم: حدثنا خلف بن هشام، حدثنا حماد بن زيد. ح قال وحدثني أبو الربيع الزهراني وأبو كامل الجحدري. قالا: حدثنا حماد عن أبي عمران الجوني، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر؛ قال: قال لي رسول الله: "كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، أو يميتون الصلاة عن وقتها؟ " قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: "صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصل. فإنها لك نافلة". ولم يذكر خلف: عن وقتها.
(صحيح مسلم 1/448 ح 648 - كتاب المساجد - باب كراهية تأخير الصلاة عن وقتها) .(1/358)
حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)
قال الدارمي: أخبرنا عبد الله بن يزيد، حدثنا سعيد -هو ابن أبي أيوب- قال: حدثني كعب بن علقمة، عن عيسى بن هلال الصدفي، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه ذكر الصلاة يوماً فقال: "من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة من النار يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً ولا نجاة ولا برهاناً، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف"
(السنن 2/301-302 - كتاب الرقاق - باب في المحافظة على الصلاة) وأخرجه أحمد في المسند (2/169) وابن حبان في صحيحه (الإحسان 4/329 رقم 1467) من طرق عن عبد الله بن يزيد به.
وذكره المنذري في الترغيب والترهيب وقال: رواه أحمد بإسناد جيد ... وذكره الهيثمي في (المجمع 1/192) وعزاه لأحمد والطبراني ثم قال: ورجال أحمد ثقات. وقال محقق الإحسان: إسناده صحيح.
قال البخاري: حدثنا إسحاق حدثنا روح حدثنا هشام عن محمد، عن عبيدة، عن علي - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال يوم الخندق: "ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس".
(الصحيح - المغاري، ب غزوة الخندق 7/405 ح 4111، ومسلم في (صحيحه 1/437 ح 628) .
وقال: حدثنا المكي بن إبراهيم حدثنا هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن جابر بن عبد الله: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس جعل يسب كفار قريش وقال: يا رسول الله، ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "والله ما صليتها". فنزلنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بطحان، فتوضأنا لها، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب.
(الصحيح - المغازي، ب غزوة الخندق 7/405 ح 4112) .
قال مسلم: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي. أخبرنا يحيى بن آدم. حدثنا الفضيل بن مرزوق، عن شقيق بن عقبة، عن البراء بن عازب؛ قال: نزلت هذه الآية: (حافظوا على الصلوات وصلاة العصر) . فقرأناها ما شاء الله.
ثم نسخها الله. فنزلت: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) . فقال(1/359)
رجل كان جالساً عند شقيق له: هي إذن صلاة العصر. فقال البراء: قد أخبرنك كيف نزلت وكيف نسخها الله. والله أعلم.
(الصحيح- ك المساجد ومواضع الصلاة، ب الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هي صلاة العصر 1/438 ح 631) .
وقال: حدثنا يحيى بن يحيى التميمي. قال: قرأت على مالك، عن زيد بن أسلم عن القعقاع بن حكيم، عن أبي يونس مولى عائشة؟ أنه قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً. وقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) فلما بلغتها آذنتها. فأملت عليَّ: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين) .
قالت عائشة: سمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(مسلم 1/437-438 ح 629 - ك المساجد ومواضع الصلاة- ب الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هي صلاة العصر) .
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله".
(البخاري 2/37 - كتاب مواقيت الصلاة- باب إثم من فاتته العصر، ح 552) وأخرجه مسلم (1/435 - كتاب المساجد، باب التغليظ في تفويت صلاة العصر، ح200) .
قال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى. أخبرنا هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الحارث بن شبيل، عن أبي عمرو الشيباني، عن زيد بن أرقم؛ قال: كنا نتكلم في الصلاة. يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة. حتى نزلت: (وقوموا لله قانتين) . فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام.
(مسلم 1/383 ح 539 - ك المساجد ومواضع الصلاة - ب تحريم الكلام في الصلاة) ، وأخرجه البخاري (8/198 ح 4534- ك التفسير، ب (وقوموا لله قانتين)) .(1/360)
قال مسلم: حدثنا أبو جعفر محمد بن الصباح، وأبو بكر بن أبي شيبة (وتقاربا في لفظ الحديث) قالا: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن حجاج الصواف، عن يحيى ابن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة، عن عطاء بن يسار، عن معاوية بن الحكم السلمي؛ قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ عطس رجل من القوم.
فقلت: يرحمك الله! فرماني القوم بأبصارهم. فقلت: واثكل أمياه! ما شأنكم؟ تنظرون إليَّ. فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم. فلما رأيتهم يصمتونني.
لكنِّي سكتُّ. فلما صلَّى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فبأبي هو وأمي! ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعلماً منه. فوالله! ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني. قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس. إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" ...
(مسلم 1/381-382 ح 537- كتاب المساجد ومواضع الصلاة، ب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (قانتين) : مطيعين.
وينظر آية رقم (116) من السورة نفسها عند قوله تعالى (كل له قانتون) .
قوله تعالى (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا)
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك، عن نافع أن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا سئل عن صلاة الخوف قال: يتقدم الإمام وطائفة من الناس، فيصلى بهم الإمام ركعة وتكون طائفة منهم بينهم وبين العدو لم يصلوا فإذا صلى الذين معه ركعة استأخروا مكان الذين لم يصلوا ولا يسلمون، ويتقدم الذين لم يصلوا فيصلون معه ركعة، ثم ينصرف الإمام وقد صلى ركعتين، فيقوم كل واحد من الطائفتين فيصلون لأنفسهم ركعة بعد أن ينصرف الإمام، فيكون كل واحد من الطائفتين قد صلى ركعتين. فإن كان خوف هو أشد من ذلك صلوا رجالاً قياماً على أقدامهم أو ركباناً مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها".(1/361)
فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)
قال مالك: قال نافع: لا أرى عبد الله بن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(الصحيح 8/199 ح 4553 - ك التفسير، ب سورة البقرة) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قال: (فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً) ، أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في القتال على الخيل فإذا وقع الخوف فليصل الرجل على كل جهة قائما أو راكبا، أو كما قدر على أن يومئ برأسه أو يتكلم بلسانه.
قوله تعالى (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ)
أخرج البخاري: بسنده عن ابن الزبير: قلت لعثمان: هذه الآية التي في البقرة (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً -إلى قوله- غير إخراج) قد نسختها الأخرى فلم تكتبها؟ قال: تدعها يا ابن أخي لا أغير شيئاً منه من مكانه.
(الصحيح ح 4536 - التفسير - سورة البقرة، ب (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً)) .
أخرج أبو داود بسنده عن ابن عباس قوله تعالى (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية إلى الحول غير إخراج) فنسخ ذلك بآية الميراث، بما فرض لهن من الربع والثمن، ونسخ أجل الحول بأن جعل أجلها؛ أربعة أشهر وعشراً.
(وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود - الطلاق، ب نسخ متاع المتوفي عنها ح 2012) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن بن عباس قال: فكان الرجل إذا مات وترك امرأته، اعتدت سنة في بيته ينفق عليها من ماله، ثم أنزل الله تعالى ذكره بعد (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً) فهذه عدة المتوفى عنها زوجها، إلا أن تكون حاملا فعدتها أن تضع ما في بطنها، وقال في ميراثها (ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن) النساء 21. فبين الله ميراث المرأة وترك الوصية والنفقة.(1/362)
وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)
قوله تعالى (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حقاً عَلَى الْمُتَّقِينَ)
قال ابن كثير: وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى وجوب المتعة لكل مطلقة، سواء كانت مفوضة، أو مفروضاً لها أو مطلقة، قبل المسيس أو مدخولاً بها، وهو قول عن الشافعي، رحمه الله. وإليه ذهب سعيد بن جبير.
وغيره من السلف، واختاره ابن جرير. ومن لم يوجبها مطلقاً يخصص من هذا العموم بمفهوم قوله (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين) .
قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ)
وقال وكيع بن الجراح في تفسيره: حدثنا سفيان، عن ميسرة بن حبيب النهدي، عن المنهال بن عمرو الأسدي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت) قال كانوا أربعة آلاف، خرجوا فراراً من الطاعون، قالوا: نأتي أرضاً ليس بها موت، حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا قال الله لهم: (موتوا) فماتوا، فمر عليهم نبي من الأنبياء، فدعا ربهم أن يحييهم، فأحياهم، فذلك قوله عز وجل (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت) الآية.
ذكره ابن كثير، وسنده حسن.
قوله تعالى (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)
قال ابن كثير: وقوله (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)
أي: كما أن الحذر لا يغني من القدر، كذلك الفرار من الجهاد وتجنبه لا يقرب أجلاً، ولا يباعده، بل الأجل المحتوم والرزق المقسوم مقدر مقنن، لا يزاد فيه ولا ينص منه، كما قال تعالى (الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا(1/363)
وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232) وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين) وقال (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) .
قوله تعالى (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا قدر هذه الأضعاف الكثيرة، ولكنه بين في موضع آخر أنها تبلغ سبعمائة ضعف وتزيد عن ذلك. وذلك في قوله تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ) .
انظر سورة الرعد آية (26) ، وانظر سورة الإسراء آية (30) .
قوله تعالى (وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قال: (وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ) سلطانه.
قوله تعالى (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: فيه سكينة: رحمة.
وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة (فيه سكينة من ربكم) أي: وقار (وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون) قال: فالبقية عصا موسى والرضراض من الألواح.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة قال (تحمله الملائكة) قال: تحمله حتى تضعه في بيت طالوت.
قوله تعالى (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة قال: (إن الله مبتليكم بنهر) قال: إن الله يبتلى خلقه بما يشاء، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه.(1/364)
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن معمر عن قتادة (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) قال: كان الكفار يشربون فلا يروون، وكان المسلون يغترفون غرفة، فيجزئهم ذلك.
قوله تعالى (فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمنوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ)
قال البخاري: حدثنا عمرو بن خالد. حدثنا زهير. حدثنا أبو إسحاق قال: سمعت البراء - رضي الله عنه - يقول: حدثني أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ممن شهد بدراً أنهم كانوا عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر: بضعة عشر وثلاثمائة. قال البراء: لا والله ما جاوز معه النهر إلا مؤمن.
(الصحيح- ك المغازي، ب عدة أصحاب بدر 7/290 ح 3957) .
قوله تعالى (وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ)
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا شيئا مما علمه، وقد بين في مواضع أخر أن مما علمه صنعة الدروع كقوله (وعلمناه صنعة لبوس لكم ليحصنكم من بأسكم) الآية وقوله (وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدّر في السرد) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قال (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) يقول: ولولا دفع الله بالبر عن الفاجر، ودفعه ببقية أخلاف الناس بعضهم ببعض (لفسدت الأرض) ، بهلاك أهلها.
وقد بين الله تعالى فساد الأرض بقوله تعالى (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثير) .
كوله تعالى (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)
قال الشيخ الشنقيطي: يفهم من تأكيده هنا بإن واللام أن الكفار ينكرون رسالته كما تقرر في فن المعاني، وقد صرح بهذا المفهوم في قوله تعالى (ويقول الذين كفروا لست مرسلاً) الآية.(1/365)
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)
قوله تعالى (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا)
وقال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا هذا الذي كلمه الله منهم وقد بين أن منهم موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بقوله (وكلم الله موسى تكليما) وقوله (إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي) .
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد قال: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) قال: يقول: منهم من كلم الله، ورفع بعضهم على بعض درجات. يقول: كلم الله موسى، وأرسل محمداً إلى الناس كافة.
وقال أيضاً: وقوله تعالى (ورفع بعضهم درجات) أشار في مواضع أخر إلى أن منهم محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كقوله (عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً) أو قوله (وما أرسلناك إلا كافة للناس) الآية. وقوله (إني رسول الله إليكم جميعاً) وقوله (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) وأشار في مواضع أخر إلى أن منهم إبراهيم كقوله (واتخذ الله إبراهيم خليلا) وقوله (إني جاعلك للناس إماما) إلى غير ذلك من الآيات، وأشار في موضع آخر إلى أن منهم داود وهو قوله (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا) وأشار في موضع آخر إلى أن منهم إدريس وهو قوله (ورفعناه مكانا علياً) وأشار هنا إلى أن منهم عيسى بقوله (وآتينا عيسى ابن مريم البينات) الآية.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن معمر عن قتادة في قوله تعالى (وأيدناه بروح القدس) قال: هو جبريل عليه السلام.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة قال: (ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات) ، يقول: من بعد موسى وعيسى.(1/366)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)
انظر حديث أبي هريرة عند البخاري تحت الآية رقم (177) من سورة البقرة.
وهو حديث: "أن تصدق وأنت صحيح شحيح".
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة قال: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة) ، قد علم الله أن ناسا يتحابون في الدنيا ويشفع بعضهم لبعض. فأما يوم القيامة فلا خلة إلا خلة المتقين.
قوله تعالى (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قال: (القيوم) ، قال: القائم على كل شيء.
وفي قوله تعالى (من ذا الذي يشفع إلا بإذنه) انظر سورة الإسراء آية (79) في بيان المقام المحمود، وفيه حديث البخاري عن أنس وفيه: "فانطلق حتى استأذن على ربي فيؤذن ... ثم أشفع ... ".
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: السنة: النعاس، والنوم هو النوم. (ولا يؤوده حفظهما) : لا يثقل عليه (وهو العلي العظيم) : الذي قد كمل في عظمته.
وانظر سورة البقرة آية (31) حديث الشيخين عن أنس بن مالك.(1/367)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب. قالا: حدثنا أبو معاوية. حدثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن أبي موسى، قال: قام فينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخمس كلمات. فقال: "إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام. يخفض القسط ويرفعه. يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار. وعمل النهار قبل عمل الليل. حجابه النور. (وفي رواية أبي بكر: النار) لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه".
(صحيح مسلم 1/161-162 ح 179) .
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان، ثنا أبو أحمد الزبيري عن سفيان عن عمار الدهني عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن الكرسي موضع القدمين.
(أخرجه وكيع في تفسيره كما صرح ابن كثير في التفسير من طريق سفيان به وأطول وأخرجه الحاكم من طريق سفيان به وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 2/282) وذكره الهيثمي ونسبه إلى الطبراني وقال رجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد 6/326) .
قال الضياء المقدسي: وأخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد أيضاً -بأصبهان- أن محمود بن إسماعيل أخبرهم -قراءة عليه وهو حاضر- أنا أحمد بن محمد بن فاذشاه، أنا سليمان بن أحمد الطبراني، ثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، ثنا عبد الله بن أبي زياد القطواني، ثنا يحيى بن أبي بكير، ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر بن الخطاب (- رضي الله عنه -) قال: أتت امرأة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنة، فعظّم الرب ثم قال: "إن كرسيه وسع السماوات والأرض وإنه يقعد عليه ما يفضل منه مقدار أربع أصابع" ثم قال بأصابعه فجمعها "وإن له أطيط كأطيط الرحل الجديد إذا ركب من ثقله". وقد رواه شعبة، عن أبي إسحاق.
(المختارة ح 153 وقال محققه: إسناده حسن) .(1/368)
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
قوله تعالى (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)
قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى، عن حميد، عن أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرجل: "أسلم". قال: إني أجدني كارهاً. قال: "وإن كنت كارهاً".
(المسند 3/181) وإسناده ثلاثي صحيح، كما قال ابن كثير (التفسير 1/460) .
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عمر بن علي المقدمي، قال: ثنا أشعث بن عبد الله -يعني السجستاني- ح وثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي، وهذا لفظه، ح وثنا الحسن بن علي، قال: ثنا وهب بن جرير، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كانت المرأة تكون مقلاتاً فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوِّده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا، فأنزل الله عز وجل (لا إكراه في الدين قد تبرأ الرشد من الغي) قال أبو داود: المقلات: التي لا يعيش لها ولد.
(السنن 3/58 - كتاب الجهاد - باب في الأسير يكره على الإسلام) وأخرجه ابن حبان (الإحسان 1/352، ح 140) من طريق إبراهيم بن إسماعيل عن حسن بن علي به. وقال محقق الإحسان: إسناده صحيح على شرطهما. وصححه الألباني في (صحيح سنن أبي داود 2333) . والمرأة المقلاة: التي لا يعيش لها ولد.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن معمر عن قتادة في قوله (لا إكراه في الدين) قال: كانت العرب ليس لها دين، فأكرهوا على الدين بالسيف، قال: ولا يكره اليهودي ولا النصراني ولا المجوسي إذا أعطوا الجزية.
انظر الآية رقم (186) من السورة نفسها.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قال: الطاغوت الشيطان.
قوله تعالى (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا)
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد. حدثنا أزهر السمان، عن ابن عون، عن محمد، عن قيس بن عباد قال: كنت جالساً في مسجد المدينة، فدخل رجل على وجهه أثر الخشوع، فقالوا: هذا رجل من أهل الجنة، فصلى ركعتين تجوز(1/369)
فيهما، ثم خرج وتبعته فقلت: إنك حين دخلت المسجد قالوا: هذا رجل من أهل الجنة قال: والله ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم. وسأحدثك لم ذاك.
رأيت رؤيا على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقصصتها عليه، ورأيت كأني في روضة -ذكر من سعتها وخضرتها- وسطها عمود من حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء، في أعلاه عروة، فقيل لي: ارقه. قلت: لا أستطيع. فأتاني منصف فرفع ثيابي من خلفي فرقبت حتى كنت في أعلاها، فأخذت في العروة، فقيل له استمسك. فاستيقظت وإنها لفي يدي. فقصصتها على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "تلك الروضة الإسلام، وذلك العمود عمود الإسلام وتلك العروة عروة الوثقى، فأنت على الإسلام حتى تموت". وذلك الرجل عبد الله بن سلام.
(البخاري 7/161 ح 3813 - كتاب المناقب، ب مناقب عبد الله بن سلام) ، وأخرجه مسلم أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد قال: (بالعروة الوثقى) ، قال: الإيمان.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قال: (لا انفصام لها) قال: لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
قوله تعالى (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمنوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة قال (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور) يقول: من الضلالة إلى الهدى (والذين كفروا أوليائهم الطاغوت) ، الشيطان: (يخرجونهم من النور إلى الظلمات) ، يقول: من الهدى إلى الضلالة.
قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ)
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد قال: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ) ، قال: هو نمروذ بن كنعان.(1/370)
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
قوله تعالى (فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (لم يتسنه) : لم يتغير.
قوله تعالى (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كيف نخرجها.
قوله تعالى (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)
قال البخاري: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة وسعيد، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) . ا. هـ. وعلى هذا فإن إبراهيم لم يشك وإنما أراد التأكد والاطمئنان.
(البخاري 8/49 ح 4537 - كتاب التفسير - سورة البقرة - باب وإذ قال إبراهيم) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: أعلم أنك تجيبني إذا دعوتك وتعطيني إذا سألتك.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة قال: (ولكن ليطمئن قلبي) ، يقول: لأزداد يقيناً.
قوله تعالى (قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قطعهن.(1/371)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن معمر عن قتادة في قوله تعالى (فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك) قال: فمزقهن، قال: أمر أن يخلط الدماء بالدماء والريش بالريش، ثم يجعل على كل جبل منهن جزءاً.
قوله تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)
قال مسلم: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة. حدثنا أبو معاوية ووكيع، عن الأعمش. ح وحدثنا زهير بن حرب. حدثنا جرير، عن الأعمش. ح وحدثنا أبو سعيد الأشج (واللفظ له) حدثنا وكيع. حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كل عمل ابن آدم يضاعف.
الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف".
(مسلم 2/807 ح 164 - الصيام، ب فضل الصيام) .
قال مسلم: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي. أخبرنا جرير، عن الأعمش، عن أبي عمرو الشيباني، عن أبي مسعود الأنصاري. قال: جاء رجل بناقة مخطومة. فقال: هذه في سبيل الله. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لك بها، يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة".
(الصحيح 3/1505 ح 1892 - كتاب الإمارة - باب فضل الصدقة في سبيل الله) .
قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وأبو كريب (واللفظ لأبى كريب) قالوا: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن مزاحم بن زفر، عن مجاهد، عن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "دينار أنفقته في سبيل الله. ودينار أنفقنه في رقبة. ودينار تصدقت به على مسكين. ودينار أنفقته على أهلك.
أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك".
(الصحيح 2/692 ح 995 - كتاب الزكاة - باب فضل النفقة على العيال والمملوك وإثم من ضيعهم أو حبس نفقتهم عنهم) .(1/372)
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)
قوله تعالى (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الغني: الذي كمل غناه. والحليم: الذي كمل في حلمه.
وانظر الآية التالية مع حديث أحمد عن عبد الله بن عمرو.
قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر. حدثنا شعبة، وحجاج قال: حدثني شعبة، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن نبيط بن شريط -قال غندر: نبيط بن سميط، قال ححاج: نبيط بن شريط- عن جابان، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لا يدخل الجنة منان، ولا عاق والديه، ولا مدمن خمر".
(المسند رقم 6882) وأخرجه أيضاً من طريق سالم بن أبي الجعد عن جابان به. وأخرجه من طرق أخرى كذلك ذكرها المحقق (المسند رقم 6537، 6892) وصححه المحقق بعد أن جمع طرقه وشواهده وخرجه تخريجاً وافياً كافياً نافعاً فلا داعي لتكراره) انظر هامش رقم 6537) . وقال محققو المسند صحيح لغيره (11/473 ح 6882) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة قال: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) فقرأ حتى بلغ (على شيء مما كسبوا) ، فهذا مثل ضربه الله لأعمال الكفار يوم القيامة يقول: لا يقدرون على شيء مما كسبوا يومئذ، كما ترك هذا المطر الصفاة الحجر ليس عليه شيء، أنقى ما كان عليه.(1/373)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
قال الشيخ الشنقيطي: بين أن المراد بالذي الذين بقوله (لا يقدرون على شيء مما كسبوا) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: صفوان: يعني الحجر.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: ليس عليه شيء.
قوله تعالى (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أنفسهم كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة قال: (وتثبيتا من أنفسهم) ، قال: ثقة من أنفسهم.
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد قال: (كمثل جنة بربوة) قال: الربوة المكان الظاهر المستوى.
أخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله (فطل) قال: الطل: الندا.
قوله تعالى (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)
قال البخاري بسنده عن عبيد بن عمير قال: قال عمر - رضي الله عنه - يوماً لأصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: في ترون هذه الآية نزلت (أيود أحدكم أن تكون له جنة) ؟ قالوا: الله أعلم. فغضب عمر فقال: قولوا نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عباس: في نفسي منها يا أمير المؤمنين. قال عمر: يا ابن أخي قل ولا تحقر(1/374)
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)
نفسك. قال ابن عباس: ضربت مثلا لعمل، قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس: لعمل. قال عمر: لرجل غني يعمل بطاعة الله عز وجل، ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله.
(الصحيح ح 4538 - تفسير سورة البقرة، باب قوله (أيود أحدكم أن تكون له جنة)) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قال: (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب) ، كمثل المفرط في طاعة الله حتى يموت. قال، يقول: أيود أحدكم أن يكون له دنيا لا يعمل فيها بطاعة الله، كمثل هذا الذي له جنات تجري من تحتها الأنهار، (له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت) ، فمثله بعد موته كمثل هذا حين أحرقت جنته وهو كبير لا يغني عنها شيئاً، وولده صغار لا يغنون عنها شيئاً. وكذلك المفرط بعد الموت، كل شيء عليه حسرة.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة قال: (أيود أحدكم أن تكون له جنة) إلى قوله (فاحترقت) يقول: فذهبت جنته كأحوج ما كان إليها حين كبرت سنه وضعف عن الكسب (وله ذرية ضعفاء) لا ينفعونه. قال: وكان الحسن يقول (فاحترقت) فذهبت أحوج ما كان إليها فذلك قوله: أيود أحدكم أن يذهب عمله أحوج ما كان إليه؟.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: في زوال الدنيا وفنائها، وإقبال الآخرة وبقائها.
أخرج الطبري بسند صحيح قال: حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري قال، قال مجاهد: (لعلكم تتفكرون) ، قال: تطيعون.
قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ... )
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: تصدقوا من أطيب أموالكم وأنفسه.(1/375)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية، ثنا أحمد بن عبد الرحمن، حدثني أبي، عن أبيه، عن الأشعث بن إسحاق، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد، عن ابن عباس قال: كان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يشترون الطعام الرخيص ويتصدقون، فأنزل الله على نبيه (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم) الآية إلى آخرها.
(التفسير ح رقم 3172) . وعزاه السيوطي إلى ابن مردويه، والضياء المقدسي أيضاً (الدر المنثور 1/345) . وهل الأثر إسناده حسن، وقد تكلم ابن منده وحده في جعفر بن أبي المغيرة، لكن وثقه الإمام أحمد، وابن شاهين، وقال الذهبي: كان صدوقاً. (انظر: ثقات ابن شاهين رقم 167، تهذيب التهذيب 2/108، الميزان 1/417) . وبقية رجال الإسناد. ما بين ثقة إمام، وصدوق، فيكون الإسناد حسناً كما تقدم تقريره. ويشهد له ما سيأتي عن البراء بن عازب.
قوله تعالى (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ)
قال الحاكم: أخبرنا محمد بن أحمد بن إسحاق الصفار العدل. ثنا أحمد بن محمد بن نصر. ثنا عمرو بن طلحة القناد. ثنا أسباط بن نصر، عن السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب في قول الله عز وجل (ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) قال: نزلت في الأنصار كانت الأنصار تخرج إذا كان جذاذ النخل من حيطانها أقناء البسر فيعلقونه على حد رأس اسطوانتين في مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيأكل منه فقراء المهاجرين فيعمد أحدهم فيدخل قنو الحشف يظن أنه في كثرة ما يوضع من الأقناء فنزل فيمن
فعل ذلك (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه)
يقول: لو أهدي لكم لم تقبلوه إلا على استحياء من صاحبه عطاء أنه بعث إليكم بما لم يكن له فيه حاجة واعلموا أن الله غني عن صدقاتكم حميد.
(هذا حديث غريب صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. (المستدرك 2/285) .(1/376)
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن عمارة بن عمير، عن عمته أنها سألت عائشة رضي الله عنها: في حجري يتيم أفأكل من ماله؟ فقالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن من أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وولده من كسبه".
(السنن 3/288 - كتاب البيوع - باب في الرجل يأكل من مال ولده، ح 3528) وأخرجه الترمذي (كتاب الأحكام، ب ما جاء أن الوالد يأخذ من مال ولده ح 1358) ، والنسائي (7/241 - كتاب البيوع، ب الحث على الكسب) كلاهط من طريق عمارة بن عمير به. وأخرجه ابن ماجه (كتاب التجارات، ب الحث على الكسب ح 2137) من طريق إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة به.
قال الترمذي: حديث حسن صحح. وصححه الألباني (صحيح الجامع 2/49) .
قال النسائي: أخبرنا يونس بن عبد الأعلى والحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع، عن ابن وهب قال: حدثني عبد الجليل بن حميد اليحصبي أن ابن شهاب حدثه قال: حدثني أبو أمامة بن سهل بن حنيف في الآية التي قال الله عز وجل (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) قال: هو الجعرور ولون حُبَيْق فنهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تؤخذ في الصدقة الرذالة.
(السنن 5/43 - كتاب الزكاة - باب قوله عز وجل (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) وأخرجه ابن خزيمة (4/39 - كتاب الزكاة - باب الزجر عن إخراج الحبوب والتمور الرديئة ح 2312) من طريق يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب به. وأخرجه الحاكم من طريق الزهري به، وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 2/284) قال الألباني: إسناده حسن صحيح. والجُعرور: نوع رديء من العمر (المصباح المنير 1/102) . والحُبيق: لون من الدْقل رديء (مختار الصحاح 205) .
انظر حديث أبي هريرة المتقدم عند تفسير الآية (172) من سورة البقرة.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة قال: (ولا تيمموا) ، لا تعمدوا.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قال: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) ، قال: كانوا يتصدقون -يعني من النخل- بحشفه وشراره، فنهوا عن ذلك، وأمروا أن يتصدقوا بطيبه.(1/377)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة قال: (ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه) يقول: لستم بآخدي هذا الرديء بسعر هدا الطيب، إلا أن يغمض لكم فيه.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لو كان لكم على أحد حق فجاءكم بحق دون حقكم لم تأخذوا بحساب الجيد حتى تنقصوه، قال فذلك قوله (إلا أن تغمضوا فيه) فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم وحقي عليكم من أطيب أموالكم وأنفسه؟ وهو قوله (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) آل عمران: 92.
قوله تعالى (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة قال: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا) يقول مغفرة لفحشائكم وفضلاً لفقركم.
قوله تعالى (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ)
أخرج الشيخان بسنديهما عن عبد الله بن مسعود قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلط على هلكته في الحق، ورجل أتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها".
(صحيح البخاري- العلم، ب الاغتباط في العلم والحكمة 1/165 ح 73) ، (وصحيح مسلم 1/558 ح 816 - ك صلاة المسافرين، ب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه) ..
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: يعني المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابيه، ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله.
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد قال: (يؤتي الحكمة من يشاء) ، قال: يؤتي الإصابة من يشاء.(1/378)
وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)
قوله تعالى (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ)
قال البخاري: حدثنا أبو نعيم. حدثنا مالك، عن طلحة بن عبد الملك، عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصه فلا يعصيه".
(الصحيح 11/581 ح 6696 - ك الأيمان والنذور، ب النذر في طاعة) .
قال أبو داود: حدثنا مسدد، ثنا يحيى بن سعيد القطان قال: أخبرني يحيى بن سعيد الأنصاري، أخبرني عبيد الله بن زحر، أن أبا سعيد أخبره، أن عبد الله بن مالك أخبره، أن عقبة بن عامر أخبره، أنه سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أخت له نذرت أن تحج حافية غير مختمرة، فقال: "مروها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام".
(السنن 3/233- ك الأيمان والنذر، ب من رأى عليه كفارة إذا كاد في معصية) وأخرجه
الترمذي (كتاب الأيمان والنذور رقم 1544) عن سفيان، والنسائي (7/20 - ك الأيمان والنذور -
ب إذا حلفت المرأة لتمشي) من طريق عمرو بن علي ومحمد بن المثنى، وأحمد في مسنده (4/143) عن
هيثم، كلهم عن يحيى بن سعيد به. قال الترمذي: هذا حديث حسن والعمل على هذا عند أهل العلم،
وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود ح 2821) .
قال مسلم: حدثني زهير بن حرب وعلي بن حجر السعدي -واللفظ لزهير- قالا: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي الملهب، عن عمران بن حصين ... فذكر حديثاً طويلاً فيه قصة المرأة التي نذرت أن تذبح ناقة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن نجاها الله عليها، وفيه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها: "سبحان الله -بئسما جزتها، نذرت لله إن نجاها عليها لتنحرنها، لا وفاء لنذر في معصية، ولا فيما لا يملك العبد".
(الصحيح 3/1262-1263 ح 1641 - ك النذر، ب لا وفاء لنذر في معصية الله ... ) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قال: (وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه) ، ويحصيه.(1/379)
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
قوله تعالى (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ... )
قال الإمام أحمد: ثنا علي بن إسحاق، أنا عبد الله بن مبارك، أنا حرملة بن عمران أنه سمع يزيد بن أبي حبيب يحدث أن أبا الخير حدثه أنه سمع عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس -أو قال: يحكم بين الناس-" قال يزيد: وكان أبو الخير لا يخطئه يوم إلا تصدق فيه بشيء ولو كعكة أو بصلة أو كذا.
(المسند 4/147) وصححه الألباني (صحيح الجامع الصغير 4/170) وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه (4/94 ح 2431) ، وابن حبان (الإحسان 5/131-132 ح 3299) ، والحاكم في المستدرك (1/416) من طرق عن ابن مبارك به، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وعزاه الهيثمي إلى أحمد والطبراني وأبي يعلى وقال: ورجال أحمد ثقات (مجمع الزوائد 3/110) . وصححه السيوطي (الجامع الصغير مع فيض القدير 5/12 ح 6282) .
قال أحمد: حدثنا علي بن عاصم، أخبرنا إبراهيم بن مسلم الهجري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله: "ليتق أحدكم وجهه من النار ولو بشق تمرة".
(المسند ح 4265) قال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد 3/105) وصححه الألباني (صحيح الجامع الصغير 5/83) .
أخرج الشيخان بسنديهما عن حارثة بن وهب قال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "تصدقوا، فإنه يأتي عليكم زمان يمشي الرجل بصدقته فلا يجد من يقبلها، يقول الرجل: لو جئت بها بالأمس لقبلتها، فأما اليوم فلا حاجة لي بها".
(البخاري 3/330 ح 1411 - كتاب الزكاة، ب الصدقة قبل الرد) ، (مسلم - كتاب الزكاة، باب الترغيب في الصدقة ح 1011) من طريق محمد بن جعفر، عن شعبة به.
قوله تعالى (وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)
أخرج الشيخان بسنديهما عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل(1/380)
قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه".
(صحح البخاري - الأذان، باب من جلس في المسجد 2/143) ، (وصحيح مسلم 2/517 ح 1031 - الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: فجعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها بسبعين ضعفا، وجعل صدقة الفريضة: علانيتها أفضل من سرها، يقال: بخمسة وعشرين ضعفا وكذلك جميع الفرائض والنوافل.
قوله تعالى (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ)
قال النسائي: أنا محمد بن عبد الله بن عبد الرحيم، نا الفريابي، نا سفيان، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسبائهم من المشركين، فسألوا فرخص لهم، فنزلت هذه الآية (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) .
(التفسير 1/282 ح 72) . وأخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (رقم 3242) ، والطبراني في الكبير (12/54 ح 12453) ، والحاكم في المستدرك (2/285، 4/191) ، والبيهقي في سننه (4/191) -من طريق الحاكم في الموضع الأول-، كلهم من طرق عن سفيان، عن الأعمش. وهذا الإسناد صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح، من سفيان إلى آخره، وما دون سفيان: فالفريابي في إسناد النسائي هو محمد بن يوسف. ثقة فاضل، وشيخ النسائي: ثقة. ولهذا قال الحاكم -عقب إخراجه في الموضع الأول-: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ورمز له الذهبي في التلخيص برمز البخاري ومسلم. وقد سقط من إسناد الحاكم الأول (الأعمش) وتابعه في ذلك البيهقي، لكنه أتى به تاماً -كرواية الجماعة- في الموضع الثاني. وقال الهيثمي في (مجمع الزوائد 6/324) في رواية البزار: ورجاله ثقات. وقال ابن حجر (مختصر زوائد البزار 2/75 ح 1450) : صحيح.(1/381)
لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
قوله تعالى (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ... )
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا سبب فقرهم، ولكنه بين في سورة الحشر أن سبب فقرهم هو إخراج الكفار لهم من ديارهم وأموالهم بقوله (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم) الآية.
قال مسلم: حدثنا قتيبة بن سعيد. حدثنا المغيرة (يعني الحزامي) عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس. فترده اللقمة واللقمتان. والتمرة والتمرتان". قالوا: فما المسكين؟ يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -! قال: "الذي لا يجد غنى يغنيه. ولا يُفطن له، فيُتصدق عليه. ولا يسأل الناس شيئاً".
(الصحيح - الزكاة، ب المسكين الذي لا يجد غنى 2/219 ح 103) وأخرجه البخاري في (الصحيح - التفسير، ب لا يسألون الناس إلحافاً) 8/202 ح 4539) .
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد وهشام بن عمار، قالا: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الرجال، عن عمارة بن غزية، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف" فقلت: ناقتي الياقوتة هي خير من أوقية قال هشام: خير من أربعين درهماً، فرجعت فلم أسأله شيئاً، زاد هشام في حديثه: وكانت الأوقية على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعين درهماً.
(السنن 2/116-117 ك الزكاة، ب من يعطي من الصدقة وحد الغنى) وأخرجه النسائي 5/98 (ك الزكاة، ب من الملحف) من طريق قتيبة عن ابن أبي الرجال به. وأخرجه ابن خزيمة (4/100- ك الزكاة، ب ذكر الغني تكون المسألة معه إلحافاًَ ح 2447) من طريق عبد الله بن يوسف عن ابن أبي الرجال به. قال الألباني: إسناده صحيح كما بينته في الصحيحة رقم (1719) . وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه (ح 2448) ، وابن حبان كما في (الإحسان 5/165 ح 3381) .(1/382)
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد قال: (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله) ، مهاجري قريش بالمدينة مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أمروا بالصدقة عليهم.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة قال: حصروا أنفسهم في سبيل الله للغزو حبسوا أنفسهم في سبيل الله للعدو فلا يستطيعون تجارة.
انظر الآية رقم (196) من السورة نفسها عند قوله تعالى (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي) .
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد قال: (تعرفهم بسيماهم) ، قال: من التخشع.
قوله تعالى (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)
أخرج البخاري بسنده عن حمزة بن جندب - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعني مما يكثر أن يقول لأصحابه: "هل رأى أحد منكم من رؤيا"؟ … ثم ذكر حديث الإسراء وفيه قول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فانطلقنا فأتينا على نهر -حسبت أنه كان يقول أحمر مثل الدم- وإذا في النهر رجل سابح يسبح وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة فيفغر له فاه فليقمه حجراً ...
وفي آخر الحديث قول جبريل عليه السلام: "وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويلقم الحجر فإنه حمل الربا".
(البخاري 12/457 ح 747 - كتاب التعبير - باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح) .
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد قال: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) ، يوم القيامة، لما أكل الربا في الدنيا.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة قال: (الذين يأكلون الربا لا يقومون) الآية، وتلك علامة أهل الربا يوم القيامة، بعثوا وبهم خبل من الشيطان.(1/383)
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)
قوله تعالى (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)
قال الشيخ الشنقيطي: واعلم أن الله صرح بتحريم الربا بقوله (وحرم الربا)
وصرح بأن المتعامل بالربا محارب الله بقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) .
وصرح بأن آكل الربا لا يقوم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس بقوله (إن الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا) والأحاديث في ذلك كثيرة جداً.
أخرج مسلم بسنده عن أبي قلابة، قال: كنت بالشام في حلقة فيها مسلم بن يسار. فجاء أبو الأشعث. قال: قالوا، أبو الأشعث، أبو الأشعث. فجلس فقلت له: حَدِّث أخانا حديث عبادة بن الصامت. قال: نعم. غزونا غزاة وعلى الناس معاوية. فغنمنا غنائم كثيرة. فكان، فيما غنمنا، آنية من فضة. فأمر معاوية رجلاً أن يبيعها في أعطيات الناس فتسارع الناس في ذلك. فبلغ عبادة بن الصامت فقام فقال: إني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا سواء بسواء. عيناً بعين. فمن زاد أو ازداد فقد أربى". فرد الناس ما أخذوا. فبلغ ذلك معاوية فقام خطيباً فقال: ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحاديث. قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه. فقام عبادة بن الصامت فأعاد القصة. ثم قال: لنحدثن بما سمعنا من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإن كره معاوية (أو قال: وإن رغم) ما أبالي أن لا أصحبه في جنده ليلة سوداء. قال حماد: هذا أو نحوه.
(مسلم 3/1210 ح 1587 - كتاب المساقاة - باب الصرف وبيع الذهب بالورق) .(1/384)
قال مسلم: حدثنا قتيبة بن سعيد. حدثنا ليث. ح وحدثنا محمد بن رمح.
أخبرنا الليث، عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس بن الحدثان؛ أنه قال: أقبلت أقول: من يصطرف الدراهم؟ فقال طلحة بن عبيد الله (وهو عند عمر بن الخطاب) : أرنا ذهبك. ثم ائتنا، إذا جاء خادمنا، نعطك ورقك. فقال عمر بن الخطاب: كلا، والله! لتعطينه ورقه. أو لتردن إليه ذهبه. فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الورق بالذهب رباً إلا هاء وهاء. والبر بالبر رباً إلا هاء وهاء. والشعير بالشعير رباً إلا هاء وهاء. والتمر بالتمر رباً إلا هاء وهاء".
