به الانتظام ويصلح أمر الخاص والعام، ومنها تعيين مراتب التأديب والزجر على معاص وجنايات لم ينص الشارع فيها على حد معين بل فوض الأمر في ذلك لرأي الإمام فليس ذلك في المحادّة الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم في شيء بل فيه استيفاء حقه تعالى على أتم وجه لما فيه من الزجر عن المعاصي وهو أمر مهم للشارع عليه الصلاة والسلام. ويرشد إليه ما في تحفة المحتاج أن للإمام أن يستوفي التعزير إذا عفى صاحب الحق لأن الساقط بالعفو هو حق الآدمي، والذي يستوفيه الامام هو حق الله تعالى للمصلحة، وفي كتاب الخراج للإمام أبي يوسف عليه الرحمة إشارة إلى ذلك أيضا ولا يعكر على ذلك ونحوه قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3] لأن المراد إكماله من حيث تضمنه ما يدل على حكمه تعالى خصوصا أو عموما، ويرشد إلى هذا عدم النكير على أحد من المجتهدين إذا قال بشيء لم يكن منصوصا عليه بخصوصه، ومن ذلك ما ثبت بالقياس بأقسامه، نعم القانون الذي يكون وراء ذلك بأن كان مصادقا لما نطقت به الشريعة الغراء زائغا عن سنن المحجة البيضاء فيه ما فيه كما لا يخفى على العارف النبيه، وقد يقال في الآية على المعنى الذي ذكره البيضاوي: إن المراد بالموصول الواضعون لحدود الكفر وقوانينه كأئمة الكفر أو المختارون لها العاملون بها كأتباعهم، ثم إن الآية- على ما في البحر- نزلت في كفار قريش كُبِتُوا أي أخزوا كما قال قتادة، أو غيظوا كما قال الفراء أو ردّوا مخذولين- كما قال ابن زيد- أو أهلكوا كما قال أبو عبيدة والأخفش.
وعن أبي عبيدة أن تاءه بدل من الدال، والأصل- كبدوا- أي أصابهم داء في أكبادهم وقال السدي: لعنوا، وقيل: الكبت الكب وهو الإلقاء على الوجه، وفسره الراغب هنا بالرد بعنف وتذليل، وذلك إشارة عند الأكثرين إلى ما كان يوم الخندق، وقيل: إلى ما كان يوم بدر، وقيل: معنى كُبِتُوا سيكبتون على طريقة قوله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النحل: 1] وهو بشارة للمؤمنين بالنصر على الكفار وتحقق كبتهم.
كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من كفار الأمم الماضية المحادّين لله عز وجل ورسله عليهم الصلاة والسلام وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ حال من واو كُبِتُوا أي كبتوا لمحادّتهم، والحال أنا قد أنزلنا آيات واضحات فيمن حادّ الله تعالى ورسوله من قبلهم من الأمم وفيما فعلنا بهم، وقيل: آيات تدل على صدق الرسول وصحة ما جاء به وَلِلْكافِرِينَ أي بتلك الآيات أو بكل ما يجب الإيمان به فتدخل فيه تلك الآيات دخولا أوليا عَذابٌ مُهِينٌ يذهب بعزهم وكبرهم يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ منصوب بما تعلق به اللام من الاستقرار، أو- بمهين- أو بإضمار اذكر أي
__________
لأن حكم أكثر القضاة مخالف لحكم الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم في أكثر المسائل، والبلية العظمى انهم يسمون ذلك شرعا ومع ذلك يأخذون عليه ما يأخذون من المال ظلما فلمن لم يرض بالمرافعة عند هؤلاء القضاة العجزة ويرضى بالمرافعة عند أهل الأصول عذر لذلك.
ولقد سمعت في كثير أن أحد أسباب وضع الأصول الجديدة هؤلاء القضاة الظلمة حيث اتبعوا الهوى وحكموا بغير ما أنزل المولى جل وعلا ولم يمكن خلاص الشريعة من أيديهم وتطهير المحاكم من أرجاسهم لملاحظات مقبولة أو غير مقبولة فوضعوا ما يهون به في زعم الواضع شرهم ويهن به أمرهم ثم إن باطل أولئك القضاة لا قاعدة له فيتلون تلون الحرباء لأنه تابع لهوى الأنفس وتفاوت الرشا أمور أخرى وباطل غيرهم له قاعدة ما في الأغلب.
وقصارى الكلام أن ما خالف الشرع مردود كائنا ما كان ولا فرق في ذلك بين ما عليه أكثر القضاة اليوم بين الأصول المخالفة:
فإن لا يكنها أو تكنه فإنه ... أخوها غذته أمه بلبانها
وإلى الله تعالى المشتكى، وهو عز وجل حسبنا وكفى. انتهى كلامه.(14/216)
اذكر ذلك اليوم تعظيما له وتهويلا، وقيل منصوب بيكون مضمرا على أنه جواب لمن سأل متى يكون عذاب هؤلاء؟
فقيل له: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ أي يكون يوم إلخ، وقيل: بالكافرين وليس بشيء، وقوله تعالى: جَمِيعاً حال جيء به للتأكيد، والمعنى يبعثهم الله تعالى كلهم بحيث لا يبقى منهم أحد غير مبعوث، ويجوز أن يكون حالا غير مؤكدة أي يبعثهم مجتمعين في صعيد واحد فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا من القبائح ببيان صدورها عنهم أو بتصويرها في تلك النشأة بما يليق بها من الصور الهائلة على رؤوس الاشهاد تخجيلا لهم وتشهيرا بحالهم وزيادة في خزيهم ونكالهم، وقوله تعالى: أَحْصاهُ اللَّهُ استئناف وقع جوابا عما نشأ مما قبله من السؤال إما عن كيفية التنبئة أو عن سببها كأنه قيل:
كيف ينبئهم بأعمالهم وهي أعراض متقضية متلاشية؟ فقيل: أحصاه الله تعالى عددا ولم يفته سبحانه منه شيء، وقوله تعالى: وَنَسُوهُ حينئذ حال من مفعول- أحصى- بإضمار قد أو بدونه، أو قيل: لم ينبئهم بذلك؟ فقيل: أحصاه الله تعالى ونسوه فينبئهم به ليعرفوا أن ما عاينوه من العذاب إنما حاق بهم لأجله، وفيه مزيد توبيخ وتنديم لهم غير التخجيل والتشهير وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ لا يغيب عنه أمر من الأمور أصلا، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لإحصائه تعالى أعمالهم، وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ استشهاد على شمول شهادته تعالى أي ألم تعلم أنه عز وجل يعلم ما فيهما من الموجودات سواء كان ذلك بالاستقرار فيهما أو بالجزئية منهما.
وقوله تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إلخ استئناف مقرر لما قبله من سعة علمه تعالى، ويَكُونُ من كان التامة، ومِنْ مزيدة، ونَجْوى فاعل وهي مصدر بمعنى التناجي وهو المسارّة مأخوذة من النجوة وهي ما ارتفع من الأرض لأن المتسارين يخلوان وحدهما بنجوة من الأرض، أو لأن السر يصان فكأنه رفع من حضيض الظهور إلى أوج الخفاء، وقيل: أصل ناجيته من النجاة وهو أن تعاونه على ما فيه خلاصة أو أن تنجو بسرك من أن يطلع عليه وهي مضافة إلى ثَلاثَةٍ أي ما يقع من تناجي ثلاثة نفر وقد يقدر مضاف أي من ذوي نجوى، أو يؤول نجوى بمتناجين- فثلاثة- صفة للمضاف المقدر، أو لنجوى المؤوّل بما ذكر.
وجوز أن يكون بدلا أيضا والتأويل والتقدير المذكوران ليتأتى الاستثناء الآتي من غير تكلف، وفي القاموس النجوى السر والمسارون اسم مصدر، وظاهره أن استعماله في كل حقيقة فإذا أريد المسارون لم يحتج إلى تقدير أو تأويل لكن قال الراغب: إن النجوى أصله المصدر كما في الآيات بعد، وقد يوصف به فيقال: هو نجوى، وهم نجوى، قال تعالى: وَإِذْ هُمْ نَجْوى [الإسراء: 47] وعليه يحتمل أن يكون من باب زيد عدل.
وقرأ أبو جعفر وأبو حيوة وشيبة- ما تكون- بالتاء الفوقية لتأنيث الفاعل، والقراءة بالياء التحتية قال الزمخشري:
على أن النجوى تأنيثها غير حقيقي، ومِنْ فاصلة أو على أن المعنى ما يكون شيء من النجوى، واختار في الكشف الثاني، فقال: هو الوجه لأن المؤنث وحده لم يجعل فاعلا لفظا لوجود مِنْ ولا معنى لأن المعنى شيء منها، فالتذكير هو الوجه لفظا ومعنى، وهو قراءة العامة انتهى، وإلى نحوه يشير كلام صاحب اللوامح، وصرح بأن الأكثر في هذا الباب التذكير، وتعقبه أبو حيان بالمنع وأن الأكثر التأنيث وأنه القياس قال تعالى: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ [الأنعام: 4] ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها [الحجر: 5، المؤمنون: 43] فتأمل، وقوله سبحانه: إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ استثناء مفرغ من أعم الأحوال، والرابع لإضافته إلى غير مماثله هنا بمعنى الجاعل المصير لهم أربعة أي ما يكونون في حال من الأحوال إلا في حال تصيير الله تعالى لهم أربعة حيث إنه عز وجل يطلع أيضا على نجواهم، وكذا قوله تعالى: وَلا خَمْسَةٍ أي ولا نجوى خمسة إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى أي ولا نجوى أدنى مِنْ ذلِكَ أي مما ذكر كالاثنين والأربعة وَلا أَكْثَرَ كالستة وما فوقها.(14/217)
إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ يعلم ما يجري بينهم أَيْنَ ما كانُوا من الأماكن، ولو كانوا في بطن الأرض فإن علمه تعالى بالأشياء ليس لقرب مكاني حتى يتفاوت باختلاف الأمكنة قربا وبعدا، وفي الداعي إلى تخصيص الثلاثة والخمسة، وجهان: أحدهما أن قوما من المنافقين تخلفوا للتناجي مغايظة للمؤمنين على هذين العددين ثلاثة وخمسة، فقيل: ما يتناجى منهم ثلاثة ولا خمسة كما ترونهم يتناجون كذلك ولا أدنى من عددهم ولا أكثر إلا والله تعالى معهم يعلم ما يقولون. فالآية تعريض بالواقع على هذا، وقد روي عن ابن عباس أنها نزلت في ربيعة وحبيب ابني عمرو وصفوان بن أمية كانوا يوما يتحدثون فقال أحدهم: أترى أن الله يعلم ما نقول؟ فقال الآخر: يعلم بعضا ولا يعلم بعضا، وقال الثالث: إن كان يعلم بعضا فهو يعلمه كله أي لأن من علم بعض الأشياء بغير سبب فقد علمها كلها لأن كونه عالما بغير سبب ثابت له مع كل معلوم، والثاني أنه قصد أن يذكر ما جرت عليه العادة من أعداد أهل النجوى والجالسين في خلوة للشورى والمنتدبون لذلك إنما هم طائفة مجتباة من أولي الأحلام والنهى، وأول عددهم الاثنان فصاعدا إلى خمسة إلى ستة إلى ما اقتضته الحال، وحكم به الاستصواب، فذكر عز وجل الثلاثة والخمسة، وقال سبحانه: وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ فدل على الاثنين والأربعة، قال تعالى: وَلا أَكْثَرَ فدل على ما يلي هذا العدد ويقاربه كذا في الكشاف.
وفي الكشف في خلاصة الوجه الثاني أنه خص العددان على المعتاد من عدد أهل النجوى فإنهم قليلو العدد غالبا فلزم أن يخص بالذكر نحو الثلاثة والأربعة إلى الثمانية والتسعة فأوثر الثلاثة ليكون قوله تعالى: وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ دالا على ما تحتها إذ لو أوثر الأربعة والستة مثلا كان الأدنى الثلاثة دون الاثنين إلا على التوسع ولما أوثرت جيء بالخمسة لتناسب الوترين وكان الأمر دائرا بين الثلاثة والخمسة والأربعة والستة فأوثرا بالتصريح لذلك، ولأنه تعالى وتر يحب الوتر انتهى.
وقد يقال: إن التناجي يكون في الغالب للشورى وهي لا تكون إلا بين عدد وأهلها قليلو العدد غالبا، والأليق أن يكون وترا من الأعداد كالثلاثة والخمسة والسبعة والتسعة ليتحقق عند الاختلاف طرف يترجح بالزيادة على الطرف الآخر فيرجع إليه دونه كما هو العادة اليوم عند اختلاف أهل الشورى.
وجعل عمر رضي الله تعالى عنه الشورى في ستة لانحصار الأمر فيهم كما يدل على قوله لهم: نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم، ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم، وقد قبض رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وهو عنكم راض، ومع هذا أمر ابنه عبد الله رضي الله تعالى عنه أن يحضر معهم وإن لم يكن له من أمر الخلافة شيء، فدار الأمر بعد اعتبار ما ذكر من وترية العدد وقلته بين الثلاثة والخمسة والسبعة والتسعة فاختيرت الثلاثة لأنها أول الأوتار العددية وإذا ضربت في نفسها حصل منتهاها من الآحاد ولا يخلو منها اعتبار كل ممكن حتى أن المطالب الفكرية للمتناجين مثلا لا تتم بدون ثلاثة أشياء: الموضوع والمحمول والحدّ الأوسط بل القضية التي يتناجى لها لا بد فيها من ثلاثة أجزاء، والخمسة لأنها عدد دائر لا تنعدم بالضرب في نفسها، وكذا بضرب الحاصل في نفسه إلى ما لا يتناهى فلها شبه بالثلاثة من حيث إنها دائرة مع مراتب الضرب لا تنعدم أصلا كما أن الثلاثة دائرة مع اعتبارات الممكن لا تنعدم أصلا، ومع ذلك هي عدد المشاعر التي يحتاج إليها التناجي، وكذا عدد الحواس الظاهرة، ويدخل ما عداهما في عموم قوله تعالى: وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ ولا يدخل في العموم الواحد لأن التناجي للمشاورة لا بد فيه من اثنين فأكثر، ومن أدخله لم يعتبر التناجي لها ولا يضر دخول الأشفاع فيه لأن أليقية كون المتناجين وترا إنما كانت نكتة للتصريح بالعددين السابقين ولا تأبى تحقق النجوى في الأشفاع كما لا يخفى.(14/218)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
وادعى ابن سراقة أن النجوى مختصة بما كان بين أكثر من اثنين وأن ما يكون بين اثنين يسمى سرارا، وقال ابن عيسى: كل سرار نجوى، وفي الآية لطائف وأسرار لا يعقلها إلا العالمون فليتأمل.
وقرأ ابن أبي عبلة «ثلاثة» و «خمسة» بالنصب على الحال بإضمار يتناجون يدل عليه نجوى، أو على تأويل نجوى بمتناجين ونصبهما من المستكن فيه، وفي مصحف عبد الله- إلا الله رابعهم ولا أربعة إلا الله خامسهم ولا خمسة إلا الله سادسهم ولا أقل من ذلك ولا أكثر إلا الله معهم إذا انتجوا- وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق والأعمش وأبو حيوة وسلام ويعقوب «ولا أكثر» بالرفع قال الزمخشري: على أنه معطوف على محل- لا أدنى- كقولك: لا حول ولا قوة إلا بالله بفتح الحول ورفع القوة، ويجوز أن يعتبر «أدنى» مرفوعا على هذه القراءة ورفعهما على الابتداء، والجملة التي بعد إِلَّا هي الخبر، أو على العطف على محل مِنْ نَجْوى كأنه قيل: ما يكون أدنى ولا أكثر إلا هو معهم، وأَكْثَرَ على قراءة الجمهور يحتمل أن يكون مجرورا بالفتح معطوفا على لفظ نَجْوى كأنه قيل:
ما يكون من أدنى ولا أكثر إلا هو معهم، وأن يكون مفتوحا لأن لا لنفي الجنس، وقرأ كل من الحسن ويعقوب أيضا ومجاهد والخليل بن أحمد- ولا أكبر- بالباء الموحدة والرفع وهو على ما سمعت ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ تفضيحا لهم وإظهارا لما يوجب عذابهم.
وقرىء «ينبئهم» بالتخفيف والهمز، وقرأ زيد بن علي بالتخفيف وترك الهمز وكسر الهاء.
إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لأن نسبة ذاته المقتضي للعلم إلى الكل على السواء، وقد بدأ الله تعالى في هذه الآيات بالعلم حيث قال سبحانه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ إلخ، وختم جل وعلا بالعلم أيضا حيث قال الله تعالى:
أَنَّ اللَّهَ إلخ، ومن هنا قال معظم السلف فيما ذكر في البين من قوله عز وجل: رابِعُهُمْ وسادِسُهُمْ ومَعَهُمْ أن المراد به كونه تعالى كذلك بحسب العلم مع أنهم الذين لا يؤوّلون، وكأنهم لم يعدّوا ذلك تأويلا لغاية ظهوره واحتفافه بما يدل عليه دلالة لا خفاء فيها، ويعلم من هذا أن ما شاع من أن السلف لا يؤولون ليس على إطلاقه.(14/219)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما:
نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون دون المؤمنين وينظرون إليهم ويتغامزون بأعينهم عليهم يوهمونهم عن أقاربهم أنهم أصابهم شر فلا يزالون كذلك حتى تقدم أقاربهم فلما كثر ذلك منهم شكا المؤمنون إلى الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم فنهاهم أن يتناجوا دون المؤمنين فعادوا لمثل فعلهم، وقال مجاهد: نزلت في اليهود.
وقال ابن السائب: في المنافقين، والخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام والهمزة للتعجيب من حالهم، وصيغة المضارع للدلالة على تكرر عودهم وتجدده واستحضار صورته العجيبة، وقوله تعالى: وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ عطف عليه داخل في حكمه أي ويتناجون بما هو إثم في نفسه ووبال عليهم وتعدّ على المؤمنين وتواص بمخالفة الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم، وذكره عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة بين الخطابين المتوجهين- وإليه صلّى الله عليه وسلم- لزيادة تشنيعهم واستعظام معصيتهم.
وقرأ حمزة وطلحة والأعمش ويحيى بن وثاب ودويس- وينتجون- بنون ساكنة بعد الياء وضم الجيم مضارع انتجى، وقرأ أبو حيوة- العدوان- بكسر العين حيث وقع، وقرىء- معصيات- بالجمع ونسبت فيما بعد إلى الضحاك وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ
صح من رواية البخاري ومسلم وغيرها عن عائشة «أن ناسا من اليهود دخلوا على رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم فقال عليه الصلاة والسلام:
وعليكم، قالت عائشة: وقلت: عليكم السام ولعنكم الله وغضب عليكم»
وفي رواية «عليكم السام والذام واللعنة، فقال عليه الصلاة والسلام: يا عائشة إن الله لا يحب الفاحش ولا المتفحش، فقلت: ألا تسمعهم يقولون: السام؟! فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: أو ما سمعت أقول: وعليكم؟! فأنزل الله تعالى وَإِذا جاؤُكَ» الآية.
وأخرج أحمد والبيهقي في شعب الإيمان بسند جيد عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم سام عليك يريدون بذلك شتمه ثم يقولون في أنفسهم: لولا يعذبنا الله بما نقول فنزلت هذه الآية وَإِذا جاؤُكَ إلخ، والسام قال ابن الأثير: المشهور فيه ترك الهمز ويعنون به الموت،(14/220)
وجاء في رواية مهموزا ومعناه أنكم تسأمون دينكم، وصرح الخفاجي بأنه بمعنى الموت عبراني، ولم يذكر فيه الهمز وتركه.
وقال الطبرسي: من قال: السام الموت فهو من سأم الحياة بذهابها وهذا إرجاع له إلى المهموز، وجعل البيضاوي من التحية التي لم يحيه بها الله تعالى تحيتهم له عليه الصلاة والسلام بأنعم صباحا وهي تحية الجاهلية كعم صباحا ولم نقف على أثر في ذلك، وقوله تعالى: وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أي فيما بينهم، وجوّز إبقاؤه على ظاهره لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ أي هلا يعذبنا الله تعالى بسبب ذلك لو كان محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم نبيا- أي لو كان نبيا عذبنا الله تعالى بسبب ما نقول من التحية- أوفق بالأول لأن أنعم صباحا دعاء بخير والعدول إليه عن تحية الإسلام التي حيا الله تعالى بها رسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم، وأشير إليها بقوله تعالى: سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [الصافات: 181] وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى [النمل: 59] وما جاء في التشهد «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته» ليس فيه كثير إثم يتوقع معه التعذيب الدنيوي حتى أنهم يقولون ذلك إذا لم يعذبوا اللهم إلا إذا انضم إليه أنهم قصدوا بذلك تحقيرا وإعلانا بعدم الاكتراث، ولعل قائل ذلك هم المنافقون من المشركين وهو أظهر من كون قائله اليهود، وحكم التحية به اليوم أنها خلاف السنة، والقول بالكراهة غير بعيد.
وفي تحفة المحتاج لا يستحق مبتدى بنحو صبحك الله بالخير أو قواك الله جوابا ودعاؤه له في نظيره حسن إلا أن يقصد بإهماله له تأديبه لتركه سنة السلام انتهى، وأنعم صباحا نحو صبحك الله بالخير، غاية ما في الباب أنه مجلسه صلّى الله تعالى عليه وسلم، والجمع لتعدده باعتبار من يجلس معه عليه الصلاة والسلام فإن لكل أجد منهم مجلسا، وفي أخبار سبب النزول ما يؤيد كلا،
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان «كان صلّى الله عليه وسلم يوم جمعة في الصفة وفي المكان ضيق وكان عليه الصلاة والسلام يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار فجاء ناس من أهل بدر منهم ثابت بن قيس بن شماس وقد سبقوا إلى المجالس فقاموا حيال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالوا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته فرد النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم ثم سلموا على القوم فردوا عليهم فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فلم يفسحوا لهم فشق ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال لبعض من حوله: قم يا فلان ويا فلان فأقام نفرا مقدار من قدم فشق ذلك عليهم وعرفت كراهيته في وجوههم، وقال المنافقون: ما عدل بإقامة من أخذ مجلسه وأحب قربه لمن تأخر عن الحضور فأنزل الله تعالى هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا»
إلخ، وكان ذلك ممن لم يفسح تنافسا في القرب من رسول الله صلّى الله عليه وسلم ورغبة فيه ولا تكاد نفس تؤثر غيرها بذلك.
وقال الحسن ويزيد بن أبي حبيب: كان الصحابة يتشاحون في مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في الشهادة فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ، والأكثرون على أنها نزلت لما كان عليه المؤمنون من التضام في مجلسه صلّى الله تعالى عليه وسلم والضنة بالقرب منه وترك التفسح لمقبل وأيا ما كان فالحكم مطرد في مجلسه عليه الصلاة والسلام ومصاف القتال وغير ذلك، وقرىء في- المجلس- بفتح اللام، فإما أن يراد به ما أريد بالمكسور والفتح شاذ في الاستعمال، وإما أن يراد به المصدر، والجار متعلق- بتفسحوا- أي إذا قيل لكم توسعوا في جلوسكم ولا تضايقوا فيه فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ أي في رحمته أو في منازلكم في الجنة أو في قبوركم أو في صدوركم أو في رزقكم أقوال.
وقال بعضهم: المراد يفسح سبحانه لكم في كل ما تريدون الفسح فيه أي مما ذكر وغيره، وأنت تعلم أن الفسح يختلف المراد منه باختلاف متعلقاته كالمنازل والرزق والصدر فلا تغفل وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا أي انهضوا(14/221)
للتوسعة على المقبلين فَانْشُزُوا فانهضوا ولا تتثبطوا، وأصله من النشز وهو المرتفع من الأرض فإن مريد التوسعة على المقبل يرتفع إلى فوق فيتسع الموضع، أو لأن النهوض نفسه ارتفاع قال الحسن وقتادة والضحاك: المعنى إذا دعيتم إلى قتال أو صلاة أو طاعة فأجيبوا، وقيل: إذا دعيتم إلى القيام عن مجلس النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فقوموا، وهذا لأنه عليه الصلاة والسلام كان يؤثر أحيانا الانفراد في أمر الإسلام أو لأداء وظائف تخصه صلّى الله تعلى عليه وسلم لا تتأتى أو لا تكمل بدون الانفراد، وعمم الحكم فقيل: إذا قال صاحب مجلس لمن في مجلسه: قوموا ينبغي أن يجاب، وفعل ذلك لحاجة إذا لم يترتب عليه مفسدة أعظم منها مما لا نزاع في جوازه، نعم لا ينبغي لقادم أن يقيم أحدا ليجلس في مجلسه،
فقد أخرج مالك والبخاري ومسلم والترمذي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قال: «لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ولكن تفسحوا وتوسعوا» .
وقرأ الحسن والأعمش وطلحة وجمع من السبعة- انشزوا فانشزوا- بكسر الشين منهما.
يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ جواب الأمر كأنه قيل: إن تنشزوا يرفع عز وجل المؤمنين منكم في الآخرة دعاء كان يستعمل تحية في الجاهلية، نعم تحيتهم به له عليه الصلاة والسلام على الوجه الذي قصدوه حرام بلا خلاف حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ عذابا يَصْلَوْنَها يدخلونها أو يقاسون حرها أو يصطلون بها.
فَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي جهنم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ في أنديتكم وفي خلواتكم.
فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ كما يفعله المنافقون، فالخطاب للخلّص تعريضا بالمنافقين، وجوز جعله لهم وسموا مؤمنين باعتبار ظاهر أحوالهم.
وقرأ الكوفيون والأعمش وأبو حيوة ورويس- فلا تنتجوا- مضارع انتجى، وقرأ ابن محيصن- فلا تناجوا- بإدغام التاء في التاء، وقرىء بحذف إحداهما وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى بما يتضمن خبر المؤمنين والاتقاء عن معصية الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم وَاتَّقُوا فيما تأتون وما تذرون اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ وحده لا إلى غيره سبحانه استقلالا أو اشتراكا تُحْشَرُونَ فيجازيكم على ذلك إِنَّمَا النَّجْوى المعهودة التي هي التناجي بالإثم والعدوان والمعصية مِنَ الشَّيْطانِ لا من غيره باعتبار أنه هو المزين لها والحامل عليها، وقوله تعالى: لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا خبر آخر أي إنما هي ليحزن المؤمنين بتوهمهم أنها في نكبة أصابتهم، وقرىء «ليحزن» بفتح الياء والزاي- فالذين- فاعل وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ أي ليس الشيطان أو التناجي بضار المؤمنين شَيْئاً من الأشياء أو شيئا من الضرر إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي إلا بإرادته ومشيئته عز وجل، وذلك بأن يقضي سبحانه الموت أو الغلبة على أقاربهم وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ولا يبالوا بنجواهم.
وحاصله أن ما يتناجى المنافقون به مما يحزن المؤمنين إن وقع فبإرادة الله تعالى ومشيئته لا دخل لهم فيه فلا يكترث المؤمنون بتناجيهم وليتوكلوا على الله عز وجل ولا يحزنوا منه، فهذا الكلام لإزالة حزنهم، ومنه ضعف ما أشار إليه الزمخشري من جواز أن يرجع ضمير- ليس بضارهم- للحزن، وأجيب بأن المقصود يحصل عليه أيضا فإنه إذا قيل: إن هذا الحزن لا يضرهم إلا بإرادة الله تعالى اندفع حزنهم، هذا ومن الغريب ما قيل: إن الآية نازلة في المنامات التي يراها المؤمن في النوم تسوؤه ويحزن منها فكأنها نجوى يناجى بها، وهذا على ما فيه لا يناسب السباق والسياق كما لا يخفى، ثم إن التناجي بين المؤمنين قد يكون منهيا عنه،
فقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس من أجل أن ذلك يحزنه»
ومثل التناجي في ذلك أن يتكلم اثنان بحضور ثالث بلغة لا يفهمها الثالث إن كان يحزنه ذلك، ولما نهى(14/222)
سبحانه عن التناجي والسرار علم منه الجلوس مع الملأ فذكر جل وعلا آدابه بعده بقوله عز من قائل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ إلخ ولما نهى عز وجل عما هو سبب للتباغض والتنافر أمر سبحانه بما هو سبب للتواد والتوافق أي إذا قال لكم قائل كائنا من كان: توسعوا فليفسح بعضكم عن بعض في المجالس ولا تتضاموا فيها، من قولهم: افسح عني أي تنح، والظاهر تعلق فِي الْمَجالِسِ بتفسحوا، وقيل: متعلق- بقيل..
وقرأ الحسن وداود بن أبي هند وقتادة وعيسى- تفاسحوا- وقرأ الأخيران وعاصم في المجالس، والجمهور في- المجلس- بالإفراد، فقيل: على إرادة الجنس لقراءة الجمع، وقيل: على إرادة العهد، والمراد به جزاء للامتثال وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الشرعي دَرَجاتٍ أي كثيرة جليلة كما يشعر به المقام، وعطف- الذين أوتوا العلم- على الَّذِينَ آمَنُوا من عطف الخاص على العام تعظيما لهم بعدّهم كأنهم جنس آخر، ولذا أعيد الموصول في النظم الكريم،
وقد أخرج الترمذي وأبو داود والدارمي عن أبي الدرداء مرفوعا «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» .
وأخرج الدارمي عن عمر بن كثير عن الحسن قال: قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام فبينه وبين النبيين درجة»
وعنه صلّى الله تعالى عليه وسلم «بين العالم والعابد مائة درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة»
وعنه عليه الصلاة والسلام «يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء»
، فأعظم بمرتبة بين النبوة والشهادة بشهادة الصادق المصدوق صلّى الله تعالى عليه وسلم، وعن ابن عباس «خيّر سليمان عليه السلام بين العلم والملك والمال فاختار العلم فأعطاه الله تعالى الملك والمال تبعا له» .
وعن الأحنف «كاد العلماء يكونون أربابا» وكل عز لم يوطد بعلم فإلى ذل ما يصير، وعن بعض الحكماء: ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم؟ وأي شيء فاته من أدرك العلم؟ والدال على فضل العلم والعلماء أكثر من أن يحصى، وأرجى حديث عندي في فضلهم ما
رواه الإمام أبو حنيفة في مسنده عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «يجمع الله العلماء يوم القيامة فيقول: إني لم أجعل حكمتي في قلوبكم إلا وأنا أريد بكم الخير اذهبوا إلى الجنة فقد غفرت لكم على ما كان منكم» .
وذكر العارف الياس الكوراني أنه أحد الأحاديث المسلسلة بالأولية، ودلالة الآية على فضلهم ظاهرة بل أخرج ابن المنذر عن ابن مسعود أنه قال: ما خص الله تعالى العلماء في شيء من القرآن ما خصهم في هذه الآية- فضل الله الذين آمنوا وأوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم بدرجات- وجعل بعضهم العطف عليه للتغاير بالذات بحمل الَّذِينَ آمَنُوا على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم، وفي رواية أخرى عنه يا أيها الذين آمنوا افهموا معنى هذه الآية ولترغبكم في العلم فإن الله تعالى يرفع المؤمن العالم فوق الذي لا يعلم.
وادعى بعضهم أن في كلامه رضي الله تعالى عنه إشارة إلى أن- الذين أوتوا- معمول لفعل محذوف والعطف من عطف الجمل أي ويرفع الله تعالى الذين أوتوا العلم خاصة درجات، ونحوه كلام ابن عباس فقد أخرج عنه ابن المنذر والبيهقي في المدخل والحاكم وصححه أنه قال في الآية: يرفع الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤتوا العلم درجات.
وقال بعض المحققين: لا حاجة إلى تقدير العامل، والمعنى على ذلك من غير تقدير، واختار الطيبي التقدير وجعل الدرجات معمولا لذلك المقدر، وقال: يضمر للمذكور أحط منه مما يناسب المقام نحو أن يقال: يرفع الله(14/223)
الذين آمنوا في الدنيا بالنصر وحسن الذكر أو يرفعهم في الآخرة بالإيواء إلى ما يليق بهم من غرف الجنات، ويرفع الذين أوتوا العلم درجات تعظيما لهم، وجوز كون المراد بالموصولين واحدا والعطف لتنزيل تغاير الصفات بمنزلة تغاير الذات، فالمعنى يرفع الله المؤمنين العالمين درجات، وكون العطف من عطف الخاص على العام هو الأظهر، وفي الانتصاف في الجزاء برفع الدرجات مناسبة للعمل المأمور به وهو التفسيح في المجالس وترك ما تنافسوا فيه من الجلوس في أرفعها وأقربها من النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فلما كان الممتثل لذلك يخفض نفسه عما يتنافس فيه من الرفعة امتثالا وتواضعا جوزي على تواضعه برفع الدرجات كقوله: من تواضع لله تعالى رفعه الله تعالى، ثم لما علم سبحانه أن أهل العلم بحيث يستوجبون عند أنفسهم وعند الناس ارتفاع مجالسهم خصهم بالذكر عند الجزاء ليسهل عليهم ترك ما لهم من الرفعة في المجلس تواضعا لله عز وجل.
وقيل: إنه تعالى خص أهل العلم ليسهل عليهم ترك ما عرفوا بالحرص عليه من رفعة المجالس وحبهم للتصدير، وهذا من مغيبات القرآن لما ظهر من هؤلاء في سائر الأعصار من التنافس في ذلك.
والخفاجي أدرج هذا في نقل كلام صاحب الانتصاف وكلامه على ما سمعته أوفق بالأدب مع أهل العلم، ولا أظن- بالذين أوتوا العلم- المذكورين في الآية أنهم كالعلماء الذين عرّض بهم الخفاجي، نعم إنه عليه الرحمة صادق فيما قال بالنسبة إلى كثير من علماء آخر الزمان كعلماء زمانه وكعلماء زماننا- لكن كثير من هؤلاء- إطلاق اسم العالم على أحدهم مجاز لا تعرف علاقته، ومع ذلك قد امتلأ قلبه من حب الصدر وجعل يزاحم العلماء حقيقة عليه ولم يدر أن محله لو أنصف العجز، هذا واستدل غير واحد بالآية على تقديم العلم ولو باهليا شابا على الجاهل ولو هاشميا شيخا، وهو بناء على ما تقدم من معناها لدلالتها على فضل العالم على غيره من المؤمنين وأن الله تعالى يرفعه يوم القيامة عليه، ويجعل منزلته فوق منزلته فينبغي أن يكون محله في مجالس الدنيا فوق محل الجاهل.
وقال الجلال السيوطي في كتاب الأحكام قال قوم: معنى الآية يرفع الله تعالى المؤمنين العلماء منكم درجات على غيرهم فلذلك أمر بالتفسح من أجلهم، ففيه دليل على رفع العلماء في المجالس والتفسح لهم عن المجالس الرفيعة انتهى.
وهذا المعنى الذي نقله ظاهر في أن المتعاطفين متحدان بالذات والعطف لجعل تغاير الصفات بمنزلة تغاير الذات وهو احتمال بعيد، ويظهر منه أيضا أنه ظن رفع يرفع على أن الجملة استئناف وقع جوابا عن السؤال عن علة الأمر السابق مع أن الأمر ليس كذلك، ويحتمل أنه علم أنه مجزوم في جواب الأمر لكن لم يعتبر كون الرفع درجات جزاءه الامتثال على نحو كون الفسح قبله جزاءه فتأمله وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ تهديد لمن لم يمتثل بالأمر واستكره، وقرىء بما- يعملون- بالياء التحتانية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ أي إذا أردتم المناجاة معه عليه الصلاة والسلام لأمر ما من الأمور فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً أي فتصدقوا قبلها، وفي الكلام استعارة تمثيلية، وأصل التركيب يستعمل فيمن له يدان أو مكنية بتشبيه النجوى بالإنسان، وإثبات اليدين تخييل، وفي بَيْنَ ترشيح على ما قيل، ومعناه قبل، وفي هذا الأمر تعظيم الرسول صلّى الله عليه وسلم ونفع للفقراء وتمييز بين المخلص والمنافق ومحب الآخرة ومحب الدنيا ودفع للتكاثر عليه صلّى الله تعالى عليه وسلم من غير حاجة مهمة،
فقد روي عن ابن عباس وقتادة أن قوما من المسلمين كثرت مناجاتهم للرسول عليه الصلاة والسلام في غير حاجة إلا لتظهر منزلتهم وكان صلّى الله عليه وسلم سمحا لا يرد أحدا فنزلت هذه الآية.
وعن مقاتل أن الأغنياء كانوا يأتون النبي صلّى الله عليه وسلم فيكثرون مناجاته ويغلبون الفقراء على المجالس حتى كره عليه(14/224)
الصلاة والسلام طول جلوسهم ومناجاتهم فنزلت
، واختلف في أن الأمر للندب أو للجواب لكنه نسخ بقوله تعالى:
أَأَشْفَقْتُمْ إلخ، وهو وإن كان متصلا به تلاوة لكنه غير متصل به نزولا، وقيل: نسخ بآية الزكاة والمعول عليه الاول، ولم يعين مقدار الصدقة ليجزي الكثير والقليل،
أخرج الترمذي وحسنه وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: لما نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ إلخ قال لي النبي صلّى الله عليه وسلم: «ما ترى في دينار؟ قلت: لا يطيقونه، قال:
نصف دينار؟ قلت: لا يطيقونه، قال: فكم؟ قلت: شعيرة، قال: فإنك لزهيد» فلما نزلت أَأَشْفَقْتُمْ الآية قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «خفف الله عن هذه الأمة»
ولم يعمل بها على المشهور غيره كرم الله تعالى وجهه،
أخرج الحاكم وصححه وابن المنذر وعبد بن حميد وغيرهم عنه كرم الله تعالى وجهه أنه قال: إن في كتاب الله تعالى لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي آية النجوى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ إلخ كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم فكنت كلما ناجيت النبي صلّى الله عليه وسلم قدمت بين يدي نجواي درهما ثم نسخت فلم يعمل بها أحد، فنزلت أَأَشْفَقْتُمْ الآية
، قيل: وهذا على القول بالوجوب محمول على أنه لم يتفق للأغنياء مناجاة في مدة بقاء الحكم، واختلف في مدة بقائه، فعن مقاتل أنها عشرة ليال، وقال قتادة: ساعة من نهار، وقيل: إنه نسخ قبل العمل به ولا يصح لما صح أنفا.
وقرىء- صدقات- بالجمع لجمع المخاطبين ذلِكَ أي تقديم الصدقات خَيْرٌ لَكُمْ لما فيه من الثواب وَأَطْهَرُ وأزكى لأنفسكم لما فيه من تعويدها على عدم الاكتراث بالمال وإضعاف علاقة حبه المدنس لها، وفيه إشارة إلى أن في ذلك إعداد النفس لمزيد الاستفاضة من رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم عند المناجاة.
وفي الكلام إشعار بندب تقديم الصدقة لكن قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي لمن لم يجد حيث رخص سبحانه له في المناجاة بلا تقديم صدقة أظهر إشعارا بالوجوب.
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ أي أخفتم الفقر لأجل تقديم الصدقات فمفعول أَشْفَقْتُمْ محذوف، وأَنْ على إضمار حرف التعليل، ويجوز أن يكون المفعول أَنْ تُقَدِّمُوا فلا حذف أي أخفتم تقديم الصدقات لتوهم ترتيب الفقر عليه، وجمع الصدقات لما أن الخوف لم يكن في الحقيقة من تقديم صدقة واحدة لأنه ليس مظنة الفقر بل من استمرار الأمر، وتقديم صَدَقاتٍ وهذا أولى مما قيل: إن الجمع لجمع المخاطبين إذ يعلم منه وجه إفراد الصدقة فيما تقدم على قراءة الجمهور فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا ما أمرتم به وشق عليكم ذلك وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بأن رخص لكم المناجاة من غير تقديم صدقة، وفيه على ما قيل: إشعار بأن إشفاقهم ذنب تجاوز الله تعالى عنه لما رؤي منهم من الانقياد وعدم خوف الفقر بعد ما قام مقام نوبتهم و (إذ) على بابها أعني أنها ظرف لما مضى، وقيل: إنها بمعنى- إذ- الظرفية للمستقبل كما قوله تعالى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ [غافر: 71] .
وقيل: بمعنى إن الشرطية كأنه قيل: فإن لم تفعلوا فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ والمعنى على الأول إنكم تركتم ذلك فيما مضى فتداركوه بالمثابرة على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، واعتبرت المثابرة لأن المأمورين مقيمون للصلاة ومؤتون للزكاة، وعدل عن فصلوا إلى فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ليكون المراد المثابرة على توفية حقوق الصلاة ورعاية ما فيه كما لها لا على أصل فعلها فقط، ولما عدل عن ذلك لما ذكر جيء بما بعده على وزانه ولم يقل وزكوا لئلا يتوهم أن المراد الأمر بتزكية النفس كذا قيل فتدبر وَأَطِيعُوا اللَّهَ(14/225)
وَرَسُولَهُ
أي في سائر الأوامر، ومنها ما تقدم في ضمن قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا الآيات وغير ذلك. وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ظاهرا وباطنا.
وعن أبي عمرو و «يعملون» بالتحتية أَلَمْ تَرَ تعجيب من حال المنافقين الذين كانوا يتخذون اليهود أولياء ويناصحونهم وينقلون إليهم أسرار المؤمنين، وفيه على ما قال الخفاجي: تلوين للخطاب بصرفه عن المؤمنين إلى الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم أي ألم تنظر إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا أي والوا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وهم اليهود ما هُمْ أي الذين تولوا مِنْكُمْ معشر المؤمنين وَلا مِنْهُمْ أي من أولئك القوم المغضوب عليهم أعني اليهود لأنهم منافقون مذبذبون بين ذلك،
وفي الحديث «مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين غنمين- أي المترددة بين قطيعين- لا تدري أيهما تتبع» .
وجوز ابن عطية أن يكون هُمْ للقوم، وضمير مِنْهُمْ للذين تولوا، ثم قال: فيكون فعل المنافقين على هذا أخس لأنهم تولوا مغضوبا عليهم ليسوا من أنفسهم فيلزمهم ذمامهم ولا من القوم المحقين فتكون الموالاة صوابا:
والأول هو الظاهر والجملة عليه مستأنفة، وجوز كونها حالا من فاعل تَوَلَّوْا ورد بعدم الواو، وأجيب بأنهم صرحوا بأن الجملة الاسمية المثبتة أو المنفية إذا وقعت حالا تأتي بالواو فقط وبالضمير فقط وبهما معا، وما هاهنا أتت بالضمير أعني هم، وعلى ما قال ابن عطية: في موضع الصفة لقوم.
وذكر المولى سعد الله أن في مِنْكُمْ التفاتا، وتعقب بأنه إن غلب فيه خطاب الرسول صلّى الله عليه وسلم فظاهر أنه لا التفات فيه وإن لم يغلب فكذلك لا التفات فيه إذ ليس فيه مخالفة لمقتضى الظاهر لسبق خطابهم قبله، وفي جعله التفاتا على رأي السكاكي نظر وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ عطف على تَوَلَّوْا داخل في حيز التعجيب، وجوز عطفه على جملة ما هُمْ مِنْكُمْ وصيغة المضارع للدلالة على تكرر الحلف، وقوله تعالى: وَهُمْ يَعْلَمُونَ حال من فاعل- يحلفون- مفيدة لكمال شناعة ما فعلوا فإن الحلف على ما يعلم أنه كذب في غاية القبح، واستدل به على أن الكذب يعم ما يعلم المخبر مطابقته للواقع وما لا يعلم مطابقته له فيرد به على مذهبي النظام والجاحظ إذ عليهما لا حاجة اليه، وبحث فيه أنه يجوز أن يراد بالكذب ما خالف اعتقادهم وَهُمْ يَعْلَمُونَ بمعنى يعلمون خلافه فيكون جملة حالية مؤكدة لا مقيدة، نعم التأسيس هو الأصل لكنه غير متعين، والاحتمال يبطل الاستدلال والكذب الذي حلفوا عليه دعواهم الإسلام حقيقة، وقيل: إنهم ما شتموا النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم بناء على ما
روي «أنه كان رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم جالسا في ظل حجرة من حجره وعنده نفر من المسلمين، فقال: إنكم سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان فإذا جاءكم فلا تكلموه فلم يلبثوا أن طلع عليهم رجل أزرق فقال عليه الصلاة والسلام حين رآه: علام تشتمني أنت وأصحابك فقال: ذرني آتك بهم فانطلق فدعاهم فحلفوا» فنزلت، وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن عباس إلا أن آخره «فأنزل الله يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ [المجادلة: 18] » الآية
والتي بعدها، ولعله يؤيد أيضا اعتبار كون الكذب دعواهم أنهم ما شتموا.
وفي البحر رواية نحو ذلك عن السدي ومقاتل، وهو- أنه عليه الصلاة والسلام قال لأصحابه: يدخل عليكم رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق أسمر خفيف اللحية فقال صلّى الله عليه وسلم: علام تشتمني أنت وأصحابك فحلف بالله ما فعل فقال له: فعلت فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه- فنزلت
، والله تعالى أعلم بصحته.(14/226)
وعبد الله هذا هو الرجل المبهم في الخبر الأول، وهو ابن نبتل بفتح النون وسكون الباء الموحدة وبعدها تاء مثناة من فوق ولام ابن الحارث بن قيس الأنصاري الأوسي ذكره ابن الكلبي والبلاذري في المنافقين، وذكره أبو عبيدة في الصحابة فيحتمل كما قال ابن حجر: إنه اطلع على أنه تاب، وأما قوله في القاموس: عبد الله بن نبيل- كأمير- من المنافقين فيحتمل أنه هو هذا، واختلف في ضبط اسم أبيه ويحتمل أنه غيره أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ بسبب ذلك عَذاباً شَدِيداً نوعا من العذاب متفاقما إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ما اعتادوا عمله وتمرنوا عليه اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ الفاجرة التي يحلفون بها عند الحاجة جُنَّةً وقاية وسترة عن المؤاخذة، وقرأ الحسن- إيمانهم- بكسر الهمزة أي إيمانهم الذي أظهروه للنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وخلص المؤمنين، قال في الإرشاد: والاتخاذ على هذا عبارة عن التستر بالفعل كأنه قيل: تستروا بما أظهروه من الإيمان عن أن تستباح دماؤهم وأموالهم، وعلى قراءة الجمهور عبارة عن إعدادهم لأيمانهم الكاذبة وتهيئتهم لها إلى وقت الحاجة ليحلفوا بها ويخلصوا عن المؤاخذة لا عن استعمالها بالفعل فإن ذلك متأخر عن المؤاخذة المسبوقة بوقوع الجناية، وعن سببها أيضا كما يعرب عنه الفاء في قوله تعالى: فَصَدُّوا أي الناس.
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ في خلال أمنهم بتثبيط من لقوا عن الدخول في الإسلام وتضعيف أمر المسلمين عندهم، وقيل: فصدوا المسلمين عن قتلهم فإنه سبيل الله تعالى فيهم، وقيل: (صدوا) لازم، والمراد فأعرضوا عن الإسلام حقيقة وهو كما ترى فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ وعيد ثان بوصف آخر لعذابهم، وقيل: الأول عذاب القبر وهذا عذاب الآخرة، ويشعر به وصفه بالإهانة المقتضية للظهور فلا تكرار.
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ قد سبق مثله في سورة آل عمران، وسبق الكلام فيه فمن أراده فليرجع إليه يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً تقدم الكلام في نظيره غير بعيد فَيَحْلِفُونَ لَهُ أي لله تعالى يومئذ قائلين: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ في الدنيا أنهم مسلمون مثلكم، والتشبيه بمجرد الحلف لهم في الدنيا وإن اختلف المحلوف عليه بناء على ما قدمنا من سبب النزول وَيَحْسَبُونَ في الآخرة أَنَّهُمْ بتلك الأيمان الفاجرة عَلى شَيْءٍ من جلب منفعة أو دفع مضرة كما كانوا عليه في الدنيا حيث كانوا يدفعون بها عن أرواحهم وأموالهم ويستجرون بها فوائد دنيوية أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ البالغون في الكذب إلى غاية ليس وراءها غاية حيث تجاسروا على الكذب بين يدي علام الغيوب، وزعموا أن أيمانهم الفاجرة تروّج الكذب لديه عز وجل كما تروّجه عند المؤمنين اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ أي غلب على عقولهم بوسوسته وتزيينه حتى اتبعوه فكان مستوليا عليهم، وقال الراغب: الحوذ أن يتبع السائق حاذي البعير أي أدبار فخذيه فيعنف في سوقه يقال: حاذ الإبل يحوذها أي ساقها سوقا عنيفا، وقوله تعالى: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ أي استاقهم مستوليا عليهم، أو من قولهم: استحوذ العير على الأتان أي استولى على حاذيها أي جانبي ظهرها اه.
وصرح بعض الأجلة أن الحوذ في الأصل السوق والجمع، وفي القاموس تقييد السوق بالسريع ثم أطلق على الاستيلاء، ومثله الأحواذ والأحوذي، وهو كما قال الأصمعي: المشمر في الأمور القاهر لها الذي لا يشذ عنه منها شيء، ومنه قول عائشة في عمر رضي الله تعالى عنهما كان أحوذيا نسيج وحده مأخوذ من ذلك، واستحوذ مما جاء على الأصل في عدم إعلاله على القياس إذ قياسه استحاذ بقلب الواو ألفا كما سمع فيه قليلا، وقرأ به هنا أبو عمرو فجاء مخالفا للقياس- كاستنوق واستصوب- وإن وافق الاستعمال المشهور فيه، ولذا لم يخلّ استعماله بالفصاحة،(14/227)
وفي استفعل هنا من المبالغة ما ليس في فعل فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ في معنى لم يمكنهم من ذكره عز وجل بما زين لهم من الشهوات فهم لا يذكرونه أصلا لا بقلوبهم ولا بألسنتهم أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر من القبائح حِزْبُ الشَّيْطانِ أي جنوده وأتباعه.
أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ أي الموصوفون بالخسران الذي لا غاية وراءه حيث فوّتوا على أنفسهم النعيم المقيم وأخذوا بدله العذاب الأليم، وفي تصدير الجملة بحرفي التنبيه والتحقيق وإظهار المتضايقين معا في موقع الإضمار بأحد الوجهين، وتوسيط ضمير الفصل من فنون التأكيد ما لا يخفى.
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ استئناف مسوق لتعليل ما قبله من خسران حزب الشيطان عبر عنهم بالموصول ذما لهم بما في حيز الصلة وإشعارا بعلة الحكم أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر فِي الْأَذَلِّينَ أي في جملة من هو أذل خلق الله عز وجل من الأولين والآخرين معدودون في عدادهم لأن ذلة أحد المتخاصمين على مقدار عزة الآخر وحيث كانت عزة الله عز وجل غير متناهية كانت ذلة من حادّه كذلك كَتَبَ اللَّهُ استئناف وارد لتعليل كونهم في الأذلين أي أثبت في اللوح المحفوظ أو قضى وحكم، وعن قتادة قال: وأيا ما كان فهو جار مجرى القسم فلذا قال سبحانه: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي أي بالحجة والسيف وما يجري مجراه أو بأحدهما، ويكفي في الغلبة بما عدا الحجة تحققها للرسل عليهم السلام في أزمنتهم غالبا فقد أهلك سبحانه الكثير من أعدائهم بأنواع العذاب كقوم نوح وقوم صالح وقوم لوط وغيرهم، والحرب بين نبينا صلّى الله تعالى عليه وسلم وبين المشركين وإن كان سجالا إلا أن العاقبة كانت له عليه الصلاة والسلام وكذا لأتباعهم بعدهم لكن إذا كان جهادهم لأعداء الدين على نحو جهاد الرسل لهم بأن يكون خالصا لله عز وجل لا لطلب ملك وسلطنة وأغراض دنيوية فلا تكاد تجد مجاهدا كذلك إلا منصورا غالبا، وخص بعضهم الغلبة بالحجة لا طرادها وهو خلاف الظاهر، ويبعده سبب النزول، فعن مقاتل لما فتح الله تعالى مكة للمؤمنين والطائف وخيبر وما حولها قالوا: نرجو أن يظهرنا الله تعالى على فارس والروم فقال عبد الله بن أبيّ: أتظنون الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها، والله إنهم لأكثر عددا وأشد بطشا من أن تظنوا فيهم ذلك فنزلت كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ على نصر رسله عَزِيزٌ لا يغلب على مراده عز وجل.
وقرأ نافع وابن عامر «ورسلي» بفتح الياء لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ خطاب للنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم أو لكل أحد يصلح له، وتَجِدُ إما متعد إلى اثنين فقوله تعالى: يُوادُّونَ إلخ مفعوله الثاني، وإما متعد إلى واحد فهو حال من مفعوله لتخصصه بالصفة، وقيل: صفة أخرى له أي قوما جامعين بين الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر وبين موادّة أعداء الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وليس بذاك، والكلام على ما في الكشاف من باب التخييل خيل أن من الممتنع المحال أن تجد قوما مؤمنين يوادّون المشركين. والغرض منه أنه لا ينبغي أن يكون ذلك وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته والتصلب في مجانبة أعداء الله تعالى، وحاصل هذا على ما في الكشف أنه من فرض غير الواقع واقعا محسوسا حيث نفى الوجدان على الصفة وأريد نفي انبغاء الوجدان على تلك الصفة فجعل الواقع نفي الوجدان، وإنما الواقع نفي الانبغاء فخيل أنه هو (1) فالتصوير في
__________
(1) قيل: يجعل ما لا يليق كالعدم لمشاركته له في عدم الاعتداد به فتأمل اه منه.(14/228)
جعل ما لا يمتنع ممتنعا، وقيل: المراد لا تجد قوما كاملي الإيمان على هذه الحال، فالنفي باق على حقيقته، والمراد بموادة المحادّين موالاتهم ومظاهرتهم، والمضارع قيل: لحكاية الحال الماضية، ومَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ظاهر في الكافر وبعض الآثار ظاهر في شموله للفاسق، والاخبار مصرحة بالنهي عن موالاة الفاسقين كالمشركين بل قال سفيان: يرون أن الآية المذكورة نزلت فيمن يخالط السلطان،
وفي حديث طويل أخرجه الطبراني والحاكم والترمذي عن واثلة بن الأسقع مرفوعا «يقول الله تبارك وتعالى: وعزتي لا ينال رحمتي من لم يوال أوليائي ويعاد أعدائي» .
وأخرج أحمد وغيره عن البراء بن عازب مرفوعا، أوثق الإيمان الحب في الله والبغض في الله.
وأخرج الديلمي من طريق الحسن عن معاذ قال: قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «اللهم لا تجعل لفاجر- وفي رواية- ولا لفاسق علي يدا ولا نعمة فيودّه قلبي فإني وجدت فيما أوحيت إلي لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ»
وحكى الكواشي عن سهل أنه قال: من صحح إيمانه وأخلص توحيده فإنه لا يأنس إلى مبتدع ولا يجالسه ولا يؤاكله ولا يشاربه ولا يصاحبه ويظهر له من نفسه العداوة والبغضاء، ومن داهن مبتدعا سلبه الله تعالى حلاوة السنن، ومن تحبب إلى مبتدع يطلب عز الدنيا أو عرضا منها أذله الله تعالى بذلك العز وأفقره بذلك الغنى ومن ضحك إلى مبتدع نزع الله تعالى نور الإيمان من قلبه، ومن لم يصدق فليجرب انتهى.
ومن العجيب أن بعض المنتسبين إلى المتصوفة- وليس منهم ولا قلامة ظفر- يوالي الظلمة بل من لا علاقة له بالدين منهم وينصرهم بالباطل ويظهر من محبتهم ما يضيق عن شرحه صدر القرطاس، وإذا تليت عليه آيات الله تعالى وأحاديث رسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم الزاجرة عن مثل ذلك يقول: سأعالج قلبي بقراءة نحو ورقتين من كتاب المثنوي الشريف لمولانا جلال الدين القونوي قدس سره وأذهب ظلمته- إن كانت- بما يحصل لي من الأنوار حال قراءته، وهذا لعمري هو الضلال البعيد، وينبغي للمؤمنين اجتناب مثل هؤلاء وَلَوْ كانُوا أي من حادّ الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، والجمع باعتبار معنى من كما أن الإفراد فيما قبل باعتبار لفظها آباءَهُمْ أي الموادين أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ فإن قضية الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر الذي يحشر المرء فيه مع من أحب أن يهجروا الجميع بالمرة، وليس المراد بمن ذكر خصوصهم وإنما المراد الأقارب مطلقا، وقدم الآباء لأنه يجب على أبنائهم طاعتهم ومصاحبتهم في الدنيا بالمعروف، وثنى بالأبناء لأنهم أعلق بهم لكونهم أكبادهم، وثلث بالأخوان لأنهم الناصرون لهم:
أخاك أخاك إن من لا أخا له ... كساع إلى الهيجا بغير سلاح
وختم بالعشيرة لأن الاعتماد عليهم والتناصر بهم بعد الإخوان غالبا:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
إذا لقام بنصري معشر خشن ... عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا
وقرأ أبو رجاء «وعشائرهم» بالجمع أُولئِكَ إشارة إلى الذين لا يوادّونهم وإن كانوا أقرب الناس إليهم وأمسهم رحما بهم وما فيه من معنى البعد لرفعة درجتهم في الفضل، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ أي أثبته الله تعالى فيها ولما كان الشيء يراد أولا ثم يقال ثم يكتب عبر عن المبدأ(14/229)
بالمنتهى للتأكيد والمبالغة، وفيه دليل على خروج العمل من مفهوم- الإيمان- فإن جزء الثابت في القلب ثابت فيه قطعا، ولا شيء من أعمال الجوارح يثبت فيه.
وقرأ أبو حيوة والمفضل عن عاصم «كتب» مبنيا للمفعول «الإيمان» بالرفع على النيابة عن الفاعل.
وَأَيَّدَهُمْ أي قواهم بِرُوحٍ مِنْهُ أي من عنده عز وجل على أن من ابتدائية، والمراد بالروح نور القلب وهو نور يقذفه الله تعالى في قلب من يشاء من عباده تحصل به الطمأنينة والعروج على معارج التحقيق، وتسميته روحا مجاز مرسل لأنه سبب للحياة الطيبة الأبدية، وجوز كونه استعارة، وقول بعض الأجلة: إن نور القلب ما سماه الأطباء روحا وهو الشعاع اللطيف المتكون من القلب- وبه الإدراك- فالروح على حقيقته ليس بشيء كما لا يخفى، أو المراد به القرآن على الاحتمالين السابقين، واختيرت الاستعارة أو جبريل عليه السلام وذلك يوم بدر، وإطلاق الروح عليه شائع أقوال.
وقيل: ضمير مِنْهُ للإيمان، والمراد بالروح الإيمان أيضا، والكلام على التجريد البديعي- فمن- بيانية أو ابتدائية على الخلاف فيها، وإطلاق الروح على الإيمان على ما مر وقوله تعالى: وَيُدْخِلُهُمْ إلخ بيان لآثار رحمته تعالى الأخروية إثر بيان ألطافه سبحانه الدنيوية أي ويدخلهم في الآخرة.
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أبد الآبدين، وقوله تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ استئناف جار مجرى التعليل لما أفاض سبحانه عليهم من آثار رحمته عز وجل العاجلة والآجلة، وقوله تعالى وَرَضُوا عَنْهُ بيان لابتهاجهم بما أوتوه عاجلا وآجلا، وقوله تعالى: أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ تشريف لهم ببيان اختصاصهم به تعالى وقوله سبحانه: أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ بيان لاختصاصهم بسعادة الدارين والكلام في تحلية الجملة- بإلا. وإن- على ما مر في أمثالها، والآية قيل: نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه.
أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: حدثت أن أبا قحافة سب النبي صلّى الله عليه وسلم فصكه أبو بكر صكة فسقط فذكر ذلك للنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فقال: أفعلت يا أبا بكر؟ قال: نعم، قال: لا تعد، قال: والله لو كان السيف قريبا مني لضربته- وفي رواية- لقتلته فنزلت لا تَجِدُ قَوْماً الآيات.
وقيل: في أبي عبيدة بن عبد الله بن الجراح، أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في سننه عن ابن عباس عن عبد الله بن شوذب قال: جعل والد أبي عبيدة يتصدى له يوم بدر وجعل أبو عبيدة يحيد عنه فلما أكثر قصده أبو عبيدة فقتله فنزلت لا تَجِدُ إلخ، وفي الكشاف أن أبا عبيدة قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد، وقال الواقدي في قصة قتله إياه: كذلك يقول أهل الشام، وقد سألت رجالا من بني فهر فقالوا: توفي أبوه قبل الإسلام أي في الجاهلية قبل ظهور الإسلام انتهى.
والحق أنه قتله في بدر، أخرج البخاري ومسلم عن أنس قال: كان- أي أبو عبيدة- قتل أباه وهو من جملة أسارى بدر بيده لما سمع منه في رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ما يكره ونهاه فلم ينته، وقيل: نزلت فيه حيث قتل أباه.
وفي أبي بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز، وقال لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: دعني أكون في الرعلة الأولى- وهي القطعة من الخيل- قال: «متعنا بنفسك يا أبا بكر ما تعلم أنك عندي بمنزلة سمعي وبصري»
وفي معصب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد وفي عمر قتل خاله العاص بن هشام يوم بدر. وفي علي كرم الله تعالى وجهه وحمزة وعبيدة بن الحارث قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر.
وتفصيل ذلك ما
رواه أبو داود عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: لما كان يوم بدر تقدم عتبة ابن ربيعة ومعه(14/230)
ابنه وأخوه فنادى من يبارز- إلى قوله- فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «قم يا حمزة قم يا علي قم يا عبيدة بن الحارث»
فأقبل حمزة إلى عتبة وأقبلت إلى شيبة واختلفت بين عبيدة والوليد ضربتان فأثخن كل منهما صاحبه ثم ملنا على الوليد فقتلناه واحتملنا عبيدة.
هذا ورتب بعض المفسرين وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ على قصة أبي عبيدة وأبي بكر ومعصب وعلي كرم الله تعالى وجهه ومن معه، وقيل: إن قوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً إلخ نزل في حاطب ابن أبي بلتعة، والظاهر على ما قيل: إنه متصل بالآي التي في المنافقين الموالين لليهود، وأيا ما كان فحكم الآيات عام وإن نزلت في أناس مخصوصين كما لا يخفى، والله تعالى أعلم.(14/231)
سورة الحشر
قال البقاعي: وتسمى سورة- بني النضير- وأخرج البخاري وغيره عن ابن جبير قال: قلت لابن عباس سورة الحشر، قال: قل: سورة بني النضير، قال ابن حجر: كأنه كره تسميتها بالحشر لئلا يظن أن المراد به يوم القيامة وإنما المراد هاهنا إخراج بني النضير.
وهي مدنية، وآيها أربع وعشرون بلا خلاف، ومناسبتها لما قبلها أن في آخر تلك كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: 21] وفي أول هذه فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [الحشر:
2] وفي آخر تلك ذكر من حادّ الله ورسوله، وفي أول هذه ذكر من شاقّ الله ورسوله، وأن في الأولى ذكر حال المنافقين واليهود وتولي بعضهم بعضا، وفي هذه ذكر ما حل باليهود وعدم إغناء تولي المنافقين إياهم شيئا، فقد روي أن بني النضير كانوا قد صالحوا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم على أن لا يكونوا عليه ولا له فلما ظهر يوم بدر قالوا: هو النبي الذي نعت في التوراة لا تردّ له راية فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة فخالفوا عليه قريشا عند الكعبة فأخبر جبريل عليه السلام الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم بذلك فأمر بقتل كعب فقتله محمد بن سلمة غيلة وهو عروس بعد أن أخذ بفود رأسه أخوه رضاعا أو نائلة سلكان بن سلامة أحد بني عبد الأشهل، وكان عليه الصلاة والسلام قد اطلع منهم على خيانة حين أتاهم يستعينهم في دية المسلمين من بني عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري عند منصرفه من بئر معونة فهموا بطرح الحجر عليه صلى الله تعالى عليه وسلم فعصمه الله تعالى، وبعد أن قتل كعب بأشهر على الصحيح لا على الأثر كما قيل: أمر صلى الله تعالى عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم وكان ذلك سنة أربع في شهر ربيع الأول وكانوا بقرية يقال لها: الزهرة فسار المسلمون معه عليه الصلاة والسلام وهو على حمار مخطوم بليف.
وقيل: على جمل واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم حتى إذا نزل صلّى الله تعالى عليه وسلم بهم وجدهم ينوحون على كعب، وقالوا: ذرنا نبكي شجونا ثم ائتمر أمرك فقال: اخرجوا من المدينة فقالوا: الموت أقرب لنا من ذلك فتنادوا بالحرب، وقيل: استمهلوه عليه الصلاة والسلام عشرة أيام ليتجهزوا للخروج ودس المنافقون عبد الله بن أبيّ وأضرابه إليهم أن لا يخرجوا من الحصن فإن قاتلوكم فنحن معكم ولننصرنكم وإن أخرجتم لنخرجن معكم فدربوا على الأزقة وحصنوها ثم أجمعوا على الغدر برسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فقالوا: اخرج في ثلاثين من أصحابك ويخرج منا ثلاثون ليسمعوا منك فإن صدقوك آمنا كلنا ففعل فقالوا: كيف نفهم ونحن ستون اخرج في ثلاثة ويخرج إليك ثلاثة من علمائنا ففعل عليه الصلاة والسلام فاشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك فأرسلت امرأة منهم ناصحة إلى أخيها وكان مسلما فأخبرته بما أرادوا فأسرع إلى الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم فسارّه بخبرهم قبل أن(14/232)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
يصل إليهم فلما كان من الغد غدا عليهم بالكتائب فحاصرهم- على ما قال ابن هشام في سيرته- ست ليال، وقيل:
إحدى وعشرين ليلة فقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين فطلبوا الصلح فأبى عليه الصلاة والسلام عليهم إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاؤوا من المتاع فجلوا إلى الشام إلى أريحا وأذرعات إلا أهل بيتين منهم آل سلام ابن أبي الحقيق وآل كنانة بن الربيع ابن أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب فلحقوا بخيبر ولحقت طائفة بالحيرة وقبض النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم أموالهم وسلاحهم فوجد خمسين درعا وخمسين بيضة وثلاثمائة وأربعين سيفا وكان ابن أبيّ قد قال لهم: معي ألفان من قومي وغيرهم أمدكم بها وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان فلما نازلهم صلّى الله تعالى عليه وسلم اعتزلتهم قريظة وخذلهم ابن أبيّ وحلفاؤهم من غطفان فأنزل الله تعالى قوله عز وجل:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إلى قوله تعالى: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الحشر: 6] وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة في صدر سورة الحديد، وكرر الموصول هاهنا لزيادة التقرير والتنبيه على استقلال كل من الفريقين بالتسبيح، وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ بيان لبعض آثار عزته تعالى وأحكام حكمته عز وجل إثر وصفه تعالى بالعزة القاهرة والحكمة الباهرة على الإطلاق، والمراد- بالذين كفروا- بنو النضير- بوزن الأمير- وهم قبيلة عظيمة من يهود خيبر كبني قريظة، ويقال للحيين: الكاهنان لأنهما من ولد الكاهن بن هارون كما في البحر، ويقال: إنهم نزلوا قريبا من المدينة في فئة من بني إسرائيل انتظارا لخروج الرسول صلّى الله عليه وسلم فكان من أمرهم ما قصه الله تعالى.
وقيل: إن موسى عليه السلام كان قد أرسلهم إلى قتل العماليق، وقال لهم: لا تستحيوا منهم أحدا فذهبوا ولم يفعلوا وعصوا موسى عليه السلام فلما رجعوا إلى الشام وجدوه قد مات عليه السلام فقال لهم بنو إسرائيل: أنتم عصاة الله تعالى والله لا دخلتم علينا بلادنا فانصرفوا إلى الحجاز إلى أن كان ما كان، وروي عن الحسن أنهم بنو قريظة وهو وهم كما لا يخفى، والجار الأول متعلق بمحذوف أي كائنين من أهل الكتاب، والثاني متعلق- باخرج- وصحت إضافة الديار إليهم لأنهم كانوا نزلوا برية لا عمران فيها فبنوا فيها وسكنوا، وضمير هُوَ راجع إليه تعالى بعنوان العزة(14/233)
والحكمة إما بناء على كمال ظهور اتصافه تعالى بهما مع مساعدة تامة من المقام، أو على جعله مستعارا لاسم الإشارة كما في قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ [الأنعام: 46] أي بذلك فكأنه قيل: ذلك المنعوت بالعزة والحكمة الذي أخرج إلخ، ففيه إشعار بأن في الإخراج حكمة باهرة، وقوله تعالى: لِأَوَّلِ الْحَشْرِ متعلق- بأخرج- واللام لام التوقيت كالتي في قولهم: كتبته لعشر خلون. ومآلها إلى معنى- في- الظرفية، ولذا قالوا هنا أي في أول الحشر لكنهم لم يقولوا: إنها بمعنى- في- إشارة إلى أنها لم تخرج عن أصل معناها وأنها للاختصاص لأن ما وقع في وقت اختص به دون غيره من الأوقات، وقيل: إنها للتعليل وليس بذاك، ومعنى أول الحشر أن هذا أول حشرهم إلى الشام أي أول ما حشروا وأخرجوا، ونبه بالأولية على أنهم لم يصبهم جلاء قبل ولم يجلهم بختنصر حين أجلى اليهود بناء على أنهم لم يكونوا معهم إذ ذاك وإن نقلهم من بلاد الشام إلى أرض العرب كان باختيارهم، أو لم يصبهم ذلك في الإسلام، أو على أنهم أول محشورين من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام، ولا نظر في ذلك إلى مقابلة الأول بالآخر، وبعضهم يعتبرها فمعنى أول الحشر أن هذا أول حشرهم وآخر حشرهم إجلاء عمر رضي الله تعالى عنه إياهم من خيبر إلى الشام، وقيل: آخر حشرهم حشرهم يوم القيامة لأن المحشر يكون بالشام.