(مسلم 3/1209 ح 1586 - كتاب المساقاة - باب الصرف وبيع الذهب بالورق) .
أخرج الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما نزلت آخر البقرة قرأهن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهم في المسجد، ثم حرم التجارة في الخمر.
صحيح البخاري 4/313 و8/51 ك التفسير سورة البقرة) ، (وصحيح مسلم 3/1206 ح1580) .
أخرج مسلم: عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائباً بناجز".
(مسلم 3/1208 ح 1584 - كتاب المساقاة - ب الصرف وبيع الذهب بالورق) .
قال البخاري: حدثنا أبو الوليد. حدثنا شعبة، عن عون بن أبي جحيفة قال: رأيت أبي اشترى عبداً حجاماً، فسألته، فقال: "نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ثمن الكلب وثمن الدم، ونهى عن الواشمة والموشومة، وآكل الربا وموكله، ولعن المصور".
(صحيح البخاري 4/314) .(1/385)
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)
قوله تعالى (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا ... )
قال ابن ماجة: حدثنا العباس بن جعفر. ثنا عمرو بن عون. ثنا يحيى بن أبي زائد، عن إسرائيل، عن دكين بن الربيع بن عميلة، عن أبيه، عن ابن مسعود، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة".
(السنن - التجارات، ب التغليظ في الربا - 2279. قال البوصيري: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات (مصباح الزجاجة 2/24) ، رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي مسعود أيضاً (المسند 1/395، 424) . والحاكم وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي (المستدرك 2/37) (وحسنه ابن حجر (الفتح 4/315) . وقال الألباني: صحيح. (صحيح ابن ماجه 2/28) .
قال ابن كثير: يخبر الله تعالى أنه يمحق الربا أي يذهبه إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به بل يعدمه به في الدنيا ويعاقبه عليه يوم القيامة كما قال تعالى (قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث) وقال تعالى (ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم) وقال (وما أوتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله) الآية.
قوله تعالى (وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) الآية.
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر في هذه الآية الكريمة أنه تعالى يربي الصدقات وبين في موضع آخره أن هذا الإرباء مضاعفة الأجر، وأنه يشترط في ذلك إخلاص النية لوجه الله تعالى وهو قوله تعالى (وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون) .
أخرج البخاري: بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب -ولا يقبل الله إلا الطيب- فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل الجبل".
(الصحيح 3/278 ح 1410 - ك الزكاة، ب الصدقة من كسب طيب لقوله تعالى (ويربي
الصدقات ... )) . الفلو: المهر بعد الفطام.(1/386)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)
قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)
قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج أنبأنا شريك، عن سماك، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لعن الله آكل الربا، وموكله وشاهديه، وكاتبه"، قال: وقال: "ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله عز وجل".
(المسند رقم 3809، وصححه المحقق. وذكره الهيثمي في المجمع (4/118) وقال: إسناده جيد.
وصححه الألباني (صحيح الجامع 5/18) . وأخرجه مسلم مقتصراً على الشق الأول (الصحيح 3/1218 ح 1597 - ك المساقاة، باب لعن آكل الربا وموكله) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: فمن كان مقيما على الربا لا ينزع عنه، فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع وإلا ضرب عنقه.
قوله تعالى (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ)
قال الترمذي: حدثنا الحسن بن علي الخلال. حدثنا حسين بن علي الجعفي، عن زائدة، عن شبيب بن غرقدة، عن سليمان بن عمرو بن الأحوص. حدثنا أبي أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال: "أي يوم أحرم أي يوم أحرم أي يوم أحرم"؟ قال: فقال الناس يوم الحج الأكبر يا رسول الله، قال: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، ألا لا يجني جان إلا على نفسه، ولا يجني والد على ولده، ولا ولد على والده؛ ألا إن المسلم أخو المسلم، فليس يحل لمسلم من أخيه شيء إلا ما أحل من نفسه، ألا وإن كل ربا في الجاهلية موضوع، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون غير ربا العباس ابن عبد المطلب فإنه موضوع كله، ألا وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع،(1/387)
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)
وأول دم وضع من دماء الجاهلية دم الحارث بن عبد المطلب، كان مسترضعاً في بن ليث فقتلته هذيل. ألا واستوصوا بالنساء خيراً فإنما هن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً؛ ألا إن لكم على نسائكم حقاً، ولنسائكم عليكم حقاً، فأما حقكم على نسائكم، فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم من تكرهون، ألا وإن حقهن عليكم أنا تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن".
(السنن 5/273-274 ح 3087 - ك التفسير، ب سورة التوبة) ، وقال: حديث حسن صحيح.
وأخرجه أبو داود في سننه (3/244 - ك البيوع، ب في وضع الربا 3334، وأخرجه ابن ماجه في سننه (2/1015 - ك المناسك، ب خطبة يوم النحر 3055) ، كلاهما من حديث أبي الأحوص عن شبيب به. وصححه ابن عبد البر (الاستيعاب 2/516 حاشية الإصابة) . وصححه الألباني في (صحيح سنن ابن ماجة، وأبي داود ح 2852) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لا تَظلِمون: فتربون. وتُظلَمون: فتنقصون.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة قال: (وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم) ، والمال الذي لهم على ظهور الرجال، جعل لهم رؤوس أموالهم حين نزلت هذه الآية، فأما الربح والفضل فليس لهم، ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئا.
قوله تعالى (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)
أخرج البخاري بسنده أن حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم، فقالوا: أعملت من الخير شيئاً؟ قال: كنت آمر فتياني أن ينظروا ويتجاوزوا عن الموسر. قال: فتجاوزوا عنه".
(الصحيح 4/307 ح 2077 - البيوع، ب من أنظر موسراً) .(1/388)
وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
قال الحاكم: حدثنا أبو محمد أحمد بن عبد الله المزني وأبو سعيد أحمد بن يعقوب الثقفي قالا ثنا أبو جعفر محمد بن عبد الله الحضرمي، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا عفان بن عبد الوارث بن سعيد، ثنا محمد بن جحادة، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من أنظر معسراً فله بكل يوم صدقة قبل أن يحل الدين فإذا حل الدين فأنظره بعد ذلك فله بكل يوم مثله صدقة".
(هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه (المستدرك 2/29) . وأخرجه الإمام أحمد من طريق محمد بن جحادة به. (المسند 5/360) وقال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد 4/135) . وصححه السيوطي (الجامع الصغير 6/90 ح 8539) ، وصححه الألباني في (الصحيحة ح 86) .
أخرج مسلم بسنده عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت مرفوعاً: "من أنظر معسراً، أو وضع عنه، أظله الله في ظله".
(الصحيح 4/2301-2302- ك الزهد والرقائق، ب حديث جابر الطويل، وقصة أبي اليسر) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) يعني المطلوب.
قوله تعالى (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ…)
ساق الإمام البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: آخر آية نزلت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آية الربا.
(الصحيح ح 4544 - تفسير سورة البقرة، ب (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) ، وعلق الحاكم ابن حجر بقوله: وأخرج هذا الحديث بهذا اللفظ، ولعله أراد أن يجمع بين قولي ابن عباس فإنه جاء عنه ذلك من هذا الوجه، وجاء عنه من وجه آخر: آخر آية نزلت على النبي (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ... ) أخرجه الطبري من طرق عنه، وكذا أخرجه من طرق جماعة من التابعين وزاد عن ابن جريح قال: يقولون إنه مكث بعدها تسع ليال. ونحوه لابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، وروى عن غيره أقل من ذلك وأكثر فقيل إحدى وعشرين، وقيل سبعاً، وطريق الجمع بين هذين القولين أن هذه الآية هي ختام الآيات المنزلة في الربا إذ هي معطوفة عليهن. (الفتح 8/205) .(1/389)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ)
قال ابن كثير: فقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد فيها وقد نبه على هذا في آخر الآية حيث قال (ذلك أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى أن لا ترتابوا) .
قال الشيخ الشنقيطي: ظاهر هذه الآية الكريمة أن كتابة الدين واجبة؛ لأن الأمر من الله يدل على الوجوب - ولكنه أشار إلى أنه أمر إرشاد لا إيجاب بقوله (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة) ؛ لأن الرهن لا يجب إجماعا وهو بدل من الكتابة عند تعذرها في الآية فلو كانت الكتابة واجبة لكان بدلها واجبا. وصرح بعدم الوجوب بقوله (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) .
قوله تعالى (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة قال: (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ) اتقى الله كاتب في كتابه، فلا يدعن منه حقاً، ولا يزيدن فيه باطلاً.
قوله تعالى (وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قال (وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ) قال: واجب على الكاتب أن يكتب.
قوله تعالى (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة قال: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ(1/390)
إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) علم الله أن ستكون حقوق، فأخذ من بعضهم لبعض الثقة، فخذوا بثقة الله، فإنه أطوع لربكم وأدرك لأموالكم.
ولعمري إن كان تقياً لا يزيده الكتاب إلا خيراً، وإن كان فاجراً فبالحرى أن يؤدي إذا علم أن عليه شهود.
أخرج البخاري بسنده عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل"؟ قلن: بلى. قال: "فذلك من نقصان عقلها".
(الصحيح 5/269 ح 2658 - الشهادات، ب شهادة النساء قوله تعالى (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان)) .
قال مسلم: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير. قالا: حدثنا زيد (وهو ابن حباب) . حدثني سيف بن سليمان. أخبرني قيس بن سعد عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس: "أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بيمين وشاهد".
(الصحيح 3/1337 ح 1712 - ك الأقضية، ب القضاء باليمين والشاهد) .
قال الحاكم: أخبرنا أبو عبد الله الصفار، ثنا أحمد بن مهران، ثنا عبد الله بن موسى، أبنا ابن جريح، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في شهادة الصبيان قال: قال الله عز وجل (ممن ترضون من الشهداء) قال: ليس الصبيان ممن يرضى.
(المستدرك 4/99) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.
قال مسلم: وحدثنا يحيى بن يحيى. قال: قرأت على مالك عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن ابن أبي عمرة الأنصاري، عن زيد بن خالد الجهني؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا أخبركم بخير الشهداء! الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها".
(الصحيح 3/1344 ح 1719 - كتاب الأقضية، باب بيان خير الشهود) .(1/391)
قوله تعالى (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: يعني من احتيج إليه من المسلمين شهد على شهادة إن كانت عنده، ولا يحل له أن يأبى إذا ما دعى.
قوله تعالى (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: والضرار أن يقول الرجل للرجل وهو عنه غني، إن الله قد أمرك أن لا تأبى إذا دعيت! فيضاره بذلك، وهو مكتف بغيره، فنهاه الله عن ذلك وقال (وإن تفعلوا فإنه فسوق) .
أخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ) قال: لا يضار كاتب، فيكتب ما لم يمل عليه، ولا شهيد، يقول: فيشهد بما لم يشهد عليه.
قوله تعالى (فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الفسوق: المعصية.
قوله تعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ)
أخرج الشيخان بسنديهما عن عائشة رضي الله عها قالت: "اشترى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طعاماً من يهودي بنسيئة، ورهنه درعاً له من حديد".
(صحيح البخاري 5/142 ح 2509 - ك الرهن، ب من رهن درعه) . (وصحيح مسلم 3/1226 ح 1603 - ك المساقاة، ب الرهن وجوازه في السفر) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قال (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً) يقول: مداداً -يقرؤها كذلك- يقول: فإن لم تجدوا مداداً، فعند ذلك تكون الرهون المقبوضة (فرهن مقبوضة) ، لا يكون الرهن إلا في السفر.(1/392)
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
قوله تعالى (وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: أكبر الكبائر الإشراك بالله، لأن الله يقول (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار) المائدة: 72. وشهادة الزور، وكتمان الشهادة، لأن الله عز وجل يقول (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) .
قوله تعالى (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: فإنها لم تنسخ، ولكن الله إذا جمع الخلاق يوم القيامة، يقول الله عز وجل إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتي. فأما المؤمنين فيغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم، وهو قوله (يحاسبكم به الله) يقول: يخبركم، وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوه في أنفسهم من التكذيب وهو قوله (فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) وهو قوله (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) البقرة 225. أي من الشك والنفاق.
أخرج مسلم بسنده عن أبي هريرة، قال: لما نزلت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير) قال: فاشتد(1/393)
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
ذلك على أصحاب رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأتوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثم بركوا على الركب.
فقالوا أي رسول الله! كلفنا من الأعمال ما نطيق. الصلاة والصيام والجهاد والصدقة. وقد أنزلت عليك هذه الآية. ولا نطيقها. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. فلما اقترأها القوم ذلت بها ألسنتهم. فأنزل الله في إثرها: (آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى. فأنزل الله عز وجل: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (قال: نعم) (رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) (قال: نعم) (رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) (قال: نعم) (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (قال: نعم) .
(صحيح مسلم 1/115-116 - ك الإيمان، ب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق) .
أخرج البخاري بسنده عن مروان الأصفر عن رجل من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قال أحسبه ابن عمر- (إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه) قال: نسختها الآية التي بعدها.
(الصحيح ح 4546 - ك التفسير - ب (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه) ، وب (وإن تبدوا ما في أنفسكم) ح 45) .
أخرج الشيخان بسنديهما عن أبي هريرة يرفعه قال: "إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست -أو حدَّثت- به أنفسها، ما لم تعمل به أو تكلم".
(صحيح البخاري 11/549 ح 6664 - ك الأيمان والنذور، ب إذا حنث ناسياً في الأيمان) ، (وصحيح مسلم - ك الأيمان، ب تجاوز الله عن حديث النفس رقم 201) .(1/394)
أخرج البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت عندي امرأة من بني أسد، فدخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "من هذه"؟ قلت: فلانة، لا تنام الليل -تذكر من صلاتها- فقال: "مه، عليكم ما تطيقون من الأعمال، فإن الله لا يمل حتى تملوا".
(الصحيح 3/36 ح 1151- ك التشهد، ب ما يكره من التشديد به في العبادة) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: هم المؤمنون، وسع الله عليهم أمر دينهم، فقال الله جل ثناؤه (وما جعل عليكم في الدين من حرج) ، وقال (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) ، وقال (فاتقوا الله ما استطعتم) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة قال: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت) أي: من خير (وعليها ما اكتسبت) أي: من شر - أو قال من سوء.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: إصراً: عهداً.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة قال: (لا تحمل علينا إصراً) قال: لا تحمل علينا عهداً وميثاقاً (كما حملته على الذين من قبلنا) يقول: كما غلظ على الذين من قبلنا.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة قال: (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) تشديد يشدد به، كما شدد على ما كان قبلكم.(1/395)
الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)
سورة آل عمران
فضلها: تقدم ذكره مقروناً بفضل سورة البقرة.
قوله تعالى (الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)
قال الترمذي: حدثنا علي بن خشرم. حدثنا عيسى بن يونس عن عبيد الله ابن أبي زياد القداح، كذا قال عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم) وفاتحة آل عمران (الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) .
(السنن 5/517 ح 3478 - ك الدعوات، ب 65) وأخرجه أبو داود (السنن 2/80 ح 1496 - ك الصلاة، ب الدعاء عن مسدد) ، وابن ماجه (السنن 2/1267 ح 3855 - ك الدعاء، ب اسم الله الأعظم) عن أبي بكر بن أبي شيبة. كلاهما عن عيسى بن يونس. وأخرجه أحمد (المسند 6/461) عن محمد بن بكر. والدارمي (السنن 2/450 - ك فضائل القرآن، ب فضل أول سورة البقرة..) عن أبي عاصم النبيل. وابن أبي حاتم (التفسير ح 4 - آل عمران/1) من طريق مكي بن إبراهيم، جميعهم عن عبيد الله بن أبي زياد به. قال الترمذي: حسن صحيح. وقد ذكر الإمام أحمد أن شهراً روى عن أسماء بنت يزيد أحاديث حساناً (التهذيب 4/370) فلعل هذا الحديث منها. وقال الألباني: حسن.
(صحيح الترمذي ح 2764) .
وانظر الكلام عن الحروف المقطعة في بداية سورة البقرة.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الصحيح عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه (الحي القيوم) قال القائم على كل شيء.
قوله تعالى (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن قتادة قوله (نزل عليك الكتاب بالحق) يقول: (القرآن) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة (نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه) يقول: القرآن (مصدقا لما بين يديه) من الكتب التي قد خلت من قبله.
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد (مصدقا لما بين يديه) قال: لما قبله من كتاب أو رسول.(1/396)
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)
قوله تعالى (وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ)
قال الإمام أحمد: ثنا أبو سعيد مولى بني هاشم: ثنا عمران أبو العوام، عن قتادة، عن أبي المليح، عن واثلة بن الأسقع أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أنزلت صحف إبراهيم عليه السلام في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل الفرقان لأربع وعشرين خلت من رمضان".
(المسند (4/107) ، أخرجه الطبراني (22/75 ح 185) ، وابن أبي حاتم (التفسير - سورة آل عمران، الآية 3-4 ح 335، وسورة المائدة الآية 44، 46، 48 ح 68، 150، 164) من طريق عبد الله بن رجاء عن عمران به. وحسنه السيوطي (فيض القدير مع الجامع الصغير 3/57) .
وقال الألباني: وهذا إسناده حسن ورجاله ثقات، وفي القطان -عمران أبي العوام- كلام يسير، وله شاهد من حديث ابن عباس مرفوعاً نحوه. أخرجه ابن عساكر (2/167/1) و (5/352/1) من طريق علي ابن طلحة عنه ... (الصحيحة ح 1575) . وله شاهد آخر من حديث جابر عند ابن مردويه.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة (وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس) هما كتابان أنزلهما الله، فيهما بيان من الله، وعصمة لمن أخذ به وصدق به، وعمل بما فيه.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة (وأنزل الفرقان) هو القرآن، أنزله على محمد، وفرق به بين الحق والباطل، فأحل فيه حلاله وحرم فيه حرامه وشرع فيه شرائعه، وحد فيه حدوده، وفرض فيه فرائضه، وبين فيه بيانه وأمر بطاعته، ونهى عن معصيته.
قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ)
أي إن الله تعالى يعلم كل شيء وقد فصل ذلك في سورة الأنعام وبين أن كل شيء في كتاب مبين كما قال تعالى (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) الأنعام: 59.(1/397)
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)
قوله تعالى (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة قوله (هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء) ، قادر والله ربنا أن يصور عباده في الأرحام كيف يشاء، ذكر أو أنثى، أو أسود أو أحمر، تام خلقه أو غير تام.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية قوله: (العزيز) عزيز في نقمته إذا انتقم. (الحكيم) حكيم في أمره.
قوله تعالى (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيات مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) إلى قوله (أُولُو الْأَلْبَابِ)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: المحكمات: ناسخه، وحلاله، وحرامه، وحدوده وفرائضه وما يؤمن له ويعمل به (وأخر متشابهات) والمتشابهات: منسوخه، ومقدمه ومؤخره، وأمثاله وأقسامه، وما يؤمن به ولا يعمل به.
قال ومسلم: حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، حدثنا يزيد بن إبراهيم التُستري، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت: تلا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " (هو الذيَ أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أمّ الكتاب وأُخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله. والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا، وما يذكر إلا أولوا الألباب) ". قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمّى الله، فاحذروهم".
(صحيح مسلم 4/2053 ح 2665- ك العلم، ب النهي عن اتباع متشابه القرآن) واللفظ له، (وصحيح البخاري 8/209 ح 4547- ك التفسير- سورة آل عمران) .
قال البخاري: حدثنا أبو معمر قال: حدثنا عبد الوارث قال. حدثنا خالد عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ضمني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: "اللهم علِّمه الكتاب".
(الصحيح 1/169 ح 75)(1/398)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة (المحكمات) : الناسخ الذي يعمل به، ما أحل الله فيه حلاله وحرم فيه حرامه وأما (المتشابهات) : فالمنسوخ الذي لا يعمل به ويؤمن به.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (منه آيات محكمات) ما فيه من الحلال والحرام، وما سوى ذلك فهو (متشابه) ، يصدق بعضه بعضاً وهو مثل قوله (وما يضل به إلا الفاسقين) سورة البقرة 26، ومثل قوله (كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون) سورة الأنعام 125، ومثل قوله تعالى (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم) سورة محمد 17.
قوله تعالى (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء تأويله)
قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قوماً يتدارؤون فقال: "إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضاً، فلا تكذبوا بعضه ببعض فما علمتم منه فقولوا وما جهلتم فكلوه إلى عالمه".
(المصنف 11/216-217 ح 20367) ، وأخرجه أحمد (المسند ح 6741) عن عبد الرزاق به، وصححه محققه. وقال الألباني: صحيح (صحيح الجامع ح 2370) .
يتدارؤون: درأ يدرأ درءاً إذا وقع. (النهاية لابن الأثير 2/109) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (فأما الذين في قلوبهم زيغ) قال: من أهل الشك.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: فيحملون المحكم على المتشابه، والمتشابه على المحكم، ويلبسون فلبس الله عليهم.
قال عبد بن حميد: ثنا يونس عن شيبان عن قتادة: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) قال: طلب القوم التأويل فأخطأوا التأويل وأصابوا الفتنة واتبعوا ما تشابه منه فهلكوا بين ذلك.
ويونس هو الأيلي وشيبان وقتادة تقدم ذكرهما في المقدمة وكلهم ثقات وإسناده صحيح.(1/399)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي في قوله (فيتبعون ما تشابه منه) ، يتبعون المنسوخ والناسخ فيقولون: ما بال هذه الآية عمل بها كذا وكذا مكان هذه الآية، فتركت الأولى وعمل بهذه الأخرى؟ هلا كان العمل بهذه الآية قبل أن تجىء الأولى التي نسخت؟ وما باله يعد العذاب من عمل عملا يعذبه في النار، وفي مكان آخر: من عمله فإنه لم يوجب النار؟.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (ابتغاء الفتنة) قال: إرادة الشرك.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (ابتغاء الفتنة) قال: الشبهات بها أهلكوا.
قوله تعالى (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: يعني تأويله يوم القيامة إلا الله.
قال الطبري حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا خالد بن نزار عن نافع، عن ابن أبي ملكة، عن عائشة قوله: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به) قالت: كان من رسوخهم في العلم أن آمنوا بمحكمه ومتشابهه، ولم يعلموا تأويله.
وسنده حسن.
قال الطبري حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني ابن أبي الزناد قال، قال هشام بن عروة: كان أبي يقول في هذه الآية (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) أن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويله، ولكنهم يقولون (آمنا به كل من عند ربنا) .
وسنده حسن.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال: أنا ممن يعلم تأويله.(1/400)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة قوله: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) قالوا: (كل من عند ربنا) آمنوا بمتشابهه، وعملوا بمحكمه.
قوله تعالى (ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه)
قال البخاري: حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن نصر حدثنا أبو أسامة عن أبي حبان عن أبي زرعة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أتي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوماً بلحم، فقال: "إن الله يجمع يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر، تدنوا الشمس منهم -فذكر حديث الشفاعة- فيأتون إبراهيم فيقولون: أنت نبي الله وخليله من الأرض اشفع لنا إلى ربك، فيقول- فذكر كذباته-: نفسي نفسي، اذهبوا إلى موسى". تابعه أنس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(الصحيح 6/455 ح 3361- ك الأنبياء، ب يزفون: النسلان في المشي)
قوله تعالى (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً وأولئك هم وقود النار)
قال ابن كثير: يخبر تعالى عن الكفار بأنهم وقود النار (يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة لهم سوء الدار) وليس ما أوتوه في الدنيا من الأموال والأولاد بنافع لهم عند الله ولا بمنجيهم من عذابه وأليم عقابه كما قال تعالى (ولا تعجبك أمولهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون) قال تعالى (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد، متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد) .
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي ثنا ابن أبي مريم، أنبأ ابن لهيعة، أخبرني ابن الهاد، عن هند بنت الحارث، عن أم الفضل أم عبد الله بن عباس قالت: بينما نحن بمكة قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الليل فنادى: اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت "ثلاثاً، فقام عمر بن الخطاب فقال: نعم، ثم أصبح، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليظهرن(1/401)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)
الإسلام حتى يرد الكفر إلى موطنه، وليخوضن البحار بالإسلام، وليأتين على الناس زمان يتعلمون القرآن ثم يقولون: قد قرأنا القرآن، وعلمنا فمن هذا الذي هو خير منا، فهل في أولئك خير؟ "قالوا: يا رسول الله فمن أولئك؟ قال: أولئك منكم، فأولئك معهم (وأولئك هم وقود النار) .
(التفسير: سورة آل عمران- آية 10، ح 152) . وهذا إسناد رجاله ثقات، إلا ابن لهيعة، فإنه صدوق واختلط بعد احتراق كتبه، لكن تابعه على رواية هذا الحديث عبد العزيز بن أبي حازم، عن يزيد بن الهاد به، أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (12/250 ح 13019) ، وحسن إسناده المنذري في (الترغيب والترهيب) ، وحسنه الألباني (صحيح الترغيب 1/58 ح 133) . ولبعضه شاهد من حديث أنس عند البخاري (الصحيح 6/103 ح 2894، 2895) ، قال: حدثتني أم حرام ...
أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "عجبت من قوم من أمتي يركبون البحر كالملوك على الأسرة ... " فيكون هذا الحديث حسناً بهذه المتابعة، الشاهد) .
وانظر سورة البقرة آية (24) لبيان وقود النار.
قوله تعالى (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم)
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا من هؤلاء الذين من قبلهم وما ذنوبهم التي أخذهم الله بها. وبين مواضع أخر أن منهم قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط وقوم شعيب وأن ذنوبهم التي أخذهم بها هي الكفر بالله وتكذيب الرسل وغير ذلك من المعاصي، كعقر ثمود للناقة وكلواط قوم لوط، كتطفيف قوم شعيب للمكيال والميزان، وغير ذلك كما جاء مفصلاً في آيات كثيرة كقوله في نوح وقومه (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فأخذهم الطوفان وهم ظالمون) الآية ونحوها من الآيات وكقوله في قوم هود: (فأرسلنا عليهم الريح العقيم) الآية ونحوها من الآيات وكقوله في قوم صالح: (وأخذ الذين ظلموا الصيحة) الآية ونحوها من الآيات وكقوله في قوم لوط: (فجعلنا عاليها سافلها) الآية، ونحوها من الآيات وكقوله في قوم شعيب: (فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم) ونحوها من الآيات.(1/402)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم) ، ذكر الذين كفروا وأفعال تكذيبهم كمثل تكذيب الذين من قبلهم في الجحود والتكذيب.
قوله تعالى (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (وبئس المهاد) , قال: بئسما مهدوا لأنفسهم.
قوله تعالى (قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة: (قد كان لكم آية) ، عبرة وتفكر.
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (قد كان لكم آية في فئتين) .
قال: محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، ومشركي قريش يوم بدر.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة قوله: (قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين) ، ذلكم يوم بدر ألف المشركون أو قاربوا، وكان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاث مائة وبضعة عشر رجلاً.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة (إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار)
يقول لقد كان لهم في هؤلاء عبرة وتفكر، أيدهم الله ونصرهم على عدوهم.
قوله تعالى (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ... )
انظر حديث الشيخين عن أبي هريرة مرفوعاً: "تنكح النساء لأربع: لمالها وجمالها وحسبها ودينها...." في تفسير سورة البقرة آية 221.(1/403)
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديها الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: القنطار اثنا عشر ألف درهم، وألف دينار.
قال الطبري: حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا حماد ابن زيد، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: القنطار ألف ومئتا أوقية.
وسنده حسن.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة عن الحسن: أن القنطار اثنا عشر ألفاً.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة قال: كنا نحدث أن القنطار ألف رطل من ذهب، أو ثمانون ألفاً من الورق.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: القنطار يكون مائة رطل، وهو ثمانية آلاف مثقال.
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (القناطير المقنطرة) قال: القنطار سبعون ألف دينار.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة: (القناطير المقنطرة من الذهب والفضة) ، والمقنطرة المال الكثير بعضه على بعض.
ولعل هذا الخلاف بسبب اختلاف البلدان، فلكل بلد له مكاييله وأوزانه كالحجاز والشام الكوفة والبصرة ومصر.
قوله تعالى (والخيل المسومة)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: و (الخيل المسومة) : يعني المعلمة.
قال الطبري حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن، قال حدثنا سفيان، قال عن حبيب عن سعيد بن جبير (الخيل المسومة) قال: الراعية، التي ترعى.
ورجاله ثقات وسنده صحيح.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد وفي قوله: (والخيل المسومة) قال: المطهمة حسناً.
المطهم: البارع الجمال (القاموس مادة: ط هـ م)(1/404)
قوله تعالى (والأنعام والحرث)
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا كم يدخل تحت لفظ الأنعام من الأصناف، ولكنه قد بين في مواضع أخر أنها ثمانية أصناف هي: الجمل والناقة والثور والبقرة والكبش والنعجة والتيس والعنز كقوله تعالى (ومن الأنعام حمولة وفرشاً) ثم بين الأنعام بقوله (ثمانية أزواج من الضأن اثنين) يعنى الكبش والنعجة (من المعز اثنين) يعني التيس والعنز إلى قوله (من الأبل اثنين) يعني الجمل والناقة (ومن البقر اثنين) يعني: الثور والبقرة، وهذه الثمانية هي المرادة بقوله (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) وهي المشار إليها بقوله (فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا) الآية.
وانظر سورة البقرة آية (205) .
قوله تعالى (والله عنده حسن المآب)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن السدي: (والله عنده حسن المآب) ، يقول: حسن المنقلب، وهي الجنة.
قوله تعالى (وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد)
قال البخاري: حدثنا معاذ بن أسدٍ، أخبرنا عبد الله، أخبرنا مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة يقولون لبيك وسعديك. فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خَلقك. فيقول: أنا أعطيكم أفضلَ من ذلك قالوا: يا رب، وأي شيء أفضلُ من ذلك؟ فيقول: أحلُّ عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدا".
(الصحيح 11/423 ح 6549- ك الرقاق، ب صفة الجنة والنار) , (وأخرجه مسلم 4/2176 ح 2829- ك الجنة وصفة نعيمها وأهلها، ب إحلال الرضوان على أهل الجنة فلا يسخط عليهم أبداً) .
وانظر سورة البقرة آية (25) .(1/405)
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
قوله تعالى (الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار)
في هذه الآية والتي تليها بيان صفة العباد من أهل الجنة المذكورين في الآية السابقة.
قوله تعالى (الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة قوله: (الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين) ، (الصادقين) : قوم صدقت أفواههم استقامت قلوبهم وألسنتهم وصدقوا في السر والعلانية (والصابرين) قوم صبروا على طاعة الله، وصبروا عن محارمه (القانتين) هم المطيعين لله.
وانظر سورة البقرة آية (116) .
قوله تعالى (والمستغفرين بالأسحار)
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة وأبي عبد الله الأغرِّ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: مَن يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له".
(الصحيح 3/29- ح 1145- ك التهجد، الدعاء والصلاة من آخر الليل) . وأخرجه مسلم (الصحيح- صلاة المسافرين، الترغيب في الدعاء والذكر 1/521 ح 758) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة: (والمستغفرين بالأسحار) هم أهل الصلاة.
قوله تعالى (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن السدي: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة) إلى (لا إله إلا هو العزيز الحكيم) ، قال: الله يشهد هو والملائكة والعلماء من الناس: أن الدين عند الله الإسلام.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (بالقسط) ، بالعدل.(1/406)
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
قوله تعالى (إن الدين عند الله الإسلام)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة قوله: (إن الدين عند الله الإسلام) والإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء به من عند الله، وهو دين الله الذي شرع لنفسه،: بعث به رسله، ودل عليه أولياءه، لا يقبل غيره، ولا يجزي إلا به.
قوله تعالى (وإن تولوا فإنما عليك البلاغ ... )
انظر حديث أبي بكرة المتقدم عند الآية (217) من سورة البقرة، والآتي تحت الآية (2) من سورة المائدة. وفيه: "ألا هل بلغت؟ ".
قوله تعالى (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق)
انظر حديث ابن مسعود المتقدم عند الآية (61) من سورة البقرة.
قوله تعالى (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن ابن إسحاق بسنده عن ابن عباس قال دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيت المدراس على جماعة من اليهود، فدعاهم إلى الله، فقال له نعيم بن عمرو، والحارث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ فقال: على ملة إبراهيم ودينه. فقالا: فإن إبراهيم كان يهودياً! قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فهلموا إلى التوراة، فهي بيننا وبينكم! فأبيا عليه، فأنزل الله عز وجل: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون) إلى قوله (وما كانوا يفترون) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: قوله (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون) أولئك أعداء الله اليهود، دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم وإلى نبيه ليحكم بينهم وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، ثم تولوا عنه وهم معرضون.(1/407)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)
قوله تعالى (ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات) ، قالوا: لن تمسنا النار إلا تحلة القسم التي نصبنا فيها العجل، ثم ينقطع القسم والعذاب عنا قال الله عز وجل: (وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون) ، أي قالوا: (نحن أبناء الله وأحباؤه) .
انظر حديث البخاري عن أبي هريرة عند الآية (80) من سورة البقرة، وفيه سؤال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لليهود: من أهل النار؟ وقولهم: نكون فيها يسيرا… الحديث.
قوله تعالى (تولج الليل في النهار تولج النهار في الليل)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله تعالى (تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل) وقال: ما ينقص من أحدهما في الآخر، يعتقبان أو يتعاقبان.
قوله تعالى (وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله عز وجل: (وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي) قال: الناس الأحياء من النطف والنطف ميته، ويخرجها من الناس الأحياء، والأنعام.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة عن الحسن في قوله: (وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي) ، يعني المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن والمؤمن عبد حي الفؤاد، والكافر عبد ميت الفؤاد.(1/408)
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)
قوله تعالى (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: نهى الله سبحانه المؤمنين أن يلاطفوا الكفار أو يتخذوهم وليجة من دون المؤمنين إلا أن يكون الكفار عليهم ظاهرين فيظهرون لهم اللطف، ويخالفوهم في الدين، وذلك في قوله (إلا أن تتقوا منهم تقاة) .
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن السدي: (ومن يفعل ذلك) قال: ومن يفعل هذا فهو مشرك. وبه عن السدي: (فليس من الله في شيء) فقد برئ الله منه.
قوله تعالى (قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما السموات وما في الأرض والله على كل شيء قدير)
أخرج ابن حاتم بسنده الحسن عن السدي قال: أخبرهم أنه يعلم ما أسروا من ذلك وما أعلنوا، فقال: (إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه) .
قال الإمام أحمد: ثنا أبو العلاء الحسن بن سوار ثنا ليث عن معاوية عن أيوب ابن زياد حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة حدثني أبي قال: دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت فقلت: يا أبتاه أوصني واجتهد لي فقال: أجلسوني. قال: يا بني إنك لا تطعم طعم الإيمان ولم تبلغ حق حقيقة العلم بالله تبارك وتعالى حتى تؤمن بالقدر خيره وشره. قال قلت: يا أبتاه فكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره قال: تعلم ما أخطأك لم يكن يصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك يا بني إني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول. إن أول ما خلق الله تبارك وتعالى القلم. ثم قال: اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة. يا بني: إن متّ ولست على ذلك دخلت النار.
(المسند 5/317) ، وأخرجه أبو داود من طريق أبي حفصة عن عبادة بنحوه. وصححه الألباني (صحيح سنن أبي داود ح 3933) .(1/409)
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
قوله تعالى (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً) يقول: موفراً.
قوله تعالى (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)
قال البخاري: حدثنا عبدان أخبرنا أبي عن شعبة عن عمرو بن مُرّة عن سالم بن أبي الجعد عن أنس بن مالك: أن رجلاً سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: متى الساعة يا رسول الله؟ قال: "ما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله. قال: أنتَ مع من أحببت".
(الصحيح 10/557 ح 6171- ك الأدب, علامة الحب في الله) .
قوله تعالى (قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين)
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل وعبد الله بن محمد النفيلي، قالا: ثنا سفيان، عن أبي النضر، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا ألفيّن أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو ُنهيت عنه فيقول: لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه".
(السنن 4/200 ح 4605- ك السنة، ب في لزوم السنة) ، (وأخرجه الترمذي 5/37 ح 2663- ك العلم، ب ما نهي عنه أن يقال عند حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قتيبة) . وابن ماجة (السنن 1/6-7 ح 13- المقدمة، ب تعظيم حديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... ) عن نصر بن علي الجهضمي.
والحاكم (المستدرك 1/108) من طريق الشافعي والحميدي، كلهم عن سفيان بن عيينة به. قال الترمذي: حسن صحيح. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال البغوي: حديث حسن (شرح السنة 1/200) ، وقال الألباني: صحيح (صحيح سنن ابن ماجة ح 13) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (فإن تولوا) يعني الكفار تولوا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(1/410)
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)
قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ)
قال الإمام أحمد: ثنا إبراهيم بن إسحاق الطالقاني قال حدثني النضر بن شميل المازني قال حدثني أبو نعامة قال حدثني أبو هنيدة البراء بن نوفل عن والان العدوي عن حذيفة عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: أصبح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم فصلى الغداة ثم جلس حتى إذا كان من الضحى ضحك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم جلس مكانه حتى صلى الأولى والعصر والمغرب كل ذلك لا يتكلم حتى صلى العشاء الآخرة ثم قام إلى أهله فقال الناس لأبي بكر لا تسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما شأنه صنع اليوم شيئاً لم يصنعه قط قال: فسأله فقال: "نعم عرض علي ما هو كائن من أمر الدنيا وأمر الآخرة فجمع الأولون والآخرون بصعيد واحد ففظع الناس بذلك حتى انطلقوا إلى آدم عليه السلام والعرق يكاد يلجمهم فقالوا يا آدم أنت أبو البشر وأنت اصطفاك الله عز وجل اشفع لنا إلى ربك قال لقد لقيت مثل الذي لقيتم انطلقوا إلى أبيكم إلى نوح (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) قال: فينطلقون إلى نوح عليه السلام، فيقولون: اشفع لنا إلى ربك، فأنت اصطفاك الله واستجاب لك في دعائه ... فذكر الحديث بطوله.
(المسند 1/4) . وأخرجه ابن أبي حاتم (التفسير- آل عمران- آية 33 ح 390) عن أحمد بن منصور المروزي عن النضر بن شميل. قال أحمد شاكر: إسناده صحيح (المسند ح 15) . وأخرجه ابن حبان من طريق النضر بن شميل به (الإحسان 8/134-136 ح 6442) . وقال الهيثمي: رواه أحمد وأبو يعلى والبزار ورجالهم ثقات (مجمع الزوائد 10/375) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: هم المؤمنون من آل إبراهيم وآل عمران: آل ياسين وآل محمد يقول الله عز وجل (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه) .(1/411)
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)
قوله تعالى (ذرية بعضها من بعض)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ذرية بعضها من بعض) يقول: في النية والعمل والإخلاص والتوحيد له.
قوله تعالى (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا) الآية كانت امرأة عمران حررت لله ما في بطنها، وكانوا إنما يحررون الذكور، وكان المحرر إذا حرر جعل الكنيسة لا يبرحها، يقوم عليها ويكنسها.
قوله تعالى (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى)
المرأة لا تستطيع أن يصنع بها ذلك يعني أن تحرر للكنيسة، فتجعل فيها تقوم عليها وتكنسها فلا تبرحها مما يصيبها من الحيض والأذى، فعند ذلك قالت (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) .
قوله تعالى (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)
قال البخاري: حدثني عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ما من مولود يولد إلا والشيطان يَمسّه حين يولد، فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه، إلا مريم وابنها". ثم يقول أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم (وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) .
(الصحيح 8/60 ح 4548- ك التفسير، سورة آل عمران) . (وأخرجه مسلم 4/1838 ح 2366- ك الفضائل، ب فضائل عيسى عليه السلام) .(1/412)
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)
قوله تعالى (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن شيبان عن قتادة: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا) قال حُدثنا أنهما كانا لا يصيبان الذنوب كما يصيبها بنو آدم.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) قال: سهمهم بقلمه.
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) يقول: ضمها إليه.
قوله تعالى (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: في قوله (وجد عندها رزقاً) قال: عنبا وجده زكريا عند مريم يا غير زمانه.
قوله تعالى (قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة) يقول: مباركة.
قوله تعالى (فنادته الملائكة)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (فنادته الملائكة) وهو جبريل.
قوله تعالى (إن الله يبشرك بيحيى مصدقاً يكلمة من الله)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة: (أن الله يبشرك بيحيى) قال: عبد أحياه الله بالإيمان.
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (مصدقاً بكلمة من الله) يقول: مصدقاً بعيسى بن مريم، وعلى سنته ومنهاجه.
قوله تعالى (وسيداً وحصوراً)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة في قوله: (وسيداً) إي والله، لسيد في العبادة والحلم والعلم والورع.(1/413)
فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)
وأخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله عز وجل: (وسيداً) قال: السيد: الكريم على الله. وبه عن مجاهد الحصور: الذي لا يقرب النساء.
قوله تعالى (قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر)
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا القدر الذي بلغ من الكبر، ولكنه بين في سورة مريم أنه بلغ من الكبر عتيا. وذلك في قوله تعالى عنه (وقد بلغت من الكبر عتيا) والعتى: اليبس والقحول في المفاصل والعظام من شدة الكبر.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن السدي: (قال رب أنى يكون لي غلام) يقول: من أين.
قوله تعالى (قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا) قال: إيماؤه بشفتيه.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (إِلَّا رَمْزًا) إلا إيماء.
وانظر لبيان قصة زكريا سورة مريم الآيات (2-11) وسورة الأنبياء (89-90) .
قوله تعالى (وسبح بالعشي والإبكار)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (وسبح بالعشي والإبكار) قال: الإبكار أول الفجر، والعشي ميل الشمس حتى تغيب.
قوله تعالى (وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين)
انظر قصة مريم سورة مريم الآيات (16-29) .
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (إن الله اصطفاك وطهرك) قال: جعلك طيبة إيماناً.(1/414)
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)
قال البخاري: حدثني أحمد بن أبي رجاء حدثنا النضر عن هشام قال: أخبرني أبي قال: سمعت عبد الله بن جعفر قال: سمعت علياً - رضي الله عنه - يقول: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "خيرُ نسائها مريم ابنة عمران، وخيرُ نسائها خديجة".
(الصحيح 6/470 ح 3432- ك أحاديث الآنبياء، ب (وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك ... ) ، (وأخرجه مسلم 4/1886 ح 2430- ك فضائل الصحابة، ب فضائل خديجة) .
قال البخاري: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة قال: سمعت مرّة الهمداني يُحدِّث عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فضلُ عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام. كَمُلَ من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون".
(الصحيح 6/471-472 ح 3433- ك أحاديث الأنبياء، ب قوله تعالى (إذ قالت الملائكة يا مريم) إلى قوله (فإنما يقول له كن فيكون)) .
قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن أنس، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "حسبك من نساء العالمين: مريم ابنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية امرأة فرعون".
(المصنف 11/430 ح 20919) ، وأخرجه أيضاً في التفسير (1/128 ح 403) بالإسناد نفسه.
ومن طريق عبد الرزاق أخرجه: الترمذي في جامعه (5/703 ح 3878- ك المناقب، ب فضل خديجة رضي الله عنها) ، وأحمد في مسنده (3/135) ، وأبو يعلى كذلك في مسنده (5/380 ح 3039) ، وابن حبان في صحيحه (الإحسان 9/71 ح 6964) والطبراني في الكبير (22/402 ح 1003) ، والحاكم في المستدرك 3/157) . قال الترمذي: حديث صحيح. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ، ووافقه الذهبي. وصحح إسناده الحافظ ابن حجر (فتح الباري 6/471) . وأدخله البغوي في قسم الحسن من "مصابيحه" (انظر المشكاة 3/1745 ح 6181) . وصححه الشيخ الألباني (صحيح الجامع 3143 وصحيح الترمذي رقم 3053) .
وقد روي عن أنس بلفظ: "خير نساء العالمين ... "، أخرجه كذلك ابن أبي عاصم (الآحاد والمثاني 5/364 ح 2961) ، والطبراني في الكبير (22/402 ح 1004) ، وابن مردويه في تفسيره -كما في تفسير ابن كثير 1/362) - ثلاثتهم من طريق أبي جعفر الرازي، عن ثابت، عن أنس به. ويشهد له حديث علي - رضي الله عنه - مرفوعاً: "خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة" أخرجه البخاري (6/470 ح 3432 الفتح) ومسلم (4/1886 ح 2430) .(1/415)
يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)
قوله تعالى (يا مريم اقنتي لربك)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (يا مريم اقنتى لربك) قال: أطيلي الركوع، يعني القنوت.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة في قوله: (اقنتي لربك) أطيعي ربك.
وانظر سورة البقرة آية (116) .
قوله تعالى (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة في قوله: (وما كنت لديهم) يعني محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد: (يلقون أقلامهم) زكريا وأصحابه، استهموا بأقلامهم على مريم حين دخلت عليهم.
قوله تعالى (إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين)
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا هذه الكلمة التي أطلقت على عيسى لأنها هي سبب في وجوده من إطلاق السبب وإرادة مسببه، ولكنه بين في موضع آخر أنها لفظة كن وذلك في قوله (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (بكلمة منه) قال: قوله كن.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ومن المقربين) يقول: من المقربين عند الله يوم القيامة.
قوله تعالى (ويكلم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين)
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا ما كلمهم به في المهد. ولكنه بينه في سورة مريم بقوله (فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) .(1/416)
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)
قال البخاري: حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا جرير بن حازم، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى.
وكان في بني إسرائيل رجل يقال له جريج كان يصلى، فجاءته أمه فدعته، فقال: أجيبها أو أصلي؟ فقالت: اللهم لا تمته حتى تريَه وجوه المومسات، وكان جريج في صومعته، فتعرّضت له امرأة وكلمته فأبى، فأتت راعياً فأمكنته من نفسها، فولدت غلاماً، فقالت مِن جريج، فأَتوه فكسروا صومعته وأنزلوه وسبُّوه، فتوضأ وصلى، ثم أتى الغلام فقال: مَن أبوك يا غلام؟ قال: الراعي، قالوا: نبني صومعتك من ذهب؟ قال: لا، إلا من طين. وكانت امرأة ترضع ابناً لها من بني إسرائيل، فمرّ رجل راكب ذو شارة، فقالت: اللهم اجعل ابني مثله، فترك ثديها وأقبل على الراكب فقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثديها يمصه"، -قال أبو هريرة: كأني أنظر إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمُص إصبعه- "ثم مرّ بأمة فقالت اللهم لا تجعل ابني مثل هذه، فترك ثديها فقال: اللهم اجعلني مثلها، فقالت: لم ذاك؟ فقال: الراكب جبار من الجبابرة، هذه الأمة يقولون سرقت زنيت ولم تفعل".
(صحيح البخاري 6/549 ح 3436- ك أحاديث الأنبياء، قول الله (واذكر في الكتاب مريم ... )) . (صحيح مسلم 4/1976-1977 بعد رقم 2550- ك البر والصلة، ب تقديم بر الوالدين على التطوع بالصلاة)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (ويكلم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين) يقول: يكلمهم صغيراً وكبيراً.
قوله تعالى (قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر) الآية
قال الشيخ الشنقيطي: أشار في هذه الآية إلى قصة حملها بعيسى وبسطها مبينة في سورة مريم بقوله (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فاتخذت من دونهم حجابا) . إلى آخر القصة وبين النفخ فيها في سورة التحريم والأنبياء، معبراً في التحريم بالنفخ في فرجها، وفي الأنبياء بالنفخ فيها.(1/417)
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
قوله تعالى (ويعلمه الكتاب والحكمة)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (ويعلمه الكتاب والحكمة) قال: الحكمة: السنة.
قوله تعالى (وأبرئ الأكمه والأبرص)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (وأبرئ الأكمه) قال: الأكمه: الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل، فهو يتكمه.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قال: الأكمه: الأعمى.
قوله تعالى (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) قال: بما أكلتم البارحة، وما خبأتم منه عيسى ابن مريم يقوله.
قوله تعالى (ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم) كان الذي جاء به عيسى ألين مما جاء به موسى، وكان قد حرم عليهم فيما جاء به موسى لحوم الإبل والشروب، وأشياء من الطير: الحيتان.
قوله تعالى (وجئتكم بآية من ربكم)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (وجئتكم بآية من ربكم) قال ما بين لهم عيسى من الأشياء كلها، وما أعطاه ربه.
قوله تعالى (إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم)
انظر سورة الفاتحة الصراط المستقيم: الإسلام.(1/418)
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)
قوله تعالى (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ) الآية.
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا الحكمة في ذكر قصة الحواريين مع عيسى ولكنه بين في سورة الصف أن حكمة ذكر قصتهم هي أن تتأسى بهم أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نصرة الله ودينه، ذلك في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله) الآية.
قوله تعالى (قال الحواريون نحن أنصار الله)
قال البخاري: حدثنا مالك بن إسماعيل حدثنا عبد العزيز -هو ابن أبي سلمة- عن محمد بن المنكدر عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن لكل نبي حواريا، وإن حواريَّ الزبير بن العوام".
(الصحيح 7/99 ح 3719- ك فضائل الصحابة، ب مناقب الزبير بن العوام) . وأخرجه مسلم في (الصحيح 4/1879 ح 2415- ك فضائل الصحابة ب من فضائل طلحة والزبير) من طريق ابن عيينة، عن ابن المنكدر به.
قوله تعالى (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين)
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا مكر اليهود بعيسى ولا مكر الله باليهود، ولكنه بين في موضع آخر أن مكرهم به محاولتهم قتله، وذلك في قوله (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله) وبين أن مكره بهم إلقاؤه الشبه على غير عيسى وإنجاؤه عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وذلك قوله: (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم) وقوله (وما قتلوه يقينا. بل رفعه الله إليه) الآية.
قوله تعالى (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن ابن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (إني متوفيك) يقول: إني مميتك.
قوله تعالى (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)
انظر حديث البخاري ومسلم عن معاوية المتقدم عند الآية (120) من سورة البقرة، والآتي عند الآية (181) من سورة الأعراف.(1/419)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة في قوله: (وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة) هم أهل الإسلام الذين اتبعوه على فطرته وملته وسنته، فلا يزالون طاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة.
قوله تعالى (وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن ابن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وعملوا الصالحات) يقول: أدوا فرائضي.
قوله تعالى (ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الذكر: القرآن. الحكيم: الذي قد كمل في حكمته.
قوله تعالى (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون)
وقد بين الله تعالى قصة خلق عيسى عليه السلام في سورة مريم آية 16-36.
قوله تعالى (الحق من ربك فلا تكن من الممترين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (الحق من ربك فلا تكن من الممترين) يعني: فلا تكن في شك من عيسى أنه كمثل آدم، عبد الله ورسوله، وكلمة الله وروحه.
قوله تعالى (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِين)
قال البخاري: حدثنا عباس بن الحسين، حدثنا يحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن صِلة بن زُفر، عن حذيفة قال: جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُريدان أن يُلاعناه قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل،(1/420)
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)
فوالله لئن كان نبياً فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدِنا. قالا: إنا نعطيك ما سألتنا، وابعث معنا رجلاً أميناً، ولا تبعث معنا ألا أميناً. فقال: "لأبعثن معكم رجلاً أميناً حق أمين". فاستشرف له أصحابُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "قم يا أبا عبيدة بن الجراح". فلما قام قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هذا أمينُ هذه الأمة".
(الصحيح 7/695 ح 4380- ك المغازي، ب قصة أهل نجران) ، وأخرجه مسلم (الصحيح - ك فضائل الصحابة، ب فضل أبي عبيدة بن الجراح- ح 2420 من حديث حذيفة) .
قال مسلم: حدثنا قتيبة بن سعيد ومحمد بن عباد (وتقاربا في اللفظ) قالا: حدثنا حاتم (وهو ابن إسماعيل) عن بكير بن مسمار، عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص، عن أبيه، قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال: ما منعك أن تسبّ أبا التراب؟ فقال: أما ما ذكرتُ ثلاثاً قالهن له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلن أسُبّه.
لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلى من حمر النعم. سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول له، خَلفه في بعض مغازيه، فقال له عليٌ: يا رسول الله! خلّفتني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى. إلا أنه لا نبوة بعدي". وسمعته يقول يوم خيبر لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله، ويُحبه الله ورسوله" قال فتطاولنا لها فقال: "ادعوا لي عليّا". فأتى به أرمد. فبصق في عينه ودفع الراية إليه. ففتح الله عليه. ولما نزلت هذه الآية: (فقل تعالوا ندع أبناءَنا وأبناءكم) دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: "اللهم! هؤلاء أهلي".
(الصحيح 4/1871 ح 32- ك فضائل الصحابه، ب من فضائل علي - رضي الله عنه -) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم) أي في عيسى: أنه عبد الله ورسوله، من كلمة الله وروحه (فقل تعالوا ندع أبناءَنا وأبناءكم) إلى قوله: (على الكاذبين) .
قال الطبري: حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لو خرج الذين يباهلون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا.
ورجاله ثقات إلا الحسن فصدوق والإسناد حسن.(1/421)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
قوله تعالى (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)
قال البخاري: حدثني إبراهيم بن موسى عن هشام عن معمر ح. وحدثني عبد الله ابن محمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري قال أخبرني عُبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال حدثني ابن عباس قال: حدثني أبو سفيان من فيه إلى في قال: انطلقت في المدّة التي كانت بيني وبين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: قال: فبينا أنا بالشام إذ جيء بكتاب من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى هرقل ... فإذا فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله، إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدى. أما بعد فإنى أدعوك بدعاية الإسلام. أسلم. تسلَم، وأسلمْ يؤتك الله أجرك مرتين. فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين. (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله -إلى قوله- اشهدوا بأنا مسلمون) فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عندَه، وكثر اللَّغط، وأمر بنا فأُخرجنا. قال: فقلت لأصحابي حين خرجنا: لقد أمِرَ أمرُ ابن أبي كبشة، إنه يخافه ملكُ بني الأصفر. فما زلت موقناً بأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سيظهر حتى أدخل الله عليَّ الإسلام. قال الزهري: فدعا هرقل عظماء الروم فجمعهم في دار له، فقال: يا معشر الروم، هل لكم في الفلاح والرشد آخر الأبد، وإن يثبتَ لكم ملككم؟ قال: فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت.
فقال: عليَّ لهم. فدعا بهم فقال: إني إنما اختبرتُ شدتَّكم على دينكم، فقد رأيت منكم الذي أحببتُ، فسجدوا له ورضوا عنه".
(الصحيح 8/62-63 ح 4553- ك التفسير، سورة آل عمران) .
انظر حديث الحاكم عن ابن عباس المتقدم تحت الآية رقم (136) من سورة البقرة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) عدل بيننا وبينكم (ألا نعبد إلا الله) الآية.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية: كلمة السواء لا إله إلا الله.(1/422)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)
قوله تعالى (يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون)
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا ما وجه محاجتهم في إبراهيم، ولكنه بين في موضع آخر أن محاجتهم في إبراهيم هي قول اليهود: إنه يهودي، والنصارى إنه نصراني وذلك في قوله (أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله) وأشار إلى ذلك هنا بقوله (والله يعلم وأنتم لا تعلمون ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا) الآية.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن ابن إسحاق عن ابن عباس قال: اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديا! وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيا! فأنزل الله عز وجل فيهم (يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون) : قالت النصارى: كان نصرانيا! وقالت اليهود كان يهوديا فأخبرهم الله أن التوراة والإنجيل ما أنزل إلا من بعده، وبعده كانت اليهودية والنصرانية.
قوله تعالى (ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم) يقول: فيما شهدتم ورأيتم وعاينتم (فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم) فيما لم تشاهدوا ولم تروا ولم تعاينوا (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) .
قوله تعالى (ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مُسلماً وما كان من المشركين)
يفسرها قول ابن عباس السابق. وانظر سورة البقرة آية (135) لبيان كلمة حنيفاً.(1/423)
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)
كقوله تعالى (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين)
قال الترمذي: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا أبو أحمد، حدثنا سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى عن مسروق، عن عبد الله قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن لكل نبي وُلاة من النبيين وإن وليِّى أبي وخليل ربي" ثم قرأ (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين) .
وقال الترمذي: حدثنا محمود، حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن أبيه عن أبي الضحى عن عبد الله عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثِله، ولم يقل فيه عن مسروق. قال أبو عيسى: هذا أصح من حديث أبي الضحى عن مسروق، وأبو الضحى اسمه مسلم بن صبيح. حدثنا أبو كريب. حدثنا وكيع عن سفيان عن أبيه عن أبي الضحى عن عبد الله عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحو حديث أبي نعيم وليس فيه عن مسروق) . سنن الترمذي 5/223- 224 ح 2995- ك تفسير القرآن، ب من سورة آل عمران) . وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي. وأخرجه الطبري (التفسير 6/498) ، والحاكم (المستدرك 2/292-553) كلاهما من طريق الثوري به وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وقال أحمد شاكر في تعليقه على رواية الطبري: إسناد صحيح متصل) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: يقول الله سبحانه (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه) وهم المؤمنون.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه) يقول: الذين اتبعوه على ملته وسنته ومنهاجه وفطرته (وهذا النبي) وهو نبي الله محمد (والذين آمنوا) معه وهم المؤمنون الذين صدقوا نبي الله واتبعوه. كان محمداً رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والذين معه من المؤمنين، أولى الناس بإبراهيم.
قوله تعالى (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون)
بيان هذه الطائفة ورد في الآية (72-73) من السورة نفسها.
قوله تعالى (يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون) يقول: تشهدون أن نعت محمد نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كتابكم، ثم تكفرون به وتنكرونه ولا تؤمنون به، وأنتم تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته.(1/424)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)
قوله تعالى (يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن ابن إسحاق عن ابن عباس قال: قال عبد الله بن الصيف، وعدى بن زيد، والحارث بن عوف بعضهم لبعض: تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد وأصحابه غدوة ونكفر به عشية، حتى نلبس عليهم دينهم، لعلهم يصنعون كما نصنع فيرجعوا عن دينهم! فأنزل الله عز وجل فيهم: (يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل) إلى قوله (والله واسع عليم) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل) يقول: لم تلبسون اليهودية والنصرانية بالإسلام، وقد علمتم أن دين الله الذي لا يقبل غيره، الإسلام، ولا يجزى إلا به.
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (وتكتمون الحق وأنتم تعلمون) كتموا شأن محمد، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم المعروف وينهاهم عن المنكر.
قوله تعالى (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا الذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة في قوله: (آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره) فقال بعضهم لبعض: أعطوهم الرضى بدينهم أول النهار، واكفروا آخره، فإنه أجدر أن يصدقوكم، ويعلموا أنكم قد رأيتم فيهم ما تكرهون، وهو أجدر أن يرجعوا عن دينهم.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله عز وجل: (آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار) يهود تقوله. صلت مع محمد صلاة الصبح وكفروا آخر النهار، مكرا منهم، ليُروا الناس أن قد بدت لهم منه الضلالة بعد أن كانوا اتبعوه.(1/425)
وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (لعلهم يرجعون) يقول: لعلهم يدعون دينهم، ويرجعون إلى الذي أتم عليه.
قوله تعالى (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) هذا قول بعضهم لبعض.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم) حسدا من يهود أن تكون النبوة في غيرهم، وإرادة أن يُتبعوا على دينهم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم) يقول: لما أنزل الله كتابا مثل كتابكم، وبعث نبيا مثل نبيكم، حسدتموهم على ذلك (قل إن الفضل بيد الله) الآية.
قوله تعالى (يختص برحمته من يشاء)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (يختص برحمته من يشاء) قال: النبوة، يخص بها من يشاء.
قوله تعالى (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً)
قال البخاري: وقال الليث: حدثني جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه ذكر رجلاً من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يُسلفه ألف دينار فقال: ائتني بالشهداء أُشهدهم، فقال كفى بالله شهيدا. قال: فائتني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلاً. قال: صدقتَ، فدفعها إليه على أجل مسمّى. فخرج في البحر فقضى حاجته، ثم التمس مركبا يركبها يقدم عليه للأجل الذي أجَّله فلم يجد مركباً، فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم زجّج(1/426)
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)
موضعها، ثم أتى بها إلى البحر فقال: "اللهْم إنك تعلم أني كنتُ تسلْفتُ فلاناً ألف دينار فسألني كفيلاً فقلت: كفى بالله كفيلاً، فرضي بك. وسألني شهيداً فقلت: كفى بالله شهيداً، فرضى بذلك. وإني جهدت أن أجد مركباً أبعث إليه الذي له فلم أقدر، وإنى أستودعكَهَا. فرمى بها في البحر حتىَ ولجت فيه، ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركبا يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركباً قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطباً، فلمّا نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قدِم الذي كان أسلفه فأتى بالألف دينار فقال: والله ما زِلتُ جاهداً في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدتُ مركباً قبل الذي أتيتُ فيه. قال: هل كنت بعثتَ إليّ بشيء؟ قال: أخبرك أنى لم أجد مركباً قبل الذي جئت فيه. قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثتَ في الخشبة، فانصرف بالألف الدينار راشداً".
(الصحيح 4/548-549 ح 2291- ك الكفالة, ب الكفالة في القرض والديون ... وكذا وقع عند البخاري هنا معلقاً، وقد جاء في موضع آخر موصولاً في رواية أبي ذر، ولم يذكر لفظه وإنما ذكر طرفاً منه فقط (الصحيح 4/350 ح 2063- ك البيوع، ب التجارة في البحر) قال: حدثني عبد الله بن صالح حدثني الليث،.. به. وأخرجه أحمد (المسند 2/348-349) عن يونس بن محمد عن الليث به. وتقدم تفسير القنطار في الآية (14) من هذه السورة.
وانظر الآية (14) من هذه السورة لبيان القنطار.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (إلا ما دمت عليه قائما) إلا ما طلبته واتبعته.
قوله تعالى (ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل) الآية قالت اليهود: ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل.
قوله تعالى (بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: اتقى الشرك، (فإن الله يحب المتقين) . المتقين: الذين يتقون الشرك.(1/427)
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)
قوله تعالى (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)
قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد الواحد بن زياد عن الأعمش قال: سمعت أبا صالح يقول: سمعت أبا هريرة - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل كان له فضل ماء بالطريق، فمنعه من ابن السبيل، ورجل بايع إمامه لا يبايعه إلا لدنيا، فإن أعطاه منها رضي، وإن لم يعطه منها سخط. ورجل أقام سِلعته بعد العصر فقال: والله الذي لا إله غيره لقد أعطيتُ بها كذا وكذا، فصدّقه رجل". ثم قرأ هذه الآية (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً) .
(الصحيح 5/34- ح 2358- ك المساقاة، ب إثم من منع ابن السبيل من الماء) ، وأخرجه مسلم (الصحيح 1/103 ح 108- الإيمان، ب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار) .
قال البخاري: حدثني إسحاق أخبرنا يزيد بن هارون، أخبرنا العوّام، حدثني إبراهيم أبو إسماعيل السكسكي، سمع عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما يقول: أقام رجل سِلعته فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يُعطها. فنزلت: (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً) قال ابن أبي أوفى: "الناجش آكل رباً خائن".
(الصحيح 5/286 ح 2675- الشهادات، باب قوله تعالى (إن الذين يشترون بعهد الله)) .
قال البخاري: حدثنا حجاج بن منهال حدثنا أبو عوانة عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من حلف يمين صبرٍ ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان، فأنزل الله تصديق ذلك (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً، أولئك لا خلاق لهم في الآخرة) إلى آخر الآية. قال: فدخل الأشعث بن قيس وقال: ما يحدثك(1/428)
أبو عبد الرحمن؟ قلنا كذا وكذا، قال: فيَّ أنزلت، كانت لي بئر في أرض ابن عمّ لي، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بيِّنتك أو يمينه". فقلت: إذا يحلف يا رسول الله، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَن حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم وهو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان".
(الصحيح 8/60- 61 ك التفسير، ب سورة آل عمران- الآية. ح4549، 4550) ، وأخرجه
مسلم (1/122-123ح 1338- ك الإيمان، ب وعد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار) .
قوله تعالى (وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون)
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد: (وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب) قال: يحرفونه.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب) حتى بلغ: (وهم يعلمون) وهم أعداء الله اليهود، حرفوا كتاب الله، وابتدعوا فيه وزعموا أنه من عند الله.
قوله تعالى (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانييِن بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن ابن إسحاق عن ابن عباس قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ودعاهم إلى الإسلام: أتريد يا محمد أن نعبدك، كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرئيس: أو ذاك تريد منا يا محمد، وإليه تدعونا! أو كما قال، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني، ولا بذلك أمرني أو كما قال. فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم: (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة) الآية إلى قوله (بعد إذ أنتم مسلمون) .(1/429)
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله) يقول: ما كان ينبغي لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة، يأمر عباده أن يتخذوه رباً من دون الله.
قوله تعالى (كونوا ربانيين)
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (كونوا ربانيين) قال: فقهاء. علماء. حكماء.
قوله تعالى (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة في قوله: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب) الآية: هذا ميثاق أخذه الله على النبيين أن يصدق بعضهم بعضا، وأن يبلغوا كتاب الله ورسالاته، فبلغت الأنبياء كتاب الله ورسالاته إلى قومهم، وأخذ عليهم -فيما بلغهم رسلهم- أن يؤمنوا بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويصدقوه وينصروه.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن ابن إسحاق عن ابن عباس قال: ثم ذكر ما أخذ عليهم -يعني أهل الكتاب- وعلى أنبيائهم من الميثاق بتصديقه -يعني بتصديق محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ جاءهم، وإقرارهم به على أنفسهم.
فقال: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة) إلى آخر الآية.
قوله تعالى (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون)
قال ابن كثير: يقول تعالى منكرا على من أراد دينا سوى دين الله الذي أنزل به كتبه وأرسل به رسله وهو عبادة الله وحده لا شريك له الذي له أسلم من في السموات والأرض أي استسلم له من فيهما طوعا وكرها كما قال تعالى (ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها) الآية، وقال تعالى (أو لم يروا(1/430)
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)
إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤا ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة في قوله: (أفغير دين الله يبغون) الآية، فأما المؤمن فأسلم طائعا فنفعه ذلك وقبل منه، وأما الكافر فأسلم كرها حين لا ينفعه ذلك، ولا يقبل منه.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية: (وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون) قال: كل آدمي قد أقر على نفسه بأن الله ربي وأنا عبده، فهذا الإسلام لو استقام عليه فلما تكلم بهذا صارت حجة عليه، ثم أشرك في عبادته فهذا الذي أسلم كرها، ومنهم من شهد أن الله ربي وأنا عبده ثم أخلص له العبودية فهذا الذي أسلم طوعا.
قال الطبري حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان عن منصور عن مجاهد: (وله أسلم من في السموات والأرض) قال: هو كقوله: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله) سورة الزمر: 38.
ورجاله ثقات وإسناده صحيح.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: عبادتهم لي أجمعين طوعا وكرها وهو قوله (ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها) .
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (طوعا وكرها) قال: سجود المؤمن طائعا، وسجود الكافر وهو كاره.
قوله تعالى (قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم ... )
انظر حديث البخاري عن أبي هريرة المتقدم عند الآية (136) من سورة البقرة.
وفي الآية نفسها بيان الأسباط عن أبي العالية.(1/431)
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
قوله تعالى (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قوله (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من ءامن بالله واليوم الآخر) إلى قوله (ولا هم يحزنون) فأنزل الله عز وجل بعد هذا (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) .
قوله تعالى (كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم يُنظرون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم)
انظر سورة البقرة آية رقم (159-161) .
قال النسائي: أخبرنا محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: حدثنا يزيد -وهو ابن زريع- قال: أنبأنا داود عن عكرمة عن ابن عباس قال كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك ثم تندم فأرسل إلى قومه سلوا لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هل لي من توبة؟ فجاء قومه إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: إن فلانا قد ندم وإنه أمرنا أن نسألك هل له من توبة، فنزلت (كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم…)
إلى قوله (غفور رحيم) فأرسل إليه فأسلم.
(السنن 7/107 ك تحريم الدم، ب توبة المرتد) ، وأخرجه ابن حبان في صحيحه (الإحسان 10/329 ح 4477) من طريق بشر بن معاذ العقدي عن يزيد به. قال محققه: إسناده صحيح.
وأخرجه الحاكم في (المستدرك 2/142) من طريق حفص بن غياث عن داود بن أبي هند به، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي) ، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي.
قال الطبري: حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله: (كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم) قال: هم أهل الكتاب كانوا يجدون محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتابهم، ويستفتحون به فكفروا بعد إيمانهم.
وسنده حسن.(1/432)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
قوله تعالى (إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا) أولئك أعداء الله اليهود، كفروا بالإنجيل وبعيسى، ثم ازدادوا كفرا بمحمد والفرقان.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية في قوله: (لن تقبل توبتهم) قال: تابوا من بعض، ولم يتوبوا من الأصل.
قوله تعالى (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به)
قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا معاذ بن هشام قال: حدثني أبي عن قتادة، عن أنس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ح. وحدثني محمد بن معمر, حدثنا روح بن عبادة، حدثنا سعيد، عن قتادة، حدثنا أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: "يُجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم. فيقال له: قد كنتَ سُئلت ما هو أيسر من ذلك".
(الصحيح 11/408 ح 6538- ك الرقاق، ب من نوقش الحساب عذب) . وأخرجه مسلم (الصحيح 4/2160 ح 2805- ك صفات المنافقين، ب طلب الكافر الفداء بملء الأرض ذهباً) .
قوله تعالى (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون)
قال البخاري: حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالك، عن إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك - رضي الله عنه - يقول: كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة نخلاً، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدخلها ويشرب من ماء فيها طيِّب. فلما أنزلت (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) وقام أبو طلحة فقال يا رسول الله، إن الله يقول (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) وأن أحب أموالي إليَّ بيرحاء. وأنها صدقة لله أرجو برّها وذُخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بَخٍ ذلك مال رابح، ذلك مال رابح. وقد سمعت ما قلتَ وإني(1/433)
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)
أرى، أن تجعلها في الأقربين". قال، أبو طلحة: أفعل يا رسول الله. فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه. قال عبد الله بن يوسف ورَوح بن عُبادة" ذلك مال رابح". حدثني يحيى بن يحيى قال قرأتُ على مالك: "مال رابح".
(الصحيح 8/71 ح 4554- ك التفسير، سورة آل عمران) , (ومسلم 3/293 ح 1461- ك الزكاة، ب الزكاة على الأقارب) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) يقول: لن تنالوا بر ربكم حتى تنفقوا مما يعجبكم، ومما تهوون من أموالكم.
قوله تعالى (كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوارة فاتلوها إن كنتم صادقين)
قال الترمذي: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن، أخبرنا أبو نعيم، عن عبد الله ابن الوليد -وكان يكون في بني عِجل- عن بكير بن شهاب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أقبلت يهود إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالوا: يا أبا القاسم أخبرنا عن الرعد ما هو؟ قال: "ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله"، فقالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: زجره بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر، قالوا: صدقت.
فأخبرنا عما حرّم إسرائيل على نفسه؟ قال: اشتكى عِرق النسا فلم يجد شيئاً يلائمه إلا لحوم الإبل وألبانها فلذلك حرّمها، قالوا: صدقت.
(السنن 5/294 ح 3117- ك التفسير، ب ومن سورة الرعد) ، وأخرجه أحمد (المسند ح 2483) من طريق عبد الله بن الوليد به. قال الترمذي: حديث حسن غريب. وقال الألباني: صحيح (صحيح الترمذي ح 2492) . وأخرجه أحمد (المسند ح 2471) ، والطبري (التفسير ح 1605، 7420) ، والطبراني (المعجم الكبير 12/246 ح 13012) من طرق عن عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن ابن عباس به. قال الهيثمي - بعد أن عزاه لأحمد والطبراني: رجالهما ثقات (مجمع الزوائد 8/242) . وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.(1/434)
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)
قال البخاري: حدثني إبراهيم بن المنذر حدثنا أبو ضمرة حدثنا موسى بن عقبة عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن اليهود جاءوا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برُجل منهم وامرأة قد زنيا، فقال لهم: "كيف تفعلون بمن زنى منكم؟ ". قالوا: نحمِّمهما ونضربهما. فقال: "لا تجدون في التوراة الرجم؟ " فقالوا: لا نجدُ فيها شيئاً. فقال لهم عبد الله بن سلام: كذبتم، فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، فوضَعَ مِدراسها الذي يُدَرِّسها منهم كفّه على آية الرجم، فطفق يقرأ ما دون يده وما وراءها ولا يقرأ آية الرجم، فنزع يده عن آية الرجم فقال؟ ما هذه؟ فلما رأوا ذلك قالوا: هي آية الرجم، فأمر بهما فرجما قريباً من حيث موضع الجنائز عند المسجد، قال: فرأيت صاحبها يجنَأُ عليها، يقيها الحجارة.
(صحيح البخاري 8/72 ح 4556- ك التفسير- سورة آل عمران) ، ومسلم (3/1326 ح 1699- ك الحدود، ب رجم العهود وأهل الذمة في الزنى) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة) وإسرائيل، هو يعقوب (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) يقول: كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل من قبل أن تنزل التوراة، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه، فلما أنزل الله التوراة حرم عليهم فيها ما شاء وأحل لهم ما شاء.
قوله تعالى (قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين) انظر سورة البقرة آية (135) .
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أسيد بن عاصم، ثنا الحسين يعني: ابن حفص، ثنا سفيان عن ابن أبي ليلى، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عبد الله بن عمرو قال عن أبي جبريل بإبراهيم صلى الله عليهما، فصلى بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم غدا من منى إلى عرفة، فصلى به الصلاتين: الظهر والعصر ثم وقف له حتى غابت الشمس ثم دفع حتى أتى المزدلفة، فنزل بها، فبات وصلى، ثم صلى كأعجل ما يصلي أحد من المسلمين، ثم وقف به كأبطأ(1/435)
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)
ما يصلي أحد من المسلمين، ثم دفع منه إلى منى، فرمى وذبح، ثم أوحى الله تعالى إلى محمد أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين.
(التفسير- آل عمران/آية 95- ح 961) . وعزاه الهيثمي للطبراني في الكبير بأسانيد، وقال: رجال بعضها رجال الصحيح (مجمع الزوائد 3/251) . ورجاله ثقات إلا الحسين بن حفص محله الصدق، فالإسناد حسن.
قوله تعالى (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا ... )
قال البخاري: حدثنا عمر بن حفص، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، حدثنا إبراهيم التيمى، عن أبيه عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال قلتُ: يا رسول الله أي مسجد وُضِعَ أول؟ قال: "المسجد الحرام". قلت: ثم أيِّ؟ قال: "ثم المسجد الأقصى" قلتُ كم كان بينهما؟ قال: "أربعون"، ثم قال: "حيثما أدركتكَ الصلاة فصل والأرض لك مسجد".
(الصحيح 6/458 ح 3425- ك أحاديث الأنبياء، قوله تعالى (ووهبنا لداود سليمان)) .
قال الترمذي: حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن عمرو بن سليم الزرقي، عن عاصم بن عمر، عن علي بن أبي طالب قال: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى إذا كنا بحرَّة السقيا التي كانت لسعد ابن أبي وقاص، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ائتوني بِوضوء، فتوضأ ثم قام فاستقبل القبلة، ثم قال: اللهم إن إبراهيم كان عبدك وخليلك ودعا لأهل مكة بالبركة، وأنا عبدك ورسولك أدعوك لأهل المدينة أن تبارك لهم في مُدِّهم وصاعهم مِثلي ما باركت لأهل مكة مع البركة بركتين".
(السنن 5/718 ح 3914- ك المناقب، ب في فضل المدينة ح 3914) وقال: حديث حسن صحيح.
وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه (1/105-106 ح 2090- ك الوضوء، ب استحباب الوضوء للدعاء ... ) من حديث شعيب بن الليث عن سعيد بن أبي سعيد به، قال محققه: إسناده صحيح.
وأخرجه ابن حبان في صحيحه (الإحسان 9/61 ح 3746) من طريق ابن خزيمة به. قال محققه: إسناده صحيح ورجاله ثقات. وأخرجه الضياء المقدسي (المختارة 2/164-166ح 543 و544) من طرق عن الليث، قال محققه في الموضعين: إسناده صحيح.(1/436)
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)
قال الضياء المقدسي: قُرئ على أبي أحمد عبد الباقي بن عبد الجبار الهروي -ونحن نسمع- أخبركم أبو شجاع عمر بن محمد بن عبد الله البسطامي -قراءةً عليه وأنت تسمع- أنا أحمد بن محمد بن الخليلي، أنا علي بن أحمد الخزاعي، أنا الهيثم بن كليب الشاشي، ثنا إسماعيل القاضي، ثنا حجاج بن منهال، ثنا حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة، قال: لما قتل عثمان، ذَعرَني ذعراً شديداً، وكان سَلُّ السيف فينا عظيماً، فجلستُ في بيتي، وكانت لي حاجة في السوق لثياب اشتريتها، فخرجت فإذا أنا بنفر في ظلٍ جلوسٍ، نحوٍ من أربعين رجلاً، وإذا سلسلة معلّقة معروضة على الباب، فقلت: لأدخلن فلأنظرن. قال: فذهبتُ لأدخل، فمنعني البواب، فقالوا: دع الرجل. فدخلتُ، فإذا أشراف الناس، وإذا وسادة معروضة، فجلست، فجاء رجلٌ جميل عليه حُلّة ليس عليه قميص ولا عمامة، فإذا هو على - رضي الله عنه - ثم جلس، فلم ينكر من القوم غيري. فقال: سَلوني، ولا تسألوني إلا عما ينفع ويضر. فقال رجل: ما قلتَ حتى أحببتَ أن تقول، أنا أسألك.
فقال: سلْ، ولا تسأل إلا عما ينفع أو يضر. فقال: ما (الذاريات ذَروا فالحاملات وقْراً. فالجاريات يُسراً. فالمقَسمات أمراً) قال: الملائكة.