وعن عكرمة من شك أن المحشر هاهنا يعني الشام فليقرأ هذه الآية، وكأنه أخذ ذلك من أن المعنى الأول حشرهم إلى الشام فيكون لهم آخر حشر إليه أيضا ليتم التقابل، وهو يوم القيامة من القبور، ولا يخفى أنه ضعيف الدلالة وفي البحر عن عكرمة والزهري أنهما قالا: المعنى لأول موضوع الحشر وهو الشام،
وفي الحديث أنه صلّى الله عليه وسلم قال لهم: «اخرجوا قالوا: إلى أين؟ قال: إلى أرض المحشر»
ولا يخفى ضعف هذا المعنى أيضا، وقيل: آخر حشرهم أن نارا تخرج قبل الساعة فتحشرهم كسائر الناس من المشرق إلى المغرب، وعن الحسن أنه أريد حشر القيامة أي هذا أوله والقيام من القبور آخره، وهو كما ترى، وقيل: المعنى أخرجهم من ديارهم لأول جمع حشره النبي صلّى الله عليه وسلم أو حشره الله عز وجل لقتالهم لأنه صلّى الله تعالى عليه وسلم لم يكن قبل قصد قتالهم، وفيه من المناسبة لوصف العزة ما لا يخفى، ولذا قيل: إنه الظاهر، وتعقب بأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يكن جمع المسلمين لقتالهم في هذه المرة أيضا ولذا ركب عليه الصلاة والسلام حمارا مخطوما بليف لعدم المبالاة بهم وفيه نظر، وقيل: لأول جمعهم للمقاتلة من المسلمين لأنهم لم يجتمعوا لها قبل، والحشر إخراج جمع سواء كان من الناس لحرب أو لا، نعم يشترط فيه كون المحشور جمعا من ذوي الأرواح لا غير، ومشروعية الإجلاء كانت في ابتداء الإسلام، وأما الآن فقد نسخت، ولا يجوز إلا القتل أو السبي أو ضرب الجزية ما ظَنَنْتُمْ أيها المسلمون أَنْ يَخْرُجُوا لشدة بأسهم ومنعتهم ووثاقة حصونهم وكثرة عددهم وعدتهم.
وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ أي ظنوا أن حصونهم مانعتهم أو تمنعهم من بأس الله تعالى- فحصونهم- مبتدأ ومانِعَتُهُمْ خبر مقدم، والجملة خبر أَنْ وكان الظاهر لمقابلة ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وظنوا أن لا يخرجوا والعدول إلى ما في النظم الجليل للإشعار بتفاوت الظنين، وأن ظنهم قارب اليقين فناسب أن يؤتى بما يدل على فرط وثوقهم بما هم فيه فجيء- بمانعتهم. وحصونهم- مقدما فيه الخبر على المبتدأ ومدار الدلالة التقديم لما فيه من الاختصاص فكأنه لا حصن أمنع من حصونهم، وبما يدل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالي معهما بأحد يتعرض لهم أو يطمع في معازتهم، فجيء بضمير- هم- وصير اسما- لأن- وأخبر عنه بالجملة لما في ذلك من التقوى على ما في الكشف وشرح الطيبي، وفي كون ذلك من باب التقوى بحث، ومنع(14/234)
بعضهم جواز الاعراب السابق بناء على أن تقديم الخبر المشتق على المبتدأ المحتمل للفاعلية لا يجوز كتقديم الخبر إذا كان فعلا، وصحح الجواز في المشتق دون الفعل، نعم اختار صاحب الفرائد أن يكون «حصونهم» فاعلا- لمانعتهم- لاعتماده على المبتدأ.
وجوز كون مانِعَتُهُمْ مبتدأ خبره حُصُونُهُمْ، وتعقب بأن فيه الاخبار عن النكرة بالمعرفة إن كانت إضافة مانعة لفظية، وعدم كون المعنى على ذلك إن كانت معنوية بأن قصد استمرار المنع فتأمل، وكانت حُصُونُهُمْ على ما قيل أربعة: الكتيبة والوطيح والسلالم والنطاة، وزاد بعضهم الوخدة (1) وبعضهم شقا، والذي في القاموس أنه موضع بخيبر أو واد به فَأَتاهُمُ اللَّهُ أي أمره سبحانه، وقدره عز وجل المتاح لهم مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ولم يخطر ببالهم وهو على ما روي عن السدي وأبي صالح وابن جريج قتل رئيسهم كعب بن الأشرف فإنه مما أضعف قوتهم وقلّ شوكتهم وسلب قلوبهم الأمن والطمأنينة، وقيل: ضمير فَأَتاهُمُ ولَمْ يَحْتَسِبُوا للمؤمنين أي فأتاهم نصر الله من حيث لم يحتسبوا، وفيه تفكيك الضمائر.
وقرىء فآتاهم الله، وهو حينئذ متعدّ لمفعولين ثانيهما محذوف. أي فآتاهم الله العذاب أو النصر وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ أي الخوف الشديد من رعبت الحوض إذ ملأته لأنه يتصور فيه أنه ملأ القلب، وأصل القذف الرمي بقوة أو من بعيد، والمراد به هنا للعرف إثبات ذلك وركزه في قلوبهم.
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ ليسدوا بما نقضوا منها من الخشب والحجارة أفواه الأزقة، ولئلا تبقى صالحة لسكنى المسلمين بعد جلائهم ولينقلوا بعض آلاتها المرغوب فيها مما يقبل النقل كالخشب والعمد والأبواب وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ حيث كانوا يخربونها من خارج ليدخلوها عليهم وليزيلوا تحصنهم بها وليتسع مجال القتال ولتزداد نكايتهم، ولما كان تخريب أيدي المؤمنين بسبب أمر أولئك اليهود كان التخريب بأيدي المؤمنين كأنه صادر عنهم، وبهذا الاعتبار عطفت أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ على- أيديهم- وجعلت آلة لتخريبهم مع أن الآلة هي أيديهم أنفسهم- فيخربون- على هذا إما من الجمع بين الحقيقة والمجاز أو من عموم المجاز، والجملة إما في محل نصب على الحالية من ضمير قُلُوبِهِمُ أو لا محل لها من الإعراب، وهي إما مستأنفة جواب عن سؤال تقديره فما حالهم بعد الرعب؟ أو معه أو تفسير للرعب بادعاء الاتحاد لأن ما فعلوه يدل على رعبهم إذ لولاه ما خربوها.
وقرأ قتادة والجحدري ومجاهد وأبو حيوة وعيسى وأبو عمرو «يخرّبون» بالتشديد وهو للتكثير في الفعل أو في المفعول، وجوز أن يكون في الفاعل، وقال أبو عمرو بن العلاء: خرب بمعنى هدم وأفسد، وأخرب ترك الموضوع خرابا وذهب عنه، فالإخراب يكون أثر التخريب، وقيل: هما بمعنى عدى خرب اللازم بالتضعيف تارة وبالهمزة أخرى فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ فاتعظوا بما جرى عليهم من الأمور الهائلة على وجه لا تكاد تهتدي إليه الأفكار، واتقوا مباشرة ما أداهم إليه من الكفر والمعاصي، واعبروا من حالهم في غدرهم واعتمادهم على غير الله تعالى- الصائرة سببا لتخريب بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم ومفارقة أوطانهم مكرهين- إلى حال أنفسكم فلا تعولوا على تعاضد الأسباب وتعتمدوا على غيره عز وجل بل توكلوا عليه سبحانه.
واشتهر الاستدلال بالآية على مشروعية العمل بالقياس الشرعي، قالوا: إنه تعالى أمر فيها بالاعتبار وهو العبور
__________
(1) قوله: الكتيبة التاء المثناة والتصغير. والوطيح بفتح الواو وكسر الطاء وبالمهملة. والسلالم بضم السين، وقيل: بفتحها. ويقال فيه:
السلاليم. والنطاة من النطو. والوخدة بفتح الواو وسكون المعجمة بعدها مهملة اه منه.(14/235)
والانتقال من الشيء إلى غيره، وذلك متحقق في القياس إذا فيه نقل الحكم من الأصل إلى الفرع، ولذا قال ابن عباس في الأسنان: اعتبر حكمها بالأصابع في أن ديتها متساوية، والأصل في الإطلاق الحقيقة وإذ ثبت الأمر- وهو ظاهر في الطلب الغير الخارج عن اقتضاء الوجوب أو الندب- ثبتت مشروعية العمل بالقياس، واعترض بعد تسليم ظهور الأمر في الطلب بأنا لا نسلم أن الاعتبار ما ذكر بل هو عبارة عن الاتعاظ لأنه المتبادر حيث أطلق، ويقتضيه في الآية ترتيبه بالفاء على ما قبله كما في قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ [آل عمران: 13، النور: 44] وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً [النحل: 66] ولأن القائس في الفرع إذا قدم على المعاصي ولم يتفكر في أمر آخرته يقال:
إنه غير معتبر، ولو كان القياس هو الاعتبار- لم يصح هذا السلب- سلمنا لكن ليس في الآية صيغة عموم تقتضي العمل بكل قياس بل هي مطلقة- فيكفي في العمل بها العمل بالقياس العقلي- سلمنا لكن العام مخصص بالاتفاق إذ قلتم: إنه إذا قال لوكيله: أعتق غانما لسواده لا يجوز تعديه ذلك إلى سالم، وإن كان أسود، وهو بعد التخصيص لا يبقى حجة فيما عدا محل التخصيص سلمنا غير أن الخطاب مع الموجودين وقته فيختص بهم، وأجيب بأنه لو كان الاعتبار بمعنى الاتعاظ حيث أطلق لما حسن قولهم: اعتبر فاتعظ لما يلزم فيه حينئذ من ترتب الشيء على نفسه وترتيبه في الآية على ما قبله لا يمنع كونه بمعنى الانتقال المذكور لأنه متحقق في الاتعاظ إذ المتعظ بغيره منتقل من العلم بحال ذلك الغير إلى العلم بحال نفسه فكان مأمورا به من جهة ما فيه من الانتقال- وهو القياس. والآيتان على ذلك- ولا يصح غير معتبر في القائس العاصي نظرا إلى كونه قائسا، وإنما صح ذلك نظرا إلى أمر الآخرة، وأطلق النفي نظرا إلى أنه أعظم المقاصد وقد أخل به، والآية إن دلت على العموم فذاك وإن دلت على الإطلاق وجب الحمل على القياس الشرعي لأن الغالب من الشارع مخاطبتنا بالأمور الشرعية دون غيرها، وقد برهن على أن العام بعد التخصيص حجة، وشمول حكم خطاب الموجودين لغيرهم إلى يوم القيامة قد انعقد الإجماع عليه، ولا يضر الخلاف في شمول اللفظ وعدمه على أنه إن عم أو لم يعم هو حجة على الخصوم في بعض محل النزاع، ويلزم من ذلك الحكم في الباقي ضرورة أنه لا يقول بالفرق.
هذا وقال الخفاجي في وجه الاستدلال: قالوا: إنا أمرنا في هذه الآية بالاعتبار وهو ردّ الشيء إلى نظيره بأن يحكم عليه بحكمه، وهذا يشمل الاتعاظ والقياس العقلي والشرعي، وسوق الآية الاتعاظ فتدل عليه عبارة وعلى القياس إشارة، وتمام الكلام على ذلك في الكتب الأصولية وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ أي الإخراج أو الخروج عن أوطانهم على ذلك الوجه الفظيع لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا بالقتل كأهل بدر وغيرهم أو كما فعل سبحانه ببني قريظة في سنة خمس إذ الحكمة تقتضيه لو لم يكتب الجلاء عليهم، وجاء أجليت القوم عن منازلهم أي أخرجتهم عنها وأبرزتهم، وجلوا عنها خرجوا أو برزوا، ويقال أيضا: جلاهم وفرق بعضهم بين الجلاء والإخراج بأن الجلاء ما كان مع الأهل والولد، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد.
وقال الماوردي: الجلاء لا يكون إلا لجماعة، والإخراج قد يكون لواحد ولجماعة، ويقال فيه: الجلأ مهموزا من غير ألف كالنبأ، وبذلك قرأ الحسن بن صالح وأخوه علي بن صالح وطلحة، وأن مصدرية لا مخففة واسمها ضمير شأن كما توهمه عبارة الكشاف، وقد صرح بذلك الرضي، وقوله تعالى: وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ استئناف غير متعلق بجواب لَوْلا أي إنهم إن نجوا من عذاب الدنيا وهو القتل لأمر أشق عليهم وهو الجلاء لم ينجوا من عذاب الآخرة فليس تمتعهم أياما قلائل بالحياة وتهوين أمر الجلاء على أنفسهم بنافع، وفيه إشارة إلى أن القتل أشدّ من الجلاء لا لذاته بل لأنهم يصلون عنده إلى عذاب النار، وإنما أوثر الجلاء لأنه أشق عندهم وأنهم غير معتقدين لما(14/236)
أمامهم من عذاب النار أو معتقدون ولكن لا يبالون به بالة ولم تجعل حالية لاحتياجها للتأويل لعدم المقارنة.
ذلِكَ أي ما نزل بهم وما سينزل بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وفعلوا ما فعلوا من القبائح وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ وقرأ طلحة يشاقق بالفك كما في الأنفال، والاقتصار على ذكر مشاقته عز وجل لتضمنها مشاقته عليه الصلاة والسلام، وفيه من تهويل أمرها ما فيه، وليوافق قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وهذه الجملة إما نفس الجزاء، وقد حذف منه العائد إلى من عند من يلتزمه أي شديد العقاب له أو تعليل للجزاء المحذوف أي يعاقبه الله فإن الله شديد العقاب، وأيا ما كان فالشرطية تكملة لما قبلها وتقرير لمضمونه وتحقيق للسببية بالطريق البرهاني كأنه قيل: ذلك الذي نزل وسينزل بهم من العقاب بسبب مشاقتهم لله تعالى ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم، وكل من يشاق الله تعالى كائنا من كان فله بسبب ذلك عقاب شديد فإذا لهم عقاب شديد ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ هي النخلة مطلقا على ما قال الحسن ومجاهد وابن زيد وعمرو بن ميمون والراغب وهي فعلة من اللون وياؤها مقلوبة من واو لكسر ما قبلها كديمة، وتجمع على ألوان، وقال ابن عباس وجماعة من أهل اللغة: هي النخلة ما لم تكن عجوة، وقال أبو عبيدة وسفيان: ما تمرها لون وهو نوع من التمر، قال سفيان: شديد الصفرة يشف عن نواه فيرى من خارج، وقال أبو عبيدة أيضا: هي ألوان النخل المختلطة التي ليس فيها عجوة ولا برني،
وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: هي العجوة
، وقال الأصمعي: هي الدقل، وقيل: هي النخلة القصيرة، وقال الثوري: الكريمة من النخل كأنهم اشتقوها من اللين فتجمع على لين، وجاء جمعها ليانا كما في قول امرئ القيس:
وسالفة كسوق الليا ... ن أضرم فيه القويّ السعر
وقيل: هي أغصان الأشجار للينها، وهو قول شاذ، وأنشدوا على كونها بمعنى النخلة سواء كانت من اللون أو من اللين قول ذي الرمة:
كأن قنودي فوقها عش طائر ... على لينة سوقاء تهفو جنوبها
ويمكن أن يقال: أراد باللينة النخلة الكريمة لأنه يصف الناقة بالعراقة في الكرم فينبغي أن يرمز في المشبه به إلى ذلك المعنى، وما شرطية منصوبة- بقطعتم- ومِنْ لِينَةٍ بيان لها، ولذا أنث الضمير في قوله تعالى:
أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها أي أبقيتموها كما كانت ولم تتعرضوا لها بشيء ما، وجواب الشرط قوله سبحانه: فَبِإِذْنِ اللَّهِ أي فذلك أي قطعها أو تركها بأمر الله تعالى الواصل إليكم بواسطة رسوله صلّى الله عليه وسلم أو بإرادته سبحانه ومشيئته عز وجل، وقرأ عبد الله والأعمش وزيد بن علي- قوما- على وزن فعل كضرب جمع قائم، وقرىء- قائما- اسم فاعل مذكر على لفظ ما، وأبقى أصولها على التأنيث، وقرىء- أصلها- بضمتين، وأصله أُصُولِها فحذفت الواو اكتفاء بالضمة أو هو كرهن بضمتين من غير حذف وتخفيف.
وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ متعلق بمقدر على أنه علة له وذلك المقدر عطف على مقدر آخر أي ليعز المؤمنين وليخزي الفاسقين أي ليذلهم أذن عز وجل في القطع والترك، وجوز فيه أن يكون معطوفا على قوله تعالى: بإذن اللَّهِ وتعطف العلة على السبب فلا حاجة إلى التقدير فيه، والمراد- بالفاسقين- أولئك الذين كفروا من أهل الكتاب، ووضع الظاهر موضع المضمر إشعارا بعلة الحكم، واعتبار القطع والترك في المعلل هو الظاهر وإخزاؤهم بقطع اللينة لحسرتهم على ذهابها بأيدي أعدائهم المسلمين وبتركها لحسرتهم على بقائها في أيدي أولئك الأعداء كذا في الانتصاف.
قال بعضهم: وهاتان الحسرتان تتحققان كيفما كانت المقطوعة والمتروكة لأن النخل مطلقا مما يعز على أصحابه فلا تكاد تسمح أنفسهم بتصرف أعدائهم فيه حسبما شاؤوا وعزته على صاحبه الغارس له أعظم من عزته على(14/237)
صاحبه غير الغارس له، وقد سمعت بعض الغارسين يقول: السعفة عندي كأصبع من أصابع يدي، وتحقق الحسرة على الذهاب إن كانت المقطوعة النخلة الكريمة أظهر، وكذا تحققها على البقاء في أيدي أعدائهم المسلمين إن كانت هي المتروكة، والذي تدل عليه بعض الآثار أن بعض الصحابة كان يقطع الكريمة وبعضهم يقطع غيرها وأقرهما النبي صلّى الله عليه وسلم لما أفصح الأول بأن غرضه إغاظة الكفار، والثاني بأنه استبقاء الكريمة للمسلمين، وكان ذلك أول نزول المسلمين على أولئك الكفرة ومحاصرتهم لهم، فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام أمر في صدر الحرب بقطع نخيلهم فقالوا: يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخل وتحريقها؟ فنزلت الآية ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ إلخ، ولم يتعرض فيها للتحريق لأنه في معنى القطع فاكتفى به عنه، وأما التعرض للترك مع أنه ليس بفساد عندهم أيضا فلتقرير عدم كون القطع فسادا لنظمه في سلك ما ليس بفساد إيذانا بتساويهما في ذلك.
واستدل بالآية على جواز هدم ديار الكفرة وقطع أشجارهم وإحراق زروعهم زيادة لغيظهم، وحاصل ما ذكره الفقهاء في المسألة أنه إن علم بقاء ذلك في أيدي الكفرة فالتخريب والتحريق أولى، وإلا فالإبقاء أولى ما لم يتضمن ذلك مصلحة، وقوله تعالى: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ شروع في بيان حال ما أخذ من أموالهم بعد بيان ما حل بأنفسهم من العذاب العاجل والآجل وما فعل بديارهم ونخيلهم من التخريب والقطع أي ما أعاده الله تعالى إلى رسوله صلّى الله عليه وسلم من أولئك الكفرة- وهم بنو النضير- وما موصولة مبتدأ، والجملة بعدها صلة، والعائد محذوف كما أشرنا إليه، والجملة المتقرنة بالفاء بعد خبر، ويجوز كونها شرطية، والجملة بعد جواب، والمراد بما أفاء سبحانه عليه صلى الله تعالى عليه وسلم منهم أموالهم التي بقيت بعد جلائهم، والمراد بإعادتها عليه الصلاة والسلام تحويلها إليه، وهو إن لم يقتض سبق حصولها له صلّى الله عليه وسلم نظير ما قيل في قوله تعالى: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [الأعراف: 88، إبراهيم: 13] ظاهر وإن اقتضى سبق الحصول كان فيما ذكر مجازا، وفيه إشعار بأنها كانت حرية بأن تكون له صلّى الله عليه وسلم وإنما وقعت في أيديهم بغير حق فأرجعها الله تعالى إلى مستحقها، وكذا شأن جميع أموال الكفرة التي تكون فيئا للمؤمنين لأن الله عز وجل خلق الناس لعبادته وخلق ما خلق من الأموال ليتوسلوا به إلى طاعته فهو جدير بأن يكون للمطيعين، ولذا قيل للغنيمة التي لا تلحق فيها مشقة: فيء مع أنه من فاء الظل إذا رجع، ونقل الراغب عن بعضهم أنه سمي بذلك تشبيها بالفيء الذي هو الظل تنبيها على أن أشرف أعراض الدنيا يجري مجرى ظل زائل، وأَفاءَ على ما في البحر بمعنى المضارع أما إذا كانت ما شرطية فظاهر، وأما إذا كانت موصوله فلأنها إذا كانت الفاء في خبرها تكون مشبهة باسم الشرط فان كانت الآية نازلة قبل جلائهم كانت مخبرة بغيب، وإن كانت نزلت بعد جلائهم وحصول أموالهم في يد الرسول صلّى الله عليه وسلم كانت بيانا لما يستقبل، وحكم الماضي حكمه، والذي يدل عليه الإخبار أنها نزلت بعد، روي أن بني النضير لما أجلوا عن أوطانهم وتركوا رباعهم وأموالهم طلب المسلمون تخميسها كغنائم بدر فنزل ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ إلخ فكانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم خاصة، فقد أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله تعالى على رسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب وكانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم خاصة فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله تعالى.
وقال الضحاك: كانت له صلّى الله عليه وسلم خاصة فآثر بها المهاجرين وقسمها عليهم ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا أبا دجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف والحارث بن الصمة أعطاهم لفقرهم، وذكر نحوه ابن هشام إلا أنه ذكر(14/238)
مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
الأولين ولم يذكر الحارث، وكذا لم يذكره ابن سيد الناس، وذكر أنه أعطى سعد بن معاذ سيفا لابن أبي الحقيق كان له ذكر عندهم، ومعنى ما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ ما أجريتم على تحصيله من الوجيف وهو سرعة السير، وأنشد عليه أبو حيان قول نصيب:
ألا ربّ ركب قد قطعت وجيفهم ... إليك ولولا أنت لم توجف الركب
وقال ابن هشام: «أوجفتم» حركتم وأتعبتم في السير، وأنشد قول تميم بن مقبل:
مذاويد بالبيض الحديث صقالها ... عن الركب أحيانا إذا الركب أوجفوا
والمآل واحد، ومِنْ في قوله تعالى: مِنْ خَيْلٍ زائدة في المفعول للتنصيص على الاستغراق كأنه قيل- فما أوجفتم عليه- فردا من أفراد الخيل أصلا وَلا رِكابٍ ولا ما يركب من الإبل غلب فيه كما غلب الراكب على راكبه فلا يقال في الأكثر الفصيح: راكب لمن كان على فرس أو حمار ونحوه بل يقال: فارس ونحوه، وإن كان ذلك عاما لغيره وضعا، وإنما لم يعملوا الخيل ولا الركاب بل مشوا إلى حصون بني النضير رجالا إلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فإنه كان على الحمار. أو على جمل- كما تقدم- لأنها قريبة على نحو ميلين من المدينة فهي قريبة جدا منها، وكان المراد أن ما حصل لم يحصل بمشقة عليكم وقتال يعتدّ به منكم، ولهذا لم يعط صلّى الله تعالى عليه وسلم الأنصار إلا من سمعت، وأما إعطاؤه المهاجرين فلعله لكونهم غرباء فنزلت غربتهم منزلة السفر والجهاد، ولما أشير إلى نفي كون حصول ذلك بعملهم أشير إلى علة حصوله بقوله عز وجل: وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ أي ولكن سنته عز وجل جارية على أن يسلط رسله على من يشاء من أعدائهم تسليطا خاصا، وقد سلط رسوله محمدا صلّى الله تعالى عليه وسلم على هؤلاء تسليطا غير معتاد من غير أن تقتحموا مضايق الخطوب وتقاسوا شدائد الحروب فلا حق لكم في أموالهم، ويكون أمرها مفوضا إليه صلّى الله تعالى عليه وسلم وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيفعل ما يشاء كما يشاء تارة على الوجوه المعهودة، وأخرى على غيرها، وقيل: الآية في فدك لأن بني النضير حوصروا وقوتلوا دون أهل فدك وهو خلاف ما صحت به الأخبار، والواقع من القتال شيء لا يعتد به.
ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ بيان لحكم ما أفاءه الله تعالى على رسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم من قرى الكفار على العموم بعد بيان حكم ما أفاءه من بني النضير كما رواه القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عمر بن(14/239)
الخطاب رضي الله تعالى عنه، ويشعر به كلامه رضي الله تعالى عنه في حديث طويل فيه مرافعة علي كرم الله تعالى وجهه والعباس في أمر فدك أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم فالجملة جواب سؤال مقدر ناشىء مما فهم من الكلام السابق فكأن قائلا يقول: قد علمنا حكم ما أفاء الله تعالى من بني النضير فما حكم ما أفاء عز وجل من غيرهم؟ فقيل: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى إلخ، ولذا لم يعطف على ما تقدم، ولم يذكر في الآية قيد الإيجاف ولا عدمه، والذي يفهم من كتب بعض الشافعية أن ما تضمنته حكم الفيء لا الغنيمة ولا الأعم، وفرقوا بينهما قالوا: الفيء ما حصل من الكفار بلا قتال وإيجاف خيل وركاب كجزية وعشر تجارة، وما صولحوا عليه من غير نحو قتال وما جلوا عنه خوفا قبل تقابل الجيشين أما بعده فغنيمة، وما لمرتد قتل أو مات على ردته، وذمي أو معاهد أو مستأمن مات بلا وارث مستغرق، والغنيمة ما حصل من كفار أصليين حربيين بقتال، وفي حكمه تقابل الجيشين أو إيجاف منا لا من ذميين فإنه لهم ولا يخمس وحكمها مشهور.
وصرح غير واحد من أصحابنا بالفرق أيضا نقلا عن المغرب وغيره فقالوا: الغنيمة ما نيل من الكفار عنوة والحرب قائمة وحكمها أن تخمس، وباقيها للغانمين خاصة. والفيء ما نيل منهم بعد وضع الحرب أوزارها وصيرورة الدار دار إسلام، وحكمه أن يكون لكافة المسلمين ولا يخمس أي يصرف جميعه لمصالحهم ونقل هذا الحكم ابن حجر عمن عدا الشافعي رضي الله تعالى عنه من الأئمة الثلاثة، والتخميس عنه استدلالا بالقياس على الغنيمة المخمسة بالنص بجامع أن كلا راجع إلينا من الكفار، واختلاف السبب بالقتال وعدمه لا يؤثر، والذي نطقت به الأخبار الصحيحة أن عمر رضي الله تعالى عنه صنع في سواد العراق ما تضمنته الآية، واعتبرها عامة للمسلمين محتجا بها على الزبير وبلال وسلمان الفارسي وغيرهم حيث طلبوا منه قسمته على الغانمين بعقاره وعلوجه، ووافقه على ما أراد علي وعثمان وطلحة والأكثرون بل المخالفون أيضا بعد أن قال خاطبا: اللهم اكفني بلالا وأصحابه مع أن المشهور في كتب المغازي أن السواد فتح عنوة، وهو يقتضي كونه غنيمة فيقسم بين الغانمين، ولذا قال بعض الشافعية: إن عمر رضي الله تعالى عنه استطاب قلوب الغانمين حتى تركوا حقهم فاسترد السواد على أهله بخراج يؤدونه في كل سنة فليراجع وليحقق، وما جعله الله تعالى من ذلك لمن تضمنه قوله تعالى: فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إلى ابْنِ السَّبِيلِ هو خمس الفيء على ما نص عليه بعض الشافعية، ويقسم هذا الخمس خمسة أسهم: لمن ذكر الله عز وجل وسهمه سبحانه وسهم رسوله واحد، وذكره تعالى- كما روي عن ابن عباس والحسن بن محمد بن الحنفية- افتتاح كلام للتيمن والتبرك فإن لله ما في السماوات وما في الأرض، وفيه تعظيم لشأن الرسول عليه الصلاة والسلام.
وقال أبو العالية: سهم الله تعالى ثابت يصرف إلى بناء بيته- وهو الكعبة المشرفة- إن كانت قريبة وإلا فإلى مسجد كل بلدة ثبت فيها الخمس، ويلزمه أن السهام كانت ستة وهو خلاف المعروف عن السلف في تفسير ذلك، وسهم الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم قد كان له في حياته بالإجماع- وهو خمس الخمس- وكان ينفق منه على نفسه وعياله ويدخر منه مؤونة سنة أي لبعض زوجاته ويصرف الباقي في مصالح المسلمين، وسقط عندنا بعد وفاته عليه الصلاة والسلام قالوا: لأن عمل الخلفاء الراشدين على ذلك- وهم أمناء الله تعالى على دينه- ولأن الحكم معلق بوصف مشتق- وهو الرسول- فيكون مبدأ الاشتقاق- وهو الرسالة- علة ولم توجد في أحد بعده، وهذا كما سقط الصفي.
ونقل عن الشافعي أنه يصرف للخليفة بعده لأنه عليه الصلاة والسلام كان يستحقه لإمامته دون رسالته ليكون ذلك أبعد عن توهم الأجر على الإبلاغ، والأكثرون من الشافعية أن ما كان له صلّى الله تعالى عليه وسلم من خمس(14/240)
الخمس يصرف لمصالح المسلمين كالثغور، وقضاة البلاد والعلماء المشتغلين بعلوم الشرع وآلاتها ولو مبتدئين، والأئمة والمؤذنين ولو أغنياء، وسائر من يشتغل عن نحو كسبه بمصالح المسلمين لعموم نفعهم، وألحق بهم العاجزون عن الكسب والعطاء إلى رأي الإمام معتبرا سعة المال وضيقه، ويقدم الأهم فالأهم وجوبا وأهمها سد الثغور، ورد سهمه صلّى الله تعالى عليه وسلم بعد وفاته للمسلمين الدال عليه
قوله عليه الصلاة والسلام في الخبر الصحيح: «مالي مما أفاء الله تعالى عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم»
صادق بصرفه لمصالح المسلمين كما أنه صادق بضمه إلى السهام الباقية فيقسم معها على سائر الأصناف، ولا يسلم ظهوره في هذا دون ذاك، وسهم لذي القربى وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل فهذه خمسة أسهم الخمس، والمراد بذي القربى قرابته صلّى الله عليه وسلم، والمراد بهم بنو هاشم وبنو المطلب لأنه صلّى الله عليه وسلم وضع السهم فيهم دون بني أخيهما شقيقهما عبد شمس، ومن ذريته عثمان وأخيهما لأبيهما نوفل مجيبا عن ذلك
بقوله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «نحن وبنو المطلب شيء واحد»
وشبك بين أصابعه رواه البخاري أي لم يفارقوا بني هاشم في نصرته صلّى الله تعالى عليه وسلم جاهلية ولا إسلاما، وكأنه لمزيد تعصبهم وتواقفهم- حتى كأنهم على قلب رجل واحد- قيل: لذي القربى دون لذوي بالجمع.
قال الشافعية: يشترك في هذا السهم الغني والفقير لإطلاق الآية ولإعطائه صلّى الله تعالى عليه وسلم العباس وكان غنيا، بل قيل: كان له عشرون عبدا يتجرون له، والنساء لأن فاطمة وصفية عمة أبيها رضي الله تعالى عنهما كانا يأخذان منه، ويفضل الذكر كالإرث بجامع أنه استحقاق بقرابة الأب فله مثل حظّي الأنثى، ويستوي فيه العالم والصغير وضدهما، ولو أعرضوا عنه لم يسقط كالارث، ويثبت كون الرجل هاشميا أو مطلبيا بالبينة، وذكر جمع أنه لا بد معها من الاستفاضة، وبقول الشافعي قال أحمد، وعند مالك الأمر مفوض إلى الإمام إن شاء قسم بينهم وإن شاء أعطى بعضهم دون بعض وإن شاء أعطى غيرهم وإن كان أمره أهم من أمرهم.
وقال المزني والثوري: يستوي الذكر والأنثى ويدفع للقاصي والداني ممن له قرابة، والغني والفقير سواء لإطلاق النص، ولأن الحكم المعلق بوصف مشتق معلل بمبدأ الاشتقاق، وعندنا ذو القربى مخصوص ببني هاشم وبني المطلب للحديث إلا أنهم ليس لهم سهم مستقل ولا يعطون مطلقا، وإنما يعطى مسكينهم ويتيمهم وابن سبيلهم لاندراجه في الْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ لكن يقدمون على غيرهم من هذه الأصناف لأن الخلفاء الثلاثة لم يخرجوا لهم سهما مخصوصا، وإنما قسموا الخمس ثلاثة أسهم: سهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل، وعلي كرم الله تعالى وجهه في خلافته لم يخالفهم في ذلك مع مخالفته لهم في مسائل، ويحمل على الرجوع إلى رأيهم إن صح عنه أنه كان يقول: سهم ذوي القربى على ما حكي عن الشافعي، وفائدة ذكرهم على القول بأن استحقاقهم لوصف آخر غير القرابة كالفقر دفع توهم أن الفقير منهم مثلا لا يستحق شيئا لأنه من قبيل الصدقة ولا تحل لهم، ومن تتبع الأخبار وجد فيها اختلافا كثيرا ومنها ما يدل على أن الخلفاء كانوا يسهمونهم مطلقا، وهو رأي علماء أهل البيت، واختار بعض أصحابنا أن المذكور في الآية مصارف الخمس على معنى أن كلا يجوز أن يصرف له لا المستحقين فيجوز الاقتصار عندنا على صنف واحد كأن يعطى تمام الخمس لابن السبيل وحده مثلا.
والكلام مستوفى في شروح الهداية، والمراد باليتامى الفقراء منهم قال الشافعية: اليتيم هو صغير لا أب له وإن كان له جد، ويشترط إسلامه وفقره، أو مسكنته على المشهور أن لفظ اليتيم يشعر بالحاجة، وفائدة ذكرهم مع شمول المساكين لهم عدم حرمانهم لتوهم أنهم لا يصلحون للجهاد وإفرادهم بخمس كامل ويدخل فيهم ولد الزنا، والمنفي لا اللقيط على الأوجه لأنا لم نتحقق فقد أبيه على أنه غني بنفقته في بيت المال، ولا بد في ثبوت اليتيم والإسلام(14/241)
والفقر هنا من البينة، ويكفي في المسكين وابن السبيل قولهما ولو بلا يمين وإن اتهما، نعم يظهر في مدعي تلف مال له عرف أو عيال أنه يكلف بينة انتهى، واشتراط الفقر في اليتيم مصرح به عندنا في أكثر الكتب وليراجع الباقي.
هذا والأربعة الأخماس الباقية مصرفها على ما قال صاحب الكشف- وهو شافعي- بعد أن اختار جعل لِلْفُقَراءِ بدلا من ذي الْقُرْبى وما عطف عليه من تضمنه قوله تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا إلى قوله سبحانه:
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ على معنى أن له عليه الصلاة والسلام أن يعم الناس بها حسب اختياره، وقال: إنها للمقاتلين الآن على الأصح، وفي تحفة ابن حجر أنها على الأظهر للمرتزقة وقضاتهم وأئمتهم ومؤذنيهم وعمالهم ما لم يوجد تبرع، والمرتزقة الأجناد المرصودون في الديوان للجهاد لحصول النصرة بهم بعده صلّى الله عليه وسلم، وصرح في التحفة بأن الأكثرين على أن هذه الأخماس الأربعة كانت له عليه الصلاة والسلام مع خمس الخمس، فجملة ما كان يأخذه صلى الله تعالى عليه وسلم من الفيء أحد وعشرون سهما من خمسة وعشرين، وكان على ما قال الروياني: يصرف العشرين التي له عليه الصلاة والسلام يعني الأربعة الأخماس للمصالح وجوبا في قول وندبا في آخر، وقال الغزالي: كان الفيء كله له صلّى الله عليه وسلم في حياته، وإنما خمس بعد وفاته.
وقال الماوردي: كان له صلّى الله تعالى عليه وسلم في أول حياته ثم نسخ في آخرها، وقال الزمخشري: إن قوله تعالى: ما أَفاءَ اللَّهُ إلخ بيان للجملة الأولى يعني قوله تعالى: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ ولذا لم يدخل العاطف عليها بين فيها لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ما يصنع بما أفاء الله تعالى عليه وأمره أن يضعه حيث يضع الخمس من الغنائم مقسوما على الأقسام الخمسة، وظاهره أن الجملة استئناف بياني، والسؤال عن مصارف ما أفاء الله تعالى على رسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم من بني النضير الذي أفادت الجملة الأولى أن أمره مفوض إليه صلّى الله تعالى عليه وسلم لا يلزم أن يقسم قسمة الغنائم التي قوتل عليها قتالا معتدا به، وأخذت عنوة وقهرا كما طلب الغزاة لتكون أربعة أخماسها لهم وأن ما يوضع موضع الخمس من الغنائم هو الكل لا أن خمسة كذلك والباقي- وهو أربعة أخماسه- لمن تضمنه قوله تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا إلى قوله سبحانه: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ على ما سمعت سابقا، وأن المراد بأهل القرى هو المراد بالضمير في مِنْهُمْ أعني بني النضير، وعدل عن الضمير إلى ذلك- على ما في الإرشاد- إشعارا بشمول ما في ما أَفاءَ اللَّهُ لعقاراتهم أيضا، واعترض صاحب الكشف ما يشعر به الظاهر من أن الآية دالة على أمره صلّى الله تعالى عليه وسلم بأن يضع الجميع حيث يضع الخمس من الغنائم، ووجه الآية بما أيد به مذهبه، ودقق الكلام في ذلك فليراجع وليتدبر.
وقال ابن عطية أَهْلِ الْقُرى المذكورون في الآية هم أهل الصفراء وينبع ووادي القرى، وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عرينة وحكمها مخالف لحكم أموال بني النضير فإن تلك كلها له صلّى الله تعالى عليه وسلم خاصة، وهذه قسمها كغيرها، وقيل: المراد بما أفاء الله على رسوله خيبر، وكان نصفها لله تعالى ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم ونصفها الآخر للمسلمين فكان الذي لله سبحانه ورسوله عليه الصلاة والسلام من ذلك الكتيبة والوطيح وسلالم ووخدة، وكان الذي للمسلمين الشق، وكان ثلاثة عشر سهما، ونطاة وكانت خمسة أسهم، ولم يقسم عليه الصلاة والسلام من خيبر لأحد من المسلمين إلا لمن شهد الحديبية، ولم يأذن صلّى الله تعالى عليه وسلم لأحد تخلف عنه عند مخرجه إلى الحديبية أن يشهد معه خيبر إلا جابر بن عبد الله بن عمرو الأنصاري، وروي هذا عن ابن عباس، وخص بعضهم ما أفاء الله تعالى بالجزية والخراج.
وعن الزهري أنه قال: بلغني أنه ذلك، وأنت قد سمعت أن عمر رضي الله تعالى عنه إنما احتج بهذه الآية على(14/242)
إبقاء سواد العراق بأيادي أهله، وضرب الخراج والجزية عليهم ردا على من طلب قسمته على الغزاة بعلوجه لكن ليس ذلك إلا لأن وصول نفع ما أفاء الله تعالى إلى عامة المسلمين كان بما ذكر دون القسمة فافهم.
وفي إعادة اللام في الرسول وذي القربى مع العاطف ما لا يخفى من الاعتناء، وفيه على ما قيل: تأييد ما لمن يذهب إلى عدم سقوط سهميهما، ووجه إفراد ذي القربى- قد ذكرناه غير بعيد- ولما كان أبناء السبيل بمنزلة الأقارب قبل: وَابْنِ السَّبِيلِ بالإفراد كما قيل: وَلِذِي الْقُرْبى وعلى ذلك قوله:
أيا جارتا إنا غريبان هاهنا ... وكل غريب للغريب نسيب
كَيْ لا يَكُونَ تعليل للتقسيم، وضمير يَكُونَ لما أفاء الله تعالى أي كي لا يكون الفيء دُولَةً هي بالضم، وكذا بالفتح ما يدول أي ما يدور للإنسان من الغناء والجد والغلبة، وقال الكسائي وحذاق البصرة:- الدولة- بالفتح في الملك بالضم، والدولة- بالضم في الملك بالكسر، أو بالضم في المال وبالفتح في النصرة قيل: وفي الجاه وقيل: هي بالضم ما يتداول كالغرفة اسم ما يغترف وبالفتح مصدر بمعنى التداول، والراغب وعيسى بن عمر وكثير أنهما بمعنى واحد، وجمهور القراء قرؤوا بضم الدال والنصب، وبالياء التحتية في يكون على أن اسم يَكُونَ الضمير، ودُولَةً الخبر أي كي لا يكون الفيء جدّا بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ أي بينهم خاصة يتكاثرون به، أو كي لا يَكُونَ دُولَةً وغلبة جاهلية بينكم فإن الرؤساء منهم كانوا يستأثرون بالغنيمة ويقولون من عزيز، وقيل:
المعنى كي لا يكون شيئا يتداوله الأغنياء بينهم ويتعاورونه فلا يصيب أحدا من الفقراء.
وقرأ عبد الله «تكون» بالتاء الفوقية على أن الضمير على ما باعتبار المعنى إذ المراد بها الأموال، وقرأ أبو جعفر وهشام كذلك ورفع «دولة» بضم الدال على أن كان تامة، و «دولة» فاعل أي كي لا يقع دولة، وقرأ علي والسلمي كذلك أيضا، ونصب «دولة» بفتح الدال على أن كان ناقصا اسمها ما سمعت، «دولة» خبرها، ويقدر مضاف على القول بأنها مصدر إن لم يتجوز فيه، ولم يقصد المبالغة أي كي لا تكون ذات تداول بين الأغنياء لا يخرجونها إلى الفقراء، وظاهر التعليل بما ذكر اعتبار الفقر فيمن ذكر وعدم اتصافه تعالى به ضروري مع أن ذكره سبحانه كان للتيمن عند الأكثرين لا لأن له عز وجل سهما، وكذا يجل رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم عن أن يسمى فقيرا، وما اشتهر من
قوله عليه الصلاة والسلام: «الفقر فخري»
لا أصل له، وكيف يتوهم مثله والدنيا كلها لا تساوي عند الله تعالى جناح بعوضة، وهو صلّى الله تعالى عليه وسلم أحب خلقه إليه سبحانه حتى قال بعض العارفين: لا يقال له صلى الله تعالى عليه وسلم زاهد لأنه التارك للدنيا وهو عليه الصلاة والسلام لا يتوجه إليها فضلا عن طلبها اللازم للترك، وقيل: إن الخبر لو صح يكون المراد بالفقر فيه الانقطاع عن السوي بالمرة إلى الله عز وجل وهو غير الفقر الذي الكلام فيه واعتباره فيمن بعد لا محذور فيه حتى أنه ربما يكون دليلا على القول بأنه لا يعطى أغنياء ذوي القربى، وإنما يعطى فقراؤهم، وإذا حمل الكلام على ما حملناه عليه كفى في التعليل أن يكون فيمن يدفع إليه شيء من الفيء فقر، ولا يلزم أن كل من يدفع إليه شيء منه فقيرا وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ أي ما أعطاكم من الفيء فَخُذُوهُ لأنه حقكم الذي أحله الله تعالى لكم وَما نَهاكُمْ عَنْهُ أي عن أخذه منه فَانْتَهُوا عنه وَاتَّقُوا اللَّهَ في مخالفته عليه الصلاة والسلام إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ فيعاقب من يخالفه صلّى الله تعالى عليه وسلم، وحمل الآية على خصوص الفيء مروي عن الحسن وكان لذلك لقرينة المقام، وفي الكشاف الأجود أن تكون عامة في كل ما أمر به صلى الله تعالى عليه وسلم ونهى عنه، وأمر الفيء داخل في العموم، وذلك لعموم لفظ ما على أن الواو لا تصح عاطفة فهي اعتراض على سبيل التذييل، ولذلك عقب بقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ تعميما على تعميم فيتناول كل ما(14/243)
يجب أن يتقى ويدخل ما سبق له الكلام دخولا أوليا كدخوله في العموم الأول، وروي ذلك عن ابن جريج.
وأخرج الشيخان وأبو داود والترمذي وغيرهم عن ابن مسعود أنه قال: «لعن الله تعالى الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله تعالى» فبلع ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب وكانت تقرأ القرآن: فأتته فقالت: بلغني أنك لعنت كيت وكيت، فقال: مالي لا ألعن من لعن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وهو في كتاب الله عز وجل، فقالت: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته، قال: إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه، أما قرأت قوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا؟ قالت: بلى، قال: فإنه صلى الله تعالى عليه وسلم قد نهى عنه
. وعن الشافعي أنه قال: سلوني عما شئتم أخبركم به من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال عبد الله بن محمد بن هارون: ما تقول في المحرم يقتل الزنبور؟ فقال: قال الله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا.
وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن خراش عنه حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»
. وحدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر بن كدام عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب أنه أمر بقتل الزنبور، وهذا من غريب الاستدلال، وفيه على علاته- ككلام ابن مسعود- حمل ما في الآية على العموم، وعن ابن عباس ما يدل على ذلك أيضا، قيل: والمعنى حينئذ ما آتاكم الرسول من الأمر فتمسكوا به وما نهاكم عن تعاطيه فانتهوا عنه، والأمر جوز أن يكون واحد الأمور وأن يكون واحد الأوامر لمقابلة نهاكم له، قيل: والأول أقرب لأنه لا يقال: أعطاه الأمر بمعنى أمره إلا بتكلف كما لا يخفى، واستنبط من الآية أن وجوب الترك يتوقف على تحقق النهي ولا يكفي فيه عدم الأمر فما لم يتعرض له أمرا ولا نهيا لا يجب تركه لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ قال الزمخشري:
بدل من قوله تعالى: لِذِي الْقُرْبى والمعطوف عليه، والذي منع الإبدال من فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وما بعد وإن كان المعنى لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم أن الله عز وجل أخرج رسوله عليه الصلاة والسلام من الفقراء في قوله سبحانه: ويَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وأنه يترفع برسول الله عليه الصلاة والسلام عن التسمية بالفقير، وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله عز وجل، وهذا كما لا يجوز أن يوصف سبحانه بعلامة لأجل التأنيث لفظا لأن فيه سوء أدب انتهى.
وعنى أنه بدل كل من كل لاعتبار المبدل منه مجموع ما ذكر، قال الإمام: فكأنه قيل: أعني بأولئك الأربعة هؤلاء الفقراء والمهاجرين، وما ذكر من الإبدال من لِذِي الْقُرْبى وما بعده مبني على قوله الحنفية إنه لا يعطى الغني من ذوي القربى وإنما يعطى الفقير، ومن يرى كالشافعي أنه يعطى غنيهم كما يعطى فقيرهم خص الإبدال باليتامى وما بعده، وقيل: يجوز ذلك أيضا إلا أنه يقول بتخصيص اعتبار الفقر بفيء بني النضير فإنه عليه الصلاة والسلام لم يعط غنيا شيئا منه، والآية نازلة فيه وفيه تعسف ظاهر.
وفي الكشف أن لِلْفُقَراءِ ليس للقيد بل بيانا للواقع من حال المهاجرين وإثباتا لمزيد اختصاصهم كأنه قيل: لله وللرسول وللمهاجرين، وقال ابن عطية: لِلْفُقَراءِ إلخ بيان لقوله تعالى: الْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وكررت لام الجر لما كان ما تقدم مجرورا بها لتبيين أن البدل هو منها، وقيل: اللام متعلقة بما دل عليه قوله تعالى: كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ كأنه قيل: ولكن يكون للفقراء المهاجرين.
وسيأتي إن شاء الله تعالى ما خطر لنا في ذلك من الاحتمال بناء على ما يفهم من ظاهر كلام عمر بن الخطاب بمحضر جمع من الأصحاب الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ حيث اضطرهم كفار مكة وأحوجوهم إلى(14/244)
الخروج فخرجوا منها، وهذا وصف باعتبار الغالب، وقيل: كان هؤلاء مائة رجل يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً أي طالبين منه تعالى رزقا في الدنيا ومرضاة في الآخرة، وصفوا أولا بما يدل على استحقاقهم للفيء من الإخراج من الديار والأموال، وقيد ذلك ثانيا بما يوجب تفخيم شأنهم ويؤكده مما يدل على توكلهم التام ورضاهم بما قدره المليك العلّام وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ عطف على يَبْتَغُونَ فهي حال مقدرة أي ناوين لنصرة الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم أو مقارنة فإن خروجهم من بين الكفار مراغمين لهم مهاجرين إلى المدينة نصرة وأي نصرة أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر من الصفات الجليلة هُمُ الصَّادِقُونَ أي الكاملون في الصدق في دعواهم الإيمان حيث فعلوا ما يدل أقوى دلالة عليه مع إخراجهم من أوطانهم وأموالهم لأجله لا غيرهم ممن آمن في مكة ولم يخرج من داره وماله، ولم يثبت منه نحو ما ثبت منهم لنحو لين منه مع المشركين فالحصر إضافي ووجه بغير ذلك. وحمل بعضهم الكلام على العموم لحذف متعلق الصدق وتمسك به لذلك في الاستدلال على صحة إمامة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لأن هؤلاء المهاجرين كانوا يدعونه بخليفة رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم، والله تعالى قد شهد بصدقهم فلا بد أن تكون إمامته رضي الله تعالى عنه صحيحة ثابتة في نفس الأمر وهو تمسك ضعيف مستغنية عن مثله دعوى صحة خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه بإجماع الصحابة، ومنهم علي كرم الله تعالى وجهه، ونسبة التقية إليه بالموافقة لا يوافق الشيعة عليها متق كدعوى الإكراه بل مستغنية بغير ذلك أيضا وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ الأكثرون على أنه معطوف على المهاجرين، والمراد بهم الأنصار، والتبوّؤ النزول في المكان، ومنه المباءة للمنزل، ونسبته إلى الدار والمراد بها المدينة ظاهر، وأما نسبته إلى الايمان فباعتبار جعله مستقرا ومتوطنا على سبيل الاستعارة المكنية التخييلية، والتعريف في الدار للتنويه كأنها الدار التي تستحق أن تسمى دارا وهي التي أعدها الله تعالى لهم ليكون تبوؤهم إياها مدحا لهم.
وقال غير واحد: الكلام من باب:
علفتها تبنا وماء باردا أي تبوؤوا الدار وأخلصوا الإيمان، وقيل: التبوؤ مجاز مرسل عن اللزوم وهو لازم معناه فكأنه قيل: لزموا الدار والإيمان وقيل: في توجيه ذلك أن أل في الدار للعهد، والمراد دار الهجرة وهي تغني غناء الإضافة. وفي وَالْإِيمانَ حذف مضاف أي ودار الإيمان فكأنه قيل: تبوؤوا دار الهجرة ودار الإيمان على أن المراد بالدارين المدينة، والعطف كما في قولك: رأيت الغيث والليث وأنت تريد زيدا، ولا يخفى ما فيه من التكلف والتعسف، وقيل:
إن الإيمان مجاز عن المدينة سمي محل ظهور الشيء باسمه مبالغة وهو كما ترى، وقيل: الواو للمعية والمراد تبوؤوا الدار مع إيمانهم أي تبوؤوها مؤمنين، وهو أيضا ليس بشيء، وأحسن الأوجه ما ذكرناه أولا، وذكر بعضهم أن الدار علم بالغلبة على المدينة كالمدينة، وأنه أحد أسماء لها منها طيبة وطابة ويثرب وجابرة إلى غير ذلك.
وأخرج الزبير بن بكار عن زيد بن أسلم حديثا مرفوعا يدل على ذلك مِنْ قَبْلِهِمْ أي من قبل المهاجرين، والجار متعلق بتبوءوا، والكلام بتقدير مضاف أي من قبل هجرتهم فنهاية ما يلزم سبق الإيمان الأنصار على هجرة المهاجرين، ولا يلزم منه سبق إيمانهم على إيمانهم ليقال: إن الأمر بالعكس، وجوز أن لا يقدر مضاف، ويقال: ليس المراد سبق الأنصار لهم في أصل الإيمان بل سبقهم إياهم في التمكن فيه لأنهم لم ينازعوا فيه لما أظهروه.
وقيل: الكلام على التقديم والتأخير، والتقدير تبوؤوا الدار من قبلهم والإيمان فيفيد سبقهم إياهم في تبويء الدار فقط وهو خلاف الظاهر على أن مثله لا يقبل ما لم يتضمن نكتة سرية وهي غير ظاهرة هاهنا وقيل: لا حاجة إلى(14/245)
شيء مما ذكر، وقصارى ما تدل الآية عليه تقدم مجموع تبوؤىء الأنصار وإيمانهم على تبويء المهاجرين وإيمانهم، ويكفي في تقدم المجموع تقدم بعض أجزائه وهو هاهنا تبوؤ الدار، وتعقب بمنع الكفاية ولو سلمت لصلح أن يقال:
بتقدم تبويء المهاجرين وإيمانهم على تبويء الأنصار وإيمانهم لتقدم إيمان المهاجرين يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ في موضع الحال من الموصول، وقيل: استئناف، والكلام قيل: كناية عن مواساتهم المهاجرين وعدم الاستثقال والتبرم منهم إذا احتاجوا إليهم، وقيل: على ظاهره أي يحبون المهاجر إليهم من حيث مهاجرته إليهم لحبهم الإيمان وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ أي ولا يعلمون في أنفسهم.
حاجَةً أي طلب محتاج إليه مِمَّا أُوتُوا أي مما أعطي المهاجرون من الفيء وغيره، وحاصله أن نفوسهم لم تتبع ما أعطي المهاجرون ولم تطمح إلى شيء منه تحتاج إليه، فالوجدان إدراك علمي وكونه في الصدر من باب المجاز،- والحاجة- بمعنى المحتاج إليه، وهو استعمال شائع يقال: خذ منه حاجتك وأعطاه من ماله حاجته، ومِنْ تبعيضية، وجوز كونها بيانية والكلام على حذف مضاف وهو طلب، وفيه فائدة جليلة كأنهم لم يتصوروا ذلك ولا مرّ في خاطرهم أن ذلك محتاج إليه حتى تطمح إليه النفس.
ويجوز أن يكون المعنى- لا يجدون في أنفسهم ما يحصل عليه الحاجة كالحزازة والغيظ والحسد والغبطة لأجل ما أعطي المهاجرون- على أن الحاجة مجاز عما يتسبب عنها، قيل: على أنه كناية عما ذكر لأنه لا ينفك عن الحاجة فأطلق اسم اللازم على الملزوم، وما تقدم أولى، وقول بعضهم: أي أثر حاجة تقدير معنى لا إعراب، ومِنْ في قوله تعالى: مِمَّا أُوتُوا تعليلية وَيُؤْثِرُونَ أي يقدمون المهاجرين عَلى أَنْفُسِهِمْ في كل شيء من الطيبات حتى أن من كان عنده امرأتان كان ينزل عن إحداهما ويزوجها واحدا منهم، ويجوز أن لا يعتبر مفعول- يؤثرون- خصوص المهاجرين،
أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن أبي هريرة قال: أتى رجل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أصابني الجهد فأرسل إليه نسائه فلم يجد عندهن شيئا فقال عليه الصلاة والسلام: «ألا رجل يضيف هذا الرجل الليلة رحمه الله؟ فقال رجل من الأنصار- وفي رواية- فقال أبو طلحة: أنا يا رسول الله فذهب به إلى أهله فقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية قال: إذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي فأطفئي السراج ونطوي الليلة لضيف رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ففعلت ثم غدا الضيف على رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فقال: لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة وأنزل الله تعالى فيهما وَيُؤْثِرُونَ»
إلخ.
وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم رأس شاة فقال: إن أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا منا فبعث به إليه فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداوله أهل سبعة أبيات حتى رجع إلى الأول فنزلت وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ أي حاجة من خصاص البيت وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج والفتوح، والجملة في موضع الحال، وقد تقدم وجه ذلك مرارا وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ الشح اللؤم وهو أن تكون النفس كزة حريصة على المنع كما قال:
يمارس نفسا بين جنبيه كزة ... إذا همّ بالمعروف قالت له مهلا
وأضيف إلى النفس لأنه غريزة فيها، وأما البخل فهو المنع نفسه، وقال الراغب: الشح بخل مع حرص وذلك فيما كان عادة، وأخرج ابن المنذر عن الحسن أنه قال: البخل أن يبخل الإنسان بما في يده، والشح أن يشح على ما في أيدي الناس، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب والحاكم(14/246)
وصححه وجماعة عن ابن مسعود أن رجلا قال له: إني أخاف أن أكون قد هلكت قال: وما ذاك؟ قال: إني سمعت الله تعالى يقول: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ الآية وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج مني شيء فقال له ابن مسعود: ليس ذاك بالشح ولكنه البخل ولا خير في البخل، وإن الشح الذي ذكره الله تعالى أن تأكل مال أخيك ظلما، وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ليس الشح أن يمنع الرجل ماله ولكنه البخل إنما الشح أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له، ولم أر لأحد من اللغويين شيئا من هذه التفاسير للشح، ولعل المراد أنه البخل المتناهي بحيث يبخل المتصف به بمال غيره أي لا يودّ جود الغير به وتنقبض نفسه منه ويسعى في أن لا يكون، أو بحيث يبلغ به الحرص إلى أن يأكل مال أخيه ظلما أن تطمح عينه إلى ما ليس له ولا تسمح نفسه بأن يكون لغيره فتأمل.
وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «ومن يوقّ» بشدّ القاف، وقرأ ابن عمر وابن عمر وابن أبي عبلة «شحّ» بكسر الشين، وجاء فيه لغة الفتح أيضا، ومعنى الكل واحد، ومعنى الآية ومن يوق بتوفيق الله تعالى ومعونته شح نفسه حتى يخالفها فيما يغلب عليها من حب المال وبغض الإنفاق فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بكل مطلوب الناجون من كل مكروه، والجملة الشرطية تذييل حسن ومدح للأنصار بما هو غاية لتناوله إياهم تناولا أوليا، وفي الإفراد أولا والجمع ثانيا رعاية للفظ من ومعناها وإيماء إلى قلة المتصفين بذلك في الواقع عددا وكثرتهم معنى:
والناس ألف منهم كواحد ... وواحد كالألف إن أمر عنا
ويفهم من الآية ذم الشح جدا، وقد وردت أخبار كثيرة بذمه،
أخرج الحكيم الترمذي وأبو يعلى وابن مردويه عن أنس مرفوعا «ما محق الإسلام محق الشح شيء قط»
،
وأخرج ابن أبي شيبة والنسائي والبيهقي في الشعب والحاكم وصححه عن أبي هريرة مرفوعا «لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان نار جهنم في جوف عبد أبدا ولا يجتمع الإيمان والشح في قلب عبد أبدا» .
وأخرج أبو داود والترمذي- وقال غريب- والبخاري في الأدب وغيرهم عن أبي سعيد الخدري مرفوعا «خصلتان لا يجتمعان في جوف مسلم البخل وسوء الخلق»
وأخرج ابن أبي الدنيا وابن عدي والحاكم والخطيب عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «خلق الله تعالى جنة عدن وغرس أشجارها بيده ثم قال لها:
انطقي فقالت: قد أفلح المؤمنون فقال الله عز وجل: وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
وأخرج أحمد والبخاري في الأدب ومسلم والبيهقي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح قد أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم»
إلى غير ذلك من الأخبار، لكن ينبغي أن يعلم أن تقوى الشح لا تتوقف على أن يكون الرجل جوادا بكل شيء،
فقد أخرج عبد بن حميد وأبو يعلى والطبراني والضياء عن مجمع بن يحيى مرفوعا «بريء من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأدى في النائبة» .
وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله ما يقرب منه، وكذا ابن جرير والبيهقي عن أنس، وأخرج ابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: من أدى زكاة ماله فقد وقى شح نفسه
، وقوله تعالى: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ عطف عند الأكثرين أيضا على المهاجرين، والمراد بهؤلاء قيل: الذين هاجروا حين قوي الإسلام، فالمجيء حسي وهو مجيئهم إلى المدينة، وضمير مِنْ بَعْدِهِمْ للمهاجرين الأولين، وقيل: هم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم(14/247)
القيامة، فالمجيء إما إلى الوجود أو إلى الإيمان، وضمير مِنْ بَعْدِهِمْ للفريقين المهاجرين والأنصار، وهذا هو الذي يدل عليه كلام عمر رضي الله تعالى عنه وكلام كثير من السلف كالصريح فيه، فالآية قد استوعبت جميع المؤمنين، وجملة قوله تعالى: يَقُولُونَ إلخ حالية، وقيل: استئناف رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا أي في الدين الذي هو أعز وأشرف عندهم من النسب الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وصفوهم بذلك اعترافا بفضلهم وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا أي حقدا، وقرىء غمرا لِلَّذِينَ آمَنُوا على الإطلاق رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ أي مبالغ في الرأفة والرحمة. فحقيق بأن تجيب دعاءنا، وفي الآية حث على الدعاء للصحابة وتصفية القلوب من بغض أحد منهم، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وجماعة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم فسبوهم ثم قرأت هذه الآية وَالَّذِينَ جاؤُ إلخ.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سمع رجلا وهو يتناول بعض المهاجرين فدعاه فقرأ عليه لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الآية، ثم قال: هؤلاء المهاجرون أفمنهم أنت؟ قال: لا، ثم قرأ عليه وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ الآية، ثم قال: هؤلاء الأنصار أفمنهم أنت؟ قال: لا، ثم قرأ عليه وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ الآية، ثم قال: أفمن هؤلاء أنت؟ قال: أرجو قال: لا والله ليس من هؤلاء من سب هؤلاء.
وفي رواية أن ابن عمر رضي الله تعالى عنه بلغه أن رجلا نال من عثمان رضي الله تعالى عنه فدعاه فقرأ عليه الآيات وقال له ما قال، وقال الإمام مالك: من كان له في أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم قول سيء أو بغض فلا حظّ له في الفيء أخذا من هذه الآية، وفيها ما يدل على ذم الغل لأحد من المؤمنين،
وفي حديث أخرجه الحكيم الترمذي والنسائي عن أنس رضي الله تعالى عنه «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: في أيام ثلاثة يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلع فيها رجل من الأنصار فبات معه عبد الله بن عمرو بن العاص ثلاث ليال
مستكشفا حاله فلم ير له كثير عمل فأخبره الخبر فقال له: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي غلا لأحد من المسلمين ولا أحسده على خير أعطاه الله تعالى إياه فقال له عبد الله: هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق- وفي رواية- أنه قال: لو كانت الدنيا لي فأخذت مني لم أحزن عليها ولو أعطيتها لم أفرح بها وأبيت وليس في قلبي غل على أحد فقال عبد الله: لكني أقوم الليل وأصوم النهار ولو وهبت لي شاة لفرحت بها ولو ذهبت لحزنت عليها والله لقد فضلك الله تعالى علينا فضلا بيّنا» هذا وذهب بعضهم إلى أن قوله تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا إلخ مبتدأ، وجملة يُحِبُّونَ إلخ خبره، والكلام استئناف مسوق لمدح الأنصار، وجوز كون ذلك معطوفا على أُولئِكَ فيفيد شركة الأنصار للمهاجرين في الصدق، وجملة يُحِبُّونَ إلخ إما استئناف مقرر لصدقهم أو حال من ضمير تَبَوَّؤُا وإلى أن قوله تعالى: وَالَّذِينَ جاؤُ إلخ مبتدأ، وجملة يَقُولُونَ إلخ خبره، والجملة معطوفة على الجملة السابقة مسوقة لمدح هؤلاء بمحبتهم من تقدمهم من المؤمنين ومراعاتهم لحقوق الأخوة في الدين والسبق بالإيمان كما أن ما عطفت عليه من الجملة السابقة لمدح الأنصار.
واستدل لعدم عطف الَّذِينَ تَبَوَّؤُا على الْمُهاجِرِينَ بما
روي أن النبي عليه الصلاة والسلام قسم أموال بني النضير على المهاجرين ولم يعط الأنصار إلا ثلاثة كما تقدم، وقال عليه الصلاة والسلام لهم: إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم من هذه الغنيمة وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة فقالوا: بل نقسم لهم- أي للمهاجرين- من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها» فنزلت الآية وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ إلى آخره
، وبعض القائلين بالعطف يقولون: إن قوله تعالى:(14/248)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا إلخ بيان لحكم الأخماس الأربعة على معنى أن له عليه الصلاة والسلام أن يعم الناس بها حسب اختياره وأن الأنصار مصرف من المصارف، ولكن قد اختار صلّى الله تعالى عليه وسلم أن يكون إعطاؤهم بالشرط الذي ذكره عليه الصلاة والسلام لهم، وهم اختاروا ما اختاروا إيثارا منهم، وذلك لا يخرجهم عن كونهم مصرفا بل في قوله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ رمز إليه على أن في الأخبار ما هو أصح وأصرح في الدلالة على عطفهم على ما تقدم، وأنهم يعطون من الفيء، وكذا عطف- الذين جاؤوا من بعدهم- فقد اخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حيان وغيرهم عن مالك بن أوس بن الحدثان في حديث طويل أن عمر رضي الله تعالى عنه قال- أي في قضاء بين علي كرم الله تعالى وجهه وعمه العباس رضي الله تعالى عنه في فدك، وقد كان عمر دفعها إليهما وأخذ عليهما عهد الله تعالى على أن يعملا فيها بما كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يعمل به فيها فتنازعا- إن الله تعالى قال: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فكانت لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم خاصة، ثم قال سبحانه:
ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى إلى آخر الآية، ثم والله ما أعطاها هؤلاء وحدهم حتى قال تعالى: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، ثم والله ما جعلها لهؤلاء وحدهم حتى قال سبحانه: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا إلى قوله تعالى: رَحِيمٌ فقسمها هذا القسم على هؤلاء الذين ذكر، ولئن بقيت ليأتين الرويعي بصنعاء حقه ودمه في وجهه، وظاهر هذا الخبر يقتضي أن للمهاجرين سهما غير السهام السابقة فلا يكون لِلْفُقَراءِ بدل من- لذي القربى- وما بعده ولا مما بعده دونه، وكذا ظاهر ما في مصحف عبد الله وزيد بن ثابت كما أخرجه ابن الأنباري في المصاحف عن الأعمش- ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والمهاجرين في سبيل الله- على أن الإبدال يقتضي ظاهرا كون اليتامى مهاجرين أخرجوا من ديارهم وأموالهم إلى آخر الصفات، وفي صدق ذلك عليهم بعد، وكذا يقتضي كون ابن السبيل كذلك، وفيه نوع بعد أيضا كما لا يخفى فلعله اعتبر تعلقه بفعل محذوف والجملة استئناف بياني، وذلك أنهم كانوا يعلمون أن الخمس يصرف لمن تضمنه قوله تعالى: فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ فلما ذكر ذلك انقدح في أذهانهم أن المذكورين مصرف الخمس ولم يعلموا مصرف الأخماس الأربعة الباقية فكأنهم قالوا: فلمن تكون الأخماس الأربعة الباقية أو فلمن يكون الباقي؟ فقيل: تكون الأخماس الاربعة الباقية أو يكون الباقي لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ إلى آخره ولم أر من تعرض لذلك فتأمل، والله تعالى الهادي إلى أحسن المسالك.(14/249)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا حكاية لما جرى بين الكفرة والمنافقين من الأقوال الكاذبة والأحوال الفاسدة وتعجيب منها بعد حكاية محاسن أحوال المؤمنين على اختلاف طبقاتهم. والخطاب لرسول الله عليه الصلاة والسلام أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب والآية كما أخرج ابن إسحاق وابن المنذر وأبو نعيم عن ابن عباس في رهط من بني عوف منهم عبد الله بن أبيّ بن سلول ووديعة بن مالك وسويد وداعس بعثوا إلى بني النضير بما تضمنته الجمل المحكية بقوله تعالى: يَقُولُونَ إلخ.
وقال السدي: أسلم ناس من بني قريظة والنضير وكان فيهم منافقون فبعثوا إلى بني النضير ما قص الله تعالى، والمعول عليه الأول، وقوله سبحانه: يَقُولُونَ استئناف لبيان المتعجب منه، وصيغة المضارع للدلالة على استمرار قولهم، أو لاستحضار صورته، واللام في قوله عز وجل: لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ للتبليغ والمراد بإخوتهم الإخوة في الدين واعتقاد الفكرة أو الصداقة، وكثر جمع الأخ مرادا به ما ذكر على إخوان، ومرادا به الأخوة في النسب على إخوة، وقل خلاف ذلك، واللام في قوله تعالى: لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ موطئة للقسم وقوله سبحانه لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ جواب القسم أي والله لئن أخرجتم من دياركم قسرا لنخرجن من ديارنا معكم البتة ونذهبن في صحبتكم أينما ذهبتم وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ في شأنكم أَحَداً يمنعنا من الخروج معكم وهو لدفع أن يكونوا وعدوهم الخروج بشرط أن يمنعوا منه أَبَداً وإن طال الزمان، وقيل: لا نطيع في قتالكم أو خذلانكم، قال في الإرشاد: وليس بذاك لأن تقدير القتال مترقب بعد، ولأن وعدهم لهم على ذلك التقدير ليس مجرد عدم طاعتهم لمن يدعوهم إلى قتالهم بل نصرتهم عليه كما ينطق به قوله تعالى: وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ أي لنعاوننكم على عدوكم على أن دعوتهم إلى خذلان اليهود مما لا يمكن صدوره عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين حتى يدعوا عدم طاعتهم فيها ضرورة أنها لو كانت لكانت عند استعدادهم لنصرتهم وإظهار كفرهم، ولا ريب في أن ما يفعله عليه الصلاة والسلام عند ذلك قتلهم لا دعوتهم إلى ترك نصرتهم، وأما الخروج معهم فليس بهذه المرتبة من إظهار الكفر لجواز أن يدّعوا أن(14/250)
خروجهم معهم لما بينهم من الصداقة الدنيوية لا للموافقة في الدين، ونوقش في ذلك، وجواب إِنْ محذوف، ولَنَنْصُرَنَّكُمْ جواب قسم محذوف قبل إِنْ الشرطية، وكذا يقال فيما بعد على ما هو القاعدة المشهورة فيما إذا تقدم القسم على الشرط وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في مواعيدهم المؤكدة بالأيمان، وقوله تعالى: لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ إلى آخره تكذيب لهم في كل واحد من أقوالهم على التفصيل بعد تكذيبهم في الكل على الإجمال وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وكان الأمر كذلك، والإخبار عن خلفهم في الميعاد قيل: من الإخبار بالغيب وهو من أدلة النبوة وأحد وجوه الإعجاز، وهذا مبني على أن السورة نزلت قبل وقعة بني النضير، وكلام أهل الحديث والسير على ما قيل: يدل على خلافه.