(الذاريات 1-4) . ثم قال: أخبرني عن ما أسألك. فقال: سل، ولا تسأل إلا عما ينفع أو يضر. فقال: ما (السقْف المرفوع) قال: السماء. قال: فما (العاصفات عصفاً) قال: الرياح. قال: فما (الجوار الكُنس) ؟ قال: الكواكب. قال: فما (البيت المعمور) ؟ قال: قال علي لأصحابه ما تقولون؟ قالوا: نقول: هو البيت الحرام. قال: بل هو بيت في السماء يقال له: الصراح، حِيال هذا البيت، حرمته في السماء كحرمة هذا في الأرض، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليه، ثم تلا هذه الآية: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين. فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا) . ثم قال: أما إنه ليس بأول بيت كان، قد كان نوح(1/437)
قبله وكان في البيوت، وكان إبراهيم قبله وفي البيوت، ولكنه أول بيت وضع للناس فيه البركة، (فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا) ثم حدث أن إبراهيم -عليه السلام- لما أمر ببناء البيت ضاق به ذرعاً فلم يَدْرِ كيف يبنيه، فأرسل الله السكينة، وهي ريح خجوج لها رأس، فتطوقت له بالحج، فكان يبني عليها كل يوماً سافاً، ومكة شديدة الحر، فلما بلغ الحَجَرَ، قال لإسماعيل: اذهب فالتمس لي حجراً أضعه. فذهب يطوف في الجبال، فجاء جبريل بالحجر فوضعه، فجاء إسماعيل فقال: من أين هذا؟ قال: جاء به من لم يتكل على بنائي وبنائك، فوضعه، فلبث ما شاء الله أن يلبث، ثم انهدم، فبنتْه العمالقة، ثم انهدم فبنته جُرْهُم، ثم انهدم فبنته قريش، فلما أرادوا أن يضعوا الحَجَر تنازعوا في وضعه. قالوا: أول من يخرج من هذا الباب يضعه، فخرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من باب بني شيبة، فأمر بثوب فبسط، ووضع الحجر في وسط الثوب، وأمر من كل فخذٍ رجلاً أن يأخذ ناحية الثوب، فأخذوه فرفعوه، فأخذه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوضعه. فقام رجل آخر فقال: أخبرني عن هذه الآية: (وان امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جُناح عليهما) حتى ختم الآية؟ قال: عن مثل هذا فَسَلوا، هذا العلم، هو الرجل تكون له امرأتان، إحداهما قد عجزت وهي دميمة، فيصالحها أن يأتيها كل يوم، أو ثلاثة، أو أربع. فقام إليه رجل آخر فسأله عن هذه الآية: (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن) (النساء 128) . فأقيمت الصلاة فقام. روى قتيبة عن أبي عوانة، عن سماك، عن خالد بن عرعرة قال: سمعت علياً وسأله رجل عن: (الذاريات ذَروا) و (الحاملات وقراً) و (المقسمات) .
(المختارة 2/60 ح 438) . وحسنه المحقق وهو كما قال، وأخرجه الحاكم من طريق خالد بن عرعرة به منحصراً على الآية المذكورة وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 2/292-293) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: "بكة" بك الناس بعضهم بعضا، الرجال والنساء، يصلى بعضهم بين يدي بعض، لا يصح ذلك إلا بمكة.(1/438)
فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
قوله تعالى (فِيهِ آيات بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة ومجاهد: (فيه آيات بينات مقام إبراهيم) قال: مقام إبراهيم، من الآيات البينات.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (فيه آيات بينات) قال: قدماه في المقام آية بينة. يقول: (ومن دخله كان آمنا) قال: هذا شيء آخر.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ومن دخله كان آمنا) وهذا كان في الجاهلية، كان الرجل لو جر كل جريرة على نفسه، ثم لجأ إلى حرم الله، لم يتناول ولم يطلب. فأما في الإسلام فإنه لا يمنع من حدود الله، من سرق فيه قطع، ومن زنى فيه أقيم عليه الحد، ومن قتل فيه قتل.
وعن قتادة: أن الحسن كان يقول: إن الحرم لا يمنع من حدود الله. لو أصاب حداً في غير الحرم، فلجأ إلى الحرم، لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد.
قوله تعالى (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا)
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن سليمان بن يسار، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كان الفضل رديف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجاءت امرأة من خثعم، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، وجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركتْ أبي شيخاً كبيراً لا يثبُت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: "نعم" وذلك في حجة الوداع.
(الصحيح 3/378 ح 1513- ك الحج, ب وجوب الحج وفضله) .
وانظر حديث البخاري تحت الآية رقم (126) من سورة البقرة.
قال أبو داود: حدثنا زهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة المعنى، قالا: ثنا يزيد ابن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن أبي سنان، عن ابن عباس أن الأقرع بن حابس سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله الحج في كل سنة أو مرة واحدة؟ قال: "بل مرة واحدة، فمن زاد فهو تطوع".(1/439)
قال أبو داود: هو أبو سنان الدؤلي، كذا قال عبد الجليل بن حميد وسليمان ابن كثير جميعاً عن الزهري، وقال عقيل: عن سنان. (السنن 2/139 ح 1721- ك المناسك، ب فرض الحج) ، وأخرجه النسائي (5/111- ك المناسك، ب وجوب الحج) ، وابن ماجه (ك المناسك، ب فرض الحج رقم 2886) ، والحاكم في المستدرك (1/441 و470- ك المناسك) من طرق عن الزهري به.
قال الحاكم: إسناده صحيح، وأبو سنان هذا هو الدؤلي ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وعند بعضهم بدون اسم السائل. وصححه الألباني في (صحيح سنن أبي داود ح 1514) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: السبيل أن يصح بدن العبد، ويكون له ثمن زاد وراحلة من غير أن يجحف به.
قوله تعالى (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين)
صرح في هذه الآية إنه غني عن خلقه وإن كفر من كفر منهم لا يضره شيئاً، وبين هذا المعنى) في مواضع متعددة، كقوله عن نبيه موسى (وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغنى حميد) وقوله (إن تكفروا فإن الله غنى عنكم ولا يرضى لعباده الكفر) وقوله (فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد) وقوله (وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني) إلى غير ذلك من الآيات، فالله تبارك وتعالى يأمر الخلق وينهاهم، لا لأنه تضره معصيتهم وتنفعه طاعتهم، بل نفع طاعتهم لهم وضرر معصيتهم عليهم، كما قال تعالى (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) وقال (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها) وقال (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: من كفر بالحج فلم ير حجه برا، ولا تركه مأثما.
قال الطبري: حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن المهدي قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد في قوله: (ومن كفر) قال: من كفر بالله واليوم الآخر.
ورجاله ثقات وإسناده صحيح.(1/440)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
قوله تعالى (قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون)
بيانها في الآية التي تليها.
قوله تعالى (قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: قوله (قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله) يقول: لم تصدون عن الإسلام وعن نبي الله، من آمن بالله، وأنتم شهداء فيما تقرأون من كتاب الله: أن محمدا رسول الله، وأن الإسلام دين الله الذي لا يقبل غيره ولا يجزى إلا به، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل.
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين. وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله)
قال ابن كثير: يحذر تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن أن يطيعوا طائفة من أهل الكتاب الذين يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله وما منحهم من إرسال رسوله كما قال تعالى (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسدا من عند أنفسهم) الآية، وهكذا قال هاهنا: (إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين) ثم قال تعالى (وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله) يعني أن الكفر بعيد منكم وحاشاكم منه، فإن آيات الله تنزل على رسوله ليلا ونهارا وهو يتلوها عليكم ويبلغها إليكم، وهذا كقوله تعالى: (وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين) الآية بعدها.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة قوله (كيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله) قال: علمان بينان: نبي الله وكتاب الله، فأما نبي الله فمضى عليه الصلاة والسلام، وأما كتاب الله فأبقاه الله بين أظهركم رحمة من الله ونعمة فيه حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته.(1/441)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: قوله (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين) قد تقدم الله إليكم فيهم كما تسمعون، وحذركم وأنبأكم بضلالتهم، فلا تأمنوهم على دينكم ولا تنتصحوهم على أنفسكم، فإنهم الأعداء الحسدة الضلال. كيف تأتمنون قوما كفروا بكتابهم، وقتلوا رسلهم، وتحيروا في دينهم، وعجزوا عن أنفسهم؟ أولئك والله هم أهل التهمة والعداوة.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسين بن السكن، ثنا أبو زيد النحوي، أنبأ قيسْ ابن الربيع، عن الأغر بن الصباح، عن خليفة بن حصين، عن أبي نصر، عن ابن عباس قال: كانت بين الأوس والخزرج حرب في الجاهلية، فبينما هم يوماً جلوس إذ ذكروا ما بينهم حتى غضبوا، فقام بعضهم إلى بعض بالسلاح فنزلت: (وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله) الآية كلها.
(التفسير- آل عمران آية (1, 1) ح69, 1) . وأخرجه الطبري (التفسير 7/63 ح 7535) عن
أبي كريب عن الحسن بن عطية عن قيس به. وأخرجه البخاري (التاريخ الكبير 9/76) من طريق إبراهيم
ابن نصر عن الأشجعي عن سفيان الثوري عن الأغر به. والحديث بهذه المتابعات حسن (انظر تفسير ابن أبي
حاتم - الوضع المذكور أعلاه) .
قوله تعالى (ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، ثنا عمرو بن رافع، ثنا سليمان يعني: ابن عامر عن الربيع بن أنس في قوله: (ومن يعتصم بالله) والاعتصام هو: الثقة بالله.
وسنده حسن.
وانظر حديث النواس بن سمعان المتقدم عند الآية (6) من سورة الفاتحة.
قوله تعالى (يا أيها الدين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)
قال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا يحيى بن زكرياء، عن الأعمش، عن أبي سفيان عن جابر قال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل وفاته بثلاث يقول: "لا يموتن أحدكم ألا وهو يحسن بالله الظن".
(الصحيح 4 /2205 ح 2877- ك الجنة وصفة نعيمها، ب الأمر بحسن الظن بالله ... ) .(1/442)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
قال الترمذي: حدثنا محمود بن غيلان. حدثنا أبو داود. أخبرنا شعبة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ هذه الآية (اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن يكون طعامه".
(السنن 4/706-707- ك صفة الجنة، ب ما جاء في صفة شراب أهل النار ح 2585، وقال: حديث حسن صحيح، وأخرجه (ابن ماجة- ك الزهد، ب صفة النار ح 4325) ، وأحمد في (المسند 1/300-301) وابن حبان في صحيحه (الإحسان 16/511 ح 7470) والحاكم في المستدرك (2/294) من طرق عن شعبة به. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان: حدثنا عبد الرحمن عن سفيان وشعبة عن زبيد اليامي، عن مرة، عن عبد الله -هو ابن مسعود- (اتقوا الله حق تقاته) قال: أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر.
قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح موقوف. وأخرجه الحاكم من طريق مسعر عن زبيد به، وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 2/294) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قوله (اتقوا الله حق تقاته) أن يجاهدوا في الله حق جهاده ولا يأخذهم في الله لومة لائم ويقوموا لله، بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: إنها لم تنسخ، ولكن (حق تقاته) أن يجاهد في الله حق جهاده، ثم ذكر تأويله الذيَ ذكرناه عنه آنفا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: قوله (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا أنتم مسلمون) ثم أنزل التخفيف واليسر، وعاد بعائدته ورحمته على ما يعلم من ضعف خلقه فقال (فاتقوا الله ما استطعتم) فجاءت هذه الآية، فيها تخفيف وعافية ويسر.(1/443)
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
قوله تعالى ( ... واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا)
قال مسلم: حدثني زهير بن حرب. حدثنا جرير عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة: قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثاً. فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً. وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا. ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال. وإضاعة المال".
(صحيح مسلم 3/1340 ح 1715- ك الأقضية، ب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة) .
قال الترمذي: حدثنا علي بن المنذر كوفي. حدثنا محمد بن فضيل قال: حدثنا الأعمش عن عطية عن أبي سعيد والأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن زيد بن أرقم رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي. أهل بيتي ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما".
(السنن 5/663 ح 3788) ، أخرجه أحمد (المسند 3/14، 17، 26، 59) من طرق عن عطية به. قال الترمذي: حسن غريب. وقال الألباني صحيح (صحيح سنن الترمذي ح 2980) . والحديث له شاهد من رواية زيد بن ثابت أخرجه أحمد (5/182) ، وذكر الحديث الهيثمي ونسبه إلى أحمد ثم قال: إسناده جيد (مجمع الزوائد 9/162, 163) وصححه الألباني (صحيح الجامع 2/317) .
وانظر حديث ابن ماجة عن أنس الآتي عند الآية (105) من السورة نفسها.
قال الطبري: حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله: (واعتصموا بحبل الله) ، قال: حبل الله، القرآن.
ورجاله ثقات وإسناده صحيح.
أخرج بن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية في قوله: (واعتصموا بحبل الله جميعاً) ، يقول اعتصموا بالإخلاص لله وحده.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (ولا تفرقوا واذكروا نعمه الله عليكم) إن الله عز وجل قد كره لكم الفرقة، وقدم إليكم فيها، حذركموها، ونهاكم عنها، ورضي لكم السمع والطاعة والألفة والجماعة، فارضوا لأنفسكم ما رضى الله لكم إن استطعتم، ولا قوة إلا بالله.(1/444)
قوله تعالى (واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا) لم يبين هنا ما بلغته معاداتهم من الشدة، ولكنه بين في موضع آخر أن معاداتهم بلغت من الشدة أمرا عظيماً حتى لو أنفق ما في الأرض كله لإزالتها وللتأليف بين قلوبهم لم يفد شيئاً، وذلك في قوله: (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) .
وانظر حديث البخاري عن عبد الله بن زيد بن عاصم الآتي عند الآية (63) من سورة الأنفال.
قال مسلم: حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا جرير (يعني ابن حازم) : حدثنا غيلان بن جرير، عن أبي قيس بن رياح، عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ أنه قال: "من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات، مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت رايةٍ عُميةٍ، يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة، فقتل فقتلة جاهلية. ومن خرج على أمتي، يضرب برَّها وفاجرها، ولا يتحاش من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست منه".
(الصحيح 3/1476-1477 ح 1848- ك الإمارة، ب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن ... ) .
قال مسلم: حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري، حدثنا أبي، حدثنا عاصم (وهو ابن محمد بن زيد) عن زيد بن محمد، عن نافع قال: جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان، زمن يزيد بن معاوية.
فقال: اطرحوا لأبى عبد الرحمن وِسادةً. فقال: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدثك حديثاً سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقوله، سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول:(1/445)
"من خلع يداً من طاعة، لقي الله يوم القيامة، لا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية".
(الصحيح 3/1478 ح 1851- ك الإمارة، وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن) .
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (نعمت الله) . عافية الله.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: قوله: (واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم) ، كنتم تذابحون يأكل شديدكم ضعيفكم، حتى جاء الله بالإسلام فآخى به بينكم، وألف به بينكم. أما والله الذي لا إله إلا هو إن الألفة لرحمة، إن الفرقة لعذاب.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها) بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. يقول كنتم على طرف النار، من مات منكم أوبق في النار، فبعث الله محُمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستنقذكم به من تلك الحفرة.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مقاتل بن حيان (وكنتم على شفا حفرة من النار لأنقذكم منها) أنقذكم الله من الشرك إلى الإَّيمان.
قوله تعالى (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)
قال الترمذي: حدثنا قتيبة، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن عمرو بن أبي عمرو عن عبد الله الأنصاري، عن حذيفة بن اليمان، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم".
(السنن 4/468 ح 2169- ك الفتن، ب ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ، وقال الألباني: وأخرجه أحمد في مسنده (5/388) من طريق إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن أبي عمرو به وانظر (صحيح سنن الترمذي ح 1762) وله شاهد أخرجه الطبراني بسنده عن ابن مسعود (المعجم الكبير 10/180 ح 10267) ، وله شواهد ذكرها الهيثمي (مجمع الزوائد 7/266) .(1/446)
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية قال: كل آية يذكرها الله في القرآن، فذكر الأمر بالمعروف، فالأمر بالمعروف أنهم دعوا إلى الله وحده وعبادته لا شريك له دعاء من الشرك إلى الإسلام.
وبه عن أبي العالية قال: كل آية ذكرها الله في القرآن، فذكر النهى عن المنكر، النهي عن عبادة الأوثان والشيطان.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مقاتل بن حيان قوله: (ولتكن منكم أمة يقول ليكن منكم قوم يعني: واحد أو اثنين أو ثلاثة نفر فما فوق ذلك.
(أمة) يقول: إماماً يقتدي به كما قال لإبراهيم كان أمة قانتا يقول: إماماً مطيعاً لربه يقتدي به. قوله: (يدعون إلى الخير) قال: إلى الإسلام.
قوله (يأمرون بالمعروف) يأمرون بطاعة ربهم. قوله (ينهون عن المنكر) وينهون عن معصيته يعني: معصية ربهم.
قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن سفيان. ح وحدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، كلاهما عن قيس ابن مسلم، عن طارق بن شهاب -وهذا حديث أبي بكر- قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة.
فقال: قد ترك ما هنا لك. فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".
(الصحيح 1/69 ح 49- ك الإيمان، ب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان) .
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن ابن إسحاق عن ابن عباس (وأولئك هم المفلحون) أي: الذين أدركوا ما طلبوا، ونجوا من شر ما منه هربوا.(1/447)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)
قوله تعالى (ولا تكونوا كالذين فرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات)
قال ابن ماجة: حدثنا هشام بن عمار. ثنا الوليد بن مسلم. ثنا أبو عمرو.
ثنا قتادة عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة. وإن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة. كلها في النار إلا واحدة. وهي الجماعة".
(السنن ح 3993- ك الفتن، ب افتراق الأمم) ، قال البوصيري: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات.
رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس أيضاً ورواه أبو يعلى الموصلي (مصباح الزجاجة 2/296) .
وصححه الألباني (صحيح ابن ماجة 2/364) ، وصححه أحمد شاكر في المسند (16/169) وأشار إلى تصحيح السيوطي له، وأخرجه الحاكم ووافقه الذهبي (المستدرك 1/128) وذكره ابن كثير في (2/76) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قوله (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا) ونحوها هذا في القرآن أمر الله جل ثناؤه المؤمنين بالجماعة، فنهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مقاتل بن حيان قوله: (ولا تكونوا) يعنى للمؤمنين يقول: لا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد موسى فنهى الله تعالى المؤمنين أن يتفرقوا من بعد كفعل اليهود.
قوله تعالى (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وتسود وجوه) بين في هذه الآية الكريمة أن من أسباب اسوداد الوجوه يوم القيامة الكفر بعد الإيمان وذلك في قوله (فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم) الآية. وبين في موضع آخر أن من أسباب ذلك الكذب على الله تعالى وهو قوله تعالى: (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة) . وبين في موضع آخر أن من(1/448)
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)
أسباب ذلك اكتساب السيئات وهو قوله (والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً) وبين في موضع آخر أن من أسباب ذلك الكفر والفجور وهو قوله تعالى: (ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة) .
قال الترمذي: حدثنا أبو كريب. حدثنا وكيع عن الربيع بن صبيح وحماد بن سلمة عن أبي غالب قال: رأى أبو أمامة رءُوساً منصوبة على درج مسجد دمشق فقال أبو أمامة: كلاب النار شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه، ثم قرأ: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) إلى آخر الآية قلتُ لأبي أمامة: أنت سمعته من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين أو ثلاثاً أو أربعاً -حتى عدّ سبعاً- ما حدثتكموه.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن وأبو غالب يقال اسمه حزور وأبو أمامة الباهلي اسمه صدي بن عجلان وهو سيد باهلة.
(سنن الترمذي 5/226 ح 3000- ك التفسير، ب ك سورة آل عمران) ، وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي) ، وعزاه الهيثمي للطبراني وقال: رجاله ثقات (مجمع الزوائد 6/234) ، وأخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبى (المستدرك 2/149-150) ، وذكره ابن كثير وقال: وهذا الحديث أقل أقسامه أن يكون موقوفاً من كلام الصحابي (التفسير 1/346) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الجيد عن أبي العالية عن أبي بن كعب في قوله: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) قال: صاروا يوم القيامة فريقين، فقال لمن اسود وجهه، وعيّرهم: (أكفرتم بعد إيمانكم فذقوا العذاب بما كنتم تكفرون) قال: هو الإيمان الذي كان قبل الاختلاف في زمن آدم، حين أخذ منهم عهدهم وميثاقهم وأقروا كلهم بالعبودية وفطرهم على الإسلام، فكانوا أمة واحدة مسلمين. يقول: (أكفرتم بعد إيمانكم) يقول: بعد ذلك الذي كان في زمان آدم. وقال في الآخرين: الذين استقاموا على إيمانهم ذلك، فأخلصوا له الدين والعمل، فبيض الله وجوههم، وأدخلهم في رضوانه وجنته.
واللفظ للطبري وقد رجحه.(1/449)
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
قوله تعالى (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)
قال الترمذي: حدثنا عبد بن حميد، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن بهز ابن حكيم، عن أبيه، عن جده أنه سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في قوله: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) قال: "إنكم تُتِمُّون سبعين أمة أنتم خيرُها وأكرمها على الله".
هذا حديث حسن. وقد روى غير واحد هذا الحديث عن بهز بن حكيم نحو هذا ولم يذكروا فيه (كنتم خير أمة أخرجت للناس) . (سنن الترمذي 5/266 ح 3001) ، وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي) ، وأخرجه الحاكم (4/84) من طريق عبد الرزاق عن معمر به، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وقال ابن حجر: وهذا حديث حسن صحيح (الفتح 8/73) . وقال ابن كثير. حديث مشهور (التفسير 2/78 ط الشعب) ، ويشهد له حديث أحمد عن علي بن أبي طالب كما سيأتي عند هذه الآية.
قال أحمد: حدثنا حسين وأبو نعيم قالا: حدثنا إسرائيل عن سماك عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس في قوله عز وجل (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) قال: هم الذين هاجروا مع محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة قال أبو نعيم: مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(المسند رقم 2463) وأخرجه أيضاً برقم (2989، 2928، 3321) من طرق عن إسرائيل به، وصححه أحمد شاكر. وأخرجه الحاكم (2/294) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وجَوّد الحافظ ابن حجر إسناد روايتي أحمد والحاكم (فتح الباري 8/225) وعزاه الهيثمي لأحمد والطبراني، وقال: ورجال أحمد رجال الصحيح (مجمع الزوائد 6/327) .
قال أحمد: حدثنا عبد الرحمن حدثنا زهير عن عبد الله -يعني ابن محمد بن عقيل- عن محمد بن علي أنه سمع علي بن أبي طالب يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء" فقلنا: يا رسول الله ما هو؟ قال: نصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح الأرض، وسميت أحمد، وجعل التراب لي طهوراً، جعلت أمتي خير الأمم".(1/450)
(المسند رقم 763) وصححه المحقق. وقال ابن كثير: إسناده حسن التفسير (2/78) وحسّنه الهيثمي أيضاً (مجمع الزوائد 1/260) ، وحسنه الحافظ ابن حجر (الفتح 8/225) ، وكذا السيوطي (الدر المنثور 2/294) .
قال ابن ماجة: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا محمد بن مصعب، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة، عن عطاء بن يسار عن رفاعة الجهني؛ قال. صدرنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "والذي نفس محمد بيده! ما من عبد يؤمن ثم يُسَدد إلا سُلِك به في الجنة. وأرجو ألاّ يدخلوها حتى تبوَّؤُا أنتم ومَن صَلَحَ من ذراريِّكم، مَسَاكنَ في الجنة. ولقد وعدني ربي، عز وجل، أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا بغير حساب".
(السنن 4/1432-1433 ح 4285- ك الزهد، ب صفة أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، وأخرجه النسائي في (عمل اليوم والليلة رقم 475) ، وابن حبان في صحيحه (الإحسان 1/444 ح 212) من طرق عن الأوزاعي به.
وعزاه الهيثمي إلى الطبراني والبزار وقال: ورجال بعضها عند الطبراني والبزار رجال الصحيح (مجمع الزوائد 10/408) ، وصححه الألباني (صحيح سنن ابن ماجة رقم 3458) ، وقال الأرناؤوط في تعليقه على الإحسان: إسناده صحيح على شرط البخاري. وأخرجه أحمد من حديث ثوبان بنحوه، وصححه ابن كثير في (التفسير 2/79) . وله شاهد في صحيح مسلم من حديث ابن عباس (الصحيح 1/199 ح 220) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: تأمرونهم بالمعروف: أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، والإقرار بما أنزل الله، وتقاتلونهم عليه، ولا إله إلا الله هو أعظم المعروف وتنهونهم عن المنكر والمنكر هو التكذيب، وهو أنكر المنكر.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية قوله: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) قال: لم تكن أمة أكثر استجابة في الإسلام من هذه الأمة، فمن ثم قال (كنتم خير أمة أخرجت للناس) .
قوله تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) ذم الله أكثر الناس.(1/451)
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
قوله تعالى (لن يضروكم إلا أذى)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (لن يضروكم إلا أذى) يقول: لن يضروكم، إلا أذى تسمعونه منهم.
قوله تعالى (ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (إلا بحبل من الله) قال: بعهد (وحبل من الناس) قال: بعهدهم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس) يقول: إلا بعهد من الله وعهد من الناس.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية قوله: (وضربت عليهم المسكنة) قال: المسكنة: الفاقة.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة: (ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) اجتنبوا المعصية والعدوان فإن بهما هلك من هلك من قبلكم من الناس.
قوله تعالى (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين وما يفعلوا من خير فلن يُكْفَرُوهُ والله عليم بالمتقين)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن محمد بن إسحاق بسنده عن ابن عباس قال: لما أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد، ومن أسلم من اليهود معهم، فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام ورسخوا فيه، قالت أحبار اليهود وأهل الكفار منهم: ما آمن بمحمد ولاتبعه إلا أشرارنا! ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره، فأنزل الله(1/452)
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
عز وجل في ذلك من قولهم (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله) إلى قوله: (وأولئك من الصالحين) .
واللفظ للطبري.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون) . ذكر هنا من صفات هذه الطائفة المؤمنة من أهل الكتاب أنها قائمة. أي: مستقيمة على الحق وأنها تتلو آيات الله آناء الليل وتصلي وتؤمن بالله وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. وذكر في موضع آخر أنها تتلوا الكتاب حق تلاوته وتؤمن بالله. وهو قوله (الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به) . ذكر في موضع آخر أنهم يؤمنون بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليهم وأنهم خاشعون لله لا يشترون بآياته ثمنا قليلا وهو قوله (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة) الآية. يقول: ليس كل القوم هلك، قد كان لله فيهم بقية.
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد: (أمة قائمة) قال: عادلة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة في قوله: (أمة قائمة) يقول: قائمة على كتَاب الله وحدوده وفرائضه.
قال النسائي: أنا محمد بن رافع، نا أبو النضر، نا أبو معاوية، عن عاصم، عن زرّ، عن ابن مسعود قال: أخّر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد، فإذا الناس ينتظرون الصلاة، فقال: "أما إنه ليس من هذه الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم". قال: وأنزلت هذه الآية (ليسوا سواء من أهل الكتاب) حتى بلغ (والله عليم بالمتقين) .(1/453)
(التفسير 1/320-321 ح 93 عند تفسير هذه الآية من آل عمران) . وأخرجه أحمد (المسند 1/396) ، والطبري (التفسير رقم 7662) ، وابن أبي حاتم (التفسير- آل عمران، ح 1226) ، والبزار (كشف الأستار ح 375) ، وابن حبان (الإحسان 4/397-398 ح 1530) . من طرق عن عاصم عن زر به. قال الهيثمي: رجال أحمد ثقات ليس فيهم غير عاصم بن أبي النجود، وهو مختلف في الاحتجاج به (مجمع الزاوئد 1/312) . وحسَّن السيوطي إسناده (الدر المنثور 2/65) وكذا فعل محقق الإحسان، وتفسير النسائي. وصححه محقق المسند، ولعله إلى الحسن أقرب لأجل عاصم هذا) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (يتلون آيات الله آناء الليل) أي: ساعات الليل.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (وما يفعلوا من خير فلن يكفروه) يقول: لن يضل عنهم.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن محمد بن إسحاق بسنده عن ابن عباس قال (المتقين) أي الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى ويرجون رحمته بالتصديق بما جاء منه.
قوله تعالى (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)
انظر آية (10) من السورة نفسها.
قوله تعالى (مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأَهلكتهُ وما ظَلمَهُم الله ولكن أنفسهم يظلمون)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله عز وجل: (مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا) قال: نفقة الكافر في الدنيا.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ريح فيها صر) برد.
وانظر سورة البقرة آية (205 و264) .(1/454)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)
قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً ... )
قال البخاري: حدثنا أصبغ، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشرّ وتحضُّه عليه، فالمعصوم من عصم الله تعالى".
(الصحيح 13/201 ح 7198- ك الأحكام، ب بطانة الإمام ... ) .
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن محمد بن إسحاق، عن ابن عباس قال: كان رجال من المسلمين يواصلون رجالاً من اليهود، لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية، فأنزل الله عز وجل فيهم ينهاهم عن مباطنتهم، تخوفوا الفتنة عليهم منهم: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم) إلى قوله (وتؤمنون بالكتاب كله) .
قال ابن أبي حاتم: حدثني أبي، حدثني أيوب بن محمد الوزان، ثنا عيسى بن يونس، عن أبي حيان التيمي، عن أبي الزنباع، عن أبي دهقانة، قال: قيل لعمر ابن الخطاب إن هاهنا غلاما من أهل الحيرة حافظاً كاتباً، فلو اتخذته كاتباً، قال: قد اتخذت إذا بطانة من دون المؤمنين.
ورجاله ثقات تقدم ذكرهم في تفسير ابن أبي حاتم وإسناده صحيح.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مقاتل بن حيان قوله: (لا يألونكم خبالا) يقول: يضلونكم كما ضلوا فنهاهم أن يستدخلوا المنافقين دون المؤمنين أو يتخذوهم أولياء.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا) في المنافقين من أهل المدينة. نهى الله عز وجل المؤمنين أن يتولوهم.(1/455)
قوله تعالى (قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (قد بدت البغضاء من أفواههم) يقول: قد بدت البغضاء من أفواه المنافقين إلى إخوانهم من الكفار، من غشهم للإسلام وأهله، وبغضهم إياهم.
وبه عن قتادة: قوله (ما تخفى صدورهم أكبر) يقول: وما تخفي صدورهم أكبر مما قد أبدوا بألسنتهم.
قوله تعالى (ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله) فوالله إن المؤمن ليحب المنافق يأوي له ويرحمه. ولو أن المنافق يقدر على ما يقدر عليه المؤمن منه، لأباد خضراءه.
قوله تعالى (وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (إذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ) ، إذا لقوا المؤمنين قالوا: (آمنا) ليس بهم إلا مخافة على دمائهم وأموالهم، فصانعوهم فذلك (وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ) ، يقول: مما يجدون في قلوبهم من الغيظ والكراهة لما هم عليه لو يجدون ريحا لكانوا على المؤمنين، فهم كما نعت الله عز وجل.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (الأنامل) ، أطراف الأصابع.
قوله تعالى (إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها) ، وإذا رأوا من أهل الإسلام ألفة وجماعة وظهورا على عدوهم، غاظهم ذلك وساءهم، وإذا رأوا من أهل الإسلام فرقة واختلافا، أو أصيب طرف من أطراف المسلمين، سرهم ذلك وأعجبوا: ابتهجوا به فهم كلما خرج منهم قرن أكذب الله أحدوثته، وأوطأ محلته، وأبطل حجته، وأظهر عورته، فذاك قضاء الله فيمن مضى منهم وفيمن بقى إلى يوم القيامة.(1/456)
إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)
قوله تعالى (إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما)
قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان قال: قال عمرو: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: "فينا نزلت (إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما) قال: نحن الطائفتان: بنو حارثة، وبنو سلمة. وما نحب -وقال سفيان مرة: وما يسرّني- أنها لم تنزل، لقول الله: (والله وليهما) .
(الصحيح 8/73 ح 4558- ك التفسير، سورة آل عمران) ، ومسلم في (صحيحه 4/1949- ك فضائل الصحابة، ب من فضائل الأنصار رضي الله عنهم) .
قوله تعالى (وعلى الله فليتوكل المؤمنون)
انظر الآية (15) من السورة نفسها.
قوله تعالى (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة)
قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن سماك قال: سمعت عياضا الأشعري قال: شهدت اليرموك وعلينا خمسة أمراء: أبو عبيدة بن الجراح ويزيد بن أبي سفيان، وابن حسنة، وخالد بن الوليد، وعياض، وليس عياض هذا بالذي حدث سماكا، قال وقال عمر: إذا كان قتال فعليكم أبو عبيدة قال: فكتبنا إليه، إنه قد جاش إلينا الموت واستمددناه، فكتب إلينا أنه قد جاءني كتابكم تستمدوني، وإنى أدلكم على من هو أعز نصرا وأحضر جندا الله عز وجل فاستنصروه، فإن محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد نصر يوم بدر في أقل من عدتكم فإذا أتاكم كتابي هذا فقاتلوهم ولا تراجعوني، قال فقاتلناهم فهزمناهم وقتلناهم أربع فراسخ، قال: وأصبنا أموالا، فتشاوروا، فأشار علينا عياض أن نعطي عن كل رأس عشرة، قال: وقال أبو عبيدة: من يراهنني. فقال شاب: أنا إن لم تغضب، قال: فسبقه، فرأيت عقيصتي أبي عبيدة تنقران وهو خلفه على فرس عربي.
(المسند رقم 344) وصححه أحمد شاكر ومحققو المسند بإشراف أ. د. عبد الله التركي (1/422 ح 344) وذكره ابن كثير في تفسيره وعزاه لابن حبان والضياء. وقال: وهذا إسناد صحيح (التفسير 2/93) . وأخرجه ابن حبان في طريق محمد بن جعفر به وحسنه شعيب الأرناؤوط (11/83-84 ح 4766) . وقال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد 6/213) .
العقيصة: الشعر المعقوص وهو نحو في المضفور، وأصل العقص: اللي وإدخال أطراف الشعر في أصوله.
(النهاية لابن الأثير 3/275) .(1/457)
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)
وانظر حديث البراء في صحيح البخاري عند الآية (247) سورة البقرة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (من فورهم هذا) ، يقول: من وجههم هذا.
قوله تعالى (ويأتوكم من فورهم هذا)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (ويأتوكم من فورهم هذا) قال: غضب لهم، يعني الكفار، فلم يقاتلوهم عند تلك الساعة، وذلك يوم أحد.
قوله تعالى (يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين)
أخرج الطبري بسنده الصحيح مجاهد في قوله: (بخمسة آلاف من الملائكة مسومين) ، يقول: معلمين، مجزوزة أذناب خيلهم، ونواصيها - فيها الصوف أو العهن. وذلك التسويم.
قوله تعالى (وما جعله الله إلا بشرى لكم)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (وما جعله الله إلا بشرى لكم) يقول: إنما جعلهم ليستبشروا بهم وليطمئنوا إليهم، ولم يقاتلوا معهم يومئذ يعني يوم أحد قال مجاهد: ولم يقاتلوا معهم يومئذ ولا قبله ولا بعده إلا يوم بدر.
قوله تعالى (ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (أو يكبتهم) ، يقول: يخزيهم (فينقلبوا خائبين) .
قوله تعالى (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون)
قال مسلم: حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب. حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت، عن أنس؛ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كسِرت رباعيتة يوم أحد. وشُجَّ في رأسه. فجعل يسلت الدم عنه ويقول: "كيف يفلح قوم شجّوا نبيهم وكَسَروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله؟ " فأنزل الله عز وجل (ليس لك من الأمر شيء) .
(الصحيح 13/1417 ح 1791- ك الجهاد والسير، ب غزوة أحد) .(1/458)
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)
قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا إبراهيم بن سعد، حدثنا ابنُ شهاب، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعوَ لأحد قَنَتَ بعد الركوع فربّما قال إذا قال سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد: "اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها سنين كسني يوسف. يجهر بذلك. وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر: اللهم العَن فلاناً وفلاناً" -لأحياء من العرب- حتى أنزل الله (ليس لك من الأمر شيء) الآية.
(صحيح البخاري 8/74 ح/4560- ك التفسير، سورة آل عمران) ، (وصحيح مسلم 1/466 - ك المساجد ومواضع الصلاة، ب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة نحوه) .
قوله تعالى (ولله ما في السموات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم)
انظر تفسير آخر سورة البقرة آية (284) .
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة) أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة) قال: ربا الجاهلية.
وانظر سورة البقرة آية (275-279) .
قوله تعالى (واتقوا النار التي أعدت للكافرين)
قال البخاري: حدثنا عمر بن حفص, حدثنا أبي قال: حدثني الأعمش، قال: حدثني خيثمة، عن عدي بن حاتم قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله يوم القيامة ليس بين الله وبينه ترجمان، ثم ينظر فلا برى شيئاً قدامه، ثم ينظر بين يديه فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن يتقي النارَ ولو بشق تمرة".
(الصحيح 11/408 ح 6539- ك الرقاق، ب من نوقش الحساب عذب) ، (وصحيح مسلم 2/703-704- ك الزكاة، ب الحث على الصدقة) .
وانظر سورة البقرة آية (24) .(1/459)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
قوله تعالى (وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون)
انظر سورة آل عمران آية (32) .
قوله تعالى (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين)
انظر حديث مسلم عن أبي هريرة الآتي عند الآية (21) من سورة التوبة.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي، ثنا وكيع عن سعدان الجهني، عن سعد أبي مجاهد الطائي، عن أبي مدله، عن أبي هريرة قال: قلنا: يا رسول الله أخبرنا عن الجنة ما بناؤها؟ قال: "لبنة من فضة ولبنة من ذهب، ملاطها المسك الأذفر، حصباؤها الياقوت واللؤلؤ، ومزاجها الورس والزعفران من يدخلها يخلد فلا يموت وينعم, لا يبؤس لا يبلى شبابهم ولا تحرق ثيابهم".
(التفسير- آل عمران آية 133 ح 1423) . وأخرجه أحمد (المسند 2/304- 305) ، وابن حبان في صحيحه (الإحسان 16/396 ح 7387) كلاهما من طريق زهير بن معاوية عن سعد الطائي بنحوه مطولاً، وفيه الشاهد. قال أحمد شاكر: إسناده صحيح (المسند ح 8030) . وأخرجه بنحو حديث ابن أبي حاتم، أحمد (المسند 2/362) ، والطبراني في الأوسط (-كما في المجمع- والبزار في مسنده) ، وأبو نعيم في (صفة الجنة ح 137) من طرق عن عمران القطان، عن قتادة، عن العلاء بن زياد عن أبي هريرة به. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد 10/396) . وللحديث شاهد عن أبي سعيد موقوفاً عليه، ذكره الهيثمي في (مجمع الزوائد 10/397) وعزاه للبزار والطبراني في الأوسط وقال: رجال الموقوف رجال الصحيح، وأبو سعيد لا يقول هذا إلا بتوقيف.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وجنة عرضها السموات والأرض) يعني عرضها كعرض السموات والأرض كما بينه قوله تعالى: في سورة الحديد (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض) . وآية آل عمران هذه تبين أن المراد بالسماء في آية الحديد جنسها الصادق بجميع السموات كما هو ظاهر.(1/460)
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
قال ابن حبان أخبرنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم مولى ثقيف، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، قال: أخبرنا المخزومي، قال حدثنا عبد الواحد بن زياد، قال: حدثنا عبيد الله بن عبد الله الأصم، قال: حدثنا يزيد الأصم. عن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا محمد أرأيت جنة عرضها السماوات والأرض فأين النار؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أرأيت هذا الليل قد كان ثم ليس شيء أين جعل؟ "قال: "فإن الله يفعل ما يشاء".
(الصحيح ح 103) وأخرجه الحاكم من طريق الأصم عن أبي هريرة وقال: حديث على شرط الشيخين ولم يخرجاه ولا أعلم له علة ووافقه الذهبي (المستدرك 1/36) وذكره الهيثمي وقال: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد 6/327) . وله شاهد رواه أحمد (المسند 3/441) ، والطبري (التفسير رقم 8731) من حديث سعيد بن أبي راشد وفيه تسمية الرجل السائل وهو: هرقل.
وذكره ابن كثير وقال: إسناده لا بأس به (البداية والنهاية 5/15، 16) .
قوله تعالى (الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) ، قوم أنفقوا في العسر واليسر، والجهد والرخاء، فمن استطاع أن يغلب الشر بالخير فليفعل، ولا قوة إلا بالله. فنعمت والله يا بن آدم، الجرعة تجترعها من صبر وأنت مغيظ، وأنت مظلوم.
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب".
(الصحيح 10/535 ح 6114- ك الأدب، ب الحذر من الغضب) ، وأخرجه مسلم (الصحيح 4/294 ح 2609)
وانظر حديث سليمان بن صرد في الصحيحين في تفسير الاستعاذة.
وانظر سورة البقرة آية (177) .(1/461)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)
وقال البخاري: حدثنا يحيى بن يوسف أخبرنا أبو بكر -هو ابن عياش- عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلاً قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أوصِني. قال: "لا تغضب". فردد مراراً، قال: "لا تغضب".
(الصحيح 10/535 ح 6116- ك الأدب، ب الحذر من الغضب) .
قال ابن ماجة: حدثنا حرملة بن يحيى، ثنا عبد الله بن وهب، حدثني سعيد ابن أبي أيوب عن أبي مرحوم، عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من كظم غيظاً، وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يُخيّره في أي الحور شاء".
(السنن - الزهد، باب الحلم ح 4186) . أخرجه أبو داود والترمذي من طريق سعيد بن أبي أيوب به نحوه، وقال الترمذي: حديث حسن غريب (السنن- الأدب، 4/448) ، (السنن، باب كظم الغيظ) ، وقال الألباني: حسن (صحيح ابن ماجة 2/407) . وذكره ابن كثير (2/102) .
قال ابن ماجة: حدثنا زيد بن أخزم ثنا بشر بن عمر، ثنا حماد بن سلمة، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما من جرعة أعظم أجراً عند الله، مِنْ جُرعة غيظ، كظمها عبد ابتغاء وجه الله".
(السنن (2/14,1) ح 4189- ك الزهد، ب الحِلْم، وأخرجه أحمد (المسند ح 6116) من طريق سالم عن ابن عمر به. وصححه أحمد شاكر. قال البوصيري: إسناده صحيح رجاله ثقات (مصباح الزجاجة 3/291) ، وقال العراقي: رواه ابن ماجه بإسناد جيد (تخريج الإحياء 4/1810) ، وحسنه السيوطي (الدر المنثور 2/317) ، وصححه الألباني (صحيح ابن ماجة ح 3377) .
قوله تعالى (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون)
قال الترمذي: حدثنا قتيبة حدثنا أبو عوانة عن عثمان بن المغيرة عن علي بن ربيعة عن أسماء بن الحكم الفزاري قال: سمعت عليا يقول: إني كنت رجلاً إذا سمعت من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حديثاً نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني به، وإذا حدثني رجل من أصحابه استحلفته، فإذا حلف لي صدّقته، وإن حدثني أبو(1/462)
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)
بكر، وصدق أبو بكر، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "ما من رجل يُذنب ذنباً، ثم يقوم فيتطهر، ثم يصلي، ثم يستغفر الله، إلا غفر الله له. ثم قرأ هذه الآية: (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم، ومن يغفر الذنوب إلا الله، ولم يُصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون) .
(السنن 2/257-258 ح 406- ك الصلاة، ب ما جاء في الصلاة عند التوبة) وقال: حديث حسن. وأخرجه أبو داود (2/86 ح 1521- ك الصلاة، ب في الاستغفار) من طريق مسدد عن أبي عوانة به، وأخرجه ابن ماجة (1/446 ح 1395- ك إقامة الصلاة، ب ما جاء أن الصلاة كفارة) من طريق مسعر وسفيان عن عثمان بن المغيرة به. وأخرجه ابن حبان في صحيحه (الإحسان 2/389 ح 623) من طريق الفضل بن الحباب عن مسدد به. قال محققه: إسناده حسن. وأخرجه الضياء المقدسي (المختارة 1/83-87 ح 9-11) من طرق عن عثمان بن المغيرة به، وصحح محققه إسناده في المواضع كلها) . وقال ابن كثير: حديث حسن (التفسير 1/407) . وقال ابن حجر. جيد الإسناد (تهذيب التهذيب 1/268) ، وصححه أحمد شاكر في تحقيقه لسنن الترمذي. وصححه الألباني في (صحيح الجامع برقم 5738) .
قال مسلم: حدثني عبد الأعلى بن حماد، حدثنا حماد بن سلمة، عن إسحاق ابن عبد الله بن أبي طلحة، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما يحكي عن ربه عز وجل قال: "أذنب عبد ذنبا. فقال: اللهم! اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا، فعلِمَ أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب. ثم عاد فأذنب. فقال: أي ربِّ! اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبا. فعَلِمَ أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي ربّ! اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً. فعلم أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب. اعمل ما شئت فقد غفرت لك".
قال عبد الأعلى: لا أدري أقال في الثالثة أو الرابعة "اعمل ما شئت".
(الصحيح 4/2112 ح 2758- ك التوبة، ب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت ... ) .(1/463)
قال أحمد: حدثنا يزيد، أخبرنا حريز، حدثنا حبان الشرعبي، عن عبد الله بن عَمرو بن العاص، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال وهو على المنبر: "ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر الله لكم، ويل لأقماع القول، ويل للمصرين الذي يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون".
(المسند ح 6541) وصححه أحمد شاكر. وقال المنذري: رواه أحمد بإسناد جيد (الترغيب 3/155) ، وكذا العراقي، وصححه السيوطي في (الجامع الصغير 1/475) ، وعزاه الهيثمي لأحمد والطبراني وقال: ورجاله رجال الصحيح غير حبان بن يزيد الشرعبي ووثقه ابن حبان (مجمع الزوائد 10/191) وصححه الألباني (صحيح الجامع 1/308)
قوله تعالى (أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين)
انظر سورة البقرة آية (25) .
قوله تعالى (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين)
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (قد خلت من قبلكم سنن) يقول: في الكفار والمؤمنين، والخير والشر.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) ، يقول: متعهم في الدنيا قليلا، ثم صيرهم إلى النار.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (هذا بيان للناس) ، وهو هذا القرآن، جعله الله بيانا للناس عامة، وهدى وموعظة للمتقين خصوصا.
قوله تعالى (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) ، يعزي أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما تسمعون، ويحثهم على قتال عدوهم، وينهاهم عن العجز والوهن في طلب عدوهم في سبيل الله.
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله عز وجل: (ولا تهنوا) ولا تضعفوا.(1/464)
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
قوله تعالى (إن يمسسكم قرح فقد من القوم قرح مثله)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله) المراد بالقرح الذي مس المسلمين هو ما أصابهم يوم أحد من القتل والجراح كما أشار له تعالى في هذه السورة الكريمة في مواضع متعددة كقوله (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون) وقوله (ويتخذ منكم شهداء) الآية. وقوله (حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم) وقوله (إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم) ونحو ذلك من الآيات. وأما المراد بالقرح الذي مس القوم المشركين فيحتمل أنه هو ما أصابهم يوم بدر من القتل والأسر، وعليه فإليه الإشارة بقوله (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان. ذلك لأنهم شاقوا الله رسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب) ويحتمل أيضاً أنه هزيمة المشركين أولا يوم أحد كما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى وقد أشار إلى القرحين معا بقوله: (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها) .
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله) قال: جراح وقتل.
قوله تعالى (وتلك الأيام نداولها بين الناس)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وتلك الأيام نداولها بين الناس) إنه الله لولا الدول ما أوذي المؤمنون، ولكن يدال للكافر من المؤمن، ويبتلى المؤمن بالكافر، ليعلم الله من يطيعه ممن يعصيه، ويعلم الصادق من الكاذب.(1/465)
قوله تعالى (وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء) ، فكرم الله أولياءه بالشهادة بأيدي عدوهم، ثم تصير حواصل الأمور وعواقبها لأهل طاعة الله.
قوله تعالى (وليمحص الله الذين آمنوا)
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (وليمحص الله الذين آمنوا) قال: ليبتلي.
قوله تعالى (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين)
قال الشيخ الشنقيطي: أنكر الله في هذه الآية على من ظن أنه يدخل الجنة دون أن يبتلى بشدائد التكاليف التي يحصل بها الفرق بين الصابر المخلص في دينه وبين غيره وأوضح هذا المعنى في آيات متعددة كقوله (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب) وقوله (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون) وقوله (ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يقتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) .
قوله تعالى (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين)
قال البخاري: حدثنا بِشر بن محمد قال أخبرنا عبد الله قال: أخبرني معمر ويونس عن الزهري قال أخبرني أبو سلمة أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(1/466)
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)
أخبرته قالت: أقبل أبو بكر - رضي الله عنه - على فرسه من مسكنه بالسُّنحِ حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة رضي الله عنها، فتيمَّمَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وهو مسجَّى ببرد حِبرَة- فكشف عن وجهه، ثم أكبّ عليه فقبله، ثم بكى فقال: بِأبي أنت وأمي يا نبي الله، لا يجمع الله عليك موتتين: أما الموتة التي كُتبت عليك فقد مُتّها. قال أبو سلمة: فأخبرني ابنُ عباس رضي الله عنهما أن أبا بكر - رضي الله عنه - خرج وعمر - رضي الله عنه - يُكلّم الناس، فقال: اجلس، فأبى. فقال: اجلس، فأبى، فتشهّد أبو بكر - رضي الله عنه -، فمالَ إليه الناس وتركوا عمرَ، فقال: أما بعدُ فمن كان منكم يعبد محمداً - صلى الله عليه وسلم - فإن محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت، قال الله تعالى (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين) فوالله لَكأنَّ الناسَ لم يكونوا يعلمون أن الله أنزل الآية حتى تلاها أبو بكر - رضي الله عنه -، فتلقاها منه الناس، فما يُسمع بشرٌ إلا يتلوها.
(الصحيح3/136-137 ك الجنائز - ب الدخول على الميت بعد الموت إذا أُدرج في أكفانه ح/1241، 1242) .
قوله تعالى (ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها)
هذه الآية مقيدة بمشيئة الله تعالى وإرادته المذكورة في قوله تعالى (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد) الإسراء: 18. كما سيأتي تفصيله في سورة هود آية (15) .
قوله تعالى (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (قاتل معه ربيون كثير) جموع.
قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج، ثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن عاصم، عن زر عن عبد الله: (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير) قال: ألوف.
ورجاله ثقات إلا عاصماً صدوق وإسناده حسن.(1/467)
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
قوله تعالى (فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا) يقول: ما عجزوا وما اتضعوا لقتل نبيهم (وما استكانوا) يقول: ما ارتدوا عن بصيرتهم ولا عن دينهم، بل قاتلوا على ما قاتل عليه نبي الله حتى لحقوا بالله.
قوله تعالى (وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فآتاهم الله ثواب الدنيا وحُسنَ ثواب الآخرة والله يحب المحسنين)
قال الطبري: حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أبي عباس في قول الله (وإسرافنا في أمرنا) قال: خطايانا.
ورجاله ثقات وإسناده صحيح.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا) ، فقرأ حتى بلغ (والله يحب المحسنين) ، إي والله، لآتاهم الله الفتح والظهور والتمكين والنصر على عدوهم في الدنيا (وحسن ثواب الآخرة) ، يقول: حسن الثواب في الآخرة، هي الجنة.
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين. بل الله مولاكم وهو خير الناصرين)
انظر آية (28) من السورة نفسها، وأما الآية (150) فبيانها في قوله تعالى (إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فيتوكل المؤمنون) سورة آل عمران: 160.
قوله تعالى (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله)
قال البخاري: حدثنا محمد بن سِنان قال حدثنا هُشيم. ح. قال: وحدثني سعيد بن النضر قال أخبرنا هُشيم قال أخبرنا سيار قال حدثنا يزيد -هو ابن صهيب الفقير- قال: أخبرنا جابر بن عبد الله أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أُعطيت(1/468)
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
خمساً لم يُعطهن أحد قبلي: نُصرتُ بالرعب مسيرة شهر، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجلٍ من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأُحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأُعطت الشفاعة، وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصّة وبُعثت إلى الناس عامّة".
(الصحيح 1/519 ح 335 - ك التيمم) ، وأخرجه مسلم (الصحيح 1/370 ح 521) .
قوله تعالى (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسُّونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (تحسونهم) : تقتلونهم.
قال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء - رضي الله عنه - قال: لقينا المشركين يومئذ وأجلس النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جيشاً من الرماة، وأمر عليهم عبد الله وقال: "لا تبرحوا، إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا". فلما لقينا هربوا، حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل، رفعن عن سوقهن قد بدت خلاخلهن فأخذوا يقولون: الغنيمة الغنيمة. فقال عبد الله: عهد إلي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن لا تبرحوا فأبوا، فلما أبوا صرف وجوههم، فأصيب سبعون قتيلاً. وأشرف أبو سفيان فقال أفي القوم محمد؟ فقال: "لا تجيبوه" فقال أفي القوم ابن أبي قحافة؟ قال: "لا تجيبوه" فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: إن هؤلاء قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا. فلم يكن عمر نفسه فقال: كذبت يا عدو الله أبقى الله عليك ما يخزي. قال أبو سفيان: اعل هبل. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قال أجيبوه قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا الله أعلى وأجل قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أجيبوه قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم قال أبو سفيان يوم بيوم بدر، والحرب سجال، وتجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني.
(الصحيح 7/405 ح 4043 - ك المغازي - ب غزوة أحد) .(1/469)
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)
قوله تعالى (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة)
قال ابن أبي شيبة: حدثنا أحمد بن المفضل، ثنا أسباط، عن السدي، عن عبد خير، عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: ما كنت أرى أن أحداً من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يريد الدنيا، حتى نزل (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) .
(المطالب العالية - المسندة (ق 132/أ) . وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (2/605 ح 1649)
الطبري (4/130) ، والطبراني في الأوسط (2/237 ح 1421) من طرق عن أحمد بن المفضل به.
وهذا الإسناد فيه أسباط بن نصر، وهو (صدوق كثير الخطأ يغرب) ، كما قاله ابن حجر رحمه الله (التقريب ص 98) . ولكن لم ينفرد بروايته لهذا الأثر، بل روي من طريق آخر عن ابن مسعود، فأخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/463) ضمن حديث طويل في قصة أحد، من طريق: حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب، عن الشعبي، عن ابن مسعود، وعطاء وإن كان قد اختلط، إلا أن رواية حماد عنه قبل الاختلاط، وباقي رجال الإسناد ثقات، فيكون الحديث بمجموع هذين الطريقين حسناً إن شاء الله.
وقد حسن إسناده الحافظ العراقي في تخريجه للإحياء (4/219) ، وقال الهيثمي -بعد أن عزاه للطبراني وأحمد-: ورجال الطبراني ثقات (مجمع الزوائد 6/327-328) . وصحح إسناده السيوطي (الدر المنثور 2/86) . وانظر: تخريج الحديث والكلام عليه في حاشية ابن أبي حاتم.
قوله تعالى (إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم)
قال البخاري: حدثنا عمرو بن خالد حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: جعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الرجّالة يوم أُحد عبد الله بن جبير، وأقبلوا منهزمين، فذاك: إذ يدعوهم الرسول في أُخراهم، ولم يبقَ مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غيرُ اثني عشر رجلاً.
(الصحيح 8/75 ك التفسير - سورة آل عمران - ح/4561) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قال: انحازوا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجعلوا يصعدون في الجبل، والرسول يدعوهم في أخراهم.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن قتادة: (غما بغم) قال: الغم الأول: الجراح والقتل، والغم الآخر: حين سمعوا أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد قتل فأنساهم الغم الأخير ما أصابهم من الجراح والقتل وما كانوا يرجون من الغنيمة.(1/470)
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
قوله تعالى (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم)
قال ابن كثير: يقول تعالى ممتنا على عباده فيما أنزل عليهم من السكينة والأمنة وهو النعاس الذي غشيهم وهم مشتملون السلاح في حال همهم وغمهم والنعاس في مثل تلك الحال دليل على الأمنة كما قال في سورة الأنفال في قصة بدر (إذ يغشيكم النعاس أمنة منه) الآية.
قال البخاري: حدثني إسحاق بن إبراهيم بن عبد الرحمن أبو يعقوب حدثنا حسين بن محمد حدثنا شيبان عن قتادة حدثنا أنس أن أبا طلحة قال: غشينا النعاسُ ونحن في مصافّنا يوم أحد، قال: فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه.
(الصحيح 8/76 ح 4562 - ك التفسير- سورة آل عمران) .
قال الترمذي: حدثنا عبد بن حميد، حدثنا روح بن عبادة، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، عن أبي طلحة قال: رفعتُ رأسي يوم أحد فجعلت أنظر، وما منهم يومئذ أحدٌ إلا يميد تحت حجفته من النعاس، فذلك قوله عز وجل: (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً) .
حدثنا عبد بن حميد. حدثنا رَوح بن عبادة عن حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن الزبير مثله. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
(سنن الترمذي 5/229 ح 3007 - ك التفسير، ب سورة آل عمران) ، وأخرجه الحاكم (المستدرك 2/297) وصححه ووافقه الذهبي. وأخرجه المقدسي (المختارة 3/62 ح 866) من طريق الترمذي به، وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي) .
قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج، ثنا أبو نعيم ووكيع، عن سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين، عن عبد الله بن مسعود قال: النعاس في القتال من الله وفي الصلاة من الشيطان. ورجاله ثقات إلا عاصماً صدوق وإسناده حسن.(1/471)
قوله تعالى (وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن ابن إسحاق عن ابن عباس قال: معتّب الذي قال يوم أحد: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا، فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم: (وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله) إلى آخره القصة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قال: والطائفة الأخرى المنافقون، ليس لهم هم إلا أنفسهم، أجبن قوم وأرعبه وأخذله للحق، يظنون بالله غير الحق ظنونا كاذبة، إنما هم شك وريبة في أمر الله: (يقولون: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة في قوله: (ظن الجاهلية) قال: ظن أهل الشرك.
قوله تعالى (لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا)
قال الضياء المقدسي: أخبرنا أبو هاشم الحسين بن محمد علي الحربادقاني -بأصبهان- أن محمد بن أحمد بن محمد البَاغبان أخبرهم -قراءة عليه- أنا أبو الحسين أحمد بن عبد الرحمن الذكواني، أنا أبو بكر أحمد بن مردويه الحافظ، نا دَعْلج بن أحمد، نا عبد الله بن الحسن الحراني، نا أبو جعفر النفيلي، نا محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، حدثني يحيى بن عبّاد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، عن الزبير قال: والله إني لأسمع قول مُعَتب بن قُشير أخي بني عمرو بن عوف، والنُّعاس يغشاني ما أسمعه إلا كالحُلم حين قال: (لو كان لنا من الأمر شيء في ما قُتلنا ها هنا) .
(المختارة 3/60 ح 864) . وأخرجه ابن أبي حاتم عن طريق ابن إسحاق به، وبينت أن إسناده حسن (التفسير 2/620 ح 1697) .(1/472)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)
قوله تعالى (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور رحيم)
قال البخاري: حدثنا عبدان أخبرنا أبو حمزة عن عثمان بن موهب قال: جاء رجلٌ حَجَّ البيتَ فرأى قوماً جلوساً فقال: من هؤلاء القوم؟ قالوا: هؤلاء قُريش. قال: من الشيخ؟ قالوا: ابن عمر. فأتاه فقال: إني سائلُك عن شيء أتحدثّني؟ قال أنشدك بحرمة هذا البيت، أتعلم أنَّ عثمان بن عفان فرّ يوم أحد؟ قال: نعم، قال: فتعلمه تغيّب عن بدرٍ فلم يشهدها؟ قال: نعم. قال: فتعلم أنه تخلّف عن بيعة الرضوان فلم يشهدهما؟ قال: نعم. قال: فكبَّر. قال ابن عمر: تعال لأخبرك ولأبيّن لك عمّا سألتني عنه: أما فراره يومَ أحد فأشهد أن الله عفا عنه.
وأما تغيُّبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكانت مريضةً، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن لك أجرَ رجلٍ ممن شهدَ بدراً وسهمه". وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فإنه لو كان أحَدٌ أعزّ ببطن مكة من عثمان بن عفان لبعثه مكانه فبعث عثمان وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهبَ عثمان إلى مكة، فقال: النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده اليُمنى: "هذه يدُ عثمان"، فضرب بها على يده فقال: "هذه لعثمان".
اذهب بهذا الآن معك".
(الصحيح 7/421 - ك المغازي، ب الآية نفسها ح/4066) .
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم ... )
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر في هذه الآية الكريمة أن المنافقين إذا مات بعض إخوانهم يقولون لو أطاعونا فلم يخرجوا إلى الغزو ما قتلوا، ولم يبين هنا هل يقولون لهم ذلك قبل السفر إلى الغزو ليثبطوهم أولا؟ ونظير هذه الآية: قوله تعالى: (الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا) ولكنه بين في(1/473)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)
آيات أخر أنهم يقولون لهم ذلك قبل الغزو ليثبطوهم كقوله (وقالوا لا تنفروا في الحر) الآية. وقوله (قد يعلم المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا) وقوله (وإن منكم لمن ليبطئن) إلى غير ذلك من الآيات.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن السدي: (وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض) أما إذا ضربوا في الأرض فهي التجارة.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (في قلوبهم) ، قال: يخزيهم قولهم لا ينفعهم شيئاً.
قوله تعالى (ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون)
انظر آية (169-171) من السورة نفسها، وانظر سورة البقرة آية (154) .
قوله تعالى (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)
انظر سورة التوبة آية (128) وتفسرها.
قال ابن ماجة: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا يحيى بن أبي بُكر، عن شيبان، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله: "المستشار مؤتمن".
(السنن ح 3745- ك الأدب، ب المستشار مؤتمن) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي من طريق عبد الملك بن عمير به، وحسنه الترمذي (انظر تفسير ابن كثير 2/129) وقال الألباني: صحيح (صحيح ابن ماجة 2/308) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (فإذا عزمت فتوكل على الله) أمر الله نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا عزم على أمر أن يمضي فيه، ويستقيم على أمر الله ويتوكل على الله.
قوله تعالى (وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة..)
قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان عن عمرو عن سالم بن أبي الجعد عن عبد الله بن عمرو قال: كان علَى ثَقَل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل يقال له كَركرَة، فمات، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هو في النار"، فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلّها، قال أبو عبد الله قال ابن سلام: كركرة يعني بفتح الكاف، وهو مضبوط كذا.
(صحيح البخاري 6/216 ح 3074- ك الجهاد، ب القليل من الغلول) . ثَقَل: يقال لكل خطير نفيس (النهاية لابن الأثير 1/216) .(1/474)
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)
وقال البخاري: حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني عروة عن أبي حميد الساعدي أنه أخبره أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعمل عاملاً فجاءه العامل حين فرغ من عمله فقال: يا رسول الله، هذا لكم، وهذا أهدي لي. فقال له: "أفلا قعدت في بيت أبيك وأمك فنظرتَ أيهدى لك أم لا؟ ثم قام رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عشية بعد الصلاة فتشهد وأثنى على الله بما هو أهله ثم قال، "أما بعدُ فما بال العامل نستعمله، فيأتينا فيقول: هذا من عملكم وهذا أهدي لي، أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فنظر هل يُهدىَ له أم لا؟ فوالذي نفسُ محمد بيده، لا يغل أحدكم منها شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه: إن كان بعيراً جاء به له رُغاء، وإن كانت بقرة جاء بها لها خوار، وإن كانت شاة جاء بها تَيعر. فقد بلغتُ.
قال أبو حميد: ثم رفع رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يده حتى إنا لننظر إلى عفرةِ إبطيه. قال أبو حميد: وقد سمع ذلك معي زيد بن ثابت من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسلوه.
(الصحيح 11/532 ح 6636- ك الأيمان والنذور، ب كيف يمين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) .
قال البخاري: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن أبي حيان قال: حدثني أبو زرعة قال: حدثني أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: قام فينا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر الغلول فعظّمه وعظّم أمره، قال: "لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك. وعلى رقبته بعير له رغاء يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك. وعلى رقبته صامت فيقول: نجا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك. أو على رقبته رقاع تخفق، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك. وقال أيوب عن أبي حيان فرس له حمحمة".
(الصحيح 6/214-215 - ك الجهاد والسير، ب الغلول وقول الله عز وجل (الآية ح/3073) .
قال البخاري: حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالك عن ثور بن زيد الديلي عن أبي الغيث مولى ابن مطيع عن أبي هريرة، قال: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم(1/475)
خيبر فلم نغنم ذهباً ولا فضة إلا الأموال والثياب والمتاع فأهدى رجل من بني الضُّبيب، يقال له فارعة بن زيد لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غلاماً يقال له مِدعم، فوجَّه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى وادي القرى حتى إذا كان بوادي القرى بينما مِدعم يحط رحلاً لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سهم عائر فقتله، فقال الناس هنيئاً له الجنة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كلا والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه ناراً، فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بشراك أو شراكين إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: شراك من نار أو شِراكان من نار.
(الصحيح 11/600 ح 6707- ك الأيمان والنذور، ب هل يدخل في الأيمان والنذور الأرض والغنم والزروع، الأمتعة) . وأخرجه مسلم في (صحيحه 1/108 ح 183- ك الإيمان، ب غلظ تحريم الغلول) .
قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع بن الجراح، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن عديِّ بن عميرة الكندي، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من استعملناه منكم على عمل، فكتمنا مخيطاً فما فوقه، كان غلولاً يأتي به يوم القيامة. قال: فقام إليه رجل أسود، من الأنصار. كأني أنظر إليه. فقال: يا رسول الله! اقبل عني عملك. قال ومالك؟. قال: سمعتك تقول كذا وكذا. قال: وأنا أقوله الآن: من استعملناه منكم على عمل فليجئ بقليله وكثيره. فما أُوتي منه أخذ، وما نهى عنه انتهى.
(الصحيح 3/1465 ح 1833- ك الإمارة، ب تحريم هدايا العمال) .
قال مسلم: حدثني زهير بن حرب، حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا عكرمة بن عمار، قال حدثني سماك الحنفي، أبو زميل، قال: حدثني عبد الله بن عباس، قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: لمّا كان يوم خيبر أقبل نفر من صحابة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: فلان شهيد، فلان شهيد، حتى مرّوا على رجل فقالوا: فلان شهيد، فقال رسوا الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كلا، إني رأيته في النار، في بردة غلّها، أو عباءة". ثم قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا ابن الخطاب! اذهب فناد في الناس: إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون". قال فخرجت فناديت: ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون".
(الصحيح 1/107-108 ح 114- ك الإيمان، ب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه) .(1/476)
قال الدارمي: حدثنا محمد بن عيينه ثنا أبو إسحاق الفزاري عن عبد الرحمن ابن عياش عن سليمان بن موسى عن أبي سلام عن أبي أمامة الباهلي عن عبادة بن الصامت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: "أدوا الخياط والمخيط وإياكم والغلول، فإنه عار على أهله يوم القيامة) .
(السنن 2/229-230- ك السير، ب ما جاء أنه قال: أد الخياط والمخيط) . وأخرجه أحمد (المسند 5/313) من طريق أبي إسحاق الفزاري بإسناده نحوه، وابن حبان في صحيحه (الموارد رقم 193) والحاكم (المستدرك 3/49) وسكت هو والذهبي. قال الألباني: إسناد حسن رجاله كلهم ثقات. (السلسلة الصحيحة 2/717) .
قال الترمذي: حدثنا قتيبة. حدثنا عبد الواحد بن زياد. عن خصيف حدثنا مِقسم قال: قال ابن عباس: نزلت هذه الآية (ما كان لنبي أن يغل) في قطيفة حمراء افتقدت يوم بدر. فقال بعض الناس: لعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذها، فأنزل الله (ما كان لنبي أن يغل) إلى آخر الآية.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، وقد روى عبد السلام بن حرب عن خصيف نحو هذا، وروى بعضهم هذا حديث عن خصيف عن مقسم، ولم يذكر فيه عن ابن عباس.
(سنن الترمذي 5/230 ح/3009- ك التفسير، ب سورة آل عمران) وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي) . وأخرجه ابن مردويه (كما في تفسير ابن كثير 2/130) ، والواحدي في (أسباب النزول ص 108) كلاهما من طريق أبي عمرو بن العلاء عن مجاهد عن ابن عباس نحوه، وفيه متابعة لخصيف ومقسم.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (ما كان لنبي أن يغل) ، قال: أن يخون.
قوله تعالى (أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله) الآية
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر في هذه الآية أن من اتبع رضوان الله ليس كمن باء بسخط منه لأن همزة الإنكار بمعنى النفي ولم يذكر هنا صفة من اتبع رضوان الله ولكن أشار إلى بعضها في موضع آخر وهو قوله (الذين قال لهم الناس إن(1/477)
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم) وأشار إلى بعض صفات من باء بسخط من الله بقوله (ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب خالدون) وبقوله هنا (ومن يغلل يأت بما غل) الآية.
قوله تعالى (هم درجات عند الله)
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (درجات عند الله) قال: هي كقوله (لهم درجات عند ربهم) سورة الأنفال آية: 4.
قوله تعالى (لقد مَنَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)
انظر سورة البقرة آية (129) .
قوله تعالى (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير)
قال البخاري: حدثنا عمرو بن خالد حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق قال سمعت البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: جعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الرماة يوم أحد عبد الله بن جبير فأصابوا منّا سبعين، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة: سبعين أسيراً، وسبعين قتيلاً. قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال.
(صحيح البخاري 7/357 ح/3986 - ك المغازي) .
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم) ذكر في الآية الكريمة أن ما أصاب المسلمين يوم أحد إنما جاءهم من قبل أنفسهم، ولم يبين تفصيل ذلك هنا ولكنه(1/478)
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)
فصله في موضع آخر وهو قوله: (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه، حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم) . وهذا هو الظاهر في معنى الآية، لأن خير ما يبين به القرآن: القرآن.
قال الضياء المقدسي: أخبرنا أبو المجد، زاهر بن أحمد بن حامد الثقفي -بأصبهان- أن سعيد بن أبي الرجاء الصيرفي أخبرهم -قراءة عليه- أنا أحمد بن محمد بن أحمد بن النُّعمان، أنا محمد بن إبراهيم بن علي، ثنا أبو يعلى، أحمد بن علي، ثنا زهير، ثنا أبو نوح، ثنا عكرمة بن عمار العجلي، ثنا سماك أبو زُميل قال: حدثني ابن عباس، قال: حدثني عمر ابن الخطاب، نحو حديث عمر بن يونس في قصة بدر. وزاد أبو نوح في حديثه قال: فلما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذِهم الفِداء، فقُتل منهم سبعون، وفرّ أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكُسرت رباعيته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهُشّمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، وأنزل الله عز وجل: (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا؟ قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير) بأخذكم الفداء.
هذه الزيادة لم يخرجها مسلم، وقد روى من طرق عمر بن ويونس عن عكرمة حديثاً طويلاً في قصة بدر. وأبو نوح اسمه: عبد الرحمن بن غزوان، أخرج له البخاري. (المختارة 1/280-281 ح 170) .
وصححه محقق المختارة، وسنده حسن، ولبعضه شواهد في الصحيح.
قوله تعالى (وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين) أي في غزوة أحد، وانظر آية (172-174) من السورة نفسها.
قوله تعالى (وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله ... )
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، وبسنده الحسن عن السدي: هم عبد الله بن أُبيّ وأصحابه.
قوله تعالى (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون)
انظر سورة البقرة آية (8) .(1/479)
الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)
قوله تعالى (قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين) أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية: (إن كنتم صادقين) بما يقولونه إنه كما يقولون.
قوله تعالى (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يَلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يُضيع أجر المؤمنين)
قال الشيخ الشنقيطى: نهى الله تبارك وتعالى في هذه الآية عن ظن الموت بالشهداء وصرح بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وأنهم فرحون بما آتاهم الله من فصله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ولم يبين هنا هل حياتهم البرزخ يدرك أهل الدنيا حقيقتها أو لا؟ ولكنه بين من سورة البقرة أنهم لا يدركونها بقوله (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون) لأن نفي الشعور يدل على نفس الإدراك من باب أولى كما هو ظاهر) .
قال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة. كلاهما عن أبي معاوية.
ح وحدثنا إسحاق بن إبراهيم. أخبرنا جرير وعيسى بن يونس، جميعا عن الأعمش.
ح وحدثنا محمد بن عبد الله بن نمير (واللفظ له) . حدثنا أسباط وأبو معاوية. قالا: حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مُرّة، عن مسروق. قال: سألنا عبد الله (هو ابن مسعود) عن هذه الآية: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون) قال: أما أنا قد سألنا عن ذلك، فقال: أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت. ثم تأوى إلى تلك القناديل، فاطّلع إليهم ربهم اطّلاعة، فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: (أيّ شيء نشتهي؟ ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات. فلمّا رأوا أنهم لن يتركوا مِن أن يُسألوا، قالوا: يا رب! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تُركوا.
(الصحيح 3/1502-1503 ح 1887 - ك الإمارة، ب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة) .(1/480)
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)
قال مسلم: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن شعبة، عن قتادة، وحميد، عن أنس بن مالك، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرُّها أنها ترجع إلى الدنيا. ولا أن لها الدنيا وما فيها.
إلا الشهيد، فإنه يتمنى أن يرجع فيُقتل في الدنيا، لِما يرى من فضل الشهادة".
(الصحيح 3/1498 ح 1877 - ك الإمارة، ب فضل الشهادة في سبيل الله) .
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا عبد الله بن إدريس، عن محمد ابن إسحاق، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لمّا أُصيب إخوانكم بأُحد جعل الله أرواحهم في جَوفِ طير خُضر تردُ أنهار الجنة: تأكل من ثمارها، وتأوى إلى قناديل من ذهب مُعلّقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا: من يبلغ إخواننا عنا أنّا أحياء في الجنة نُرزَق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عند الحرب؟ فقال الله سبحانه: أنا أبلغهم عنكم، قال فأنزل الله (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله) إلى آخر الآية.
(السنن 3/15 ح 2520 - ك الجهاد، ب في فضل الشهادة) ، وفي إسناده ابن إسحاق ولم يصرح بالسماع ولكنه لا يضر لأنه صرح في رواية أحمد (المسند 1/266) . وأخرجه أحمد في (مسنده رقم 2389) بإسناد أبي داود به، وصححه أحمد شاكر وأخرجه الحاكم في (المستدرك 2/297-298 - ك التفسير، تفسير سورة آل عمران) من طريق مسدد بن قطن عن عثمان بن أبي شيبة به، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في (صحيح سنن أبي داود) .
قال الترمذي: حدثنا يحيى بن حبيب بن عربي، حدثنا موسى بن إبراهيم بن كثير الأنصاري قال: سمعت طلحة بن خراش قال: سمعتُ جابر بن عبد الله يقول: لقيني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقال لي: "يا جابر مالي أراك منكسراً؟ ".
قلتُ: يا رسول الله استُشهد أبي قُتل يوم أُحد، وترك عيالاً ودَيناً، قال: "أفلا أُبشرك بما لقي الله به أباك؟ ". قال: قلتُ: بلى يا رسول الله. قال: "ما كلّم اللهُ أحداً قطّ إلا من وراء حجاب، وأحيا أباك فكلمّه كِفاحاً. فقال: يا عبدي تَمنّ عليّ أُعطك. قال: يا رب تُحييني فأُقتل فيك ثانية. قال الربّ(1/481)
عزّ وجل: إنه قد سبق منى (أنهم إليها لا يُرجعون) قال: وأُنزلت هذه الآية: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً) الآية.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه (سنن الترمذي 5/230-231 ح/3010 - ك التفسير، ب سورة آل عمران) . وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي) . وأخرجه ابن ماجة في (سننه - ك الجهاد، ب فضل الشهادة في سبيل الله ح 2800) وابن حبان في صحيحه (الإحسان 15/490-491 ح7022) والحاكم في (المستدرك 3/203-204 - ك معرفة الصحابة، ب ذكر مناقب اليمان بن جابر ... ) وصحح إسناده ووافقه الذهبي. وأخرجه أبو يعلى، وصححه المحقق (المسند 4/6 ح 2002) .
وانظر حديث ابن عباس في مسند أحمد في تفسير سورة البقرة آية (154) .
قال البخاري: حدثنا إسماعيل بن عبد الله قال: حدثني مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أن بن مالك - رضي الله عنه - قال: دعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الذين قَتَلوا أصحاب بئر معونة ثلاثين غداة، على رِعل وذكوان وعُصيّة عَصَتِ الله ورسوله. قال أنس: أُنزل في الذين قُتلوا بِبئر معونة قرآن قرأناه ثم نُسخ بعد: بلغوا قومنا أن قد لقينا ربّنا فرضي عنّا ورضينا عنه.
(الصحيح 6/37-38 ح 2814 - ك الجهاد والسير، ب فضل قول الله تعالى (الآية)) .
قوله تعالى (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم)
قال البخاري: حدثنا محمد حدثنا أبو معاوية عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتّقَوا أجر عظيم) قالت لِعروة: يا ابن أختي، كان أبواك منهم: الزبير وأبو بكر. لما أصابَ رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أصابَ يومَ أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا، قال: من يذهب في أثرهم فانتدب منهم سبعون رجلاً. قال: كان فيهم أبو بكر والزبير.
(صحيح البخاري 7/432 ح 4077 - ك الغازي، ب (الذين استجابوا..)) .(1/482)
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)
قوله تعالى (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل)
قال البخاري: حدثنا أحمد بن يونس -أراه قال- حدثنا أبو بكر عن أبي
حَصين عن أبي الضحى عن ابن عباس (حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين قالوا: (إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) .
(صحيح البخاري 8/77 ح 4563 - ك التفسير، سورة آل عمران، ب (الدين قال لهم الناس)) .
قوله تعالى (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن السدي قوله (فانقلبوا بنعمة من الله) أما النعمة فهي العافية.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل) قال: والفضل ما أصابوا من التجارة والأجر.
قوله تعالى (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه) يخوف والله المؤمن بالكافر، ويرهب المؤمن بالكافر.
قوله تعالى (ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر)
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر) يعني: أنهم المنافقون.
قوله تعالى (إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئاً ولهم عذاب أليم)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مجاهد قوله: (إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئاً) قال هم المنافقون.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن قتادة قوله: (اشتروا) استحبوا الضلالة على الهدى.(1/483)
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية: (ولهم عذاب أليم) قال: الأليم الموجع في القرآن كله.
قوله تعالى (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملى لهم خير لأنفسهم إنما نملى لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر في هذه الآية الكريمة أنه يملي للكافرين ويمهلهم لزيادة الإثم عليهم وشدة العذاب وبين في موضع آخر: أنه لا يمهلهم متنعمين هذا الإمهال إلا بعد أن يبتليهم بالبأساء والضراء، فإذا لم يتضرعوا أفاض عليهم النعم وأمهلهم حتى يأخذهم بغتة، كقوله (وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون) وقوله (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا -إلى قوله- أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون) وبين في موضع آخر أن ذلك الاستدراج من كيده المتين وهو قوله (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين) .
قال الطبري: حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان عن الأعمش، عن خيثمة عن الأسود قال، قال عبد الله: ما من نفس برة ولا فاجرة إلا والموت خير لها وقرأ: (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما) وقرأ: (نزلاً من عند الله وما عند الله خير للأبرار) .
(ورجاله ثقات وإسناده صحيح وأخرجه الحاكم من طريق الأعمش به. (المستدرك 2/298) .
قوله تعالى (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: يقول للكفار ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه من الكفر حتى يميز الخبيث من الطيب، فيميز أهل السعادة من أهل الشقاوة.(1/484)
مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب) قال: ميز بينهم يوم أحد المنافق من المؤمن.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه) يعني الكفار. يقول: لم يكن الله ليدع المؤمنين على ما أنتم عليه من ضلالة (حتى يميز الخبيث من الطيب) يميز بينهم في الجهاد والهجرة.