وقال بعض الأجلة: إن قوله تعالى: يَقُولُونَ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ إلخ من باب الإخبار بالغيب بناء على ما روي أن عبد الله بن أبيّ دس إليهم لا يخرجوا فأطلع الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام على ما دسه وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ على سبيل الفرض والتقدير لَيُوَلُّنَّ أي المنافقون الْأَدْبارَ فرارا ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ بعد ذلك أي يهلكهم الله تعالى ولا ينفعهم نفاقهم لظهور كفرهم، أو لَيُوَلُّنَّ أي اليهود المفروضة نصرة المنافقين إياهم ولينهزمن، ثم لا ينفعهم نصرة المنافقين، وقيل: الضمير المرفوع في نَصَرُوهُمْ لليهود، والمنصوب للمنافقين أي ولئن نصر اليهود المنافقين ليولي اليهود الأدبار وليس بشيء، وكأنه دعا قائله إليه دفع ما يتوهم من المنافاة بين لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ على الوجه السابق، وقد أشرنا إلى دفع ذلك من غير حاجة إلى هذا التوجيه الذي لا يخفى حاله لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً أي أشد مرهوبية على أن رَهْبَةً مصدر من المبني للمفعول لأن المخاطبين وهم المؤمنين مرهوب منهم لا راهبون فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ أي رهبتهم منكم في السر أشد مما يظهرونه لكم من رهبة الله عز وجل وكانوا يظهرون لهم رهبة شديدة من الله عز وجل، ويجوز أن يراد أنهم يخافونكم في صدورهم أشد من خوفهم من الله تعالى ولشدة البأس والتشجع ما كانوا يظهرون ذلك، قيل: إن فِي صُدُورِهِمْ على الوجه الأول مبالغة وتصوير على نحو رأيته بعيني ذلِكَ أي ما ذكر من كونكم أشد رهبة في صدورهم من الله تعالى بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ شيئا حتى يعلموا عظمة الله عز وجل فيخشوه حق خشيته سبحانه وتعالى، والمراد بهؤلاء اليهود، وقيل:
المنافقون وقيل: الفريقان لا يُقاتِلُونَكُمْ أي اليهود والمنافقون، وقيل: اليهود يعني لا يقتدرون على قتالكم جَمِيعاً أي مجتمعين متفقين في موطن من المواطن إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ بالدروب والخنادق ونحوها أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ يتسترون بها دون أن يصحروا لكم ويبارزوكم لقذف الله تعالى الرعب في قلوبهم ومزيد رهبتهم منكم.
وقرأ أبو رجاء والحسن وابن وثاب «جدر» بإسكان الدال تخفيفا، ورويت عن ابن كثير وعاصم والأعمش، وقرأ أبو عمرو وابن كثير في الرواية المشهورة وكثير من المكيين جدار بكسر الجيم وألف بعد الدال وهي مفرد الجدر، والقصد فيه إلى الجنس، أو المراد به السور الجامع للجدر والحيطان.
وقرأ جمع من المكيين وهارون عن ابن كثير «جدر» بفتح الجيم وسكون الدال، قال صاحب اللوامح:
وهو الجدار بلغة اليمن، وقال ابن عطية: معناه أصل بنيان كسور وغيره، ثم قال: ويحتمل أن يكون من جدر النخل أي من وراء نخلهم إذ هي مما يتقى به عند المصافة بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ استئناف سيق لبيان أن ما ذكر من رهبتهم ليس لضعفهم وجبنهم في أنفسهم فإن بأسهم إذا اقتتلوا شديد وإنما ضعفهم وجبنهم بالنسبة(14/251)
إليكم بما قذف الله تعالى في قلوبهم من الرعب تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً أي مجتمعين ذوي إلفة واتحاد وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى جمع شتيت أي متفرقة لا إلفة بينها يعني أن بينهم إحنا وعدوات فلا يتعاضدون حق التعاضد ولا يرمون عن قوس واحدة، وهذا تجسير للمؤمنين وتشجيع لقلوبهم على قتالهم.
وقرأ مبشر بن عبيد «شتى» بالتنوين جعل الألف ألف الإلحاق، وعبد الله- وقلوبهم أشت- أي أكثر أو أشد تفرقا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ أي ما ذكر من تشتت قلوبهم بسبب أنهم قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ شيئا حتى يعلموا طرق الألفة وأسباب الاتفاق، وقيل: لا يَعْقِلُونَ أن تشتت القلوب مما يوهن قواهم المركوزة فيهم بحسب الخلقة ويعين على تدميرهم واضمحلالهم وليس بذاك، وقوله تعالى: كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ خبر مبتدأ محذوف تقديره مثلهم أي مثل المذكورين من اليهود بني النضير، أو منهم ومن المنافقين كمثل أهل بدر- كما قال مجاهد- أو كبني قينقاع- كما قال ابن عباس- وهم شعب من اليهود الذين كانوا حوالى المدينة غزاهم النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم يوم السبت على رأس عشرين شهرا من الهجرة في شوال قبل غزوة بني النضير حيث كانت في ربيع سنة أربع وأجلاهم عليه الصلاة والسلام إلى أذرعات على ما فصل في كتب السير.
وقيل: أي مثل هؤلاء المنافقين كمثل منافقي الأمم الماضية قَرِيباً ظرف لقوله تعالى: ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ أي ذاقوا سوء عاقبة كفرهم في زمن قريب من عصيانهم أي لم تتأخر عقوبتهم وعوقبوا في الدنيا إثر عصيانهم.
وقيل: انتصاب قَرِيباً- بمثل- إذ التقدير كوقوع مثل الذين، وتعقب بأن الظاهر أنه أريد أن في الكلام مضافا هو العامل حقيقة في الظرف إلا أنه لما حذف عمل المضاف إليه فيه لقيامه مقامه، ولا يخفى أن المعنى ليس عليه لأن المراد تشبيه المثل بالمثل أي الصفة الغريبة لهؤلاء بالصفة الغريبة للذين من قبلهم دون تشبيه المثل بوقوع المثل، وأجيب بأن الإضافة من إضافة الصفة إلى موصوفها فيرجع التشبيه إلى تشبيه المثل بالمثل فكأنه قيل: مثلهم كمثل الذين من قبلهم الواقع قريبا، وفيه أن ذلك التقدير ركيك وما ذكر لا يدفع الركاكة، والقول بتقدير مضاف في جانب المبتدأ أيضا أي وقوع مثلهم كوقوع مثل الذين من قبلهم قريبا فيكون قد شبه وقوع المثل بوقوع المثل تعسف لا ينبغي أن يرتكب في الفصيح.
وقيل: إن العامل فيه التشبيه أي يشبهونهم في زمن قريب، وقيل: متعلق الكاف لأنه يدل على الوقوع، وكلا القولين كما ترى، ولا يبعد تعلقه بما تعلقت به الصلة أعني من قبلهم أي الذين كانوا من قبلهم في زمن قريب فيفيد أن قبليتهم قبلية قريبة، ويلزم من ذلك قرب ما فعل بهم وهو المثل، ويكون هذا مطمح النظر في الإفادة ويتضمن تعييرهم بأنهم كانت لهم في أهل بدر أو بني قينقاع أسوة فبعد لم ينطمس آثار ما وقع بهم وهو كذلك على تقدير الوقوع ونحوه، وجملة ذاقُوا مفسرة للمثل لا محل لها من الإعراب، ويتعين تعلق قَرِيباً بما بعد على تقدير أن يراد بمن قبل منافقو الأمم الماضية فتدبر وَلَهُمْ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ لا يقادر قدره، والجملة قيل: عطف على الجملة السابقة وإن اختلفا فعلية واسمية، وقيل: حال مقدرة من ضمير ذاقُوا وأيا ما كان فهو داخل في حيز المثل، وقيل: عطف على جملة- مثلهم كمثل الذين من قبلهم- ولا يخفى بعده، وقوله تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ جعله غير واحد خبر مبتدأ محذوف أيضا أي مثلهم كمثل الشيطان على أن ضمير- مثلهم- هاهنا للمنافقين وفيما تقدم لبني النضير، وقال بعضهم: ضمير- مثلهم- المقدر في الموضعين للفريقين، وجعله بعض المحققين خبرا ثانيا للمبتدأ المحذوف في قوله تعالى: كَمَثَلِ الَّذِينَ على أن الضمير هناك للفريقين إلا أن المثل الأول يخص بني(14/252)
النضير، والثاني يخص المنافقين، وأسند كل من الخبرين إلى ذلك المقدر المضاف إلى ضميرهما من غير تعيين ما أسند إليه بخصوص ثقة بأن السامع يرد كلا إلى ما يليق به ويماثله كأنه قيل: مثل أولئك الذين كفروا من أهل الكتاب في حلول العذاب بهم كمثل الذين من قبلهم ومثل المنافقين في إغرائهم إياهم على القتال حسبما نقل عنهم كمثل الشيطان إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ أي أغراه على الكفر إغراء الآمر للمأمور به فهو تمثيل واستعارة فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ تبرأ منه مخافة أن يشاركه في العذاب ولم ينفعه ذلك كما قال سبحانه: فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها أبد الآبدين وَذلِكَ أي الخلود في النار جَزاءُ الظَّالِمِينَ على الإطلاق دون المذكورين خاصة، والجمهور على أن المراد بالشيطان والإنسان الجنس فيكون التبري يوم القيامة وهو الأوفق بظاهر قوله: إِنِّي أَخافُ إلخ.
وذهب بعضهم إلى أن المراد بالشيطان إبليس، وبالإنسان أبو جهل عليهما اللعنة قال له يوم بدر: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم حتى وقعوا فيما وقعوا قال: إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله الآية، وفي الآية عليه مع ما تقدم عن مجاهد لطيفة، وذلك أنه لما شبه أولا حال إخوان المنافقين من أهل الكتاب بحال أهل بدر شبه هنا حال المنافقين بحال الشيطان في قصة أهل بدر، ومعنى اكْفُرْ على تخصيص الإنسان بأبي جهل دم على الكفر عند بعض، وقال الخفاجي: لا حاجة لتأويله بذلك لأنه تمثيل.
وأخرج أحمد في الزهد والبخاري في تاريخه والبيهقي في الشعب والحاكم وصححه وغيرهم عن علي كرم الله تعالى وجهه أن رجلا كان يتعبد في صومعته وأن امرأة كانت لها إخوة فعرض لها شيء فأتوه بها فزينت له نفسه فوقع عليها فحملت فجاءه الشيطان فقال: اقتلها فإنهم إن ظهروا عليك افتضحت فقتلها ودفنها فجاؤوه فأخذوه فذهبوا به فبينما هم يمشون إذ جاءه الشيطان فقال: أنا الذي زينت لك فاسجد لي سجدة أنجيك فسجد له أي ثم تبرأ منه وقال له ما قال، فذلك قوله تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ الآية
، وهذا الرجل هو برصيصا الراهب، وقد رويت قصته على وجه أكثر تفصيلا مما ذكر وهي مشهورة في القصص، وفي البحر إن قول الشيطان: «إني أخاف الله» كان رياء وهو لا يمنعه الخوف عن سوء يوقع فيه ابن آدم وقرىء أنا بريء، وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وسليم ابن أرقم- فكان عاقبتهما- بالرفع على أنه اسم كان، وأنهما إلخ في تأويل مصدر خبرها على عكس قراءة الجمهور.
وقرأ عبد الله وزيد بن علي والأعمش وابن أبي عبلة- خالدان- بالألف على أنه خبر إن، وَفِي النَّارِ متعلق به، وقدم للاختصاص، وفيها تأكيد له وإعادة تضميره، وجوز أن يكون «في النار» خبر إن، وخالدان- خبر ثانيا وهو في قراءة الجمهور حال من الضمير في الجار والمجرور يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ في كل ما تأتون وتذرون وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ أي أي شيء قدمت من الأعمال ليوم القيامة عبر عنه بذلك لدنوه دنو الغد من أمسه، أو لأن الدنيا كيوم والآخرة غده يكون فيها أحوال غير الأحوال السابقة، وتنكيره لتفخيمه وتهويله كأنه قيل: «لغد» لا يعرف كنهه لغاية عظمه، وأما تنكير نَفْسٌ فلاستقلال الأنفس النواظر كأنه قيل: ولتنظر نفس واحدة في ذلك، وفيه حث عظيم على النظر وتعيير بالترك وبأن الغفلة قد عمت الكل فلا أحد خلص منها، ومنه ظهر- كما في الكشف- أن جعله من قبيل قوله تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ [التكوير: 14] غير مطابق للمقام أي فهو كما
في الحديث «الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة»
لأن الأمر بالنظر وإن عم لكن المؤتمر الناظر أقل من القليل، والمقصود بالتقليل هو هذا لأن المأمور لا ينظر إليه ما لم يأتمر، وجوز ابن عطية أن يراد بغد يوم الموت، وليس بذاك، وقرأ أبو حيوة ويحيى بن الحارث- ولتنظر- بكسر اللام، وروي ذلك عن حفص عن عاصم، وقرأ الحسن بكسرها وفتح الراء(14/253)
جعلها لام كي، وكان المعنى ولكي تنظر نفس ما قدمت لغد أمرنا بالتقوى وَاتَّقُوا اللَّهَ تكرير للتأكيد، أو الأول في أداء الواجبات كما يشعر به ما بعده من الأمر بالعمل وهذا في ترك المحارم كما يؤذن به الوعيد بقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي من المعاصي، وهذا الوجه الثاني أرجح لفضل التأسيس على التأكيد، وفي ورود الأمرين مطلقين من الفخامة ما لا يخفى، وقيل: إن التقوى شاملة لترك ما يؤثم ولا وجه وجيه للتوزيع والمقام مقام الاهتمام بأمرها، فالتأكيد أولى وأقوى، وفيه منع ظاهر، وكيف لا والمتبادر مما قدمت أعمال الخير كذا قيل، ولعل من يقول بالتأكيد يقول: إن قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ إلخ يتضمن الوعد والوعيد ويعمم ما قدمت أيضا، ولعلك مع هذا تميل للتأسيس.
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ أي نسوا حقوقه تعالى شأنه: وما قدروا الله حق قدره ولم يراعوا مواجب أمره سبحانه ونواهيه عز وجل حق رعايتها فَأَنْساهُمْ الله تعالى بسبب ذلك أَنْفُسَهُمْ أي جعلهم سبحانه ناسين لها حتى لم يسعوا بما ينفعها ولم يفعلوا ما يخلّصها، أو أراهم جل جلاله يوم القيامة من أهوال ما أنساهم أنفسهم أي أراهم أمرا هائلا وعذابا أليما، ونسيان النفس حقيقة قيل: مما لا يكون لأن العلم بها حضوري، وفيه نظر وإن نص عليه ابن سينا وأشياعه أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الكاملون في الفسوق.
وقرأ أبو حيوة- ولا يكونوا- بياء الغيبة على سبيل الالتفات، وقال ابن عطية: كناية عن نفس المراد بها الجنس لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ الذين نسوا لله تعالى فاستحقوا الخلود في النار وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ الذين اتقوا الله فاستحقوا الخلود في الجنة، ولعل تقديم أصحاب النار في الذكر للإيذان من أول الأمر بأن القصور الذي ينبىء عنه عدم الاستواء من جهتهم لا من جهة مقابليهم فإن مفهوم عدم الاستواء بين الشيئين المتفاوتين زيادة ونقصانا وإن جاز اعتباره بحسب زيادة الزائد لكن المتبادر اعتباره بحسب نقصان الناقص، وعليه قوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ [الرعد: 16] إلى غير ذلك.
ولعل تقديم الفاضل في قوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9] لأن صفته ملكة لصفة المفضول الإعدام مسبوقة بملكاتها، والمراد بعدم الاستواء عدم الاستواء في الأحوال الأخروية كما ينبىء عنه التعبير عن الفريقين بصاحبية النار وصاحبية الجنة، وكذا قوله تعالى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ فإنه استئناف مبين لكيفية عدم الاستواء بينهما أي هم الفائزون في الآخرة بكل مطلوب الناجون عن كل مكروه، والآية تنبيه للناس وإيذان بأنهم لفرط غفلتهم وقلة فكرتهم في العاقبة وتهالكهم على إيثار العاجلة واتباع الشهوات الزائلة كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار والبون العظيم بين أصحابهما وأن الفوز مع أصحاب الجنة فمن حقهم أن يعلموا ذلك وينبهوا عليه، وهذا كما تقول لمن عق أباه: هو أبوك تجعله بمنزلة من لا يعرفه فتنبهه على حق الأبوة الذي يقتضي البر والتعطف، ومما ذكر يعلم ضعف استدلال أصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنه بالآية على أن المسلم لا يقتل بالكافر، وأن الكفار لا يملكون أموال المسلمين بالقهر، وانتصر لهم بأن لهم أن يقولوا: لما حث سبحانه على التقوى فعلا وتركا وزجر عز وجل عن الغفلة التي تضادها غاية المضادة بذكر غايتها أعني نسيان الله تعالى ترشيحا للتقريع أردفه سبحانه بأن أصحاب التقوى وأصحاب هذه الغفلة لا يستوون في شيء ما، وعبر عنهم بأصحاب الجنة وأصحاب النار زيادة تصوير وتبيين، فالمقام يقتضي التباين في حكمي الدارين وإن كان المقصود بالقصد الأول تباينهم في الدار التي هي المدار، وأنت تعلم أن بيان اقتضاء المقام ذلك في مقابلة قول أصحاب أبي حنيفة. إن المقام يقتضي التخصيص وإلا فالشافعية يقولون: إن العموم مدلول نفي المساواة لغة لأن النفي داخل على مسمى المساواة(14/254)
فلا بد من انتفائها من جميع الوجوه إذ لو وجدت من وجه لما كان مسماها منتفيا وهو خلاف مقتضى اللفظ، وقول الحنفية: إن الاستواء مطلقا أعم من الاستواء من كل وجه ومن وجه دون وجه، والنفي إنما دخل على الاستواء الأعم فلا يكون مشعرا بأحد القسمين الخاصين.
وحاصله أن الأعم لا يشعر بالأخص فيه إن ذلك في الإثبات مسلم وفي النفي ممنوع، ألا ترى أن من قال: ما رأيت حيوانا وكان قد رأى إنسانا مثلا عد كاذبا؟ وتمام ذلك في كتب الأصول، والإنصاف أن كون المراد هنا نفي الاستواء في الأمور الأخروية ظاهر جدا فلا ينبغي الاستدلال بها على ما ذكر.
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ العظيم الشأن المنطوي على فنون القوارع عَلى جَبَلٍ من الجبال أو جبل عظيم لَرَأَيْتَهُ مع كونه علما في القسوة وعدم التأثر مما يصادمه خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أي متشققا منها.
وقرأ أبو طلحة مصدعا بإدغام التاء في الصاد، وهذا تمثيل وتخييل لعلو شأن القرآن وقوة تأثير ما فيه من المواعظ والزواجر، والغرض توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وقلة تخشعه عند تلاوة القرآن وتدبر ما فيه من القوارع وهو الذي لو أنزل على جبل وقد ركب فيه العقل لخشع وتصدع، ويشير إلى كونه تمثيلا قوله تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فإن الإشارة فيه إلى قوله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا إلخ وإلى أمثاله، فالكلام بتقدير وقوع تلك، أو المراد تلك وأشباهها والأمثال في الأغلب تمثيلات متخيلة هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وحده سبحانه عالِمُ الْغَيْبِ وهو ما لم يتعلق به علم مخلوق وإحساسه أصلا وهو الغيب المطلق وَالشَّهادَةِ وهو ما يشاهده مخلوق.
قال الراغب: الشهود والشهادة الحضور مع المشاهدة إما بالبصر أو بالبصيرة، وقد يعتبر الحضور مفردا لكن الشهود بالحضور المجرد أولى والشهادة مع المشاهدة أولى، وحمل الغيب على المطلق هو المتبادر، وأل فيه للاستغراق إذ لا قرينة للعهد، ومقام المدح يقتضيه مع قوله تعالى: عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة: 109، 116، التوبة:
78، سبأ: 48] فيشمل كل غيب واجبا كان أو ممكنا موجودا أو معدوما أو ممتنعا لم يتعلق به علم مخلوق، ويطلق الغيب على ما لم يتعلق به علم مخلوق معين وهو الغيب المضاف أي الغيب بالنسبة إلى ذلك المخلوق وهو على ما قيل: مراد الفقهاء في قولهم: مدعي علم الغيب كافر، وهذا قد يكون من عالم الشهادة كما لا يخفى، وذكر الشهادة مع أنه إذا كان كل غيب معلوما له تعالى كان كل شهادة معلوما له سبحانه بالطريق الأولى من باب قوله عز وجل: لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الكهف: 49] ، وقيل: الغيب ما لا يقع عليه الحس من المعدوم أو الموجود الذي لا يدرك، والشهادة ما يقع عليه الإدراك بالحس.
وقال الإمام أبو جعفر رضي الله تعالى عنه: الغيب ما لم يكن والشهادة ما كان
، وقال الحسن: الغيب السر والشهادة العلانية، وقيل: الأول الدنيا بما فيها والثاني الآخرة بما فيها، وقيل: الأول الجواهر المجردة وأحوالها والثاني الأجرام والأجسام وأعراضها، وفيه أن في ثبوت المجردات خلافا قويا، وأكثر السلف على نفيها، وتقديم الغيب لأن العلم به كالدليل على العلم بالشهادة، وقيل: لتقدمه على الشهادة فإن كل شهادة فإن كل شهادة كان غيبا وما برز ما برز إلا من خزائن الغيب، وصاحب القيل الأخير يقول: إن تقديم الغيب لتقدمه في الوجود وتعلق العلم القديم به، واستدل بالآية على أنه تعالى عالم بجميع المعلومات، ووجهه ما أشرنا إليه، وتتضمن على ما قيل: دليلا آخر عليه لأنها تدل على أنه لا معبود إلا هو ويلزمه أن يكون سبحانه خالقا لكل شيء بالاختيار كما هو الواقع في نفس الأمر، والخلق بالاختيار يستحيل بدون العلم، ومن هنا قيل: الاستدلال بها على هذا المطلب أولى من الاستدلال بقوله تعالى: وَاللَّهُ(14/255)
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
[البقرة: 282، النساء: 176، النور: 35، 64، الحجرات: 16، التغابن: 11] هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ برحمة تليق بذاته سبحانه، والتأويل وإن ذكره علماء أجلاء من الماتريدية والأشاعرة لا يحتاج إليه سلفي كما حقق في التمييز وغيره.
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كرر لإبراز كمال الاعتناء بأمر التوحيد الْمَلِكُ المتصرف بالأمر والنهي، أو المالك لجميع الأشياء الذي له التصرف فيها، أو الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء ويستحيل عليه الاذلال، أو الذي يولي ويعزل ولا يتصور عليه تولية ولا عزل، أو المنفرد بالعز والسلطان، أو ذو الملك والملك خلقه، أو القادر أقوال حكاها الآمدي، وحكي الأخير عن القاضي أبي بكر الْقُدُّوسُ البليغ في النزاهة عما يوجب نقصانا، أو الذي له الكمال في كل وصف اختص به، أو الذي لا يحدّ ولا يتصور، وقرأ أبو السمال وأبو دينار الأعرابي «القدّوس» بفتح القاف وهو لغة فيه لكنها نادرة، فقد قالوا: فعول بالضم كثير، وأما بالفتح فيأتي في الأسماء- كسمور وتنور وهبود- اسم جبل باليمامة، وأما في الصفات فنادر جدا، ومنه سبوح بفتح السين السَّلامُ ذو السلامة من كل نقص وآفة مصدر وصف به للمبالغة، وعن الجبائي هو الذي ترجى منه السلامة، وقيل: أي الذي يسلم على أوليائه فيسلمون من كل مخوف الْمُؤْمِنُ قيل: المصدق لنفسه ولرسله عليهم السلام فيما بلغوه عنه سبحانه إما بالقول أو بخلق المعجزة، أو واهب عبادة الأمن من الفزع الأكبر أو مؤمنهم منه إما بخلق الطمأنينة في قلوبهم أو بإخبارهم أن لا خوف عليهم، وقيل: مؤمن الخلق من ظلمه، وقال ثعلب: المصدق المؤمنين في أنهم آمنوا، وقال النحاس: في شهادتهم على الناس يوم القيامة وقيل: ذو الأمن من الزوال لاستحالته عليه سبحانه، وقيل: غير ذلك،
وقرأ الإمام أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم- وقيل- أبو جعفر المدني «المؤمن» بفتح الميم
على الحذف والإيصال كما في قوله تعالى: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الأعراف: 155] أي المؤمن به.
وقال أبو حاتم: لا يجوز إطلاق ذلك عليه تعالى لإيهامه ما لا يليق به سبحانه إذ المؤمن المطلق من كان خائفا وآمنه غيره، وفيه أنه متى كان ذلك قراءة ولو شاذة لا يصح هذا لأن القراءة ليست بالرأي الْمُهَيْمِنُ الرقيب الحافظ لكل شيء مفيعل من الأمن بقلب همزته هاء، وإليه ذهب غير واحد، وتحقيقه كما في الكشف أن أيمن على فيعل مبالغة أمن العدو للزيادة في البناء، وإذا قلت: أمن الراعي الذئب على الغنم مثلا دل على كمال حفظه ورقبته، فالله تعالى أمن كل شيء سواه سبحانه على خلقه وملكه لإحاطة علمه وكمال قدرته عز وجل ثم استعمل مجرد الدلالة بمعنى الرقيب والحفيظ على الشيء من ذكر المفعول بلا واسطة للمبالغة في كمال الحفظ كما قال تعالى:
وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [المائدة: 48] وجعله من ذاك أولى من جعله من الأمانة نظرا إلى أن الأمين على الشيء حافظ له إذ لا ينبىء عن المبالغة ولا عن شمول العلم والقدرة، وجعله في الصحاح اسم فاعل من آمنه الخوف على الأصل فأبدلت الهمزة الأصلية ياء كراهة اجتماع الهمزتين وقلبت الأولى هاء كما في هراق الماء، وقولهم في إياك: هياك كأنه تعالى بحفظه المخلوقين صيرهم آمنين، وحرف الاستعلاء- كمهيمنا عليه- لتضمين معنى الاطلاع ونحوه، وأنت تعلم أن الاشتقاق على ما سمعت أولا أدل والخروج عن القياس فيه أقل، وظاهر كلام الكشف أنه ليس من التصغير في شيء.
وقال المبرد: إنه مصغر، وخطىء في ذلك فإنه لا يجوز تصغير أسمائه عز وجل الْعَزِيزُ الغالب.
وقيل: الذي لا مثل له، وقيل: الذي يعذب من أراد، وقيل: الذي عليه ثواب العاملين، وقيل: الذي لا يحط عن منزلته، وقيل: غير ذلك الْجَبَّارُ الذي جبر خلقه على ما أراد وقسرهم عليه: ويقال في فعله: أجبر، وأمثلة المبالغة(14/256)
تصاغ من غير الثلاثي لكن بقلة، وقيل: إنه من جبره بمعنى أصلحه، ومنه جبرت العظم فانجبر فهو الذي جبر أحوال خلقه أي أصلحها، وقيل: هو المنيع الذي لا ينال يقال للنخلة إذا طالت وقصرت عنها الأيدي: جبارة، وقيل: هو الذي لا ينافس في فعله ولا يطالب بعلة ولا يحجر عليه في مقدوره.
وقال ابن عباس: هو العظيم، وقيل: غير ذلك الْمُتَكَبِّرُ البليغ الكبرياء والعظمة لأنه سبحانه بريء من التكليف الذي تؤذن به الصيغة فيرجع إلى لازمه من أن الفعل الصادر عن تأنق أقوى وأبلغ، أو الذي تكبر عن كل ما يوجب حاجة أو نقصانا سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ تنزيه الله تعالى عما يشركون به سبحانه، أو عن إشراكهم به عز وجل إثر تعداد صفاته تعالى التي لا يمكن أن يشارك سبحانه في شيء منها أصلا هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ المقدر للأشياء على مقتضى الحكمة، أو مبدع الأشياء من غير أصل ولا احتذاء، ويفسر الخلق بإيجاد الشيء الْبارِئُ الموجد لها بريئة من تفاوت ما تقتضيه بحسب الحكمة والجبلة، وقيل: المميز بعضها عن بعض بالاشكال المختلفة الْمُصَوِّرُ الموجد لصورها وكيفياتها كما أراد.
وقال الراغب: الصورة ما تنتقش بها الأعيان وتتميز بها عن غيرها، وهي ضربان: محسوسة تدركها العامة والخاصة بل الإنسان وكثير من الحيوانات كصورة الفرس المشاهدة. ومعقولة تدركها الخاصة دون العامة كالصورة التي اختص الإنسان بها من العقل والروية والمعاني التي خص بها شيء بشيء، وإلى الصورتين أشار بقوله سبحانه:
خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ [الأعراف: 11] إلى آيات أخر انتهى فلا تغفل.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وحاطب بن أبي بلتعة والحسن وابن السميفع «المصور» بفتح الواو والنصب على أنه مفعول للبارىء، وأريد به جنس المصور،
وعن علي كرم الله تعالى وجهه فتح الواو وكسر الراء على إضافة اسم الفاعل إلى المفعول
نحو الضارب الغلام، وفي الخانية إن قراءة «المصور» بفتح الواو هنا تفسد الصلاة ولعله أراد إذا أجراه حينئذ على الله سبحانه، وإلا ففي دعوى الفساد بعد ما سمعت نظر.
لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى الدالة على محاسن المعاني يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الموجودات بلسان الحال لما تضمنته من الحكم والمصالح التي يضيق عن حصرها نطاق البيان، أو بلسان المقال الذي أوتيه كل منها حسبما يليق به على ما قاله كثير من العارفين، وقد تقدم الكلام فيه وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الجامع للكمالات كافة فإنها مع تكثرها وتشعبها راجعة إلى كمال القدرة المؤذن به الْعَزِيزُ بناء على تفسيره بالغالب وإلى كمال العلم المؤذن به الْحَكِيمُ بناء على تفسيره بالفاعل بمقتضى الحكمة، وفي ذلك إشارة إلى التحلية بعد التخلية كما في قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] فتأمل ولا تغفل.
ولهذه الآيات فضل عظيم كما دلت عليه عدة روايات،
وأخرج الإمام أحمد والدارمي والترمذي وحسنه والطبراني وابن الضريس والبيهقي في الشعب عن معقل بن يسار عن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم قال: «من قال:
حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ثم قرأ الثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي وإن مات ذلك اليوم مات شهيدا ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة»
.
وأخرج الديلمي عن ابن عباس مرفوعا «اسم الله الأعظم في ست آيات من آخر سورة الحشر» .
وأخرج أبو علي عبد الرحمن بن محمد النيسابوري في فوائده عن محمد بن الحنفية أن البراء بن عازب قال لعلي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه: أسألك بالله إلا ما خصصتني بأفضل ما خصك به رسول الله عليه الصلاة(14/257)
والسلام مما خصه به جبريل مما بعث به الرحمن عز وجل، قال: يا براء إذا أردت أن تدعو الله باسمه الأعظم فاقرأ من أول الحديد عشر آيات وآخر الحشر، ثم قل: يا من هو هكذا وليس شيء هكذا غيره أسألك أن تفعل لي كذا وكذا فو الله يا براء لو دعوت عليّ لخسف بي.
وأخرج الديلمي عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن مسعود رضي الله تعالى عنه مرفوعا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال في قوله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا إلى آخر السورة هي رقية الصداع
،
وأخرج الخطيب البغدادي في تاريخه قال: أنبأنا أبو عبيد الحافظ أنبأ أبو الطيب محمد بن أحمد بن يوسف بن جعفر المقرئ البغدادي- يعرف بغلام ابن شنبوذ- أنبأ إدريس بن عبد الكريم الحداد قال: قرأت على خلف فلما بلغت هذه الآية لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ قال: ضع يدك على رأسك فإني قرأت على حمزة فلما بلغت هذه الآية قال: ضع يدك على رأسك فإني قرأت على الأعمش فلما بلغت هذه الآية قال: ضع يدك على رأسك فإني قرأت على يحيى بن وثاب فلما بلغت هذه الآية قال: ضع يدك على رأسك فإني قرأت على علقمة والأسود فلما بلغت هذه الآية قالا ضع يدك على رأسك فإنا قرأنا على عبد الله رضي الله تعالى عنه فلما بلغنا هذه الآية قال ضعا أيديكما على رؤوسكما فإني قرأت على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فلما بلغت هذه الآية قال لي: «ضع يدك على رأسك فإن جبريل عليه السلام لما نزل بها إلي قال: ضع يدك على رأسك فإنها شفاء من كل داء إلا السام والسام الموت»
إلى غير ذلك من الآثار، والله تعالى أعلم.(14/258)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)
سورة الممتحنة
قال ابن حجر: المشهور في هذه التسمية أنها بفتح الحاء وقد تكسر فعلى الأول هي صفة المرأة التي أنزلت بسببها، وعلى الثاني صفة السورة كما قيل لبراءة: الفاضحة، وفي جمال القراء تسمى أيضا سورة الامتحان وسورة المودة، وأطلق ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم القول بمدنيتها، وذكر بعضهم أن أولها نزل يوم فتح مكة فكونها مدنية إما من باب التغليب أو مبني على أن المدني ما نزل بعد الهجرة، وهي ثلاث عشرة آية بالاتفاق.
ومناسبتها لما قبلها أنه ذكر فيما قبل موالاة الذين نافقوا للذين كفروا من أهل الكتاب، وذكر في هذه نهي المؤمنين عن اتخاذ الكفار أولياء لئلا يشابهوا المنافقين، وبسط الكلام فيه أتم بسط وقيل في ذلك أيضا: إن فيما قبل ذكر المعاهدين من أهل الكتاب وفي هذه ذكر المعاهدين من المشركين لأن فيها ما نزل في صلح الحديبية، ولشدة اتصالها بالسورة قبلها فصل بها بينها وبين الصف مع تواخيهما في الافتتاح- بسبح-.(14/259)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ نزلت في حاطب بن عمرو أبي بلتعة- وهو مولى عبد الله بن حميد بن زهير بن أسد بن عبد العزى-
أخرج الإمام أحمد والبخاري مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها فأتوني به فخرجنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا: أخرجي الكتاب قالت: ما معي من كتاب قلنا: لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب فأخرجته من عقاصها فأتينا به النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فإذا فيه: من خاطب ابن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فقال النبي عليه الصلاة والسلام ما هذا يا حاطب؟! قال: لا تعجل عليّ يا رسول الله إني كنت امرأ ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسها وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهلهم وأموالهم بمكة فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يدا يحمون بها قرابتي وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني فقال عمر رضي الله تعالى عنه: دعني يا رسول الله أضرب عنقه فقال عليه الصلاة والسلام: إنه شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ»
إلخ.
وفي رواية ابن مردويه عن أنس أنه عليه الصلاة والسلام بعث عمر وعليا رضي الله تعالى عنهما في أثر تلك المرأة فلحقاها في الطريق فلم يقدرا على شيء معها فأقبلا راجعين ثم قال أحدهما لصاحبه: والله ما كذبنا ولا كذبنا ارجع بنا إليها فرجعا فسلا سيفيهما وقالا: والله لنذيقنك الموت أو لتدفعن الكتاب فأنكرت ثم قالت: أدفعه إليكما على أن لا ترداني إلى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فقبلا ذلك فأخرجته لهما من قرون رأسها
، وفيه- على ما في الدر المنثور- أن المرأة تدعى أم سارة كانت مولاة لقريش، وفي الكشاف يقال لها: سارة مولاة لأبي عمرو بن صيفي ابن هاشم، وفي صحة خبر أنس تردد، وما تضمنه من رجوع الإمامين رضي الله تعالى عنهما بعيد، وقيل: إن المبعوثين في أثرها عمر وعلي وطلحة والزبير وعمار والمقداد وأبو مرثد وكانوا فرسانا، والمعول عليه ما قدمنا، والذين كانوا له في مكة بنوه وإخوته على ما روي عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن حاطب المذكور، وفي رواية لأحمد عن جابر أن حاطبا قال: كانت والدتي معهم فيحتمل أنها مع بنيه وإخوته.
وصورة الكتاب- على ما في بعض الروايات- أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل، وأقسم بالله لو سار إليكم وحده لنصره الله عليكم فإنه منجز له ما وعده، وفي الخبر السابق على ما قيل: دليل على جواز قتل الجاسوس لتعليله صلّى الله تعالى عليه وسلم المنع عن قتله بشهوده بدرا- وفيه بحث- وفي التعبير عن المشركين بالعدو مع الإضافة إلى ضميره عز وجل تغليظ لأمر اتخاذهم أولياء وإشارة إلى حلول عقاب الله تعالى بهم، وفيه رمز إلى معنى قوله:
إذا صافى صديقك من تعادي ... فقد عاداك وانقطع الكلام
والعدو فعول من عدا كعفو من عفا، ولكونه على زنة المصدر أوقع على الجمع إيقاعه على الواحد، ونصب أَوْلِياءَ على أنه مفعول ثان- لتتخذوا- وقوله تعالى: تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ تفسير للموالاة أو لاتخاذها أو استئناف فلا محل لها من الاعراب، والباء زائدة في المفعول كما في قوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195] وإلقاء المودة مجاز عن إظهارها، وتفسيره بالإيصال أي توصلون إليهم المودة لا يقطع التجوز.(14/260)
وقيل: الباء للتعدية لكون المعنى تفضون إليهم بالمودة، وأفضى يتعدى بالباء كما في الأساس، وقيل: هي للسببية والإلقاء مجاز عن الإرسال أي ترسلون إليهم أخبار النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم بسبب المودة التي بينكم، وعن البصريين أن الجار متعلق بالمصدر الدال عليه الفعل، وفيه حذف المصدر مع بقاء معموله، وجوز كون الجملة حالا من فاعل لا تَتَّخِذُوا أو صفة- لأولياء- ولم يقل- تلقون إليهم أنتم- بناء على أنه لا يجب مثل هذا الضمير مع الصفة الجارية على غير من هي له أو الحال أو الخبر أو الصلة سواء في ذلك الاسم والفعل كما في شرح التسهيل لابن مالك إذا لم يحصل إلباس نحو زيد هند ضاربها أو يضربها بخلاف زيد عمرو ضاربه أو يضربه فإنه يجب معه هو لمكان الإلباس.
وزعم بعضهم أن الإبراز في الصفات الجارية على غير من هي له إنما يشترط في الاسم دون الفعل كما هنا ومنع ذلك، وتعقب الوجهان بأنهما يوهمان أنه تجوز الموالاة عند عدم الإلقاء فيحتاج إلى القول بأنه لا اعتبار للمفهوم للنهي عن الموالاة مطلقا في غير هذه الآية، أو يقال: إن الحال والصفة لازمة ولذا كانت الجملة مفسرة وقوله تعالى:
وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ حال من فاعل لا تَتَّخِذُوا وهي حال مترادفة إن كانت جملة تُلْقُونَ حالية أيضا أو من فاعل تُلْقُونَ وهي متداخلة على تقدير حاليتها، وجوز كونه حالا من المفعول وكونه مستأنفا.
وقرأ الجحدري والمعلى عن عاصم- لما- باللام أي لأجل ما جاءكم بمعنى جعل ما هو سبب للإيمان سبب الكفر يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أي من مكة أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ أي لإيمانكم أو كراهة إيمانكم بالله عز وجل، والجار متعلق- بيخرجون- والجملة قيل: حال من فاعل كَفَرُوا أو استئناف كالتفسير لكفرهم كأنه قيل:
كيف كفروا؟ وأجيب بأنهم كفروا أشد الكفر بإخراج الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين لإيمانهم خاصة لا لغرض آخر، وهذا أرجح من الوجه الاول لطباقه للمقام وكثرة فوائده، والمضارع لاستحضار الحال الماضية لما فيها من مزيد الشناعة، والاستمرار غير مناسب للمعنى، وفي تُؤْمِنُوا قيل: تغليب للمؤمنين، والالتفات عن ضمير المتكلم بأن يقال: بي إلى ما في النظم الجليل للإشعار بما يوجب الايمان من الألوهية والربوبية إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي متعلق بقوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا إلخ كأنه قيل: لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي فجواب الشرط محذوف دل عليه ما تقدم، وجعله الزمخشري حالا من فاعل لا تَتَّخِذُوا ولم يقدر له جوابا أي لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء والحال أنكم خرجتم لأجل الجهاد وطلب مرضاتي، واعترض بأن الشرط لا يقع حالا بدون جواب في غير إن الوصلية، ولا بد فيها من الواو وأن ترد حيث يكون ضد المذكور أولى- كأحسن إلى زيد وإن أساء إليك- وما هنا ليس كذلك.
وأجيب بأن ابن جني جوزه، وارتضاه جار الله هنا لأن البلاغة وسوق الكلام يقتضيانه فيقال لمن تحققت صداقته من غير قصد للتعليق والشك: لا تخذلني إن كنت صديقي تهييجا للحمية، وفيه من الحسن ما فيه فلا يضر إذا خالف المشهور، ونصب المصدرين على ما أشرنا إليه على التعليل، وجوز كونهما حالين أي مجاهدين ومبتغين، والمراد بالخروج إما الخروج للغزو وإما الهجرة، فالخطاب للمهاجرين خاصة لأن القصة صدرت منهم كما سمعت في سبب النزول، وقوله تعالى: تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ استئناف بياني كأنهم لما استشعروا العتاب مما تقدم سألوا ما صدر عنا حتى عوتبنا؟ فقيل: تُسِرُّونَ إلخ، وجوز أن يكون بدلا من تُلْقُونَ بدل كل من كل إن أريد بالإلقاء الإلقاء خفية، أو بدل بعض إن أريد الأعم لأن منه السر والجهر.
وقال أبو حيان: هو شبيه ببدل الاشتمال، وجوز ابن عطية كونه خبر مبتدأ محذوف أي أنتم تُسِرُّونَ(14/261)
والكلام استئناف للإنكار عليهم، وأنت تعلم أن الاستئناف لذلك حسن لكنه لا يحتاج إلى حذف والكلام في الباء هنا على ما يقتضيه ظاهر كلامهم كالباء فيما تقدم، وقوله تعالى: وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ في موضوع الحال، وأَعْلَمُ أفعل تفضيل، والمفضل عليه محذوف أي منكم، وأجاز ابن عطية كونه مضارعا، والعلم قد يتعدى بالباء أو هي زائدة، وما موصولة أو مصدرية، وذكر ما أَعْلَنْتُمْ مع الاستغناء عنه للإشارة إلى تساوي العلمين في علمه عز وجل، ولذا قدم بِما أَخْفَيْتُمْ وفي هذه الحال إشارة إلى أنه لا طائل لهم في إسرار المودة إليهم كأنه قيل: تسرون إليهم بالمودة والحال أني أعلم ما أخفيتم وما أعلنتم ومطلع رسولي على ما تسرون فأي فائدة وجدوى لكم في الإسرار؟ وَمَنْ يَفْعَلْهُ أي الإسرار.
وقال ابن عطية وجمع: أي الاتخاذ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي الطريق المستوي والصراط الحق فإضافة سَواءَ من إضافة الصفة إلى الموصوف، ونصبه على المفعول به- لضل- وهو يتعدى كأضل، وقيل: لا يتعدى وسَواءَ ظرف كقوله:
كما عسل الطريق الثعلب إِنْ يَثْقَفُوكُمْ أي إن يظفروا بكم، وأصل الثقف الحذق في إدراك الشيء وفعله، ومنه رجل ثقف لقف، وتجوز به عن الظفر والإدراك مطلقا يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً أي عداوة يترتب عليها ضرر بالفعل بدليل قوله تعالى:
وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ أي بما يسوءكم من القتل والأسر والشتم فكأنه عطف تفسيري، فوقوع يَكُونُوا إلخ جواب الشرط بالاعتبار الذي أشرنا إليه وإلا فكونهم أعداء للمخاطبين أمر متحقق قبل الشرط بدليل ما في صدر السورة، ومثله قول بعضهم: أي يظهروا ما في قلوبهم من العداوة ويرتبوا عليها أحكامها، وقيل: المراد بذلك لازم العداوة وثمرتها وهو ظهور عدم نفع التودد فكأنه قيل: إن يثقفوكم يظهر لكم عدم نفع إلقاء المودة إليهم والتودد لهم، وقوله تعالى: وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ
عطف على الجواب وهو مستقبل معنى كما هو شأن الجواب، ويؤول كما أول سابقه بأن يقال- على ما في الكشف- المراد ودادة يترتب عليها القدرة على الرد إلى الكفر، أو يقال- على ما قال البعض- المراد إظهار الودادة وإجراء ما تقتضيه، والتعبير بالماضي وإن كان المعنى على الاستقبال للإشعار بأن ودادتهم كفرهم قبل كل شيء وأنها حاصلة وإن لم يثقفوهم.
وتحقيق ذلك أن الودادة سابقة بالنوع متأخرة باعتبار بعض الأفراد، فعبر بالماضي نظرا للأول وجعلت جوابا متأخرا نظرا للثاني، وآثر الخطيب الدمشقي العطف على مجموع الجملة الشرطية كقوله تعالى: ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ [الحشر: 12] في السورة قبل فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف: 34] عند جمع قال: لأن ودادتهم أن يرتدوا كفارا حاصلة وإن لم يظفروا بهم فلا يكون في التقييد بالشرط فائدة، وإلى ذلك ذهب أبو حيان، وجوابه يعلم مما ذكرنا، وقريب منه ما قيل: إن ودادة كفرهم بعد الظفر لما كانت غير ظاهرة لأنهم حينئذ سبي وخدم لا يعتدّ بهم فيجوز أن لا يتمنى كفرهم فيحتاج إلى الإخبار عنه بخلاف الودادة قبل الظفر فيكون للتقييد فائدة لأنها ودادة أخرى متأخرة. وقال بعض الأفاضل: إن المعطوف على الجزاء في كلام العرب على أنحاء: الأول أن يكون كل منهما جزاء وعلة نحو إن تأتني آتك وأعطك. الثاني أن يكون الجزاء أحدهما وإنما ذكر الآخر لشدة ارتباطه به لكونه مسببا له مثلا نحو إذا جاء الأمير استأذنت وخرجت لاستقباله ونحو حبست غريمي لأستوفي حقي وأخليه.
الثالث أن يكون المقصود جمع أمرين وحينئذ لا ينافي تقدم أحدهما نحو كخرجت مع الحجاج لأرافقهم في الذهاب ولا أرافقهم في الإياب. ومنه قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ(14/262)
[الفتح: 1، 2] الآية، وما في النظم الجليل هنا قيل: محتمل للأول لاستقبال الودادة من بعض الاعتبارات كما تقدم، وعبر بالماضي اعتبارا للتقدم الرتبي من حيث إن الرد عند الكفرة أشق المضار لعلمهم أن الدين أعز على المؤمنين من أرواحهم لأنهم باذلون لها دونه، وأهم شيء عند العدو أن يقصد أهم شيء عند صاحبه ومحتمل للثالث بأن يكون المراد المجموع بتأويل يريدون لكم مضار الدنيا والآخرة، قيل: وللثاني أيضا بأن يكون الجزاء هو- يبسطوا- وذكرت عداوتهم وودادتهم الرد لشدة الارتباط لما هناك من السببية والمسببية وهو كما ترى وجعل الطيبي المجموع مجازا من إطلاق السبب وإرادة المسبب وهو مضار الدارين، وذكر أن الجواب في الحقيقة مقدر أي يريدوا لكم مضار الدنيا والدين، وما ذكر دليله أقيم مقامه، وقيل: عبر في الودادة بالماضي لتحققها عند المؤمنين أتم من تحقق ما قبلها، وحمل عليه كلام لصاحب المفتاح.
وعن بعضهم أن الواو واو الحال لا واو العطف، والجملة في موضع الحال بتقدير قد أو بدونه، ولا يخفى أن العطف هو المتبادر، وكونه على الجزاء أبعد مغزى، وإخراج الشرط والجزاء على نحو ذلك أكثر من أن يحصى.
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ دفع لما عسى أن يتخيلوا كونه عذرا نافعا من أن الداعي للاتخاذ وإلقاء المودّة صيانة الأرحام والأولاد من أذى أولئك. والرحم في الأصل رحم المرأة، واشتهر في القرابة حتى صار كالحقيقة فيها، فإما أن يراد به ذلك أو يجعل مجازا عن القريب، أو يعتبر معه مضاف أي ذوو أرحامكم، ويؤيد التأويل عطف قوله تعالى: وَلا أَوْلادُكُمْ أي لن ينفعكم قراباتكم أو أقاربكم ولا أولادكم الذين توالون المشركين لأجلهم وتتقربون إليهم محاماة عليهم يَوْمَ الْقِيامَةِ بدفع ضر أو جلب نفع يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ استئناف لبيان عدم نفع الأرحام والأولاد يومئذ أي يفرق الله تعالى بينكم بما يكون من الهول الموجب لفرار كل منكم من الآخر حسبما نطق به قوله تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ [عبس: 34] الآية فلا ينبغي أن يرفض حق الله تعالى وتوالي أعداؤه سبحانه لمن هذا شأنه، وما أشرنا إليه من تعلق يوم القيامة بالفعل قبله هو الظاهر، وجوز تعلقه- بيفصل- بعده.
وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب- يفصل- بضم الياء وتشديد الصاد مبنيا للفاعل، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة كذلك إلا أنهما خففا، وطلحة والنخعي- نفصل النون مضمومة والتشديد والبناء للفاعل، وهما أيضا وزيد بن علي بالنون مفتوحة مخففا مبنيا للفاعل، وأبو حيوة أيضا بالنون مضمومة.
وقرأ الأعرج وعيسى وابن عامر «يفصّل» بالياء والتشديد والبناء للمفعول، وجمهور القراء كذلك إلا أنهم خففوا، ونائب الفعل إما بَيْنَكُمْ وهو مبني على الفتح لإضافته إلى متوغل في البناء كما قيل، وإما ضمير المصدر المفهوم من الفاعل أي يفصل هو أي الفصل وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيكم به.
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ تأكيد لأمر الإنكار عليهم والتخطئة في موالاة الكفار بقصة إبراهيم عليه السلام ومن معه ليعلم أن الحب في الله تعالى والبغض فيه سبحانه من أوثق عرا الإيمان فلا ينبغي أن يغفل عنهما، والأسوة بضم الهمزة وكسرها وهما لغتان، وبالكسر قرأ جميع القراء إلا عاصما وهي بمعنى الائتساء والاقتداء، وتطلق على الخصلة التي من حقها أن يؤتسى ويقتدى بها. وعلى نفس الشخص المؤتسى به، ففي زيد أسوة من باب التجريد نحو:
وللضعفاء في الرحمن كاف وفي البيضة عشرون منا حديد وكل من ذلك قيل: محتمل في الآية، ورجح إرادة الخصلة لان الاستثناء الآتي عليها أظهر، ولَكُمْ للبيان متعلق بمحذوف كما في سقيا لك، أو هو متعلق بكان على رأى من(14/263)
يجوز تعلق الظرف بها، وأُسْوَةٌ اسمها وحَسَنَةٌ صفته، وفِي إِبْراهِيمَ خبرها، أو لَكُمْ هو الخبر، وفِي إِبْراهِيمَ صفة بعد صفة- لأسوة- أو خبر بعد خبر- لكان- أو حال من المستكن في لَكُمْ على ما قيل، أو في حَسَنَةٌ ولم يجوز كونه صلة أُسْوَةٌ بناء على أنها مصدر، أو اسمه وهو إذا وصف لا يعمل مطلقا لضعف شبهه بالفعل، قيل: وإذا قلنا: إنها ليست مصدرا ولا اسمه، أو قلنا: إنه يغتفر عمله وإن وصف قبل العمل في الظرف للاتساع فيه جاز ذلك.
والظاهر أن المراد- بالذين معه- عليه السلام أتباعه المؤمنون لكن قال الطبري وجماعة: المراد بهم الأنبياء الذين كانوا قريبا من عصره عليه وعليهم الصلاة والسلام لأنه عليه السلام لم يكن معه وقت مكافحته قومه وبراءته منهم أتباع مؤمنون كافحوهم معه وتبرؤوا منهم، فقد روي أنه قال لسارة حين رحل إلى الشام مهاجرا من بلد نمروذ: ما على الأرض من يعبد الله تعالى غيري وغيرك، وأنت تعلم أنه لا يلزم وجود الاتباع المؤمنين في أول وقت المكافحة بل اللازم وجودهم ولو بعد، ولا شك في أنهم وجدوا بعد فليحمل من معه عليهم، ويكون التبري المحكي في قوله تعالى: إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ إلخ وقت وجودهم، وإِذْ قيل: ظرف لخبر كانَتْ والعامل الجار والمجرور أو المتعلق، أو- لكان- نفسها على ما مر، أو بدل من أُسْوَةٌ وبُرَآؤُا جمع بريء كظريف وظرفاء.
وقرأ الجحدري «براء» كظراف جمع ظريف أيضا، وقرأ أبو جعفر «برّاء» بضم الباء كتؤام وظؤار، وهو اسم جمع الواحد بريء وتوام وظئر، وقال الزمخشري: إن ذلك على إبدال الضم من الكسر كرخال بضم الراء جمع رخل، وتعقب بأنه ضم أصلي، والصيغة من أوزان أسماء الجموع، وليس ذلك جمع تكسير فتكون الضمة بدلا من الكسرة ورويت هذه القراءة عن عيسى، قال أبو حاتم: زعموا أنه عيسى الهمداني وعنه «براء» على فعال كالذي في قوله تعالى:
إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ في [الزخرف: 26] ، وهو مصدر على فعال يوصف به المفرد وغيره، وتأكيد الجملة لمزيد الاعتناء بشأنها، أو لأن قومهم المشركون مستبعدون ذلك شاكون فيه حيث يحسبون أنفسهم على شيء وكأنهم استشعروا ذلك منهم فقالوا لهم: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ.
وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام والكواكب وغيرها كَفَرْنا بِكُمْ بيان لقوله سبحانه: إِنَّا بُرَآؤُا إلى آخره فهو على معنى كفرنا بكم وبما تعبدون من دون الله، ويكون المراد بِكُمْ القوم ومعبوديهم بتغليب المخاطبين، والكفر بذلك مجاز أو كناية عن عدم الاعتداد فكأنه قيل: إنا لا نعتد بشأنكم ولا بشأن آلهتكم وما أنتم عندنا على شيء.
وفي الكشف أن الأصل كفرنا بما تعبدون ثم كفرنا بكم وبما تعبدون لأن من كفر بما أتى به الشخص فقد كفر به، ثم اكتفى- بكفرنا بكم- لتضمنه الكفر بجميع ما أتوا به وما تلبسوا به لا سيما وقد تقدمه إِنَّا بُرَآؤُا فسر بأنا لا نعتد إلخ تنبيها على أنه تهكم بهم فإن ذلك لا يسمى كفرا لغة وعرفا وإنما هو اسم يقع على أدخل الأشياء في الاستهجان والذم، وما ذكرناه أقرب، وهو معنى ما في الكشاف دونه، وأما ما قيل: إن في الكلام معطوفا على الجار والمجرور محذوفا أي بكم وبما تعبدون، وحذف اكتفاء بدلالة السياق فليس بشيء.
وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً أي هذا دأبنا معكم لا نتركه حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وتتركوا ما أنتم عليه من الشرك فتنقلب العداوة ولاية والبغضاء محبة، وفسر الفيروزآبادي الْبَغْضاءُ بشدة البغض ضد الحب، وأفاد أن العداوة ضد الصداقة، وفسر الصداقة بالمحبة، فالعداوة والبغضاء على هذا متقاربان، وأفاد الراغب أن العداوة منافاة الالتئام قلبا، وقال: البغض نفار النفس عن الشيء الذي ترغب عنه وهو ضد الحب، ثم قال:(14/264)
يقال: بغض الشيء بغضا وبغضة وبغضاء، وهو نحو كلام الفيروزابادي، والذي يفهم من كلام غير واحد أنه كثيرا ما يعتبر في العداوة التخاذل دون البغضاء فليراجع هذا المطلب.
إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ استثناء من قوله تعالى: أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ كما قاله قتادة. وجماعة وهو على تقدير التجريد أو تفسيرا- لأسوة- بالاقتداء منقطع بلا ريب، وأما على تقدير أن يراد بها ما يؤتسى به فقيل:
هو متصل وقيل: منقطع، وإليه ذهب الأكثر، وتوجيه الاستثناء إلى العدة بالاستغفار لا إلى نفس الاستغفار المحكي عنه عليه السلام بقوله تعالى: وَاغْفِرْ لِأَبِي [الشعراء: 86] الآية مع أنه المراد قيل: لأنها كانت هي الحاملة له عليه السلام عليه، ويعلم من ذلك استثناء نفس الاستغفار بطريق الأولى، وجعلها بعضهم كناية عن الاستغفار لأن عدة الكريم خصوصا مثل إبراهيم عليه السلام لا سيما إذا أكدت بالقسم يلازمها الإنجاز وليس بلازم كما لا يخفى، وكأن هذه العدة غير العدة السابقة في سورة [مريم: 47] في قوله تعالى حكاية عنه عليه السلام: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي الآية ولعلها وقعت منه عليه السلام بعد تلك تأكيدا لها وحكيت هاهنا على سبيل الاستثناء.
وفي الإرشاد تخصيصها بالذكر دون ما وقع في سورة مريم لورودها على طريق التوكيد القسمي، واستثناء ذلك في الأسوة الحسنة قيل: لأن استغفاره عليه السلام لأبيه الكافر بمعنى أن يوفقه الله تعالى للتوبة ويهديه سبحانه للإيمان وإن كان جائزا عقلا وشرعا لوقوعه قبل تبين أنه من أصحاب الجحيم وأنه يموت على الكفر كما دل عليه ما في سورة التوبة لكنه ليس مما ينبغي أن يؤتسى به أصلا إذ المراد به ما يجب الائتساء به حتما لورود الوعيد على الإعراض عنه بقوله تعالى بعد: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فاستثناؤه عما سبق إنما يفيد عدم وجوب استدعاء الإيمان والمغفرة للكافر المرجوّ إيمانه، وذلك مما لا يرتاب فيه عاقل، وأما عدم جوازه فلا دلالة للاستثناء عليه قطعا، وزعم الإمام علي ما نقل عنه دلالة الآية على ذلك، ولا يلزم أن يكون الاستغفار منه عليه السلام معصية لأن كثيرا من خواص الأنبياء عليهم السلام لا يجوز التأسي به لأنه أبيح لهم خاصة وهو كما ترى إذ هو ظاهر في أن ذلك الاستغفار الذي وقع منه عليه السلام لو فرض واقعا من غيره لكان معصية وليس كذلك بل هو مباح ممن وقع.
وعن الطيبي ما حاصله: إن إبراهيم عليه السلام لما أجاب قول أبيه: لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم: 46] بقوله: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي رحمة ورأفة به، ولم يكن عارفا بإصراره على الكفر وفى بوعده، وقال: وَاغْفِرْ لِأَبِي فلما تبين إصراره ترك الدعاء وتبرأ منه، فظهر أن استغفاره لم يكن منكرا، وهو في حياته بخلاف ما نحن فيه فإنه فصل عداوتهم وحرصهم على قطع أرحامهم بقوله تعالى: لَنْ تَنْفَعَكُمْ إلخ وسلاهم عن القطيعة بقصة إبراهيم عليه السلام ثم استثنى منها ما ذكر كأنه قيل: لا تجاملوهم ولا تبدوا لهم الرأفة كما فعل إبراهيم لأنه لم يتبين له كما تبين لكم انتهى، وفيه رمز إلى احتمال أن يكون المستثنى نفس العدة من حيث دلالتها على الرأفة والرحمة، ومآل ذلك استثناء الرأفة والرحمة، وعلل بعض الأجلة عدم كون استغفاره عليه السلام لأبيه الكافر مما لا ينبغي أن يؤتسى به بأنه كان قبل النهي أو لموعدة وعدها إياه وتعقب الثاني بأن الوعد بالمحظور لا يرفع حظره، والأول بأنه مبني على تناول النهي لاستغفاره عليه السلام له مع أن النهي إنما ورد في شأن الاستغفار بعد تبين الأمر، وقد كان استغفاره عليه السلام قبله، ومنبىء عن كون الاستغفار مؤتسى به لو لم ينه عنه مع أن ما يؤتسى به ما يجب الائتساء به لا ما يجوز فعله في الجملة، وأجيب بما لا يرفع القال والقيل فالأولى التعليل بما سبق.
واستظهر أبو حيان أن الاستثناء من مضاف لإبراهيم مقدر في نظم الآية الكريمة أي لقد كان لكم أسوة حسنة في مقالات إبراهيم ومحاوراته لقومه إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ إلخ، وجزم باتصال الاستثناء عليه، وكذا جزم الطيبي(14/265)
باتصاله على قول البغوي أي لكم أسوة حسنة في إبراهيم وأموره إلا في استغفاره لأبيه المشرك، ولا يخفى أن التقدير خلاف الظاهر، ومتى ارتكب فالأولى تقدير أمور، بقي أنه قيل: إن الآية تدل على منع التأسي بإبراهيم عليه السلام في الاستغفار للكافر الحي مع أنه بالمعنى السابق أعني طلب الإيمان له لا منع عنه.
وأجيب بأنه إنما منع من التأسي بظاهره وظن أنه جائز مطلقا كما وقع لبعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وفيه أنه قد تقدم أن دلالة الآية على أن الاستغفار ليس مما يجب الائتساء به حتما لا على منعه وحرمته، ثم إنه ينبغي أن يعلم أن تبين كون أبيه من أصحاب الجحيم الذي كان الاستغفار قبله كان في الدنيا وكذا التبري منه بعده، وقد تقدم في سورة التوبة قول: بكون ذلك في الآخرة لدلالة ظواهر بعض الاخبار الصحيحة عليه فإنها دالة على أنه عليه السلام يشفع لأبيه يوم القيامة، وهي استغفار أي استغفار فيه، ولو كان تبين أنه يموت كافرا في الدنيا لم يكن ليشفع، ويطلب على أتم وجه المغفرة له ضرورة أنه عليه السلام عالم أن الله تعالى لا يغفر أن يشرك به، وإنكار ذلك مما لا يكاد يقدم عليه عاقل، والذاهبون إلى أن التبين كان في الدنيا كما عليه سلف الأمة- وهو الصحيح الذي أجزم به اليوم- أشكلت عليهم تلك الظواهر من حيث دلالتها على الشفاعة التي هي في ذلك اليوم استغفار، وأتهموا وأنجدوا في الجواب عنها، وقد تقدم جميع ما وجدته لهم فارجع إليه واختر لنفسك ما يحلو.
ثم إني أقول الذي يغلب على ظني أن الاستغفار الذي كان منه عليه السلام قبل التبين بالمعنى المشهور لا بمعنى التوفيق للإيمان، والآيات التي في سورة التوبة وما ورد في سبب نزولها تؤيد ظواهرها ذلك.
والتزم أن امتناع جواز الاستغفار إنما علم بالوحي لا بالعقل لأنه يجوز أن يغفر الله تعالى للكافر وهو سبحانه الغفور الرحيم، وأنه عليه السلام لم يكن إذ استغفر عالما بالوحي امتناعه، ومعنى الآية- والله تعالى أعلم- إن لكم الاقتداء بإبراهيم عليه السلام والذين معه في البراءة من الكفرة لكن استغفاره للكافر ليس لكم الاقتداء به فيه وما له يجب عليكم البراءة ويحرم عليكم الاستغفار وإبداء الرأفة، فليس لكم الذي اعتبرناه في الاستثناء من باب قوله تعالى:
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة: 113] إلخ، ودلالة ذلك على المنع ظاهرة فتأمل جميع ما قدمناه، ووراءه كلام مبني على قول من قال: ليس لله عز وجل قضاء مبرم، ونقل ذلك عن القطب الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره، وشيد بعض الأجلة أركانه في رسالة مستقلة بسط فيها الأدلة على ذلك لكنها لا تخلو عن بحث والله تعالى أعلم، وقوله سبحانه: وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ من تمام القول المستثنى محله النصب على أنه حال من فاعل لَأَسْتَغْفِرَنَّ ومورد الاستثناء نفس الاستغفار لا قيده فإنه في نفسه من خصال الخير لكون إظهارا للعجز وتفويضا للأمر إلى الله تعالى، فالكلام من قبيل ما رجع فيه النفي للمقيد دون القيد.
وفي الكشف أنه وإن كان في نفسه كلاما مطابقا للواقع حسنا أن يجعل أسوة إلا أنه شفع بقوله: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ تحقيقا للوعد كأنه قيل: لأستغفرن لك وما في طاقتي إلا هذا فهو مبذول لا محالة، وفيه أنه لو ملك أكثر من ذلك لفعل، وعلى هذا فهو حقيق بالاستثناء، وقوله عز وجل: رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ إلى آخره جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب متصلة معنى لقبصة إبراهيم عليه السلام ومن معه على أنها بيان لحالهم في المجاهدة لأعداء الله عز وجل وقشر العصا، ثم اللجأ إلى الله تعالى في كفاية شرهم وأن تلك منهم له عز وجل لا لحظ نفسي، وقيل: اتصالها بما تقدم لفظي على أنها بتقدير قوله معطوف على قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا أي وقالوا: ربنا إلخ، وجوز أن يكون المعنى قولوا ربنا أمرا منه تعالى للمؤمنين بأن يقولوه، وتعليما منه عز وجل لهم وتتميما لما وصاهم سبحانه به من قطع العلائق بينهم وبين الكفار والائتساء بإبراهيم عليه السلام وقومه في البراءة منهم وتنبيها على الإنابة(14/266)
إلى الله تعالى والاستعاذة به من فتنه أهل الكفر والاستغفار مما فرط منهم وهو كما قيل: وجه حسن لا يأباه النظم الكريم، وفيه شمة من أسلوب انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ [النساء: 171] لأنه سبحانه لما حثهم على الائتساء بمن سمعت في الانتهاء عن الكفر وموالاة أهله، ثم قال سبحانه ما يدل على اللجأ إليه تعالى يكون في المعنى نهيا عن الأول وأمرا بالثاني.
وجعل بعضهم القول على هذا الوجه معطوفا على لا تَتَّخِذُوا أي وقولوا ربنا إلخ، وأيا ما كان فتقديم الجار والمجرور في المواضع الثلاثة للقصر كأنه قيل: ربنا عليك توكلنا لا على غيرك وإليك أنبنا لا إلى غيرك وإليك المصير لا إلى غيرك رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي لا تسلطهم علينا فيسبوننا ويعذبوننا- قاله ابن عباس- فالفتنة مصدر بمعنى المفتون أي المعذب من فتن الفضة إذا أذابها فكأنه قيل: ربنا لا تجعلنا معذبين للذين كفروا، وقال مجاهد: أي لا تعذبنا بأيديهم، أو بعذاب من عندك فيظنوا أنهم محقون وأنا مبطلون فيفتنوا لذلك.
وقال قريبا منه قتادة وأبو مجلز، والأول أرجح، ولم تعطف هذه الجملة الدعائية على التي قبلها سلوكا بهما مسلك الجمل المعدودة، وكذا الجملة الآتية، وقيل: إن هذه الجملة بدل مما قبلها، ورد بعدم اتحاد المعنيين كلا وجزءا ولا مناسبة بينهما سوى الدعاء وَاغْفِرْ لَنا ما فرط منا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الغالب الذي لا يذل من التجأ إليه ولا يخيب رجاء من توكل عليه الْحَكِيمُ الذي لا يفعل إلا ما فيه حكمة بالغة لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أي في إبراهيم عليه السلام ومن معه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ الكلام فيه نحو ما تقدم، وقوله تعالى: لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ أي ثوابه تعالى أو لقاءه سبحانه ونعيم الآخرة أو أيام الله تعالى واليوم الآخر خصوصا، والرجاء يحتمل الأمل والخوف صلة- لحسنة- أو صفة، وجوز كونه بدلا من لَكُمْ بناء على ما ذهب إليه الأخفش من جواز أن يبدل الظاهر من ضمير المخاطب- وكذا من ضمير المتكلم- بدل الكل كما يجوز أن يبدل من ضمير الغائب، وأن يبدل من الكل بدل البعض وبدل الاشتمال وبدل الغلط.
ونقل جواز ذلك الإبدال عن سيبويه أيضا، والجمهور على منعه وتخصيص الجواز ببدل البعض والاشتمال والغلط.
وذكر بعض الأجلة أنه لا خلاف في جواز أن يبدل من ضمير المخاطب بدل الكل فيما يفيد إحاطة كما في قوله تعالى: تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا [المائدة: 114] وجعل ما هنا من ذلك وفيه خفاء، وجملة لَقَدْ كانَ إلخ قيل: تكرير لما تقدم من المبالغة في الحث على الائتساء بإبراهيم عليه السلام ومن معه، ولذلك صدرت بالقسم وهو على ما قال الخفاجي: إن لم ينظر لقوله تعالى: إِذْ قالُوا فإنه قيد مخصص فإن نظر له كان ذلك تعميما بعد تخصيص، وهو مأخوذ من كلام الطيبي في تحقيق أمر هذا التكرير.
والظاهر أن هذا مقيد بنحو ما تقدم كأنه قيل: لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة إذ قالوا إلخ، وفي قوله سبحانه:
لِمَنْ كانَ إلخ إشارة إلى أن من كان يرجو الله تعالى واليوم الآخر لا يترك الاقتداء بهم وإن تركه من مخايل عدم رجاء الله سبحانه واليوم الآخر الذي هو من شأن الكفرة بل مما يؤذن بالكفر كما ينبىء عن ذلك قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فإنه مما يوعد بأمثاله الكفرة.
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ أي من أقاربكم المشركين مَوَدَّةً بأن يوافقكم في الدين، وعدهم الله تعالى بذلك لما رأى منهم التصلب في الدين والتشدد في معاداة آبائهم وأبنائهم وسائر أقربائهم ومقاطعتهم إياهم بالكلية تطييبا لقلوبهم، ولقد أنجز الله سبحانه وعده الكريم حين أتاح لهم الفتح فأسلم قومهم فتم(14/267)
لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
بينهم من التحابّ والتصافي ما تم، ويدخل في ذلك أبو سفيان وأضرابه من مسلمة الفتح من أقاربهم المشركين.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن عدي وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كانت المودة التي جعل الله تعالى بينهم تزوج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان فصارت أم المؤمنين وصار معاوية خال المؤمنين، وأنت تعلم أن تزوجها كان وقت هجرة الحبشة، ونزول هذه الآيات سنة ست من الهجرة فما ذكر لا يكاد يصح بظاهره، وفي ثبوته عن ابن عباس مقال وَاللَّهُ قَدِيرٌ مبالغ في القدرة فيقدر سبحانه على تقليب القلوب وتغيير الأحوال وتسهيل أسباب المودة وَاللَّهُ غَفُورٌ مبالغ في المغفرة فيغفر جل شأنه لما فرط منكم في موالاتهم رَحِيمٌ مبالغ في الرحمة فيرحمكم عز وجل بضم الشمل واستحالة الخيانة ثقة وانقلاب المقت مقة، وقيل: يغفر سبحانه لمن أسلم من المشركين ويرحمهم، والأول أفيد وأنسب بالمقام.
لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ أي لا ينهاكم سبحانه وتعالى عن البر بهؤلاء كما يقتضيه كون أَنْ تَبَرُّوهُمْ بدل اشتمال من الموصول وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ أي تفضوا إليهم بالقسط أي العدل، فالفعل مضمن معنى الإفضاء ولذا عدي بإلى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي العادلين.