قوله تعالى (ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء)
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء) قال: يخلصهم لنفسه.
قوله تعالى (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ... )
قال البخاري: حدثني عبد الله بن منُير سمع أبا النضر حدثنا عبد الرحمن -هو ابن عبد الله بن دينار- عن أبيه عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مُثل له ماله شُجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة يأخذ بِلهْزِمتيه -يعني بشدقيه- يقول: أنا مالك، أنا كنزك. ثم تلا هذه الآية (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله) إلى آخر الآية.
(الصحيح 8/78 ح 4565 - ك التفسير - سورة آل عمران، ب (ولا يحسبن الذين يبخلون)) .
قوله تعالى (والله بما تعملون خبير)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة قوله: (خبير) قال: خبير بخلقه.
قوله تعالى (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن من طريق ابن إسحاق عن ابن عباس قال: دخل أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - بيت المدراس، فوجد من يهود ناسا كثيراً قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص، كان من علمائهم(1/485)
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
وأحبارهم ومعه حبر يقال له أشيع. فقال أبو بكر - رضي الله عنه - لفنحاص: ويحك يا فنحاص: اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمداً رسول الله قد جاءكم بالحق من عند الله، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل قال فنحاص: والله يا أبا بكر، ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، ولو كان عنا غنيا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم ينهاكم عن الربا ويعطيناه ولو كان عنا غنيا ما أعطانا الربا فغضب أبو بكر فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة، وقال: والذي نفسي بيده، لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربت عنقك يا عدو الله فأكذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين. فذهب فنحاص إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا محمد، انظر ما صنع بي صاحبك فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي بكر: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: يا رسول الله، إن عدو الله قال قولاً عظيماً، زعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء فلما قال ذلك غضبت لله مما قال، فضربت وجهه. فجحد ذلك فنحاص وقال: ما قلت ذلك فأنزل الله تبارك تعالى فيما قال فنحاص، رداً عليه وتصديقاً لأبي بكر: (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق) وفي قول أبي بكر وما بلغه في ذلك من الغضب: (ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور) . سورة آل عمران (186) .
قوله تعالى (فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مجاهد في قوله: (فإن كذبوك) قال: اليهود.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة قوله: (فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك) قال: يعزي نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(1/486)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
قوله تعالى (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور)
قال ابن كثير: يخبر تعالى إخبارا عاما يعم جميع الخليقة بأن كل نفس ذائقة الموت كقوله تعالى: (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام)
قال الترمذي: حدثنا عبد بن حميد. حدثنا يزيد بن هارون وسعيد بن عامر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن موضع سوط في الجنة لخير من الدنيا وما فيها، اقرءوا إن شئتم: (فمن زحزح عن النار وأُدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور".
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
(سنن الترمذي 5/232-233 ح/3013 - ك التفسير، ب سورة آل عمران) وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي) ، وأخرجه الحاكم (المستدرك 2/299 - ك التفسير، سورة آل عمران) .
وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وعزاه الهيثمي إلى الطبراني في (الأوسط) وقال: ورجاله رجال الصحيح. (مجمع الزوائد 10/415) وعنده: خير مما بين السماء والأرض.
وأخرجه البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد بلفظه ولكن بدون ذكر الآية (الصحيح - ك بدء الخلق، ب ما جاء في صفة الجنة ح 3250) .
وانظر حديث مسلم عن عبد الله بن عمرو الآتي عند الآية (29) من سورة النساء.
قوله تعالى (لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعنّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر في هذه الآية الكريمة أن المؤمنين سيبتلون في أموالهم وأنفسهم، وسيسمعون الأذى الكثير من أهل الكتاب والمشركين، وأنهم إن صبروا على ذلك البلاء والأذى واتقوا الله، فإن صبرهم وتقاهم من عزم الأمور، أي: من الأمور التي ينبغي العزم والتصميم عيها لوجوبها. وقد بين في(1/487)
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
موضع آخر أن من جملة هذا البلاء: الخوف والجوع وأن البلاء في الأنفس والأموال هو النقص فيها، وأوضح فيه نتيجة الصبر المشار إليها هنا بقوله (فإن ذلك من عزم الأمور) وذلك الموضع هو قوله تعالى: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين. الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) .
قال البخاري: حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني عروة ابن الزبير أن أسامة بن زيد رضي الله عنها أخبره: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركب على حمار على قطيفة فَدَ كية، وأردف أسامة بن زيد وراءه، يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر، قال: حتى مرّ بمجلس فيه عبد الله بن أبيّ ابن سلول، وذلك قبل أن يُسلم عبد الله بن أبي، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود والمسلمين، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشَيتِ المجلس عجاجة الدابة حمّر عبد الله بن أبيّ أنفه بردائه ثم قال: "لا تُغبِّروا علينا فسلّم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهم ثم وقف فنزل، فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله بن أبيّ ابن سلول: أيها المرء، إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقاً فلا تؤذينا به في مجلسنا، ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه. فقال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله، فاغشنا به في مجالسنا، فإنا نحب ذلك. فاتسبِّ المسلمون والمشركون واليهودُ حتى كادوا يتشاورون، فلم ينزل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُخفضهم حتى سكنوا. ثم ركب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا سعد أسلم تسمع ما قال أبو حُباب -يريد عبد الله بن أبي- قال كذا وكذا. قال سعد بن عُبادة: يا رسول الله أعف عنه واصفح عنه، فوالذي أنزل عليك الكتاب، لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك ولقد اصطلح أهل هذه البُحيرة على أن يتوّجوه(1/488)
فيعصبونه بالعصابة، فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرِق بذلك، فذلك فعل به ما رأيت. فعفا عنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله، ويصطبرون على الأذى، قال الله عز وجل: (ولتسمعن من الذين أُوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً) الآية. وقال الله: (ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم) إلى آخر الآية. وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتأوّل العفو ما أمره الله به، حتى أذن الله فيهم، فلما غزا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدراً فقتل الله به صناديد كفّار قريش قال ابن أبيّ ابنُ سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد توجّه، فبايعوا الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الإسلام، فأسلموا".
(الصحيح 8/78-79 ح 4566 - ك التفسير - سورة آل عمران، قوله تعالى: (ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب) . توجه: أقبل (القاموس مادة: وج هـ) .
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، ثنا عبد الرحمن بن صالح ومحمد بن عبد الله بن نمير قالا: ثنا يوسف يعنيان ابن بكير، ثنا ابن إسحاق، فحدثني محمد ابن أبي محمد. عن عكرمة أنه حدثه، عن ابن عباس قال: نزل في أبي بكر وما بلغه في ذلك من الغضب: (ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً)
وحسنه الحافظ ابن حجر (فتح الباري 8/231) .
قوله تعالى (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا بها ثمنا قليلا فبئس ما يشترون لا تحسبن الذين يفرحون بما أَتوا ويحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن من طريق ابن إسحاق عن ابن عباس قال: قوله تعالى (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) إلى قوله: (عذاب أليم) يعني: فنحاص وأشيع وأشباههما من الأحبار.(1/489)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)
قال مسلم: حدثنا زهير بن حرب وهارون بن عبد الله (واللفظ لزهير) قالا: حدثنا حجّاج بن محمد عن ابن جريج. أخبرني ابن أبي مليكة؛ أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره، أن مروان قال: اذهب. يا رافع! (لبوّابه) إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ منّا فرح بما أَتَى، وأحبّ أن يُحمد بما لم يفعل، معذّباً لنُعذّبن أجمعون، قال ابن عباس: ما لكم ولهذه الآية؟ إنما أنزلت هذه الآية في أهل الكتاب. ثم تلا ابن عباس: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) هذه الآية. وتلا ابن عباس: (لا تحسبن الذين يفرحون بما أَتَوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا) . وقال ابن عباس: سألهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن شيء، فكتموه إيّاه. وأخبروه بغيره. فخرجوا قد أَروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه. واستحمدوا بذلك إليه. وفرحوا بما أَتَوا، من كِتمانهم إياه، ما سألهم عنه.
(الصحيح 4/2143 ح 2778 - ك صفات المنافقين وأحكامهم) . وأخرج البخاري (الصحيح - التفسير - ب و (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا) ح 4568) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم) الآية، هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم، فمن علم شيئاً فليعلمه، وإياكم وكتمان العلم، فإن كتمان العلم هلكة، ولا يتكلفن رجل ما لا علم له به، فيخرج من دين الله فيكون من المتكلفين، كان يقال: "مثل علم لا يقال به، كمثل كنز لا ينفق منه! ومثل حكمة لا تخرج، كمثل صنم قائم لا يأكل ولا يشرب (وكان يقال) طوبى لعالم ناطق، وطوبى لمستمع واع". هذا رجل علم علماً فعلمه وبذله ودعا إليه، ورجل سمع خيراً فحفظه ووعاه وانتفع به.(1/490)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، ثنا إدريس أبو أسامة، والسياق لابن إدريس، عن يحيى بن أيوب الهجلي، عن الشعبي في قوله: (فنبذوه وراء ظهورهم) قال: قد كانوا يقرأونه ولكنهم نبذوا العمل به.
ورجاله ثقات إلا يحيى لا بأس به فالإسناد حسن.
وانظر حديث: "من سئل عن علم فكتمه أُلجم بلجام من نار". في تفسير سورة البقرة آية (159) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (فبئس ما يشترون) قال: تبديل اليهود التوراة.
قال البخاري: حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا محمد بن جعفر قال حدثني زيد ابن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن رجالاً من المنافقين على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خرج رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الغزو تخلَّفوا عنه وفرِحوا بمقعدهم خلاف رسول الله، فإذا قدم رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبُّوا أن يحمدوا بما لم يَفعلوا، فنزلت (لا تحسبن الذين يفرَحون) الآية.
(صحيح البخاري 8/81 ح 4567 - ك التفسير - سورة آل عمران، ب (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا)) و (صحيح مسلم 4/2142 - ك صفات المنافقين وأحكامهم) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله تعالى (لا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا) قال: يهود، فرحوا بإعجاب الناس بتبديلهم الكتاب وحمدهم إياهم عليه، ولا تملك يهود ذلك.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن من طريق ابن إسحاق عن ابن عباس قال: قوله (ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا) أن يقول الناس لهم علماء وليسوا بأهل علم لم يحملوهم على خير ولا هدى ويحبون أن يقول الناس قد فعلوا.(1/491)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
قوله تعالى (ولله ملك السموات والأرض والله على كل شيء قدير)
انظر سورة البقرة آية (117) .
قوله تعالى (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب. الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار)
قال ابن حبان: أخبرنا عمران بن موسى بن مجاشع، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن زكريا، عن إبراهيم بن سويد النخعي، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة، قالت لعبيد بن عمير: قد آن لك أن تزورنا، فقال: أقول يا أمه كما قال الأول: زر غباً تزدد حباً.
قال: فقالت: دعونا من رطانتكم هذه. قال ابن عمير: أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: فسكتت ثم قالت. لما كان ليلة من الليالي قال: "يا عائشة ذريني أتعبد الليلة لربي". قالت: والله إني لأحب قربك، وأحب ما سرّك. قالت: فقام فتطهر، ثم قام يصلي. قالت: فلم يزل يبكي حتى بلَّ حجره، قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بلَّ لحيته، قالت: ثم بكى فلم يزل يبكى حتى بلَّ الأرض فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكى، قال: "يا رسول الله لم تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟ قال: "أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد نزلت عليَّ الليلة آية، ويل لمن قرأها ويتفكر فيها (إن في خلق السموات والأرض) الآية كلها.
(الإحسان 2/329 ح 620 - طبعة الأرناؤوط) ، وأخرجه أبو الشيخ في كتاب (أخلاق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ص160) من طريق عثمان بن أبي شيبة به. وهذا الإسناد رجاله ثقات أئمة، وعبد الملك بن أبي سليمان، وإن تكلم فيه البعض، فإن ثناء الأئمة عليه ووصفه بالحفظ والإتقان مستفيض مشهور (النظر: تهذيب الكمال 18/322-328) . فيكون الحديث من هذا الطريق حسناً إن شاء الله. ومع ذلك فللحديث طريق آخر: أخرجه ابن مردويه، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا -كما في تفسير ابن كثير (1/440) - من طرق، عن أبي جناب الكلبي، عن عطاء به نحوه. -وأخرجه الأصبهاني في (الترغيب والترهيب 1/286 ح 639) من طريق ابن مردويه- وأبو جناب وإن كان مدلساً، إلا أن أبا الشيخ أخرجه من طريقه مصرحاً فيه بالسماع (أخلاق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ص160) فنزول الخشية من تدليسه، وبذلك يكون هذا الطريق متابعة قوية لطريق ابن حبان المتقدم، ويتأكد بذلك حسن الحديث كما قدمنا. وقد قوى إسناده الأرناؤوط في حاشية (الإحسان) ، وحكم بحسنه الشيخ محمد رزق في (موسوعة فضائل القرآن 1/219 ح 90) .(1/492)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
قال مسلم: حدثنا عبد بن حميد، حدثنا أبو نعيم، حدثنا إسماعيل بن مسلم، حدثنا أبو المتوكل؛ أن ابن عباس حدثه، أنه بات عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة. فقام نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من آخر الليل. فخرج فنظر في السماء. ثم تلا هذه الآية في آل عمران (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار) حتى بلغ (فقنا عذاب النار) ثم رجع إلى البيت فتسوّك وتوضأ. ثم قام فصلى. ثم اضطجع. ثم قام فخرج نظر إلى السماء فتلا هذه الآية. ثم رجع فتسوك فتوضأ. ثم قام فصلى.
(الصحيح 1/221 ح 256- ك الطهارة، ب السواك) .
قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله حدثنا معن بن عيسى عن مالك عن مخرمة بن سليمان عن كريب مولى عبد الله بن عباس أن عبد الله ابن عباس أخبره أنه بات عند ميمونة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وهي خالته- قال: فاضطجعتُ في عرض الوِسادة: واضطجع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأهله في طولها، فنام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل، ثم استيقظ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجعل يمسح النومَ من وجهه بيديه، ثم قرأ العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران، ثم قام إلى شَنّ معلقة فتوضأ منها فأحسن وُضوءه ثم قام يصلى. فصنعتُ مثل ما صنَع، ثم ذهبت فقمت إلى جنبه، فوضع رسول الله يده اليمنى على رأسي، وأخذ بأذني اليمنى يفتلها، فصلى ركعتين ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن, فقام فصلى ركعتين خفيفتين، ثم خرج فصلى الصبح.
(الصحيح 8/84-85 ح 4571- ك التفسير- سورة آل عمران، ب (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته)) .
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة قوله: (الذين يذكرون الله قياماً وقعودا وعلى جنوبهم) وهذه حالات كلها يا ابن آدم، اذكر الله وأنت(1/493)
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
قائم فإن لم تستطع فاذكره وأنتَ قاعد، فإن لم تستطع فاذكره وأنت على جانبك يسر من الله وتخفيف.
قوله تعالى (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار بن الحارث، ثنا مؤمل، ثنا حماد بن سلمة عن قتادة، عن أنس في قوله: (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته) قال: من تدخل في النار فقد أخزيته.
ورجاله ثقات سوى مؤمل صدوق فالإسناد حسن.
قوله تعالى (ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان) إلى قوله (وتوفنا مع الأبرار) سمعوا دعوة من الله فأجابوها فأحسنوا الإجابة فيها، وصبروا عليها. ينبئكم الله عن مؤمن الإنس كيف قال، وعن مؤمن الجن كيف قال. فأما مؤمن الجن فقال: (إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا) وأما مؤمن الإنس فقال (إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا) الآية.
قوله تعالى (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ... )
قال عبد الرزاق: أنبأنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت رجلاً من ولد أم سلمة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: قالت أم سلمة: يا رسول الله، لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء؟ فأنزل الله تعالى (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى) .
(التفسير 1/144 ح 498) . وأخرجه الترمذي في جامعه (5/237 ح 3023- ك التفسير، ب ومن سورة النساء) ، والشافعي من سنن حرملة -كما في (المعرفة) للبيهقي (3/120 ح 17644) ،(1/494)
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
والحاكم في (المستدرك 2/300- تسمية ولد أم سلمة بـ (سلمة بن أبي سلمة) . وهذا الحديث إسناده صحيح، ووافقه الذهبي. ورجاله أئمة ثقات. وقد وقع تصريح ابن عيينة بالإخبار في روايه الشافعي، فزالت الخشية من احتمال تدليسه، هذا مع احتمال الأئمة لتدليسه؛ حيث كان لا يدلس إلا عن ثقة.
(انظر طبقات المدلسين ص 23) .
قوله تعالى (فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب)
قال الطبري حدثنا عبد الرحمن بن وهب قال، حدثنا عمى عبد الله بن وهب قال، حدثني عمرو بن الحارث: أن أبا عشانة المعافري حدثه: أنه سمع عبد الله ابن عمرو بن العاص يقول: لقد سمعت رسول الله يقول: إن أول ثلة تدخل الجنة لفقراء المهاجرين الذين تتقى بهم المكاره، إذا أمروا سمعوا وأطاعوا وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى السلطان، لم تقض حتى يموت وهي في صدره، وإن الله يدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفها وزينتها فيقول: "أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وقتلوا، وأوذوا في سبيلي، وجاهدوا في سبيلي؟ ادخلوا الجنة"، فيدخلونها بغير عذاب ولا حساب، وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون: "ربنا نحن نسبح لك الليل والنهار، ونقدس لك، من هؤلاء الذين آثرتهم علينا".
فيقول الرب جل ثناؤه: "هؤلاء عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وأوذوا في سبيلي". فتدخل الملائكة عليهم من كل باب: (سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) سورة الرعد: 24.
(أخرجه الإمام أحمد في (المسند 6570) والحاكم في (المستدرك 2/71-72) كلاهما من طريق عبد الله بن وهب به. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وذكره الهيثمي في (مجمع الزوائد 10/259) ونسبه للطبراني أيضا وقال ورجال الطبراني رجال الصحيح غير أبي عشانه وهو ثقة) .(1/495)
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)
قوله تعالى (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد. متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد)
قال ابن كثير: يقول تعالى لا تنظر إلى ما هؤلاء الكفار مترفون فيه من النعمة والغبطة والسرور، فعما قليل يزول هذا كله عنهم ويصبحون مرتهنين بأعمالهم السيئة. فإنما نمد لهم فيما هم فيه استدراجا وجميع ما هم فيه (متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد) وهذه الآية كقوله تعالى: (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد) وقال تعالى (إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون. متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون) وقال تعالى (نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ) وقال تعالى (فمهل الكافرين أمهلهم رويدا) أي: قليلا، وقال تعالى (أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد) والله ما غروا نبي الله، ولا وكل إليهم شيئا من أمر الله حتى قبضه الله على ذلك.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن السدي قوله: (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد) يقول: ضربهم في البلاد.
قوله تعالى (وما عند الله خير للأبرار)
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا ما عنده للأبرار ولكنه بين في موضع آخر: أنه النعيم، وهو قوله (إن الأبرار لفي نعيم) وبين في موضع آخر: أن من جملة ذلك النعيم: الشرب من كأس ممزوجة بالكافور وهو قوله (إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا) .(1/496)
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن خيثمة، عن الأسود قال: قال عبد الله: ما من نفس برة ولا فاجرة إلا الموت خير لها، لئن كان برا لقد قال الله: (وما عند الله خير الأبرار) .
(ورجاله ثقات، وأخرجه الحاكم من طريق الأعمش به وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 2/298) .
قوله تعالى (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب)
قال ابن كثير: يخبر تعالى عن طائفة من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالله حق الإيمان، ويؤمنون بما أنزل على محمد مع ما هم مؤمنون به من الكتب المتقدمة أنهم خاشعون لله أي مطيعون له خاضعون متذللون بين يديه لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أي لا يكتمون ما بأيديهم من البشارة بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكر صفته ومبعثه وصفة أمته، وهؤلاء هم خيرة أهل الكتاب وصفوتهم سواء كانوا يهودا أو نصارى. وقد قال تعالى في سورة القصص (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا) الآية. وقد قال تعالى (الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به) الآية. وقد قال تعالى (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) وقال تعالى (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون) وقال تعالى (قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا) وهذه الصفات توجد في اليهود ولكن قليلا كما وجد في عبد الله بن سلام وأمثاله ممن آمن من أحبار(1/497)
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)
اليهود ولم يبلغوا عشرة أنفس، وأما النصارى منهم يهتدون وينقادون للحق كما قال تعالى (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى) إلى قوله تعالى: (فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) الآية.
قال البخاري: حدثنا أبو الربيع، حدثنا ابن عيينة، عن ابن جريج، عن عطاء عن جابر - رضي الله عنه - قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين مات النجاشي: "مات اليوم رجل صالح، فقوموا فصلوا على أخيكم أصحَمة".
(الصحيح 7/230 ح 3877- ك مناقب الأنصار- ب موت النجاشي) .
قال الضياء: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن مكي بن أبي الرجاء -بأصبهان- أن مسعود بن الحسن الثّقفي أخبرهم، أنا أحمد بن عبد الرحمن الذكواني، أنا أبو بكر أحمد بن موسى الحافظ، نا محمد بن عبد الله بن إبراهيم (ح) . وأخبرنا أبو طاهر معاوية بن علي بن معاوية الصّوفي- إجازة- أنا الحسن بن أحمد الحداد، أنا أبو نعيم، أنا أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، قالا: نا إبراهيم بن أحمد بن عمر، نا أبي، ثنا مؤمل بن إسماعيل، ثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البُناني، عن أنس بن مالك، قال: لمّا مات النجاشي، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "استغفروا لأخيكم".
فقال بعضُ الناس: تأمرنا أن نستغفر له وقد مات بأرض الحبشة؟ فنزلت: (إن من أهل الكتاب لمَن يؤمن بالله وما أنزل إليكم) .
اللفظ للطبراني والآخر بمعناه قال الطبراني: لم يروه عن حماد إلا مؤمل. (وقد رواه حميد عن أنس ا. هـ. (المختارة 5/40-41 ح 1648، 1649) ولفظه: "قوموا صلوا على أخيكم النجاشي".
(المختارة 6/61 ح 2037) ورواية الطبراني في (الأوسط 3/323 ح 2688) قال الهيثمي: رواه البزار والطبراني ورجال الطبراني ثقات. (مجمع الزوائد 3/38) .
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مجاهد قوله: (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله) : من اليهود والنصارى وهم مسلمة أهل الكتاب.(1/498)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون)
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن منير سمع أبا النضر، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يرُوحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها".
(الصحيح 6/100 ح 2892- ك الجهاد والسير، ب فضل رباط يوم سبيل الله..) .
قال مسلم: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن بهرام الدارمي، حدثنا أبو الوليد الطيالسي، حدثنا ليث (يعني ابن سعد) عن أيوب بن موسى، عن مكحول، عن شرحبيل بن السمط، عن سلمان. قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه: إن مات، جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأُجرى عليه رزقه، وأمن الفتّان".
(الصحيح 3/1520 ح 1913- ك الإمارة، ب فضل الرباط في سبيل الله عز وجل) .
قال مسلم: حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر. جميعاً عن إسماعيل بن جعفر. قال ابن أيوب. حدثنا إسماعيل. أخبرني العلاء عن أبيه، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات"؟ قالوا: بلى. يا رسول الله! قال: "إسباغ الوُضوء على المكاره. وكثرة الخطا إلى المساجد. وانتظار الصلاة بعد الصلاة. فذلكم الرباط".
(الصحيح 1/219 ح 251- ك الطهارة، ب فضل إسباغ الوضوء على المكاره) .
قال أبو داود: حدثنا سعيد بن منصور، ثنا عبد الله بن وهب، حدثني أبو هانيء، عن عمرو بن مالك، عن فضالة بن عبيد، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "كل الميت يختم على عمله، إلا المرابط، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة، ويؤمن من فتان القبر".(1/499)
(السنن 3/9 ح 2500- ك الجهاد، ب في فضل الرباط) ، وأخرجه الحاكم (المستدرك 2/79- ك الجهاد) . من طريق أحمد بن نجدة القرشي، عن سعيد بن منصور به. قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وأخرجه الترمذي (السنن 4/165 ح 1621) . (فضائل الجهاد، ب ما جاء في فضل من مات مرابطاً) . وأحمد في المسند (6/20) ، وابن حبان في صحيحه (الإحسان 10/484 ح 4624) ، والحاكم في المستدرك (2/144) من طرق عن حيوة بن شريح عن أبي هانئ به. قال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال الألباني: صحيح (صحيح سنن الترمذي ح 1322) .
قال الحاكم: حدثنا أبو محمد أحمد بن عبد الله المزني، ثنا أحمد بن نجدة القرشي، ثنا سعيد بن منصور، ثنا ابن المبارك، أنبا مصعب بن ثابت، حدثني داود بن صالح قال: قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: يا ابن أخي هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية (اصبروا وصابروا ورابطوا) قال: قلت، لا. قال: يا ابن أخي إني سمعت أبا هريرة يقول: لم يكن في زمان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غزو يرابط فيه ولكن انتظار الصلاة بعد الصلاة.
(المستدرك 2/301- ك التفسير، تفسير سورة آل عمران وصححه ووافقه الذهبي) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا) أي: اصبروا على طاعة الله، وصابروا أهل الضلالة ورابطوا في سبيل الله (واتقوا الله لعلكم تفلحون) .
قال البخاري: وزادنا عمرو قال: أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة: إن أعطى رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش. طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع".
(الصحيح 6/81 الفتح ح 2887- ك الجهاد والسير، ب الحراسة في الغزو في سبيل الله) . وهكذا وقعت هذه الرواية عند البخاري من شيخه عمرو، وهو ابن مرزوق. قال ابن حجر: وقد صرح بسماعه منه في مواضع أخرى. (الفتح 6/82) ، وإنما عطف البخاري على رواية سابقة فيها ذكر ما يتعلق بالحراسة والجهاد.(1/500)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
سورة النساء
فضلها: انظر حديث: "من أخذ السبع الأول من القرآن فهو خير".
تقدم في فضل سورة البقرة.
قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
انظر تفسير التقوى في الآية (102) من سورة آل عمران.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن السدي: قوله (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) أما خلقكم من نفس واحدة، فمن آدم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مقاتل بن حيان (وَبَثَّ مِنْهُمَا) من أدم وحواء، يقول خلق منهما رجالا كثيرا ونساء.
قال الحاكم: أخبرني أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الحميد الصنعانى. بمكة، ثنا إسحاق بن إبراهيم بن عباد، أنبا عبد الرزاق، أنبا معمر عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ) . قال: إن الرحم لتقطع وإن النعمة لتكفر وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شيء أبداً ثم قرأ (لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جميعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) قال: وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الرحم شجنة من الرحمن وإنها تجيئ يوم القيامة تتكلم بلسان طلق ذلق فمن أشارت إليه بوصل وصله الله ومن أشارت إليه بقطع قطعه الله".
هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة. (المستدرك 2/301-302- ك التفسير، سورة النساء ووافقه الذهبي) . وأخرج البخاري الجزء المرفوع من الحديث (الصحيح- الأدب، ب من وصل وصله الله ح 5988-5989) من حديث عائشة وأبى هريرة بنحوه) .(2/3)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (اتقوا الله الذي تساءلون به) ، واتقوا الله في الأرحام فصلوها.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان ح وثنا الأشج، ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (اتقوا الله الذي تساءلون به) قال: يقول أسألك بالله وبالرحم.
ورجاله ثقات وإسناده صحيح.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مجاهد قوله (إن الله كان عليكم رقيباً) قال: حفيظاً.
قوله تعالى (وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وأتوا اليتامى أموالهم) الآية أمر الله تعالى في هذه الآية الكريمة بإيتاء اليتامى أموالهم، ولم يشترط هنا في ذلك شرطا، ولكنه بين بعد هذا أن هذا الإيتاء المأمور به مشروط بشرطين: الأول: بلوغ اليتامى، الثاني: إيناس الرشد منهم، وذلك قوله تعالى: (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح، فإن أنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله تعالى (ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب) قال: الحلال بالحرام.
قوله تعالى (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا) ذكر في هذه الآية الكريمة أن أكل أموال اليتامى حوب كبير، أي: إثم عظيم، ولم يبين مبلغ هذا الحوب من العظم، ولكنه بينه في موضع أخر وهو قوله (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً) .
قال الطبري: حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) ، يقول: لا تأكلوا أموالكم وأموالهم تخلطوها فتأكلوها جميعاً.
ورجاله ثقات وإسناده صحيح.(2/4)
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (إنه كان حوبا كبيرا) قال: إثما عظيما.
(وصححه الحافظ ابن حجر من طريق عكرمة عن ابن عباس (فتح الباري 8/246)) .
قوله تعالى (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا)
قال البخاري: حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا هشام عن ابن جريج قال أخبرني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أَنَّ رجلاً كانت له يتيمة فنكحها، وكان لها عَذْق وكان يُمسكها عليه ولم يكن لها من نفسه شيء، فنزلت فيه (وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى) أحسبه قال: كانت شريكته في ذلك العَذْق وفي ماله.
(الصحيح 8/86-87 ح 4573- ك التفسير- سورة النساء، ب (وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى) . العذق: النخلة، وبالكسر عِذْق: العرجون بما فيه من الشماريخ، ويجمع على عِذَاق.
(النهاية لابن الأثير 3/199) .
وقال البخاري: حدثني عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن قول الله تعالى: (وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى) ؟ فقالت: يا ابن أختي، هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله ويُعجبه مالها وجَمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يُقسط في صداقها فيُعطيها مثل ما يُعطيها غيره، فنهوا عن أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا لهنّ أعلى سنتهن في الصداق، فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن. قال عروة قالت عائشة: وإن الناس استفتَوا رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعدَ هذه الآية، فأنزل الله (ويستفتونك في النساء) قالت عائشة: وقول الله تعالى في آية أخرى (وترغبون أن تنكحوهن) رغبة أحدِكم عن يتيمته حين تكون قليلةَ المال والجمال، قالت: فنهوا عن أن ينكحوا(2/5)
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)
من رغبوا في ماله وجماله في يتامى النساء إلا بالقسط، من أجل رغبتهم عنهنّ إذا كن قليلات المال والجمال.
(الصحيح 8/87 ح 4574- ك التفسير- سورة النساء، ب (وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى) (وصحيح مسلم 4/2314- ك التفسير) .
أخرج الطبري وبن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كانوا في الجاهلية ينكحون عشرا من النساء الأيامى، وكانوا يعظمون شأن اليتيم، فتفقدوا من دينهم شأن اليتيم وتركوا ما كانوا ينكحون في الجاهلية، فقال (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) ونهاهم عما كانوا ينكحون في الجاهلية.
قال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن مهدي، ثنا النفيلي، ثنا عبيد الله بن عمرو الرقى عن عبد الكريم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في هذه الآية: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) قال: فكما خفتم أن لا تعدلوا في اليتامى فخافوا أن لا تعدلوا في النساء، إنما جمعتموهن عندكم.
قال ابن ماجة: حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي. ثنا هُشيم عن ابن أبي ليلى، عن حُميضة بنت الشمردل، عن قيس بن الحارث " قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة. فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت ذلك له. فقال: اختر منهن أربعاً.
وقال ابن ماجة: حدثنا يحيى بن حكيم. ثنا محمد بن جعفر. ثنا معمر عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، قال: أسلم غيلان بن سلمة وتحته عشر نسوة. فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خذ منهن أربعاً ".
(السنن ح 1952، 1953- النكاح- باب الرجل يسلم وعنده أكثر من أربع نسوة) ، حديث قيس بن الحارث: أخرجه أبو داود من طريق هشيم به. (السنن 2/272- الطلاق) ، وقال ابن كثير: وهذا الإسناد حسن. (التفسير 2/184) وقال الألباني: حسن. (الإرواء6/295) . وحديث ابن عمر: أخرجه أحمد والترمذي وابن حبان والحاكم من طرق عن معمر به. (المسند 2/14، 44) ، (السنن- النكاح 4/278) ، (موارد الظمآن 1377) ، (المستدرك 2/192) .
وقد أعله جماعة ووهموا فيه معمر بن راشد ولكن قد تابعه غيره على روايته، فقال ابن كثير: وهذا الإسناد الذي قدمناه من مسند الإمام أحمد رجاله ثقات على شرط الصحيحين. ثم قد روي من غير طريق(2/6)
معمر، ثم ذكره بإسناد النسائي إلى مرار بن مجشر عن أيوب عن نافع وسالم عن ابن عمر بنحوه وقال: قال أبو علي بن السكن تفرد به مرار بن مجشر وهو ثقة وكذا وثقه ابن معين قال أبو علي وكذلك رواه السميدع بن واهب عن مرار وقال الحافظ ابن حجر: ورجال إسناده ثقات (التلخيص الحبير 3/169) وقال الألبانى: صحيح. (انظر التفسير 2/182، 183 والإرواء6/291- 295) .
قوله تعالى (أدنى ألا تعولوا)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: يعني ألا تميلوا.
قوله تعالى (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة..)
قال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس: أن عبد الرحمن بن عوف تزوج امرأة على وزن نواةٍ، فرأى النبيُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشاشة العُرس، فسأله، فقال. إني تزوجت امرأة على وزن نواة".
وعن قتادة عن أنس أن عبد الرحمن بن عوف تزوج امرأة على وزن نواة من ذهب.
(الصحيح 9/111 ح 5148- ك النكاح، ب قوله تعالى: (الآية)) .
قال مسلم: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير. حدثنا أبي. حدثنا عبد العزيز بن عمر. حدثني الربيع بن سبرة الجهني، أن أباه حدثه، أنه كان مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " يا أيها الناس! إني قد كنتُ أذنت لكم في الاستمتاع من النساء.
وإن الله قد حرّم ذلك إلى يوم القيامة. فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله.
ولا تأخذوا مما أتيتموهن شيئاً".
(الصحيح 2/1025 ح 1406- ك النكاح، ب نكاح المتعة وبيان انه أبيح ثم نسخ ... واستقر تحريمه إلى يوم القيامة) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: يعني بـ "النحلة" المهر.(2/7)
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4) وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
قوله تعالى (فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئًا مريئا)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: إذا كان من غير إضرار ولا خديعة، فهو هنيء مرىء كما قال الله جل ثناؤه.
قوله تعالى (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: امرأتك وبنيك، وقال: (السفهاء) الولدان، والنساء أسفه السفهاء.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) يقول الله سبحانه: لا تعمد إلى مالك وما خولك الله وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك أو بنيك ثم تنظر إلى ما في أيديهم، ولكن أمسك مالك وأصلحه، وكن أنت الذي تنفق عليهم في كسوتهم ورزقهم ومؤونتهم. قال وقوله (قياما) . بمعنى: قوامكم في معايشكم.
قوله تعالى (وقولوا لهم قولا معروفا)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (وقولوا لهم قولا معروفا) قال: أمروا أن يقولوا لهم قولا معروفا في البر والصلة.
قوله تعالى (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: يقول الله تبارك وتعالى اختبروا اليتامى عند الحلم، فإن عرفتم منهم الرشد في حالهم والإصلاح في أموالهم فادفعوا إليهم أموالهم وأشهدوا عليهم.(2/8)
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (فإن أنستم منهم رشدا) يقول: صلاحا في عقله ودينه.
قوله تعالى (ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قوله (إسرافا وبدارا) يعني: أكل مال اليتيم مبادرا أن يبلغ، فيحول بينه وبين ماله.
قوله تعالى (ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف)
قال البخاري: حدثني إسحاق أخبرنا عبد الله بن نمير حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: (ومن كان غنياً فليستعفف، ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف) أنها نزلت في مال اليتيم إذا كان فقيراً أنه يأكل منه مكان قيامه عليه بمعروف.
(الصحيح 8/89 ح 4575- ك التفسير- سورة النساء، ب (الآية) ، (صحيح مسلم 4/2315- ك التفسير) .
قال أبو داود: حدثنا حميد بن مسعدة، أن خالد بن الحارث حدثهم، ثنا حسين -يعني المعلم- عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إني فقير ليس لي شيء، ولي يتيم، قال: فقال: "كلْ مِن مال يتيمك غير مسرف، ولا مبادر، ولا متأثل".
(السنن 3/115 ح 2872- ك الوصايا، ب ما جاء في ما لولى اليتيم أن ينال من مال اليتيم) .
وأخرجه النسائي (السنن 6/256- ك الوصايا، ب ما للوصي من مال اليتيم إذا قام عليه) . وأحمد (6747) و (7022) . قال ابن حجر: إسناده قوي. (فتح الباري 8/90) وقال محقق المسند: إسناده صحيح. وقال الألبانى: حسن صحيح. (صحيح النسائى 3429) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) يعني: القرض.(2/9)
قوله تعالى (وكفى بالله حسيباً)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (وكفى بالله حسيباً) يقول: شهيداً.
قوله تعالى (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أوكثر نصيبا مفروضا)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا) ، لم يبين هنا قدر هذا النصيب الذي هو للرجال والنساء مما ترك الوالدان والأقربون، ولكنه بينه في آيات المواريث كقوله (يوصيكم الله في أولادكم) الآيتين، وقوله في خاتمة هذه السورة الكريمة (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة) الآية.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قال: كانوا لا يورثون النساء، فنزلت: (وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون) .
قوله تعالى (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا)
قال البخاري: حدثنا أحمد بن حميد أخبرنا عبيد الله الأشجعى عن سفيان عن الشيباني عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين) قال: هي مُحكمة. وليست. بمنسوخة.
تابعه سعيد بن جبير عن ابن عباس (الصحيح 8/90 ح 4576- ك التفسير- سورة النساء الآية) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه) أمر الله جل ثناؤه المؤمنين عند قسمة مواريثهم أن يصلوا أرحامهم وأيتامهم(2/10)
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)
ومساكينهم من الوصية، إن كان أوصى لهم، وإن لم تكن لهم وصية، وصل إليهم من مواريثهم.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن أبي الربيع، أنبا عبد الرزاق، أنبا ابن جريح أخبرنى ابن أبي مليكة أن أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر والقاسم بن محمد أخبراه أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر قسم ميراث أبيه عبد الرحمن، وعائشة حية، قالا: فلم يدع في الدار مسكينا ولا ذا قرابة إلا أعطاه من ميراث أبيه قال: وتلا (وإذا حضر القسمة أولوا القربى) قال: القسم، فذكرت ذلك لابن عباس، فقال: ما أصاب ذلك له، إنما ذلك إلى الوصية وإنما هذه الآية في الوصية، يريد الميت أن يوصي لهم.
(وذكره ابن حجر وقال: أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن القاسم بن محمد (فتح الباري 8/242) . وهو في تفسير عبد الرزاق) .
قوله تعالى (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة في قوله: (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا) قال يقول: من حضر ميتا فليأمره بالعدل والإحسان، ولينهه عن الحيف والجور في وصيته، وليخش على عياله ما كان خائفا على عياله لو نزل به الموت.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا) ، يعني الرجل يحضره الموت، فيقال له تصدق من مالك واعتق، وأعط منه في سبيل الله، فنهوا اًن يأمروه بذلك، يعني من حضر منكم مريضا عند الموت فلا يأمره أن ينفق ماله في العتق والصدقة في سبيل الله، ولكن يأمره أن يبين ما له وما عليه من دين ويوصي من ماله لذي قرابته الذين لا يرثون، يوصي لهم بالخمس أو الربع، يقول أيسر أحدكم إذا مات وله ولد ضعاف -يعنى صغارا- إن يتركهم بغير مال(2/11)
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)
فيكونوا عيالا على الناس، فلا ينبغي أن تأمروه بما لا ترضون به لأنفسكم ولأولادكم ولكن قولوا الحق من ذلك.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا) ، فهذا الرجل يحضر الرجل عند موته فيسمعه بوصية يضر بورثته، فأمر الله تعالى الذي يسمعه أن يتقي الله ويوفقه، ويسدده للصواب، ولينظر لورثته كما يحب أن يصنع بورثته إذا خشي عليهم الضيعة.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: ما ينهى عنه من الإضرار في الوصية.
قوله تعالى (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً)
قال البخاري: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال حدثني سليمان بن بلال عن ثور بن زيد المدني عن أبي الغيث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "اجتنبوا السبع الموبقات". قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: "الشرك بالله، والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات".
(الصحيح 5/462 ح 2766- ك الوصايا، ب قوله تعالى (الآية)) .
وانظر حديث الحاكم المتقدم عند تفسير الآية (220) من سورة البقرة.
قوله تعالى (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ماترك وإن كانت واحدة فلها النصف)
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا حكمة تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث مع أنهما سواء في القرابة. ولكنه أشار في موضع أخر وهو قوله تعالى (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) لأن(2/12)
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)
القائم على غيره المنفق ماله عليه مترقب النقص دائما، والمقوم عليه المنفق عليه المال مترقب للزيادة دائما، والحكمة في إيثار مترقب النقص على مترقب الزيادة جبراً لنقصه المترقب ظاهرة جداً.
قال البخاري: حدثني إبراهيم بن موسى أخبرنا هشام أن ابن جريج أخبرهم قال أخبرني ابن المنكدر عن جابر - رضي الله عنه - قال عادني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر في بني سَلِمة ماشيين، فوجدني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا أعقل، فدعا بماء فتوضأ منه ثم رش على فأفقت، فقلت: ما تأمرني أن أصنع في مالى يا رسول الله؟ فنزلت (يوصيكم الله في أولادكم) .
(الصحيح 8/91 ح 4577- ك التفسير- سورة النساء الآية) ، (صحيح مسلم 3/1235-ك الفرائض، ب ميراث الكلالة) .
قال البخاري: حدثنا محمد بن يوسف عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المالُ للولد، وكانتِ الوصية للوالدين، فنَسخ الله من ذلك ما أحبّ: فجعل للذكر مثل حظّ الأنثيين، وجعل للأبوين لكلّ واحد منهما السدس والثلث، وجعل للمرأة الثمن والربع، وللزوج الشطر والربع.
(صحيح البخاري 8/93 ح 4578 -ك التفسير- سورة النساء، ب الآية) .
قوله تعالى ( ... فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف)
قال البخاري: حدثنا أدم حدثنا شعبة حدثنا أبو قيس: سمعت هزيل بن شرحبيل قال: سُئل أبو موسى عن ابنة وابنة ابن وأخت، فقال: للابنة النصف وللأخت النصف وائت ابنَ مسعود فسيُتابعني، فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال: لقد ضللتُ إذا وما أنا من المهتدين، أقضى فيها بما قضى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: للابنة النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت، فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود، فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم.(2/13)
(الصحيح 12/18 ح 6736- ك الفرائض، ب ميراث ابنة ابن مع ابنة. وأخرجه أيضاً في، ب ميراث الأخوات مع البنات عصباً عن ابن مسعود به مختصراً. الصحيح 12/25 ح 6742) .
قال الترمذي: حدثنا عبد بن حميد، حدثني زكرياء بن عدي، أخبرنا عبيد الله ابن عمرو، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك يوم أحد شهيداً، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا، ولا تنكَحَان إلا ولهما مال، قال: "يقضي الله في ذلك فنزلت آية الميراث، فبعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى عمهما، فقال: "أعط ابنتي سعد الثلثين، وأعط أمهما الثمن، وما بقي فهو لك".
(السنن 4/414 ح 2092-ك الفرائض، ب ما جاء في ميراث البنات) ، وأخرجه أحمد (المسند 3/352) عن زكريا بن عدي به. وأبو داود (السنن 3/121 ح 2892- ك الفرائض، ب ما جاء في ميراث الصلب من طريق داود بن قيس. وابن ماجه (السنن 2/908 ح 2720- ك الفرائض، ب فرائض الصلب) . من طريق سفيان بن عيينة. والحاكم (المستدرك 4/333، 334) من طريق عبيد الله بن عمرو الرقي كلهم عن عبد الله بن محمد بن عقيل به. قال الترمذي. هذا حديث صحيح. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وحسنه الألبانى (صحيح ابن ماجه ح 2199) .
قوله تعالى (فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس) أضروا بالأم ولا يرثون، ولا يحجبها الأخ الواحد من الثلث، ويحجبها ما فوق ذلك. وكان أهل العلم يرون أنهم إنما حجبوا أمهم من الثلث لأن أباهم يلى نكاحهم والنفقة عليهم دون أمهم.
قال ابن كثير: وهذا كلام حسن.
قوله تعالى (من بعد وصية يوصي بها أو دين)
وقال البخاري: حدثنا بِشر بن محمد السختياني أخبرنا عبد الله أخبرنا يونس عن الزهري قال أخبرني سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت(2/14)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "كلكم راع ومسئول عن رعيته، والإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية ومسئولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع ومسئول عن رعيته، قال: وأحسب أن قد قال: والرجل راع في مال أبيه".
(الصحيح 5/ 444 ح 2751- ك الوصايا، ب تأويل قوله تعالى (.. من بعد وصية يوصي)) .
وانظر حديث البخاري (آية المنافق ... ) تحت الآية رقم (177) من سورة البقرة.
وانظر حديث مسلم تحت الآية رقم (182) من سورة البقرة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (من بعد وصية يوصي بها أو دين) والدين أحق ما بدئ به من جميع المال، فيؤدى عن أمانة الميت، ثم الوصية، ثم يقسم أهل الميراث ميراثهم.
قال أحمد: ثنا حيوة بن شريح، ثنا بقية، ثنا بَحير بن سعيد، عن خالد بن معدان عن المقدام بن معدي كرب أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " إن الله عز وجل يوصيكم بالأقرب فالأقرب".
(المسند 4/131) وأخرجه ابن ماجه (السنن 2/1207، 1208 ح 3661- ك الأدب، ب بر الوالدين) عن هشام بن عمار، والحاكم (المستدرك 4/151- ك البر والصلة) من طريق أسد بن موسى، كلاهما عن إسماعيل بن عياش عن بحير به. وصححه الألبانى (السلسلة الصحيحة ح 1666) .
وأخرجه البيهقي من طريق بقية به (السنن الكبرى 4/179) وقال الحافظ ابن حجر: أخرجه البيهقي بإسناد حسن (التلخيص الحبير 4/10) وحسنه السيوطى (الجامع الصغير2/319 ح 1946) .
قوله تعالى (آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله) أخرج الطبري وأبن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: أطوعكم لله من الآباء والأبناء، أرفعكم درجة يوم القيامة، لأن الله سبحانه يشفع المؤمنين بعضهم في بعض.
أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (أيهم أقرب لكم نفعا) في الدنيا.
انظر تفسير سورة البقرة آية (236) .(2/15)
قوله تعالى (إن الله كان عليما حكيما)
اخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية قوله (حكيما) قال حكيم في أمره.
قوله تعالى (ولكم نصف ما ترك أزواجكم)
قال مسلم: حدثنا عبد الأعلى بن حماد (وهو النرسي) . حدثنا وُهيب عن ابن طاوُس، عن أبيه، عن ابن عباس. قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولَى رجل ذكر".
(الصحيح 3/1233ح 1615 - ك الفرائض، ب ألحقوا الفرائض بأهلها) .
قوله تعالى (فلهن الثمن مما تركتم)
انظر حديث جابر في امرأة سعد بن الربيع في الآية السابقة.
قوله تعالى (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الكلالة من لم يترك ولدا ولا والدا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وله أخ أو أخت) فهؤلاء الاخوة من الأم: وإن كان واحد فله السدس، وإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث، ذكرهم وأنثاهم فيه سواء.
قوله تعالى (من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم)
انظر الآية السابقة قول قتادة.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (غير مضار) قال: في ميراث أهله.
قال الطبري: حدثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي قال، حدثنا عبيدة بن حميد وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال حدثنا ابن علية جميعاً، عن داود بن أبي هند،(2/16)
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14) وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)
عن عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية: (غير مضار وصية من الله والله عليم حليم) قال: الضرار في الوصية من الكبائر.
(وأخرجه النسائي وابن أبي حاتم كلاهما في التفسير، والبيهقي (السنن الكبرى 6/271) كلهم من طريق داود بن أبي هند به، وصححه ابن أبي حاتم ونقل ابن كثير تصحيحه عن الطبري) .
قال البخاري: حدثنا محمد بن خالد حدثنا محمد بن موسى بن أعين حدثنا أبي عن عمرو بن الحارث عن عبيد الله بن أبي جعفر أن محمد بن جعفر حدثه عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه".
(الصحيح4/226-227 ح 1952- ك الصوم، باب من مات وعليه صوم) .
قوله تعالى (كذلك حدود الله)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: يعني طاعة الله، يعني المواريث التي سمى الله.
قوله تعالى (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده) في شأن المواريث التي ذكر من قبل.
قوله تعالى (واللاتى يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا واللذان يأتيانها منكم فآذوهما)
قال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى التميمي. أخبرنا هُشيم عن منصور، عن الحسن، عن حِطان بن عبد الله الرّقاشي، عن عُبادة بن الصامت. قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " خذوا عني. خذوا عني. قد جعل الله لهن سبيلاً. البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة والثيب بالثيب، جلد مائة والرجم".
(الصحيح 3/1316 ح 1690 -ك الحدود- ب حد الزنى) .(2/17)
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا) لم يبين هنا هل جعل لهن سبيلا أولا؟
ولكنه بين في مواضع أنه جعل لهن السبيل بالحد كقوله في البكر (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما) الآية. وقوله في الثيب الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم. لأن هذه الآية باقية الحكم كما صح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -- رضي الله عنه - وأرضاه- وإن كانت منسوخة التلاوة.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كانت المرأة إذا زنت جلست في البيت حتى تموت، وفي قوله (واللذان يأتيانها منكم فآذوهما) قال: كان الرجل إذا زنى أوذي بالتعزير، وضرب بالنعال فأنزل الله عز وجل بعد هذا (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) النور: 2. فإن كانا محصنين رجما في سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهذا وهذا سبيلهما الذي جعل الله لهما.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (واللذان يأتيانها منكم) الزانيان.
قوله تعالى (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب)
قال ابن ماجه: حدثنا راشد بن سعيد الرملى. أنبأنا الوليد بن مسلم عن ابن ثوبان، عن أبيه، عن مكحول، عن جُبير بن نفير، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن الله عز وجل ليقبل توبة العبد ما لم يُغرغِر".
(السنن ح 4253- ك الزهد، باب ذكر التوبة) . قال المزي: عند ابن ماجة عبد الله بن عمرو وهذا وهم والصواب ابن عمر (تحفة الأشراف 5/328) . قال البوصيري: هذا إسناد ضعيف لتدليس الوليد ومكحول الدمشقي (مصباح الزجاجة 3/309) . أخرجه الترمذي من طريق محمد بن بشار وأبي ثابت العقدي عن ابن ثوبان عنه به (السنن- الدعوات، باب إن الله يقبل توبة العبد مالم يغرغر) . وقال(2/18)
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)
حسن غريب. ورواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك من طريق ابن ثوبان به (مصباح الزجاجة 3/ 09) . ذكره ابن كثير وقال: ووقع في سنن ابن ماجة عن عبد الله بن عمرو وهو وهم إنما هو عبد الله بن عمر بن الخطاب ا. هـ. ثم ذكر له شواهد موصولة ومرسلة (انظر التفسير 2/206، 207) .
وحسنه السيوطي (الجامع الصغير 2/306) ، وصححه أحمد شاكر في المسند (ح 6160) وقال الألباني: حسن (صحيح ابن ماجة 2/418) .
أخرج أدم بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (للذين يعملون السوء بجهالة) قال: كل من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته.
وانظر سورة الأنعام آية (54) وتفسيرها.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (ثم يتوبون من قريب) والقريب فيما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت.
قوله تعالى (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا اليماً)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار) فأنزل الله تبارك وتعالى بعد ذلك (إن الله لايغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء) النساء: 48 فحرم الله تعالى المغفرة على من مات وهو كافر، وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته فلم يؤيسهم من المغفرة.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن أبي العالية في قوله (وليست التوبة للذين يعملون السيئات) قال: هذا في أهل النفاق.
وبه عن أبي العالية: (أليماً) قال: الأليم الموجع في القرآن كله.(2/19)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن)
قال البخاري: حدثنا محمد بن مقاتل أخبرنا أسباط بن محمد حدثنا الشيباني عن عكرمة عن ابن عباس -قال الشيباني وذكره أبو الحسن السوائى ولا أظنه ذكره إلا عن ابن عباس- (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كَرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما أتيتموهن) قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وان شاءوا لم يُزوجوها وهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية في ذلك.
(الصحيح 8/93 ح 4579 -ك التفسير- سورة النساء، ب الآية) .
قال النسائي: نا على بن المنذر، عن ابن فضيل، نا يحيى بن سعيد، عن محمد ابن أبي أمامة، عن أبيه قال: لما توفي أبو قيس بن الأسلت، أراد ابنه أن يتزوج امرأته من بعده، فكان ذلك لهم في الجاهلية، فأنزل الله عز وجل (لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً) .
(التفسير 1/369 ح 115) . وأخرجه الطبري (التفسير 8/105 ح 8870) من طريق عبد الرحمن ابن صالح. وابن أبي حاتم (التفسير- النساء/ آية 19ح 2580) عن أبي سعيد الأشج. وابن مردويه- كما في ابن كثير (1/701) - من طريق علي بن المنذر، كلهم عن محمد بن فضيل به. قال الحافظ ابن حجر: إسناد حسن. (فتح الباري 8/95) . وحسنه السيوطي في (لباب النقول ص 65) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا مات وترك جارية ألقى عليها حميمة ثوبه فمنعها من الناس فإن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها.
قوله تعالى (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لا تعضلوهن: لا تقهروهن (لتذهبوا ببعض ما أتيتموهن) يعني: الرجل تكون له المرأة وهو كاره لصحبتها ولها عليه مهر، فيضر بها لتفتدى.(2/20)
قوله تعالى (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (ٍ إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) هو البغض والنشوز، فإذا فعلت ذلك فقد حل له منها الفدية.
قوله تعالى (وعاشروهن بالمعروف)
قال الترمذي: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا أبو داود قال، أنبأنا شعبة، عن أبي إسحاق قال: سمعت أبا عبد الله الجدلي يقول: سألت عائشة عن خلُق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقالت: لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ولا صخاباً في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح.
(السنن 4/369 ح 2016- ك البر والصلة، ب ما جاء في خلق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، وأخرجه أحمد (المسند 6/174) من طريق محمد بن جعفر عن شعبة به. وأخرجه في (الزهد ص4) من طريق زكريا ابن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عن الجدلى به، وفيه قول الجدلى: كيف كان خلق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أهله؟. وأخرجه ابن حبان من هذا الطريق وبهذا اللفظ أيضاً (الإحسان 14/355 ح 6443) قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الألباني (صحيح الترمذي ح 1640) .
قال الترمذي: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي، وإذا مات صاحبكم فدعوه".
(السنن 5/709 ح 3895- ك المناقب، ب فضل أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح من حديث الثورى ... وأخرجه ابن حبان في صحيحه (الإحسان 9/484ح 4177) من طريق: هشام بن عبد الملك ويحيى بن عثمان، عن محمد بن يوسف به. قال محققه: إسناده صحيح. وصححه الألباني (صحيح الترمذي 3/245) . وأخرج له الحاكم شاهداً من حديث أبي هريرة بدون الجملة الأخيرة (المستدرك 3/311، 312) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ... وأخرج عن ابن عباس بنحوه (المستدرك 4/173) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي على كل منهما) .(2/21)
قوله تعالى (فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً)
قال مسلم: وحدثني إبراهيم بن موسى الرازي، حدثنا عيسى (يعنى ابن يونس) : حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن عمران بن أبي أنس، عن عمر بن الحكم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يفرك مؤمن مؤمنة. إن كره منها خلقاً رضي منها آخر" أو قال "غيره".
(الصحيح 2/1091 ح 1469- الرضاع، ب الوصية بالنساء) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً) يقول فعسى الله أن يجعل في الكراهة خيراً كثيراً.
قوله تعالى (وإن أردتم إستبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا) أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج) قال: إن كرهت امرأتك وأعجبك غيرها فطلقت هذه وتزوجت تلك.
وبه عن ابن عباس قوله: (وآتيتم إحداهن قنطارا) قال: إن كرهت امرأتك وأعجبك غيرها، فطلقت هذه وتزوجت تلك، فأعط هذه مهرها وإن كان قنطارا.
قوله تعالى (فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مجاهد قوله: (فلا تأخذوا منه شيئاً) قال، فلا يحل له من مال المطلقة شيء وإن كثر.
وبه عن مجاهد قوله: (بهتانا) قال: إثماً.(2/22)
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)
قوله تعالى (وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، ثنا مقاتل بن محمد، ثنا وكيع، عن سفيان، عن عاصم، عن بكر بن عبد الله المزنى، عن ابن عباس في قوله: (وقد أفضى بعضكم إلى بعض) قال: الإفضاء: الجماع.
ورجاله ثقات وإسناده صحيح.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن معمر عن قتادة في قوله تعالى (وأخذن منكم ميثاقا غليظا) قال: هو ما أخذ الله تعالى للنساء على الرجال، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، قال: وقد كان ذلك يؤخذ عند عقدة النكاح.
قال الطبري: حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سفيان، عن أبي هاشم المكى، عن مجاهد في قوله: (وأخذن منكم ميثاقا غليظا) قال قوله: نكحتُ.
وأبو هاشم هو إسماعيل بن كثير. ورجاله ثقات وإسناده صحيح.
قوله تعالى (ولا تنكحوا مانكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف)
قال الشيخ الشنقيطي: نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة عن نكاح المرأة التي نكحها الأب، ولم يبين ما المراد بنكاح الأب هل هو العقد أو الوطء، ولكنه بين في موضع أخر أن اسم النكاح يطلق على العقد وحده، وإن لم يحصل مسيس وذلك في قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن) فصرح بأنه نكاح وأنه لا مسيس فيه. وقد أجمع العلماء على أن من عقد عليها الأب حرمت على ابنه وإن لم يمسها الأب، وكذلك عقد الابن محرّم على الأب إجماعا، وإن لم يمسها وقد أطلق تعالى النكاح لا آية أخرى مريدا به الجماع بعد العقد وذلك في قوله (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) .
قال أبو داود: حدثنا عمرو بن قسَيط الرقي، ثنا عبيد الله بن عمرو، عن زيد ابن أبي أنيسة، عن عدي بن ثابت، عن يزيد بن البراء، عن أبيه، قال: لقيت(2/23)
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)
عَمّي ومعه راية، فقلت له: أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رجل نكح امرأة أبيه فأمرنى أن أضرب عنقه وآخذ ماله.
(السنن 4/ 157 ح 4457- ك الحدود، ب في الرجل يزني بحريمه) ، وأخرجه النسائي في (سننه 6/109-110- ك النكاح، ب نكاح ما نكح الآباء) من طريق عبد الله بن جعفر عن عبيد الله بن عمرو به. والحاكم في (المستدرك، 4/ 357- ك الحدود) . ونقل المنذري عن ابن القيم قوله: والحديث له طرق حسان يقوي بعضها بعضاً (تهذيب السنن 6/266) ، وأورد ابن القيم شاهداًٍ له بإسناد صحيح (زاد المعاد 5/15) . وصححه الألباني وأفاض في الكلام عليه وبيان طرقه، ومتابعاته (الإرواء رقم 2351) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كل ذات تزوجها أبوك وابنك دخل أو لم يدخل، فهي عليك حرام.
قوله تعالى (إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا)
قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين، ثنا صفوان بن صالح، ثنا الوليد، ثنا زهير بن محمد، عن عطاء بن أبي رباح في قول الله تعالى (إلا ما قد سلف) يقول: في جاهليتكم.
وسنده صحيح.
وبه عن عطاء بن رباح (وساء سبيلا) قال: طريقا لمن عمل به.
قوله تعالى (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم ... )
قال البخاري: حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة بنت عبد الرحمن أن عائشة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبرتها: أن رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان عندها، وأنها سمعت صوت رجل يستأذن في بيت حفصة، قالت فقلتُ: يا رسول الله، هذا رجل يستأذن في بيتك، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أراه فلاناً" لعمّ حفصة من الرضاعة- قالت عائشة: لو كان فلان حياً -لعمها من الرضاعة- دخل عليّ؟
فقال: نعم، الرضاعة تحرّم ما تحرم الولادة ".
(الصحيح 9/43، ح 5099- ك النكاح، ب (الآية) ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) .
(وصحيح مسلم 2/1068 ح 1444- ك الرضاعة، ب يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة) .(2/24)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)
قال مسلم: وحدثني حرملة بن يحيى. حدثنا ابن وهب. أخبرنى يونس عن ابن شهاب، عن عروة، أن عائشة أخبرته، أنه جاء أفلح أخو أبي القعيس يستأذن عليها بعد ما نزل الحجاب. وكان أبو القعيس أبا عائشة من الرضاعة.
قالت عائشة: فقلت: والله! لا آذن لأفلح. حتى استأذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فإن أبا القعيس ليس هو أرضعني. ولكن أرضعتني امرأته. قالت عائشة: فلمّا دخل رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قلتُ: يا رسول الله! إن أفلح أخا أبي القعيس جاءنى يستأذن عليّ. فكرهتُ أن أذن له حتى استأذنك. قالت: فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ائذني له".
قال عروة: فبذلك كانت عائشة تقول: حرّموا من الرضاعة ما تحرّمون من النسب.
(الصحيح 2/1069 ح 1445- ك الرضاعة- ب تحريم الرضاعة من ماء الفحل) .
قال البخاري: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، عن الأشعث، عن أبيه، عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل عليها وعندَها رجل، فكأنه تغير وجهه، كأنه كره ذلك، فقالت: إنه أخي، فقال: "انظُرن ما إخوانكن، فإنما الرضاعة من المَجاعة".
(الصحيح 9/50 ح 5102- ك النكاح، ب من قال: لا رضاع بعد حولين ... ) ، وأخرجه مسلم في (صحيحه ح 1455- ك الرضاع، ب إنما الرضاعة من المجاعة) .
قال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى. قال: قرأتُ على مالك عن عبد الله بن أبي بكر، عن عَمرة، عن عائشة، أنها قالت: كان فيما أنزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يُحرِّمن. ثم نسخن: بخمس معلومات. فتوفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهُنّ فيما يُقرأ من القرآن.
(الصحيح 2/1075 ح 1452- ك الرضاع، ب التحريم بخمس رضعات) .
وقال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم. كلهم عن المعتمر (واللفظ ليحيى) . أخبرنا المعتمر بن سليمان عن أيوب، يُحدّث عن أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث، عن أم الفضل. قالت: دخل أعرابى على(2/25)
نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في بيتي. فقال: يا نبي الله! إني كانت لي امرأة فتزوجت عليها أخرى. فزعمت امرأتى الأولى أُنها أرضعت امرأتي الحدثى رضعة أو رضعتين.
فقال نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تحرم الإملاجة والإملاجتان".
قال عمرو في روايته: عن عبد الله بن الحارث بن نوفل.
(الصحيح 2/1074 ح 1451- ك الرضاع، ب في المصة والمصتان) .
قوله تعالى ( ... وأخواتكم من الرضاعة ... )
قال البخاري: حدثنا محمد بن مقاتل أبو الحسن قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا عمر بن سعيد بن أبي حُسين قال حدثني عبد الله بن أبي مُليكة عن عقبة ابن الحارث أنه تزوج ابنةً لأبي إهاب بن عزيز فأتته امرأة فقالت: إني قد أرضعتُ عقبة والتي تزوّج. فقال لها عُقبة: ما أعلم أنك أرضعتني، ولا أخبرتني. فركب إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة، فسأله، فقال رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كيف وقد قيل".
ففارقها عُقبة، ونكحت زوجاً غيره.
(الصحيح 1/222 ح 88- ك العلم، ب الرحلة في المسألة النازلة وتعليم أهله) .
قوله تعالى (وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن) قال البخاري: حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا هشام عن أبيه عن زينب عن أم حبيبة قالت: قلت يا رسول الله هل لك في بنت أبي سفيان؟ قال: " فأفعل ماذا"؟. قلت: تنْكحُ. قال: " أتحبين"؟ قلت: لستُ لك. بمخلية، وأحب من شركتي فيك أختي. قال: "إنها لا تحل لي"، قلت بلغني أنك تخطب. قال: "ابنة أم سلمة"؟ قلت: نعم. قال: " لو لم تكن ربيبتي ما حلت لي، أرضعتني وإياها ثُويبة، فلا تعرضن على بناتكن ولا أخواتكن".
قال الليث حدثنا هشام (دُرة بنت أم سلمة) .
(الصحيح 9/158 ح 5106- ك النكاح، ب الآية) . وأخرجه مسلم في (صحيحه 2/1072 - ك الرضاع، ب تحريم الربيبة وأخت المرأة) .(2/26)
قوله تعالى (من نسائكم اللاتى دخلتم بهن)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الدخول: النكاح.
قوله تعالى (فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم)
وبه عن ابن عباس قوله تعالى: (فلا جناح عليكم) قال: فلا حرج.
قوله تعالى (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) والآية
قال الشيخ الشنقيطي: يفهم منه أن حليلة دعيه الذي تبناه لا تحرم عليه، وهذا المفهوم صرح به تعالى في قوله (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا) وقوله (وما جعل أدعيائكم أبنائكم ذلكم قولكم بأفواهكم) وقوله (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم) الآية.
قوله تعالى (وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف)
قال ابن ماجة: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، ثنا ابن وهب، أخبرني ابن لهيعة، عن أبي وهب الجيشاني، حدثه أنه سمع الضحاك بن فيروز الديلمي يحدث عن أبيه، قال: أتيتُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلتُ: يا رسول الله! إني أسلمت وتحتي أختان. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لي: "طلق أيتهما شئت".
(السنن 1/627 ح 1951- ك النكاح، ب الرجل يسلم وعنده أختان) . وأخرجه أحمد (المسند 4/232) عن يحيى بن إسحاق عن ابن لهيعة به. قال الألباني: حسن (صحيح ابن ماجة ح 1587) .
وأخرجه الترمذي (السنن 3/427 ح 2911) عن قتيبه عن ابن لهيعة، لكن لفظه: "أختر أيتهما شئت".
وقد توبع ابن لهيعة في اللفظ الأول، فأخرجه ابن ماجة (ح 1950) من طريق إسحاق بن أبي فروة عن أبي وهب به. وتوبع في اللفظ الثاني، أخرجه الترمذي (ح 1130) من طريق يزيد بن أبي حبيب عن أبي وهب، وقال: حديث حسن. وقال ابن حجر: صححه ابن حبان والدارقطني والبيهقي (بلوغ المرام مع سبل السلام 3/279) ، وحسنه الألباني (صحيح سنن الترمذي ح 902) .(2/27)
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها".
(الصحيح 9/64 ح 5109- ك النكاح، ب لاتنكح المرأة على عمتها) ، وأخرجه مسلم في (الصحيح 2/1028ح 33- ك النكاح، ب تحريم الجمع في المرأة وعمتها والمرأة وخالتها) .
قال مالك: عن ابن شهاب، عن قبيصة بن ذؤيب، أن رجلا سأل عثمان بن عفان عن الأختين من ملك اليمين، هل يجمع بينهما؟ فقال عثمان: أحلتهما آية وحرمتهما آية. فأما أنا فلا أحب أن أصنع ذلك. قال: فخرج من عنده، فلقى رجلا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسأله عن ذلك؟ فقال: "لو كان لى من الأمر شىء، ثم وجدت أحدا فعل ذلك، لجعلته نكالا.
قال ابن شهاب: أراه علي بن أبي طالب.
(الموطأ 2/538 ح 33- النكاح، ب ما جاء في كراهية إصابة الأختين بملك اليمين والمرأة وابنتها) .
ورجاله ثقات وسنده صحيح.
قوله تعالى (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم)
قال مسلم: حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة القواريري. حدثنا يزيد بن زُريع. حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، عن صالح، أبي الخليل، عن أبي علقمة الهاشمي، عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يوم حنين، بعث جيشاً إلى أوطاس، فلقوا عدواً. فقاتلوهم. فظهروا عليهم. وأصابوا لهم سبايا.
فكأن ناساً من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين. فأنزل الله عز وجل في ذلك: (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) . أي: فهُن لكم حلال إذا انقضت عدتهن.
(الصحيح 2/1079 ح 1456- ك الرضاع، ب جواز وطء المسبية بعد الاستبراء..) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قوله: (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) كل امرأة لها(2/28)
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)
زوج فهي عليك حرام، إلا أمة ملكتها ولها زوج بأرض الحرب فهي لك حلال إذا استبرأتها.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كل ذات زوج عليكم حرام، إلا الأربع اللائى ينكحن بالبينة والمهر.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، ثنا يوسف الصفار، ثنا أبو أسامة، أخبرنى عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه كان لا يرى مشركة محصنة، يعنى: اليهوديات والنصرانيات.
ورجاله ثقات وإسناده صحيح.
قوله تعالى (وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ... )
قال الشيخ الشنقيطي: يعني: كما أنكم تستمتعون بالمنكوحات فأعطوهن مهورهن في مقابلة ذلك، وهذا المعنى تدل له آيات من كتاب الله كقوله تعالى: (وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض) الآية. فإفضاء بعضهم إلى بعض المصرح بأنه سبب لاستحقاق الصداق كاملا، هو بعينه الاستمتاع المذكور هنا في قوله (فما استمتعتم به منهن) الآية.
أخرج أدم بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (محصنين) ، قال: متناكحين (غير مسافحين) ، قال: زانين بكل زانية.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قوله (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة) إذا تزوج الرجل منكم المرأة، ثم نكحها مرة واحدة، فقد وجب صداقها كله، والاستمتاع هو النكاح.
انظر تفسير سورة البقرة آية (236) .(2/29)
قوله تعالى (ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليماً حكيماً)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: التراضي: أن يوفيها صداقها ثم يخيرها.
قوله تعالى (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات)
قال الشيخ الشنقيطي: ظاهر هذه الآية الكريمة أن الأمة لا يجوز نكاحها، ولو عند الضرورة إلا إذا كانت مؤمنة بدليل قوله (من فتياتكم المؤمنات) فمفهوم مخالفته أن غير المؤمنات من الإماء لا يجوز نكاحهن على كل حال، وهذا المفهوم يفهم من مفهوم آية أخرى وهي قوله تعالى: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) فإن المراد بالمحصنات فيها الحرائر على أحد الأقوال، ويفهم منه أن الإماء الكوافر لا يحل نكاحهن ولو كن كتابيات.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ومن لم يستطع منكم طولا) من لم يكن له سعة.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قوله (أن ينكح المحصنات) أن ينكح الحرائر، فلينكح من إماء المؤمنين.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (من فتياتكم المؤمنات) قال: لا ينبغي أن يتزوج مملوكة نصرانية.
قوله تعالى (فانكحوهن بإذن أهلهن)
قال ابن ماجة: حدثنا جميل بن الحسن العتكي. ثنا محمد بن مروان العُقيلى. ثنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"لا تُزوج المرأةُ المرأةَ. ولا تزوج المرأة نفسها. فإن الزانية هي التي تزوج نفسها".(2/30)
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
(السنن ح 1882 -ك النكاح- باب لا نكاح إلا بولى) . قال محقق السنن: في الزوائد: في إسناده جميل بن الحسن العتكي. قال فيه عبدان: إنه فاسق يكذب، يعني في كلامه. وقال ابن عدي: لم أسمع أحدا تكلم فيه غير عبدان، إنه لا بأس به، ولا أعلم له حديثاً منكراً. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال: يغرب. وأخرج له في صحيحه هو وابن خزيمة والحاكم. وقال مسلمة الأندلسي: ثقة.
وباقي رجال الإسناد ثقات ا. هـ. والذى في مصباح الزجاجة غير هذا بالمرة (انظر 1/332) .وقد أخرجه الدارقطني من طريق عبد السلام بن حرب عن هشام به، وفي آخره بلفظ ".. إن التى تزوج نفسها هي الفاجرة.." (السنن3/227 ح 26) وصحح ابن الملقن رواية الدارقطني (خلاصة البدر المنير 2/187 ح 1938) . وقال الألباني في أحد هذه الطرق: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
(انظر الإرواء 6/249) . وذكره ابن كثير (2/227) .
وانظر حديث ابن ماجة الآخر المتقدم تحت الآية رقم (232) من سورة البقرة. وهو حديث: "لا نكاح إلا بولي".
قوله تعالى (محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: يعني تنكحوهن عفائف غير زوان في سر ولا علانية ولا متخذات أخدان "يعني في أخلاء".
قوله تعالى (فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب)
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا هذا العذاب الذي على المحصنات -وهن الحرائر- الذي نصفه على الإماء، ولكنه بين في موضع أخر أنه جلد مائة بقوله (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) فيعلم منه أن على الأمة الزانية خمسين جلدة ويلحق بها العبد الزاني فيجلد خمسين، فعموم الزانية مخصوص بنص قوله تعالى: (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) وعموم الزاني مخصوص بالقياس على المنصوص، لأنه لا فارق البتة بين الحرة(2/31)
والأمة إلا الرق، فعلم أنه سبب تشطير الجلد فأجرى في العبد لاتصافه بالرق الذي هو مناط تشطير الجلد، وهذه الآية عند الأصوليين من أمثلة تخصيص عموم النص بالقياس، بناء على أن نوع تنقيح المناط المعروف بإلغاء الفارق يسمى قياسا، والخلاف في كونه قياسا معروف في الأصول. أما الرجم فمعلوم أنه لا يتشطر، فلم يدخل في المراد بالآية.
قال مسلم: حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمى. حدثنا سليمان أبو داود.
حدثنا زائدة عن السُّدّي، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن. قال: خطب عليّ فقال: يا أيها الناس! أقيموا على أرقّائكم الحدّ. من أحصن منهم ومن لم يُحصن. فإن أمَة لِرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زنت. فأمرني أن أجلدها. فإذا هي حديث عهد بنفاس. فخشيتُ، إن أنا جلدتها، أن أقتلها. فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "أحسنتَ".
(الصحيح 3/1330 ح 1705- ك الحدود، ب تأخير الحد عن النفساء) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال قوله (فإذا أحصن) إذا تزوجن حرا.
قال البخاري: حدثنا مالك بن إسماعيل حدثنا سفيان عن الزهري حدثني عبيد الله سمعت أبا هريرة - رضي الله عنه - وزيد بن خالد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا زنت الأمة فاجلدوها، ثم إذا زنت فاجلدوها، ثم إذا زنت فاجلدوها في الثالثة أو الرابعة فبيعوها ولو بضفير".
(الصحيح 5/211 ح 2555، 2556- ك العتق، ب كراهية التطاول على الرقيق ... ) ، وأخرجه مسلم (الصحيح 3/1328 ح 1703- ك الحدود، ب رجم اليهود، أهل الذمة، في الزنى) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قوله (فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) من الجلد.(2/32)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) خمسون جلدة، ولا نفى ولا رجم.
قوله تعالى (ذلك لمن خشي العنت)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (العنت) الزنا.
قوله تعالى (وأن تصبروا خير لكم)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (وأن تصبروا خير لكم) وأن تصبروا عن الأمة خير لكم.
قوله تعالى (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: مبدأ التوبة من الله.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مقاتل بن حيان قوله: (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم) من تحريم الأمهات والبنات، كذلك كان سنة الذين من قبلكم، ثم قال: (والله يريد أن يتوب عليكم) .
قوله تعالى (والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (ويريد الذين يتبعون الشهوات) قال: الزنا (أن تميلوا ميلا عظيما) قال: يريدون أن تزنوا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (ويريد الذين يتبعون الشهوات) قال هم اليهود والنصارى (أن تميلوا ميلا عظيما) .
قوله تعالى (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (يريد الله أن يخفف عنكم) في نكاح الأمة، وفي كل شيء فيه يسر.(2/33)
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن إسماعيل الأحسى، ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه: (وخلق الإنسان ضعيفا) قال: في أمر النساء. قال وكيع: يذهب عقله عندهن.
ورجاله ثقات وإسناده صحيح.
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما. ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً وكان ذلك على الله يسيراً)
قال ابن ماجة: حدثنا العباس بن الوليد الدمشقي. ثنا مروان بن محمد. ثنا عبد العزيز بن محمد، عن داود بن صالح المدني، عن أبيه، قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنما البيع عن تراض".
(السنن ح 2185- التجارات، باب بيع الخيار) قال البوصيري: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات رواه ابن حبان في صحيحه عن الحسن بن سفيان ثنا سعيد بن عبد الجبار ثنا الدراوردى عن داود بن صالح به وزيادة. ورواه البيهقي في الكبرى من طريق يحيى بن سليمان عن عبد العزيز فذكره بإسناده ومتنه، وله شاهد من حديث جابر بن عبد الله، رواه الترمذي وابن ماجة، ورواه أبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة. (مصباح الزجاجة 2/10) . وحسنه السيوطي (الجامع الصغير 2/559 ح 2551) .
وقال الألباني: صحيح (صحيح ابن ماجة 2/13) .
قال البخاري: حدثنا صدقة، أخبرنا عبد الوهاب، قال سمعت يحيى بن سعيد، قال سمعت نافعا، عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن المتبايعين بالخيار في بيعهما ما لم يتفرقا أو يكون البيع خيارا". قال نافع: وكان ابن عمر إذا اشترى شيئا يعجبه فارق صاحبه.
(الصحيح ح 2107- البيوع، ب كم يجوز الخيار) ، وأخرجه مسلم في (صحيحه- البيوع ح 45) .
قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الموصلى، ثنا ابن فضيل، عن داود الأدوي، عن عامر، عن علقمة، عن عبد الله، (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) قال: إنها لمحكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة.
ورجاله ثقات وإسناده صحيح.(2/34)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
قال مسلم: حدثنا زهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم (قال إسحاق: أخبرنا. وقال زهير: حدثنا جرير) عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة، قال: دخلتُ المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة، والناس مجتمعون عليه، فأتيتهم. فجلست إليه.
فقال: كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فنزلنا منزلا، فمنّا من يصلح خباءه.
ومنا من ينتضل، ومنا من هو في جَشَره. إذ نادى منادي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الصلاة جامعة. فاجتمعنا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقال: "إنه لم يكن نبي قبلى إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شرّ ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جُعل عافيتها في أولها. وسيصيب أخرها بلاء وأمور تنكرونها. وتجيء فتنة فيُرقق بعضها بعضاً. وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مُهلكتي، ثم تنكشف.
وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه. فمن أحب أن يزحزح عن النار ويُدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم والآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع. فإن جاء أخر ينازعه فاضربوا عنق الأخر". فدنوت منه فقلت له: أنشدك الله! آنت سمعت هذا من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيده. وقال: سمعته أذناي ووعاه قلبي، فقلت له: هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل. ونقتل أنفسنا والله يقول: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) . قال: فسكت ساعةً ثم قال: أطعه في طاعة الله. واعصه في معصية الله.
(الصحيح 3/1472-1473 ح 1844- ك الأمارة، ب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء ... ) .(2/35)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: لما أنزل الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) فقال المسلمون إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، والطعام هو من فضل الأموال، فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد، فكف الناس عن ذلك فأنزل الله تعالى بعد ذلك: (ليس على الأعمى حرج) الآية.