أخرج البخاري وغيره عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قالت: أتتني أمي راغبة وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فسألت رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم أأصلها؟
فأنزل الله تعالى لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ إلخ، فقال عليه الصلاة والسلام: «نعم صلي أمك»
وفي رواية الإمام أحمد وجماعة عن عبد الله بن الزبير قال: قدمت قتيلة بنت عبد العزى على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا.
أخرج ابن المنذر والطبراني في الكبير وابن مردويه بسند حسن وجماعة عن ابن عباس أنه قال في كيفية امتحانهن: كانت المرأة إذا جاءت النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم حلفها عمر رضي الله تعالى عنه بالله ما خرجت(14/268)
رغبة بأرض عن أرض. وبالله ما خرجت من بغض زوج وبالله ما خرجت التماس دنيا وبالله ما خرجت إلا حبا لله ورسوله،
وفي رواية عنه أيضا كانت محنة النساء أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب فقال:
قل لهن إن رسول الله عليه الصلاة والسلام بايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا
إلخ اللَّهُ أَعْلَمُ من كل أحد أو منكم بِإِيمانِهِنَّ فإنه سبحانه هو المطلع على ما في قلوبهن، والجملة اعتراض فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ أي ظننتموهن ظنا قويا يشبه العلم بعد الامتحان مُؤْمِناتٍ في نفس الأمر فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ أي إلى أزواجهن الكفرة لقوله تعالى: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ فإنه تعليل للنهي عن رجعهن إليهم، والجملة الأولى لبيان الفرقة الثابتة وتحقق زوال النكاح الأول. والثانية لبيان امتناع ما يستأنف ويستقبل من النكاح، ويشعر بذلك التعبير بالاسم في الأولى والفعل في الثانية.
وقال الطيبي في وجه اختلاف التعبيرين: إنه أسندت الصفة المشبهة إلى ضمير المؤمنات في الجملة الأولى إعلاما بأن هذا الحكم يعني نفي الحل ثابت فيهن لا يجوز فيه الإخلال والتغيير من جانبهن، وأسند الفعل إلى ضمير الكفار إيذانا بأن ذلك الحكم مستمر الامتناع في الأزمنة المستقبلة لكنه قابل للتغيير باستبدال الهدى بالضلال، وجوز أن يكون ذلك تكريرا للتأكيد والمبالغة في الحرمة وقطع العلاقة، وفيه من أنواع البديع ما سماه بعضهم بالعكس والتبديل كالذي في قوله تعالى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ [البقرة: 187] ولعل الأول أولى، واستدل بالآية على أن الكفار مخاطبون بالفروع كما في الانتصاف، والقول: بأن المخاطب في حق المؤمنة هي وفي حق الكافر الأئمة بمعنى أنهم مخاطبون بأن يمنعوا ذلك الفعل من الوقوع لا يخفى حاله، وقرأ طلحة- لا هن يحللن لهم- وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا أي وأعطوا أزواجهن مثل ما دفعوا إليهن من المهور قيل: وجوبا، وقيل: ندبا،
روي أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم عام الحديبية أمر عليا كرم الله تعالى وجهه أن يكتب بالصلح فكتب: باسمك اللهم هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين تأمن فيه الناس ويكف بعضهم عن بعض على أن من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليه، ومن جاء قريشا من محمد لم يردّوه عليه وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأن لا إسلال ولا إغلال، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، فرد رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم أبا جندل بن سهيل ولم يأت رسول الله عليه الصلاة والسلام أحد من الرجال إلا رده في مدّة العهد وإن كان مسلما، ثم جاء المؤمنات مهاجرات، وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وكانت أول المهاجرات، فخرج أخواها عمار، والوليد حتى قدما على رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فكلماه في أمرها ليردها عليه الصلاة والسلام إلى قريش فنزلت الآية فلم يردّها عليه الصلاة والسلام ثم أنكحها صلّى الله تعالى عليه وسلم زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل أنه جاءت امرأة تسمى سبيعة بنت الحارث الأسلمية مؤمنة، وكانت تحت صيفي بن الراهب وهو مشرك من أهل مكة فطلبوا ردها فأنزل الله تعالى الآية، وروي أنها كانت تحت صناب وأقط وسمن وهي مشركة فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخلها بيتها حتى أرسلت إلى عائشة رضي الله تعالى عنها أن تسأل رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم عن هذا فسألته فأنزل الله تعالى لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ الآية فأمرها أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها.
وقتيلة هذه- على ما في التحرير- كانت امرأة أبي بكر رضي الله تعالى عنه فطلقها في الجاهلية وهي أم أسماء(14/269)
حقيقة، وعن ابن عطية أنها خالتها وسمتها أما مجازا، والأول هو المعول عليه، وقال الحسن وأبو صالح: نزلت الآية في خزاعة وبني الحارث بن كعب وكنانة ومزينة وقبائل من العرب كانوا صالحوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه، وقال قرة الهمداني وعطية العوفي: نزلت في قوم من بني هاشم منهم العباس.
وعن عبد الله بن الزبير أنها نزلت في النساء والصبيان من الكفرة، وقال مجاهد: في قوم بمكة آمنوا ولم يهاجروا فكان المهاجرون والأنصار يتحرجون من برهم لتركهم فرض الهجرة، وقيل: في مؤمنين من أهل مكة وغيرها أقاموا بين الكفرة وتركوا الهجرة- أي مع القدرة عليها- وقال النحاس والثعلبي: نزلت في المستضعفين من المؤمنين الذين لم يستطيعوا الهجرة، والأكثرون على أنها في كفرة اتصفوا بما في حيز الصلة، وعلى ذلك قال الكيا: فيها دليل على جواز التصدق على أهل الذمة دون أهل الحرب وعلى وجوب النفقة للأب الذمي دون الحربي لوجوب قتله، ويخطر لي أني رأيت في الفتاوى الحديثية لابن حجر عليه الرحمة الاستدلال بها على جواز القيام لأهل الذمة لأنه من البر والإحسان إليهم ولم ننه عنه، لكن راجعت تلك الفتاوى عند كتابتي هذا البحث فلم أظفر بذلك، ومع هذا وجدته نقل في آخر الفتاوى الكبرى في باب السير عن العز بن عبد السلام أنه لا يفعل القيام لكافر لأنا مأمورون بإهانته وإظهار صغاره فإن خيف من شره ضرر عظيم جاز لأن التلفظ بكلمة الكفر جائز للإكراه فهذا أولى، ولم يتعقبه بشيء، ثم إن في كون القيام من البر مطلقا ترددا، وتخصيص العز جواز القيام للكافر بما إذا خيف ضرر عظيم مخالف لقول ابن وهبان من الحنفية:
وللميل أو للمال يخدم كافر ... وللميل للإسلام لو قام يغفر
ومن الناس من يجعل كل مصلحة دينية كالميل للإسلام لكن بشرط أن لا يقصد القائم تعظيما، والله تعالى أعلم، ونقل الخفاجي عن الدر المنثور أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 5] الآية، والاستدلال بها على ما سمعت بتقدير عدم النسخ إن تم إنما يتم على بعض الأقوال فيها.
إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ كمشركي مكة، فإن بعضهم سعوا في إخراج المؤمنين وبعضهم أعانوا المخرجين أَنْ تَوَلَّوْهُمْ تدل من الموصول بدل اشتمال أيضا أي إنما ينهاكم سبحانه عن أن تتولوهم وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ لوضعهم الولاية موضع العداوة أو هم الظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب، وفي الحصر من المبالغة ما لا يخفى.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بيان لحكم من يظهر الإيمان بعد بيان حكم فريقي الكافرين إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ أي بحسب الظاهر مُهاجِراتٍ من بين الكفار، وقرىء «مهاجرات» بالرفع على البدل من الْمُؤْمِناتُ فكأنه قيل: إذا جاءكم «مهاجرات» فَامْتَحِنُوهُنَّ فاختبروهن بما يغلب على ظنكم موافقة قلوبهن لألسنتهن في الإيمان.
مسافر المخزومي وأنه أعطي ما أنفق، وتزوجها عمر رضي الله تعالى عنه، وفي رواية أنها نزلت في أميمة بنت بشر امرأة من بني عمرو بن عون كانت تحت أبي حسان بن الدحداحة هاجرت مؤمنة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وطلبوا ردّها فنزلت الآية فلم يردها عليه الصلاة والسلام، وتزوجها سهيل بن صيف فولدت له عبد الله بن سهيل، ولعل سبب النزول متعدد، وأيا ما كان فالآية على ما قيل: نزلت بيانا لأن الشرط في كتاب المصالحة إنما كان في الرجال دون النساء، وتراخي المخصص عن العام جائز عند الجبائي ومن وافقه، ونسب للزمخشري أن ذلك من تأخير بيان المجمل لأنه لا يقول بعموم تلك الألفاظ بل يجعلها مطلقات، والحمل على العموم والخصوص بحسب المقام، والحنفية يجوزونه لا يقال: إنه شبه التأخير عن وقت الحاجة وهو غير جائز عند الجميع لأن وقت الحاجة أي العمل بالخطاب كان بعد(14/270)
مجيء المهاجرات وطلب ردهن لا حين جرت المهادنة مع قريش، وهذا ذهب إليه بعض الشافعية أيضا، ومنهم من زعم أن التعميم كان منه صلّى الله تعالى عليه وسلم عن اجتهاد أثيب عليه بأجر واحد ولم يقر عليه، ومنهم من وافق جمهور الحنفية على النسخ لا التخصيص، فمن جوز منهم نسخ السنة بالكتاب قال: نسخ بالآية، ومن لم يجوز قال:
بالسنة أي امتناعه صلّى الله تعالى عليه وسلم من الرد ووردت الآية مقررة لفعله عليه الصلاة والسلام.
وعن الضحاك كان بين رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وبين المشركين عهد أن لا تأتيك منا امرأة ليست على دينك إلا رددتها إلينا فإن دخلت في دينك ولها زوج أن ترد على زوجها الذي أنفق عليها، وللنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم من الشرط مثل ذلك، وعليه فالآية موافقة لما وقع عليه العهد لكن أخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير وغيرهما عن قتادة أنه نسخ هذا العهد وهذا الحكم يعني إيتاء الأزواج ما أنفقوا براءة، أما نسخ العهد فلما أمر فيها من النبذ، وأما نسخ الحكم فلأن الحكم فرع العهد فإذا نسخ نسخ، والذي عليه معظم الشافعية أن الغرامة لأزواجهن غير ثابتة، وبين ذلك في الكشف على القول بنسخ رد المرأة، والقول بالتخصيص، والقول: بأن التعميم كان عن اجتهاد لم يقر عليه صلّى الله عليه وسلم، ثم قال: وأما على قول الضحاك- أي السابق- فهو مشكل، ووجهه أنه حكم في مخصوصين فلا يعم غير تلك الوقعة على أنه عز وجل خص الحكم بالمهاجرين ولم يبق بعد الفتح هجرة كما ثبت في الصحيح فلا يبقى الحكم وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ أي في نكاحهن حيث حال إسلامهن بينهن وبين أزواجهن الكفار إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي وقت إيتائكم إياهن مهورهن- فإذا- لمجرد الظرفية، ويجوز كونها شرطية وجوابها مقدر بدليل ما قبل، وعلى التقديرين يفهم اشتراط إيتاء المهور في نفي الجناح في نكاحهن، وليس المراد بإيتاء الأجور إعطاءها بالفعل بل التزامها والتعهد بها، وظاهر هذا مع ما تقدم من قوله تعالى: وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا أن هناك إيتاء إلى الأزواج وإيتاء إليهن فلا يقوم ما أوتي إلى الأزواج مقام مهورهن بل لا بد مع ذلك من إصداقهن، وقيل: لا يخلو إما أن يراد بالأجور ما كان يدفع إليهن ليدفعنه إلى أزواجهن فيشترط في إباحة تزويجهن تقديم أدائه، وإما أن يراد أن ذلك إذا دفع إليهن على سبيل القرض ثم تزوجن على ذلك لم يكن به بأس، وإما أن يبين إليهم أن ما أعطي لأزواجهن لا يقوم مقام المهر، وهذا ما ذكرناه أولا من الظاهر وهو الأصح في الحكم، والوجهان الآخران ضعيفان فقها ولفظا.
واحتج أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه بالآية على أن أحد الزوجين إذا خرج من دار الحرب مسلما أو بذمة وبقي الآخر حربيا وقعت الفرقة. ولا يرى العدة على المهاجرة ويبيح نكاحها من غير عدة إلا أن تكون حاملا، وهذا للحديث المشهور الذي تجوز بمثله الزيادة على النص
«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقين ماءه زرع غيره»
ومذهب الشافعي على ما قيل: إنه لا تقع الفرقة إلا بإسلامها، وأما بمجرد الخروج فلا فإن أسلمت قبل الدخول تنجزت الفرقة وبعد الدخول توقفت إلى انقضاء العدة، وتعقب الاحتجاج بأن الآية لا تدل على مجموع ما ذكر، نعم قد احتج بها على عدم العدة في الفرقة بخروج المرأة إلينا من دار الحرب مسلمة، ووجه بأنه سبحانه نفى الجناح من كل وجه في نكاح المهاجرات بعد إيتاء المهر، ولم يقيد جل شأنه بمضي العدة فلولا أن الفرقة بمجرد الوصول إلى دار الإسلام لكان الجناح ثانيا، ومع هذا فقد قيل: الجواب على أصل الشافعية أن رفع الإطلاق ليس بنسخ ظاهر لأن عدم التعرض ليس تعرضا للعدم، وأما على أصل الحنفية فكسائر الموانع، وكونها حاملا بالاتفاق فتأمل وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ جمع كافرة، وجمع فاعلة على فواعل مطرد وهو وصف جماعة الإناث، وقال الكرخي: الْكَوافِرِ يشمل الإناث والذكور، فقال له الفارسي: النحويون لا يرون هذا إلا في الإناث جمع كافرة، فقال: أليس يقال: طائفة كافرة وفرقة كافرة. قال الفارسي: فبهت، وفيه أنه لا يقال: كافرة في وصف الذكور إلا تابعا للموصوف، أو يكون محذوفا(14/271)
مرادا أما بغير ذلك فلا تجمع فاعلة على فواعل إلا ويكون للمؤنث قاله أبو حيان، وعصم- جمع عصمة وهي ما يعتصم به من عقد وسبب، والمراد نهي المؤمنين عن أن يكون بينهم وبين الزوجات المشركات الباقية في دار الحرب علقة من علق الزوجية أصلا حتى لا يمنع إحداهن نكاح خامسة أو نكاح أختها في العدة بناء على أنه لا عدة لهن قال ابن عباس: من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدن بها من نسائه لأن اختلاف الدارين قطع عصمتها منه، وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر عن إبراهيم النخعي أنه قال: نزل قوله تعالى: وَلا تُمْسِكُوا إلخ في المرأة من المسلمين تلحق بالمشركين فلا يمسك زوجها بعصمتها قد برىء منها.
وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد وسعيد بن جبير نحوه، وفي رواية أخرى عن مجاهد أنه قال: أمرهم سبحانه بطلاق الباقيات مع الكفار ومفارقتهن، ويروى أن عمر رضي الله تعالى عنه طلق لذلك امرأته فاطمة أخت أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومي فتزوجها معاوية بن أبي سفيان وامرأته كلثوم بنت جرول الخزاعي فتزوجها أبو جهم بن حذيفة العدوي، وكذا طلق طلحة زوجته أروى بنت ربيعة، وتعقب ذلك بأنه بظاهره مخالف لمذهب الحنفية والشافعية، وأما عند الحنفية فلأن الفرقة بنفس الوصول إلى دار الإسلام، وأما عند الشافعية فلأن الطلاق موقوف إن جمعتهما العدة تبين وقوعه من حين اللفظ، وإلا فالبينونة بواسطة بقاء المرأة في الكفر، فظاهر الآية لا يدل على ما في هذه الرواية، وقرأ أبو عمرو ومجاهد بخلاف عنه وابن جبير والحسن والأعرج «تمسكوا» مضارع مسك مشددا، والحسن أيضا وابن أبي ليلى وابن عامر في رواية عبد الحميد وأبو عمرو في رواية معاذ «تمسّكوا» مضارع تمسك محذوف إحدى التاءين، والأصل تتمسكوا.
وقرأ الحسن أيضا «تمسكوا» بكسر السين مضارع مسك ثلاثيا وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ أي واسألوا الكفار مهور نسائكم اللاحقات بهم وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا أي وليسألكم الكفار مهور نسائهم المهاجرات إليكم، وظاهره أمر الكفار، وهو من باب وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة: 123] فهو أمر للمؤمنين بالأداء مجازا، وقيل: المراد التسوية ذلِكُمْ الذي ذكر حُكْمُ اللَّهِ أي فاتبعوه، وقوله عز وجل: يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ كلام مستأنف أو حال من حُكْمُ بحذف الضمير العائد إليه، وهو مفعول مطلق أي يحكمه الله تعالى بينكم، أو العائد إليه الضمير المستتر في يَحْكُمُ بجعل الحكم حاكما مبالغة كأن الحكم لقوته وظهوره غير محتاج لحاكم آخر وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يشرع ما تقتضيه الحكمة البالغة، روي أنه لما تقرر هذا الحكم أدى المؤمنون مما أمروا به من مهور المهاجرات إلى أزواجهن، وأبى المشركون أن يؤدوا شيئا من مهور الكوافر إلى أزواجهن المؤمنين فنزل قوله تعالى: وَإِنْ فاتَكُمْ أي سبقكم وانفلت منكم شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ أي أحد من أزواجكم، وقرىء كذلك، وإيقاع شَيْءٌ موقعه لزيادة التعميم وشمول محقر الجنس نصا، وفي الكشف لك أن تقول: أريد التحقير والتهوين على المسلمين لأن من فات من أزواجهم إلى الكفار يستحق الهون والهوان، وكانت الفائتات ستا على ما نقله في الكشاف وفصله، أو أن فاتَكُمْ شَيْءٌ من مهور أزواجكم على أن شَيْءٌ مستعمل في غير العقلاء حقيقة، ومِنْ ابتدائية لا بيانية كما في الوجه الأول فَعاقَبْتُمْ من العقبة لا من العقاب، وهي في الأصل النوبة في ركوب أحد الرفيقين على دابة لهما والآخر بعده أي فجاءت عقبتكم أي نوبتكم من أداء المهر شبه ما حكم به على المسلمين والكافرين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة وأداء أولئك مهور نساء هؤلاء أخرى، أو شبه الحكم بالأداء المذكور بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب، وحاصل المعنى إن لحق أحد من أزواجكم بالكفار أو فاتكم شيء من مهورهن ولزمكم أداء المهر كما لزم الكفار.(14/272)
فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا من مهر المهاجرة التي تزوجتموها ولا تؤتوه زوجها الكافر ليكون قصاصا، ويعلم مما ذكرنا أن عاقب لا يقتضي المشاركة، وهذا كما تقول: إبل معاقبة ترعى الحمض تارة وغيره أخرى ولا تريد أنها تعاقب غيرها من الإبل في ذلك، وحمل الآية على هذا المعنى يوافق ما روي عن الزهري أنه قال:
يعطى من لحقت زوجته بالكفار من صداق من لحق بالمسلمين من زوجاتهم.
وعن الزجاج أن معنى فَعاقَبْتُمْ فغنمتم، وحقيقته فأصبتم في القتال بعقوبة حتى غنمتم فكأنه قيل: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ ولم يؤدوا إليكم مهورهن فغنمتم منهم فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا من الغنيمة وهذا هو الوجه دون ما سبق، وقد كان صلّى الله تعالى عليه وسلم- كما روي عن ابن عباس- يعطي الذي ذهبت زوجته من الغنيمة قبل أن تخمس المهر ولا ينقص من حقه شيئا، وقال ابن جني: روينا عن قطرب أنه قال: فَعاقَبْتُمْ فأصبتم عقبا منهم يقال: عاقب الرجل شيئا إذا أخذ شيئا وهو في المعنى كالوجه قبله.
وقرأ مجاهد والزهري والأعرج وعكرمة وحميد وأبو حيوة والزعفراني- فعقّبتم- بتشديد القاف من عقبه إذا قفاه لأن كل واحد من المتعاقبين يفقي صاحبه، والزهري والأعرج وأبو حيوة أيضا والنخعي وابن وثاب بخلاف عنه- فعقبتم- بفتح القاف وتخفيفها، والزهري والنخعي أيضا بالكسر والتخفيف، ومجاهد أيضا- فأعقبتم- أي دخلتم في العقبة وفسر الزجاج هذه القراءات الأربعة بأن المعنى فكانت العقبى لكم أي الغلبة والنصر حتى غنمتم لأنها العاقبة التي تستحق أن تسمى عاقبة وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ فإن الإيمان به عز وجل يقتضي التقوى منه سبحانه وتعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ أي مبايعات لك أي قاصدات للمبايعة عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً أي شيئا من الأشياء أو شيئا من الإشراك وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ أريد به على ما قال غير واحد: وأد البنات بالقرينة الخارجية، وإن كان الأولاد أعم منهن، وجوز إبقاءه على ظاهره فإن العرب كانت تفعل ذلك من أجل الفقر والفاقة، وانظر هل يجوز حمل هذا النهي على ما يعم ذلك، وإسقاط الحمل بعد أن ينفخ فيه الروح،
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والحسن والسلمي «ولا يقتّلن» بالتشديد
وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ.
قال الفراء: كانت المرأة في الجاهلية تلتقط المولود فتقول: هذا ولدي منك فذلك البهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن، وذلك أن الولد إذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها، وفي الكشاف كني بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذي تلصقة بزوجها كذبا لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين وفرجها الذي تلده به بين الرجلين، وقيل: كني بذلك عن الولد الدعي لأن اللواتي كن يظهرن البطون لأزواجهن في بدء الحال إنما فعلن ذلك امتنانا عليهم، وكن يبدين في ثاني الحال عند الطلق حين يضعن الحمل بين أرجلهن أنهن ولدن لهم فنهين عن ذلك الذي هو من شعار الجاهلية المنافي لشعار المسلمات تصويرا لتينك الحالتين وتهجينا لما كن يفعلنه، وأيا ما كان فحمل الآية على ما ذكر هو الذي ذهب إليه الأكثرون، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقال بعض الأجلة: معناه لا يأتين ببهتان من قبل أنفسهن، واليد والرجل كناية عن الذات لأن معظم الأفعال بهما، ولذا قيل للمعاقب بجناية قولية: هذا ما كسبت يداك، أو معناه لا يأتين ببهتان ينشئنه في ضمائرهم وقلوبهن، والقلب مقره بين الأيدي والأرجل، والكلام على الأول كناية عن إلقاء البهتان من تلقاء أنفسهن، وعلى الثاني كناية عن كون البهتان من دخيلة قلوبهن المبنية على الخبث الباطني.
وقال الخطابي: معناه لا يبهتن الناس كفاحا ومواجهة كما يقال للأمر بحضرتك: إنه بين يديك، ورد بأنهم وإن(14/273)
كنوا عن الحاضر بما ذكر لكن لا يقال فيه: هو بين رجليك، وهو وارد لو ذكرت الأرجل وحدها أما إذا ذكرت مع الأيدي تبعا فلا، والكلام قيل: كناية عن خرق جلباب الحياء، والمراد النهي عن القذف، ويدخل فيه الكذب والغيبة، وروي عن الضحاك حمل ذلك على القذف، وقيل: بين أيديهن قبلة أو جسة وأرجلهن الجماع، وقيل: بين أيديهن ألسنتهن بالنميمة، وأرجلهن فروجهن بالجماع، وهو- وكذا ما قبله- كما ترى.
وقيل: البهتان السحر، وللنساء ميل إليه جدا فنهين عنه وليس بشيء وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ أي فيما تأمرهن به من معروف وتنهاهن عنه من منكر، والتقييد بالمعروف مع أن الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم لا يأمر إلا به للتنبيه على أنه لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق، ويرد به على من زعم من الجهلة أن طاعة أولي الأمر لازمة مطلقا، وخص بعضهم هذا المعروف بترك النياحة لما
أخرج الإمام أحمد والترمذي وحسنة وابن ماجة وغيرهم عن أم سلمة الأنصارية قالت امرأة من هذه النسوة: ما هذا المعروف الذي لا ينبغي لنا أن نعصيك فيه؟ فقال صلّى الله تعالى عليه وسلم: «لا تنحن» الحديث
، ونحوه من الأخبار الظاهرة في تخصيصه بما ذكر كثير، والحق العموم، وما ذكر في الأخبار من باب الاقتصار على بعض أفراد العام لنكتة، ويشهد للعموم قول ابن عباس وأنس وزيد بن أسلم: هو النوح وشق الجيوب ووشم الوجوه ووصل الشعر وغير ذلك من أوامر الشريعة فرضها وندبها، وتخصيص الأمور المعدودة بالذكر في حقهن لكثرة وقوعها فيما بينهن مع اختصاص بعضها بهن على ما سمعت أولا فَبايِعْهُنَّ بضمان الثواب على الوفاء بهذه الأشياء، وتقييد مبايعتهن بما ذكر من مجيئهن لحثهن على المسارعة إليها مع كمال الرغبة فيها من غير دعوة لهن إليها وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ زيادة على ما في ضمن المبايعة من ضمان الثواب إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي مبالغ جل شأنه في المغفرة والرحمة فيغفر عز وجل لهن ويرحمهن إذا وفين بما بايعن عليه وهذه الآية نزلت- على ما أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل- يوم الفتح فبايع رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم الرجال على الصفا وعمر رضي الله تعالى عنه يبايع النساء تحتها عن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم، وجاء أنه عليه الصلاة والسلام بايع النساء أيضا بنفسه الكريمة.
أخرج الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة والترمذي وصححه وغيرهم عن أميمة بنت رقية قالت: أتيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لنبايعه فأخذ علينا ما في القرآن أن لا نشرك بالله حتى بلغ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فقال:
«فيما استطعن وأطقن قلنا: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا يا رسول الله ألا تصافحنا؟ قال: إني لا أصافح النساء إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة» .
وأخرج سعيد بن منصور وابن سعد عن الشعبي قال: كان رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم إذا بايع النساء وضع على يده ثوبا
وفي بعض الروايات أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم يبايعهن وبين يديه وأيديهن ثوب قطوي
، ومن يثبت ذلك يقول بالمصافحة وقت المبايعة، والأشهر المعول عليه أن لا مصافحة،
وأخرج ابن سعد وابن مردويه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء فغمس يده فيه ثم يغمس أيديهن فيه
وكأن هذا بدل المصافحة والله تعالى أعلم بصحته.
والمبايعة وقعت غير مرة ووقعت في مكة بعد الفتح وفي المدينة وممن بايعنه عليه الصلاة والسلام في مكة هند بنت عتبة زوج أبي سفيان،
ففي حديث أسماء بنت يزيد بن السكن كنت في النسوة المبايعات وكانت هند بنت عتبة في النساء فقرأ صلّى الله تعالى عليه وسلم عليهن الآية فلما قال: عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً قالت هند:
وكيف نطمع أن يقبل منا ما لم يقبله من الرجال؟ يعني أن هذا بين لزومه فلما قال وَلا يَسْرِقْنَ قالت: والله إني(14/274)
لأصيب الهنة من مال أبي سفيان لا يدري أيحل لي ذلك؟ فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال، فضحك رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وعرفها فقال لها: وإنك لهند بنت عتبة؟ قالت: نعم فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك، فقال: وَلا يَزْنِينَ فقالت: أو تزني الحرة؟
تريد أن الزنا في الإماء بناء على ما كان في الجاهلية من أن الحرة لا تزني غالبا وإنما يزني في الغالب الإماء، وإنما قيد بالغالب لما قيل: إن ذوات الرايات كن حرائر، فقال: وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ فقالت: ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا- تعني ما كان من أمر ابنها حنظلة بن أبي سفيان فإنه قتل يوم بدر- فضحك عمر حتى استلقى وتبسم رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم-
وفي رواية- أنها قالت: قتلت الآباء وتوصينا بالأولاد؟! فضحك صلّى الله تعالى عليه وسلم، فقال: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ فقالت: والله إن البهتان لأمر قبيح ولا يأمر الله تعالى إلا بالرشد ومكارم الأخلاق، فقال: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء
وكأن هذا منها دون غيرها من النساء لمكان أم حبيبة رضي الله تعالى عنها من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مع أنها حديثة عهد بجاهلية، ويروى أن أول من بايع النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم من النساء أم سعد بن معاذ وكبشة بنت رافع مع نسوة أخر رضي الله تعالى عنهن.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عن الحسن وابن زيد ومنذر بن سعيد أنهم اليهود لأنه عز وجل قد عبر عنهم في غير هذه الآية بالمغضوب عليهم، وروي أن قوما من فقراء المؤمنين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم فنزلت، قيل: هم اليهود والنصارى، وفي رواية عن ابن عباس أنهم كفار قريش. وقال غير واحد:
هم عامة الكفرة وهذه الآية على ما قال الطيبي: متصلة بخاتمة قصة المشركين الذين نهي المؤمنون عن اتخاذهم أولياء بقوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الممتحنة: 1] وهي قوله سبحانه: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الممتحنة: 9] وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ إلخ مستطرد فإنه لما جرى حديث المعاملة مع الذين لا يقاتلون المسلمين والذين يقاتلونهم وقد أخرجوهم من ديارهم من الأمر بمبرة أولئك والنهي عن مبرة هؤلاء أتى بحديث المعاملة مع نسائهم، ولما فرغ من ذلك أوصل الخاتمة بالفاتحة على منوال رد العجز على الصدر من حيث المعنى، وفي الانتصاف جعل هذه الآية نفسها من باب الاستطراد وهو ظاهر على القول:
بأن المراد بالقوم اليهود أو أهل الكتاب مطلقا، وقوله تعالى: قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ استئناف، والمراد قد يئسوا من خير الآخرة وثوابها لعنادهم الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم المنعوت في كتابهم المؤيد بالآيات البينات والمعجزات الباهرات، وإذا أريد بالقوم الكفرة فيأسهم من الآخرة لكفرهم بها.
كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ أي الذين هم أصحاب القبور أي الكفار الموتى على أن مِنَ بيانية، والمعنى أن يأس هؤلاء من الآخرة كيأس الكفار الذين ماتوا وسكنوا القبور وتبينوا حرمانهم من نعيمها المقيم، وقيل: كيأسهم من أن ينالهم خير من هؤلاء الأحياء، والمراد وصفهم بكمال اليأس من الآخرة، وكون مِنَ بيانية مروي عن مجاهد وابن جبير وابن زيد، وهو اختيار ابن عطية وجماعة، واختار أبو حيان كونها لابتداء الغاية، والمعنى أن هؤلاء القوم المغضوب عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئسوا من موتاهم أن يبعثوا ويلقوهم في دار الدنيا، وهو مروي عن ابن عباس والحسن وقتادة، فالمراد بالكفار أولئك القوم، ووضع الظاهر موضع ضميرهم تسجيلا لكفرهم وإشعارا بعلة يأسهم، وقرأ ابن أبي الزناد كما يئس الكافر- بالإفراد على إرادة الجنس.
هذا «ومن باب الاشارة في بعض الآيات» ما قيل: إن قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي(14/275)
وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ
إلخ إشارة للسالك إلى ترك موالاة النفس الإمارة وإلقاء المودة إليها فإنها العدو الأكبر كما قيل:
أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك، وهي لا تزال كارهة للحق ومعارضة لرسول العقل نافرة له ولا تنفك عن ذلك حتى تكون مطمئنة راضية مرضية، وإليه الإشارة بقوله تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وقوله سبحانه: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ إلخ اشارة إلى أنه متى أطاعت النفس وأمن جماحها جاز إعطاؤها حظوظها المباحة، وإليه الإشارة بما
روي أن «لنفسك عليك حقا»
وفي قوله سبحانه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ إلخ إشارة إلى مبايعة المرشد المريد الصادق ذا النفس المؤمنة وذلك أن يبايعه على ترك الاختيار وتفويض الأمور إلى الله عز وجل وأن لا يرغب فيما ليس له بأهل، وأن لا يلج في شهوات النفس، وأن لا يئد الوارد الإلهامي تحت تراب الطبيعة، وأن لا يفتري فيزعم أن الخاطر السري خاطر الروح وخاطر الروح خاطر الحق إلى غير ذلك، وأن لا يعصي في معروف يفيده معرفة الله عز وجل، وأن يطلب من الله سبحانه في ضمن المبالغة أن يستر صفاته بصفاته ووجوده بوجوده، وحاصله أن يطلب له البقاء بعد الفناء وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.(14/276)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)
سورة الصّفّ
وتسمى أيضا سورة الحواريين وسورة عيسى عليه السلام، وهي مدنية في قول الجمهور، وروي ذلك عن ابن الزبير وابن عباس والحسن وقتادة وعكرمة ومجاهد، وقال ابن يسار: مكية، وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد أيضا، والمختار الأول، ويدل له ما أخرجه الحاكم وغيره عن عبد الله بن سلام قال: قعدنا نقرأ من أصحاب رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فتذاكرنا فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله تعالى لعملناه فأنزل الله سبحانه سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ
[الصف: 1، 2] قال عبد الله فقرأها علينا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم حتى ختمها، وروي هذا الحديث مسلسلا يقرأها علينا، وهو حديث صحيح على شرط الشيخين أخرجه الإمام أحمد والترمذي وخلق كثير حتى قال الحافظ ابن حجر: إنه أصح مسلسل يروي في الدنيا إن وقع في المسلسلات مثله في مزيد علوه، وكذا ما روي في سبب النزول عن الضحاك من أنه قول شباب من المسلمين: فعلنا في الغزو كذا ولم يفعلوا، وما روي عن ابن زيد من أنه قول المنافقين للمؤمنين:
نحن منكم ومعكم ثم يظهر من أفعالهم خلاف ذلك.
وآيها أربع عشرة آية بلا خلاف، ومناسبتها لما قبلها اشتمالها على الحث على الجهاد والترغيب فيه، وفي ذلك من تأكيد النهي عن اتخاذ الكفار أولياء الذي تضمنه ما قبل ما فيه.(14/277)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الكلام فيه كالكلام المار في نظيره، والنداء بوصف الايمان في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ على ما عدا القول الأخير في سبب النزول ظاهر، وعليه قيل: هو للتهكم بأولئك المنافقين وبإيمانهم، ولِمَ مركبة من اللام الجارة وما الاستفهامية قد حذف ألفها- على ما قال النحاة- للفرق بين الخبر والاستفهام ولم يعكس حرصا على الجواب، وقيل: لكثرة استعمالها معا فاستحق التخفيف وإثبات الكثرة المذكورة أمر عسير، وقيل: لاعتناقهما في الدلالة على المستفهم عنه، وبين بأن قولك: لم فعلت؟ مثلا المستفهم عنه علة الفعل فهو كالمركب من العلة والفعل والعلة مدلول اللام والفعل مدلول- ما- لأنها بمعنى أي شيء، والمفيد لذلك المجموع، وعند عدم الحرف المسئول عنه الفعل وحده وهو كما ترى، والمعنى لأي شيء تقولون ما لا تفعلونه من الخير والمعروف؟! على أن مدار التوبيخ في الحقيقة عدم فعلهم، وإنما وجه إلى قولهم تنبيها على تضاعف معصيتهم ببيان أن المنكر ليس ترك الخير الموعود فقط بل الوعد أيضا، وقد كانوا يحسبونه معروفا، ولو قيل: لم لا تفعلون ما تقولون لفهم منه أن المنكر هو ترك الموعود كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ بيان لغاية قبح ما فعلوه، وكَبُرَ من باب بئس فيه ضمير مبهم مفسر بالنكرة بعده، وأَنْ تَقُولُوا هو المخصوص بالذم، وجوز أن يكون في كَبُرَ ضمير يعود على المصدر المفهوم من قوله سبحانه: لِمَ تَقُولُونَ أي كبر هو أي القول مقتا وأَنْ تَقُولُوا بدل من المضمر أو خبر مبتدأ محذوف، وقيل: قصد فيه كثر التعجب من غير لفظه كما في قوله:
وجارة جساس أبأنا بنابها ... كليبا غلت ناب كليب بواؤها
ومعنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين، وأسند إلى أَنْ تَقُولُوا ونصب مَقْتاً على تفسيره دلالة على أن قولهم: ما لا يَفْعَلُونَ مقت خالص لا شوب فيه لفرط تمكن المقت منه، واختير لفظ المقت لأنه أشد البغض وأبلغه، ومنه نكاح المقت لتزوج الرجل امرأة أبيه، ولم يقتصر على أن جعل البغض كبيرا حتى جعل أشده وأفحشه، وعند الله أبلغ من ذلك لأنه إذا ثبت كبر مقته عند الله تعالى الذي يحقر دونه سبحانه كل عظيم فقد تم كبره وشدته وانزاحت عنه الشكوك، وتفسير المقت بما سمعت ذهب إليه غير واحد من أهل اللغة، وقال ابن عطية: المقت البغض من أجل ذنب أو ريبة أو دناءة يصنعها الممقوت، وقال المبرد: رجل ممقوت ومقيت إذا كان يبغضه كل واحد، واستدل بالآية على وجوب الوفاء بالنذر وعن بعض السلف أنه قيل له: حدثنا فسكت، فقيل له: حدثنا فقال:
وما تأمرونني أن أقول ما لا أفعل؟ فاستعجل مقت الله عز وجل، وقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ بيان لما هو مرضي عنده سبحانه وتعالى بعد بيان ما هو ممقوت عنده جل شأنه، وظاهره يرجح أن ما قالوه عبارة عن الوعد بالقتال دون ما يقتضيه ما روي عن الضحاك أو عن ابن زيد في سبب النزول، ويقتضي أن مناط التوبيخ هو إخلافهم لا وعدهم وصف مصدر وقع موقع اسم الفاعل، أو اسم المفعول، ونصبه على الحال من ضمير يُقاتِلُونَ أي صافين أنفسهم أو مصفوفين، وكَأَنَّهُمْ إلخ حال من المستكن في الحال الأولى أي مشبهين في تلاصقهم ببنيان إلخ، وهذا ما عناه الزمخشري بقوله: هما أي صَفًّا وكَأَنَّهُمْ إلخ حالان متداخلان، وقول ابن المنير: إن معنى التداخل أن الحال الأولى مشتملة على الحال الثانية فإن هيئة الاتصاف هي هيئة الارتصاص خلاف المعروف من التداخل في اصطلاح النحاة، وجوز أن يكون حالا ثانية من الضمير.
وقال الحوفي: هو في موضع النعت- لصفا- وهو كما ترى، والمرصوص على ما قال الفراء ومنذر بن سعيد هو المعقود بالرصاص، ويراد به المحكم، وقال المبرد: رصصت البناء لاءمت بين أجزائه وقاربته حتى يصير كقطعة(14/278)
واحدة، ومنه الرصيص وهو انضمام الأسنان، والظاهر أن المراد تشبيههم في التحام بعضهم ببعض بالبنيان المرصوص من حيث إنهم لا فرجه بينهم ولا خلل، وقيل: المراد استواء نياتهم في الثبات حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص، والأكثرون على الأول، وفي أحكام القرآن فيه استحباب قيام المجاهدين للقتال صفوفا كصفوف الصلاة وأنه يستحب سدّ الفرج والخلل في الصفوف، وإتمام الصف الأول فالأول، وتسوية الصفوف عدم تقدم بعض على بعض فيها، وقال ابن الفرس: استدل به بعضهم على أن قتال الرجالة أفضل من قتال الفرسان لأن التراص إنما يمكن منهم، ثم قال: وهو ممنوع انتهى، ثم إن القتال على هذه الهيئة اليوم من أصول العساكر المحمدية النظامية لا زالت منصورة مؤيدة بالتأييدات الربانية، وأنت تعلم أن للوسائل حكم المقاصد فما يتوصل به إلى تحصيل الاتصاف بذلك مما لا ينبغي أن يتكاسل في تحصيله، وقرأ زيد بن علي يقاتلون بفتح التاء، وقرىء- يقتلون- وقوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي كلام مستأنف مقرر لما قبله من شناعة ترك القتال وَإِذْ منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به سيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلم بطريق التلوين أي اذكر لهؤلاء المعرضين عن القتال وقت قول موسى عليه السلام لبني إسرائيل حين ندبهم إلى قتال الجبابرة بقوله: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ [المائدة: 21] فلم يمتثلوا لأمره عليه السلام وعصوه أشد عصيان حيث قالوا: يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ إلى قوله تعالى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [المائدة: 22- 24] وأصروا على ذلك كل الإصرار وآذوه عليه السلام كل الأذية فربخهم على ذلك بقوله: يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي بالمخالفة والعصيان فيما أمرتكم به وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جملة حالية مؤكدة لإنكار الإيذاء ونفي سببه وَقَدْ لتحقيق العلم لا للتقليل ولا للتقريب لعدم مناسبة ذلك للمقام، وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار أي والحال أنكم تعلمون علما قطعيا مستمرا بمشاهدة ما ظهر على يدي من المعجزات الباهرة التي معظمها إهلاك عدوكم وإنجائكم من ملكته أني رسول الله إليكم لأرشدكم إلى خيري الدنيا والآخرة، ومن قضية علمكم بذلك أن تبالغوا في تعظيمي وتسارعوا إلى طاعتي فَلَمَّا زاغُوا أي أصروا على الزيغ والانحراف عن الحق الذي جاء به عليه السلام واستمروا عليه أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ أي صرفها عن قبول الحق والميل والميل إلى الصواب لصرف اختيارهم نحو العمى والضلال، وقيل: أي فلما زاغوا في نفس الأمر وبمقتضى ما هم عليه فيها أزاغ الله تعالى في الخارج قلوبهم إذ الإيجاد على حسب الإرادة، والإرادة على حسب العلم. والعلم على حسب ما عليه الشيء في نفس الأمر، وعلى الوجهين لا إشكال في الترتيب، وقوله تعالى: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله من الإزاغة ومؤذن بعلته أي لا يهدي القوم الخارجين عن الطاعة. ومنهاج الحق المصرين على الغواية هداية موصلة إلى البغية، وإلا فالهداية إلى ما يوصل إليها شاملة للكل، والمراد بهم إما المذكورون خاصة والإظهار في مقام الإضمار لذمهم بالفسق وتعليل عدم الهداية به، أو جنس الفاسقين وهم داخلون في حكمهم دخولا أوليا، قيل: وأيا ما كان فهو ناظر إلى ما في قوله تعالى: فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [المائدة: 25] وقوله سبحانه: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [المائدة: 26] هذا وقيل: إذ ظرف متعلق بفعل مقدر يدل عليه ما بعد كزاغوا ونحوه، والجملة معطوفة على ما قبلها عطف القصة على القصة.
وذهب بعضهم إلى أن إيذاءهم إياه عليه السلام بما كان من انتقاصه وعيبه في نفسه وجحود آياته وعصيانه فيما تعود إليهم منافعه وعبادتهم البقر وطلبهم رؤية الله سبحانه جهرة والتكذيب الذي هو حق الله تعالى وحقه عليه السلام،(14/279)
وما ذكر أولا هو الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم ويرتضيه الذوق السليم وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ إما معطوف على إذ الأولى معمول لعاملها، وإما معمول لمضمر معطوف على عاملها يا بَنِي إِسْرائِيلَ ولعله عليه السلام لم يقل يا قومي كما قال موسى عليه السلام بل قال: يا بَنِي إِسْرائِيلَ لأنه ليس له النسب المعتاد وهو ما كان من قبل الأب فيهم، أو إشارة إلى أنه عامل بالتوراة وأنه مثلهم في أنه من قوم موسى عليه السلام هضما لنفسه بأنه لا أتباع له ولا قوم، وفيه من الاستعطاف ما فيه، وقيل: إن الاستعطاف بما ذكر لما فيه من التعظيم، وقد كانوا يفتخرون بنسبتهم إلى إسرائيل عليه السلام.
إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ أي مرسل منه تعالى إليكم حال كوني مصدقا، فنصب مُصَدِّقاً على الحال من الضمير المستتر في رَسُولُ وهو العامل فيه، وإِلَيْكُمْ متعلق به، وهو ظرف لغو لا ضمير فيه ليكون صاحب حال، وذكر هذا الحال لأنه من أقوى الدواعي إلى تصديقهم إياه عليه السلام، وقوله تعالى: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي معطوف على مُصَدِّقاً، وهو داع أيضا إلى تصديقه عليه السلام من حيث إن البشارة بهذا الرسول صلّى الله عليه وسلم واقعة في التوراة كقوله تعالى في الفصل العشرين من السفر الخامس منها: أقبل الله من سينا وتجلى من ساعير وظهر من جبال فاران معه الربوات الأطهار عن يمينه، وقوله سبحانه في الفصل الحادي عشر من هذا السفر: يا موسى إني سأقيم لبني إسرائيل نبيا من إخوتهم مثلك أجعل كلامي في فيه، ويقول لهم ما آمره فيه، والذي لا يقبل قول ذلك النبي الذي يتكلم باسمي أنا أنتقم منه ومن سبطه إلى غير ذلك، ويتضمن كلامه عليه السلام أن دينه التصديق بكتب الله تعالى وأنبيائه عليهم السلام جميعا من تقدم ومن تأخر، وجملة يَأْتِي إلخ في موضع الصفة- لرسول- وكذا جملة قوله تعالى: اسْمُهُ أَحْمَدُ وهذا الاسم الجليل علم لنبينا محمد صلّى الله عليه وسلم، وعليه قول حسان:
صلى الإله ومن يحف بعرشه ... والطيبون على المبارك أحمد
وصح من رواية مالك والبخاري ومسلم والدارمي الترمذي والنسائي عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن لي أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي. وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا العاقب»
والعاقب الذي ليس بعده نبي وهو منقول من المضارع للمتكلم أو من أفعل التفضيل من الحامدية، وجوز أن يكون من المحمودية بناء على أنه قد سمع أحمد اسم تفضيل منها نحو العود أحمد، وإلا فأفعل من المبني للمفعول ليس بقياسي، وقرىء «من بعدي» بفتح الياء، هذا وبشارته عليه السلام بنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم مما نطق به القرآن المعجز، فإنكار النصارى ذلك ضرب من الهذيان، وقولهم: ولو وقعت لذكرت في الإنجيل الملازمة فيه ممنوعة، وإذا سلمت قلنا: بوقوعها في الإنجيل إلا أن جامعيه بعد رفع عيسى عليه السلام أهملوها اكتفاء بما في التوراة ومزامير داود عليه السلام وكتب شعياء وحبقوق وأرمياء وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام.
ويجوز أن يكونوا قد ذكروها إلا أن علماء النصارى بعد- حبا لدينهم أو لأمر ما غير ذلك- أسقطوها كذا قيل، وأنا أقول: الأناجيل التي عند النصارى أربعة: إنجيل متى من الاثني عشر الحواريين جمعه باللغة السريانية بأرض فلسطين بعد رفع عيسى عليه السلام بثماني سنين وعدة إصحاحاته ثمانية وستون إصحاحا، وإنجيل مرقص وهو من السبعين جمعه باللغة الفرنجية بمدينة رومية بعد الرفع باثنتي عشرة سنة وعدة إصحاحاته ثمانية وأربعون إصحاحا، وإنجيل لوقا وهو من السبعين أيضا جمعه بالإسكندرية باللغة اليونانية وعدة إصحاحاته ثلاثة وثمانون إصحاحا، وإنجيل(14/280)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
يوحنا وهو حبيب المسيح جمعه بمدينة إقسس من بلاد رومية بعد الرفع بثلاثين سنة وعدة إصحاحاته في النسخ القبطية ثلاثة وثلاثون إصحاحا وهي مختلفة، وفيها ما يشهد الإنصاف بأنه ليس كلام الله عز وجل ولا كلام عيسى عليه السلام كقصة صلبه الذي يزعمونه ودفنه ورفعه من قبره إلى السماء فما هي إلا كتواريخ وتراجم فيها شرح بعض أحوال عيسى عليه السلام ولادة ورفعا ونحو ذلك، وبعض كلمات له عليه السلام على نحو بعض الكتب المؤلفة في بعض الأكابر والصالحين فلا يضر إهمالها بعض الأحوال، والكلمات التي نطق القرآن العظيم بها ككلامه عليه السلام في المهد وبشارته بنبينا صلّى الله تعالى عليه وسلم على أن في إنجيل يوحنا ما هو بشارة بذلك عند من أنصف وسلك الصراط السوي وما تعسف. ففي الفصل الخامس عشر منه قال يسوع المسيح: إن الفارقليط روح الحق الذي يرسله أبي يعلمكم كل شيء، وقال يوحنا أيضا: قال المسيح: من يحبني يحفظ كلمتي وأبي يحبه وإليه يأتي وعنده يتخذ المنزلة كلمتكم بهذا لأني لست عندكم بمقيم، والفارقليط روح القدس الذي يرسله أبي هو يعلمكم كل شيء وهو يذكركم كل ما قلت لكم أستودعكم سلامي لا تقلق قلوبكم ولا تجزع فإني منطلق وعائد إليكم لو كنتم تحبوني كنتم تفرحون بمضيي إلى الأب، وقال أيضا: إن خيرا لكم أن أنطلق لأبي لأني إن لم أذهب لم يأتكم الفارقليط فإذا انطلقت أرسلته إليكم فإذا جاء فهو يوبخ العالم على الخطيئة وإن لي كلاما كثيرا أريد قوله ولكنكم لا تستطيعون حمله لكن إذا جاء روح الحق ذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بما يسمع ويخبركم بكل ما يأتي ويعرفكم جميع ما للأب، وقال أيضا: إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم فار قليطا آخر يثبت معكم إلى الأبد روح الحق الذي لم يطق العالم أن يقبلوه لأنهم لم يعرفوه ولست أدعكم أيتاما لأني سآتيكم من قريب، والفارقليط لفظ يؤذن بالحمد، وتعين إرادته صلّى الله تعالى عليه وسلم من كلامه عليه السلام مما لا غبار عليه لمن كشف الله تعالى غشاوة التعصب عن عينيه، وقد فسره بعض النصارى بالحماد، وبعضهم بالحامد فيكون في مدلوله إشارة إلى اسمه عليه الصلاة والسلام أحمد، وفسره بعضهم بالمخلص لقول عيسى عليه السلام: فالله يرسل مخلصا آخر فلا يكون ما ذكر بشارة به صلّى الله تعالى عليه وسلم بعنوان الحمد لكنه بشارة به صلّى الله تعالى عليه وسلم بعنوان التخليص، فيستدل به على ثبوت رسالته صلّى الله تعالى عليه وسلم، وإن لم يستدل به على ما في الآية هنا، وزعم بعضهم أن الفارقليط إشارة إلى ألسن نارية نزلت من السماء على التلاميذ ففعلوا الآيات والعجائب، ولا يخفى أن وصفه بآخر يأبى ذلك إذا لم يتقدم لهم غيره فَلَمَّا جاءَهُمْ أي عيسى عليه السلام بِالْبَيِّناتِ أي بالمعجزات الظاهرة.
قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ مشيرين إلى ما جاء به عليه السلام، فالتذكير بهذا الاعتبار، وقيل: مشيرين إليه عليه السلام وتسميته سحرا للمبالغة، ويؤيده قراءة عبد الله وطلحة والأعمش وابن وثاب- هذا ساحر- وكون فاعل جاءَهُمْ ضمير عيسى عليه السلام هو الظاهر لأنه المحدث عنه، وقيل: هو ضمير أَحْمَدُ عليه الصلاة والسلام لما فرغ من كلام عيسى تطرق إلى الإخبار عن أحمد صلّى الله تعالى عليه وسلم أي فلما جاء أحمد هؤلاء الكفار بالبينات قالُوا إلخ.(14/281)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ أي الناس أشد ظلما ممن يدعى إلى الإسلام الذي يوصله إلى سعادة الدارين فيضع موضع الاجابة الافتراء على الله عز وجل بتكذيب رسوله وتسمية آياته سحرا فإن الافتراء على الله تعالى يعم نفي الثابت وإثبات المنفي أي لا أظلم من ذلك، والمراد أنه أظلم من كل ظالم، وقرأ طلحة «يدّعي» مضارع- ادعى- مبنيا للفاعل وهو ضميره تعالى: ويُدْعى بمعنى يدعو يقال: دعاه وادعاه نحو لمسه والتمسه، وقيل: الفاعل ضمير المفتري، وادعى يتعدى بنفسه إلى المفعول به لكنه لما ضمن معنى الانتماء والانتساب عدي بإلى أي وهو ينتسب إلى الإسلام مدعيا أنه مسلم وليس بذاك، وعنه «يدّعى» مضارع ادعى أيضا لكنه مبني للمفعول، ومعناه كما سبق، والآية فيمن كذب من هذه الأمة على ما يقتضيه ما بعد، وهي إن كانت في بني إسرائيل الذين جاءهم عيسى عليه السلام ففيها تأييد لمن ذهب إلى عدم اختصاص الإسلام بالدين الحق الذي جاء به نبينا صلّى الله تعالى عليه وسلم.
وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي لا يرشدهم إلى ما فيه فلاحهم لسوء استعدادهم وعدم توجههم إليه يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ تمثيل لحالهم في اجتهادهم في إبطال الحق بحالة من ينفخ الشمس بفيه ليطفئها تهكما وسخرية بهم كما تقول الناس: هو يطفىء عين الشمس، وذهب بعض الأجلة إلى أن المراد بنور الله دينه تعالى الحق كما روي عن السدي على سبيل الاستعارة التصريحية، وكذا في قوله سبحانه: وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ومُتِمُّ تجريد، وفي قوله تعالى: بِأَفْواهِهِمْ تورية، وعن ابن عباس وابن زيد يريدون إبطال القرآن وتكذيبه بالقول، وقال ابن بحر: يريدون إبطال حجج الله تعالى بتكذيبهم، وقال الضحاك: يريدون هلاك الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم بالأراجيف، وقيل: يريدون إبطال شأن النبي صلّى الله عليه وسلم وإخفاء ظهوره بكلامهم وأكاذيبهم،
فقد روي عن ابن عباس أن الوحي أبطأ أربعين يوما فقال كعب بن الأشرف:
يا معشر يهود أبشروا أطفأ الله تعالى نور محمد فيما كان ينزل عليه، وما كان ليتم نوره فحزن الرسول صلّى الله عليه وسلم فنزلت يُرِيدُونَ إلى آخره
، وفي يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا مذاهب: أحدها أن اللام زائدة والفعل منصوب بأن مقدرة بعدها، وزيدت لتأكيد معنى الإرادة لما في لام العلة من الإشعار بالإرادة والقصد كما زيدت اللام في:
لا أبا لك لتأكيد معنى الإضافة ثانيها أنها غير زائدة للتعليل، ومفعول يُرِيدُونَ محذوف أي يريدون الافتراء لأن يطفئوا ثالثها أن الفعل أعني يُرِيدُونَ حال محل المصدر مبتدأ واللام للتعليل والمجرور بها خبر أي إرادتهم كائنة للإطفاء والكلام نظير- تسمع بالمعيدي خير من أن تراه- من وجه، ورابعها أن اللام مصدرية بمعنى أن غير تقدير والمصدر مفعول به ويكثر ذلك بعد فعل الإرادة والأمر، خامسها أن يُرِيدُونَ منزل منزلة اللازم(14/282)
لتأويله بيوقعون الإرادة، قيل: وفيه مبالغة لجعل كل إرادة لهم للإطفاء وفيه كلام في شرح المغني. وغيره.
وقرأ العربيان ونافع وأبو بكر والحسن وطلحة والأعرج وابن محيصن «متمّ» بالتنوين «نوره» بالنصب على المفعولية لمتم وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ حال من المستكن في مُتِمُّ وفيه إشارة إلى أنه عز وجل متم ذلك إرغاما لهم هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ محمدا صلّى الله عليه وسلم بِالْهُدى بالقرآن، أو بالمعجزة بجعل ذلك نفس الهدى مبالغة وَدِينِ الْحَقِّ والملة الحنيفية لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ليعليه على جميع الأديان المخالفة له، ولقد أنجز الله عز وجل وعده حيث جعله بحيث لم يبق دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام.
وعن مجاهد إذا نزل عيسى عليه السلام لم يكن في الأرض إلا دين الإسلام، ولا يضر في ذلك ما روي أنه يأتي على الناس زمان لا يبقى فيه من الإسلام إلا اسمه إذ لا دلالة في الآية على الاستمرار، وقيل: المراد بالإظهار الإعلاء من حيث وضوح الأدلة وسطوع البراهين وذلك أمر مستمر أبدا وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ذلك لما فيه من محض التوحيد وإبطال الشرك، وقرىء هو الذي أرسل نبيه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ جليلة الشأن تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ يوم القيامة، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق والأعرج وابن عامر «تنجّيكم» بالتشديد، وقوله تعالى: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ استئناف بياني كأنه قيل: ما هذه التجارة؟ دلنا عليه: فقيل: تُؤْمِنُونَ إلخ، والمضارع في الموضوعين كما قال المبرد وجماعة خبر بمعنى الأمر أي آمنوا وجاهدوا، ويؤيده قراءة عبد الله كذلك، والتعبير به للإيذان بوجوب الامتثال كأن الإيمان والجهاد قد وقعا فأخبر بوقوعهما، والخطاب إذا كان للمؤمنين الخلّص فالمراد تثبتون وتدومون على الإيمان أو تجمعون بين الإيمان والجهاد أي بين تكميل النفس وتكميل الغير وإن كان للمؤمنين ظاهرا فالمراد تخلصون الإيمان، وأيا ما كان فلا إشكال في الأمر، وقال الأخفش: تُؤْمِنُونَ إلخ عطف بيان على تِجارَةٍ، وتعقب بأنه لا يتخيل إلا على تقدير أن يكون الأصل أن تؤمنوا حتى يتقدر بمصدر، ثم حذف أن فارتفع الفعل كما في قوله:
ألا أيهذا الزاجري احضر الوغى يريد أن احضر فلما حذف أن ارتفع الفعل وهو قليل، وقال ابن عطية: تُؤْمِنُونَ فعل مرفوع بتقدير ذلك أنه تؤمنون، وفيه حذف المبتدأ وأن واسمها وإبقاء خبرها، وذلك على ما قال أبو حيان: لا يجوز، وقرأ زيد بن علي- تؤمنوا وتجاهدوا- بحذف نون الرفع فيهما على إضمار لام الأمر أي لتؤمنوا وتجاهدوا، أو ولتجاهدوا كما في قوله:
قلت لبواب على بابها ... تأذن لنا إني من أحمائها
وكذا قوله:
محمد تفد نفسك كل نفس ... إذا ما خفت من أمر تبالا
وجوز الاستئناف، والنون حذفت تخفيفا كما في قراءة «ساحران يظاهرا» (1) وقوله:
ونقري ما شئت أن تنقري ... قد رفع الفخ فماذا تحذري
__________
(1) سورة: القصص، الآية: 480.(14/283)
وكذا قوله:
أبيت أسري وتبيتي تدلكي ... وجهك بالعنبر والمسك الذكي
وأنت تعلم أن هذا الحذف شاذ ذلِكُمْ أي ما ذكر من الإيمان والجهاد خَيْرٌ لَكُمْ على الإطلاق أو من أموالكم وأنفسكم إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي إن كنتم من أهل العلم إذ الجهلة لا يعتدّ بأفعالهم حتى توصف بالخيرية، وقيل: أي إن كنتم تعلمون أنه خير لكم كان خيرا لكم حينئذ لأنكم إذا علمتم ذلك واعتقدتم أحببتم الإيمان والجهاد فوق ما تحبون أموالكم وأنفسكم فتخلصون وتفلحون يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ جواب للأمر المدلول عليه بلفظ الخبر كما في قولهم: اتقى الله تعالى امرؤ وفعل خيرا يثب عليه أو جواب لشرط، أو استفهام دل عليه الكلام، والتقدير أن تؤمنوا وتجاهدوا يغفر لكم. أو هل تقبلون أن أدلكم؟ أو هل تتجرون بالإيمان والجهاد؟ يغفر لكم، وقال الفراء: جواب للاستفهام المذكور أي هل أدلكم، وتعقب بأن مجرد الدلالة لا يوجب المغفرة، وأجيب بأنه كقوله تعالى: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ [إبراهيم: 31] وقد قالوا فيه: إن القول لما كان للمؤمن الراسخ الإيمان كان مظنة لحصول الامتثال فجعل كالمحقق وقوعه فيقال هاهنا: لما كانت الدلالة مظنة لذلك نزلت منزلة المحقق، ويؤيده إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لأن من له عقل إذا دله سيده على ما هو خير له لا يتركه، وادعاء الفرق بمأثمة من الإضافة التشريفية وما هنا من المعاتبة قيل: غير ظاهر فتدبر، والإنصاف أن تخريج الفراء لا يخلو عن بعد، وأما ما قيل:
من أن الجملة مستأنفة لبيان أن ذلك خير لهم، ويَغْفِرْ مرفوع سكن آخره كما سكن آخر «أشرب» في قوله:
فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل
فليس بشيء لما صرحوا به من أن ذلك ضرورة وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً أي طاهرة زكية مستلذة، وهذا إشارة إلى حسنها بذاتها، وقوله تعالى: فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ إشارة إلى حسنها باعتبار محلها ذلِكَ أي ما ذكر من المغفرة وما عطف عليها الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الذي لا فوز وراءه وَأُخْرى أي ولكم إلى ما ذكر من النعم نعمة أخرى، فأخرى مبتدأ، وهي في الحقيقة صفة للمبتدأ المحذوف أقيمت مقامه بعد حذفه، والخبر محذوف قاله الفراء، وقوله تعالى: تُحِبُّونَها في موضع الصفة، وقوله سبحانه: نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ أي عاجل بدل أو عطف بيان، وجملة المبتدأ وخبره قيل: حالية وفي الكشف إنها عطف على جواب الأمر أعني يغفر من حيث المعنى كما تقول: جاهدوا تؤجروا ولكم الغنيمة وفي تُحِبُّونَها تعبير لهم وكذلك في إيثار الاسمية على الفعلية وعطفها عليها كأن هذه عندهم أثبت وأمكن ونفوسهم إلى نيلها والفوز أسكن.
وقيل: أُخْرى مبتدأ خبره نَصْرٌ وقال قوم: هي في موضع نصب بإضمار فعل أي ويعطكم أخرى، وجعل ذلك من باب:
علفتها تبنا وماء باردا ومنهم من قدر تحبون أخرى على أنه من باب الاشتغال، ونَصْرٌ على التقديرين خبر مبتدأ محذوف أي ذلك أو هو نَصْرٌ، أو مبتدأ خبره محذوف أي نصر وفتح قريب عنده، وقال الأخفش: هي في موضع جر بالعطف على تِجارَةٍ وهو كما ترى.
وقرأ ابن أبي عبلة نصرا وفتحا قريبا بالنصب بأعني مقدرا، أو على المصدر أي تنصرون نصرا ويفتح لكم فتحا، أو على البدلية من أُخْرى على تقدير نصبها وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ عطف على قل مقدرا قبل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، وقيل: على أبشر مقدرا أيضا، والتقدير فأبشر يا محمد وبشر.(14/284)
وقال الزمخشري: هو عطف على تُؤْمِنُونَ لأنه في معنى الأمر كأنه قيل: آمنوا وجاهدوا يثبكم الله تعالى وينصركم وبشر يا رسول الله المؤمنين بذلك، وتعقبه في الإيضاح بأن فيه نظرا لأن المخاطبين في تُؤْمِنُونَ هم المؤمنون، وفي بَشِّرِ هو النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم، ثم قوله تعالى: تُؤْمِنُونَ بيان لما قبله على طريق الاستئناف فكيف يصح عطف بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه؟ وأجيب بما خلاصته أن قوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا للنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وأمته كما تقرر في أصول الفقه، وإذ فسر بآمنوا وبشر دل على تجارته عليه الصلاة والسلام الرابحة وتجارتهم الصالحة، وقدم آمَنُوا لأنه فاتحة الكل ثم لو سلم فلا مانع من العطف على جواب السائل بما لا يكون جوابا إذا ناسبه فيكون جوابا للسؤال وزيادة كيف وهو داخل فيه؟ كأنهم قالوا: دلنا يا ربنا فقيل:
آمنوا يكن لكم كذا وبشرهم يا محمد بثبوته لهم، وفيه من إقامة الظاهر مقام المضمر وتنويع الخطاب ما لا يخفى نبل موقعه، واختاره صاحب الكشف فقال: إن هذا الوجه من وجه العطف على قل ووجه العطف على فابشر لخلوهما عن الفوائد المذكورة يعني ما تضمنه الجواب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ أي نصرة دينه سبحانه وعونة رسوله عليه الصلاة والسلام، وقرأ الأعرج وعيسى وأبو عمرو والحرميان «أنصارا لله» بالتنوين وهو للتبعيض فالمعنى كونوا بعض أنصاره عز وجل.
وقرأ ابن مسعود- على ما في الكشاف- كونوا أنتم أنصار الله، وفي موضح الأهوازي والكواشي- أنتم- دون كُونُوا كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ أن من جندي متوجها إلى نصرة الله تعالى ليطابق قوله سبحانه: قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ وقيل: إِلَى بمعنى مع ونَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ بتقدير نحن أنصار نبي الله فيحصل التطابق، والأول أولى، والإضافة في أَنْصارِي إضافة أحد المتشاركين إلى الآخر لأنهما لما اشتركا في نصرة الله عز وجل كان بينهما ملابسة تصحح إضافة أحدهما للآخر والإضافة في أَنْصارَ اللَّهِ إضافة الفاعل إلى المفعول والتشبيه باعتبار المعنى إذ المراد قل لهم ذلك كما قال عيسى، وقال أبو حيان: هو على معنى قلنا لكم كما قال عيسى.
وقال الزمخشري: هو على معنى كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ وخلاصته على ما قيل: إن ما مصدرية وهي مع صلتها ظرف أي كونوا أنصار الله وقت قولي لكم ككون الحواريين أنصاره وقت قول عيسى، ثم قيل: كونوا أنصاره كوقت قول عيسى هذه المقالة، وجيء بحديث سؤاله عن الناصر وجوابهم فهو نظير كاليوم في قولهم: كاليوم رجل أي كرجل رأيته اليوم فحذف الموصوف مع صفته، واكتفى بالظرف عنهما لدلالته على الفعل الدال على موصوفه، وهذا من توسعاتهم في الظروف، وقد جعلت الآية من الاحتباك، والأصل كونوا أنصار الله حين قال لكم النبي صلّى الله عليه وسلم: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ كما كان الحواريون أنصار الله حين قال لهم عيسى عليه السلام مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ فحذف من كل منهما ما دل عليه المذكور في الآخر، وهو لا يخلو عن حسن، والْحَوارِيُّونَ أصفياؤه عليه السلام، والعدول عن ضميرهم إلى الظاهر الاعتناء بشأنهم، وهم أول من آمن به وكانوا اثني عشر رجلا فرقهم- على ما في البحر- عيسى عليه السلام في البلاد، فمنهم من أرسله إلى رومية، ومنهم من أرسله إلى بابل، ومنهم من أرسله إلى إفريقية، ومنهم من أرسله إلى أفسس، ومنهم من أرسله إلى بيت المقدس، ومنهم من أرسله إلى الحجاز، ومنهم من أرسله إلى أرض البربر وما حولها وتعيين المرسل إلى كل فيه، ولست على ثقة من صحة ذلك ولا من ضبط أسمائهم، وقد ذكرها السيوطي أيضا في الإتقان فليلتمس ضبط ذلك في مظانه، واشتقاق الحواريين من الحور- وهو البياض- وسموا بذلك لأنهم كانوا قصارين، وقيل:(14/285)
للبسهم البياض، وقيل: لنقاء ظاهرهم وباطنهم، وزعم بعضهم أن ما قيل: من أنهم كانوا قصارين إشارة إلى أنهم كانوا يطهرون نفوس الناس بإفادتهم الدين والعلم، وما قيل: من أنهم كانوا صيادين إشارة إلى أنهم كانوا يصطادون نفوس الناس من الحيرة ويقودونهم إلى الحق.
وقيل: الحواريون المجاهدون،
وفي الحديث «لكم نبي حواري وحواريي الزبير»
وفسر بالخاصة من الأصحاب والناصر، وقال الأزهري: الذي أخلص ونقي من كل عيب، وعن قتادة إطلاق الحواري على غيره رضي الله تعالى عنه أيضا، فقد قال: إن الحواريين كلهم من قريش أبو بكر وعمر وعلي وحمزة وجعفر وأبو عبيدة بن الجراح وعثمان بن مظعون وعبد الرحمن بن عوف وسعد ابن أبي وقاص وعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ أي بعيسى عليه السلام وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ أخرى فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ وهم الذي كفروا فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ فصاروا غالبين قال زيد بن علي وقتادة: بالحجة والبرهان، وقيل: إن عيسى عليه السلام حين رفع إلى السماء قالت طائفة من قومه: إنه الله سبحانه، وقالت أخرى: إنه ابن الله- تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا- رفعه الله عز وجل إليه، وقالت طائفة: إنه عبد الله ورسوله فاقتتلوا فظهرت الفرقتان الكافرتان على الفرقة المؤمنة حتى بعث النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فظهرت المؤمنة على الكافرتين، وروي ذلك عن ابن عباس، وقيل: اقتتل المؤمنون والكفرة بعد رفعه عليه السلام فظهر المؤمنون على الكفرة بالسيف، والمشهور أن القتال ليس من شريعته عليه السلام، وقيل: المراد فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ بمحمد عليه الصلاة والسلام وكفرت أخرى به صلّى الله تعالى عليه وسلم فأيدنا المؤمنين على الكفرة فصاروا غالبين وهو خلاف الظاهر والله تعالى أعلم.(14/286)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
سورة الجمعة
مدنية كما روي عن ابن عباس وابن الزبير والحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة وإليه ذهب الجمهور، وقال ابن يسار: هي مكية، وحكي ذلك عن ابن عباس ومجاهد والأول هو الصحيح لما في صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة قال: كنا جلوسا عند النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم حين أنزلت سورة الجمعة الحديث، وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى، وإسلامه رضي الله تعالى عنه بعد الهجرة بمدة بالاتفاق، ولأن أمر الانفضاض الذي تضمنه آخر السورة وكذا أمر اليهود المشار إليه بقوله سبحانه: قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ [الجمعة: 6] إلخ- لم يكن إلا بالمدينة- وآيها إحدى عشرة آية بلا خلاف، ووجه اتصالها بما قبلها أنه تعالى لما ذكر فيما قبل حال موسى عليه السلام مع قومه وأذاهم له ناعيا عليهم ذلك ذكر في هذه السورة حال الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم وفضل أمته تشريفا لهم لينظر فضل ما بين الأمتين، ولذا تعرض فيها لذكر اليهود، وأيضا لما حكي هناك قول عيسى عليه السلام وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف: 6] قال سبحانه هنا: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الجمعة: 2] إشارة إلى أنه الذي بشر به عيسى، وأيضا لما ختم تلك السورة بالأمر بالجهاد وسماه تِجارَةٍ [الصف: 10] ختم هذه بالأمر بالجمعة وأخبر أن ذلك خير من التجارة الدنيوية. وأيضا في كلتا السورتين إشارة إلى اصطفاف في عبادة، أما في الأولى فظاهر، وأما في هذه فلأن فيها الأمر بالجمعة، وهي يشترط فيها الجماعة التي تستلزم الاصطفاف إلى غير ذلك،
وقد كان صلّى الله تعالى عليه وسلم- كما أخرج مسلم- وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن ابن عباس- يقرأ في الجمعة بسورتها- وإِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ
[المنافقون: 1] .