(التفسير- النساء/29، ح 2900) . وقد أخرج هذا الحديث أبو داود (السنن 3/343 ح 3753- ك الأطعمة، ب نسخ الضيف يأكل من مال غيره) من طريق يزيد النحوي، عن عكرمة عن ابن عباس بنحوه. قال الألباني: حسن الإسناد (صحيح أبي داود ح 3192) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) قال: التجارة رزق من رزق الله، وحلال من حلال الله، لمن طلبها بصدقها وبرها.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قول الله تبارك وتعالى (عن تراض منكم) ، في تجارة أو بيع، أو عطاء يعطه أحد أحدا.
قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار حدثنا عثمان بن عمر حدثنا علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة أن ثابت بن الضحاك -وكان من أصحاب الشجرة- حدثه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من حَلَفَ على ملة غير الإسلام كاذبا فهو كما قال، وليس على ابن أدم نذر فيما لا يملك، ومن قتل نفسه بشىء في الدنيا عُذب به يوم القيامة، ومن لَعنَ مؤمناً فهو كقتله، ومن قذف مؤمناً بكفر فهو كقتله".
(الصحيح 10/479 ح 6047- ك الأدب، ب ما ينهى عن السب واللعن) . وأخرجه مسلم في (الصحيح - ك الإيمان، ب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، ح 176-177) .
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، حدثنا خالد بن الحارث، حدثنا شعبة عن سليمان قال: سمعت ذكوان يحدث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى(2/36)
فيه خالداً مخلداً فيها أبداً. ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً. ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلدا فيها أبداً".
(الصحيح 10/258 ح 5778- ك الطب، ب شراب السم والدواء به ... ) ، وأخرجه مسلم (ك الإيمان، باب غلظ تحريم قتل النفس ح 175) .
قال أبو داود: حدثنا ابن المثنى، أخبرنا وهب بن جرير: أخبرنا أبي، قال: سمعت يحيى بن أيوب يحدث عن يزيد بن أبي حبيِب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير (المصري) ، عن عمرو بن العاص، قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي الصبح فذكروا ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ " فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله يقول (وٍ لا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) فضحك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يقل شيئا.
قال أبو داود: عبد الرحمن بن جبير مصري مولى خارجة بن حذافة، وليس هو ابن جبير بن نفير.
وقال أبو داود: حدثنا محمد بن سلمة (المرادي) : أخبرنا ابن وهب، عن ابن لهيعة، وعمرو بن الحارث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، أن عمرو بن العاص كان على سرية، وذكر الحديث نحوه، قال: فغسل مغابنه وتوضأ وضوءه للصلاة ثم صلى بهم، فذكر نحوه، ولم يذكر التيمم، قال أبو داود: وروى هذه القصة عن الأوزاعي عن حسان بن عطية قال فيه "فتيمم".
(السنن 1/92 ح 334، 335- ك الطهارة، ب إذا خاف الجنب البرد أيتيمم؟) . والرواية الثانية: أخرجها ابن حبان في صحيحه (الإحسان 4/142-143 ح 1315) من طريق. عمرو بن الحارث عن يزيد به. قال محققه: إسناده صحيح على شرط مسلم. وأخرجه أحمد من طريق ابن لهيعة به، (المسند 4/203، 204) قال ابن حجر: إسناده قوى (الفتح1/454) وصححه النووي كما نقل(2/37)
الألباني (إرواء الغليل 1/181، 182) ، وأخرجه الحاكم (المستدرك 1/177- ك الطهارة) عن عمرو ابن الحارث ورجل آخر، عن يزيد به، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي وقد رجح ابن القيم الرواية التي فيها الغسل على رواية التيمم (زاد المعاد 3/388) .
قال النسائى: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال: أنبأنا بقية قال: حدثني بجير بن سعد، عن خالد بن معدان أن أبارهم السمعي حدثهم أن أبا أيوب الأنصاري حدثه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من جاء يعبد الله ولا يشرك به شيئاً ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويجتنب الكبائر كان له الجنة فسألوه عن الكبائر؟ فقال: "الإشراك بالله وقتل النفس المسلمة والفرار يوم الزحف".
(السنن7/88- ك تحريم الدم، ب ذكر الكبائر) . وأخرجه أحمد (المسند 5/413) من طريق حيوة عن بقيه به. وصححه الألباني (صحيح النسائي ح 3743) وحسنه الأرناؤوط (جامع الأصول 10/626) .
قوله تعالى (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما)
قال البخاري: حدثنا أحمد بن يونس قال حدثنا إبراهيم بن سعد عن أبيه عن حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه" قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: "يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه".
(الصحيح 10/417 ح 5973 - ك الأدب، ب لا يسب الرجل والديه) . وأخرجه مسلم (الصحيح 1/92 ح 90- ك الإيمان، ب بيان الكبائر وأكبرها) .
وانظر حديث البخاري عن أبي هريرة المتقدم عند الآية (10) من السورة نفسها "اجتنبوا السبع الموبقات".
وانظر حديث النسائي عن أبي أيوب المتقدم عند الآية (29) من السورة نفسها. وهو حديث: "من جاء يعبد الله ولا يشرك به شيئاً ... ".(2/38)
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)
قال الترمذي: حدثنا حميد بن مسعدة بصري. حدثنا بِشر بن المفضل حدثنا الجريري عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ألا أحدثكم بأكبر الكبائر"؟. قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "الإشراك بالله، وعُقوق الوالدين"، قال: وجَلَسَ وكان متكئاً قال: "وشهادة الزور- أو قال: قول الزور" قال: فما زال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقولها حتى قلنا ليته سكت.
قال أبو عيسى. هذا حديث حسن غريب صحيح.
(السنن5/235-236 ح 3019-3021- ك التفسير، ب سورة النساء) . وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي) .
قال الحاكم: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله الشافعي ثنا إسحاق ابن الحسن ثنا أبو حذيفة ثنا سفيان (وحدثنا) أبو زكريا يحيى بن محمد العنبري ثنا محمد بن عبد السلام ثنا إسحاق بن إبراهيم انبأ وكيع عن سفيان عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله قال: الكبائر من أول سورة النساء إلى (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) من أول السورة ثلاثين آية.
(المستدرك 1/59 - ك الإيمان) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين وجب إخراجه على ما شرطت في تفسير الصحابة) .
قال ابن خزيمة: ثنا علي بن مسلم قال: ثنا أبو داود قال: ثنا الحكم بن خزرج قال: ثنا ثابت عن أنس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي".
(التوحيد 2/656، ب ذكر لفظة رويت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذكر الشفاعة) . وأخرجه الضياء المقدسي في (المختارة 5/21-22 ح 1622-1623) من طريق محمد بن رافع وعلي بن مسلم عن كلاهما عن أبي داود -وهو الطيالسي- به. وصحح محققه إسناديهما) . وأخرجه الترمذي (السنن 4/625 ح 2435) وابن حبان في صحيحه (الإحسان 8/132 ح 6434) ، والحاكم (المستدرك 1/69) كلهم من طريق عبد الرزاق عن معمر عن ثابت عن أنس. وقال الترمذي: حسن صحيح غريب.
وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وصححه البيهقي. (انظر تخريج إحياء علوم الدين 5/2205 ح 3483، وكشف الخفا 2/10) . وقال الحافظ ابن كثير: إسناد صحيح على شرط الشيخين (التفسير 2/248) ، وصححه الألباني (صحيح سنن الترمذي ح 1983) .(2/39)
وانظر حديث البخاري عن عبد الله بن مسعود الآتي عند الآية (68) من سورة الفرقان.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الكبائر: كل ذنب ختمه الله بنار، أو غضب، أو لعنة أو عذاب.
قوله تعالى (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن وسئلوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما)
قال الترمذي: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أم سلمة، أنها قالت: يغزو الرجال ولا يغزو النساء، وإنما لنا نصف الميراث. فأنزل الله: (ولا تتمنوا ما فضّل الله بعضكم على بعض) . قال مجاهد: فأنزل فيها: (إن المسلمين والمسلمات) وكانت أم سلمة أول ظعينة قدمت المدينة مهاجرة.
قال أبو عيسى: هذا حديث مرسل. ورواه بعضهم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مرسلاً أن أم سلمة قالت: كذا وكذا.
(السنن 5/237 ح 3022- ك تفسير القرآن، ب من سورة النساء) ، وأخرجه الحاكم (المستدرك 2/305-306) من طريق قبيصة عن سفيان به، وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. وأخرجه الطبري في تفسيرة (8/262 ح 9241) من طريق: عبد الرزاق، عن سفيان: وعنده: عن مجاهد قال: قالت أم سلمة. ولأجل ذلك حكم الترمذي على الرواية السالفه بالإرسال، ولكن رد الشيخ أحمد شاكر القول بإرساله في بحث له نافع، وأثبت صحة الحديث واتصاله (حاشية الطبري 8/263) ، وصححه الألباني (صحيح الترمذي ح 2419) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لا يتمنى الرجل فيقول: "ليت لي مال فلان أو أهله فنهى الله سبحانه عن ذلك، ولكن ليسأل الله من فضله".(2/40)
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله تعالى: (للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن) : يعني مما ترك الوالدان والأقربون، يقول: للذكر مثل حظ الأنثيين.
قوله تعالى (ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ... )
قال البخاري: حدثنا الصلت بن محمد، حدثنا أبو أسامة، عن إدريس، عن طلحة بن مصرف، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما (ولكل جعلنا موالي) قال: ورثة. (والذين عقدت أيمانكم) كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجر الأنصارىَّ دون ذوي رحمه للأخوة التي أخى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهم فلما نزلت (ولكل جعلنا موالي) نسخت. ثم قال (والذين عقدت أيمانكم) من النصر والرفادة والنصيحة وقد ذهب الميراث ويوصى له.
سمع أبو أسامة إدريس. سمع إدريس طلحة. (الصحيح 8/96 ح 4580- ك التفسير، سورة النساء) .
قال الحاكم: أخبرنا أبو العباس القاسم بن القاسم السياري. بمرو ثنا محمد بن موسى بن حاتم ثنا علي بن الحسن بن شقيق انبأ الحسين بن واقد عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما (والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) قال: كان الرجل يحالف الرجل ليس بينهما نسب ليرث أحدهما الآخر فنسخ الله ذلك بالأنفال (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) .
(المستدرك 4/346- ك الفرائض) . وسكت عنه وكذا الذهبي. وقد رويت عدة آثار في ذلك تقوي أثر ابن عباس وتشهد له. (انظر بيان ذلك في مرويات الإمام أحمد في التفسير 1/353) .
ومن هذه الآثار رواية الطبري عن ابن عباس التالية:
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الموالي، العصبة، يعنى: الورثة.(2/41)
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33) الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قوله (والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) فكان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الآخر، فأنزل الله (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا) الأحزاب: 6. يقول: إلا أن يوصوا لأوليائهم الذين عاقدوا وصية، فهو لهم جائز من ثلث مال الميت وذلك هو المعروف.
وانظر حديث مسلم عن جبير بن مطعم الآتي عند الآية (91) من سورة النحل: "لا حلف في الإسلام".
قوله تعالى (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم)
قال الترمذي: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا النضر بن شميل، أخبرنا محمد ابن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها".
(السنن 3/456 ح 1159- ك الرضاع، ب حق الزوج على المرأة) قال الترمذي: حسن غريب.
وقال الألبانى: حسن صحيح (صحيح الترمذى ح 926) . وأخرجه أحمد (المسند 4/381) من حديث عبد الله بن أبي أوفى، وله زيادة قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ... ولا تؤدي المرأة حق الله عز وجل عليها كله حتى تؤدي حق زوجها عليها كله" ... ) ، وأخرجه الحاكم من حديث قيس بن سعد وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 2/187) وصححه السيوطي (الجامع الصغير 5/329 ح 7482) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (الرجال قوامون على النساء) يعني: أمراء، عليها أن تطيعه فيما أمرها الله به من طاعته، وطاعته: أن تكون محسنة إلى أهله، حافظة لماله وفضله عليها بنفقته وسعيه..(2/42)
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
قوله تعالى (فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله)
قال الطبري: حدثني المثنى، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا أبو معشر قال، حدثنا سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك" قال: ثم قرأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الرجال قوامون على النساء) الآية.
(التفسير 8/295 ح 9328) ، وأخرجه الطيالسي (المسند ص 306 ح 2325) عن أبي معشر به. وقد تابع أبا معشر محمد بن عجلان: أخرجه النسائى (السنن 6/68- ك النكاح، ب أي النساء خير) . وأحمد (المسند 2/251، 432، 438) والحاكم (المستدرك 2/161) من طريق محمد بن عجلان عن سعيد المقرى به. قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي. وله شاهد من حديث عبد الله بن سلام، ذكره الهيثمي (المجمع 4/273) وقال: رواه الطبرانى وفيه زريك بن أبي زريك ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. قال الألبانى: وزريك معروف وثقة ... -ثم ذكر توثيق ابن معين له- ومن طريق الطبراني أخرجه الضياء في (المختارة 58/180/1/ق) ، (الصحيحة 4/453 ح 1838) وله شاهد أخر من حديث عبد الله بن عمر: أخرجه ابن ماجة (1/1857) . وصححه الألبانى (المصدر المتقدم) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قوله (قانتات) مطيعات..
وانظر تفسير سورة البقرة آية (116) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (حافظات للغيب بما حفظ الله) يعنى إذا كن هكذا فأصلحوا إليهن.
قوله تعالى (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر في هذه الآية الكريمة أن النشوز قد يحصل من النساء ولم يبين هل يحصل من الرجال نشوز أو لا؟ ولكنه بين في موضع أخر أن النشوز قد يحصل من الرجال. وهو قوله تعالى: (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً) .(2/43)
قال البخاري: حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن هشام عن أبيه عن عبد الله بن زمعة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يُجامعها في أخر اليوم".
(الصحيح 9/213 ح 5204-ك النكاح، ب ما يكره من ضرب النساء ... ) .
قال البخاري: حدثنا خالد بن مخلد حدثنا سليمان قال حدثني حميد عن أنس - رضي الله عنه - قال: آلى رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من نسائه شهراً، وقعد في مشربة له، فنزل لتسع وعشرين، فقيل: يا رسول الله إنك آليت شهراً، قال: "إن الشهر تسع وعشرون".
(الصحيح 9/112 ح 5201 -ك النكاح- ب قوله الله تعالى الآية ... ) .
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا حماد، أخبرنا أبو قزعة الباهلي، عن حكيم بن معاوية القشيري، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: "أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت -أو اكتسبت- ولا تضرب الوجه، ولا تُقبّح ولا تهجر إلا في البيت. قال أبو داود: "ولا تقبح الوجه" أن تقول: قبحك الله.
(السنن 2/244 ح 2142 -ك النكاح، ب في حق المرأة على زوجها) . وأخرجه أحمد (المسند 4/447) ، وابن حبان في صحيحه (الإحسان 6/188 ح 4163) ، والحاكم (المستدرك 2/187) كلهم من طريق أبي قزعة به، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. قال الألباني: حسن صحيح. (صحيح أبي داود ح 1875) .
انظر حديث مسلم عن جابر في صفة حجة الوداع المتقدم عند الآية (19) من السورة نفسها.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قوله (واللاتى تخافون نشوزهن) تلك المرأة تنشز وتستخف بحق زوجها ولا تطيع أمره فأمر الله عز وجل أن يعظها ويذكرها بالله، ويعظم حقه عليها، فإن قبلت وإلا هجرها في المضجع، ولا يكلمها من غير أن يذر نكاحها -وذلك عليها شديد- فإن رجعت وإلا ضربها ضربا غير مبرح ولا يكسر له(2/44)
عظما ولا يجرح لها جرحاً قال (فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا) يقول: "إذا أطاعتك فلا تتجن عليها العلل".
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: عظوهن فإن أطعنكم، وإلا فاهجروهن. والهجر أن لا يجامعها ويضاجعها على فراشها ويوليها ظهره.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مقاتل بن حيان قوله: (فلا تبغوا عليهن سبيلا) فحرم الله ضربهن عند الطاعة.
قوله تعالى (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا)
قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى الطبّاع، حدثني يحيى بن سليم، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن عبيد الله بن عياض بن عمرو القاري قال: جاء عبد الله بن شداد فدخل على عائشة ونحن عندها جلوس، مرجعه من العراق ليالى قتل على فقالت له: يا عبد الله بن شداد، هل أنت صادقي عما اسألك عنه؟ تحدثني عن هؤلاء القوم الذين قتلهم علي؟ قال: ومالي لا أصدُقك!
قالت: تحدثنى عن قصتهم، قال: فإن عليا لما كاتب معاوية وحكم الحكمان خرج عليه ثمانية ألاف من قرّاء الناس، فنزلوا بأرض يقال لها حروراء من جانب الكوفة، وإنهم عتبوا عليه فقالوا: انسلخت من قميصٍ ألبسكه الله تعالى، واسم سماك الله تعالى به، ثم انطلقت فحكّمت في دين الله، فلا حكم إلا لله تعالى، فلما أن بلغ عليا ما عتبوا عليه وفارقوه عليه، فأمر مؤذنا فأذن، أن لا يدخل على أمير المؤمنين إلا رجل قد حمل القرآن، فلما أن امتلأت الدار من قراء الناس دعا بمصحف إمام عظيم، فوضعه بين يديه، فجعل يصُكه بيده ويقول: أيها المصحف! حدّث الناس! فناداه الناس فقالوا: يا أمير المؤمنين، ما تسأل عنه؟
إنما هو مداد في ورق! ونحن نتكلم. بما روينا منه! فماذا تريد؟ قال: أصحابكم(2/45)
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35) وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)
هؤلاء الذين خرجوا، بيني وبينهم كتاب الله، يقول الله تعالى في كتابه في امرأة ورجل: (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفّق الله بينهما) فأمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعظم دما وحرمة من امرأة ورجل ...
(المسند ح 656) ، وصحح أحمد شاكر إسناده، وأخرجه الضياء (المختارة 2/222-226 ح 605) من طريق ابن أبي عمر العدني، عن يحيى بن سليم به. وقال ابن كثير: إسناده صحيح (البداية والنهاية 7/279-280) وصحح إسناده محقق الضياء) . وقال المنذري: رواه أحمد، بإسناد جيد (الترغيب 3/64) وقال الهيثمى رجاله ثقات (مجمع الزوائد 3/119) وحسنه السيوطي وصححه المناوى (فيض القدير شرح الجامع الصغير 5/423 ح 1824) وصححه الألبانى (صحيح الجامع رقم 5535) .
انظر تفسير سورة البقرة آية (137) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: فهذا الرجل والمرأة إذا تفاسد الذي بينهما، فأمر الله سبحانه أن يبعثوا رجلا صالحاً من أهل الرجل، ومثله من أهل المرأة، فينظران أيهما المسيء، فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا عنه امرأته وقصروه على النفقة، وإن كانت المرأة هي المسيئة، قصروها على زوجها ومنعوها النفقة، فإن اجتمع رأيهما على أن يفرقا أو يجمعا، فأمرهما جائز، فإن رأيا أن يجمعا، فرضي أحد الزوجين وكره ذلك الأخر، ثم مات أحدهما، فإن الذي رضي يرث الذي كره، ولا يرث الكاره الراضي وذلك قوله (إن يريدا إصلاحا) قال: هما الحكمان (يوفق الله بينهما) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قوله (إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما) وذلك الحكمان، وكذلك كل مصلح يوفقه الله للحق والصواب.
قوله تعالى (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً)
قال البخاري: حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا همام، حدثنا قتادة: حدثنا أنس ابن مالك، عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال، بينا أنا رديف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس بيني وبينه(2/46)
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)
إلا آخرة الرحل فقال: "يا معاذ"، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، ثم سار ساعة، ثم قال: يا معاذ، قلت لبيك رسول الله وسعديك ثم سار ساعة، ثم قال: يا معاذ بن جبل"، قلتُ: لبيك رسول الله وسعديك. قال: هل تدري ماحق الله على عباده؟ "قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "حق الله على عباده: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. ثم سار ساعة ثم قال: "يا معاذ بن جبل"، قلت: لبيك رسول الله وسعديك. قال: "هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه؟ "قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "حق العباد على الله أن لايعذبهم".
(الصحيح 11/345 ح 6500 -ك الرقاق- ب من جاهد نفسه في طاعة الله) .
قال البخاري: حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك قال حدثنا شعبة قال: الوليد بن العيزار أخبرنى قال: سمعت أبا عمرو الشيباني يقول: حدثنا صاحب هذه الدار -وأشار إلى دار عبد الله- قال: سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: "الصلاة على وقتها". قال: ثم أى؟ قال: "ثم برّ الوالدين". قال: ثم أيّ؟ قال: "الجهاد في سبيل الله". قال: حدثني بهن، ولو استزدته لزادني.
(الصحيح 2/12 ح 527- ك مواقيت الصلاة، ب فضل الصلاة لوقتها) .
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مقاتل بن حيان في قول الله تعالى (وبالوالدين إحسانا) فيما أمركم به من حق الوالدين.
قوله تعالى (وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم)
قال أحمد: ثنا إبراهيم بن أبي العباس قال ثنا بقية قال ثنا بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن المقدام بن معدي كرب قال قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة وما أطعمت زوجك فهو لك صدقة وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة".
(المسند 4/131) ، وأخرجه النسائي في الكبرى (5/382 ح 9204) من طريق عيسى بن أحمد عن بقية به. قال ابن كثير: إسناده صحيح ولله الحمد. (التفسير 2/264) .(2/47)
وانظر حديث أبي داود عن علي المتقدم عند الآية (83) من سورة البقرة.
وانظر حديث مسلم عن أبي هريرة المتقدم عند الآية (273) من سورة البقرة.
قال البخاري: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس قال حدثني مالك عن يحيى بن سعيد قال أخبرني أبو بكر بن محمد عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ما زال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت أنه سيورثه".
(الصحيح 10/455 ح 6014- ك الأدب، ب الوصاة بالجار) .
قال مسلم: حدثنا أبو كامل الجحدري وإسحاق بن إبراهيم -واللفظ لإسحاق- قال أبو كامل: حدثنا. وقال إسحاق: أخبرنا عبد العزيز بن عبد الصمد العمّى. حدثنا أبو عمران الجونى عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر.
قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا أبا ذر! إذا طبخت مرقة، فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك.
(الصحيح 4/2025- ك البر والصلة والآداب، ب الوصية بالجار، والإحسان إليه بعد رقم 2625) .
وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا الليث قال حدثني سعيد المقبري عن أبي شريح العدوي قال: سمعت أذناي وأبصرت عيناي حين تكلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم والآخر فليكرم ضيفه جائزته"، قيل: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: "يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت".
(الصحيح 10/445 ح 6019- ك الأدب، ب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره) .
قال الترمذي: حدثنا أحمد بن محمد. حدثنا عبد الله بن المبارك عن حيوة بن شُريح عن شرحبيل بن شريك عن أبي عبد الرحمن الحبلى عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره".(2/48)
(السنن 4/333 ح 1944 - ك البر والصلة، باب ما جاء في حق الجوار) . وقال: حدث حسن غريب.
وأخرجه الدارمي في سننه (2/215 - ك السير، باب في حسن الصحبه) من طريق عبد الله يزيد، عن حيوة وابن لهيعة، عن شرحبيل به. والحاكم في المستدرك (4/164) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، وتعقبهما الألباني: بأن ابن مسلم لم يخرج له الشيخان، وأن ابن شريك قد احتج به مسلم وحده، وهما ثقتان. ثم نقل عن ابن بشران قوله: حديث صحيح وإسناده كلهم ثقات قال: وهو كما قال (سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم 103) .
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قوله (والجار ذى القربي) الذي بينك وبينه قرابة.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قوله تعالى: (والجار الجنب) الذي ليس بينك وبينه قرابه.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قوله (والصاحب بالجنب) الرفيق.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (والصاحب بالجنب) ، وهو الرفيق في السفر.
قال الطبري حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة وابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وابن السبيل) ، هو الذي يمر عليك وهو مسافر.
وإسناده صحيح.
وانظر تفسير سورة البقرة آية (177) .
قال البخاري: حدثنا أدم بن أبي إياس، حدثنا شعبة، حدثنا واصل الأحدب قال: سمعت المعرور بن سويد قال: رأيت أبا ذر الغفاري - رضي الله عنه - وعليه حلة وعلى غلامه حلة، فسألناه عن ذلك فقال: إني ساببت رجلا فشكاني إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال لي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أعيَرته بأمِّه"؟ ثم قال: "إن إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا تُكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم".
(الصحيح 5/206 ح 2545- ك العتق، ب قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "العبيد إخوانكم") ، وأخرجه مسلم بنحوه عن أبي هريرة (الصحيح 3/1284 ح 1662 - ك الأيمان، ب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس، ولا يكلفه مايغلبه) .(2/49)
قوله تعالى (إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً)
قال أبو داود: حدثنا مسدد، ثنا يحيى، عن أبي غفار، ثنا أبو تميمة الهجيمى، -وأبو تميمة اسمه طريف بن مجالد- عن أبي جري جابر بن سليم، قال: رأيت رجلاً يصدر الناس عن رأيه، لا يقول شيئاً إلا صدروا عنه، قلت: من هذا؟
قالوا: هذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قلت: عليك السلام يا رسول الله مرتين، قال:
"لا تقل عليك السلام، فإن عليك السلام تحية الميت، قل: السلام عليك". قال: قلت: أنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: " أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك، وإن أصابك عامة سنة فدعوته أنبتها لك، وإذا كنت بأرض قفراء أو فلاة فضلت راحلتك فدعوته ردها عليك" قلت: اعهد إلى قال:
"لا تسبن أحداً" قال: فما سببت بعده حراً ولا عبداً ولا بعيراً ولا شاة، قال: "ولا تحقرن شيئاً من المعروف، وأن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك إن ذلك من المعروف، وارفع إزارك إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة، وإن امرؤ شتمك وعيرك بما يعلم فيك لا تعيره بما تعلم فيه فإنما وبال ذلك عليه".
(السنن 4/56 ح 4084 -ك اللباس- ب ما جاء في إسبال الإزار) ، وأخرجه الترمذى (السنن 5/72 ح 2722 -ك الاستئذان- ب ماجاء في كراهية أن يقول: عيك السلام مبتدئاً) من طريق أبي أسامة، عن أبي غفار به، وأخرجه أحمد (المسند 5/63-64) من طرق عدة، عن أبي تميمة به.
قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وصححه الحافظ ابن حجر (الفتح 11/5) . وقال الألبانى: صحيح (صحيح أبي داود ح 3442) .
وانظر حديث مسلم عن ابن مسعود الآتي عند سورة الأعراف آية (31) وهو حديث: "الكبر بطر الحق وغمط الناس".
قال أحمد: ثنا يزيد، أنا الأسود بن شيبان، عن يزيد أبو العلاء، عن مطرف ابن عبد الله بن الشخير، قال: بلغني عن أبي ذر حديث فكنت أحب أن ألقاه، فلقيته فقلت له: يا أبا ذر بلغنى عنك حديث فكنت أحب أن ألقاك فأسألك عنه.
فقال: قد لقيت فاسأل قال: قلت بلغنى أنك تقول سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول:(2/50)
"ثلاثة يحبهم الله عز وجل، وثلاثة يبغضهم الله عز وجل"؟ قال: نعم فما إخالنى أكذب على خليلى محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثلاثاً يقولها. قال: قلت من الثلاثة الذين يحبهم الله عز وجل؟ قال: رجل غزا في سبيل الله فلقى العدو مجاهداً محتسباً فقاتل حتى قتل وأنتم تجدون في كتاب الله عز وجل (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً) ورجل له جار يؤذيه فيصبر على أذاه ويحتسبه حتى يكفيه الله إياه. بموت أو حياة، ورجل يكون مع قوم فيسيرون حتى يشق عليهم الكرى أو النعاس فينزلون في آخر الليل فيقوم إلى وضوئه وصلاته. قال: قلت من الثلاثة الذين يبغضهم الله؟
قال: الفخور المختال وأنتم تجدون في كتاب الله عز وجل (إن الله لا يحب كل مختال فخور) والبخيل المنان، والتاجر والبياع الحلاف. قال: قلت يا أبا ذر ما المال؟ قال: فرق لنا وذرد. يعني بالفرق غنماً يسيرة. قال قلت لست عن هذا أسأل إنما أسألك عن صامت المال قال: ما أصبح لا أمسى وما أمسى لا أصبح.
قال: قلت: يا أبا ذر مالك ولإخوتك قريش؟ قال: والله لا أسألهم دنيا ولا أستفتيهم عن دين الله تبارك وتعالى حتى ألقى الله ورسوله. ثلاثاً يقولها.
(المسند 5/176) ، أخرجه الطيالسى (المسند 368) عن الأسود به، وأخرجه الطبرانى (المعجم الكبير ح 1637) ، والحاكم (المستدرك 2/88، 89) ، والبيهقي (السنن 9/160) كلهم من طريق الأسود به.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وقد تابع مطرفاً زيد بن ظبيان: أخرجه الترمذي (السنن4/698 ح 2568) والنسائى (السنن 5/84) وابن حبان (الإحسان 8/137 ح 3349) من طريق ربعى بن حِراش عن زيد بن ظبيان به مختصراً. قال الترمذي: هذا حديث صحيح. وقال الحافظ العراقى: إسناد جيد (تخريج الإحياء 4/1705 ح 2671) وصححه السيوطى (الجامع الصغير 3/335 ح 3550) ، وصححه الألبانى (صحيحح الجامع الصغير ح 3074) .
قوله تعالى (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً. والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله واليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قريناً فساء قريناً. وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم وكان الله بهم عليماً)
قال، أبو داود: حدثنا حفص بن عمر، ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن الحارث عن أبي كثير، عن عبد الله بن عمرو، قال: خطب رسول(2/51)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "إياكم والشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشح: أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا".
(السنن 2/133 ح 1698- ك الزكاة، ب في الشح) ، وأخرجه أحمد (المسند ح 6487) عن ابن أبي عدي. وابن حبان في صحيحه (الإحسان 11/579 ح 5176) من طريق ابن أبي عدي وأبى داود -لعله الطيالسي-. والحاكم (المستدرك 1/11) من طريق سليم بن حرب ومعاذ، كلهم عن شعبة به، وهو عندهم مطول فيه التحذير من الظلم والفحش والقطيعة وغير ذلك. قال الحاكم عن هذه الرواية: صحيحة سليمه من رواية المجروحين ... ولم يخرجاها. وقال الألبانى: صحيح (صحيح أبي داود ح /1489) وصححه محقق المسند والإحسان، وصححه السيوطي الجامع السيوطي (الجامع الصغير3/125 ح 2906) .
ْأخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل) إلى قوله (وكان الله بهم عليما) ما بين ذلك في اليهود.
قوله تعالى (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها)
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين في هذه الآية الكريمة أقل ما تضاعف به الحسنة، ولا أكثره ولكنه بين في موضع أخر أن أقل ما تضاعف به الحسنة عشر أمثالها، وهو قوله (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) وبين في موضع أخر أن المضاعفة ربما بلغت سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله وهو قوله (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل) الآية كما تقدم.
قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرا أنه لا يظلم أحدا من خلقه يوم القيامة مثقال حبة من خردل أو مثقال ذرة بل يوفيها له ويضاعفها له إن كانت حسنة كما قال تعالى (ونضع الموازين القسط) الآية وقال تعالى مخبرا عن لقمان أنه قال (يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله) الآية. وقال تعالى (يومئذ يصدر الناس أشتاتا فيروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) .(2/52)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)
قال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، حدتنا الليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري فذكر حديث رؤية الرب يوم القيامة مطولاً، وفيه: "فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه" فيخرجون من عرفوا. قال أبو سعيد: فإن لم تصدقوني فاقرءوا (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها) الحديث.
(الصحيح 13/431 ح 7439 - ك التوحيد، ب قوله تعالى (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة)) .
وانظر حيث مسلم عن أنس الآتي عند الآية (97) من سورة النحل.
قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج، ثنا عيسى بن يونس، عن هارون ابن عنترة، عن عبد الله بن السائب، عن زاذان قال: قال عبد الله ابن مسعود: يؤتى بالعبد والأمة يوم القيامة، فينادي مناد على رؤوس الأولين والآخرين: هذا فلان ابن فلان من كان له حق فليأت إلى حقه فتفرح المرأة أن يذوب لها الحق على أبيها أو على أخيها أو على زوجها فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون، فيغفر الله من حقه ما شاء ولا يغفر من حقوق الناس شيئا، فينصب للناس، فينادى: هذا فلان ابن فلان من كان له حق فليأت إلى حقه، فيقول: فنيت الدنيا من أين أوتيهم حقوقهم، قال: خذوا من أعماله الصالحة، فأعطوا كل ذى حق بقدر طلبته، فإن كان وليا لله، ففضل له مثقال ذرة ضاعفها الله له حتى يدخله الجنة، ثم قرأ علينا: (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) قال ادخل الجنة، وإن كان عبدا شقيا قال الملك: فنيت حسناته وبقي له طالبون كثير، قال: خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته، ثم صكوا له صكا من النار.
(رجاله ثقات إلا زاذان صدوق وهو أبو عمر الكندى، وهارون بن عنترة صدوق وإسناده صحيح) .(2/53)
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
قوله تعالى (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً)
قال مسلم: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب. جميعاً عن حفص. قال أبو بكر: حدثنا حفص بن غياث عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله قال: قال لى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اقرأ علىّ القرآن". قال فقلت: يا رسول الله! أقرأ عليك، وعليك أنزل؟ قال: "إني أشتهي أن أسمعه من غيري" فقرأت النساء. حتى إذا بلغت: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدأ) رفعت رأسي. أو غمزني رجل إلى جَنْبى فرفعت رأسي. فرأيت دموعه تسيل.
(الصحيح 1/551 ك صلاة المسافرين وقصرها ب فضل استماع القرآن ح /800) .
قوله تعالى (يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض) الآية
قال الشيخ الشنقيطي: على القراءات الثلاث معناه أنهم يستووا بالأرض، فيكونوا ترابا مثلها على أظهر الأقوال، ويوضح هذا المعنى قوله تعالى: (يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر ياليتني كنت ترابا) .
قوله تعالى (ولا يكتمون الله حديثا)
قال الشيخ الشنقيطي: بين في موضع أخر أن عدم الكتم المذكور هنا، إنما هو باعتبار إخبار أيديهم وأرجلهم بكل ماعملوا عند الختم على أفواههم إذا أنكروا شركهم ومعاصيهم وهو قوله تعالى: (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون) فلا يتنافى قوله (ولا يكتمون الله حديثا) مع قوله عنهم (والله ربنا ما كنا مشركين) وقوله عنهم أيضاً (ما كنا نعمل من سوء) وقوله عنهم (بل لم نكن ندعو من قبل شيئا) للبيان الذي ذكرنا والعلم عند الله تعالى.(2/54)
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
قال مسلم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن سعد بن طارق، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة قال: أتى الله بعبد من عباده، أتاه الله مالاً. فقال له: ماذا عملت في الدنيا؟ - قال: (ولا يكتمون الله حديثاً) - قال: يارب. أتيتني مالك، فكنت أبايع الناس، وكان من خلقي الجواز، فكنت أيسر على الموسر، وأنظر المعسر، فقال الله: أنا أحق بذا منك، تجاوزوا عن عبدي.
فقال عقبة بن عامر الجهني وأبو مسعود الأنصاري: هكذا سمعناه من في رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(الصحيح 3/1195 بعد رقم 1560- ك المساقاة، ب فضل إنظار المعسر) .
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون)
قال الترمذي: حدثنا سُويد: أخبرنا ابن المبارك عن سفيان عن الأعمش نحو حديث معاوية بن هشام. حدثنا عبد بن حميد. حدثنا عبد الرحمن بن سعد عن أبي جعفر الرازي عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب قال: صنع بنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذتِ الخمر منا، وحضرت الصلاة فقدّمونى فقرأتُ: (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون) . قال: فأنزل الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) .
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح كريب. (السنن 5/238 ح /3026) ، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، وأخرجه الضياء في (المختارة 2/187 ح 566) من طريق: إبراهيم بن خذم، عن عبد بن حميد به. وقال محققه: إسناده صحيح) .
وانظر حديث عمر في نزول تحريم الخمر المتقدم عند الآية (219) من سورة البقرة.(2/55)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
قوله تعالى (ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا)
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن هشام عن أبيه عن عائشة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "أن النبي كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه، ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يُدخل أصابعه في الماء فيُخلل بها أصول شعره، ثم يَصب على رأسه ثلاث غرف بيديه، ثم يفيض على جِلده كله".
وقال البخاري حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا سفيان عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن كريب عن ابن عباس عن ميمونة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: "توضأ رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وُضوءه للصلاة غير رجليه، وغسل فرجه وما أصابه من الأذى، ثم أفاض عليه الماء ثم نحّى رجليه فغسلهما" هذه غُسله من الجنابة.
(الصحيح 1/429 و431 ح 248، 249- ك الغسل، ب الوضوء قبل الغسل) .
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن يحيى بن ملك السوسي، ثنا أبو بدر، حدثني عبد الرحمن بن عبد الله، قال أبو بدر -وليس هو السعدي- عن المنهال ابن عمرو، عن زر بن حبيش عن علي قال: نزلت هذه الآية في المسافر (ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا) قال: إذا أجنب فلم يجد الماء تيمم، وصلى، حتى يدرك الماء فإذا أدرك الماء اغتسل وصلى.
(التفسير -سورة النساء آية 43 - ح 3196. وأخرجه الطبري (التفسير 8/379 ح 9537) من طريق ابن أبي ليلى، عن المنهال به. والإسناد حسن بهذه المتابعة (انظر حاشية تفسير ابن أبي حاتم) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (ولا جنبا إلا عابري سبيل) قال: مسافرين لا يجدون ماء.
قوله تعالى (وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً)
قال البخاري: حدثنا أدم قال حدثنا شعبة حدثنا الحكم عن ذرّ عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: إني(2/56)
أجنبتُ فلم أصب الماء. فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب: أما تذكر أنّا كنا في سفر أنا وأنت، فأمّا أنتَ فلم تصل، وأما أنا فتمعّكت فصليت، فذكرتُ للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كان يكفيك هكذا" فضرب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه.
(الصحيح 1/528 ح 338- ك التيمم، ب المتيمم هل ينفخ فيهما) ، وأخرجه مسلم (الصحيح ح 112، 113 - ك الحيض، باب التيمم) .
قال البخاري: حدثنا محمد أخبرنا عبدة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: هلكت قلادة لأسماء، فبعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في طلبها رجالاً فحضرت الصلاة وليسوا على وُضوء ولم يجدوا ماء، فصلّوا وهم على غير وضوء فأنزل الله. يعنى آية التيمم.
(الصحيح 8/100 ح 4583- ك التفسير، سورة النساء) .
وانظر حديث البخاري عن جابر بن عبد الله المتقدم عند الآية 151 من سورة آل عمران، وهو حديث: "أعطيت خمساً ... ".
قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عون، أخبرنا خالد الواسطى، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة ح وحدثنا مسدد: أخبرنا خالد -يعنى ابن عبد الله الواسطى- عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بُجدان، عن أبي ذر قال: اجتمعت غنيمة عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "يا أبا ذر، ابدُ فيها" فبدوتُ إلى الربذة، فكانت تصيبني الجنابة فأمكث الخمس والستّ، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "أبو ذر" فسكت، فقال: "ثكلتك أمك أبا ذر، لأمك الويل" فدعا لى بجارية سوداء، فجاءت بعس فيه ماء فسترتني بثوب، واستترت بالراحلة، واغتسلت فكأني ألقيت عني جبلاً، فقال: "الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسَّه جلدك، فإن ذلك خير.
وقال مسدد: غنيمة من الصدقة.(2/57)