وأخرج ابن حبان والبيهقي في سننه عن جابر بن سمرة أنه قال: كان رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يقرأ في صلاة المغرب ليلة الجمعة قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الكافرون: 1] وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] وكان يقرأ في صلاة العشاء الأخيرة ليلة الجمعة سورة الجمعة. والمنافقون
- وفي ذلك دلالة على مزيد شرف هذه السورة.(14/287)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ تسبيحا متجددا على سبيل الاستمرار الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ صفات للاسم الجليل، وقد تقدم معناها، وقرأ أبو وائل، ومسلمة بن محارب، ورؤبة، وأبو الدينار، والأعرابي برفعها على المدح، وحسن ذلك الفصل الذي فيه نوع طول بين الصفة والموصوف، وجاء كذلك عن يعقوب، وقرأ أبو الدينار، وزيد بن علي «القدّوس» بفتح القاف هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ يعني سبحانه العرب لأن أكثرهم لا يكتبون ولا يقرؤون.
وقد أخرج البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي عن ابن عمر عن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم قال: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب»
وأريد بذلك أنهم على أصل ولادة أمهم لم يتعلموا الكتابة والحساب فهم على جبلتهم الأولى، فالأمي نسبة إلى الأم التي ولدته، وقيل: نسبة إلى أمة العرب وقيل: إلى أم القرى، والأول أشهر، واقتصر بعضهم في تفسيره على أنه الذي لا يكتب، والكتابة على ما قيل: بدئت بالطائف أخذوها من أهل الحيرة وهم من أهل الأنبار، وقرىء الأمين بحذف ياء النسب رَسُولًا مِنْهُمْ أي كائنا من جملتهم، فمن تبعيضية، والبعضية: إما باعتبار الجنس فلا تدل على أنه عليه الصلاة والسلام أمي، أو باعتبار الخاصة المشتركة في الأكثر فتدل، واختار هذا جمع، فالمعنى رسولا من جملتهم أميا مثلهم يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ مع كونه أميا مثلهم لم يعهد منه قراءة ولا تعلم وَيُزَكِّيهِمْ عطف على يَتْلُوا فهو صفة أيضا- لرسولا- أي يحملهم على ما يصيرون به أزكياء طاهرين من خبائث العقائد والأعمال.
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ صفة أيضا- لرسولا- مترتبة في الوجود على التلاوة. وإنما وسط بينهم التزكية التي هي عبارة عن تكميل النفس بحسب قوتها العملية وتهذيبها المتفرع على تكميلها بحسب القوة النظرية الحاصل بالتعلم المترتب على التلاوة للإيذان بأن كلا من الأمور المترتبة نعمة جليلة على حيالها مستوجبة للشكر، ولو روعي ترتيب الوجود لربما يتبادر إلى الفهم كون الكل نعمة واحدة كما مر في سورة البقرة، وهو السر في التعبير عن القرآن تارة بالآيات وأخرى بالكتاب والحكمة رمزا إلى أنه باعتبار كل عنوان نعمة على حدة. ولا يقدح فيه شمول الحكمة لما في تضاعيف الأحاديث النبوية من الأحكام والشرائع قاله بعض الأجلة، وجوز كون الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ كناية عن جميع النقليات والعقليات كالسماوات والأرض بجميع الموجودات. والأنصار والمهاجرين بجميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم وفيه من الدلالة على مزيد علمه صلّى الله تعالى عليه وسلم ما فيه ولو لم يكن له عليه الصلاة والسلام سوى ذلك معجزة لكفاه كما أشار إليه البوصيري بقوله:
كفاك بالعلم في الأمي معجزة ... في الجاهلية والتأديب في اليتم(14/288)
وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ من الشرك وخبث الجاهلية، وهو بيان لشدة افتقارهم إلى من يرشدهم وإن كانت نسبة الضلال إليهم باعتبار الأكثر إذ منهم مهتد كورقة وأضرابه، وفي الكلام إزاحة لما عسى أن يتوهم من تعلمه عليه الصلاة والسلام من الغير وَإِنْ هي المخففة واللام هي الفارقة وَآخَرِينَ جمع آخر بمعنى الغير، وهو عطف على الْأُمِّيِّينَ أي وفي آخرين مِنْهُمْ أي من الأميين، ومن- للتبيين لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي لم يلحقوا بهم بعد وسيلحقون، وهم الذين جاؤوا بعد الصحابة إلى يوم الدين وجوز أن يكون عطفا على المنصوب في وَيُعَلِّمُهُمُ أي ويعلمهم ويعلم آخرين فإن التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان كان كله مستندا إلى أوله فكأنه عليه الصلاة والسلام هو الذي تولى كل ما وجد منه واستظهر الأول، والمذكور في الآية قومه صلّى الله تعالى عليه وسلم، وجنس الذين بعث فيهم، وأما المبعوث إليهم فلم يتعرض له فيها نفيا أو إثباتا، وقد تعرض لإثباته في آيات أخر، وخصوص القوم لا ينافي عموم ذلك فلا إشكال في تخصيص الآخرين بكونهم من الأميين أي العرب في النسب، وقيل: المراد من الأميين في الأمية فيشمل العجم، وبهم فسره مجاهد- كما رواه عنه ابن جرير وغيره- وتعقب بأن العجم لم يكونوا أميين.
وقيل: المراد منهم في كونهم منسوبين إلى أمة مطلقا لا في كونهم لا يقرؤون ولا يكتبون، وهو كما ترى إلا أنه لا يشكل عليه- وكذا على ما قبله- ما
أخرجه البخاري والترمذي والنسائي وجماعة عن أبي هريرة قال: «كنا جلوسا عند النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم حين أنزلت سورة الجمعة فتلاها فلما بلغ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ قال له رجل: يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ فوضع يده على سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، وقال: والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من هؤلاء» فإنه صلّى الله تعالى عليه وسلم أشار بذلك إلى أنهم فارس
، ومن المعلوم أنهم ليسوا من الأميين المراد بهم العرب في النسب.
وقال بعض أهل العلم: المراد بالأميين مقابل أهل الكتاب لعدم اعتناء أكثرهم بالقراءة والكتابة لعدم كتاب لهم سماوي تدعوهم معرفته إلى ذلك فيشمل الفرس إذ لا كتاب لهم كالعرب، وعلى ذلك يخرج ما أشار إليه الحديث من تفسير الآخرين بالفرس وهو مع ذلك باب التمثيل، والاقتصار على بعض الأنواع بناء على أن بعض الأمم لا كتاب لهم أيضا، وربما يقال: إن- من- في مِنْهُمْ اسمية بمعنى بعض مبتدأ كما قيل في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ [البقرة: 8] وضمير الجمع- لآخرين- وجملة لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ خبر فيشمل آخرين، طوائف الناس الذين يلحقون إلى يوم القيامة من العرب والروم والعجم وغيرهم وبذلك فسره الضحاك وابن حيان ومجاهد في رواية، ويكون الحديث من باب الاقتصار والتمثيل كقول ابن عمر: هم أهل اليمن، وابن جبير هم الروم والعجم فتدبر.
وزعم بعضهم أن المراد بقوله تعالى: لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ أنهم لم يلحقوا بهم في الفضل لفضل الصحابة على التابعين ومن بعدهم، وفيه أن لَمَّا منفيها مستمر إلى الحال ويتوقع وقوعه بعده فتفيد أن لحوق التابعين ومن بعدهم في الفضل للصحابة متوقع الوقوع مع أنه ليس كذلك، وقد صرحوا أنه لا يبلغ تابعي وإن جل قدرا في الفضل مرتبة صحابي وإن لم يكن من كبار الصحابة، وقد سئل عبد الله بن المبارك عن معاوية وعمر بن عبد العزيز أيهما أفضل؟ فقال: الغبار الذي دخل أنف فرس معاوية أفضل عند الله من مائة عمر بن عبد العزيز فقد صلّى معاوية خلف رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فقرأ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] إلخ فقال معاوية: آمين، واستدل على عدم اللحوق بما
صح من قوله عليه الصلاة والسلام فيهم: «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه»
على القول بأن الخطاب لسائر الأمة، وأما
قوله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «أمتي كالمطر لا يدري(14/289)
أوله خير أم آخره»
فمبالغة في خيريتهم كقول القائل في ثوب حسن البطانة: لا يدرى ظهارته خير أم بطانته ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم من كونه عليه الصلاة والسلام رسولا في الأميين ومن بعدهم معلما مزكيا وما فيه من معنى البعد للتعظيم أي ذلك الفضل العظيم فَضْلُ اللَّهِ وإحسانه جل شأنه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ من عباده تفضلا، ولا يشاء سبحانه إيتاءه لأحد بعده صلّى الله تعالى عليه وسلم.
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ الذي يستحقر دونه نعم الدنيا والآخرة مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ أي علموها وكلفوا العمل بما فيها، والتحميل في هذا شائع يلحق بالحقيقة، والمراد بهم اليهود ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها أي لم يعملوا بما في تضاعيفها التي من جملتها الآيات الناطقة بنبوة رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم.
كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً أي كتبا كبارا على ما يشعر به التنكير، وإيثار لفظ السفر وما فيه من معنى الكشف من العلم يتعب بحملها ولا ينتفع بها، ويَحْمِلُ إما حال من- الحمار- لكونه معرفة لفظا والعامل فيه معنى المثل، أو صفة له لأن تعريفه ذهني فهو معنى نكرة فيوصف بما توصف به على الأصح.
ونسب أبو حيان للمحققين تعين الحالية في مثل ذلك، ووجه ارتباط الآية بما قبلها تضمنها الإشارة إلى أن ذلك الرسول المبعوث قد بعثه الله تعالى بما نعته به في التوراة وعلى ألسنة أنبياء بني إسرائيل كأنه قيل: هو الذي بعث المبشر به في التوراة المنعوت فيها بالنبي الأمي المبعوث إلى أمة أميين، مثل من جاءه نعته فيها وعلمه ثم لم يؤمن به مثل الحمار، وفي الآية دليل على سوء حال العالم الذي لا يعمل بعلمه، وتخصيص الحمال بالتشبيه به لأنه كالعلم في الجهل، ومن ذلك قوله الشاعر:
ذوو أمل للأسفار لا علم عندهم ... بجيدها إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ... بأوساقه أو راح ما في الغرائر
بناء على نقل عن ابن خالويه أن البعير اسم من أسماء الحمار كالجمل البازل، وقرأ يحيى بن يعمر وزيد بن علي «حملوا» مبنيا للفاعل، وقرأ عبد الله- حمار- بالتنكير، وقرىء «يحمّل» بشد الميم مبنيا للمفعول بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ أي بئس مثل القوم مثل الذين كذبوا فحذف المضاف وهو المخصوص بالذم وأقيم المضاف إليه مقامه، ويجوز أن يكون الَّذِينَ صفة القوم، والمخصوص محذوف أي بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله هو، والضمير راجع إلى مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ، وظاهر كلام الكشاف أن المخصوص هو مَثَلُ المذكور، والفاعل مستتر يفسره تمييز محذوف، والتقدير بئس مثلا مثل القوم إلخ، وتعقب بأن سيبويه نص على أن التمييز الذي يفسر الضمير المستتر في باب نعم لا يجوز حذفه ولو سلم جوازه فهو قليل، وأجيب بأن ذاك تقرير لحاصل المعنى وهو أقرب لاعتبار الوجه الأول، وكان قول ابن عطية التقدير بئس المثل القوم من ذلك الباب، وإلا ففيه حذف الفاعل، وقد قالوا بعدم جوازه إلا في مواضع ليس هذا منها وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي الواضعين للتكذيب في موضع التصديق، أو الظالمين لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد بسبب التكذيب.
قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا أي تهودوا أي صاروا يهودا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ أي أحباء له سبحانه ولم يضف أولياء إليه تعالى كما في قوله سبحانه: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ قال الطيبي: ليؤذن بالفرق بين مدعي الولاية ومن يخصه عز وجل بها مِنْ دُونِ النَّاسِ حال من الضمير الراجع إلى اسم إِنْ أي متجاوزين عن الناس فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ أي فتمنوا من الله تعالى أن يميتكم وينقلكم من دار البلية إلى محل الكرامة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه أي إن كنتم صادقين في زعمكم واثقين بأنه حق فتمنوا الموت فإن من(14/290)
أيقن أنه من أهل الجنة أحب أن يتخلص إليها من هذه الدار التي هي قرارة الأنكاد والأكدار، وأمر صلّى الله تعالى عليه وسلم أن يقول لهم ذلك إظهارا لكذبهم فإنهم كانوا يقولون: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18] ويدّعون أن الآخرة لهم عند الله خالصة ويقولون: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً [البقرة: 111] وروي أنه لما ظهر رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم كتبت يهود المدينة ليهود خيبر: إن اتبعتم محمدا أطعناه وإن خالفتموه خالفناه. فقالوا:
نحن أبناء خليل الرحمن ومنا عزير ابن الله والأنبياء ومتى كانت النبوة في العرب نحن أحق بها من محمد ولا سبيل إلى اتباعه فنزلت قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا الآية، واستعمال إِنْ التي للشك مع الزعم وهو محقق للإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يجزم به لوجود ما يكذبه.
وقرأ ابن يعمر وابن أبي إسحاق وابن السميفع «فتمنّوا الموت» بكسر الواو تشبيها بلو استطعنا، وعن ابن السميفع أيضا فتحها، وحكى الكسائي عن بعض الأعراب أنه قرأ بالهمزة مضمومة بدل الواو وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً إخبار بحالهم المستقبلة وهو عدم تمنيهم الموت، وذلك خاص على ما صرح به جمع بأولئك المخاطبين،
وروي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لهم: «والذي نفسي بيده لا يقولها أحد منكم إلا غص بريقه»
فلم يتمنه أحد منهم وما ذلك إلا لأنهم كانوا موقنين بصدقه عليه الصلاة والسلام فعلموا أنهم لو تمنوا لماتوا من ساعتهم ولحقهم الوعيد، وهذه إحدى المعجزات، وجاء نفي هذا التمني في آية أخرى- بلن- وهو من باب التفنن على القول المشهور في أن كلا من- لا- ولن- لنفي المستقبل من غير تأكيد، ومن قال: بإفادة- لن- التأكيد فوجه اختصاص التوكيد عنده بذلك الموضع أنهم ادعوا الاختصاص دون الناس في الموضعين، وزادوا هنالك أنه أمر مكشوف لا شبهة فيه محققة عند الله فناسب أن يؤكد ما ينفيه، والباء في قوله سبحانه: بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ سببية متعلقة بما يدل عليه النفي أي يأبون التمني بسبب ما قدمت، وجوز تعلقه بالانتفاء كأنه قيل: انتفى تمنيهم بسبب ما قدمت كما قيل ذلك في قوله تعالى:
ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم: 2] والمراد بما قدمته أيديهم الكفر والمعاصي الموجبة لدخول النار، ولما كانت اليد من بين جوارح الإنسان مناط عامة أفعاله عبر بها تارة عن النفس وأخرى عن القدرة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ أي بهم وإيثار الإظهار على الإضمار لذمهم والتسجيل عليهم بأنهم ظالمون في كل ما يأتون ويذرون من الأمور التي من جملتها ادعاء ما هم عنه بمعزل، والجملة تذييل لما قبلها مقررة لما أشار إليه من سوء أفعالهم واقتضائها العذاب أي والله تعالى عليم بما صدر منهم من فنون الظلم والمعاصي وبما سيكون منهم فيجازيهم على ذلك.
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ ولا تجسرون على أن تمنوه مخافة أن تؤخذوا بوبال أفعالكم فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ البتة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه والجملة خبر إِنَّ والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط باعتبار وصفه بالموصول، فإن الصفة والموصوف كالشيء الواحد، فلا يقال: إن الفاء إنما تدخل الخبر إذا تضمن المبتدأ معنى الشرط، والمتضمن له الموصول وليس بمبتدأ، ودخولها في مثل ذلك ليس بلازم كدخولها في الجواب الحقيقي، وإنما يكون لنكتة تليق بالمقام وهي هاهنا المبالغة في عدم الفوت، وذلك أن الفرار من الشيء في مجرى العادة سبب الفوت عليه فجيء بالفاء لإفادة أن الفرار سبب الملاقاة مبالغة فيما ذكر وتعكيسا للحال، وقيل: ما في حيزها جواب من حيث المعنى على معنى الإعلام فتفيد أن الفرار المظنون سببا للنجاة سبب للإعلام بملاقاته كما في قوله تعالى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل: 53] وهو وجه ضعيف فيما نحن فيه لا مبالغة فيه من حيث المعنى، ومنع قوم منهم الفراء دخول الفاء في نحو هذا، وقالوا: هي هاهنا زائدة، وجوز أن يكون الموصول خبر إِنَّ والفاء عاطفة كأنه قيل: إن الموت هو الشيء الذي تفرون منه فيلاقيكم.(14/291)
وقرأ زيد بن علي «إنه ملاقيكم» بدون فاء، وخرج على أن الخبر هو الموصول وهذه الجملة مستأنفة أو هي الخبر والموصول صفة كما في قراءة الجمهور، وجوز أن يكون الخبر مُلاقِيكُمْ وإنه- توكيدا لأن الموت، وذلك أنه لما طال الكلام أكد الحرف مصحوبا بضمير الاسم الذي لأن، وقرأ ابن مسعود «تفرون منه ملاقيكم» بدون الفاء ولا- إنه- وهي ظاهرة ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الذي لا يخفى عليه خافية.
فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الكفر والمعاصي بأن يجازيكم بها، واستشعر غير واحد من الآية ذم الفرار من الطاعون، والكلام في ذلك طويل، فمنهم من حرمه- كابن خزيمة- فإنه ترجم في صحيحه- باب الفرار من الطاعون من الكبائر- وأن الله تعالى يعاقب من وقع منه ذلك ما لم يعف عنه، واستدل بحديث عائشة «الفرار من الطاعون كالفرار من الزحف» رواه الإمام أحمد والطبراني وابن عدي وغيرهم، وسنده حسن.
وذكر التاج السبكي أن الأكثر على تحريمه، ومنهم من قال: بكراهته كالإمام مالك، ونقل القاضي عياض وغيره جواز الخروج عن الأرض التي يقع بها عن جماعة من الصحابة منهم أبو موسى الأشعري والمغيرة بن شعبة، وعن التابعين منهم الأسود بن هلال ومسروق، وروى الإمام أحمد والطبراني أن عمرو بن العاص قال في الطاعون في آخر خطبته: إن هذا رجز مثل السيل من تنكبه أخطأه ومثل النار من تنكبها أخطأها ومن أقام أحرقته، وفي لفظ إن هذا الطاعون رجس فتفرقوا منه في الشعاب وهذه الأودية فتفرقوا فبلغ ذلك عمر رضي الله تعالى عنه فلم ينكره ولم يكرهه، وعن طارق بن شهاب قال: كنا نتحدث إلى أبي موسى الأشعري وهو في داره بالكوفة فقال لنا وقد وقع الطاعون: لا عليكم أن تنزحوا عن هذه القرية فتخرجوا في فسيح بلادكم حتى يرفع هذا الوباء فإني سأخبركم بما يكره من ذلك، أن يظن من خرج أنه لو أقام فأصابه ذلك أنه لو خرج لم يصبه فاذا لم يظن هذا فلا عليه أن يخرج ويتنزه عنه.
وأخرج البيهقي وغيره عنه بسند حسن أنه قال: إن هذا الطاعون قد وقع فمن أراد أن يتنزه عنه فليفعل واحذروا اثنتين أن يقول قائل: خرج خارج فسلم وجلس جالس فأصيب، فلو كنت خرجت لسلمت كما سلم فلان ولو كنت جلست أصبت كما أصيب فلان، ويفهم أنه لا بأس بالخروج مع اعتقاد أن كل مقدر كائن، وكأني بك تختار ذلك، لكن في فتاوى العلامة ابن حجر أن محل النزاع فيما إذا خرج فارا منه مع اعتقاد أنه لو قدر عليه لأصابه وأن فراره لا ينجيه لكن يخرج مؤملا أن ينجو أما الخروج من محله بقصد أن له قدرة على التخلص من قضاء الله تعالى وأن فعله هو المنجي له فواضح أنه حرام بل كفر اتفاقا.
وأما الخروج لعارض شغل أو للتداوي من علة طعن فيه أو غير ذلك فهو مما لا ينبغي أن يختلف في جوازه كما صرح به بعض المحققين، ومن ذلك فيما أرى عروض وسوسة طبيعية له لا يقدر على دفعها تضر به ضررا بينا وغلبة ظن عدم دفنه أو تغسيله إذا مات في ذلك المحل قيل: ولا يقاس على الفرار من الطاعون الفرار من غيره من المهالك فإنه مأمور به وقد قال الجلال السيوطي: الفرار من الوباء كالحمى ومن سائر أسباب الهلاك جائز بالإجماع، والطاعون مستثنى من عموم المهالك المأمور بالفرار منها للنهي التحريمي أو التنزيهي عن الفرار منه واختلفوا في علة النهي فقيل:
هي أن الطاعون إذا وقع في بلد مثلا عم جميع من فيه بمداخلة سببه فلا يفيد الفرار منه بل إن كان أجله قد حضر فهو ميت وإن رحل وإلا فلا، وإن أقام فتعينت الإقامة لما في الخروج من العبث الذي لا يليق بالعقلاء، واعترض بمنع عمومه إذا وقع في بلد جميع من فيه بمداخلة سببه ولو سلم فالوباء مثله في أن الشخص الذي في بلده إن كان أجله قد حضر فهو ميت وإن رحل وإلا فلا وإن أقام مع أنهم جوزوا الفرار منه، وقيل: هي أن الناس لو تواردوا على الخروج لضاعت المرضى العاجزون عن الخروج لفقد من يتعهدهم والموتى لفقد من يجهزهم، وأيضا في خروج الأقوياء كسرا(14/292)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
لقلوب الضعفاء عن الخروج، وأيضا إن الخارج يقول: لو لم أخرج لمت، والمقيم: لو خرجت لسلمت فيقعان في اللو المنهي عنه، واعترض كل ذلك بأنه موجود في الفرار عن الوباء أيضا، وكذا الداء الحادث ظهوره المعروف بين الناس بأبي زوعة الذي أعيا الأطباء علاجه ولم ينفع فيه التحفظ والعزلة على الوجه المعروف في الطاعون، وقيل: هي إن للميت به وكذا للصابر المحتسب المقيم في محله وإن لم يمت به أجر شهيد، وفي الفرار إعراض عن الشهادة وهو محل التشبيه في حديث عائشة عند بعض، واعترض بأنه قد صح أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم مر بحائط مائل فأسرع ولم يمنع أحد من ذلك. وكذا من الفرار من الحريق مع أن الميت بذلك شهيد أيضا، وذهب بعض العلماء إلى أن النهي تعبدي وكأنه لما رأى أنه لا تسلم علة له عن الطعن قال ذلك، ولهم في هذه المسألة رسائل عديدة فمن أراد استيفاء الكلام فيها فليرجع إليها.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ أي فعل النداء لها أي الأذان، والمراد به على ما حكاه في الكشاف الأذان عند قعود الإمام على المنبر. وقد كان لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم مؤذن واحد فكان إذا جلس على المنبر أذن على باب المسجد فإذا نزل عليه الصلاة والسلام أقام الصلاة، ثم كان أبو بكر وعمر على ذلك حتى إذا كان عثمان وكثر الناس وتباعدت المنازل زاد مؤذنا آخر فأمر بالتأذين الأول على داره التي تسمى زوراء فإذا جلس على المنبر أذن المؤذن الثاني فإذا نزل أقام الصلاة فلم يعب ذلك عليه.
وفي حديث الجماعة- إلا مسلما- فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء، وفي رواية للبخاري ومسلم زاد النداء الثاني، والكل بمعنى، وتسمية ما يفعل من الأذان أولا ثانيا باعتبار أنه لم يكن على عهد رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وإنما كان بعد، وتسميته ثالثا لأن الإقامة تسمى أذانا كما
في الحديث «بين كل أذانين صلاة»
وقال مفتي الحنفية في دار السلطنة السنية الفاضل سعد الله جلبي: المعتبر في تعلق الأمر يعني قوله تعالى الآتي: فَاسْعَوْا هو الأذان الأول في الأصح عندنا لأن حصول الإعلام به لا الأذان بين يدي المنبر، ورد بأن الأول لم يكن على عهد النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم كما سمعت فكيف يقال: المراد الأول في الأصح، وأما كون الثاني لا إعلام فيه فلا يضر لأن وقته معلوم تخمينا ولو أريد ما ذكر وجب بالأول السعي وحرم البيع وليس كذلك.
وفي كتاب الأحكام روي عن ابن عمر والحسن في قوله تعالى: إِذا نُودِيَ إلخ قال: إذا خرج الإمام وأذن المؤذن فقد نودي للصلاة انتهى، وهو التفسير المأثور فلا عبرة بغيره كذا قال الخفاجي.
وفي كتب الحنفية خلافه ففي الكنز وشرحه: ويجب السعي وترك البيع بالأذان الأول لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ الآية وإنما اعتبر لحصول الإعلام به، وهذا القول هو الصحيح في المذهب، وقيل:
العبرة للأذان الثاني الذي يكون بين يدي المنبر لأنه لم يكن في زمنه إلا هو- وهو ضعيف- لأنه لو اعتبر في وجوب(14/293)
السعي لم يتمكن من السنة القبلية ومن الاستماع بل ربما يخشى عليه فوات الجمعة انتهى، ونحوه كثير لكن الاعتراض عليه قوي فتدبر مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أي فيه كما في قوله تعالى: أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ [فاطر:
40] أي فيها، وجوز أبو البقاء أيضا كون مِنْ للتبعيض، وفي الكشاف هي بيان- لإذا- وتفسير له، والظاهر أنه أراد البيان المشهور فأورد عليه أن شرط مِنْ البيانية أن يصح حمل ما بعدها على المبين قبلها وهو منتف هنا لأن الكل لا يحمل على الجزء واليوم لا يصح أن يراد به هنا مطلق الوقت لأن يوم الجمعة علم لليوم المعروف لا يطلق على غيره في العرف ولا قرينة عليه هنا وقيل: أراد البيان اللغوي أي لبيان أن ذلك الوقت في أي يوم من الأيام إذا فيه إبهام فيجامع كونها بمعنى في، وكونها للتبعيض وهو كما ترى.
والجمعة بضم الميم وهو الأفصح، والأكثر الشائع، وبه قرأ الجمهور وقرأ ابن الزبير وأبو حيوة وابن أبي عبلة وزيد بن علي والأعمش بسكونها، وروي عن أبي عمرو- وهي لغة تميم- وجاء فتحها ولم يقرأ به، ونقل بعضهم الكسر أيضا، وذكروا أن الجمعة بالضم مثل الجمعة بالإسكان. ومعناه المجموع أي يوم الفوج المجموع كقولهم:
ضحكة للمضحوك منه، وأما الجمعة: بالفتح فمعناه الجامع أي يوم الوقت الجامع كقولهم: ضحكة لكثير الضحك، وقال أبو البقاء: الجمعة بضمتين وبإسكان الميم مصدر بمعنى الاجتماع.
وقيل: في المسكن هو بمعنى المجتمع فيه كرجل ضحكة أي كثير الضحك منه انتهى، وقد صار يوم الجمعة علما على اليوم المعروف من أيام الأسبوع، وظاهر عبارة أكثر اللغويين أن الجمعة وحدها من غير يوم صارت علما له ولا مانع منه، وإضافة العام المطلق إلى الخاص جائزة مستحسنة فيما إذا خفي الثاني كما هنا لأن التسمية حادثة كما ستعلمه إن شاء الله تعالى فليست قبيحة كالإضافة في إنسان زيد، وكانت العرب- على ما قال غير واحد- تسمي يوم الجمعة عروبة، قيل: وهو علم جنس يستعمل بأل وبدونها وقيل: أل لازمة، قال الخفاجي: والأول أصح.
وفي النهاية لابن الأثير عروبة اسم قديم للجمعة، وكأنه ليس بعربي يقال: يوم عروبة، ويوم العروبة، والأفصح أن لا يدخلها الألف واللام انتهى، وما ظنه من أنه ليس بعربي جزم به مختصر كتاب التذييل والتكميل مما استعمل من اللفظ الدخيل لجمال الدين عبد الله بن أحمد الشهير بالشيشي فقال: عروبة منكرا ومعرفا هو يوم الجمعة اسم سرياني معرب، ثم قال: قال السهيلي: ومعنى العروبة الرحمة فيما بلغنا عن بعض أهل العلم انتهى وهو غريب فليحفظ.
وأول من سماه جمعة قيل: كعب بن لؤي، وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن سيرين قال:
جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلّى الله عليه وسلم وقبل أن تنزل الجمعة قالت الأنصار: لليهود يوم يجتمعون فيه بكل سبعة أيام وللنصارى مثل ذلك فهلم فلنجعل لنا يوما نجتمع فيه فنذكر الله تعالى ونشكره، فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة، وكانوا يسمون يوم الجمعة بذلك فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم فسموه الجمعة حين اجتمعوا إليه فذبح لهم شاة فتغذوا وتعشوا منها وذلك لعامتهم، فأنزل الله تعالى في ذلك بعد يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ الآية، وكون أسعد هذا أول من جمع مروي عن غير ابن سيرين أيضا، أخرج أبو داود وابن ماجة وابن حبان والبيهقي عن عبد الرحمن بن كعب أن أباه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم على أسعد بن زرارة فقلت: يا أبتاه أرأيت استغفارك لأسعد بن زرارة كلما سمعت الأذان للجمعة ما هو؟ قال:
لأنه أول من جمع بنا في نقيع الخضمات من حرة بني بياضة قلت: كم كنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلا، وظاهر قوله ابن سيرين: فأنزل الله تعالى في ذلك بعد يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ أن أسعد أقام الجمعة قبل أن تفرض، وكذا قوله:
جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلّى الله عليه وسلم وقبل أن تنزل الجمعة، في فتح القدير التصريح بذلك، وقال العلامة ابن حجر(14/294)
في تحفة المحتاج: فرضت- يعني صلاة الجمعة- بمكة ولم نقم بها لفقد العدد، أو لأن شعارها الإظهار، وكان صلى الله تعالى عليه وسلم بها مستخفيا، وأول من أقامها بالمدينة قبل الهجرة أسعد بن زرارة بقرية على ميل من المدينة انتهى، فلعلها فرضت ثم نزلت الآية كالوضوء للصلاة فإنه فرض أولا بمكة مع الصلاة ثم نزلت آيته لكن يعكر على هذا ما
أخرجه ابن ماجة عن جابر أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم خطب فقال: «إن الله افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا في يومي هذا في شهري هذا في عامي هذا إلى يوم القيامة فمن تركها استخفافا بها أو جحودا بها فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أمره ألا ولا صلاة له ولا زكاة له ولا حج له ولا صوم له ولا بر له حتى يتوب فمن تاب تاب الله عليه»
فإن الظاهر أن هذه الخطبة كانت في المدينة بل ظاهر الخبر أنها بعد الهجرة بكثير إذ ظاهر
قوله عليه الصلاة والسلام فيه: «لا حج له»
أن الحج كان مفروضا إذ ذاك، وهو وإن اختلف في وقت فرضه فقيل:
فرض قبل الهجرة، وقيل: أول سنيها، وقيل: ثانيها، وهكذا إلى العاشرة لكن قالوا: إن الأصح أنه فرض في السنة السادسة فإما أن يقدح في صحة الحديث، وإما أن يقال: مفاده افتراض الجمعة إلى يوم القيامة أي بهذا القيد، ويقال:
إن الحاصل قبل افتراضها غير مقيد بهذا القيد ثم ما تقدم من كون أسعد أول من جمع بالمدينة يخالفه ما أخرج الطبراني من أبي مسعود الأنصاري قال: أول من قدم من المهاجرين المدينة مصعب بن عمير، وهو أول من جمع بها يوم الجمعة جمع بهم قبل أن يقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهم اثنا عشر رجلا.
وأخرج البخاري على ما نقله السيوطي نحوه وكان ذلك بأمره عليه الصلاة والسلام، فقد أخرج الدارقطني عن ابن عباس قال: أذن النبي عليه الصلاة والسلام بالجمعة قبل أن يهاجر ولم يستطع أن يجمع بمكة فكتب إلى مصعب ابن عمير: أما بعد فانظر اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور فاجمعوا نساءكم وأبناءكم فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة فتقربوا إلى الله تعالى بركعتين قال: فهو أول من جمع حتى قدم النبي صلّى الله عليه وسلم المدينة فجمع عند الزوال من الظهر وأظهر ذلك فلعل ما يدل على كون أسعد أول من جمع أثبت من هذه الأخبار أو يجمع بأن أسعد أول من أقامها بغير أمر منه صلّى الله تعالى عليه وسلم كما يدل عليه خبر ابن سيرين، وصرح به ابن الهمام ومصعبا أول من أقامها بأمره عليه الصلاة والسلام، أو بأن مصعبا أول من أقامها في المدينة نفسها وأسعد أول من أقامها في قرية قرب المدينة، وقولهم: في المدينة تسامح، وقال الحافظ ابن حجر: يجمع بين الحديثين بأن أسعد كان أميرا، ومصعبا كان إماما وهو كما ترى، ولم يصرح في شيء من الأخبار التي وقفت عليها فيمن أقامها قبل الهجرة بالمدينة بالخطبة التي هي أحد شروطها، وكان في خبر ابن سيرين رمزا إليها بقوله: وذكرهم، وقد يقال: إن صلاة الجمعة حقيقة شرعية في الصلاة المستوفية للشروط، فمتى قيل: إن فلانا أول من صلّى الجمعة كان متضمنا لتحقق الشروط لكن يبعد كل البعد كون ما وقع من أسعد رضي الله تعالى عنه إن كان قبل فرضيتها مستوفيا لما هو معروف اليوم من الشروط، ثم إني لا أدري هل صلّى أسعد الظهر ذلك اليوم أم اكتفى بالركعتين اللتين صلاهما عنها؟ وعلى تقدير الاكتفاء كيف ساغ له ذلك بدون أمره عليه الصلاة والسلام؟! وقصارى ما يظن أن الأنصار علموا فرضية الجمعة بمكة وعلموا شروطها وإغناءها عن صلاة الظهر فأرادوا أن يفعلوها قبل أن يؤمروا بخصوصهم فرغب خواصهم عوامهم على أحسن وجه وجاؤوا إلى أسعد فصلى بهم وهو خلاف الظاهر جدا فتدبر والله تعالى الموفق.
وأما ما كان من صلاته عليه الصلاة والسلام إياها
فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة مهاجرا نزل قبا على بني عمرو بن عوف وأقام بها يوم الأثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وأسس مسجدهم ثم خرج يوم الجمعة إلى المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم فخطب وصلّى الجمعة وهو أول جمعة(14/295)
صلاها عليه الصلاة والسلام
، وقال بعضهم: إنما سمي هذا اليوم يوم الجمعة لأن آدم عليه السلام اجتمع فيه مع حواء في الأرض، وقيل: لأن خلق آدم عليه السلام جمع فيه وهو نحو ما
أخرجه سعيد بن منصور وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قلت: «يا نبي الله لأي شيء سمي يوم الجمعة؟ فقال: لأن فيها جمعت طينة أبيكم آدم عليه السلام» الخبر،
ويشعر ذلك بأن التسمية كانت قبل كعب بن لؤي ويسميه الملائكة يوم القيامة يوم المزيد لما أن الله تعالى يتجلى فيه لأهل الجنة فيعطيهم ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر كما
في حديث رواه ابن أبي شيبة عن أنس مرفوعا وهو من أفضل الأيام
،
وفي خبر رواه كثيرون منهم الإمام أحمد وابن ماجة عن أبي لبابة بن عبد المنذر مرفوعا «يوم الجمعة سيد الأيام وأعظم عند الله تعالى من يوم الفطر ويوم الأضحى»
وفيه أن فيه خلق آدم وإهباطه إلى الأرض وموته وساعة الإجابة- أي للدعاء- ما لم يكن سؤال حرام وقيام الساعة،
وفي خبر الطبراني «وفيه دخل الجنة وفيه خرج» .
وصحح ابن حبان خبر «لا تطلع الشمس ولا تغرب على يوم أفضل من يوم الجمعة»
وفي خبر مسلم «فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها وفيه تقوم الساعة وأنه خير يوم طلعت عليه الشمس»
وصح خبر «وفيه تيب عليه وفيه مات» .
وأخذ أحمد من خبري مسلم وابن حبان أنه أفضل حتى من يوم عرفة، وفضل كثير من الحنابلة ليلته على ليلة القدر، قيل: ويردهما أن لذينك دلائل خاصة فقدمت، واختلف في تعيين ساعة الإجابة فيه، فعن أبي بردة: هي حين يقوم الإمام في الصلاة حتى ينصرف عنها، وعن الحسن: هي عند زوال الشمس، وعن الشعبي: هي ما بين أن يحرم البيع إلى أن يحل، وعن عائشة: هي حين ينادي المنادي بالصلاة،
وفي حديث مرفوع أخرجه ابن أبي شيبة عن كثير ابن عبد الله المزني: هي حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها
، وعن أبي أمامة إني لأرجو أن تكون الساعة التي في الجمعة إحدى هذه الساعات: إذا أذن المؤذن أو جلس الإمام على المنبر، أو عند الإقامة، وعن طاوس ومجاهد: هي بعد العصر، وقيل: غير ذلك، ولم يصح تعيين الأكثرين، وقد أخفاها الله تعالى كما أخفى سبحانه الاسم الأعظم وليلة القدر وغيرها لحكمة لا تخفى.
فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ أي امشوا إليه بدون إفراط في السرعة،
وجاء في الحديث مقابلة السعي بالمشي،
وجعل ذلك في خصائص الجمعة،
فقد أخرج الستة في كتبهم عن أبي سلمة من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا»
والمراد بذكر الله الخطبة والصلاة، واستظهر أن المراد به الصلاة، وجوز كون المراد به الخطبة- وهو على ما قيل- مجاز من إطلاق البعض على الكل كإطلاقه على الصلاة، أو لأنها كالمحل له، وقيل:
الذكر عام يشمل الخطبة المعروفة ونحو التسبيحة، واستدلوا بالآية لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه على أنه يكفي في خطبة الجمعة التي هي شرط لصحتها الذكر مطلقا ولا يشترط الطويل وأقله قدر التشهد كما اشترطه صاحباه، وبينوا ذلك بأنه تعالى ذكر الذكر من غير فصل بين كونه ذكرا طويلا يسمى خطبة أو ذكرا لا يسمى خطبة فكان الشرط هو الذكر الأعم بالقاطع غير أن المأثور عنه صلّى الله تعالى عليه وسلم اختيار أحد الفردين وهو الذكر المسمى بالخطبة والمواظبة عليه فكان ذلك واجبا أو سنة لا أنه الشرط الذي لا يجزىء غيره إذ لا يكون بيانا لعدم الإجمال في لفظ الذكر، والشافعية يشترطون خطبتين: ولهما أركان عندهم، واستدلوا على ذلك بالآثار، وأيا ما كان فالأمر بالسعي للوجوب.
واستدل بذلك على فرضية الجمعة حيث رتب فيها الأمر بالسعي لذكر الله تعالى على النداء للصلاة فإن أريد به(14/296)
الصلاة أو هي والخطبة فظاهر، وكذلك إن أريد به الخطبة لأن افتراض السعي إلى الشرط- وهو المقصود لغيره- فرع افتراض ذلك الغير، ألا ترى أن من لم تجب عليه الصلاة لا يجب عليه السعي إلى الجمعة بالإجماع؟ وكذا ثبتت فرضيتها بالسنة والإجماع، وقد صرح بعض الحنفية بأنها آكد فرضية من الظهر وبإكفار جاحدها وهي فرض عين، وقيل: كفاية وهو شاذ، وفي حديث رواه أبو داود وقال النووي: على شرط الشيخين «الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض» .
وأجمعوا على اشتراط العدد فيها لهذا الخبر وغيره، وقول القاشاني: تصح بواحد لا يعتد به كما في شرح المهذب لكنهم اختلفوا في مقداره على أقوال: أحدها أنه اثنان أحدهما الإمام- وهو قول النخعي والحسن بن صالح وداود- الثاني: ثلاثة أحدهم الإمام- وحكي عن الأوزاعي وأبي ثور وعن أبي يوسف ومحمد وحكاه الرافعي وغيره عن قول الشافعي القديم- الثالث: أربعه أحدهم الإمام- وبه قال أبو حنيفة والثوري والليث وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي وأبي ثور واختاره، وحكاه في شرح المهذب عن محمد، وحكاه صاحب التلخيص قولا للشافعي في القديم- الرابع:
سبعة- حكي عن عكرمة- الخامس: تسعة- حكي عن ربيعة- السادس: اثني عشر- وفي رواية عن ربيعة. وحكاه الماوردي عن محمد والزهري والأوزاعي- السابع: ثلاثة عشر أحدهم الإمام- حكي عن إسحاق بن راهويه- الثامن:
عشرون- رواه ابن حبيب عن مالك- التاسع: ثلاثون- في رواية عن مالك- العاشر: أربعون أحدهم الإمام- وبه قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة والإمام الشافعي في الجديد، وهو المشهور عن الإمام أحمد، وأحد القولين المرويين عن عمر بن عبد العزيز- الحادي عشر: خمسون- في الرواية الأخرى عنه- الثاني عشر: ثمانون- حكاه المازري- الثالث عشر: جمع كثير بغير قيد- وهو مذهب مالك- فقد اشتهر أنه قال: لا يشترط عدد معين بل يشترط جماعة تسكن بهم قرية ويقع بينهم البيع، ولا تنعقد بالثلاثة والأربعة ونحوهم.
قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري: ولعل هذا المذهب أرجح المذاهب من حيث الدليل، وأنا أقول أرجحها مذهب الإمام أبي حنيفة، وقد رجحه المزني- وهو من كبار الآخذين عن الشافعي- وهو اختيار الجلال السيوطي، ووجه اختياره مع ذكر أدلة أكثر الأقوال بما لها وعليها مذكور في رسالة له سماها ضوء الشمعة في عدد الجمعة، ولولا مزيد التطويل لذكرنا خلاصتها. ومن أراد ذلك فليرجع إليها ليظهر له بنورها حقيقة الحال.
وقرأ كثير من الصحابة والتابعين- فامضوا- وحملت على التفسير بناء على أنه لا يراد بالسعي الإسراع في المشي ولم تجعل قرآنا لمخالفتها سواد المصحف المجمع عليه وَذَرُوا الْبَيْعَ أي واتركوا المعاملة على أن البيع مجاز عن ذلك فيعم البيع والشراء والإجارة وغيرها من المعاملات، أو هو دال على ما عداه بدلالة النص ولعله الأولى، والأمر للوجوب فيحرم كل ذلك بل روي عن عطاء حرمة اللهو المباح وأن يأتي الرجل أهله وأن يكتب كتابا أيضا.
وعبر بعضهم بالكراهة وحملت على كراهة التحريم، وقول الأكمل في شرح المنار: إن الكراهة تنزيهية مردود وكأنه مأخوذ من زعم القاضي الإسبيجاني أن الأمر في الآية للندب وهو زعم باطل عند أكثر الأئمة، وعامة العلماء على صحة البيع، وإن حرم نظير ما قالوا في الصلاة بالثوب المغصوب أو في الأرض المغصوبة.
وقال ابن العربي: هو فاسد، وعبر مجاهد بقوله: مردود ويستمر زمن الحرمة إلى فراغ الإمام من الصلاة، وأوله إما وقت أذان الخطبة- وروي عن الزهري، وقال به جمع- وإما أول وقت الزوال- وروى ذلك عن عطاء والضحاك والحسن- والظاهر أن المأمورين بترك البيع هم المأمورون بالسعي إلى الصلاة.
وأخرج عبد بن حميد عن عبد الرحمن بن القاسم أن القاسم دخل على أهله يوم الجمعة وعندهم عطار يبايعونه(14/297)
فاشتروا منه وخرج القاسم إلى الجمعة فوجد الإمام وقد خرج فلما رجع أمرهم أن يناقضوه البيع، وظاهره حرمة البيع إذا نودي للصلاة على غير من تجب عليه أيضا، والظاهر حرمة البيع والشراء حالة السعي.
وصرح في السراج الوهاج بعدمها إذا لم يشغله ذلك ذلِكُمْ أي المذكور من السعي إلى ذكر الله تعالى وترك البيع خَيْرٌ لَكُمْ أنفع من مباشرة البيع فإن نفع الآخرة أجلّ وأبقى، وقيل: أنفع من ذلك ومن ترك السعي، وثبوت أصل النفع للمفضل عليه باعتبار أنه نفع دنيوي لا يدل على كون الأمر للندب والاستحباب دون الحتم والإيجاب كما لا يخفى إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الخير والشر الحقيقيين، أو إن كنتم من أهل العلم على تنزيل الفعل منزلة اللازم فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ أي أديت وفرغ منها فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ لإقامة مصالحهم وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أي الربح على ما قيل، وقال مكحول والحسن وابن المسيب: المأمور بابتغائه هو العلم.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال: لم يؤمروا بشيء من طلب الدنيا إنما هو عيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله تعالى، وأخرج نحوه ابن جرير عن أنس مرفوعا، والأمر للإباحة على الأصح فيباح بعد قضاء الصلاة الجلوس في المسجد ولا يجب الخروج، وروي ذلك عن الضحاك ومجاهد.
وحكى الكرماني في شرح البخاري الاتفاق على ذلك وفيه نظر، فقد حكى السرخسي القول بأنه للوجوب، وقيل: هو للندب،
وأخرج أبو عبيد وابن المنذر والطبراني وابن مردويه عن عبد الله بن بسر الحراني قال: رأيت عبد الله ابن بسر المازني صاحب النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم إذا صلّى الجمعة خرج فدار في السوق ساعة ثم رجع إلى المسجد فصلى ما شاء الله تعالى أن يصلي، فقيل له: لأي شيء تصنع هذا؟ قال: إني رأيت سيد المرسلين صلّى الله تعالى عليه وسلم هكذا يصنع وتلا هذه الآية فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ
إلخ.
وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: إذا انصرفت يوم الجمعة فاخرج إلى باب المسجد فساوم بالشيء وإن لم تشتره، ونقل عنه القول بالندبية وهو الأقرب والأوفق بقوله تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً أي ذكرا كثيرا ولا تخصوا ذكره عز وجل بالصلاة لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ كي تفوزوا بخير الدارين، ومما ذكرنا يعلم ضعف الاستدلال بما هنا على أن الأمر الوارد بعد الحظر للإباحة، واستدل بالآية على تقديم الخطبة على الصلاة وكذا على عدم ندب صلاة سنتها البعدية في المسجد، ولا دلالة فيها على نفي سنة بعدية لها، وظاهر كلام بعض الأجلة أن من الناس من نفى أن للجمعة سنة مطلقا فيحتمل على بعد أن يكون استشعر نفي السنة البعدية من الأمر بالانتشار وابتغاء الفضل، وأما نفي القبلية فقد استند فيه إلى ما روي في الصحيح وقد تقدم من أن النداء كان على عهده عليه الصلاة والسلام إذا جلس على المنبر إذ من المعلوم أنه عليه الصلاة والسلام إذا كمل الأذان أخذ في الخطبة وإذا أتمها أخذ في الصلاة، فمتى كانوا يصلون السنة؟ وأجيب عن هذا بأن خروجه عليه الصلاة والسلام كان بعد الزوال بالضرورة فيجوز كونه بعد ما كان يصلي الأربع، ويجب الحكم بوقوع الحكم بهذا المجوز لعموم ما صح من أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم كان يصلي إذا زالت الشمس أربعا، وكذا يجب في حقهم لأنهم أيضا يعلمون الزوال كالمؤذن بل ربما يعلمونه بدخول الوقت ليؤذن، واستدل بقوله تعالى: إِذا نُودِيَ إلخ من قال: إنما يجب إتيان الجمعة من مكان يسمع فيه النداء، والمسألة خلافية فقال ابن عمر وأبو هريرة ويونس والزهري: يجب إتيانها من ستة أميال، وقيل: من خمسة، وقال ربيعة: من أربعة، وروي ذلك عن الزهري وابن المنكدر.
وقال مالك والليث: من ثلاثة، وفي بحر أبي حيان وقال أبو حنيفة وأصحابه: يجب الإتيان على من في المصر سمع النداء أو لم يسمع لا على من هو خارج المصر وإن سمع النداء وعن ابن عمر وابن المسيب والزهري وأحمد(14/298)
وإسحاق على من سمع النداء، وعن ربيعة على من إذا سمع وخرج من بيته ماشيا أدرك الصلاة، وكذا استدل بذلك من قال بوجوب الإتيان إليها سواء كان إذن عام أم لا، وسواء أقامها سلطان أو نائبه أو غيرهما أم لا لأنه تعالى إنما رتب وجوب السعي على النداء مطلقا كذا قيل، وتحقيق الكلام على ذلك كله في كتب الفروع المطولة.
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها
أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وجماعة عن جابر ابن عبد الله قال: «بينما النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائما إذ قدمت عير المدينة فابتدرها أصحاب رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم حتى لم يبق منهم إلا اثنا عشر رجلا أنا فيهم وأبو بكر وعمر فأنزل الله تعالى وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً إلى آخر السورة
،
وفي رواية ابن مردويه عن ابن عباس أنه بقي في المسجد اثنا عشر رجلا وسبع نسوة فقال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «لو خرجوا كلهم لاضطرم المسجد عليهم نارا»
وفي رواية عن قتادة «والذي نفس محمد بيده لو اتبع آخركم أولكم لالتهب الوادي عليكم نارا»
، وقيل: لم يبق إلا أحد عشر رجلا، وهم على ما قال أبو بكر: غالب بن عطية العشرة المبشرة وعمار في رواية وابن مسعود في أخرى، وعلى الرواية السابقة عدوا العشرة أيضا منهم. وعدوا بلالا وجابرا لكلامه السابق، ومنهم من لم يذكر جابرا وذكر بلالا وابن مسعود ومنه من ذكر عمارا بدل ابن مسعود، وقيل: لم يبق إلا ثمانية، وقيل: بقي أربعون، وكانت العير لعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه تحمل طعاما، وكان قد أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر.
وأخرج أبو داود في مراسيله عن مقاتل بن حيان قال: كان رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يصلي الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين حتى كان يوم الجمعة والنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم يخطب وقد صلّى الجمعة فدخل رجل فقال: إن دحية بن خليفة قدم بتجارة وكان إذا قدم تلقاه أهله بالدفاف فخرج الناس ولم يظنوا إلا أنه ليس في ترك حضور الخطبة شيء فأنزل الله تعالى وَإِذا رَأَوْا
إلخ فقدم النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم الخطبة يوم الجمعة وأخر الصلاة، ولا أظن صحة هذا الخبر، والظاهر أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم لم يزل مقدما خطبتها عليها، وقد ذكروا أنها شرط صحتها وشرط الشيء سابق عليه، ولم أر أحدا من الفقهاء ذكر أن الأمر كان كما تضمنه ولم أظفر بشيء من الأحاديث مستوف لشروط القبول متضمن ذلك، نعم ذكر العلامة ابن حجر الهيتمي أن بعضهم شذ عن الإجماع على كون الخطبة قبلها والله تعالى أعلم، والآية لما كانت في أولئك المنفضين وقد نزلت بعد وقوع ذلك منهم قالوا: إن إِذا فيها قد خرجت عن الاستقبال واستعملت للماضي كما في قوله:
وندمان تزيد الكأس طيبا ... سقيت إذا تغورت النجوم
ووحد الضمير لأن العطف بأو واختير ضمير التجارة دون اللهو لأنها الأهم المقصود، فإن المراد باللهو ما استقبلوا به العير من الدف ونحوه، أو لأن الانفضاض للتجارة مع الحاجة إليها والانتفاع بها إذا كان مذموما فما ظنك بالانفضاض إلى اللهو وهو مذموم في نفسه؟ وقيل: الضمير للرؤية المفهومة من رَأَوْا وهو خلاف الظاهر المتبادر، وقيل: في الكلام تقدير، والأصل إذا رأوا تجارة انفضوا إليها، أو لهوا انفضوا إليه فحذف الثاني لدلالة الأول عليه، وتعقب بأنه بعد العطف بأو لا يحتاج إلى الضمير لكل منهما بل يكفي الرجوع لأحدهما فالتقدير من غير حاجة، وقال الطيبي: يمكن أن يقال: إن أَوْ في أَوْ لَهْواً مثلها في قوله:
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ... وصورتها أو أنت في العين أملح
فقال الجوهري: يريد بل أنت فالضمير في إِلَيْها راجع إلى اللهو باعتبار المعنى، والسر فيه أن التجارة إذا شغلت المكلف عن ذكر الله تعالى عدت لهوا، وتعدّ فضلا إن لم تشغله كما في قوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ(14/299)
فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ
انتهى وليس بشيء كما لا يخفى.
وقرأ ابن أبي عبلة- إليه- بضمير اللهو، وقرىء- إليهما- بضمير الاثنين كما في قوله تعالى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما [النساء: 135] وهو متأول لأنه بعد العطف بأو لكونها لأحد الشيئين لا يثنى الضمير وكذا الخبر، والحال والوصف فهي على هذه القراءة بمعنى الواو كما قيل به في الآية التي ذكرناها وَتَرَكُوكَ قائِماً أي على المنبر.
واستدل به على مشروعية القيام في الخطبة وهو عند الحنفية أحد سننها، وعند الشافعية هو شرط في الخطبتين إن قدر عليه، وأخرج ابن ماجة وغيره عن ابن مسعود أنه سئل أكان النبي صلّى الله عليه وسلم يخطب قائما أو قاعدا؟ فقال: أما تقرأ وَتَرَكُوكَ قائِماً؟ وكذا سئل ابن سيرين وأبو عبيدة وأجابا بذلك، وأول من خطب جالسا معاوية.
ولعل ذلك لعجزه عن القيام، وإلا فقد خالف ما كان عليه رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم،
فقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة عن ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يخطب خطبتين يجلس بينهما
، وذكر أبو حيان أن أول من استراح في الخطبة عثمان رضي الله تعالى عنه، وكأنه أراد بالاستراحة غير الجلوس بين الخطبتين إذ ذاك ما كان عليه صلّى الله تعالى عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ فإن ذلك نفع محقق مخلد بخلاف ما فيهما من النفع، فإن نفع اللهو ليس بمحقق بل هو متوهم، ونفع التجارة ليس بمخلد، وتقديم اللهو ليس من تقديم العدم على الملكة كما توهم بل لأنه أقوى مذمة، فناسب تقديمه في مقام الذم، وقال ابن عطية: قدمت التجارة على اللهو في الرؤية لأنها أهم، وأخرت مع التفضيل لتقع النفس أولا على الأبين، وهو قريب مما ذكرنا.
وقال الطيبي: قدم ما كان مؤخرا وكرر الجار لإرادة الإطلاق في كل واحد، واستقلاله فيما قصد منه ليخالف السابق في اتحاد المعنى لأن ذلك في قصة مخصوصة، واستدل الشيخ عبد الغني النابلسي عفا الله تعالى عنه على حل الملاهي بهذه الآية لمكان أفعل التفضيل المقتضي لإثبات أصل الخيرية للهو كالتجارة، وأنت تعلم أن ذلك مبني على الزعم والتوهم، وأعجب منه استدلاله على ذلك بعطف التجارة المباحة على اللهو في صدر الآية، والأعجب الأعجب أنه ألف رسائل في إباحة ذلك مما يستعمله الطائفة المنسوبة إلى مولانا جلال الدين الرومي دائرة على أدلة أضعف من خصر شادن يدور على محور الغنج في مقابلتهم، ومنها أكاذيب لا أصل لها لن يرتضيها عاقل ولن يقبلها، ولا أظن ما يفعلونه إلا شبكة لاصطياد طائر الرزق والجهلة يظنونه مخلصا من ربقة الرق، فإياك أن تميل إلى ذلك وتوكل على الله تعالى المالك وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فإليه سبحانه اسعوا ومنه عز وجل اطلبوا الرزق.
واستدل بما وقع في القصة على أقل العدد المعتبر في جماعة الجمعة بأنه اثنا عشر بناء على ما في أكثر الروايات من أن الباقين بعد الانفضاض كانوا كذلك، ووجه الدلالة منه أن العدد المعتبر في الابتداء يعتبر في الدوام فلما لم تبطل الجمعة بانفضاض الزائد على اثني عشر دل على أن هذا العدد كاف، وفيه أن ذلك وإن كان دالا على صحتها باثني عشر رجلا بلا شبهة لكن ليس فيه دلالة على اشتراط اثني عشر، وأنها لا تصح بأقل من هذا العدد، فإن هذه واقعة عين أكثر ما فيها أنهم انفضوا وبقي اثنا عشر رجلا وتمت بهم الجمعة، وليس فيها أنه لو بقي أقل من هذا العدد لم تتم بهم، وفيما يصنع الإمام إن اتفق تفرق الناس عنه في صلاة الجمعة خلاف: فعند أبي حنيفة إن بقي وحده، أو مع أقل من ثلاثة رجال يستأنف الظهر إذا نفروا عنه قبل الركوع، وعند صاحبيه إذا كبروهم معه مضى فيها، وعند زفر إذا نفروا قبل القعدة بطلت لأن العدد شرط ابتداء فلا بد من دوامه كالوقت، ولهما أنه شرط الانعقاد فلا(14/300)
يشترط دوامه كالخطبة، وللإمام أن الانعقاد بالشروع في الصلاة ولا يتم ذلك إلا بتمام الركعة لأن ما دونها ليس بصلاة فلا بد من دوامه إلى ذلك بخلاف الخطبة لأنها تنافي الصلاة فلا يشترط دوامها.
وقال جمهور الشافعية: إن انفض الأربعون، أو بعضهم في الصلاة ولم يحرم عقب انفضاضهم في الركعة الأولى عدد نحوهم سمع الخطبة بطلت الجمعة فيتمونها ظهرا لنحو ما قال زفر، وفي قول: لا يضر إن بقي اثنان مع الإمام لوجود مسمى الجماعة إذ يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء وتمام ذلك في محله.
وطعن الشيعة لهذه الآية الصحابة رضي الله تعالى عنهم بأنهم آثروا دنياهم على آخرتهم حيث انفضوا إلى اللهو والتجارة ورغبوا عن الصلاة التي هي عماد الدين وأفضل كثير من العبادات لا سيما مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وروي أن ذلك قد وقع مرارا منهم، وفيه أن كبار الصحابة كأبي بكر وعمر وسائر العشرة المبشرة لم ينفضوا، والقصة كانت في أوائل زمن الهجرة، ولم يكن أكثر القوم تام التحلي بحلية آداب الشريعة بعد، وكان قد أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فخاف أولئك المنفضون اشتداد الأمر عليهم بشراء غيرهم ما يقتات به لو لم ينفضوا، ولذا لم يتوعدهم الله تعالى على ذلك بالنار أو نحوها بل قصارى ما فعل سبحانه أنه عاتبهم ووعظهم ونصحهم، ورواية أن ذلك وقع منهم مرارا إن أريد بها رواية البيهقي في شعب الإيمان عن مقاتل بن حيان أنه قال: بلغني- والله تعالى أعلم- أنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات فمثل ذلك لا يلتفت إليه ولا يعلو عند المحدثين عليه، وإن أريد بها غيرها فليبين ولتثبت صحته، وأنى بذلك؟! والجملة الطعن بجميع الصحابة لهذه القصة التي كانت من بعضهم في أوائل أمرهم وقد عقبها منهم عبادات لا تحصى سفه ظاهر وجهل وافر.
هذا «ومن باب الإشارة» على ما قيل في الآيات: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ إشارة إلى عظيم قدرته عز وجل وأن إفاضة العلوم لا تتوقف على الأسباب العادية، ومنه قالوا: إن الولي يجوز أن يكون أميا كالشيخ معروف الكرخي- على ما قال ابن الجوزي- وعنده من العلوم اللدنية ما تقصر عنها العقول، وقال العز بن عبد السلام: قد يكون الإنسان عالما بالله تعالى ذا يقين وليس عنده علم من فروض الكفايات، وقد كان الصحابة أعلم من علماء التابعين بحقائق اليقين ودقائق المعرفة مع أن علماء التابعين من هو أقوم بعلم الفقه من بعض الصحابة، ومن انقطع إلى الله عز وجل وخلصت روحه أفيض على قلبه أنوار إلهية تهيأت بها لإدراك العلوم الربانية والمعارف اللدنية، فالولاية لا تتوقف قطعا على معرفة العلوم الرسمية كالنحو والمعاني والبيان وغير ذلك، ولا على معرفة الفقه مثلا على الوجه المعروف بل على تعلم ما يلزم الشخص من فروض العين على أي وجه كان من قراءة أو سماع من عالم أو نحو ذلك، ولا يتصور ولاية شخص لا يعرف ما يلزمه من الأمور الشرعية كأكثر من تقبل يده في زماننا، وقد رأيت منهم من يقول- وقد بلغ من العمر نحو سبعين سنة- إذا تشهد لا إله أن الله بأن بدل إلا فقلت له: منذ كم تقول هكذا؟ فقال: من صغري إلى اليوم فكررت عليه الكلمة الطيبة فما قالها على الوجه الصحيح إلا بجهد، ولا أظن ثباته على نحو ذلك،
وخبر «لا يتخذ الله وليا جاهلا ولو اتخذه لعلمه»
ليس من كلامه عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك لا يفيد في دعوى ولاية من ذكرنا.
وذكر بعضهم أن قوله تعالى: وَيُزَكِّيهِمْ بعد قوله سبحانه: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ إشارة إلى الإفاضة القلبية بعد الإشارة إلى الإفادة القالية اللسانية، وقال بحصولها للأولياء المرشدين: فيزكون مريديهم بإفاضة الأنوار على قلوبهم حتى تخلص قلوبهم وتزكو نفوسهم، وهو سر ما يقال له التوجه عند السادة النقشبندية، وقالوا: بالرابطة ليتهيأ ببركتها القلب لما يفاض عليه، ولا أعلم لثبوت ذلك دليلا يعول عليه عن الشارع الأعظم صلّى الله تعالى عليه وسلم،(14/301)
ولا عن خلفائة رضي الله تعالى عنهم، وكل ما يذكرونه في هذه المسألة ويعدونه دليلا لا يخلو عن قادح بل أكثر تمسكاتهم فيها تشبه التمسك بحبال القمر، ولولا خوف الإطناب لذكرتها مع ما فيها، ومع هذا لا أنكر بركة كل من الأمرين: التوجه والرابطة، وقد شاهدت ذلك من فضل الله عز وجل، وأيضا لا أدعي الجزم بعدم دليل في نفس الأمر، وفوق كل ذي علم عليم، ولعل أول من أرشد إليهما من السادة وجد فيهما ما يعول عليه، أو يقال: يكفي للعمل بمثل ذلك نحو ما تمسك به بعض أجلة متأخريهم وإن كان للبحث فيه مجال ولأرباب القال في أمره مقال، وفي قوله تعالى: وَآخَرِينَ إلخ بناء على عطفه على الضمير المنصوب قيل: إشارة إلى عدم انقطاع فيضه صلّى الله تعالى عليه وسلم عن أمته إلى يوم القيامة، وقد قالوا بعدم انقطاع فيض الولي أيضا بعد انتقاله من دار الكثافة والفناء إلى دار التجرد والبقاء: وفي قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ إلخ إشارة إلى سوء حال المنكرين مع علمهم، وفي قوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا الآية إشارة الى جواز امتحان مدعي الولاية ليظهر حاله بالامتحان فعند ذلك يكرم أو يهان، وفي عتاب الله تعالى المنفضين إشارة إلى نوع من كيفيات تربية المريد إذا صدر منه نوع خلاف ليسلك الصراط السوي ولا يرتكب الاعتساف، وفي الآيات بعد إشارات يضيق عنها نطاق العبارات، «ومن عمل بما علم أورثه الله عز وجل علم ما لم يعلم» .(14/302)
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
سورة المنافقون
مدنية وعدد آياتها إحدى عشرة آية بلا خلاف، ووجه اتصالها أن سورة الجمعة ذكر فيها المؤمنون، وهذه ذكر فيها أضدادهم وهم المنافقون، ولهذا
أخرج سعيد بن منصور والطبراني في الأوسط بسند حسن عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة فيحرض بها المؤمنين. وفي الثانية بسورة المنافقين فيقرّع بها المنافقين
، وقال أبو حيان في ذلك: إنه لما كان سبب الانفضاض عن سماع الخطبة ربما كان حاصلا عن المنافقين واتبعهم ناس كثير من المؤمنين في ذلك لسرورهم بالعير التي قدمت بالميرة إذ كان الوقت وقت مجاعة ذكر المنافقين وما هم عليه من كراهة أهل الإيمان وأتبع بقبائح أفعالهم وأقوالهم، والأول أولى.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ أي حضروا مجلسك، والمراد بهم عبد الله بن أبيّ وأصحابه قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ التأكيد بأن واللام للازم فائدة الخبر وهو علمهم بهذا الخبر المشهود به فيفيد تأكيد الشهادة، ويدل على ادعائهم فيها المواطأة وإن كانت في نفسها تقع على الحق والزور والتأكيد في قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ لمزيد الاعتناء حقيقة بشأن الخبر، أو ليس إلا ليوافق صنيعهم، وجيء بالجملة اعتراضا لإماطة ما عسى أن يتوهم من قوله عز وجل: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ من رجوع التكذيب إلى نفس الخبر المشهود به من أول الأمر، وذكر الطيبي أن هذا نوع من التتميم لطيف المسلك، ونظيره قول أبي الطيب:
وتحتقر الدنيا احتقار مجرب ... ترى كل ما فيها وحاشاك فانيا
فالتكذيب راجع إلى نَشْهَدُ باعتبار الخبر الضمني الذي دل عليه التأكيد وهو دعوى المواطأة في الشهادة أي والله يشهد إنهم لكاذبون فيما ضمنوه قولهم: نَشْهَدُ من دعوى المواطأة وتوافق اللسان والقلب في هذه(14/303)
الشهادة، وقد يقال: الشهادة خبر خاص وهو ما وافق فيه اللسان القلب، وأما شهادة الزور فتجوز كإطلاق البيع على غير الصحيح فهم كاذبون في قولهم: نَشْهَدُ المتفرع على تسمية قولهم ذلك شهادة، وهو مراد من قال: أي لكاذبون في تسميتهم ذلك شهادة فلا تغفل.
وعلى هذا لا يحتاج في تحقق كذبهم إلى ادعائهم المواطأة ضمنا لأن اللفظ موضوع للمواطىء، وجوز أن يكون التكذيب راجعا إلى قولهم: إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ باعتبار لازم فائدة الخبر وهو بمعنى رجوعه إلى الخبر الضمني، وأن يكون راجعا إليه باعتبار ما عندهم أي لكاذبون في قولهم: إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ عند أنفسهم لأنهم كانوا يعتقدون أنه كذب وخبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه، قيل: وعلى هذا الكذب هو الشرعي اللاحق به الذم ألا ترى أن المجتهدين لا ينسبون إلى الكذب وإن نسبوا إلى الخطأ.
وجوز العلامة الثاني أن يكون التكذيب راجعا إلى حلف المنافقين، وزعموا أنهم لم يقولوا لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا من حوله ولَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقون: 7، 8] لما
ذكر في صحيح البخاري عن زيد بن أرقم أنه قال: كنت في غزاة مع رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فسمعت عبد الله بن أبيّ ابن سلول يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله ولو رجعنا من عنده ليخرجن الأعز منها الأذل فذكرت ذلك لعمي فذكره لنبي الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فدعاني فحدّثته فأرسل رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا أنهم ما قالوا: فكذبني رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصدقه فأصابني هم لم يصبني مثله قط فجلست في البيت فقال لي عمي: ما أردت إلى أن كذبك رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ومقتك فأنزل الله إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ فبعث إليّ النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فقرأ فقال: «إن الله صدقك يا زيد» .
وجوز بعض الأفاضل أن يكون المعنى إن المنافقين شأنهم الكذب وإن صدقوا في هذا الخبر، وأيا ما كان فلا يتم للنظام الاستدلال بالآية على أن صدق الخبر مطابقته لاعتقاد المخبر ولو كان ذلك الاعتقاد خطأ وكذبه عدمها، وإظهار المنافقين في موقع الإضمار لذمهم والإشعار بعلة الحكم والكلام في إِذا على نحو ما مر آنفا.
اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ أي الكاذبة على ما يشير إليه الإضافة جُنَّةً أي وقاية عما يتوجه إليهم من المؤاخذة بالقتل أو السبي أو غير ذلك قال قتادة: كلما ظهر على شيء منهم يوجب مؤاخذتهم حلفوا كاذبين عصمة لأموالهم ودمائهم، وهذا كلام مستقل تعدادا لقبائحهم وأنهم من عادتهم الاستجنان بالأيمان الكاذبة كما استجنوا بالشهادة الكاذبة، ويجوز أن يراد بأيمانهم شهادتهم السابقة، والشهادة وأفعال العلم واليقين أجرتها العرب مجرى القسم وتلقتها بما يتلقى القسم، ويؤكد بها الكلام كما يؤكد به، فلهذا يطلق عليها اليمين، وبهذا استشهد أبو حنيفة على أن أشهد يمين، واعترضه ابن المنير بأن غاية ما في الآية أنه سمي يمينا، والكلام في وجوب الكفارة بذلك لا في إطلاق الاسم، وليس كل ما يسمى يمينا تجب فيه الكفارة، فلو قال: أحلف على كذا لا تجب عليه الكفارة، وإن كان حلفا، والجمع باعتبار تعدد القائلين، والكلام على هذا استئناف يدل على فائدة قولهم ذلك عندهم مع الذم البالغ بما عقبه، وقيل: إن اتَّخَذُوا جواب إِذا وجملة قالُوا السابقة في موضع الحال بتقدير قد أو بدونه وهو خلاف الظاهر، وأبعد منه جعل الجملة حالا وتقدير جواب- لإذا- وقال الضحاك: أي اتخذوا حلفهم بالله إنهم لمنكم جنة عن القتل أو السبي أو نحوهما مما يعامل به الكفار. ومن هنا أخذ الشاعر قوله:
وما انتسبوا إلى الإسلام إلا ... لصون دمائهم أن لا تسالا(14/304)
وعن السدي انهم اتخذوا ذلك جنة من ترك الصلاة عليهم إذا ماتوا، وهو كما ترى وكذا ما قبله.
فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي من أراد الدخول في دين الإسلام أو من أراد فعل طاعة مطلقا على أن الفعل متعد، والمفعول محذوف، أو أعرضوا عن الإسلام حقيقة على أن الفعل لازم، وأيا ما كان فالمراد على ما قيل:
استمرارهم على ذلك، وحمل بعض الأجلة الأيمان على ما يعم ما حكي عنهم من الشهادة، ثم قال: واتخاذها جنة عبارة عن إعدادهم وتهيئتهم لها إلى وقت الحاجة ليحلفوا بها ويتخلصوا عن المؤاخذة لا عن استعمالها بالفعل فإن ذلك متأخر عن المؤاخذة المسبوقة بوقوع الجناية واتخاذ الجنة لا بد أن يكون قبل المؤاخذة، وعن سببها أيضا كما يفصح عنه الفاء في فَصَدُّوا أي من أراد الإسلام أو الإنفاق كما سيحكى عنهم، ولا ريب في أن هذا الصد متقدم على حلفهم، وقرىء- أي قرأ الحسن- «إيمانهم» بكسر الهمزة أي الذي أظهروه على ألسنتهم فاتخاذه جنة عبارة عن استعماله بالفعل فإنه وقاية دون دمائهم وأموالهم، فمعنى قوله تعالى: فَصَدُّوا فاستمروا على ما كانوا عليه من الصدود والاعراض عن سبيله تعالى انتهى، وفيه ما يعرف بالتأمل فتأمل إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من النفاق وما يتبعه، وقد مر الكلام في ساءَ غير مرة ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم من القول الناعي عليهم أنهم أسوأ الناس أعمالا أو إلى ما ذكر من حالهم في النفاق والكذب والاستجنان بالأيمان الفاجرة أو الإيمان الصوري، وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه لما مر مرارا من الاشعار في مثل هذا المقام ببعد منزلته في الشر، وجوز ابن عطية كونه إشارة إلى سوء ما عملوا، فالمعنى ساء عملهم بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم آمَنُوا أي نطقوا بكلمة الشهادة كسائر من يدخل في الإسلام ثُمَّ كَفَرُوا ظهر كفرهم وتبين بما اطلع عليه من قولهم: إن كان ما يقوله محمد حقا فنحن حمير، وقولهم في غزوة تبوك: أيطمع هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى وقيصر هيهات، وغير ذلك، و «ثم» على ظاهرها، أو لاستبعاد ما بين الحالين، أو ثم أسروا الكفر- فثم- للاستبعاد لا غير، أو نطقوا بالإيمان عند المؤمنين، ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم استهزء بالإسلام، وقيل: الآية في أهل الردة منهم.
فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ حتى يموتوا على الكفر فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ حقيقة الإيمان أصلا.
وقرأ زيد بن علي «فطبع» بالبناء للفاعل وهو ضميره تعالى، وجوز أن يكون ضميرا يعود على المصدر المفهوم مما قبل- أي فطبع هو- أي تلعابهم بالدين، وفي رواية أنه قرأ فطبع الله مصرحا بالاسم الجليل، وكذا قرأ الأعمش وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ لصباحتها وتناسب أعضائها وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم وحلاوة كلامهم، وكان ابن أبيّ جسيما فصيحا يحضر مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم في نفر من أمثاله كالجد بن قيس ومتعب بن قشير فكان عليه الصلاة والسلام ومن معه يعجبون من هياكلهم ويسمعون لكلامهم، والخطاب قيل:
لكل من يصلح له وأيد بقراءة عكرمة وعطية العوفي- يسمع- بالياء التحتية والبناء للمفعول، وقيل: لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام، وهذا أبلغ على ما في الكشف لأن أجسامهم إذا أعجبته صلّى الله تعالى عليه وسلم فأولى أن تعجب غيره وكذا السماع لقولهم، وليوافق قوله تعالى: إِذا جاءَكَ والسماع مضمن معنى الإصغاء فليست اللام زائدة، وقوله تعالى: كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ كلام مستأنف لذمهم لا محل له من الإعراب، وجوز أن يكون في حيز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هم كأنهم إلخ والكلام مستأنف أيضا، وأنت تعلم أن الكلام صالح للاستئناف من غير تقدير فلا حاجة إليه، وقيل: هو في حيز النصب على الحال من الضمير المجرور في لِقَوْلِهِمْ أي تسمع لما يقولون مشبهين بخشب مسندة كما في قوله:
فقلت: عسى أن تبصريني كأنما ... بني حواليّ الأسود الحوادر(14/305)
وتعقب بأن الحالية تفيد أن السماع لقولهم لأنهم كالخشب المسندة وليس كذلك، وخُشُبٌ جمع خشبة كثمرة وثمر، والمراد به ما هو المعروف شبهوا في جلوسهم مجالس رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم مستندين فيها وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير بخشب منصوبة مسندة إلى الحائط في كونهم أشباحا خالية عن الفائدة لأن الخشب تكون مسندة إذا لم تكن في بناء أو دعامة بشيء آخر، وجوز أن يراد بالخشب المسندة الأصنام المنحوتة من الخشب المسندة إلى الحيطان شبهوا بها في حسن صورهم وقلة جدواهم، وفي مثلهم قال الشاعر:
لا يخدعنك اللحى ولا الصور ... تسعة أعشار من ترى بقر
تراهم كالسحاب منتشرا ... وليس فيها لطالب مطر
في شجر السر ومنهم شبه ... له رواء وما له ثمر
وقرأ البراء بن عازب والنحويان وابن كثير «خشب» بإسكان الشين تخفيف خشب المضموم، ونظيره بدنة وبدن، وقيل: جمع خشباء كحمر وحمراء، وهي الخشبة التي نخر جوفها شبهوا بها في فساد بواطنهم لنفاقهم، وعن اليزيدي حمل قراءة الجمهور بالضم على ذلك، وتعقب بأن فعلاء لا يجمع على فعل بضمتين، ومنه يعلم ضعف القيل إذ الأصل توافق القراءات.
وقرأ ابن عباس وابن المسيب وابن جبير «خشب» بفتحتين كمدرة ومدر وهو اسم جنس على ما في البحر، ووصفه بالمؤنث كما في قوله تعالى: أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ [الحاقة: 7] يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ أي واقعة عليهم ضارة لهم لجبنهم وهلعهم فكانوا كما قال مقاتل: متى سمعوا بنشدان ضالة أو صياحا بأي وجه كان طارت عقولهم وظنوا ذلك إيقاعا بهم، وقيل: كانوا على وجل من أن ينزل الله عز وجل فيهم ما يهتك أستارهم ويبيح دماءهم وأموالهم ومنه أخذ جرير قوله يخاطب الأخطل:
ما زلت تحسب كل شيء بعدهم ... خيلا تكر عليهم ورجالا
وكذا المتنبي قوله:
وضاقت الأرض حتى ظن هاربهم ... إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
والوقف على عَلَيْهِمْ الواقع مفعولا ثانيا- ليحسبون- وهو وقف تام كما في الكواشي، وعليه كلام الواحدي، وقوله تعالى: هُمُ الْعَدُوُّ استئناف أي هم الكاملون في العداوة والراسخون فيها فإن أعدى الأعادي العدو المداجي الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوي ككثير من أبناء الزمان فَاحْذَرْهُمْ لكونهم أعدى الأعادي ولا تغترن بظاهرهم، وجوز الزمخشري كون عَلَيْهِمْ صلة صَيْحَةٍ وهُمُ الْعَدُوُّ والمفعول الثاني- ليحسبون- كما لو طرح الضمير على معنى أنهم يحسبون الصيحة نفس العدو، وكان الظاهر عليه هو أو هي العدو لكنه أتى بضمير العقلاء المجموع لمراعاة معنى الخبر أعني العدو بناء على أنه يكون جمعا ومفردا وهو هنا جمع، وفيه أنه تخريج متكلف بعيد جدا لا حاجة إليه وإن كان المعنى عليه لا يخلو عن بلاغة ولطف، ومع ذلك لا يساعد عليه ترتب فَاحْذَرْهُمْ لأن التحذير منهم يقتضي وصفهم بالعداوة لا بالجبن قاتَلَهُمُ اللَّهُ أي لعنهم وطردهم فإن القتل قصارى شدائد الدنيا وفظائعها، وكذلك الطرد عن رحمة الله تعالى والبعد عن جنابه الأقدس منتهى عذابه عز وجل وغاية نكاله جل وعلا في الدنيا والآخرة، والكلام دعاء وطلب من ذاته سبحانه أن يلعنهم ويطردهم من رحمته تعالى، وهو من أسلوب التجريد فلا يكون من إقامة الظاهر مقام الضمير لأنه يفوت به نضارة الكلام، أو تعليم للمؤمنين أن(14/306)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
يدعو عليهم بذلك فهو على معنى قولوا: قاتلهم الله، وجوز أن لا يكونوا من الطلب في شيء بأن يكون المراد أن وقوع اللعن بهم مقرر لا بد منه، وذكر بعضهم أن قاتله الله كلمة ذم وتوبيخ، وتستعملها العرب في موضع التعجب من غير قصد إلى لعن، والمشهور تعقيبها بالتعجب نحو قاتله الله ما أشعره، وكذا قوله سبحانه هنا: قاتَلَهُمُ اللَّهُ.
أَنَّى يُؤْفَكُونَ وهذا تعجيب من حالهم، أي كيف يصرفون عن الحق إلى ما هم عليه من الكفر والضلال؟
فأنى ظرف متضمن للاستفهام معمول لما بعده، وجوز ابن عطية كونه ظرفا- لقاتلهم- وليس هناك استفهام، وتعقبة أبو حيان بأن أَنَّى لا تكون لمجرد الظرفية أصلا، فالقول بذلك باطل.
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ أي عطفوها وهو كناية عن التكبر والإعراض على ما قيل وقيل: هو على حقيقته أي حركوها استهزاء، وأخرجه ابن المنذر عن ابن جريج وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ يعرضون عن القائل أو عن الاستغفار وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ عن ذلك.
روي أنه لما صدق الله تعالى زيد بن أرقم فيما أخبر به عن ابن أبيّ مقت الناس ابن أبيّ ولامه المؤمنون من قومه، وقال بعضهم له: امض إلى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم واعترف بذنبك يستغفر لك فلوى رأسه إنكارا لهذا الرأي، وقال لهم: لقد أشرتم علي بالإيمان فآمنت، وأشرتم علي بأن أعطي زكاة مالي ففعلت، ولم يبق لكم إلا أن تأمروني بالسجود لمحمد صلّى الله تعالى عليه وسلم، وفي حديث أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن جبير أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قال له: «تب» فجعل يلوي رأسه فأنزل الله تعالى وَإِذا قِيلَ لَهُمْ إلخ، وفي حديث أخرجه الإمام أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وغيرهم عن زيد بعد نقل القصة إلى أن قال: حتى أنزل الله تعالى تصديقي في إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ ما نصه فدعاهم رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ليستغفر لهم فلووا رؤوسهم، فجمع الضمائر: إما على ظاهره، وإما من باب بنو تميم قتلوا فلانا، وإذا على ما مر، ويَسْتَغْفِرْ مجزوم في جواب الأمر، ورَسُولُ اللَّهِ فاعل له، والكلام على ما في البحر من باب الأعمال لأن رَسُولُ اللَّهِ يطلبه عاملان: يَسْتَغْفِرْ وتَعالَوْا فأعمل الثاني على المختار عند أهل البصرة ولو أعمل الأول لكان التركيب تعالوا يستغفر لكم إلى رسول الله، وجملة يَصُدُّونَ في موضع الحال، وأتت بالمضارع ليدل على الاستمرار التجددي، ومثلها في الحالية جملة هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ وقرأ مجاهد ونافع وأهل المدينة وأبو حيوة وابن أبي عبلة(14/307)
والمفضل وأبان عن عاصم والحسن ويعقوب- بخلاف عنهما- «لووا» بتخفيف الواو، والتشديد في قراءة باقي السبعة للتكثير، ولما نعى سبحانه عليهم إباءهم عن الإتيان ليستغفر لهم رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وإعراضهم واستكبارهم أشار عز وجل إلى عدم فائدة الاستغفار لهم لما علم سبحانه من سوء استعدادهم واختيارهم بقوله تعالى:
سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ فهو للتسوية بين الأمرين الاستغفار لهم وعدمه، والمراد الاخبار بعدم الفائدة كما يفصح عنه قوله عز وجل شأنه: لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ وتعليله بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أي الكاملين في الفسق الخارجين عن دائرة الاستصلاح المنهمكين لسوء استعدادهم بأنواع القبائح، فإن المغفرة فرع الهداية، والمراد بهؤلاء القوم إما المحدث عنهم بأعيانهم. والإظهار في مقام الإضمار لبيان غلوهم في الفسق والإشارة إلى علة الحكم أو الجنس وهم داخلون دخولا أوليا، والآية في ابن أبي كسوابقها- كما سمعت- ولواحقها- كما صح- وستسمعه قريبا إن شاء الله تعالى، والاستغفار لهم قيل: على تقدير مجيئهم تائبين معتذرين من جناياتهم، وكان ذلك قد اعتبر في جانب الأمر الذي جزم في جوابه الفعل وإلا فمجرد الإتيان لا يظهر كونه سببا للاستغفار، ويومىء إليه قوله صلّى الله تعالى عليه وسلم في خبر ابن جبير لابن أبيّ: «تب» وترك الاستغفار على تقدير الإصرار على القبائح والاستكبار وترك الاعتذار وحيث لم يكن منهم توبة لم يكن منه عليه الصلاة والسلام استغفار لهم.
وحكى مكي أنه صلّى الله عليه وسلم استغفر لهم لأنهم أظهروا له الإسلام أي بعد ما صدر منهم ما صدر بالتوبة،
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: لما نزلت آية براءة اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ [التوبة: 80] إلخ قال النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم: «أسمع ربي قد رخص لي فيهم فو الله لأستغفرن لهم أكثر من سبعين مرة لعل الله أن يغفر لهم، فنزلت هذه الآية سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ»
إلخ.
وأخرج أيضا عن عروة نحوه وإذا صح هذا لم يتأت القول بأن براءة بأسرها آخر ما نزل ولا ضرورة تدعو لالتزامه إلا إن صح نقل غير قابل للتأويل، ولعل هذه الآية إشارة منه تعالى لنبيه صلّى الله تعالى عليه وسلم إلى أن المراد بالعدد هناك التكثير دون التحديد ليكون حكم الزائد مخالفا لحكم المذكور فيكون المراد بالآيتين عند الله تعالى واحدا وهو عدم المغفرة لهم مطلقا، والآية الأولى- فيما اختار- نزلت في اللامزين كما سمعت هناك عن ابن عباس وهو الأوفق بالسياق، وهذه نزلت في ابن أبي وأصحابه كما نطقت به الأخبار الصحيحة ويجمع الطائفتين النفاق، ولذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم ما قال مع اختلاف أعيان الذين نزلتا فيهم، ثم إني لم أقف في شيء مما أعول عليه على أن ابن أبي كان مريضا إذ ذاك، ورأيت في خبر أخرجه عبد بن حميد عن ابن سيرين ما يشعر بأنه بعد قوله: والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل بأيام قلائل اشتكى واشتد وجعه، وفيه أنه قال للنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وقد ذهب إليه بشفاعة ولده: حاجتي إذا أنا مت أن تشهد غسلي وتكفنني في ثلاثة أثواب من أثوابك وتمشي مع جنازتي وتصلي علي ففعل صلّى الله تعالى عليه وسلم فنزلت الآية وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ [التوبة: 84] ولا يشكل الاستغفار إن كان قد وقع لأحد من المنافقين بعد نزول ما يفيد كونه تعالى لا يهدي القوم الفاسقين إذ لا يتعين اندراج كل منهم إلا بتبين أنه بخصوصه من أصحاب الجحيم كأن يموت على ما هو عليه من الكفر والنفاق، وهذا الذي ذكرته هنا هو الذي ظهر لي بعد كتابة ما كتبت في آية براءة، والمقام بعد محتاج إلى تحقيق فراجع وتأمل والله تعالى ولي التوفيق.
وقرأ أبو جعفر- استغفرت- مدة على الهمزة فقيل: هي عوض من همزة الوصل، وهي مثل المدة في قوله(14/308)
تعالى: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ [الأنعام: 143، 144] لكن هذه المدة في الاسم لئلا يلتبس الاستفهام بالخبر ولا يحتاج ذلك في الفعل لأن همزة الوصل فيه مكسورة، وعنه أيضا ضم ميم «عليهم» إذ أصلها الضم ووصل الهمزة وروى معاذ بن معاذ العنبري عن أبي عمرو كسر الميم على أصل التقاء الساكنين، ووصل الهمزة فتسقط في القراءتين واللفظ خبر والمعنى على الاستفهام، وجاء حذف الهمزة ثقة بدلالة أَمْ عليها كما في قوله:
بسبع رمين الجمر أم بثمان وقال الزمخشري: قرأ أبو جعفر «آستغفرت» إشباعا لهمزة الاستفهام للإظهار والبيان لا قلبا لهمزة الوصل ألفا كما في «السحر» و «الله» وقال أبو جعفر بن القعقاع: بمدة على الهمزة وهي ألف التسوية.
وقرأ أيضا بوصل الألف دون همزة على الخبر، وفي ذلك ضعف لأنه في الأولى أثبت همزة الوصل وقد أغنت عنها همزة الاستفهام، وفي الثانية حذف همزة الاستفهام وهو يريدها، وهذا مما لا يستعمل إلا في الشعر وقوله تعالى:
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا استئناف مبين لبعض ما يدل على فسقهم، وجوز أن يكون جاريا مجرى التعليل لعدم مغفرته تعالى لهم وليس بشيء لأن ذاك معلل بما قبل، والقائل رأس المنافقين ابن أبي وسائرهم راضون بذلك،
أخرج الترمذي وصححه وجماعة عن زيد بن أرقم قال: غزونا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم وكان معنا ناس من الأعراب فكنا نبتدر الماء وكان الأعراب يسبقونا إليه فيسبق الأعرابي أصحابه فيملأ الحوض ويجعل حوضه حجارة ويجعل النطع عليه حتى يجيء أصحابه فأتى رجل من الأنصار أعرابيا فأرخى زمام ناقته لتشرب فأبى أن يدعه فانتزع حجرا ففاض فرفع الأعرابي خشبة فضرب رأس الأنصاري فشجه فأتى عبد الله بن أبي رأس المنافقين فأخبره وكان من أصحابه فغضب، وقال: لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا من حوله يعني الأعراب، ثم قال لأصحابه: إذا رجعتم إلى المدينة فليخرج الأعز منها الأذل، قال زيد: وأنا ردف عمي فسمعت عبد الله فأخبرت عمي فأخبر رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فأرسل إليه رسول الله عليه الصلاة والسلام فحلف وجحد وصدقه صلّى الله تعالى عليه وسلم وكذبني فجاء عمي إلي فقال: ما أردت إلى أن مقتك وكذبك المسلمون فوقع علي من الهم ما لم يقع على أحد قط فبينا أنا أسير وقد خفضت رأسي من الهم إذ أتاني رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فعرك أذني وضحك في وجهي ثم إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لحقني فقال: ما قال لك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؟ قلت: ما قال لي شيئا إلا أنه عرك أذني وضحك في وجهي فقال: أبشر فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ حتى بلغ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ
وقد تقدم عن البخاري ما يدل على أنه قائل ذلك أيضا.
وأخرج الإمام أحمد ومسلم والنسائي نحو ذلك، والأخبار فيه أكثر من أن تحصى وتلك الغزاة التي أشار إليها زيد قال سفيان: يرون أنها غزاة بني المصطلق، وفي الكشاف خبر طويل في القصة يفهم منه أنهم عنوا بمن عند رسول الله فقراء المهاجرين، والظاهر أن التعبير- برسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم- أي بهذا اللفظ وقع منهم ولا يأباه كفرهم لأنهم منافقون مقرّون برسالته عليه الصلاة والسلام ظاهرا.
وجوز أن يكونوا قالوه تهكما أو لغلبته عليه صلّى الله تعالى عليه وسلم حتى صار كالعلم لم يقصد منه إلا الذات، ويحتمل أنهم عبروا بغير هذه العبارة فغيرها الله عز وجل إجلالا لنبيه عليه الصلاة والسلام وإكراما، والانفضاض التفرق، وحَتَّى للتعليل أي لا تنفقوا عليهم كي يتفرقوا عنه عليه الصلاة والسلام ولا يصحبوه.
وقرأ الفضل بن عيسى الرقاشي «ينفضّوا» من أنفض القوم فني طعامهم فنفض الرجل وعاءه، والفعل مما يتعدى(14/309)
بغير الهمزة وبالهمزة لا يتعدى، قال في الكشاف: وحقيقته حان لهم أن ينفضوا مزاودهم، وقوله تعالى: وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ردّ وإبطال لما زعموا من أن عدم إنفاقهم على من عند رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يؤدي إلى انفضاضهم عنه عليه الصلاة والسلام ببيان أن خزائن الأرزاق بيد الله تعالى خاصة يعطي منها من يشاء ويمنع من يشاء وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ ذلك لجهلهم بالله تعالى وبشؤونه عز وجل، ولذلك يقولون من مقالات الكفرة ما يقولون.
يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ قائله كما سمعت ابن أبي، وعنى بالأعز نفسه أو ومن يلوذ به، وبالأذل من أعزه الله عز وجل وهو الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم أو هو عليه الصلاة والسلام والمؤمنون، وإسناد المذكور إلى جميعهم لرضائهم به كما في سابقه.
وقرأ الحسن وابن أبي عبلة والسبتي في اختياره «لنخرجن» بالنون، ونصب «الأعزّ» و «الأذلّ» على أن «الأعزّ» مفعول به، و «الأذلّ» إما حال بناء على جواز تعريف الحال، أو زيادة أل فيه نحو أرسلها العراك، وأدخلوا الأول فالأول وهو المشهور في تخريج ذلك، أو حال بتقدير مثل وهو لا يتعرف بالإضافة أي مثل الأذل، أو مفعول به لحال محذوفة أي مشبها الأذل، أو مفعول المطلق على أن الأصل إخراج الأذل فحذف المصدر المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فانتصب انتصابه.
وحكى الكسائي والفراء أن قوما قرؤوا «ليخرجنّ» بالياء مفتوحة وضم الراء. ورفع «الأعزّ» على الفاعلية. ونصب «الأذلّ» على ما تقدم، بيد أنك تقدر على تقدير النصب على المصدرية خروج، وقرىء «ليخرجنّ» بالياء مبنيا للمفعول، ورفع «الأعزّ» على النيابة عن الفاعل، ونصب «الأذلّ» على ما مر.
وقرأ الحسن فيما ذكر أبو عمرو الداني «لنخرجنّ» بنون الجماعة مفتوحة وضم الراء، ونصب «الأعزّ» و «الأذلّ» ، وحكى هذه القراءة أبو حاتم، وخرجت على أن نصب «الأعزّ» على الاختصاص كما في قولهم: نحن العرب أقرى الناس للضيف، ونصب «الأذلّ» على أحد الأوجه المارة فيما حكاه الكسائي والفراء، والمقصود إظهار التضجر من المؤمنين وأنهم لا يمكنهم أن يساكنوهم في دار كذا قيل: وهو كما ترى، ولعل هذه القراءة غير ثابتة عن الحسن، وقوله تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ رد لما زعموه ضمنا من عزتهم وذل من نسبوا إليه الذل، وحاشاه منه أي ولله تعالى الغلبة والقوة ولمن أعزه الله تعالى من رسوله صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين لا للغير، ويعلم مما أشرنا إليه توجيه الحصر المستفاد من تقديم الخبر، وقيل: إن العطف معتبر قبل نسبة الإسناد فلا ينافي ذلك ولا يضر إعادة الجار لأنها ليست لإفادة الاستقلال في النسبة بل لإفادة تفاوت ثبوت العزة فإن ثبوتها لله تعالى ذاتي وللرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم بواسطة الرسالة وللمؤمنين بواسطة الايمان، وجاء من عدة طرق أن عبد الله بن عبد الله بن أبيّ- وكان مخلصا- سل سيفه على أبيه عند ما أشرفوا على المدينة فقال: ولله علىّ أن لا أغمده حتى تقول: محمد الأعز وأنا الأذل فلم يبرح حتى قال ذلك، وفي رواية أنه رضي الله تعالى عنه وقف والناس يدخلون حتى جاء أبوه فقال: وراءك، قال: مالك ويلك؟ قال: والله لا تدخلها أبدا إلا أن يأذن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ولتعلمن اليوم الأعز من الأذل فرجع حتى لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلم فشكا إليه ما صنع ابنه فأرسل إليه النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم أن خل عنه يدخل ففعل
وصح من رواية الشيخين والترمذي وغيرهم عن جابر بن عبد الله أنه لما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما قال ابن أبي قام عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم: «دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه»
وفي رواية عن قتادة أنه قال له عليه الصلاة والسلام: يا نبي الله مر معاذا أن(14/310)
يضرب عنق هذا المنافق، فقال صلّى الله تعالى عليه وسلم ذلك
، وفي الآية من الدلالة على شرف المؤمنين ما فيها، ومن هنا قالت بعض الصالحات وكانت في هيئة رثة: ألست على الإسلام وهو العز الذي لا ذل معه والغنى الذي لا فقر معه.
وعن الحسن بن علي على رسول الله وعليهما الصلاة والسلام أن رجلا قال له: إن الناس يزعمون أن فيك تيها قال: ليس بتيه ولكنه عزة وتلا هذه الآية، وأريد بالتيه الكبر
، وأشار العز إلى أن العزة غير الكبر، وقد نص على ذلك أبو حفص السهروردي قدس سره فقال: العزة غير الكبر لأن العزة معرفة الإنسان بحقيقة نفسه وإكرامها أن لا يضعها لأقسام عاجلة كما أن الكبر جهل الإنسان بنفسه وإنزالها فوق منزلتها فالعزة ضد الذلة كما أن الكبر ضد التواضع، وفسر الراغب العزة بحالة مانعة للإنسان من أن يغلب من قولهم: أرض عزاز أي صلبة وتعزز اللحم اشتد كأنه حصل في عزاز يصعب الوصول إليه، وقد تستعار للحمية والأنفة المذمومة وهي بهذا المعنى تثبت للكفرة، وتفسيرها بالقوة والغلبة كما سمعت شائع ولك أن تريد بها هنا الحالة المانعة من المغلوبية فإنها أيضا ثابتة لله تعالى ولرسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم وللمؤمنين على الوجه اللائق بكل.
وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ من فرط جهلهم وغرورهم فيهذون ما يهذون والفعل هنا منزل منزلة اللازم فلذا لم يقدر له مفعول ولا كذلك الفعل فيما تقدم، وهو ما اختاره غير واحد من الأجلة، وقيل في وجهه: إن كون العزة لله عز وجل مستلزم لكون الأرزاق بيده دون العكس فناسب أن يعتبر الأخلاق في الجملة المذيلة لما يفيد كون العزة له سبحانه قصدا للمبالغة والتقييد للجملة المذيلة لما يفيد كون الأرزاق بيده تعالى، ثم قيل: خص الجملة الأولى ب لا يَفْقَهُونَ والثانية ب لا يَعْلَمُونَ لأن إثبات الفقه للإنسان أبلغ من إثبات العلم له فيكون نفي العلم أبلغ من نفي الفقه فأوتر ما هو أبلغ لما هو أدعى له.
وعن الراغب معنى قوله تعالى: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا إلخ أنهم يأمرون بالإضرار بالمؤمنين وحبس النفقات عنهم ولا يفطنون أنهم إذا فعلوا ذلك أضروا بأنفسهم فهم لا يفقهون ذلك ولا يفطنون له، ومعنى الثاني إيعادهم بإخراج الأعز للأذل، وعندهم أن الأعز من له القوة والغلبة على ما كانوا عليه في الجاهلية فهم لا يعلمون أن هذه القدرة التي يفضل بها الإنسان غيره إنما هي من الله تعالى فهي له سبحانه ولمن يخصه بها من عباده، ولا يعلمون أن الذل لمن يقدرون فيه العزة وأن الله تعالى معزّ أوليائه بطاعتهم له ومذل أعدائه بمخالفتهم أمره عز وجل، فقد اختص كل آية بما اقتضاه معناها فتدبر، والإظهار في مقام الإضمار لزيادة الذم مع الاشارة إلى علة الحكم في الموضعين.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ أي لا يشغلكم الاهتمام بتدبير أمورها والاعتناء بمصالحها والتمتع بها عن الاشتغال بذكر الله عز وجل من الصلاة وسائر العبادات المذكرة للمعبود الحق جل شأنه فذكر الله تعالى مجاز عن مطلق العبادة كما يقتضيه كلام الحسن وجماعة، والعلاقة السببية لأن العبادة سبب لذكره سبحانه وهو المقصود في الحقيقة منها.
وفي رواية عن الحسن أن المراد به جميع الفرائض، وقال الضحاك وعطاء: الذكر هنا الصلاة المكتوبة، وقال الكلبي: الجهاد مع الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم، وقيل: القرآن، والعموم أولى، ويفهم كلام الكشاف أن المراد بالأموال والأولاد الدنيا، وعبر بهما عنها لكونهما أرغب الأشياء منها قال الله تعالى: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا
[الكهف: 46] فإذا أريد بذكر الله العموم يؤول المعنى إلى لا تشغلنكم الدنيا عن الدين والمراد بنهي الأموال وما بعدها نهي المخاطبين وإنما وجه إليها للمبالغة لأنها لقوة تسببها للهو وشدة مدخليتها فيه جعلت كأنها لاهية، وقد(14/311)
نهيت عن اللهو فالأصل لا تلهوا بأموالكم إلخ، فالتجوز في الإسناد، وقيل: إنه تجوز بالسبب عن المسبب كقوله تعالى: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ [الأعراف: 2] أي لا تكونوا بحيث تلهيكم أموالكم إلخ.
وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي اللهو بها وهو الشغل، وهذا أبلغ مما لو قيل: ومن تلهه تلك فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ حيث باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني، وفي التعريف بالإشارة والحصر للخسران فيهم، وفي تكرير الإسناد وتوسيط ضمير الفصل ما لا يخفى من المبالغة، وكأنه لما نهي المنافقون عن الانفاق على من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأريد الحث على الانفاق جعل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ تمهيدا وتوطئة للأمر بالإنفاق لكن على وجه العموم في قوله سبحانه: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ أي بعض ما أعطيناكم وتفضلنا به عليكم من الأموال ادخارا للآخرة مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي أماراته ومقدماته، فالكلام على تقدير مضاف، ولذا فرع على ذلك قوله تعالى: فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي أي أمهلتني إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أي أمد قصير فَأَصَّدَّقَ أي فأتصدق، وبذلك قرأ أبي وعبد الله وابن جبير، ونصب الفعل في جواب التمني والجزم في قوله سبحانه: وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ بالعطف على موضع فَأَصَّدَّقَ كأنه قيل: إن أخرتني أصدّق وأكن، وإلى هذا ذهب أبو علي الفارسي. والزجاج، وحكى سيبويه عن الخليل أنه على توهم الشرط الذي يدل عليه التمني لأن الشرط غير ظاهر ولا يقدر حتى يعتبر العطف على الموضع كما في قوله تعالى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ [الأعراف: 186] ويذرهم فيمن قرأ بالجزم وهو حسن بيد أن التعبير بالتوهم هنا ينشأ منه توهم قبيح، والفرق بين العطف على الموضع والعطف على التوهم أن العامل في العطف على الموضع موجود وأثره مفقود، والعامل في العطف على التوهم مفقود وأثره موجود، واستظهر أن الخلاف لفظي فمراد أبي علي والزجاج العطف على الموضع المتوهم أي المقدر إذ لا موضع هنا في التحقيق لكنهما فرا من قبح التعبير.
وقرأ الحسن وابن جبير وأبو رجاء وابن أبي إسحاق ومالك بن دينار والأعمش وابن محيصن وعبد الله بن الحسن العنبري. وأبو عمرو «وأكون» بالنصب وهو ظاهر، وقرأ عبد بن عمير «وأكون» بالرفع على الاستئناف والنحويون وأهل المعاني قدروا المبتدأ في أمثال ذلك من أفعال المستأنفة، فيقال هنا: أي وأنا أكون ولا تراهم يهملون ذلك، ووجه بأن ذلك لأن الفعل لا يصلح للاستئناف مع الواو الاستئنافية كما هنا ولا بدونها، وتعقب بأنه لم يذهب إلى عدم صلاحيته لذلك أحد من النحاة وكأنه لهذا صرح العلامة التفتازاني بأن التزام التقدير مما لم يظهر له وجهه، وقيل: وجهه أن الاستئناف بالاسمية أظهر وهو كما ترى، وجوز كون الفعل على هذه القراءة مرفوعا بالعطف على- أصدّق- على نحو القولين السابقين في الجزم، هذا وعن الضحاك أنه قال في قوله تعالى: أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ يعني الزكاة والنفقة في الحج، وعليه قول ابن عباس فيما أخرج عنه ابن المنذر: فَأَصَّدَّقَ أزكي وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ أحج،
وأخرج الترمذي وابن جرير والطبراني وغيرهم عنه أيضا أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من كان له مال يبلغه حج بيت ربه أو تجب عليه فيه الزكاة فلم يفعل سأل الرجعة عند الموت»
فقال له رجل: يا ابن عباس اتق الله تعالى فإنما يسأل الرجعة الكفار فقال: سأتلو عليكم بذلك قرآنا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ إلى آخر السورة كذا في الدر المنثور.
وفي أحكام القرآن رواية الترمذي عنه ذلك موقوفا عليه، وحكي عنه في البحر وغيره أنه قال: إن الآية نزلت في مانع الزكاة، وو الله لو رأى خيرا لما سأل الرجعة، فقيل له: أما تتقي الله تعالى يسأل المؤمنون الكرة؟! فأجاب بنحو ما ذكر، ولا يخفى أن الاعتراض عليه وكذا الجواب أوفق بكونه نفسه ادّعى سؤال الرجعة ولم يرفع الحديث بذلك، وإذا(14/312)
كان قوله تعالى: لَوْلا أَخَّرْتَنِي إلخ سؤالا للرجعة بمعنى الرجوع إلى الدنيا بعد الموت لم يحتج قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إلى تقدير مضاف كما سمعت آنفا.
وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً أي ولن يمهلها إِذا جاءَ أَجَلُها أي آخر عمرها أو انتهى الزمان الممتد لها من أول العمر إلى آخره على تفسير الأجل به وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ فمجاز عليه، وقرأ أبو بكر بالياء آخر الحروف ليوافق ما قبله في الغيبة ونفسا لكونها نكرة في سياق النفي في معنى الجمع، واستدل الكيا بقوله تعالى: وَأَنْفِقُوا إلخ على وجوب إخراج الزكاة على الفور ومنع تأخيرها، ونسب للزمخشري أنه قال: ليس في الزجر عن التفريط في هذه الحقوق أعظم من ذلك فلا أحد يؤخر ذلك إلا ويجوز أن يأتيه الموت عن قريب فيلزمه التحرز الشديد عن هذا التفريط في كل وقت، وقد أبطل الله تعالى قول المجبرة من جهات: منها قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا، ومنها أنه كان قبل حضور الموت لم يقدر على الاتفاق فكيف يتمنى تأخير الأجل، ومنها قوله تعالى مؤيسا له في الجواب: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ ولولا أنه مختار لأجيب باستواء التأخير والموت حين التمني، وأجيب بأن أهل الحق لا يقولون بالجبر فالبحث ساقط عنهم على أنه لا دلالة في الأول كما في سائر الأوامر كما حقق في موضعه، والتمني- وهو متمسك الفريق- لا يصح الاستدلال به، والقول المؤيس إبطال لتمنيهم لا جواب عنه إذ لا استحقاق لوضوح البطلان، والله تعالى أعلم.(14/313)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)
سورة التغابن
مدنية في قول الأكثرين، وعن ابن عباس وعطاء بن يسار أنها مكية إلا آيات من آخرها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ [التغابن: 14] إلخ، وعدد آيها تسع عشرة آية بلا خلاف، ومناسبتها لما قبلها أنه سبحانه ذكر هناك حال المنافقين وخاطب بعد المؤمنين، وذكر جل وعلا هنا تقسيم الناس إلى مؤمن وكافر، وأيضا في آخر تلك لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ [المنافقون: 9] وفي هذه نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
[التغابن: 15] وهذه الجملة على ما قيل: كالتعليل لتلك، وأيضا في ذكر التغابن نوع حث على الإنفاق قبل الموت المأمور به فيما قبل، واستنبط بعضهم عمر النبي صلّى الله عليه وسلم ثلاثا وستين من قوله تعالى في تلك السورة: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها [المنافقون: 10] فإنها رأس ثلاث وستين سورة، وعقبها سبحانه بالتغابن ليظهر التغابن في فقده عليه الصلاة والسلام.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي ينزهه سبحانه وتعالى جميع(14/314)
المخلوقات عما لا يليق بجناب كبريائه سبحانه تسبيحا مستمرا، وذلك بدلالتها على كماله عز وجل واستغنائه تعالى، والتجدد باعتبار تجدد النظر في وجوه الدلالة على ذلك لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ لا لغيره تعالى إذ هو جل شأنه المبدئ لكل شيء وهو القائم به والمهيمن عليه وهو عز وجل المولى لأصول النعم وفروعها وأما ملك غيره سبحانه فاسترعاء منه تعالى وتسليط، وأما حمد غيره تبارك وتعالى فلجريان إنعامه تعالى على يده فكلا الأمرين له تعالى في الحقيقة ولغيره بحسب الصورة، وتقديم لَهُ الْمُلْكُ لأنه كالدليل لما بعده وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لأن نسبة ذاته جل شأنه المقتضية للقدرة إلى الكل سواء فلا يتصور كون بعض مقدورا دون بعض، وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ إلخ بيان لبعض قدرته تعالى العامة، والمراد هو الذي أوجدكم كما شاء وقوله تعالى: فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ أي فبعضكم كافر به تعالى وبعضكم مؤمن به عز وجل، أو فبعض منكم كافر به سبحانه وبعض منكم مؤمن به تعالى تفصيل لما في خَلَقَكُمْ من الإجمال لأن كون بعضهم أو بعض منهم كافرا، وكون بعضهم أو بعض منهم مؤمنا مراد منه فالفاء مثلها في قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ [النور: 45] إلخ فيكون الكفر والإيمان في ضمن الخلق وهو الذي تؤيده الاخبار الصحيحة
كخبر البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود عن ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق- «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات: يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح الحديث»
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا مكث المني في الرحم أربعين ليلة أتاه ملك النفوس فعرج به إلى الرب فيقول: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي الله ما هو قاض فيقول: أشقي أم سعيد؟ فيكتب ما هو لاق» .
وقرأ أبو ذر من فاتحة التغابن خمس آيات إلى قوله تعالى: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ والجمع بين الخبرين مما لا يخفى على من أوتي نصيبا من العلم، وتقديم الكفر لأنه الأغلب.
واختار بعضهم كون المعنى هو الذي خلقكم خلقا بديعا حاويا لجميع مبادئ الكمالات العلمية والعملية، ومع ذلك فمنكم مختار للكفر كاسب له على خلاف ما تستدعيه خلقته، ومنكم مختار للإيمان كاسب له حسبما تقتضيه خلقته، وكان الواجب عليكم جميعا أن تكونوا مختارين للإيمان شاكرين لنعمة الخلق والإيجاد وما يتفرع عليهما من سائر النعم، فما فعلتم ذلك مع تمام تمكنكم منه بل تشعبتم شعبا وتفرقتم فرقا، وهو الذي ذهب إليه الزمخشري، بيد أنه فسر الكافر بالآتي بالكفر والفاعل له والمؤمن بالآتي بالإيمان والفاعل له لأنه الأوفق بمذهبه من أن العبد خالق لأفعاله، وأن الآية لبيان إخلالهم بما يقتضيه التفضل عليهم بأصل النعم الذي هو الخلق والإيجاد من النعم، وأن الآيات بعد في معنى الوعيد على الكفر وإنكار أن يعصى الخالق ولا تشكر نعمته. ثم قال: فما أجهل من يمزج الكفر بالخلق ويجعله من جملته، والخلق أعظم نعمة من الله تعالى على عباده، والكفر أعظم كفران من العباد لربهم سبحانه، وجعل الطيبي الفاء على هذا للترتيب والفرض على سبيل الاستعارة كاللام في قوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص: 8] وهي كالفاء في قوله تعالى: وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ [الحديد: 26] ولم يجعلها للتفصيل كما قيل.
واختار في الآية المعنى السابق مؤيدا له بالأحاديث الصحيحة، وبأن السياق عليه مدعيا أن الآيات كلها واردة لبيان عظمة الله تعالى في ملكه وملكوته واستبداده فيهما، وفي شمول علمه تعالى كلها وفي إنشائه تعالى المكونات(14/315)
ذواتها وأعراضها، ووافقه في اختيار ذلك تلميذه المدقق صاحب الكشف، واعترض قول الزمخشري: فما أجهل إلخ بقوله فيه ما مر مرارا كأنه يعني مخالفة النصوص في عدم كون الكفر مخلوقا كغيره على أن خلق الكفر أيضا من النعم العظام فلولا خلقه وتبيين ما فيه من المضار ما ظهر مقدار الإنعام بالإيمان وما فيه من المنافع، ثم إن كونه كفرا باعتبار قيامه بالعبد ومنه جاء القبح لا باعتبار كونه خلقه تعالى على ما حقق في موضعه، ثم قال: ومنه يظهر أن كلفه في قوله تعالى: فَمِنْكُمْ إلخ ليخرجه عن تفصيل المجمل في خَلَقَكُمْ تحريف لكتاب الله تعالى انتهى.
ويرجح التفصيل عندي في الجملة قوله تعالى: كافِرٌ ومُؤْمِنٌ دون من يكفر ومن يؤمن، نعم عدم دخول الكفر والإيمان في الخلق أوفق بقوله تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [الروم: 30]
وقوله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة»
والإنصاف أن الآية تحتمل كلّا من المعنيين: المعنى الذي ذكر أولا.
والمعنى الذي اختاره البعض، والسياق يحتمل أن يحمل على ما يناسب كلا وليس نصا في أحد الأمرين اللذين سمعتهما حتى قيل: إن الآيات واردة لبيان ما يتوقف عليه الوعد والوعيد بعد من القدرة التامة والعلم المحيط بالنشأتين، وقوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي فيجازيكم بما يناسب ذلك لا ينافي خلق الكفر والإيمان لأنهما مكسوبان للعبد، وخلق الله تعالى إياهما لا ينافي كونهما مكسوبين للعبد كما بين في الكلام على قوله تعالى:
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [الصافات: 96] لكن أكثر الأحاديث تؤيد المعنى الأول، وكأني بل تختار الثاني لأن كون المقام للتوبيخ على الكفر أظهر وهو أوفق به، وعن عطاء بن أبي رباح فَمِنْكُمْ كافِرٌ أي بالله تعالى مؤمن بالكوكب وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ بالله تعالى كافر بالكوكب، وقيل: فَمِنْكُمْ كافِرٌ بالخلق وهم الدهرية وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ به، وعن الحسن أن في الكلام حذفا والتقدير ومنكم فاسق، ولا أراه يصح، وكأنه من كذب المعتزلة عليه، والجملة- على ما استظهر بعض الأفاضل- معطوفة على الصلة، ولا يضره عدم العائد لأن المعطوف بالفاء يكفيه (1) وجود العائد في إحدى الجملتين كما قرروه في نحو الذي يطير فيغضب زيد الذباب، أو يقال: فيها رابط بالتأويل أي منكم من قدر كفره ومنكم من قدر إيمانه، أو فَمِنْكُمْ كافِرٌ به وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ به، ويقدر الحذف تدريجا، وجوز أن يكون العطف على جملة هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ.
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ بالحكمة البالغة المتضمنة للمصالح الدينية والدنيوية، قيل: وأصل الحق مقابل الباطل فأريد به الغرض الصحيح الواقع على أتم الوجوه وهو الحكمة العظيمة.
وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ حيث برأكم سبحانه في أحسن تقويم وأودع فيكم من القوى والمشاعر الظاهرة والباطنة ما نيط بها جميع الكمالات البارزة والكامنة وزينكم بصفوة صفات مصنوعاته وخصكم بخلاصة خصائص مبدعاته وجعلكم أنموذج جميع مخلوقاته في هذه النشأة، وقد ذكر بعض المحققين أن الإنسان جامع بين العالم العلوي والسفلي، وذلك لروحه التي هي من عالم المجردات وبدنه الذي هو من عالم الماديات وأنشدوا:
وتزعم أنك جرم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر
ولعمري إن الإنسان أعجب نسخة في هذا العالم قد اشتملت على دقائق أسرار شهدت ببعضها الآثار وعلم ما علم منها ذوو الأبصار، وخص بعضهم الصورة بالشكل المدرك بالعين كما هو معروف، وكل ما يشاهد من الصور
__________
(1) المصرح به أن ذلك فيما إذا كانت الفاء للسببية فلا تغفل اهـ منه.(14/316)
الإنسانية حسن لكن الحسن كغيره من المعاني على طبقات ومراتب فلانحطاط بعضها عن مراتب ما فوقها انحطاطا بينا وإضافتها إلى الموفى عليها لا تستملح وإلا فهي داخلة في حيز الحسن غير خارجة من حده ألا ترى أنك قد تعجب بصورة وتستملحها ولا ترى الدنيا بها ثم ترى أملح وأعلى في مراتب الحسن فينبو عن الأولى طرفك وتستثقل النظر إليها بعد افتتانك بها وتهالكك عليها، وقالت الحكماء: شيئان لا غاية لهما: الجمال والبيان.
وقرأ زيد بن علي وأبو رزين «صوركم» بكسر الصاد والقياس الضم كما في قراءة الجمهور.
وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ في النشأة الأخرى لا إلى غيره استقلالا أو اشتراكا فاصرفوا ما خلق لكم فيما خلقه لئلا يمسخ ما يشاهد من حسنكم بالعذاب يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الأمور الكلية والجزئية والأحوال الجلية والخفية وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ أي ما تسرونه فيما بينكم وما تظهرونه من الأمور والتصريح به مع اندراجه فيما قبله للاعتناء بشأنه لأنه الذي يدور عليه الجزاء، وقوله تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ اعتراض تذييلي مقرر لما قبله من شمول علمه تعالى لسرهم وعلنهم أي هو عز وجل محيط بجميع المضرات المستكنة في صدور الناس بحيث لا تفارقها أصلا فكيف يخفى عليه تعالى ما يسرونه وما يعلنونه، وإظهار الجلالة للإشعار بعلة الحكم وتأكيد استقلال الجملة، قيل: وتقديم تقرير القدرة على العلم لأن دلالة المخلوقات على قدرته تعالى بالذات وعلى علمه سبحانه لما فيها من الإتقان والاختصاص ببعض الأنحاء.
وقرأ عبيد عن أبي عمرو وأبان عن عاصم- ما يسرون وما يعلنون- بياء الغيبة أَلَمْ يَأْتِكُمْ أي أيها الكفرة لدلالة ما بعد على تخصيص الخطاب بهم، وظاهر كلام بعض الأجلة أن المراد بهم أهل مكة فكأنه قيل: ألم يأتكم يا أهل مكة نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ كقوم نوح وهود وصالح وغيرهم من الأمم المصرة على الكفر فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ أي ضرر كفرهم في الدنيا من غير مهلة، وأصل الوبال الثقل والشدة المترتبة على أمر من الأمور، ومنه الوبيل لطعام يثقل على المعدة، والوابل للمطر الثقيل القطار، واستعمل للضرر لأنه يثقل على الإنسان ثقلا معنويا، وعبر عن كفرهم بالأمر للإيذان بأنه أمر هائل وجناية عظيمة وَلَهُمْ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ لا يقادر قدره ذلِكَ أي ما ذكر من العذاب الذي ذاقوه في الدنيا وما سيذوقونه في الآخرة بِأَنَّهُ أي بسبب أن الشأن.
كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الظاهرة فَقالُوا عطف على كانَتْ.
أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا أي قال كل قوم من أولئك الأقوام الذين كفروا في حق رسولهم الذي أتاهم بالمعجزات منكرين لكون الرسول من جنس البشر، أو متعجبين من ذلك أبشر يهدينا كما قالت ثمود: أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ [القمر: 24] ، وقد أجمل في الحكاية فأسند القول إلى جميع الأقوام، وأريد بالبشر الجنس، فوصف بالجمع كما أجمل الخطاب، والأمر في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً [المؤمنون: 51] وارتفاع بَشَرٌ على الابتداء، وجملة يَهْدُونَنا هو الخبر عند الحوفي وابن عطية، والأحسن أن يكون مرفوعا على الفاعلية بفعل محذوف يفسره المذكور لأن همزة الاستفهام أميل إلى الفعل والمادة من باب الاشتغال فَكَفَرُوا بالرسل عليهم السلام وَتَوَلَّوْا عن التأمل فيما أتوا به من البينات، وعن الإيمان بهم وَاسْتَغْنَى اللَّهُ أي أظهر سبحانه غناه عن إيمانهم وعن طاعتهم حيث أهلكهم وقطع دابرهم، ولولا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وقد استغنى الله تعالى عن كل شيء، والأول هو الوجه وَاللَّهُ غَنِيٌّ عن العالمين فضلا عن إيمانهم وطاعتهم حَمِيدٌ يحمده كل مخلوق بلسان الحال الذي هو أفصح من لسان المقال، أو مستحق جل شأنه للحمد بذاته وإن لم يحمده سبحانه حامد زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا الزعم ادّعاء العلم، وأكثر ما يستعمل للادعاء الباطل.(14/317)
وعن ابن عمر وابن شريح إنه كنية الكذب، واشتهر أنه مطية الكذب، ولما فيه من معنى العلم يتعدى إلى مفعولين، وقد قام مقامهما هنا أَنْ المخففة وما في حيزها، والمراد بالموصول على ما في الكشاف أهل مكة فهو على ما سمعت في الخطاب من إقامة الظاهر مقام المضمر، ويؤيده ظاهرا قوله تعالى: قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ قال في الكشف: ويحتمل التعميم فيتناولهم وأضرابهم لتقدم كفار مكة في الذكر وغيرهم ممن حملوا على الاعتبار بحالهم، وهذا أبلغ أي زعموا أن الشأن لن يبعثوا بعد موتهم قُلْ ردا عليهم وإظهارا لبطلان زعمهم بإثبات ما نفوه بلى تبعثون، وأكد ذلك بالجملة القسمية فهي داخلة في حيز الأمر، وكذا قوله تعالى: ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ أي لتحاسبن وتجزون بأعمالكم، وزيد ذلك لبيان تحقق أمر آخر متفرع على البعث منوط به ففيه أيضا تأكيد له وَذلِكَ أي ما ذكر من البعث والجزاء عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لتحقق القدرة التامة وقبول المادة والفاء في قوله تعالى: فَآمِنُوا مفصحة بشرط قد حذف ثقة بغاية ظهوره أي إذا كان الأمر كذلك فَآمِنُوا بِاللَّهِ الذي سمعتم ما سمعتم من شؤونه عز وجل وَرَسُولِهِ محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وهو القرآن، فإنه بإعجازه بين بنفسه مبين لغيره كما أن النور كذلك، والالتفات إلى نون العظمة لإبراز العناية بأمر الإنزال، وفي ذلك من تعظيم شأن القرآن ما فيه وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الامتثال بالأمر وتركه خَبِيرٌ عالم بباطنه.
والمراد كمال علمه تعالى بذلك، وقيل: عالم بأخباره يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ ظرف لَتُنَبَّؤُنَّ وقوله تعالى:
وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وقوله سبحانه: فَآمِنُوا إلى خَبِيرٌ من الاعتراض، فالأول يحقق القدرة على البعث، والثاني يؤكد ما سيق له الكلام من الحث على الإيمان به وبما تضمنه من الكتاب وبمن جاء به، وبالحقيقة هو نتيجة قوله تعالى: لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ قدم على معموله للاهتمام فجرى مجرى الاعتراض، وقوله سبحانه: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ اعتراض في اعتراض لأنه من تتمة الحث على الإيمان كما تقول: اعمل إني غير غافر عنك، وقال الحوفي: ظرف- لخبير- وهو عند غير واحد من الأجلة بمعنى مجازيكم فيتضمن الوعد والوعيد.
وجعله الزمخشري بمعنى معاقبكم، ثم جوز هذا الوجه، وتعقب بأنه يرد عليه أنه ليس لمجرد الوعيد بل للحث كيف لا والوعيد قد تم بقوله تعالى: لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ فلم يحسن جعله بمعنى معاقبكم فتدبر، وجوز كونه منصوبا بإضمار اذكر مقدرا، وتعقب بأنه وإن كان حسنا إلا أنه حذف لا قرينة ظاهرة عليه، وجوز كونه ظرفا لمحذوف بقرينة السياق أي يكون من الأحوال والأهوال ما لا يحيط به نطاق المقال يوم يجمعكم، وتعقب بأن فيه ارتكاب حذف لا يحتاج إليه، فالأرجح الوجه الأول، وقرىء «يجمعكم» بسكون العين، وقد يسكن الفعل المضارع المرفوع مع ضمير جمع المخاطبين المنصوب، وروى إشمامها الضم، وقرأ سلام ويعقوب وزيد بن علي والشعبي «نجمعكم» بالنون لِيَوْمِ الْجَمْعِ ليوم يجمع فيه الأولون والآخرون، وقيل: الملائكة عليهم السلام والثقلان، وقيل: غير ذلك، والأول أظهر، واللام قيل: للتعليل، وفي الكلام مضاف مقدر أي لأجل ما في يوم الجمع من الحساب، وقيل: بمعنى في فلا تقدير ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس ومجاهد وقتادة أنهم قالوا: يوم غبن فيه أهل الجنة وأهل النار فالتفاعل فيه ليس على ظاهره كما في التواضع والتحامل لوقوعه من جانب واحد، واختير للمبالغة، وإلى هذا ذهب الواحدي.
وقال غير واحد: أي يوم غبن فيه بعض الناس بعضا بنزول السعداء منازل الأشقياء لو كانوا سعداء وبالعكس،
ففي الصحيح «ما من عبد يدخل الجنة إلا أرى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا، وما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة»
وهو مستعار من تغابن القوم في التجارة، وفيه تهكم بالأشقياء لأنهم لا يغبنون(14/318)
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
حقيقة السعداء بنزولهم في منازلهم من النار، أو جعل ذلك تغابنا مبالغة على طريق المشاكلة فالتفاعل على هذا القول على ظاهره وهو حسن إلا أن التغابن فيه تغابن السعداء والأشقياء على التقابل، والأحسن الإطلاق، وتغابن السعداء على الزيادة ثبت في الصحاح، واختار ذلك محيي السنة حيث قال: التغابن تفاعل من الغبن وهو فوت الحظ، والمراد بالمغبون من غبن في أهله ومنازله في الجنة فيظهر يومئذ غبن كل كافر بترك الإيمان وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان، قال الطيبي: وعلى هذا الراغب حيث قال: الغبن أن يبخس صاحبك في معاملة بينك وبينه بضرب من الإخفاء فإن كان ذلك في مال يقال: غبن فلان بضم الغين وكسر الباء، وإن كان في رأي يقال: غبن بفتح الغين وكسر الباء، ويَوْمُ التَّغابُنِ يوم القيامة لظهور الغبن في المبايعة المشار إليها بقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [البقرة: 207] وقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ [التوبة: 111] وقوله عز وجل: الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا [آل عمران: 77] فعلم أنهم قد غبنوا فيما تركوا من المبايعة وفيما تعاطوه من ذلك جميعا انتهى، والجملة مبتدأ وخبر، والتعريف للجنس، وفيها دلالة على استعظام ذلك اليوم وأن تغابنه هو التغابن في الحقيقة لا التغابن في أمور الدنيا وإن جلت وعظمت.
وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً أي عملا صالحا يُكَفِّرْ أي الله تعالى عَنْهُ سَيِّئاتِهِ في ذلك اليوم وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً أي مقدرين الخلود فيها، والجمع باعتبار معنى مَنْ كما أن الإفراد باعتبار لفظه، وقرأ الأعرج وشيبة وأبو جعفر وطلحة ونافع وابن عامر والمفضل عن عاصم وزيد ابن علي والحسن بخلاف عنه- نكفر. وندخله- بنون العظمة فيهما ذلِكَ أي ما ذكر من تكفير السيئات وإدخال الجنات الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الذي لا فوز وراءه لانطوائه على النجاة من أعظم الهلكات والظفر بأجلّ الطلبات.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي النار، وكأن هذه الآية- والتي قبلها لاحتوائهما على منازل السعداء والأشقياء- بيان للتغابن على تفسيره بتغابن الفريقين على التقابل ولما فيه من التفصيل نزل منزلة المغاير فعطف بالواو وكذا على الإطلاق لكنه عليه بيان في الجملة.
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ أي ما أصاب أحدا مصيبة على أن المفعول محذوف، ومِنْ زائدة، ومُصِيبَةٍ فاعل، وعدم إلحاق التاء في مثل ذلك فصيح لكن الإلحاق أكثر كقوله تعالى: ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها [الحجر:
5، المؤمنون: 43] وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ [الأنعام: 4] والمراد- بالمصيبة- الرزية وما يسوء العبد في نفس أو مال(14/319)
أو ولد أو قول أو فعل أي ما أصاب أحدا من رزايا الدنيا أي رزية كانت إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بإرادته سبحانه وتمكينه عز وجل كأن الرزية بذاتها متوجهة إلى العبد متوقفة على إرادته تعالى وتمكينه جل وعلا، وجوز أن يراد- بالمصيبة- الحادثة من شر أو خير، وقد نصوا على أنها تستعمل فيما يصيب العبد من الخير وفيما يصيبه من الشر لكن قيل: إنها في الأول من الصوب أي المطر، وفي الثاني من إصابة السهم، والأول هو الظاهر، وإن كان الحكم بالتوقف على الإذن عاما.
وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ عند إصابتها للصبر والاسترجاع على ما قيل، وعن علقمة للعلم بأنها من عند الله تعالى فيسلم لأمر الله تعالى ويرضى بها، وعن ابن مسعود قريب منه، وقال ابن عباس: يَهْدِ قَلْبَهُ لليقين فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وقيل: يَهْدِ قَلْبَهُ أي يلطف به ويشرحه لازدياد الخير والطاعة، وقرأ ابن جبير وطلحة وابن هرمز والأزرق عن حمزة- نهد- بنون العظمة.
وقرأ السلمي والضحاك وأبو جعفر «يهد» بالياء مبنيا للمفعول «قلبه» بالرفع على النيابة عن الفاعل، وقرىء كذلك لكن بنصب «قلبه» ، وخرج على أن نائب الفاعل ضمير مِنْ وقَلْبَهُ منصوب بنزع الخافض أي يهد في قلبه، أو يهد إلى قلبه على معنى أن الكافر ضال عن قلبه بعيد منه، والمؤمن واجد له مهتد إليه كقوله تعالى: لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق: 37] فالكلام من الحذف والإيصال نحو اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] ، وفيه جعل القلب بمنزلة المقصد فمن ضل فقد منع منه ومن وصل فقد هدي إليه، وجوز أن يكون نصبه على التمييز بناء على أنه يجوز تعريفه.
وقرأ عكرمة وعمرو بن دينار ومالك بن دينار «يهدأ» بهمزة ساكنة «قلبه» بالرفع أي يطمئن قلبه ويسكن بالإيمان ولا يكون فيه قلق واضطراب، وقرأ عمرو بن فايد- يهدا- بألف بدلا من الهمزة الساكنة، وعكرمة ومالك بن دينار أيضا «يهد» بحذف الألف بعد إبدالها من الهمزة، وإبدال الهمزة في مثل ذلك ليس بقياس على ما قال أبو حيان، وأجاز ذلك بعضهم قياسا، وبني عليه جواز حذف تلك الألف للجازم، وخرج عليه قول زهير بن أبي سلمى:
جريء متى يظلم يعاقب بظلمه ... سريعا وإن لا يبد بالظلم يظلم
أصله يبدأ فأبدلت الهمزة ألفا ثم حذفت للجازم تشبيها بألف- يخشى- إذا دخل عليه الجازم، وقوله تعالى:
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ من الأشياء التي من جملتها القلوب وأحوالها عَلِيمٌ فيعلم إيمان المؤمن ويهدي قلبه عند إصابة المصيبة فالجملة متعلقة بقوله تعالى: وَمَنْ يُؤْمِنْ إلخ، وجوز أن تكون متعلقة بقوله سبحانه: ما أَصابَ إلخ على أنها تذييل له للتقرير والتأكيد، وذكر الطيبي أن في الكلام الكشاف رمزا إلى أن في الآية حذفا أي فمن لم يؤمن لم يلطف به أو لم يهد قلبه، ومن يؤمن بالله يهد قلبه، وبني عليه أن المصيبة تشمل الكفر والمعاصي أيضا لورودها عقيب جزاء المؤمن والكافر وإردافها بالأمر الآتي وأي مصيبة أعظم منهما؟ وهو كما أشار إليه يدفع في نحر المعتزلة وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ كرر الأمر للتأكيد والإيذان بالفرق بين الاطاعتين في الكيفية، وتوضيح مورد الولي في قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي عن إطاعة الرسول، وقوله تعالى: فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ تعليل للجواب المحذوف أقيم مقامه أي فلا بأس عليه إذ ما عليه إلا التبليغ المبين وقد فعل ذلك بما لا مزيد عليه، وإظهار الرسول مضافا إلى نون العظمة في مقام إضماره لتشريفه عليه الصلاة والسلام، والإشعار بمدار الحكم الذي هو كون وظيفته صلّى الله تعالى عليه وسلم محض البلاغ ولزيادة تشنيع التولي عنه، والحصر في الكلام إضافي واللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الكلام فيها كالكلام في كلمة التوحيد، وقد مر وحلا وَعَلَى اللَّهِ أي عليه تعالى خاصة دون غيره لا(14/320)
استقلالا ولا اشتراكا فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وإظهار الجلالة في موقع الإضمار للإشعار بعلة التوكل. أو الأمر به فإن الألوهية مقتضية للتبتل إليه تعالى بالكلية، وقطع التعلق بالمرة عما سواه من البرية، وذكر بعض الأجلة أن تخصيص المؤمن بالأمر بالتوكل لأن الإيمان بأن الكل منه تعالى يقتضي التوكل، ومن هنا قيل: ليس في الآيات لمن تأمل في الحث على التوكل أعظم من هذه الآية لإيمائها إلى أن من لا يتوكل على الله تعالى ليس بمؤمن، وهي على ما قال الطيبي: كالخاتمة والفذلكة لما تقدم، وكالمخلص إلى مشرع آخر.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ أي إن بعضهم كذلك فمن الأزواج أزواجا يعادين بعولتهم ويخاصمنهم ويجلبن عليهم، ومن الأولاد أولادا يعادون آباءهم ويعقونهم ويجرعونهم الغصص والأذى، وقد شاهدنا من الأزواج من قتلت زوجها، ومن أفسدت عقله بإطعام بعض المفسدات للعقل، ومن كسرت قارورة عرضه، ومن مزقت كيس ماله- ومن، ومن- وكذا من الأولاد من فعل نحو ذلك فَاحْذَرُوهُمْ أي كونوا منهم على حذر ولا تأمنوا غوائلهم وشرهم، والضمير للعدو فإنه يطلق على الجمع نحو قوله تعالى: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي [الشعراء: 77] فالمأمور به الحذر عن الكل، أو للأزواج، والأولاد جميعا، فالمأمور به إما الحذر عن البعض لأن منهم من ليس بعدو، وإما الحذر عن مجموع الفريقين لاشتمالهم على العدو وَإِنْ تَعْفُوا عن ذنوبهم القابلة للعفو بأن تكون متعلقة بأمور الدنيا، أو بأمور الدين لكن مقارنه للتوبة بأن لم تعاقبوهم عليها وَتَصْفَحُوا تعرضوا بترك التثريب والتعيير وَتَغْفِرُوا تستروها بإخفائها وتمهيد معذرتهم فيها فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قائم مقام الجواب، والمراد يعاملكم بمثل ما عملتم، ويتفضل عليكم فإنه عز وجل غَفُورٌ رَحِيمٌ ولما كان التكليف هاهنا شاقا لأن الأذى الصادر ممن أحسنت إليه أشد نكاية وأبعث على الانتقام ناسب التأكيد في قوله سبحانه: وَإِنْ تَعْفُوا إلخ، وقال غير واحد: إن عداوتهم من حيث إنهم يحولون بينهم وبين الطاعات والأمور النافعة لهم في آخرتهم، وقد يحملونهم على السعي في اكتساب الحرام وارتكاب الآثام لمنفعة أنفسهم كما
روي عنه صلّى الله تعالى عليه وسلم «يأتي زمان على أمتي يكون فيه هلاك الرجل على يد زوجه وولده يعيرانه بالفقر فيركب مراكب السوء فيهلك» .
ومن الناس من يحمله حبهم والشفقة عليهم على أن يكونوا في عيش رغد في حياته وبعد مماته فيرتكب المحظورات لتحصيل ما يكون سببا لذلك وإن لم يطلبوه منه فيهلك، وسبب النزول أوفق بهذا القول.
أخرج الترمذي والحاكم وصححاه وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ إلخ في قوم من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يأتوا النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم فلما أتوا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فرأوا الناس قد فقهوا في الدين هموا أن يعاقبوهم فأنزل الله تعالى الآية ومن رواية أخرى عنه أنه قال: كان الرجل يريد الهجرة فيحبسه امرأته وولده فيقول: أما والله لئن جمع الله تعالى بيني وبينكم في دار الهجرة لأفعلنّ ولأفعلنّ فجمع الله عز وجل بينهم في دار الهجرة فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ الآية.
وقيل: إنهم قالوا لهم لئن جمعنا الله تعالى في دار الهجرة لم نصبكم بخير فلما هاجروا منعوهم الخير فنزلت، وعن عطاء بن أبي رباح أن عوف بن مالك الأشجعي أراد الغزو مع النبي صلّى الله عليه وسلم فاجتمع أهله وأولاده فثبطوه وشكوا إليه فراقه فرقّ ولم يغز، ثم إنه ندم فهم بمعاقبتهم فنزلت، واستدل بها على أنه لا ينبغي للرجل أن يحقد على زوجه وولده إذا جنوا معه جناية وأن لا يدعو عليهم نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
أي بلاء(14/321)
ومحنة لأنهم يترتب عليهم الوقوع في الإثم والشدائد الدنيوية وغير ذلك،
وفي الحديث «يؤتى برجل يوم القيامة فيقال: أكل عياله حسناته»
، وعن بعض السلف العيال سوس الطاعات.
وأخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم وصححه عن بريدة قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يخطب فأقبل الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله عليه الصلاة والسلام من المنبر فحملهما واحدا من ذا الشق وواحدا من ذا الشق، ثم صعد المنبر فقال: صدق الله نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
إني لما نظرت إلى هذين الغلامين يمشيان ويعثران لم أصبر أن قطعت كلامي ونزلت إليهما»
،
وفي رواية ابن مردويه عن عبد الله بن عمر «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بينما هو يخطب الناس على المنبر خرج حسين بن علي على رسول الله وعليهما الصلاة والسلام فوطئ في ثوب كان عليه فسقط فبكى فنزل رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم عن المنبر فلما رآه الناس سعوا إلى حسين يتعاطونه يعطيه بعضهم بعضا حتى وقع في يد رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فقال: قاتل الله الشيطان إن الولد لفتنة، والذي نفسي بيده ما دريت (1) أني نزلت عن منبري» .
وقيل: إذا أمكنكم الجهاد والهجرة فلا يفتنكم الميل إلى الأموال والأولاد عنهما قال في الكشف: الفتنة على هذا الميل إلى الأموال والأولاد دون العقوبة والإثم، وقدمت الأموال قيل: لأنها أعظم فتنة كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: 6، 7] ،
وأخرج أحمد والطبراني والحاكم والترمذي وصححه عن كعب بن عياض سمعت رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يقول: «إن لكل أمة فتنة وإن فتنة أمتي المال» .
وأخرج نحوه ابن مردويه عن عبد الله بن أوفى مرفوعا
وكأنه لغلبة الفتنة في الأموال والأولاد لم يذكر من التبعيضية كما ذكرت فيما تقدم اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
لمن آثر محبة الله تعالى وطاعته على محبة الأموال والأولاد والسعي في مصالحهم على وجه يخل بذلك فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ أي ابذلوا في تقواه عز وجل جهدكم وطاقتكم كما أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر عن الربيع بن أنس، وحكي عن أبي العالية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: 102] اشتد على القوم العمل فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم فأنزل الله تعالى تخفيفا على المسلمين فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فنسخت الآية الأولى. وجاء عن قتادة نحو منه، وعن مجاهد المراد أن يطاع سبحانه فلا يعصى، والكثير على أن هذا هو المراد في الآية التي ذكرناها وَاسْمَعُوا مواعظه تعالى وَأَطِيعُوا أوامره عز وجل ونواهيه سبحانه وَأَنْفِقُوا مما رزقكم في الوجوه التي أمركم بالإنفاق فيها خالصا لوجهه جل شأنه كما يؤذن به قوله تعالى: خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وذكر ذلك تخصيص بعد تعميم، ونصب خَيْراً عند سيبويه على أنه مفعول به لفعل محذوف أي وأتوا خيرا لأنفسكم أي افعلوا ما هو خير لها وأنفع، وهذا تأكيد للحث على امتثال هذه الأوامر وبيان لكون الأمور خيرا لأنفسهم من الأموال والأولاد، وفيه شمة من التجريد، وعند أبي عبيد على أنه خبر ليكن مقدرا جوابا للأمر أي يكن خيرا، وعند الفراء والكسائي على أنه نعت لمصدر محذوف أي إنفاقا خيرا، وقيل: هو نصب- بأنفقوا- والخير المال، وفيه بعد من حيث المعنى، وقال بعض الكوفيين: هو نصب على الحال وهو بعيد في المعنى والإعراب وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ وهو البخل مع الحرص.
__________
(1) ليت شعري لو رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم حال الحسين على جده وعليه الصلاة والسلام في واقعة كربلاء ماذا كان يصنع فلعنة الله تعالى وملائكته ورسله والناس أجمعين على من أمر بما كان ومن ألجم وأسرج، أو رضي أو كثر سوادا اه منه.(14/322)
فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بكل مرام إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ تصرفوا المال إلى المصارف التي عينها عز وجل، وفي الكلام استعارة تمثيلية قَرْضاً حَسَناً مقرونا بالإخلاص وطيب النفس يُضاعِفْهُ لَكُمْ يجعل لكم جل شأنه بالواحد عشرا إلى سبعمائة وأكثر، وقرىء- يضعفه- وَيَغْفِرْ لَكُمْ ببركة الانفاق ما فرط منكم من بعض الذنوب وَاللَّهُ شَكُورٌ يعطي الجزيل بمقابلة النزر القليل حَلِيمٌ لا يعاجل بالعقوبة مع كثرة الذنوب عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ لا يخفى عليه سبحانه شيء الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ المبالغ في القدرة والحكمة، وفي الآية من الترغيب بالإنفاق ما فيها لكن اختلف في المراد به فقيل: الإنفاق المفروض يعني الزكاة المفروضة وقد صرح به، وقيل: الإنفاق المندوب، وقيل: ما يعم الكل، والله تعالى أعلم.(14/323)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)
سورة الطّلاق
وتسمى سورة- النساء القصرى- كذا سماها ابن مسعود كما أخرجه البخاري وغيره، وأنكره الداودي، فقال: لا أرى القصرى محفوظا ولا يقال لشيء من سورة القرآن: قصرى ولا صغرى، وتعقبه ابن حجر بأنه رد للاخبار الثابتة بلا مستند والقصر والطول أمر نسبي، وقد أخرج البخاري عن زيد بن ثابت أنه قال: طولى الطوليين، وأراد بذلك سورة الأعراف- وهي مدنية بالاتفاق..
واختلف في عدد آياتها ففي البصري إحدى عشرة آية، وفيما عداه اثنتا عشرة آية، ولما ذكر سبحانه فيما تقدم إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ [التغابن: 14] وكانت العداوة قد تفضي إلى الطلاق ذكر جل شأنه هنا الطلاق وأرشد سبحانه إلى الانفصال منهن على الوجه الجميل، وذكر عز وجل أيضا ما يتعلق بالأولاد في الجملة، فقال عز من قائل:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ خص النداء به صلّى الله تعالى عليه وسلم وعم الخطاب بالحكم لأن النبي عليه الصلاة والسلام إمام أمته كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا كيت وكيت(14/324)
إظهارا لتقدمه واعتبارا لترؤسه، وأنه المتكلم عنهم والذي يصدرون عن رأيه ولا يستبدون بأمر دونه فكان هو وحده في حكمهم كلهم وسادا مسد جميعهم، وفي ذلك من إظهار جلالة منصبه عليه الصلاة والسلام ما فيه، ولذلك اختير لفظ النَّبِيُّ لما فيه من الدلالة على علو مرتبته صلّى الله تعالى عليه وسلم، وقيل: الخطاب كالنداء له صلّى الله تعالى عليه وسلم إلا أنه اختير ضمير الجمع للتعظيم نظير ما في قوله:
ألا فارحموني يا إله محمد وقيل: إنه بعد ما خاطبه عليه الصلاة والسلام بالنداء صرف سبحانه الخطاب عنه لأمته تكريما له صلّى الله تعالى عليه وسلم لما في الطلاق من الكراهة فلم يخاطب به تعظيما، وجعل بعضهم الكلام على هذا بتقدير القول أي قل لأمتك: إِذا طَلَّقْتُمُ، وقيل: حذف نداء الأمة، والتقدير يا أيها النبي وأمة النبي إذا طلقتم، وأيا ما كان فالمعنى إذا أردتم تطليقهن على تنزيل المشارف للفعل منزلة الشارع فيه، واتفقوا على أنه لولا هذا التجوز لم يستقم الكلام لما فيه من تحصيل الحاصل، أو كون المعنى إذا طلقتم فطلقوهن مرة أخرى وهو غير مراد، وقال بعض المحققين: لك أن تقول: لا حاجة إلى ذلك بل هو من تعليق الخاص بالعام وهو أبلغ في الدلالة على اللزوم كما يقال: إن ضربت زيدا فاضربه ضربا مبرحا لأن المعنى إن يصدر منك ضرب فليكن ضربا شديدا، وهو أحسن من تأويله بالإرادة فتدبر انتهى، وأنت تعلم أن المتبادر فيما ذكره كونه على معنى الإرادة أيضا فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ أي لاستقبال عدتهن، واللام للتوقيت نحو كتبته لأربع ليال بقين من جمادى الأولى، أو مستقبلات لها على ما قدره الزمخشري، وتعقبه أبو حيان بما فيه نظر (1) واعتبار الاستقبال- رأي من يرى أن العدة بالحيض وهي القروء في آية البقرة- كالإمام أبي حنيفة- ليكون الطلاق في الطهر وهو الطلاق المأمور به، والمراد بالأمر بإيقاعه في ذلك النهي عن إيقاعه في الحيض.
وقد صرحوا جميعا بأن ذلك الطلاق بدعيّ حرام، وقيد الطهر بكونه لم يجامعن فيه، واستدل لذلك، ولاعتبار الاستقبال بما أخرجه الإمامان: مالك والشافعي والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وآخرون عن ابن عمر «أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر رضي الله تعالى عنه لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فتغيظ فيه رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ثم قال: ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا قبل أن يمسها فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء.
وقرأ النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم- يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن-
وكان ابن عمر كما أخرج عنه ابن المنذر وغيره يقرأ كذلك، وكذلك ابن عباس، وفي رواية عنهما أنهما قرآ لقبل عدتهن ومن يرى أن العدة بالاطهار- وهي القروء- في تلك الآية كالإمام الشافعي يعلق لام التوقيت بالفعل ولا يعتبر الاستقبال، واعترض على التأويل بمستقبلات لعدتهن بأنه إن أريد التلبس بأولها فهو الشافعي، ومن يرى رأيه لا عليه وعلى المخالف لا له، وإن أريد المشارفة عادة فخلاف مقتضى اللفظ لأن اللام إذا دخلت الوقت أفادت معنى التأقيت والاختصاص بذلك الوقت لا استقبال الوقت، وعلى الاستدلال بقراءة رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم حسبما تضمنه الحديث السابق بأن قبل الشيء أوله نقيض دبره فهي مؤكدة لمذهب الشافعي لا دافعة له، ويشهد لكون العدة بالأطهار قراءة ابن مسعود- لقبل طهرهن- ومنهم من قال: التقدير لأطهار عدتهن، وتعقب بأنه إن جعلت الإضافة بمعنى- من- دل على
__________
(1) وهو أنه لا يحذف متعلق الظرف إذا كان كونا خاصا، فالصحيح تقدير المضاف، وفيه أنه إذا كانت قرينة جاز حذف كل وإلا امتنع حذف كل اهـ. منه.(14/325)
أن القرء هو الحيض والطهر معا، وإن جعلت بمعنى اللام فيكفي ما في قولك لأطهار الحيض من التنافر ردا مع ما فيه من الإضمار من غير دليل.
وفي الكشاف المراد- أي من الآية- أن يطلقن في طهر لم يجامعن فيه، ثم يخلين حتى تنقضي عدتهن وهو أحسن الطلاق وأدخله في السنة وأبعد من الندم، ويدل عليه ما روي عن إبراهيم النخعي أن أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كانوا يستحبون أن لا يطلقها للسنة إلا واحدة ثم لا يطلقوا غير ذلك حتى تنقضي العدة، وكان أحسن عندهم من أن يطلق الرجل ثلاثا في ثلاثة أطهار، وقال مالك: لا أعرف طلاق السنة إلا واحدة وكان يكره الثلاث مجموعة كانت أو مفروقة، وأما أبو حنيفة وأصحابه فإنما كرهوا ما زاد على الواحدة في طهر واحد فأما مفروقا في الاطهار فلا لما
روي عن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم أنه قال لابن عمر حين طلق امرأته وهي حائض: «ما هكذا أمرك الله إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا وتطلقها لكل قرء تطليقة»
وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال لعمر: «مر ابنك فليراجعها ثم ليدعها حتى تحيض ثم تطهر ثم ليطلقها إن شاء» .
وعند الشافعي لا بأس بإرسال الثلاث، وقال: لا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة وهو مباح، فمالك يراعي في طلاق السنة الواحدة والوقت، وأبو حنيفة يراعي التفريق والوقت، والشافعي يراعي الوقت انتهى.
وفي فتح القدير في الاحتجاج على عدم كراهة التفريق على الاطهار وكونه من الطلاق السني رواية غير ما ذكر عن ابن عمر أيضا، وقد قال فيها ما قال إلا أنه في الآخرة رجح قبولها، والمراد بإرسال الثلاث دفعة ما يعم كونها بألفاظ متعددة كأن يقال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق، أو بلفظ واحد كأن يقال: أنت طالق ثلاثا، وفي وقوع هذا ثلاثا خلاف، وكذا في وقوع الطلاق مطلقا في الحيض، فعند الإمامية لا يقع الطلاق بلفظ الثلاث. ولا في حالة الحيض لأنه بدعة محرمة،
وقد قال صلّى الله تعالى عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد»
، ونقله غير واحد عن ابن المسيب وجماعة من التابعين، وقال قوم منهم- فيما قيل- طاوس وعكرمة: الطلاق الثلاث بفم واحد يقع به واحدة، وروى هذه أبو داود عن ابن عباس- وهو اختيار ابن تيمية من الحنابلة- وفي الصحيحين أن أبا الصهباء قال لابن عباس: ألم تعلم أن الثلاث كانت تجعل واحدة على عهد رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر قال: نعم، وفي رواية لمسلم أن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم، ومنهم من قال في المدخول بها: يقع ثلاث، وفي الغير واحدة لما في مسلم وأبي داود والنسائي أن أبا الصهباء كان كثير السؤال من ابن عباس قال: أما علمت أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة؟ فقال ابن عباس: بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوا ذلك واحدة على عهد رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر الحديث، والذي ذهب إليه جمهور الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من أئمة المسلمين- ومنهم الأئمة الأربعة- وقوع الثلاث بفم واحد بل ذكر الإمام ابن الهمام وقوع الإجماع السكوتي من الصحابة على الوقوع.
ونقل عن أكثر مجتهديهم كعلي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وابن مسعود وأبي هريرة وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمرو بن العاص الإفتاء الصريح بذلك، وذكر أيضا أن إمضاء عمر الثلاث عليهم مع عدم مخالفته الصحابة له مع علمهم بأنها كانت واحدة لا يمكن إلا لأنهم قد اطلعوا في الزمان المتأخر على وجود ناسخ، أو لعلمهم بانتهاء الحكم لعلمهم بإناطته بمعان علموا انتهاءها في الزمان المتأخر، واستحسن ابن حجر في التحفة الجواب بالاطلاع(14/326)
على ناسخ بعد نقله جوابين سواه وتزييفه لهما، وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى بعض أخبار مرفوعة يستدل بها على وقوع الثلاث، لكن قيل: إن الثلاث فيها يحتمل أن تكون بألفاظ ثلاثة كأنت طالق أنت طالق أنت طالق، ولعله هو الظاهر لا بلفظ واحد كأنت طالق ثلاثا، وحينئذ لا يصلح ذلك للرد على من لم يوقع الثلاث بهذا اللفظ لكن إذا صح الإجماع ولو سكوتيا على الوقوع لا ينبغي إلا الموافقة والسكوت، وتأويل ما روي عن عمر، ولذا قال بعض الأئمة: لو حكم قاض بأن الثلاث بفم واحد واحدة لم ينفذ حكمه لأنه لا يسوغ الاجتهاد فيه لإجماع الأئمة المعتبرين عليه، وإن اختلفوا في معصية من يوقعه كذلك، ومن قال: بمعصيته استدل بما
روى النسائي عن محمود بن لبيد قال: «أخبرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاثا جميعا فقام غضبان فقال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟! حتى قام رجل فقال: يا رسول الله ألا أقتله»
وبما
أخرجه عبد الرزاق عن عبادة بن الصامت أن أباه طلق امرأة له ألف تطليقة فانطلق عبادة فسأله صلّى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: «بانت بثلاث في معصية الله وبقي تسعمائة وسبعة وتسعون عدوان وظلم إن شاء الله تعالى عذبه وإن شاء غفر له»
ويفهم من هذا حرمة إيقاع الزائد أيضا وهو ظاهر كلام ابن الرفعة، ومقتضى قول الروياني- واعتمده الزركشي. وغيره- أنه يعزر فاعله، ووجه بأنه تعاطى نحو عقد فاسد وهو حرام، ونوزع في ذلك بما فيه نظر، وبما في سنن أبي داود عن مجاهد قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنه طلق زوجته ثلاثا فقال له: عصيت ربك وبانت منك امرأتك إلى غير ذلك.
ومن قال بعدمها استدل بما رواه الشيخان من أن عويمرا العجلاني لما لاعن امرأته طلقها ثلاثا قبل أن يخبره صلى الله تعالى عليه وسلم بحرمتها عليه، وقال: إنه لو كان معصية لنهاه عنه لأنه أوقعه معتقدا بقاء الزوجية، ومع اعتقادها يحرم الجمع عند المخالف، ومع الحرمة يجب الإنكار على العالم وتعليم الجاهل ولم يوجدا، فدل على أن لا حرمة وبأنه قد فعله جماعة من الصحابة منهم عبد الرحمن بن عوف طلق زوجته تماضر ثلاثا في موضعه والحسن ابن علي رضي الله تعالى عنهما طلق زوجته شهبانوا ثلاثا لما هنته بالخلافة بعد وفاة علي كرم الله تعالى وجهه، وقال بعض الحنفية في ذلك: إنه محمول على أنهم قالوا: ثلاثا للسنة، وهو أبعد من قول بعض الشافعية فيما روي من الأدلة الدالة على العصيان فيه أنه محمول على أنه كان في الحيض فالمعصية فيه من تلك الحيثية.
واستدل على كونه معصية إذا كان في الحيض بما هو أظهر من ذلك كالروايتين السابقتين فيما نقل عن الكشاف، وفي الاستدلال بهما على حرمة إرسال الثلاث بحث، وربما يستدل بالثانية على وجوب الرجعة لكن قد ذكر بعض أجلة الشافعية أنها لا تجب بل تندب في الطلاق البدعي، وإنما لم تجب لأن الأمر بالأمر بالشيء ليس أمرا بذلك الشيء، وليس في- فليراجعها- أمر لابن عمر لأنه تفريع على أمر عمر، فالمعنى فليراجعها لأجل أمرك لكونك والده، واستفادة الندب منه حينئذ إنما هي من القرينة، وإذا راجع ارتفع الإثم المتعلق بحق الزوجة لا في الرجعة قاطعة للضرر من أصله فكانت بمنزلة التوبة ترفع أصل المعصية، وبه فارق دفن البصاق في المسجد فإنه قاطع لدوام ضرره لا لأصله لأن تلويث المسجد به قد حصل، ويندفع بما ذكر ما قيل: رفع الرجعة للتحريم كالتوبة يدل على وجوبها إذ كون الشيء بمنزلة الواجب في خصوصية من خصوصياته لا يقتضي وجوبه، ولا يستدل بما اقتضته الآية من النهي عن إيقاع الطلاق في الحيض على فساد الطلاق فيه إذ النهي عند أبي حنيفة لا يستلزم الفساد مطلقا، وعند الشافعي يدل على الفساد في العبادات وفي المعاملات إذا رجع إلى نفس العقد أو إلى أمر داخل فيه أو لازم له فإن رجع إلى أمر مقارن كالبيع وقت النداء فلا، وما نحن فيه لأمر مقارن وهو زمان الحيض فهو عنده لا يستلزم الفساد هنا أيضا، وأيد ذلك بأمر ابن عمر بالرجعة إذ لو لم يقع الطلاق لم يؤمر بها قيل: وما كان منه من التطليق في الحيض سبب نزول هذه(14/327)
الآية والذي رواه ابن مردويه من طريق أبي الزبير عنه وحكي عن السدي.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: بلغنا أن قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ الآية نزل في عبد الله بن عمرو بن العاص وطفيل بن الحارث وعمرو بن سعيد بن العاص، وقال بعضهم: فعله ناس منهم ابن عمرو بن العاص.
وعتبة بن غزوان فنزلت الآية، وأخرج ابن المنذر عن ابن سيرين أنها نزلت في حفصة بنت عمر طلقها رسول الله صلّى الله عليه وسلم واحدة فنزلت إلى قوله تعالى: يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً فراجعها عليه الصلاة والسلام، ورواه قتادة عن أنس، وقال القرطبي نقلا عن علماء الحديث: إن الأصح أنها نزلت ابتداء لبيان حكم شرعي، وكل ما ذكر من أسباب النزول لها لم يصح، وحكى أبو حيان نحوه عن الحافظ أبي بكر بن العربي، وظاهرها أن نفس الطلاق مباح، واستدل له أيضا بما
رواه ابو داود وابن ماجة عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «إن من أبغض المباحات عند الله عز وجل الطلاق»
وفي لفظ «أبغض الحلال إلى الله الطلاق»
لوصفه بالإباحة والحل لأن أفعل بعض ما يضاف إليه، والمراد من كونه مبغوضا التنفير عنه أو كونه كذلك من حيث إنه يؤدي إلى قطع الوصلة وحل قيد العصمة لا من حيث حقيقته في نفسه.
وقال البيهقي: البغض على إيقاعه كل وقت من غير رعاية لوقته المسنون، وبطلاقه صلّى الله عليه وسلم حفصة ثم أمره تعالى إياه أن يراجعها فإنها صوامة قوامة، وقال غير واحد: هو محظور لما فيه من كفران نعمة النكاح،
ولقوله عليه الصلاة والسلام: «لعن الله كل مذواق مطلاق»
وإنما أبيح للحاجة، قال ابن الهمام: وهذا هو الأصح فيكره إذا لم يكن حاجة، ويحمل لفظ المباح على ما أبيح في بعض الأوقات أعني أوقات تحقق الحاجة المبيحة وهو ظاهر في رواية لأبي داود- ما أحل الله تعالى شيئا أبغض إليه من الطلاق- فإن الفعل لا عموم له في الأزمان، ومن الحاجة الكبر وعدم اشتهائه جماعها بحيث يعجز أو يتضرر بإكراهه نفسه عليه وهي لا ترضى بترك ذلك، وما روي عن الحسن- وكان قيل له في كثرة تزوجه وطلاقه من قوله: أحب الغنى- قال الله سبحانه: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ [النساء: 130] فهو رأي منه إن كان على ظاهره، وكل ما نقل من طلاق الصحابة- كطلاق المغيرة بن شعبة الزوجات الأربع دفعة- فقد قال لهن: أنتن حسنات الأخلاق ناعمات الأطواق طويلات الأعناق اذهبن فأنتن طلاق فمحمله وجود الحاجة، وإن لم يصرح بها، وقال ابن حجر: هو إما واجب كطلاق مول لم يرد الوطء وحكمين رأياه، أو مندوب كأن يعجز عن القيام بحقوقها ولو لعدم الميل إليها، أو تكون غير عفيفة ما لم يخش الفجور بها، ومن ثم أمر صلى الله تعالى عليه وسلم من قال: «إن زوجتي لا ترد يد لامس» أي لا تمنع من يريد الفجور بها على أحد أقوال من معناه بإمساكها خشية من ذلك، ويلحق بخشية الفجور بها حصول مشقة له بفراقها تؤدي إلى مبيح تيمم، وكون مقامها عنده أمنع لفجورها فيما يظهر فيهما، أو سيئة الخلق أي بحيث لا يصبر على عشرتها عادة فيما يظهر، وإلا فغير سيئة الخلق كالغراب الأعصم أو يأمره به أحد والديه أي من غير تعنت كما هو شأن الحمقى من الآباء والأمهات، ومع عدم خوف فتنة أو مشقة بطلاقها فيما يظهر، أو حرام كالبدعي، أو مكروه بأن سلم الحال عن ذلك كله
للخبر الصحيح «ليس شيء من الحلال أبغض إلى الله من الطلاق»
ولدلالته على زيادة التنفير عنه قالوا: ليس فيه مباح لكن صوره الإمام بما إذا لم يشتهها أي شهوة كاملة ولا تسمح نفسه بمؤنتها من غير تمتع اه.
والآية على ما لا يخفى على المنصف لا تدل على أكثر من حرمته في الحيض، والمراد بالنساء فيها المدخول بهن من المعتدات بالحيض على ما في الكشاف، وغيره لمكان قوله سبحانه: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ.
وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ واضبطوها وأكملوها ثلاثة قروء كوامل، وأصل معنى الإحصاء العد بالحصى كما كان معتادا قديما ثم صار حقيقة فيما ذكر وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ في تطويل العدة عليهن والإضرار بهن، وفي وصفه تعالى(14/328)
بربوبيته عز وجل لهم تأكيد للأمر ومبالغة في إيجاب الاتقاء لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ من مساكنهن عند الطلاق إلى أن تنقضي عدتهن، وإضافتها إليهن وهي لأزواجهن لتأكيد النهي ببيان كمال استحقاقهن لسكنا كأنها أملاكهن، وعدم العطف للإيذان باستقلاله بالطلب اعتناء به، والنهي عن الإخراج يتناول عدم إخراجهن غضبا عليهن أو كراهة لمساكنتهن أو لحاجة لهم إلى المساكن أو محض سفه بمنطوقه، ويتناول عدم الإذن لهن في الخروج بإشارته لأن خروجهن محرم بقوله تعالى: وَلا يَخْرُجْنَ أما إذا كانت لا ناهية كالتي قبلها فظاهر، وأما إذا كانت نافية فلأن المراد به النهي، وهو أبلغ من النهي الصريح كما لا يخفى، والإذن في فعل المحرم محرم فكأنه قيل: لا تخرجوهن ولا تأذنوا لهن في الخروج إذا طلبن ذلك ولا يخرجن بأنفسهن إن أردن فهناك دلالة على أن سكونهن في البيوت حق للشرع مؤكد فلا يسقط بالإذن، وهذا على ما ذكره الجلبي مذهب الحنفية، ومذهب الشافعية أنهما لو اتفقا على الانتقال جاز إذ الحق لا يعدوهما، فالمعنى لا تخرجوهن ولا يخرجن باستبدادهن وتعقب الشهاب كون ذلك مذهب الحنفية بقوله: فيه نظر، وقد ذكر الرازي في الاحكام ما يدل على خلافه وأن السكنى كالنفقة تسقط بالإسقاط انتهى.
والذي يظهر من كلامهم ما ذكره الجلبي، وقد نص عليه الحصكفي في الدر المختار، وعلله بأن ذلك حق الله تعالى فلا يسقط بالإذن، وفي الفتح لو اختلعت على أن لا سكنى لها تبطل مؤنة السكنى عن الزوج ويلزمها أن تكتري بيته، وأما أن يحل لها الخروج فلا إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ أي ظاهر هي نفس الخروج قبل انقضاء العدة كما أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في سننه وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن عمر، وروي عن السدي وابن السائب والنخعي- وبه أخذ أبو حنيفة- والاستثناء عليه راجع إلى لا يَخْرُجْنَ والمعنى لا يطلق لهن في الخروج إلا في الخروج الذي هو فاحشة، ومن المعلوم أنه لا يطلق لهن فيه فيكون ذلك منعا عن الخروج على أبلغ وجه، وقال الإمام ابن الهمام: هذا كما يقال في الخطابية: لا تزن إلا أن تكون فاسقا ولا تشتم أمك إلا أن تكون قاطع رحم، ونحو ذلك وهو بديع وبليغ جدا، والزنا على ما روي عن قتادة والحسن والشعبي وزيد بن أسلم والضحاك وعكرمة وحماد والليث، وهو قول ابن مسعود وقول ابن عباس وبه أخذ أبو يوسف، والاستثناء عليه راجع إلى لا تخرجوهن على ما يقتضيه ظاهر كلام جمع أي لا تخرجوهن إلا إن زنين فأخرجوهن لإقامة الحد عليهن، وقال بعض المحققين: هو راجع إلى الكل وما يوجب حدا من زنا أو سرقة أو غيرهما- كما أخرجه عبد بن حميد عن سعيد بن المسيب- واختاره الطبري، والبذاء على الأحماء أي أو على الزوج- كما أخرجه جماعة من طرق عن ابن عباس- والاستثناء راجع إلى الأول أي لا تخرجوهن إلا إذا طالت ألسنتهن وتكلمن بالكلام الفاحش القبيح على أزواجهن أو أحمائهن، وأيد بقراءة أبيّ «لا أن يفحشن عليكم» بفتح الياء وضم الحاء، وفي موضح الأهوازي «يفحشن» من أفحش، قال الجوهري: أفحش عليه في النطق أي أتى بالفحش، وفي حرف ابن مسعود- إلا أن يفحشن- بدون عليكم والنشوز، والمراد إلا أن يطلقن على النشوز على ما روي عن قتادة أيضا، والاستثناء عليه قيل: راجع إلى الأول أيضا، وفي الكشف هو راجع إلى الكل لأنه سقط حقها في السكنى حل الإخراج والخروج أيضا، وأيا ما كان فليس في الآية حصر المبيح لفعل المنهي عنه بالإتيان بالفاحشة، وقد بينت المبيحات في كتب الفروع فليراجعها من أراد ذلك.
وقرأ ابن كثير وأبو بكر «مبينة» بالفتح وَتِلْكَ إشارة إلى ما ذكر من الأحكام أي تلك الأحكام الجليلة الشأن حُدُودُ اللَّهِ التي عينها لعباده عز وجل وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ أي حدوده تعالى المذكورة بأن أخل بشيء منها على أن الإظهار في موضع الإضمار لتهويل أمر التعدي والإشعار بعلة الحكم في قوله تعالى: فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ أي أضربها كما قال شيخ الإسلام، ونقل عن بعض تفسير الظلم بتعريضها للعقاب، وتعقبه بأنه يأباه قوله سبحانه: لا(14/329)
تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً
فإنه استئناف مسوق لتعليل مضمون الشرطية، وقد قالوا: إن الأمر الذي يحدثه الله تعالى أن يقلب قلبه عما فعله بالتعدي إلى خلافه فلا بد أن يكون الظلم عن ضرر دنيوي يلحقه بسبب تعديه ولا يمكنه تداركه، أو عن مطلق الضرر الشامل للدنيوي والأخروي، وخص التعليل بالدنيوي لكون احتراز أكثر الناس منه أشد واهتمامهم بدفعه أقوى.
ورد بأن الضرر الدنيوي غير محقق فلا ينبغي تفسير الظلم هاهنا به، وأن قوله تعالى: لا تَدْرِي إلخ ليس تعليلا لما ذكر بل هو ترغيب للمحافظة على الحدود بعد الترهيب، وفيه أنه بالترهيب أشبه منه بالترغيب، ولعل المراد من أضر بها عرضها للضرر، فالظلم هو ذلك التعريض ولا محذور في تفسيره به فيما يظهر، وجملة الترجي في موضع النصب ب لا تَدْرِي، وعد أبو حيان لَعَلَّ من المعلقات، والخطاب في لا تَدْرِي للمتعدي بطريق الالتفات لمزيد الاهتمام بالزجر عن التعدي لا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما قيل، فالمعنى من يتعدى حدود الله تعالى فقد عرض نفسه للضرر فإنك لا تدري أيهما المتعدي عاقبة الأمر لَعَلَّ اللَّهَ تعالى يحدث في قلبك بَعْدَ ذلِكَ الذي فعلت من التعدي أَمْراً يقتضي خلاف ما فعلته فيكون بدل بغضها محبة وبدل الإعراض عنها إقبالا إليها، ولا يتسنى تلافيه برجعة أو استئناف نكاح فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ شارفن آخر عدتهن. فَأَمْسِكُوهُنَّ فراجعوهن بِمَعْرُوفٍ بحسن معاشرة وإنفاق مناسب للحال من الجانبين. أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ بإيفاء الحق واتقاء الضرار مثل أن يراجعها ثم يطلقها تطويلا للعدة. وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ عند الرجعة إن اخترتموها أو الفرقة إن اخترتموها تبريا عن الريبة وقطعا للنزاع، وهذا أمر ندب كما في قوله تعالى: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ [البقرة: 282] ، وقال الشافعي في القديم: إنه للوجوب في الرجعة، وزعم الطبرسي أن الظاهر أنه أمر بالإشهاد على الطلاق وأنه مروي عن أئمة أهل البيت رضوان الله تعالى عليهم أجمعين وأنه للوجوب وشرط في صحة الطلاق وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ أي أيها الشهود عند الحاجة لِلَّهِ خالصا لوجهه تعالى، وفي الآية دليل على بطلان قول من قال: إنه إذا تعاطف أمران لمأمورين يلزم ذكر النداء أو يقبح تركه نحو اضرب يا زيد وقم يا عمرو، ومن خص جواز الترك بلا قبح باختلافهما كما في قوله تعالى: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ [يوسف: 29] فإن المأمور بقوله تعالى:
أَشْهِدُوا للمطلقين وبقوله سبحانه: أَقِيمُوا الشَّهادَةَ للشهود كما أشرنا إليه، وقد تعاطف من غير اختلاف في أفصح الكلام.
ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي لأنه المنتفع بذلك، والإشارة على ما اختاره صاحب الكشاف إلى الحث على إقامة الشهادة لله تعالى، والأولى كما في الكشف أن يكون إشارة إلى جميع ما مر من إيقاع الطلاق على وجه السنة وإحصاء العدة والكف عن الإخراج والخروج وإقامة الشهادة للرجعة أو المفارقة ليكون أشد ملاءمة لقوله عز وجل: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ فإنه اعتراض بين المتعاطفين جيء به لتأكيد ما سبق من الأحكام بالوعد على اتقاء الله تعالى فيها، فالمعنى ومن يتق الله تعالى فطلق للسنة، ولم يضارّ المعتدة، ولم يخرجها من مسكنها واحتاط فأشهد يجعل له سبحانه مخرجا مما عسى أن يقع في شأن الأزواج من الغموم والوقوع في المضايق ويفرج عنه ما يعتريه من الكروب، ويرزقه من وجه لا يخطر بباله ولا يحتسبه، وفي الأخبار عن بعض الصحابة- كعلي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس في بعض الروايات عنه- ما يؤيد بظاهره هذا الوجه، وجوز أن يكون اعتراضا جيء به على نهج الاستطراد عند ذكر قوله تعالى: ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ إلخ، فالمعنى ومن يتق الله تعالى في كل ما يأتي وما يذر يجعل له مخرجا من غموم الدنيا والآخرة وهو أولى لعموم الفائدة، وتناوله(14/330)
لما نحن فيه تناولا أوليا، ولاقتضاء أخبار في سبب النزول وغيره له،
فقد أخرج أبو يعلى وأبو نعيم والديلمي من طريق عطاء بن يسار عن ابن عباس قال: قرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قوله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ إلخ فقال:
مخرجا من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة
،
وأخرج أحمد والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم- في المعرفة- والبيهقي عن أبي ذر قال: «جعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتلو هذه الآية وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ فجعل يرددها حتى نعست ثم قال: يا أبا ذر لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم» .
وأخرج ابن مردوية من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: «جاء عوف بن مالك الأشجعي فقال: يا رسول الله إن ابني (1) أسره العدو وجزعت أمه فما تأمرني؟ قال: آمرك وإياها أن تستكثرا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله فقالت المرأة: نعم ما أمرك فجعلا يكثران منها فتغفل العدوّ فاستاق غنمهم فجاء بها إلى أبيه فنزلت وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ» الآية
،
وفي رواية ابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق مولى آل قيس قال: «جاء عوف بن مالك الأشجعي إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال له: أسر ابن عوف فقال له عليه الصلاة والسلام: أرسل إليه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأمرك أن تكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله وكانوا قد شدوه بالقدّ فسقط القدّ عنه فخرج فإذا هو بناقة لهم فركبها فاذا سرح للقوم الذين كانوا شدّدوه فصاح بها فاتبع آخرها أولها فلم يفجأ أبويه إلا وهو ينادي بالباب فأتى أبوه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ
إلخ.
وفي بعض الروايات أنه أصابه جهد وبلاء فشكا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: «اتق الله واصبر فرجع ابنه وقد أصاب أعنزا فذكر ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام فنزلت فقال: هي لك»
إلى غير ذلك مما هو مضطرب على ما لا يخفى على المتتبع، وعلى القول بالاستطراد قيل: المعنى من يتق الحرام يجعل له مخرجا إلى الحلال، وقيل: مَخْرَجاً من الشدة إلى الرخاء، وقيل: من النار إلى الجنة. وقيل: مَخْرَجاً من العقوبة وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ من الثواب، وقال الكلبي: مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ عند المصيبة يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً إلى الجنة، والكل كما ترى، والمعول عليه العموم الذي سمعته، وفي الكشف إن تنويع الوعد للمتقي وتكرير الحث عليه بعد الدلالة على أن التقوى ملاك الأمر عند الله تعالى ناط به سبحانه سعادة الدارين يدل على أن أمر الطلاق والعدة من الأمور التي تحتاج إلى فضل تقوى لأنه أبغض المباح إلى الله عز وجل لما يتضمن من الإيحاش وقطع الألفة الممهدة، ثم الاحتياط في أمر النسب الذي هو من جلة المقاصد يؤذن بالتشديد في أمر العدة فلا بد من التقوى ليقع الطلاق على وجه يحمد عليه، ويحتاط في العدة ما يجب فهنالك يحصل للزوجين المخرج في الدنيا والآخرة، وعليه فالزوجة داخلة في العموم كالزوج وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ أي كافيه عز وجل في جميع أموره.
وأخرج أحمد في الزهد عن وهب قال: «يقول الرب تبارك وتعالى: إذا توكل عليّ عبدي لو كادته السماوات والأرض جعلت له من بين ذلك المخرج» إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ بإضافة الوصف إلى مفعوله والأصل بالغ أمره بالنصب- كما قرأ به الأكثرون- أي يبلغ ما يريده عز وجل ولا يفوته مراد.
وقرأ ابن أبي عبلة في رواية وداود بن أبي هند وعصمة عن أبي عمرو «بالغ» بالرفع منونا «أمره» بالرفع على أنه فاعل- بالغ- الخبر- لأن- أو مبتدأ، وبالِغُ خبر مقدم له، والجملة خبر إِنَّ أي نافذ أمره عز وجل، وقرأ
__________
(1) اسمه سالم اه. منه.(14/331)
المفضل في رواية أيضا بالغا بالنصب «أمره» بالرفع، وخرج ذلك على أن بالغا حال من فاعل جَعَلَ في قوله تعالى:
قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً لا من المبتدأ لأنهم لا يرتضون مجيء الحال منه، وجملة قَدْ جَعَلَ إلخ خبر إِنَّ، وجوز أن يكون بالغا هو الخبر على لغة من ينصب الجزأين- بإن- كما في قوله:
إذا اسود جنح الليل فلتأت ولتكن ... خطاك خفافا إن حراسنا أسدا
وتعقب بأنها لغة ضعيفة، ومعنى قَدْراً تقديرا، والمراد تقديره قبل وجوده، أو مقدارا من الزمان، وهذا بيان لوجوب التوكل عليه تعالى وتفويض الأمر إليه عز وجل لأنه إذا علم أن كل شيء من الرزق وغيره لا يكون إلا بتقديره تعالى لا يبقى إلا التسليم للقدر، وفيه على ما قيل: تقرير لما تقدم من تأقيت الطلاق والأمر بإحصاء العدة، وتمهيد لما سيأتي إن شاء الله تعالى من مقاديرها.
وقرأ جناح بن حبيش «قدرا» بفتح الدال وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ أي الحيض، وقرىء- ييأسن- مضارعا مِنْ نِسائِكُمْ لكبرهن، وقد قدر بعضهم سن اليأس بستين سنة، وبعضهم بخمس وخمسين، وقيل: هو غالب سن يأس عشيرة المرأة، وقيل غالب سن يأس النساء في مكانها التي هي فيه فإن المكان إذا كان طيب الهواء والماء- كبعض الصحاري- يبطىء فيه سن اليأس، وقيل: أقصى عادة امرأة في العالم، وهذا القول- بالغ درجة اليأس- من أن يقبل إِنِ ارْتَبْتُمْ أي إن شككتم وترددتم في عدتهن، أو إن جهلتم عدتهن فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في سننه. وجماعة عن أبي بن كعب أن ناسا من أهل المدينة لما نزلت هذه الآية التي في البقرة في عدة النساء قالوا: لقد بقي من عدة النساء عدد لم تذكر في القرآن الصغار والكبار اللاتي قد انقطع عنهن الحيض وذوات الحمل، فأنزل الله تعالى في سورة النساء القصرى وَاللَّائِي يَئِسْنَ الآية، وفي رواية أن قوما منهم أبي بن كعب وخلاد بن النعمان لما سمعوا قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228] قالوا: يا رسول الله فما عدة من لا قرء لها من صغر أو كبر؟ فنزل وَاللَّائِي يَئِسْنَ إلخ، فقال قائل: فما عدة الحامل؟
فنزل وَأُولاتُ الْأَحْمالِ إلخ.
ويعلم مما ذكر أن الشرط هنا لا مفهوم له عند القائلين بالمفهوم لأنه بيان للواقعة التي نزل فيها من غير قصد للتقييد، وتقدير متعلق الارتياب ما سمعت هو ما أشار إليه الطبري وغيره، وقيل: إِنِ ارْتَبْتُمْ في دم البالغات مبلغ اليأس أهو دم حيض أو استحاضة فعدتهن إلخ، وإذا كانت هذه عدة المرتاب بها فغير المرتاب بها أولى بذلك، وقال الزجاج: المعنى إِنِ ارْتَبْتُمْ في حيضهن وقد انقطع عنهن الدم وكن ممن يحيض مثلهن، وقال مجاهد: الآية واردة في المستحاضة أطبق بها الدم لا تدري أهو دم حيض أو دم علة، وقيل: إِنِ ارْتَبْتُمْ أي إن تيقنتم إياسهن، والارتياب من الأضداد والكل كما ترى.
والموصول قالوا: إنه مبتدأ خبره جملة فَعِدَّتُهُنَّ إلخ، وإِنِ ارْتَبْتُمْ شرط جوابه محذوف تقديره فاعلموا أنها ثلاثة أشهر، والشرط وجوابه جمل معترضة، وجوز كون فَعِدَّتُهُنَّ إلخ جواب الشرط باعتبار الاعلام والإخبار كما في قوله تعالى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل: 53] والجملة الشرطية خبر من غير حذف وتقير، وقوله تعالى: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ مبتدأ خبره محذوف أي واللائي لم يحضن كذلك أو عدتهن ثلاثة أشهر، والجملة معطوفة على ما قبلها، وجوز عطف هذا الموصول على الموصول السابق وجعل الخبر لهما من غير تقدير، والمراد- باللائي لم يحضن- الصغار اللائي لم يبلغن سن الحيض.
واستظهر أبو حيان شموله من لم يحضن لصغر ومن لا يكون لهن حيض البتة كبعض النساء يعشن إلى أن يمتن(14/332)
ولا يحضن، ومن أتى عليها زمان الحيض وما بلغت به ولم تحض، ثم قال: وقيل: هذه تعتدّ سنة.
وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أي منتهى عدتهن أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ولو نحو مضغة وعلقة ولا فرق في ذلك بين أن يكن مطلقات أو متوفى عنهن أزواجهن كما روي عن عمر وابنه، فقد أخرج مالك والشافعي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عمر أنه سئل عن المرأة يتوفى عنها زوجها وهي حامل فقال: إذا وضعت حملها فقد حلت فأخبره رجل من الأنصار أن عمر بن الخطاب قال: لو ولدت وزوجها على سريره لم يدفن لحلت، وعن ابن مسعود فقد أخرج عنه أبو داود والنسائي وابن ماجة أنه قال: من شاء لاعنته أن الآية التي في سورة النساء القصرى وَأُولاتُ الحمل إلخ نزلت بعد سورة البقرة بكذا وكذا شهرا وكل مطلقة أو متوفى عنها زوجها فأجلها أن تضع حملها، وفي رواية ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري بسبع سنين ولعله لا يصح، وعن أبي هريرة وأبي مسعود البدري وعائشة- وإليه ذهب فقهاء الأمصار- وروي ذلك عن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم،
أخرج عبد بن حميد في زوائد المسند وأبو يعلى والضياء في المختارة وابن مردويه عن أبيّ بن كعب قال: قلت للنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ أهي المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها؟
قال: «هي المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها» وروى جماعة نحوه عنه من وجه آخر، وصح أن سبيعة بنت الحارث الأسلمية كانت تحت سعد بن خولة فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل فوضعت بعد وفاته بثلاثة وعشرين يوما، وفي رواية بخمس وعشرين ليلة،
وفي أخرى بأربعين ليلة فاختضبت وتكحلت وتزينت تريد النكاح فأنكر ذلك عليها فسئل النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فقال: «إن تفعل فقد خلا أجلها»
وذهب علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما إلى أن الآية في المطلقات، وأما المتوفى عنها زوجها فعدتها آخر الأجلين، وهو مذهب الإمامية كما في مجمع البيان.
وعلى ما تقدم فالآية ناسخة لقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ [البقرة: 234] الآية على رأي أصحاب أبي حنيفة ومن وافقهم من الشافعية لأن العام المطلق المتأخر ناسخ عندهم فأولى أن يكون العام من وجه كذلك، وأما من لم يذهب إليه فمن لم يجوز تأخير بيان العام قال: بالنسخ أيضا لأن العام الأول حينئذ مراد تناوله لإفراده، وفي مثله لا خلاف في أن الخاص المتراخي ناسخ بقدره لا مخصص، ومن جوز ذهب إلى التخصيص بناء على أن التي في القصرى أخص مطلقا، ووجهه أنه ذكر في البقرة حكم المطلقات من النساء وحكم المتوفى عنهن الأزواج على التفريق، ثم وردت هذه مخصصة في البابين لشمول لفظ الأجل العدتين، وخصوص- أولات الأحمال- مطلقا بالنسبة إلى الأرواح، وهذا كما يقول القائل: هندية الموالي لهم كذا وتركيتهم لهم كذا لجنس آخر، ثم يقول: والكهول منهم لهم دون ذلك أو فوقه أو كذا مريدا صنفا آخر يكون الأخير مخصصا للحكمين، ولا نظر إلى اختلاف العطايا لشمول اللفظ الدال على الاختصاص وخصوص الكهول من الموالي مطلقا كذلك فيما نحن فيه لا نظر إلى اختلاف العدتين لشمول لفظ الأجل، وخصوص- أولات الأحمال- بالنسبة إلى الأزواج مطلقا، وإن شئت فقل: بالنسبة إلى المطلقات والمتوفى عنهن رجالهن مطلقا فلا فرق- قاله في الكشف- ثم قال: ومن ذهب إلى أبعد الأجلين احتج بأن النصين متعاضدان لأن بينهما عموما وخصوصا من وجه ولا وجه للإلغاء فيلزم الجمع، وفي القول بذلك يحصل الجمع لأن مدة الحمل إذا زادت فقد تربصت أربعة أشهر وعشرا مع الزيادة وإن قصرت وتربصت المدة فقد وضعت وتربصت فيحصل العمل بمقتضى الآيتين، والجواب أنه إلغاء للنصين لا جمع إذا المعتبر الجمع بين النصين لا بين المدتين وذلك لفوات الحصر والتوقيت الذي هو مقتضى الآيتين اه فتدبر.
وقرأ الضحاك «أحمالهن» جمعا وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ في شأن أحكامه تعالى ومراعاة حقوقها: يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ(14/333)
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
يُسْراً
بأن يسهل عز وجل أمره عليه، وقيل: اليسر الثواب وَمَنْ قيل: للبيان قدم على المبين للفاصلة، وقيل:
بمعنى في، وقيل: تعليلية ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من الأحكام وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد المنزلة في الفضل، وإفراد الكاف- مع أن الخطاب للجمع كما يفصح عنه قوله تعالى: أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ لما أنها لمجرد الفرق بين الحاضر والمنقضي لا لتعيين خصوصية المخاطبين وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ بالمحافظة على أحكامه عز وجل يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ فإن الحسنات يذهبن السيئات وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً بالمضاعفة، وقرأ الأعمش- نعظم- بالنون التفاتا من الغيبة إلى التكلم، وقرأ ابن مقسم- يعظم- بالياء والتشديد مضارع عظم مشددا، وقوله تعالى:
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ مما قبله من الحث على التقوى كأنه قيل:
كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات؟ فقيل: أَسْكِنُوهُنَّ إلخ، ومِنْ للتبعيض أي أسكنوهن بعض مكان سكناكم، ولتسكن إذا لم يكن إلا بيت واحد في بعض نواحيه كما روي عن قتادة، وقال الحوفي وأبو البقاء: هي لابتداء الغاية، وقوله تعالى: مِنْ وُجْدِكُمْ أي من وسعكم أي مما تطيقونه عطف بيان لقوله تعالى: مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ على ما قاله الزمخشري، ورده أبو حيان بأنه لا يعرف عطف بيان يعاد فيه العامل إنما هذا طريقة البدل مع حرف الجر ولذلك أعربه أبو البقاء بدلا، وتعقب بأن المراد أن الجار والمجرور عطف بيان للجار والمجرور لا المجرور فقط حتى يقال ذلك مع أنه لا يبرد له بسلامة الأمير وأنه لا فرق بين عطف البيان والبدل إلا في أمر يسير، ولا يخفى قوة كلام أبي حيان، وقرأ الحسن والأعرج وابن أبي عبلة وأبو حيوة «من وجدكم» بفتح الواو، وقرأ الفياض بن غزوان، وعمرو بن ميمون ويعقوب بكسرها- وذكرها المهدوي عن الأعرج- والمعنى في الكل الوسع وَلا تُضآرُّوهُنَّ ولا تستعملوا معهن الضرار في السكنى لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ فتلجئوهن إلى الخروج بشغل المكان أو بإسكان من لا يردن السكنى معه ونحو ذلك وَإِنْ كُنَّ أي المطلقات أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فيخرجن عن العدة، وأما المتوفى عنهن أزواجهن فلا نفقة لهن عند أكثر العلماء، وعن علي كرم الله تعالى وجهه وابن مسعود تجب نفقتهن في التركة، ولا خلاف في وجوب سكنى المطلقات أولات الحمل ونفقتهن بت الطلاق أو لم يبت.(14/334)
واختلف في المطلقات اللاتي لسن أولات حمل بعد الاتفاق على وجوب السكنى لهن إذا لم يكن مبتوتات، فقال ابن المسيب وسليمان بن يسار وعطاء والشعبي والحسن ومالك والأوزاعي وابن أبي ليلى والشافعي وأبو عبيد:
للمطلقة الحائل المبتوتة السكنى ولا نفقة لها، وقال الحسن وحماد وأحمد وإسحاق وأبو ثور والإمامية: لا سكنى لها ولا نفقة
لحديث فاطمة بنت قيس قالت: طلقني زوجي أبو عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي البتة فخاصمته إلى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم في السكنى والنفقة فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة وأمرني أن أعتد في بيت ابن أم مكتوم ثم أنكحني أسامة بن زيد
، وقال أبو حنيفة والثوري: لها السكنى والنفقة فهما عنده لكل مطلقة لم تكن ذات حمل، ودليله
أن عمر رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يقول في المبتوتة: «لها النفقة والسكنى»
مع أن ذلك جزاء الاحتباس وهو مشترك بين الحائل والحامل، ولو كان جزاء للحمل لوجب في ماله إذا كان له مال ولم يقولوا به.
ويؤيد ذلك قراءة ابن مسعود- أسكنوهن من حيث سكنتم وأنفقوا عليهن من وجدكم- ومن خص الإنفاق بالمعتدات أولات الحمل استدل بهذه الآية لمكان الشرط فيها وهو لا يتم على النافين لمفهوم المخالفة مع أن فائدة الشرط هاهنا أن الحامل قد يتوهم أنها لا نفقة لها لطول مدة الحمل فأثبت لها النفقة ليعلم غيرها بالطريق الأولى- كما في الكشاف- فهو من مفهوم الموافقة، وحديث فاطمة بنت قيس قد طعن فيه عمر وعائشة وسليمان بن يسار والأسود بن يزيد وأبو سلمة بن عبد الرحمن وغيرهم فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ أي بعد أن يضعن حملهن فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ على الإرضاع وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ خطاب للآباء والأمهات، والافتعال بمعنى التفاعل، يقال:
ائتمر القوم وتآمروا بمعنى، قال الكسائي: والمعنى تشاوروا، وحقيقته ليأمر بعضكم بعضا بمعروف أي جميل في الأجرة والإرضاع ولا يكن من الأب مماسكة ولا من الأم معاسرة، وقيل: المعروف الكسوة والدثار وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ أي تضايقتم أي ضيّق بعضكم على الآخرة بالمشاحة في الأجرة أو طلب الزيادة أو نحو ذلك فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى أي فستوجد ولا تعوز مرضعة أخرى، وفيه على ما قيل: معاتبة للام لأنه كقولك لمن تستقضيه حاجة فتتعذر منه:
سيقضيها غيرك أي ستقضي وأنت ملوم.
وخص الأم بالمعاتبة على ما قال ابن المنير لأن المبذول من جهتها هو لبنها لولدها وهو غير متمول ولا مضمون به في العرف وخصوصا من الأم على الولد، ولا كذلك المبذول من جهة الأب فإنه المال المضنون به عادة، فالأم إذن أجدر باللوم وأحق بالعتب، والكلام على معنى فليطلب له الأب مرضعة أخرى فيظهر الارتباط بين الشرط والجزاء، وقال بعض الأجلة: إن الكلام لا يخلو عن معاتبة الأب أيضا حيث أسقط في الجواب عن حيز شرف الخطاب مع الإشارة إلى أنه إذا ضايق الأم في الأجر فامتنعت من الإرضاع لذلك فلا بد من إرضاع امرأة أخرى، وهي أيضا تطلب الأجر في الأغلب والأم أشفق فهي به أولى، وبذلك يظهر كمال الارتباط، والأول أظهر فتدبر، وقيل:
فَسَتُرْضِعُ خبر بمعنى الأمر أي فلترضع، وليس بذاك، وهذا الحكم إذا قبل الرضيع ثدي أخرى أما إذا لم يقبل إلا ثدي أمه فقد قالوا: تجبر على الإرضاع بأجرة مثلها لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ أي ضيق عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ وإن قل، والمراد لينفق كل واحد من الموسر والمعسر ما يبلغه وسعه، والظاهر أن المأمور بالإنفاق الآباء، ومن هنا قال ابن العربي: هذه الآية أصل في وجوب النفقة على الأب، وخالف في ذلك محمد بن المواز فقال: بوجوبها على الأبوين على قدر الميراث، وحكى أبو معاذ أنه قرىء «لينفق» بلام كي ونصب القاف على أن التقدير شرعنا ذلك لينفق.(14/335)
وقرأ ابن أبي عبلة «قدّر» مشدد الدال لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها أي إلا بقدر ما أعطاها من الطاقة، وقيل: ما أعطاها من الأرزاق قل أو جل، وفيه تطييب واستمالة لقلب المعسر لمكان عبارة آتاها الخاصة بالإعسار قبل وذكر العسر بعد، واستدل بالآية من قال لا فسخ بالعجز عن الإنفاق على الزوجة وهو ما ذهب اليه عمر ابن عبد العزيز وأبو حنيفة وجماعة وعن أبي هريرة والحسن وابن المسيب ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق يفسخ النكاح بالعجز عن الانفاق ويفرق بين الزوجين، وفيها على ما قال السيوطي: استحباب مراعاة الإنسان حال نفسه في النفقة والصدقة،
ففي الحديث «إن المؤمن أخذ عن الله تعالى أدبا حسنا إذا هو سبحانه وسع عليه وسع وإذا هو عز وجل قتر عليه قتر»
، وقوله تعالى: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً موعد لفقراء ذلك الوقت بفتح أبواب الرزق عليهم، أو لفقراء الأزواج إن أنفقوا ما قدروا عليه ولم يقصروا، وهو على الوجهين تذييل إلا أنه على الأول مستقل، وعلى الثاني غير مستقل وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أي كثير من أهل قرية.
وقرأ ابن كثير «وكائن» بالمد والهمزة، وتفصيل الكلام فيها قد مر عَتَتْ تجبرت وتكبرت معرضة عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فلم تمتثل ذلك فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً بالاستقصاء والتنقير والمناقشة في كل نقير من الذنوب وقطمير وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً أي منكرا عظيما، والمراد حساب الآخرة وعذابها، والتعبير عنهما بلفظ الماضي للدلالة على تحققهما كما في قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ [الكهف: 99] وغيرها.
وقرأ غير واحد «نكرا» بضمتين فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها عقوبة عتوها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً هائلا لا خسر وراءه أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً تكرير للوعيد وبيان لما يوجب التقوى المأمور بها بقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ كأنه قيل: أعد الله تعالى لهم هذا العذاب فليكن لكم ذلك يا أولي الألباب داعيا لتقوى الله تعالى وحذر عقابه، وقال الكلبي: الكلام على التقديم والتأخير، والمراد وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً في الدنيا بالجوع والقحط والسيف وسائر المصائب والبلايا فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً في الآخرة.
والظاهر أن قوله تعالى: أَعَدَّ إلخ عليه تكرير للوعيد أيضا، وجوز أن يراد بالحساب الشديد استقصاء ذنوبهم وإثباتها في صحائف الحفظة، وبالعذاب النكر ما أصابهم عاجلا، وتجعل جملة عَتَتْ إلخ صفة لقرية، والماضي في فَحاسَبْناها. وعَذَّبْناها على الحقيقة، وخبر كَأَيِّنْ جملة أَعَدَّ اللَّهُ إلخ، أو تجعل جملة عَتَتْ إلخ هي الخبر، وجملة أَعَدَّ اللَّهُ إلخ استئناف لبيان أن عذابهم غير منحصر فيما ذكر بل لهم بعده عذاب شديد، وقوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا منصوب بإضمار أعني بيانا للمنادى السابق أو نعت له أو عطف بيان، وفي إبداله منه ضعف لعدم صحة حلوله محله قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً هو النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم عبر به عنه لمواظبته عليه الصلاة والسلام على تلاوة القرآن الذي هو ذكر، أو تبليغه والتذكير به، وقوله تعالى: رَسُولًا بدلا منه، وعبر عن إرساله بالإنزال ترشيحا للمجاز، أو لأن الإرسال مسبب عنه فيكون أَنْزَلَ مجازا مرسلا، وقال أبو حيان: الظاهر أن الذكر هو القرآن، والرسول هو محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم فإما أن يجعل نفس الذكر مجازا. أو يكون بدلا على حذف مضاف أي ذا ذكر رَسُولًا فيكون رَسُولًا نعتا لذلك المحذوف أو بدلا، وقيل: رَسُولًا منصوب بمقدر مثل أرسل رسولا دل عليه أنزل. ونحا إلى هذا السدي، واختاره ابن عطية، وقال الزجاج وأبو علي: يجوز أن يكون معمولا للمصدر الذي هو ذكر كما في قوله تعالى: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً [البلد: 14، 15] ، وقول الشاعر:
بضرب بالسيوف رؤوس قوم ... أزلنا هامهن عن المقيل(14/336)
أي أَنْزَلَ اللَّهُ تعالى ذكره رَسُولًا على معنى أنزل الله عز وجل ما يدل على كرامته عنده وزلفاه، ويراد به على ما قيل: القرآن وفيه تعسف، ومثله جعل رَسُولًا بدلا منه على أنه بمعنى الرسالة، وقال الكلبي: الرسول هاهنا جبريل عليه السلام، وجعل بدلا أيضا من ذِكْراً وإطلاق الذكر عليه لكثرة ذكره فهو من الوصف بالمصدر مبالغة- كرجل عدل- أو لنزوله بالذكر وهو القرآن، فبينهما ملابسة نحو الحلول، أو لأنه عليه السلام مذكور في السماوات وفي الأمم، فالمصدر بمعنى المفعول كما في درهم ضرب الأمير، وقد يفسر الذكر حينئذ بالشرف كما في قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: 44] فيكون كأنه في نفسه شرف إما لأنه شرف للمنزل عليه، وإما لأنه ذو مجد وشرف عند الله عز وجل كقوله تعالى: عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التكوير: 20] وفي الكشف إذا أريد بالذكر القرآن وبالرسول جبريل عليه السلام يكون البدل بدل اشتماله، وإذا أريد بالذكر الشرف وغيره يكون من بدل الكل فتدبر.
وقرىء رسول على إضمار هو، وقوله تعالى: يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ نعت- لرسولا- وهو الظاهر، وقيل: حال من اسم «الله» تعالى، ونسبة التلاوة إليه سبحانه مجازية كبنى الأمير المدينة، وآياتِ اللَّهِ القرآن، وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر على أحد الأوجه، ومُبَيِّناتٍ حال منها أي حال كونها مبينات لكم ما تحتاجون إليه من الأحكام، وقرىء «مبيّنات» أي بينها الله تعالى كقوله سبحانه: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ [آل عمران: 118، الحديد: 170] واللام في قوله تعالى: لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ متعلق- بأنزل- أو- بيتلو- وفاعل يخرج على الثاني ضمير الرسول عليه الصلاة والسلام أو ضميره عز وجل، والمراد بالموصول المؤمنون بعد إنزال الذكر وقبل نزول هذه الآية أو من علم سبحانه وقدر أنه سيؤمن أي ليحصل لهم الرسول أو الله عز وجل ما هم عليه الآن من الإيمان والعمل الصالح، أو ليخرج من علم وقدر أنه يؤمن من أنواع الضلالات إلى الهدى، فالمضي إما بالنظر لنزول هذه الآية أو باعتبار علمه تعالى وتقديره سبحانه الأزلي.
وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً حسبما بين في تضاعيف ما أنزل من الآيات المبينات.
يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وقرأ نافع وابن عامر- ندخله- بنون العظمة وقوله تعالى:
خالِدِينَ فِيها أَبَداً حال من مفعول يُدْخِلْهُ والجمع باعتبار معنى من كما أن الإفراد في الضمائر الثلاثة باعتبار لفظها، وقوله تعالى: قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً حال أخرى منه أو من الضمير في خالِدِينَ بطريق التداخل، وإفراد ضمير لَهُ باعتبار اللفظ أيضا، وفيه معنى التعجيب والتعظيم لما رزقه الله تعالى المؤمنين من الثواب وإلا لم يكن في الإخبار بما ذكرها هنا كثير فائدة كما لا يخفى.
واستدل أكثر النحويين بهذه الآية على جواز مراعاة اللفظ أولا. ثم مراعاة المعنى. ثم مراعاة اللفظ، وزعم بعضهم أن ما فيها ليس كما ذكر لأن الضمير في خالِدِينَ ليس عائدا على من كالضمائر قبل، وإنما هو عائد على مفعول- يدخل- وخالِدِينَ حال منه، والعامل فيها- يدخل- لا فعل الشرط وهو كما ترى اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ مبتدأ وخبر وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ أي وخلق من الأرض مثلهن على أن مِثْلَهُنَّ مفعول لفعل محذوف والجملة عطف على الجملة قبلها، وقيل: مِثْلَهُنَّ عطف على سبع سماوات، وإليه ذهب الزمخشري، وفيه الفصل بالجار والمجرور بين حرف العطف والمعطوف وهو مختص بالضرورة عند أبي علي الفارسي، وقرأ المفضل عن عاصم. وعصمة عن أبي بكر مِثْلَهُنَّ بالرفع على الابتداء وَمِنَ الْأَرْضِ الخبر.
والمثلية تصدق بالاشتراك في بعض الأوصاف فقال الجمهور: هي هاهنا في كونها سبعا وكونها طباقا بعضها(14/337)
فوق بعض بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والأرض وفي كل أرض سكان من خلق الله عز وجل لا يعلم حقيقتهم إلا الله تعالى، وعن ابن عباس أنهم إما ملائكة أو جن، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي- في شعب الإيمان. وفي الأسماء والصفات- من طريق أبي الضحى عنه أنه قال في الآية: سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم وآدم كآدم ونوح كنوح وإبراهيم كإبراهيم وعيسى كعيسى، قال الذهبي: إسناده صحيح ولكنه شاذ بمرة لا أعلم لأبي الضحى عليه متابعا. وذكر أبو حيان في البحر نحوه عن الحبر وقال: هذا حديث لا شك في وضعه وهو من رواية الواقدي الكذاب.
وأقول لا مانع عقلا ولا شرعا من صحته، والمراد أن في كل أرض خلقا يرجعون إلى أصل واحد رجوع بني آدم في أرضنا إلى آدم عليه السلام، وفيه أفراد ممتازون على سائرهم كنوح وإبراهيم وغيرهما فينا.
وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عمر مرفوعا أن بين كل أرض والتي تليها خمسمائة عام والعليا منها على ظهر حوت قد التقى طرفاه في السماء والحوت على صخرة والصخرة بيد ملك والثانية مسجن الريح والثالثة فيها حجارة جهنم والرابعة فيها كبريتها والخامسة فيها حياتها والسادسة فيها عقاربها والسابعة فيها سقر وفيها إبليس مصفد بالحديد يد أمامه ويد خلفه يطلقه الله تعالى لمن يشاء، وهو حديث منكر- كما قال الذهبي- لا يعول عليه أصلا فلا تغتر بتصحيح الحاكم، ومثله في ذلك أخبار كثيرة في هذا الباب لولا خوف الملل لذكرناها لك لكن كون ما بين كل أرضين خمسمائة سنة كما بين كل سماءين جاء في أخبار معتبرة كما
روى الإمام أحمد والترمذي عن أبي هريرة قال: «بينما النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم جالس وأصحابه قال: هل تدرون ما فوقكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها الرقيع سقف محفوظ وموج مكفوف، قال: هل تدرون ما بينكم وبينها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:
بينكم وبينها خمسمائة عام، ثم قال: هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: سماء وإن بعد ما بينها خمسمائة سنة، ثم قال كذلك حتى عد سبع سماوات ما بين كل سماءين ما بين السماء والأرض، ثم قال هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: وإن فوق ذلك العرش بينه وبين السماء بعد ما بين السماءين، ثم قال: هل تدرون ما تحتكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إنها الأرض، ثم قال: هل تدرون ما تحت ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إن تحتها أرضا أخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عد صلّى الله تعالى عليه وسلم سبع أرضين ما بين كل أرضين خمسمائة سنة.
والأخبار في تقدير المسافة بما ذكر بين كل سماءين أكثر من الأخبار في تقديرها بين كل أرضين وأصح، ومنها ما هو مذكور في صحيح البخاري وغيره من الصحاح، وفيها أيضا أن ثخن كل سماء خمسمائة عام فقول الرازي في ذلك إنه غير معتبر عند أهل التحقيق كلام لا يخفى بشاعته على من سلك من السنة أقوم طريق، نعم ما حكاه من أن السماء الأولى موج مكفوف والثانية صخر والثالثة حديد والرابعة نحاس والخامسة فضة والسادسة ذهب والسابعة ياقوت ليس بمعتبر أصلا ولم يرد بما تضمنه من التفصيل خبر صحيح لكن في قوله: إنه مما يأباه العقل إن أراد به نفي الإمكان عقلا منع ظاهر، وقال الضحاك: هي في كونها سبعا بعضها فوق بعض لا في كونها كذلك مع وجود مسافة بين أرض وأرض، واختاره بعضهم زاعما أن المراد بهاتيك السبع طبقة التراب الصرفة المجاورة للمركز والطبقة الطينية والطبقة المعدنية التي يتكون فيها المعادن والطبقة الممتزجة بغيرها المنكشفة التي هي مسكن الإنسان ونحوه من الحيوان وفيها ينبت النبات وطبقة الأدخنة والطبقة الزمهريرية وطبقة النسيم الرقيق جدا، ولا يخفى أنه أشبه شيء بالهذيان، ومثله ما يزعمه بعض الناظرين في كتب العلوم المسماة بالحكمة الجديدة من أن الأرض انفصلت بسبب(14/338)
بعض الحوادث من بعض الأجرام العلوية صغيرة ثم تكونت فوقها طبقة وهكذا حتى صار المجموع سبعا، وزعم أنهم شاهدوا بين كل طبقة وطبقة آثار من مخلوقات مختلفة، وقال أبو صالح: هي في كونها سبعا لا غير فهي سبع أرضين منبسطة ليس بعضها فوق بعض يفرق بينها البحار، ويظل جميعها السماء، وروي ذلك عن ابن عباس فالنسبة بين أرض وأرض على هذا نحو نسبة أمريقيا إلى آسيا أو أوروبا أو أفريقيا لكن قيل: إن تلك البحار الفارقة لا يمكن قطعها.
وقيل: من الأقاليم السبعة وهي مختلفة الحرارة والبرودة والليل والنهار إلى أمور أخر، واختاره بعضهم ولا أظنه شيئا لأن المتبادر اعتبار انفصال أرض عن أرض انفصالا حقيقيا في المثلية، وقيل: المثلية في الخلق لا في العدد ولا في غيره فهي أرض واحدة مخلوقة كالسماوات السبع، وأيد بأن الأرض لم تذكر في القرآن إلا موحدة،
ورد بأنه قد صح من رواية البخاري وغيره «اللهم رب السماوات السبع وما أظللن ورب الأرضين السبع وما أقللن» الحديث
، وكذا
صح «من غصب قيد شبر من أرض طوقه من سبع أرضين»
وأصح الأقوال- كما قال القرطبي- قول الجمهور السابق، وعليه اختلف في مشاهدة أهل ما عدا هذه الأرض السماء واستمدادهم الضوء منها فقيل: إنهم يشاهدون السماء من كل جانب من أرضهم ويستمدون الضياء منها.
وقيل: إنهم لا يشاهدون السماء وأن الله عز وجل خلق لهم ضياء يشاهدونه، وروى الإمامية عن بعض الأئمة نحوا مما قاله الجمهور،
أخرج العياشي بإسناده عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا رضي الله تعالى عنه قال: بسط كفه اليسرى ثم وضع اليمنى عليها فقال: «هذه الأرض الدنيا والسماء الدنيا عليها قبة، والأرض الثانية فوق السماء الدنيا والسماء الثانية فوقها قبة، والأرض الثالثة فوق السماء الثانية والسماء الثالثة فوقها قبة حتى ذكر الرابعة والخامسة والسادسة فقال: والأرض السابعة فوق السماء السادسة والسماء السابعة فوقها قبة وعرش الرحمن فوق السماء السابعة، وهو قوله تعالى: سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ
إلخ.
وأنا أقول بنحو ما قاله الجمهور راجيا العصمة ممن على محور إرادته تدور أفلاك الأمور: هي سبع أرضين بين كل أرض وأرض منها مسافة عظيمة، وفي كل أرض خلق لا يعلم حقيقتهم إلا الله عز وجل ولهم ضياء يستضيئون به، ويجوز أن يكون عندهم ليل ونهار ولا يتعين أن يكون ضياؤهم من هذه الشمس ولا من هذا القمر، وقد غلب على ظن أكثر أهل الحكمة الجديدة أن القمر عالم كعالم أرضنا هذه وفيه جبال وبحار يزعمون أنهم يحسون بها بواسطة أرصادهم وهم مهتمون بالسعي في تحقيق الأمر فيه فليكن ما نقول به من الأرضين على هذا النحو، وقد قالوا أيضا:
إن هذه الشمس في عالم هي مركز دائرة وبلقيس مملكته بمعنى أن جميع ما فيه من كواكبهم السيارة تدور عليها فيه على وجه مخصوص ونمط مضبوط، وقد تقرب إليها فيه وتبعد عنها إلى غاية لا يعلمها إلا الله تعالى كواكب ذوات الأذناب، وهي عندهم كثيرة جدا تتحرك على شكل بيضي وأن الشمس بعالمها من توابع كوكب آخر تدور عليه دوران توابعها من السيارات عليها هو فيما نسمع أحد كواكب النجم، ولهم ظن في أن ذلك أيضا من توابع كوكب آخر وهكذا، وملك الله تعالى العظيم عظيم لا تكاد تحيط به منطقة الفكر ويضيق عنه نطاق الحصر، وسماء كل عالم كالقمر عندهم ما انتهى إليه هواؤه حتى صار ذلك الجرم في نحو خلاء فيه لا يعارضه ولا يضعف حركته شيء والجسم متى تحرك في خلاء لا يسكن لعدم المعارض فليكن كل أرض من هذه الأرضين محمولة بيد القدرة بين كل سماءين على نحو ما سمعت عن الرضا على آبائه وعليه السلام، وهناك ما يستضيء به أهلها سابحا في فلك بحر قدرة الله عز وجل ونسبة كل أرض إلى سمائها نسبة الحلقة إلى الفلاة وكذا نسبة السماء إلى السماء التي فوقها، ويمكن أن تكون الأرضون وكذا السماوات أكثر من سبع والاقتصار على العدد المذكور الذي هو عدد تام لا يستدعي نفي الزائد(14/339)
فقد صرحوا بأن العدد لا مفهوم له والسماء الدنيا منتهى دائرة يتحرك فيها أعلى كوكب من السيارات وبينها وبين هذه الأرض بعد بعيد.
وقوله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «خمسمائة عام» من باب التقريب للأفهام، ويقرب الأمر إذا اعتبر ذلك بالنسبة إلى الراكب المجد كما وقع في كثير من أخبار فيها تقدير مسافة، وقوله عليه الصلاة والسلام في السماء الدنيا: «موج مكفوف» يمكن أن يكون من التشبيه البليغ في اللطافة ونحوها أو هو على حقيقته والتنوين فيه للنوعية حتى يقوم الدليل العقلي الصحيح على امتناعها، وتزيين هذه السماء بالكواكب لظهورها فيها على ما يشاهد فلا يضر في ذلك كونها كلا أو بعضا فوقها أو تحتها، ولم يقم دليل على أن شيئا من الكواكب مغروز في شيء من السماوات كالفص في الخاتم والمسمار في اللوح، بل في بعض الأخبار ما يدل على خلافة، نعم أكثر الأخبار في أمر السماوات والأرض والكواكب لا يعول عليها كما أشار إليه النسفي في بحر الكلام، وكذا ما قاله قدماء أهل الهيئة ومحدثوهم، وفي كل مما ذهب الفريقان إليه ما يوافق أصولنا وما يخالفه وما شريعتنا ساكتة عنه لم تتعرض له بنفي أو إثبات، وحيث كان من أصولنا أنه متى عارض الدليل العقلي الدليل السمعي وجب تأويل الدليل السمعي للدليل العقلي لأنه أصله ولو أبطل به لزم بطلانه نفسه فالأمر سهل لأن باب التأويل أوسع من فلك الثوابت ولا أرى بأسا في ارتكاب تأويل بعض الظواهر المستبعدة بما لا يستبعد وإن لم يصل الاستبعاد إلى حد الامتناع إذ تضمن ذلك مصلحة دينية ولم يستلزم مصادمة معلوم من الدين بالضرورة، وقد يلتزم الإبقاء على الظاهر وتفويض الأمر إلى قدرة الله تعالى التي لا يتعاصاها شيء رعاية لأذهان العوام المقيدين بالظواهر الذين يعدون الخروج عنها لا سيما إلى ما يوافق الحكمة الجديدة ضلالا محضا وكفرا صرفا ورحم الله تعالى امرأ جب الغيبة عن نفسه.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن الضريس وابن جرير من طريق مجاهد عن ابن عباس في هذه الآية قال: لو حدثتكم بتفسيرها لكفرتم بتكذيبكم بها. وبالجملة من صدق بسعة ملك الله تعالى وعظيم قدرته عز وجل لا ينبغي أن يتوقف في وجود سبع أرضين على الوجه الذي قدمناه، ويحمل السبع على الأقاليم أو على الطبقات المعدنية والطينية ونحوهما مما تقدم، وليس في ذلك ما يصادم ضروريا من الدين أو يخالف قطعيا من أدلة المسلمين، ولعل القول بذلك التعدد هو المتبادر من الآية، وتقتضيه الأخبار، ومع هذا هو ليس من ضروريات الدين فلا يكفر منكره أو المتردد فيه لكن لا أرى ذلك إلا عن جهل بما هو الأليق بالقدرة والأخرى بالعظمة، والله تعالى الموفق للصواب.
يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ أي يجري أمر الله تعالى وقضاؤه وقدره عز وجل بينهن وينفذ ملكه فيهن وأخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة قال: في كل سماء وفي كل أرض خلق من خلقه تعالى وأمر من أمره وقضاء من قضائه عز وجل، وقيل: يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ بحياة وموت وغنى وفقر، وقيل: هو ما يدبره سبحانه فيهن من عجيب تدبيره جل شأنه، وقال مقاتل وغيره: الْأَمْرُ هنا الوحي، وبَيْنَهُنَّ إشارة إلى بين هذه الأرض التي هي أدناها وبين السماء السابعة، والأكثرون على أنه القضاء والقدر كما سبق، وأن بَيْنَهُنَّ إشارة إلى بين الأرض السفلى التي هي أقصاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها وقرأ عيسى وأبو عمرو في رواية «ينزّل» مضارع نزل مشددا «الأمر» بالنصب أي ينزل الله الأمر لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ متعلق- بخلق- أو- بيتنزل- أو بمضمر يعمهما أي فعل ذلك لتعلموا أن من قدر على ما ذكر قادر على كل شيء، وقيل: التقدير أخبرتكم أو أعلمتكم بذلك لتعلموا، وقرىء- ليعلموا- بياء الغيبة.
وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً لاستحالة صدور هذه الأفاعيل ممن ليس كذلك.(14/340)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
سورة التّحريم
ويقال لها: سورة المتحرم وسورة لم تحرم وسورة النبي صلّى الله عليه وسلم، عن ابن الزبير- سورة النساء- والمشهور أنها مدنية، وعن قتادة أن المدني منها إلى رأس العشر، والباقي مكي، وآيها اثنتا عشرة آية بالاتفاق، وهي متوخية مع التي قبلها في الافتتاح بخطاب النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم، وتلك مشتملة على طلاق النساء، وهذه على تحريم الإماء، وبينهما من الملابسة ما لا يخفى، ولما كانت تلك في خصام نساء الأمة ذكر في هذه خصومة نساء المصطفى صلّى الله تعالى عليه وسلم إعظاما لمنصبهن أن يذكرن مع سائر النسوة فأفردن بسورة خاصة ولذا ختمت بذكر زوجيه صلّى الله تعالى عليه وسلم في الجنة آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران قاله الجلال السيوطي عليه الرحمة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ
روى البخاري وابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه عن عائشة «أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلا فتواصيت أنا وحفصة إن أيتنا دخل عليها النبي صلّى الله عليه وسلم فلتقل إني أجد منك ريح مغافير أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما فقالت ذلك له، فقال: لا بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود»
وفي رواية(14/341)
«وقد حفلت فلا تخبري بذلك أحدا» فنزلت يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ
إلخ،
وفي رواية «قالت سودة: أكلت مغافير؟
قال: لا قالت: فما هذه الريح التي أجد منك؟ قال: سقتني حفصة شربة عسل، فقالت: جرست نحلة العرفط» فحرم العسل فنزلت
، وفي حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن عائشة شرب العسل في بيت حفصة، والقائلة سودة وصفية.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه قال الحافظ السيوطي: بسند صحيح عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم شرب من شراب عند سودة من العسل فدخل على عائشة فقالت:
إني أجد منك ريحا فدخل على حفصة فقالت: إني أجد منك ريحا فقال: أراه من شراب شربته عند سودة والله لا أشربه» فنزلت
،
وأخرج النسائي والحاكم وصححه وابن مردويه عن أنس أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم كانت له أمة يطؤها فلم تزل به عائشة وحفصة حتى جعلها على نفسه حراما فأنزل الله تعالى هذه الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ
إلخ، ويوافقه ما أخرجه البراز، والطبراني بسند حسن صحيح عن ابن عباس قال: نزلت يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ الآية في سريته.
والمشهور أنها مارية
وأنه عليه الصلاة والسلام وطئها في بيت حفصة في يومها فوجدت وعاتبته فقال صلّى الله تعالى عليه وسلم: ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها؟ قالت: بلى فحرمها
، وفي رواية أن ذلك كان في بيت حفصة في يوم عائشة،
وفي الكشاف روي أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم خلا بمارية في يوم عائشة وعلمت بذلك حفصة فقال لها: اكتمي عليّ وقد حرمت مارية على نفسي وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي فأخبرت عائشة وكانتا متصادقتين.
وبالجملة الأخبار متعارضة، وقد سمعت ما قيل فيها لكن قال الخفاجي: قال النووي في شرح مسلم: الصحيح أن الآية في قصة العسل لا في قصة مارية المروية في غير الصحيحين، ولم تأت قصة مارية في طريق صحيح ثم قال الخفاجي نقلا عنه أيضا: الصواب أن شرب العسل كان عند زينب رضي الله تعالى عنها، وقال الطيبي فيما نقلناه عن الكشاف: ما وجدته في الكتب المشهورة والله تعالى أعلم.
والمغافير: بفتح الميم والغين المعجمة وبياء بعد الفاء- على ما صوبه القاضي عياض- جمع مغفور بضم الميم شيء له رائحة كريهة ينضحه العرفط وهو شجر أو نبات له ورق عريض، وعن المطلع أن العرفط هو الصمغ، والمغفور شوك له نور يأكل منه النخل يظهر العرفط عليه، وكان صلّى الله تعالى عليه وسلم يحب الطيب جدا ويكره الرائحة الكريهة للطافة نفسه الشريفة ولأن الملك يأتيه وهو يكرهها فشق عليه صلّى الله تعالى عليه وسلم ما قيل فجرى ما جرى، وفي ندائه صلّى الله تعالى عليه وسلم- بيا أيها النبي- في مفتتح العتاب من حسن التلطف به والتنويه بشأنه عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى، ونظير ذلك قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: 43] والمراد بالتحريم الامتناع. وبما أحل الله العسل على ما صححه النووي رحمه الله تعالى، أو وطء سريته على ما في بعض الروايات، ووجه التعبير- بما- على هذين التفسيرين ظاهر.
وفسر بعضهم ما بمارية والتعبير عنها- بما- على ما هو الشائع في التعبير بها عن ملك اليمين، والنكتة فيه لا تخفى، وقوله تعالى: تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ حال من فاعل تُحَرِّمُ، واختاره أبو حيان فيكون هو محل العتاب على ما قيل، وكأن وجهه أن الكلام الذي فيه قيد المقصود فيه القيد إثباتا أو نفيا، أو يكون التقييد على نحو «أضعافا مضاعفة» على أن التحريم في نفسه محل عتب والباعث عليه كذلك كما في الكشف، أو استئناف(14/342)
نحوي أو بياني، وهو الأولى، ووجهه أن الاستفهام ليس على الحقيقة بل هو معاتبة على أن التحريم لم يكن عن باعث مرضي فاتجه أن يسأل ما ينكر منه وقد فعله غيري من الأنبياء عليهم السلام ألا ترى إلى قوله تعالى: إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ [آل عمران: 93] فقيل: تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ ومثلك من أجل أن تطلب مرضاتهن بمثل ذلك، وجوز أن يكون تفسيرا- لتحرم- بجعل ابتغاء مرضاتهن عين التحريم مبالغة في كونه سببا له، وفيه من تفخيم الأمر ما فيه، والإضافة في أَزْواجِكَ للجنس لا للاستغراق.
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيه تعظيم لشأنه صلّى الله تعالى عليه وسلم بأن ترك الأولى بالنسبة إلى مقامه السامي الكريم يعد كالذنب وإن لم يكن في نفسه كذلك، وأن عتابه صلّى الله تعالى عليه وسلم ليس إلا لمزيد الاعتناء به، وقد زل الزمخشري هاهنا كعادته فزعم أن ما وقع من تحريم الحلال المحظور لكنه غفر له عليه الصلاة والسلام، وقد شن ابن المنير في الانتصاف الغارة في التشنيع عليه فقال ما حاصله: إن ما أطلقه في حقه صلّى الله تعالى عليه وسلم تقول وافتراء والنبي عليه الصلاة والسلام منه براء، وذلك أن تحريم الحلال على وجهين: الأول اعتقاد ثبوت حكم التحريم فيه وهو كاعتقاد ثبوت حكم التحليل في الحرام محظور يوجب الكفر فلا يمكن صدوره من المعصوم أصلا، والثاني الامتناع من الحلال مطلقا أو مؤكدا باليمين مع اعتقاد حله وهذا مباح صرف وحلال محض، ولو كان ترك المباح والامتناع منه غير مباح لاستحالت حقيقة الحلال، وما وقع منه صلّى الله تعالى عليه وسلم كان من هذا النوع وإنما عاتبه الله تعالى عليه رفقا به وتنويها بقدره وإجلالا لمنصبه عليه الصلاة والسلام أن يراعي مرضاة أزواجه بما يشق عليه جريا على ما ألف من لطف الله تعالى به، وتأول بعضهم كلام الزمخشري، وفيه ما ينبو عن ذلك.
وقيل: نسبة التحريم إليه صلّى الله تعالى عليه وسلم مجاز، والمراد لم تكون سببا لتحريم الله تعالى عليك ما أحل لك بحلفك على تركه وهذا لا يحتاج إليه، وفي وقوع الحلف خلاف، ومن قال به احتج ببعض الاخبار، وبظاهر قوله تعالى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ أي قد شرع لكم تحليلها وهو حل ما عقدته الأيمان بالكفارة، فالتحلة مصدر حلل كتكرمة من كرم، وليس مصدرا مقيسا، والمقيس التحليل والتكريم لأن قياس فعل الصحيح العين غير المهموز هو التفعيل، وأصله تحللة فأدغم، وهو من الحل ضد العقد فكأنه باليمين على الشيء لالتزامه عقد عليه وبالكفارة يحل ذلك، ويحل أيضا بتصديق اليمين كما في
قوله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «لا يموت لرجل ثلاثة أولاد فتمسه النار إلا تحلة القسم»
يعني وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم: 71] إلخ، وتحليله بأقل ما يقع عليه الاسم كمن حلف أن ينزل يكفي فيه إلمام خفيف، فالكلام كناية عن التقليل أي قدر الاجتياز اليسير، وكذا يحل بالاستثناء أي بقول الحالف: إن شاء الله تعالى بشرطه المعروف في الفقه.
ويفهم من كلام الكشاف أن التحليل يكون بمعنى الاستثناء ومعناه كما في الكشف تعقيب اليمين عند الإطلاق بالاستثناء حتى لا تنعقد، ومنه حلا أبيت اللعن، وعلى القول بأنه كان منه عليه الصلاة والسلام يمين كما جاء في بعض الروايات وهو ظاهر الآية اختلف هل أعطى صلّى الله تعالى عليه وسلم الكفارة أم لا؟ فعن الحسن أنه عليه الصلاة والسلام لم يعط لأنه كان مغفورا له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وإنما هو تعليم للمؤمنين، وفيه أن غفران الذنب لا يصلح دليلا لأن ترتب الأحكام الدنيوية على فعله عليه الصلاة والسلام ليس من المؤاخذة على الذنب كيف وغير مسلم أنه ذنب، وعن مقاتل أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم أعتق رقبة في تحريم مارية، وقد نقل مالك في المدونة عن زيد بن أسلم أنه عليه الصلاة والسلام أعطى الكفارة في تحريمه أم ولده حيث حلف أن لا يقربها، ومثله عن الشعبي، واختلف العلماء في حكم قول الرجل لزوجته: أنت عليّ حرام أو الحلال عليّ حرام ولم يستثن زوجته فقيل: قال(14/343)
جماعة منهم مسروق وربيعة وأبو سلمة والشعبي وأصبغ: هو كتحريم الماء والطعام لا يلزمه شيء، وقال أبو بكر وعمر وزيد وابن مسعود وابن عباس وعائشة وابن المسيب وعطاء وطاوس وسليمان بن يسار وابن جبير وقتادة والحسن والاوزاعي وأبو ثور وجماعة: هو يمين يكفرها، وابن عباس أيضا في رواية، والشافعي في قول في أحد قوليه: فيه تكفير يمين وليس بيمين، وأبو حنيفة يرى تحريم الحلال يمينا في كل شيء، ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرمه فإذا حرم طعاما فقد حلف على عدم أكله أو أمة فعلى وطئها أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا لم تكن له نية فإن نوى الظهار فظهار وإن نوى الطلاق فطلاق بائن، وكذلك إن نوى اثنتين (1) وإن نوى ثلاثا فكما نوى، وإن قال: نويت الكذب دين بينه وبين الله تعالى، ولكن لا يدين في قضاء الحاكم بإبطال الإيلاء لأن اللفظ إنشاء في العرف، وقال جماعة: إن لم يرد شيئا فهو يمين، وفي التحرير قال أبو حنيفة وأصحابه: إن نوى الطلاق فواحدة بائنة أو اثنتين فواحدة أو ثلاثا فثلاث. أو لم ينو شيئا فمول. أو الظهار فظهار، وقال ابن القاسم: لا تنفعه نية الظهار ويكون طلاقا، وقال يحيى بن عمر: يكون كذلك فإن ارتجعها فلا يجوز له وطؤها حتى يكفر كفارة الظهار، ويقع ما أراد من إعداده فإن نوى واحدة فرجعية وهو قول للشافعي، وقال الأوزاعي وسفيان وأبو ثور: أي شيء نوى به من الطلاق وقع وإن لم ينو شيئا فقال سفيان: لا شيء عليه، وقال الاوزاعي وأبو ثور: تقع واحدة، وقال ابن جبير: عليه عتق رقبة وإن لم يكن ظهارا، وقال أبو قلابة وعثمان وأحمد وإسحاق: التحريم ظهار ففيه كفارته، وعن الشافعي إن نوى أنها محرمة كظهر أمه فظهار، أو تحريم عينها بغير طلاق، أو لم ينو فكفارة يمين، وقال مالك: يقع ثلاث في المدخول بها وما أراد من واحدة أو ثنتين. أو ثلاث في غير المدخول بها، وقال ابن أبي ليلى وعبد الملك ابن الماجشون: تقع ثلاث في الوجهين، وروى ابن خويزمنداد عن مالك، وقاله زيد وحماد بن أبي سليمان: تقع واحدة بائنة فيهما، وقال الزهري وعبد العزيز بن الماجشون: واحدة رجعية، وقال أبو مصعب ومحمد بن عبد الحكم: يقع في التي لم يدخل بها واحدة وفي المدخول بها ثلاث، وفي الكشاف لا يراه الشافعي يمينا ولكن سببا في الكفارة في النساء وحدهن، وأما الطلاق فرجعي عنده، وعن علي كرم الله تعالى وجهه ثلاث، وعن زيد واحدة بائنة، وعن عثمان ظهار، وأخرج البخاري ومسلم وابن ماجة والنسائي عن ابن عباس أنه قال: من حرم امرأته فليس بشيء.
وقرأ لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21] وللنسائي أنه أتاه رجل فقال: جعلت امرأتي عليّ حراما قال: كذبت ليست عليك بحرام ثم تلا هذه الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ عليك أغلظ الكفارة عتق رقبة إلى غير ذلك من الأقوال، وهي في هذه المسألة كثيرة جدا، وفي نقل الأقوال عن أصحابها اختلاف كثير أيضا، واحتج بما في هذه الآية من فرض تحليلها بالكفارة إن لم يستثن من رأى التحريم مطلقا، أو تحريم المرأة يمينا لأنه لو لم يكن يمينا لم يوجب الله تعالى فيه كفارة اليمين هنا.
وأجيب بأنه لا يلزم من وجوب الكفارة كونه يمينا لجواز اشتراك الأمرين المتغايرين في حكم واحد فيجوز أن تثبت الكفارة فيه لمعنى آخر، ولو سلم أن هذه الكفارة لا تكون إلا مع اليمين فيجوز أن يكون صلّى الله تعالى عليه وسلم أقسم مع التحريم فقال في مارية: «والله لا أطؤها» أو في العسل «والله لا أشربه» وقد رواه بعضهم فالكفارة لذلك اليمين لا للتحريم وحده، والله تعالى أعلم.
__________
(1) قوله: وكذلك إن نوى اثنتين، وقال بعض الحنفية: هذا عند أبي يوسف ومحمد، وعند أبي حنيفة لا يصح نية الثنتين وتقع واحدة اه طيبي اه منه.(14/344)
وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ سيدكم ومتولي أموركم وَهُوَ الْعَلِيمُ فيعلم ما يصلحكم فيشرعه سبحانه لكم الْحَكِيمُ المتقن أفعاله وأحكامه فلا يأمركم ولا ينهاكم إلا حسبما تقتضيه الحكمة وَإِذْ أَسَرَّ أي واذكر إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ هي حفصة على ما عليه عامة المفسرين، وزعم بعض الشيعة أنها عائشة وليس له في ذلك شيعة، نعم رواه ابن مردويه عن ابن عباس وهو شاذ حَدِيثاً هو
قوله عليه الصلاة والسلام على ما في بعض الروايات: «لكني كنت أشرب عسلا عند زينب ابنة جحش فلن أعود له وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا»
فَلَمَّا نَبَّأَتْ أي أخبرت.
وقرأ طلحة- أنبأت- بِهِ أي بالحديث عائشة لأنهما كانتا متصادقتين، وتضمن الحديث نقصان حظ ضرتهما زينب من حبيبهما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حيث إنه عليه الصلاة والسلام- كما في البخاري وغيره- كان يمكث عندها لشرب ذلك وقد اتخذ ذلك عادة- كما يشعر به لفظ- كان فاستخفها السرور فنبأت بذلك وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ أي جعل الله تعالى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ظاهرا على الحديث مطلعا عليه من قوله تعالى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة: 33، الفتح: 28، الصف: 9] والكلام على ما قيل: على التجوز، أو تقدير مضاف أي على إفشائه، وجوز كون الضمير لمصدر نَبَّأَتْ وفيه تفكيك الضمائر، أو جعل الله تعالى الحديث ظاهرا على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فهو نظير ظهر لي هذه المسألة وظهرت علي إذا كان فيه مزيد كلفة واهتمام بشأن الظاهر فلا تغفل عَرَّفَ أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حفصة بَعْضَهُ أي الحديث أي أعلمها وأخبرها ببعض الحديث الذي أفشته.
والمراد أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال لها: قلت كذا لبعض ما أسره إليها قيل: هو
قوله لها: «كنت شربت عسلا عند زينب ابنة جحش فلن أعود»
وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ هو على ما قيل
قوله عليه الصلاة والسلام: «وقد حلفت»
فلم يخبرها به تكرما لما فيه من مزيد خجلتها حيث إنه يفيد مزيد اهتمامه صلى الله تعالى عليه وسلم بمرضاة أزواجه وهو لا يحب شيوع ذلك، وهذا من مزيد كرمه صلى الله تعالى عليه وسلم.
وقد أخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه ما استقصى كريم قط،
وقال سفيان: ما زال التغافل من فعل الكرام، وقال الشاعر:
ليس الغبيّ بسيد في قومه ... لكنّ سيد قومه المتغابي
وجوز أن يكون عَرَّفَ بمعنى جاز أي جازاها على بعض بالعتب واللوم أو بتطليقه عليه الصلاة والسلام إياها، وتجاوز عن بعض، وأيد بقراءة السلمي والحسن وقتادة وطلحة والكسائي وأبي عمرو في رواية هارون عنه عرف بالتخفيف لأنه على هذه القراءة لا يحتمل معنى العلم لأن العلم تعلق به كله بدليل قوله تعالى: أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مع أن الإعراض عن الباقي يدل على العلم فتعين أن يكون بمعنى المجازاة.
قال الأزهري في التهذيب: من قرأ «عرف» بالتخفيف أراد معنى غضب وجازى عليه كما تقول للرجل يسيء إليك: والله لأعرفن لك ذلك، واستحسنه الفراء، وقول القاموس: هو بمعنى الإقرار لا وجه له هاهنا، وجعل المشدد من باب إطلاق المسبب على السبب والمخفف بالعكس، ويجوز أن تكون العلاقة بين المجازاة والتعريف اللزوم، وأيد المعنى الأول بقوله تعالى: فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ لتعرف هل فضحتها عائشة أم لا؟ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ الذي لا تخفى عليه خافية فإنه أوفق للإعلام، وهذا على ما في البحر على معنى بهذا، وقرأ ابن المسيب وعكرمة- عراف بعضه- بألف بعد الراء وهي إشباع، وقال ابن خالويه: ويقال: إنها لغة يمانية.(14/345)
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن أبي حاتم عن مجاهد أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أسر إلى حفصة تحريم مارية وأن أبا بكر وعمر يليان الناس بعده فأسرت ذلك إلى عائشة فعرف بعضه وهو أمر مارية وأعرض عن بعض وهو أن أبا بكر وعمر يليان بعده مخافة أن يفشو، وقيل: بالعكس، وقد جاء إسرار أمر الخلافة في عدة أخبار
فقد أخرج ابن عدي وأبو نعيم في فضائل الصدّيق، وابن مردويه من طريق عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس قالا: إن إمارة أبي بكر وعمر لفي كتاب الله وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً قال لحفصة: «أبوك وأبو عائشة واليا الناس بعدي فإياك أن تخبري أحدا» .
وأخرج أبو نعيم في فضائل الصحابة عن الضحاك أنه قال: في الآية أسر صلى الله تعالى عليه وسلم إلى حفصة أن الخليفة من بعده أبو بكر ومن بعد أبي بكر عمر، وأخرج ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران نحوه، وفي مجمع البيان للطبرسي من أجل الشيعة عن الزجاج قال: لما حرم عليه الصلاة والسلام مارية القبطية أخبر أنه يملك من بعده أبو بكر وعمر فعرفها بعض ما أفشت من الخبر وأعرض عن بعض أن أبا بكر وعمر يملكان من بعدي، وقريب من ذلك ما رواه العياشي بالإسناد عن عبد الله بن عطاء المكي عن أبي جعفر الباقر رضي الله تعالى عنه إلا أنه زاد في ذلك أن كل واحدة منهما حدثت أباها بذلك فعاتبهما في أمر مارية وما أفشتا عليه من ذلك، وأعرض أن يعاتبهما في الأمر الآخر انتهى.
وإذا سلم الشيعة صحة هذا لزمهم أن يقولوا بصحة خلافة الشيخين لظهوره فيها كما لا يخفى، ثم إن تفسير الآية على هذه الأخبار أظهر من تفسيرها على حديث العسل لكن حديثه أصح، والجمع بين الاخبار مما لا يكاد يتأتى.
وقصارى ما يمكن أن يقال: يحتمل أن يكون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قد شرب عسلا عند زينب كما هو عادته، وجاء إلى حفصة فقالت له ما قالت فحرم العسل، واتفق له عليه الصلاة والسلام قبيل ذلك أو بعيده أن وطئ جاريته مارية في بيتها في يومها على فراشها فوجدت فحرم صلى الله تعالى عليه وسلم مارية، وقال لحفصة ما قال تطييبا لخاطرها واستكتمها ذلك فكان منها ما كان، ونزلت الآية بعد القصتين فاقتصر بعض الرواة على إحداهما.
والبعض الآخر على نقل الأخرى، وقال كل: فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إلخ، وهو كلام صادق إذ ليس فيه دعوى كل حصر علة النزول فيما نقله فإن صح هذا هان أمر الاختلاف وإلا فاطلب لك غيره، والله تعالى أعلم.
واستدل بالآية على أنه لا بأس بإسرار بعض الحديث إلى من يركن إليه من زوجة أو صديق، وأنه يلزمه كتمه، وفيها على ما قيل: دلالة على أنه يحسن حسن العشرة مع الزوجات والتلطف في العتب والإعراض عن استقصاء الذنب، وقد روي أن عبد الله بن رواحة- وكان من النقباء- كانت له جارية فاتهمته زوجته ليلة، فقال قولا بالتعريض، فقالت: إن كنت لم تقربها فاقرأ القرآن فأنشد:
شهدت فلم أكذب بأن محمدا ... رسول الذي فوق السماوات من عل
وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما ... له عمل في دينه متقبل
وأن التي بالجزع من بطن نخلة ... ومن دانها كل عن الخير معزل
فقالت: زدني، فأنشد:
وفينا رسول الله يتلو كتابه ... كما لاح معروف من الصبح ساطع
أتى بالهدى بعد العمى فنفوسنا ... به موقنات أن ما قال واقع(14/346)
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا رقدت بالكافرين المضاجع
فقالت: زدني، فأنشد:
شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا
وأن محمدا يدعو بحق ... وأن الله مولى المؤمنينا
وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا
ويحمله ملائكة شداد ... ملائكة الإله مسومينا
فقالت: أما إذ قرأت القرآن فقد صدقتك،
وفي رواية أنها قالت- وقد كانت رأته على ما تكره- إذن صدق الله وكذب بصري، فأخبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فتبسم، وقال: «خيركم خيركم لنسائه»
إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ خطاب لحفصة وعائشة رضي الله تعالى عنهما على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب للمبالغة في المعاتبة فإن المبالغ في العتاب يصير المعاتب أولا بعيدا عن ساحة الحضور، ثم إذا اشتد غضبه توجه إليه وعاتبه بما يريد، وكون الخطاب لهما لما أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن حبان وغيره عن ابن عباس قال: لم أزل حريصا أن أسأل عمر رضي الله تعالى عنه عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اللتين قال الله تعالى: إِنْ تَتُوبا إلخ حتى حج عمر وحججت معه فلما كان ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالإداوة فنزل ثم إني صببت على يديه فتوضأ فقلت: يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اللتان قال الله تعالى: إِنْ تَتُوبا إلخ؟ فقال: وا عجبا لك يا ابن عباس هما عائشة وحفصة ثم أنشأ يحدثني الحديث الحديث بطوله، ومعنى قوله تعالى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما مالت عن الواجب من مخالفته صلى الله تعالى عليه وسلم بحب ما يحبه وكراهة ما يكرهه إلى مخالفته، والجملة قائمة مقام جواب الشرط بعد حذفه. والتقدير إن تتوبا فلتوبتكما موجب وسبب فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما أو فحق لكما ذلك فقد صدر ما يقتضيها وهو على معنى فقد ظهر أن ذلك حق كما قيل في قوله:
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة من أنه بتأويل تبين أني لم تلدني لئيمة، وجعلها ابن الحاجب جوابا من حيث الإعلام كما قيل في: إن تكرمني اليوم فقد أكرمتك أمس، وقيل: الجواب محذوف تقديره يمح إثمكما، وقوله تعالى: فَقَدْ صَغَتْ إلخ بيان لسبب التوبة، وقيل: التقدير فقد أديتما ما يجب عليكما أو أتيتما بما يحق لكما، وما ذكر دليل على ذلك قيل: وإنما لم يفسروا فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما بمالت إلى الواجب أو الحق أو الخبر حتى يصح جعله جوابا من غير احتياج إلى نحو ما تقدم لأن صيغة الماضي- وقد- وقراءة ابن مسعود- فقد زاغت قلوبكما- وتكثير المعنى مع تقليل اللفظ تقتضي ما سلف، وتعقب بأنه إنما يتمشى على ما ذهب إليه ابن مالك من أن الجواب يكون ماضيا وإن لم يكن لفظ كان، فيه نظر، والجمع في قُلُوبُكُما دون التثنية لكراهة اجتماع تثنيتين مع ظهور المراد وهو في مثل ذلك أكثر استعمالا من التثنية والإفراد، قال أبو حيان: لا يجوز عند أصحابنا إلا في الشعر كقوله:
حمامة بطن الواديين ترنمي وغلط رحمه الله تعالى ابن مالك في قوله في التسهيل: ويختار لفظ الإفراد على لفظ التثنية وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ بحذف إحدى التاءين وتخفيف الظاء، وهي قراءة عاصم ونافع في رواية، وطلحة والحسن وأبي رجاء، وقرأ الجمهور- تظاهرا- بتشديد الظاء، وأصله تتظاهرا فأدغمت التاء في الظاء، وبالأصل قرأ عكرمة، وقرأ أبو عمرو في(14/347)
رواية أخرى- تظهرا- بتشديد الظاء والهاء دون ألف، والمعنى فإن تتعاونا عليه صلى الله تعالى عليه وسلم بما يسوؤه من الإفراط في الغيرة وإفشاء سره.
فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ أي ناصره والوقف على ما في البحر وغيره هنا أحسن، وجعلوا قوله تعالى: وَجِبْرِيلُ مبتدأ، وقوله سبحانه: وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ معطوفا عليه، وقوله عز وجل: بَعْدَ ذلِكَ أي بعد نصرة الله تعالى متعلقا بقوله جل شأنه: ظَهِيرٌ وجعلوه الخبر عن الجميع، وهو بمعنى الجمع أي مظاهرون، واختير الإفراد لجعلهم كشيء واحد، وجوز أن يكون خبرا عن جِبْرِيلُ وخبره ما بعده مقدر نظير ما قالوا في قوله:
ومن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريب
وجوز أن يكون الوقف على جِبْرِيلُ أي وَجِبْرِيلُ مولاه وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ مبتدأ، وما بعده معطوف عليه، والخبر ظَهِيرٌ، وظاهر كلام الكشاف اختيار الوقف على الْمُؤْمِنِينَ فظهير خبر الملائكة، وعليه غالب مختصريه، وظاهر كلامهم التقدير لكل من جبريل وصالح المؤمنين خبرا وهو إما لفظ مولى مرادا به مع كل معنى من معانيه المناسبة أي وَجِبْرِيلُ مولاه أي قرينه وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ مولاه أي تابعه، أو لفظ آخر بذلك المعنى المناسب وهو قرينه في الأول وتابعه في تابعه، ولا مانع من أن يكون المولى في الجمع بمعنى الناصر كما لا يخفى، وزيادة هُوَ على ما في الكشاف للإيذان بأن نصرته تعالى عزيمة من عزائمه وأنه عز وجل متولي ذلك بذاته تعالى، وهو تصريح بأن الضمير ليس من الفصل في شيء، وأنه للتقوي لا للحصر، والحصر أكثري في المعرفتين على ما نقله في الإيضاح، وإن كان كلام السكاكي موهما الوجوب وهذا والمبالغة محققة على ما نص عليه سيبويه وحقق في الأصول، وأما الحصر فليس من مقتضى اللفظ فلا يرد أن الأولى أن يكون وَجِبْرِيلُ وما بعده مخبرا عنه- بظهير- وإن سلم فلا ينافيه لأن نصرتهم نصرته تعالى فليس من الممتنع على نحو زيد المنطلق وعمرو، كذا في الكشف، ووجه تخصيص جبريل عليه السلام بالذكر مزيد فضله بل هو رأس الكروبيين، والمراد بالصالح عند كثير الجنس الشامل للقليل والكثير، وأريد به الجمع هنا، ومثله قولك: كنت في السامر والحاضر، ولذا عم بالإضافة، وجوز أن يكون اللفظ جميعا، وكان القياس أن يكتب- وصالحوا- بالواو إلا أنها حذفت خطا تبعا لحذفها لفظا، وقد جاءت أشياء في المصحف تبع فيها حكم اللفظ دون وضع الخط نحو- وَيَدْعُ الْإِنْسانُ [الإسراء: 11] ويَدْعُ الدَّاعِ [القمر: 6] وسَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [العلق: 18] وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ [ص:
21]- إلى غير ذلك، وذهب غير واحد إلى أن الإضافة للعهد فقيل: المراد به الأنبياء عليهم السلام.
وروي عن ابن زيد وقتادة والعلاء بن زياد، ومظاهرتهم له قيل: تضمن كلامهم ذم المتظاهرين على نبي من الأنبياء عليهم السلام وفيه من الخفاء ما فيه وقيل: علي كرم الله تعالى وجهه، وأخرجه ابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس،
وأخرج ابن مردويه عن أسماء بنت عميس قالت، سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ علي بن أبي طالب
وروى الإمامية عن أبي جعفر أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حين نزلت أخذ بيد علي كرم الله تعالى وجهه فقال: يا أيها الناس هذا صالح المؤمنين.
وأخرج ابن عساكر عن الحسن البصري أنه قال: هو عمر بن الخطاب، وأخرج هو وجماعة عن سعيد بن جبير قال: وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ نزل في عمر بن الخطاب خاصة، وأخرج ابن عساكر عن مقاتل بن سليمان أنه قال:
وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ أبو بكر وعمر وعلي رضي الله تعالى عنهم، وقيل: الخلفاء الأربعة.
وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن ابن عمر وابن عباس قالا: نزلت وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ في أبي(14/348)
بكر وعمر، وذهب إلى تفسيره بهما عكرمة وميمون بن مهران وغيرهما،
وأخرج الحاكم عن أبي أمامة والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في فضائل الصحابة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ أبو بكر وعمر
، وأخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كان أبي يقرؤها وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ أبو بكر وعمر، ورجح إرادة ذلك بأنه اللائق بتوسيطه بين جبريل والملائكة عليهم السلام فإنه جمع بين الظهير المعنوي والظهير الصوري كيف لا وإن جبريل عليه السلام ظهير له صلّى الله عليه وسلم يؤيده بالتأييدات الإلهية وهما وزيراه وظهيراه في تدبير أمور الرسالة وتمشية أحكامها الظاهرة مع أن بيان مظاهرتهما له عليه السلام أشد تأثيرا في قلوب بنتيهما وتوهينا لأمرهما.
وأنا أقول العموم أولى، وهما- وكذا علي كرم الله تعالى وجهه- يدخلان دخولا أوليا، والتنصيص على بعض في الأخبار المرفوعة إذا صحت لنكتة اقتضت ذلك لا لإرادة الحصر، ويؤيد ذلك ما
أخرجه ابن عساكر عن ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال في ذلك: من صالح المؤمنين أبو بكر وعمر
، وفائدة بَعْدَ ذلِكَ التنبيه على أن نصرة الملائكة عليهم السلام أقوى وجوه نصرته عز وجل وإن تنوعت، ثم لا خفاء في أن نصرة جميع الملائكة- وفيهم جبريل- أقوى من نصرة جبريل عليه السلام وحده.
وقيل: الإشارة إلى مظاهرة صالح المؤمنين خاصة فالتعظيم بالنسبة إليها، وفي التنبيه على هذا دفع توهم ما يوهمه الترتيب الذكري من أعظمية مظاهرة المتقدم، وبالجملة فائدة بَعْدَ ذلِكَ نحو فائدة- ثم- في قوله تعالى:
ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وهو التفاوت الرتبي أي أعظمية رتبة ما بعدها بالنسبة إلى ما قبلها وهذا لا يتسنى على ما نقل عن البحر بل ذلك للإشارة إلى تبعية المذكورين في النصرة والإعانة عز وجل، وأيا ما كان فإن شرطية- وتظاهرا- فعل الشرط، والجملة المقرونة بالفاء دليل الجواب، وسبب أقيم مقامه، والأصل فإن تَظاهَرا عليه فلن يعدم من يظاهره فإن الله مولاه، وجوز أن تكون هي بنفسها الجواب على أنها مجاز أو كناية عن ذلك، وأعظم جل جلاله شأن النصرة لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم على هاتين الضعيفتين إما للإشارة إلى عظم مكر النساء أو للمبالغة في قطع حبال طمعهما لعظم مكانتهما عند رسول الله عليه الصلاة والسلام وعند المؤمنين ولأمومتهما لهم وكرامة له صلّى الله عليه وسلم ورعاية لأبويهما في أن تظاهرهما يجديهما نفعا.
وقيل: المراد المبالغة في توهين أمر تظاهرهما ودفع ما عسى أن يتوهمه المنافقون من ضرره في أمر النبوة والتبليغ وقهر أعداء الدين لما أن العادة قاضية باشتغال بال الرجل بسبب تظاهر أزواجه عليه، وفيه أيضا مزيد إغاظة للمنافقين وحسم لأطماعهم الفارغة فكأنه قيل: فإن تظاهرا عليه لا يضر ذلك في أمره فإن الله تعالى هو مولاه وناصره في أمر دينه وسائر شؤونه على كل من يتصدى لما يكرهه وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ مظاهرون له ومعينون إياه كذلك، ويلائم هذا ترك ذكر المعان عليه حيث لم يقل ظهير له عليكما مثلا، وكذا ترك ذكر المعان فيه وتخصيص- صالح المؤمنين- بالذكر، وتقوى هذه الملاءمة على ما روي عن ابن جبير من تفسير- صالح المؤمنين- بمن برىء من النفاق فتأمل.
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أي أن يعطيه عليه الصلاة والسلام بدلكن أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ والخطاب لجميع زوجاته صلى الله تعالى عليه وسلم أمهات المؤمنين على سبيل الالتفات، وخوطبن لأنهن في مهبط الوحي وساحة العز والحضور، ويرشد إلى هذا ما أخرجه البخاري عن أنس قال: قال عمر: اجتمع نساء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في الغيرة عليه فقلت: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ خَيْراً مِنْكُنَّ فنزلت هذه الآية وليس فيها(14/349)
أنه عليه الصلاة والسلام لم يطلق حفصة وأن في النساء خيرا منهن مع أن المذهب على ما قيل: إنه ليس على وجه الأرض خير منهن لأن تعليق طلاق الكل لا ينافي تطليق واحدة والمعلق بما لم يقع لا يجب وقوعه، وجوز أن يكون الخطاب للجميع على التغليب، وأصل الخطاب لاثنتين منهن وهما المخاطبتان أولا بقوله تعالى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما إلخ فكأنه قيل: عسى ربه إن طلقكما وغيركما أن يبدله خيرا منكما ومن غيركما من الأزواج، والظاهر أن عدم دلالة الآية على أنه عليه الصلاة والسلام لم يطلق حفصة وأن في النساء خيرا من أزواجه صلى الله تعالى عليه وسلم على حاله لأن التعليق على طلاق الاثنتين ولم يقع فلا يجب وقوع المعلق ولا ينافي تطليق واحدة، وقال الخفاجي والتغليب في خطاب الكل مع أن المخاطب أولا اثنتان، وفي لفظة إِنْ الشرطية أيضا الدالة على عدم وقوع الطلاق.
وقد روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم طلق حفصة فغلب ما لم يقع من الطلاق على الواقع وعلى التعميم لا تغليب في الخطاب ولا في إِنْ انتهى، وفيه بحث، ثم إن المشهور أن عَسى في كلامه تعالى للوجوب، وأن الوجوب هنا إنما هو بعد تحقق الشرط، وقيل: هي كذلك إلا هنا، والشرط معترض بين اسم عَسى وخبرها.
والجواب محذوف أي إن طلقكن فعسى إلخ، وأَزْواجاً مفعول ثان- ليبدل- وخَيْراً صفته وكذا ما بعد، وقرأ أبو عمرو في رواية عياش «طلقكن» بإدغام القاف في الكاف.
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير «يبدّله» بالتشديد للتكثير مُسْلِماتٍ مقرات مُؤْمِناتٍ مخلصات لأنه يعتبر في الإيمان تصديق القلب، وهو لا يكون إلا مخلصا، أو منقادات على أن الإسلام بمعناه اللغوي مصدقات قانِتاتٍ مصليات أو مواظبات على الطاعة مطلقا تائِباتٍ مقلعات عن الذنب عابِداتٍ متعبدات أو متذللات لأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سائِحاتٍ صائمات كما قال ابن عباس وأبو هريرة وقتادة والضحاك والحسن وابن جبير وزيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن، وروي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، قال الفراء: وسمي الصائم سائحا لان السائح لا زاد معه. وإنما يأكل من حيث يجد الطعام، وعن زيد بن أسلم ويمان مهاجرات، وقال ابن زيد: ليس في الإسلام سياحة إلا الهجرة، وقيل: ذاهبات في طاعة الله تعالى أي مذهب.
وقرأ عمرو بن فائد «سيحات» ثَيِّباتٍ جمع ثيب من ثاب يثوب ثوبا، وزنه فيعل كسيد وهي التي تثوب أي ترجع عن الزوج أي بعد زوال عذرتها وَأَبْكاراً جمع بكر من بكر إذا خرج بكرة وهي أول النهار، وفيها معنى التقدم سميت بها التي لم تفتض اعتبارا بالثيب لتقدمها عليها فيما يراد له النساء، وترك العطف في الصفات السابقة لأنها صفات تجتمع في شيء واحد وبينها شدة اتصال يقتضي ترك العطف ووسط العاطف هنا للدلالة على تغاير الصفتين وعدم اجتماعهما في ذات واحدة، ولم يؤت- بأو- قيل: ليكون المعنى أزواجا بعضهن ثيبات وبعضهن أبكار، وقريب منه ما قيل: وسط العاطف بين الصفتين لأنهما في حكم صفة واحدة إذ المعنى مشتملات على الثيبات والأبكار فتدبر، وفي الانتصاف لابن المنير ذكر لي الشيخ ابن الحاجب أن القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني الكاتب كان يعتقد أن الواو في الآية هي الواو التي سماها بعض ضعفة النحاة واو الثمانية لأنها ذكرت مع الصفة الثامنة، وكان الفاضل يتبجح باستخراجها زائدة على المواضع الثلاثة المشهورة قبله: أحدها في التوبة التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ إلى قوله سبحانه: وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة: 112] ، والثاني في قوله تعالى: وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف: 22] ، والثالث في قوله تعالى: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: 73] إلى أن ذكر ذلك يوما بحضرة أبي الجود النحوي المقرئ فبين له أنه واهم في عدها من ذلك القبيل، وأحال على المعنى الذي ذكره الزمخشري من(14/350)
دعاء الضرورة إلى الإتيان بها هاهنا لامتناع اجتماع الصفتين في موصوف واحد وواو الثمانية إن ثبتت فإنما ترد بحيث لا حاجة إليها إلا الإشعار بتمام نهاية العدد الذي هو السبعة فأنصفه الفاضل واستحسن ذلك منه، وقال: أرشدتنا يا أبا الجود انتهى.
وذكر الجنسان لأن في أزواجه صلّى الله تعالى عليه وسلم من تزوجها ثيبا وفيهن من تزوجها بكرا، وجاء أنه عليه الصلاة والسلام لم يتزوج بكرا إلا عائشة رضي الله تعالى عنها وكانت تفتخر بذلك على صواحباتها، وردت عليها الزهراء على أبيها وعليها الصلاة والسلام بتعليم النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم إياها حين افتخرت على أمها خديجة رضي الله تعالى عنها بقولها: إن أمي تزوج بها رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وهو بكر لم يره أحد من النساء غيرها ولا كذلك أنتن فسكتت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً أي نوعا من النار وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ تتقد بهما اتقاد غيرها بالحطب، ووقاية النفس عن النار بترك المعاصي وفعل الطاعات، ووقاية الأهل بحملهم على ذلك بالنصح والتأديب،
وروي أن عمر قال حين نزلت: يا رسول الله نقي أنفسنا فكيف لنا بأهلينا؟
فقال عليه الصلاة والسلام: تنهوهن عما نهاكم الله عنه وتأمروهن بما أمركم الله به فيكون ذلك وقاية بينهن وبين النار» .
وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في الآية: علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدبوهم
، والمراد بالأهل على ما قيل: ما يشمل الزوجة والولد والعبد والأمة.
واستدل بها على أنه يجب على الرجل تعلم ما يجب من الفرائض وتعليمه لهؤلاء، وأدخل بعضهم الأولاد في الأنفس لأن الولد بعض من أبيه،
وفي الحديث «رحم الله رجلا قال: يا أهلاه صلاتكم صيامكم زكاتكم مسكنكم يتيمكم جيرانكم لعل الله يجمعكم معه في الجنة»
، وقيل: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة من جهل أهله.
وقرىء- وأهلوكم- بالواو وهو عطف على الضمير في قُوا وحسن العطف للفصل بالمفعول، والتقدير عند بعض وليق أهلوكم أنفسهم ولم يرتضه الزمخشري، وذكر ما حاصله أن الأصل قُوا أنتم وأهلوكم أنفسكم وأنفسهم بأن يقي ويحفظ كل منكم ومنهم نفسه عما يوبقها، فقدم أنفسكم، وجعل الضمير المضاف إليه الأنفس مشتملا على الأهلين تغليبا فشملهم الخطاب، وكذا اعتبر التغليب في قُوا، وفيه تقليل للحذف وإيثار العطف المفرد الذي هو الأصل والتغليب الذي نكتته الدلالة على الأصالة والتبعية.
وقرأ الحسن ومجاهد «وقودها» بضم الواو أي ذو وقودها، وتمام الكلام في هذه الآية يعلم مما مر في سورة البقرة عَلَيْها مَلائِكَةٌ أي أنهم موكلون عليها يلون أمرها وتعذيب أهلها وهم الزبانية التسعة عشر قيل: وأعوانهم غِلاظٌ شِدادٌ غلاظ الأقوال شداد الأفعال، أو غلاظ الخلق شداد الخلق أقوياء على الأفعال الشديدة، أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن أبي عمران الجوني قال: بلغنا أن خزنة النار تسعة عشر ما بين منكبي أحدهم مسيرة مائة خريف ليس في قلوبهم رحمة إنما خلقوا للعذاب يضرب الملك منهم الرجل من أهل النار الضربة فيتركه طحنا من لدن قرنه إلى قدمه لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ صفة أخرى- لملائكة- وما في محل النصب على البدل أي لا يعصون ما أمر الله أي ما أمره تعالى كقوله تعالى: أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [طه: 93] أو على إسقاط الجار أي لا يعصون فيما أمرهم به وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ أي الذي يأمرهم عز وجل به، والجملة الأولى لنفي المعاندة والاستكبار عنهم صلوات الله تعالى عليهم فيه كقوله تعالى: لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ [الأعراف: 206] ، والثانية لإثبات الكياسة لهم ونفي الكسل عنهم فهي كقوله تعالى: وَلا يَسْتَحْسِرُونَ إلى لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:
19، 20] ، وبعبارة أخرى إن الأولى لبيان القبول باطنا فإن العصيان أصله المنع والإباء، وعصيان الأمر صفة الباطن(14/351)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
بالحقيقة لأن الإتيان بالمأمور إنما يعدّ طاعة إذا كان بقصد الامتثال فاذا نفي العصيان عنهم دل على قبولهم وعدم إبائهم باطنا، والثانية لأداء المأمور به من غير تثاقل وتوان على ما يشعر به الاستمرار المستفاد من يَفْعَلُونَ فلا تكرار، وفي الحصول لا يَعْصُونَ فيما مضى على أن المضارع لحكاية الحال الماضية وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ في الآتي.
وجوز أن يكون ذلك من باب الطرد والعكس وهو كل كلامين يقرر الأول بمنطوقه مفهوم الثاني وبالعكس مبالغة في أنهم لا تأخذهم رأفة في تنفيذ أوامر الله عز وجل والغضب له سبحانه.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ مقول لقول قد حذف ثقة بدلالة الحال عليه يقال لهم ذلك عند إدخال الملائكة إياهم النار حسبما أمروا به، فتعريف اليوم للعهد ونهيهم عن الاعتذار لأنهم لا عذر لهم أو لأن العذر لا ينفعهم إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا من الكفر والمعاصي بعد ما نهيتم عنهما أشد النهي وأمرتم بالإيمان والطاعة على أتم وجه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ من الذنوب.
تَوْبَةً نَصُوحاً أي بالغة في النصح فهو من أمثلة المبالغة كضروب وصفت التوبة به على الإسناد المجازي وهو وصف التائبين، وهو أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم فيأتوا بها على طريقها، ولعله ما نضمنه ما
أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس قال: «قال معاذ بن جبل: يا رسول الله ما التوبة النصوح؟ قال: أن يندم العبد على الذنب الذي أصاب فيعتذر إلى الله تعالى ثم لا يعود إليه كما لا يعود اللبن إلى الضرع»
وروي تفسيرها بما ذكر عن عمر وابن مسعود وأبي والحسن ومجاهد وغيرهم، وقيل: نصوحا من نصاحة الثوب أي خياطته أي توبة ترفو خروقك في دينك وترم خللك، وقيل: خالصته من قولهم: عسل ناصح إذا خلص من الشمع، وجوز أن يراد توبة تنصح الناس أي تدعوهم إلى مثلها لظهور أثرها في صاحبها، واستعمال الجد والعزيمة في العمل بمقتضياتها، وفي المراد بها أقوال كثيرة أوصلها بعضهم إلى نيف وعشرين قولا: منها ما سمعت.
وقرأ زيد بن علي- توبا- بغير تاء، وقرأ الحسن والأعرج وعيسى وأبو بكر عن عاصم وخارجة عن نافع «نصوحا»(14/352)
بضم النون وهو مصدر نصح فإن النصح والنصوح كالشكر والشكور والكفر والكفور أي ذات نصح أو تنصح نصوحا أو توبوا لنصح أنفسكم على أنه مفعول له.
هذا والكلام في التوبة كثير وحيث كانت أهم الأوامر الإسلامية وأول المقامات الإيمانية ومبدأ طريق السالكين ومفتاح باب الواصلين لا بأس في ذكر شيء مما يتعلق بها فنقول: هي لغة الرجوع، وشرعا وصفا لنا على ما قال السعد: الندم على المعصية لكونها معصية لأن الندم عليها بإضرارها بالبدن أو إخلالها بالعرض أو المال مثلا لا يكون توبة، وأما الندم لخوف النار أو للطمع في الجنة ففي كونه توبة تردد. ومبناه على أن ذلك هل يكون ندما عليها لقبحها ولكونها معصية أم لا؟ وكذا الندم عليها لقبحها مع غرض آخر، والحق أن جهة القبح إن كانت بحيث لو انفردت لتحقق الندم فتوبة وإلا فلا كما إذا كان الغرض مجموع الأمرين لا كل واحد منهما. وكذا في التوبة عند مرض مخوف بناء على أن ذلك الندم هل يكون لقبح المعصية بل للخوف، وظاهر الإخبار قبول التوبة ما لم تظهر علامات الموت ويتحقق أمره عادة، ومعنى الندم تحزن وتوجع على أن فعل وتمني كونه لم يفعل ولا بد من هذا للقطع بأن مجرد الترك كالماجن إذا مل مجونه فاستروح إلى بعض المباحات ليس بتوبة،
ولقوله عليه الصلاة والسلام: «الندم توبة»
وقد يزاد قيد العزم على ترك المعاودة.
واعترض بأن فعل المعصية في المستقبل قد لا يخطر بالبال لذهول أو جنون أو نحوه، وقد لا يقدر عليه لعارض آفة كخرس في القذف مثلا أو جب في الزنا فلا يتصور العزم على الترك لما فيه من الاشعار بالقدرة والاختيار.
وأجيب بأن المراد العزم على الترك على تقدير الخطور والاقتداء حتى لو سلب القدرة لم يشترط العزم على الترك، وبذلك يشعر كلام إمام الحرمين حيث قال: إن العزم على ترك المعاودة إنما يقارن بالتوبة في بعض الأحوال ولا يطرد في كل حال إذ العزم إنما يصح ممن يتمكن من مثل ما قدمه، ولا يصح من المجبوب العزم على ترك الزنا. ومن الأخرس العزم على ترك القذف، وقال بعض الأجلة: التحقيق أن ذكر العزم إنما هو للبيان والتقرير لا للتقييد والاحتراز إذ النادم على المعصية لقبحها لا يخلو عن ذلك العزم البتة على تقدير الخطور والاقتدار، وعلامة الندم طول الحسرة والخوف وانسكاب الدمع، ومن الغريب ما قيل: إن علامة صدق الندم عن ذنب كالزنا أن لا يرى في المنام أنه يفعله اختيارا إذ يشعر ذلك ببقاء حبه إياه وعدم انقلاع أصوله من قلبه بالكلية وهو ينافي صدق الندم، وقال المعتزلة: يكفي في التوبة أن يعتقد أنه أساء وأنه لو أمكنه رد تلك المعصية لردها ولا حاجة إلى الأسف والحزن لإفضائه إلى التكليف بما لا يطاق.
وقال الإمام النووي: التوبة ما استجمعت ثلاثة أمور: أن يقلع عن المعصية وأن يندم على فعلها وأن يعزم عزما جازما على أن لا يعود إلى مثلها أبدا فإن كانت تتعلق بآدمي لزم رد الظلامة إلى صاحبها أو وارثه أو تحصيل البراءة منه، وركنها الأعظم الندم.
وفي شرح المقاصد قالوا: إن كانت المعصية في خالص حق الله تعالى فقد يكفي الندم كما في ارتكاب الفرار من الزحف وترك الأمر بالمعروف، وقد تفتقر إلى أمر زائد كتسليم النفس للحد في الشرب وتسليم ما وجب في ترك الزكاة، ومثله في ترك الصلاة وإن تعلقت بحقوق العباد لزم مع الندم، والعزم إيصال حق العبد أو بدله إليه إن كان الذنب ظلما كما في الغصب والقتل العمد، ولزم إرشاده إن كان الذنب إضلالا له، والاعتذار إليه إن كان إيذاء كما في الغيبة إذا بلغته ولا يلزم تفصيل ما اغتابه به إلا إذا بلغه على وجه أفحش، والتحقيق أن هذا الزائد واجب آخر خارج عن التوبة- على ما قاله إمام الحرمين- من أن القاتل إذا ندم من غير تسليم نفسه للقصاص صحت توبته في حق الله تعالى(14/353)
وكان منعه القصاص من مستحقه معصية متجددة تستدعي توبة ولا يقدح في التوبة عن القتل، ثم قال: وربما لا تصح التوبة بدون الخروج من حق العبد كما في الغصب ففرق بين القتل والغصب، ووجهه لا يخفى على المتأمل، ولم يختلف أهل السنة وغيرهم في وجوب التوبة على أرباب الكبائر، واختلف في الدليل، فعندنا السمع كهذه الآية وغيرها وحمل الأمر فيها على الرخصة والإيذان بقولها ودفع القنوط- كما جوزه الآمدي- احتمالا وبني عليه عدم الإثابة عليها مما لا يكاد يقبل، وعند المعتزلة العقل، وأوجبت الجهمية التوبة عن الصغائر سمعا لا عقلا، وأهل السنة على ذلك، ومقتضى كلام النووي والمازري وغيرهما وجوبها حال التلبس بالمعصية، وعبارة المازري اتفقوا على أن التوبة من جميع المعاصي واجبة، وأنها واجبة على الفور، ولا يجوز تأخيرها سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة.
وفي شرح الجوهرة أن التمادي على الذنب بتأخير التوبة منه معصية واحدة ما لم يعتقد معاودته، وصرحت المعتزلة بأنها واجبة على الفور حتى يلزم بتأخيرها ساعة إثم آخر تجب التوبة عنه وساعتين إثمان وهلم جرا، بل ذكروا أن بتأخير التوبة عن الكبيرة ساعة واحدة يكون له كبيرتان: المعصية وترك التوبة، وساعتين أربع: الأوليان وترك التوبة على كل منهما، وثلاث ساعات ثمان وهكذا، وتصح عن ذنب دون ذنب لتحقق الندم والعزم على عدم العود، وخالف أبو هاشم محتجا بأن الندم على المعصية يجب أن يكون لقبحها وهو شامل لها كلها فلا يتحقق الندم على قبيح مع الإصرار على آخر.
وأجيب بأن الشامل للكل هو القبح لا خصوص قبح تلك المعصية وهذا الخلاف في غير الكافر إذا أسلم وتاب من كفره مع استدامته بعض المعاصي أما هو فتوبته صحيحة وإسلامه كذلك بالإجماع ولا يعاقب إلا عقوبة تلك المعصية، نعم اختلف في أن مجرد إيمانه هل يعدّ توبة أم لا بد من الندم على سالف كفره؟ فعند الجمهور مجرد إيمانه توبة، وقال الإمام والقرطبي: لا بد من الندم على سالف الكفر وعدم اشتراط العمل الصالح مجمع عليه عند الأئمة خلافا لابن حزم، وكذا تصح التوبة عن المعاصي إجمالا من غير تعيين المتوب عنه ولو لم يشق عليه تعيينه، وخالف بعض المالكية فقال: إنما تصح إجمالا مما علم إجمالا، وأما ما علم تفصيلا فلا بد من التوبة منه تفصيلا ولا تنتقص التوبة الشرعية بالعود فلا تعود عليه ذنوبه التي تاب منها بل العود والنقض معصية أخرى يجب عليه أن يتوب منها.
وقالت المعتزلة: من شروط صحتها أن لا يعاود الذنب فإن عاوده انتقصت توبته وعادت ذنوبه لأن الندم المعتبر فيها لا يتحقق إلا بالاستمرار، ووافقهم القاضي أبو بكر والجمهور على أن استدامة الندم غير واجبة بل الشرط أن لا يطرأ عليه ما ينافيه ويدفعه لأنه حينئذ دائم حكما كالإيمان حال النوم، ويلزم من اشتراط الاستدامة مزيد الحرج والمشقة، وقال الآمدي: يلزم أيضا اختلال الصلوات وسائر العبادات، ويلزم أيضا أن لا يكون بتقدير عدم استدامة الندم وتذكره تائبا، وأن يجب عليه إعادة التوبة وهو خلاف الإجماع، نعم اختلف العلماء فيمن تذكر المعصية بعد التوبة منها، هل يجب عليه أن يجدد الندم؟ وإليه ذهب القاضي منا وأبو علي من المعتزلة زعما منهما أنه لو لم يندم كلما ذكرها لكان مشتهيا لها فرحا بها، وذلك إبطال للندم ورجوع إلى الإصرار، والجواب المنع إذ ربما يضرب عنها صفحا من غير ندم عليها ولا اشتهاء لها وابتهاج بها ولو كان الأمر كما ذكر للزم أن لا تكون التوبة السابقة صحيحة، وقد قال القاضي نفسه: إنه إذا لم يجدد ندما كان ذلك معصية جديدة يجب الندم عليها والتوبة الأولى مضت على صحتها إذ العبادة الماضية لا ينقضها شيء بعد ثبوتها انتهى.
وبعدم وجوب التجديد عند ذكر المعصية صرح إمام الحرمين، ويفهم من كلامهم أن محل الخلاف إذا لم(14/354)
يبتهج عند ذكر الذنب به ويفرح ويتلذذ بذكره أو سماعه، والا وجب التجديد اتفاقا، وظاهر كلامهم أن المعاودة غير مبطلة ولو كانت في مجلس التوبة بل ولو تكررت تكرارا يلتحق بالتلاعب، وفي هذا الأخير نظر فقد قال القاضي عياض: إن الواقع في حق الله تعالى بما هو كفر تنفعه توبته مع شديد العقاب ليكون ذلك زجرا له ولمثله إلا من تكرر ذلك منه وعرف استهانته بما أتى فهو دليل على سوء طويته وكذب توبته انتهى.
وينبغي عليه أن يقيد ذلك بأن تكثر كثرة تشعر بالاستهانة وتدخل صاحبها في دائرة الجنون، واختلف في صحة التوبة المؤقتة بلا إصرار كأن لا يلابس الذنوب أو ذنب كذا سنة فقيل: تصح، وقيل: لا، وفي شرح الجوهرة قياس صحتها من بعض الذنوب دون بعض صحتها فيما ذكر، ثم إن للتوبة مراتب من أعلاها ما
روي عن يعسوب المؤمنين كرم الله تعالى وجهه أنه سمع أعرابيا يقول: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك فقال: يا هذا إن سرعة اللسان بالتوبة توبة الكذابين، فقال الاعرابي: ما التوبة؟ قال كرم الله تعالى وجهه: يجمعها ستة أشياء: على الماضي من الذنوب الندامة، وللفرائض الإعادة ورد المظالم واستحلال الخصوم وأن تعزم على أن لا تعود وأن تذيب نفسك في طاعة الله كما ربيتها في المعصية وأن تذيقها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعاصي
، وأريد بإعادة الفرائض أن يقضي منها ما وقع في زمان معصيته كشارب الخمر يعيد صلاته قبل التوبة لمخامرته للنجاسة غالبا، وهذه توبة نحو الخواص فلا مستند في هذا الأثر لابن حزم وأضرابه كما لا يخفى، ثم إنه تعالى بين فائدة التوبة بقوله سبحانه: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ قيل: المراد أنه عز وجل يفعل ذلك لكن جيء بصيغة الإطماع للجري على عادة الملوك فإنهم إذا أرادوا فعلا قالوا: عَسى أن نفعل كذا، والإشعار بأن ذلك تفضل منه سبحانه والتوبة غير موجبة له. وأن العبد ينبغي أن يكون بين خوف ورجاء وإن بالغ في إقامة وظائف العبادة، واستدل بالآية على عدم وجوب قبول التوبة لأن التكفير أثر القبول، وقد جيء معه بصيغة الإطماع دون القطع، وهذه المسألة خلافية فذهب المعتزلة إلى أنه يجب على الله تعالى قبولها عقلا وأتوا في ذلك بمقدمات مزخرفات، وقال إمام الحرمين والقاضي أبو بكر: يجب قبولها سمعا ووعدا لكن بدليل ظني إذ لم يثبت في ذلك نص قاطع لا يحتمل التأويل، وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري: بل بدليل قطعي ومحل النزاع بين الأشعري وتلميذيه ما عدا توبة الكافر أما هي فالإجماع على قبولها قطعا بالسمع لوجود النص المتواتر بذلك كقوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [الأنفال: 38] بخلاف ما جاء في توبة غيره فإنه ظاهر، وليس بنص في غفران ذنوب المسلم بالتوبة كقوله تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: 53] ، وأما حديث- التوبة تجب ما قبلها- فليس بمتواتر ولأنه إذا قطع بقبول توبة الكافر كان ذلك فتحا لباب الإيمان وسوقا إليه، وإذا لم يقطع بتوبة المؤمن كان ذلك سدا لباب العصيان ومنعا منه، وهذا- وما قبله- ذكرهما القاضي لما قيل له: إن الدلائل مع الشيخ أبي الحسن: وقال ابن عطية: إن جمهور أهل السنة على قول القاضي، والدليل على ذلك دعاء كل أحد من التائبين بقبول توبته ولو كان مقطوعا به لما كان للدعاء معنى، ومثل ذلك وجوب الشكر على القبول فإنه لو كان واجبا لما وجب الشكر عليه.
وتعقب ذلك السعد بأنه ربما يدفع بأن المسئول في الدعاء هو استجماعها لشرائط القبول فإن الأمر فيه خطير، ووجوب القبول لا ينافي وجوب الشكر لكونه إحسانا في نفسه كتربية الوالد ولده وقال الإمام النووي: لا يجب على الله تعالى قبول التوبة إذا وجدت بشروطها عند أهل السنة لكنه سبحانه يقبلها كرما منه وتفضلا، وعرفنا قبولها بالشرع والإجماع فلا تغفل، وقرىء «يدخلكم» بسكون اللام، وخرجه أبو حيان على أن يكون حذف الحركة تخفيفا وتشبيها(14/355)
لما هو في كلمتين بالكلمة الواحدة فإنه يقال في قمع: قمع. وفي نطع، نطع وقال: إنه أولى من كونه للعطف على محل عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ، واختاره الزمخشري كأنه قيل: توبوا يرج تكفير أو يوجب تكفير سيئاتكم ويدخلكم يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ ظرف- ليدخلكم- وتعريف النَّبِيَّ للعهد، والمراد به سيد الأنبياء محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم، والمراد بنفي الإخزاء إثبات أنواع الكرامة والعز.
وفي القاموس يقال: أخزى الله تعالى فلانا فضحه، وقال الراغب: يقال: خزي الرجل لحقه انكسار إما من نفسه وهو الحياء المفرط ومصدره الخزاية. وإما من غيره وهو ضرب من الاستخفاف، ومصدره الخزي، ويَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ هو من الخزي أقرب، ويجوز أن يكون منهما جميعا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ عطف عليه الصلاة والسلام، وفيه تعريض بمن أخزاهم الله تعالى من أهل الكفر والفسوق، واستحماد على المؤمنين على أن عصمهم من مثل حالهم، والمراد بالإيمان هنا فرده الكامل على ما ذكره الخفاجي، وقوله تعالى: نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ أي على الصراط كما قيل، ومر الكلام فيه جملة مستأنفة، وكذا قوله سبحانه: يَقُولُونَ إلخ، وجوز أن تكون الجملتان في موضع الحال من الموصول، وأن تكون الأولى حالا منه. والثانية حالا من الضمير في يَسْعى، وأن تكون الأولى مستأنفة. والثانية من الضمير، وأن تكون الأولى حالا من الموصول. والثاني مستأنفة أو حالا من الضمير، وجوز أن يكون الموصول مبتدأ خبره معه، والجملتان خبران آخران أو مستأنفتان أو حالان من الموصول، أو الأولى حال منه والثانية حال من الضمير، أو الأولى مستأنفة والثانية حال من الضمير، أو الأولى حال والثانية مستأنفة، أو الأولى خبر بعد خبر والثانية حال من الضمير أو مستأنفة، وجوز أن يكون الموصول مبتدأ خبره قوله تعالى: نُورُهُمْ يَسْعى إلخ، والجملة الأخرى مستأنفة أو حال أو خبر بعد خبر فهذه عدة احتمالات لا يخفى ما هو الأظهر منها.
والقول على ما روي عن ابن عباس والحسن: يكون إذا طفىء نور المنافقين أي يقولون إذا طفىء نور المنافقين رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وفي رواية أخرى عن الحسن يدعون تقربا إلى الله تعالى مع تمام نورهم، وقيل: يقول ذلك من يمر على الصراط زحفا وحبوا.
وقيل: من يعطي من النور بقدر ما يبصر به موضع قدمه، ويعلم منه عدم تعين حمل الإيمان على فرده الكامل كما سمعت عن الخفاجي، وقرأ سهل بن شعيب السهمي وأبو حيوة «وبإيمانهم» بكسر الهمزة على أنه مصدر معطوف على الظرف أي كائنا بين أيديهم وكائنا بسبب إيمانهم يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ بالسيف وَالْمُنافِقِينَ بالحجة وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ واستعمل الخشونة على الفريقين فيما تجاهدهم به إذا بلغ الرفق مداه.
وعن الحسن أكثر ما كان يصيب الحدود في ذلك الزمان المنافقين فأمر عليه الصلاة والسلام أن يغلظ عليهم في إقامة الحدود،
وحكى الطبرسي عن الباقر أنه قرأ- جاهد الكفار بالمنافقين
- وأظن ذلك من كذب الإمامية عاملهم الله تعالى بعدله وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ أي وسيرون فيها عذابا غليظا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي جهنم أو مأواهم، والعطف قيل: من عطف القصة على القصة ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا ضرب المثل في مثل هذا الموقع عبارة عن إيراد حالة غريبة لتعرف بها حالة أخرى مشاكلة لها في الغرابة أي جعل الله تعالى مثلا لحال الكفرة حالا ومآلا على أن مثلا مفعول ثان لضرب واللام متعلقة به، وقوله تعالى: امْرَأَتَ نُوحٍ واسمها قيل: والعة وَامْرَأَتَ لُوطٍ واسمها قيل:
واهلة، وقيل: والهة، وعن مقاتل اسم امرأة نوح والهة. واسم امرأة لوط والعة مفعوله الأول، وأخر عنه ليتصل به ما هو شرح وتفسير لحالهما، ويتضح بذلك حال الكفرة، والمراد ضرب الله تعالى مثلا لحال أولئك حال امْرَأَتَ إلخ،(14/356)
فقوله تعالى: كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ بيانا لحالهما الداعية لهما إلى الخير والصلاح، ولم يقل:
تحتهما للتعظيم أي كانتا في عصمة نبيين عظيمي الشأن متمكنتين من تحصيل خير الدنيا والآخرة، وحيازة سعادتهما، وقوله تعالى: فَخانَتاهُما بيان لما صدر عنهما من الخيانة العظيمة مع تحقق ما ينافيها من مرافقة النبي عليه الصلاة والسلام، أما خيانة امرأة نوح عليه السلام فكانت تقول للناس: إنه مجنون، وأما خيانة امرأة لوط فكانت تدل على الضيف رواه جمع وصححه الحاكم عن ابن عباس.
وأخرج ابن عدي والبيهقي في شعب الإيمان، وابن عساكر عن الضحاك أنه قال: خيانتهما النميمة، وتمامه في رواية: كانتا إذا أوحى الله تعالى بشيء أفشتاه للمشركين، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال:
خيانتهما أنها كانتا كافرتين مخالفتين، وقيل: كانتا منافقتين، والخيانة والنفاق قال الراغب: واحد إلا أن الخيانة تقال اعتبارا بالعهد والأمانة، والنفاق يقال اعتبارا بالدين ثم يتداخلان، فالخيانة مخالفة الحق بنقص العهد في السر ونقيضها الأمانة، وحمل ما في الآية على هذا، ولا تفسر هاهنا بالفجور لما أخرج غير واحد عن ابن عباس «ما زنت امرأة نبي قط» ورفعه اشرس إلى النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم، وفي الكشاف لا يجوز أن يراد بها الفجور لأنه سمج في الطبع نقيصة عند كل أحد بخلاف الكفر فإن الكفر لا يستسمجونه ويسمونه حقا.
ونقل ابن عطية عن بعض تفسيرها بالكفر والزنا وغيره، ولعمري لا يكاد يقول بذلك إلا ابن زنا، فالحق عندي أن عهر الزوجات كعهر الأمهات من المنفرات التي قال السعد: إن الحق منعها في الحق الأنبياء عليهم السلام، وما ينسب للشيعة مما يخالف ذلك في حق سيد الأنبياء صلّى الله تعالى عليه وسلم كذب عليهم فلا تعول عليه وإن كان شائعا، وفي هذا على ما قيل: تصوير لحال المرأتين المحاكية لحال الكفرة في خيانتهم لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم بالكفر والعصيان مع تمكنهم التام من الإيمان والطاعة، وقوله تعالى: فَلَمْ يُغْنِيا إلخ بيان لما أدى إليه خيانتهما أي فلم يغن ذانك العبدان الصالحان والنبيان العظيمان عَنْهُما بحق الزواج مِنَ اللَّهِ أي من عذابه عز وجل شَيْئاً أي شيئا من الإغناء، أو شيئا من العذاب.
وَقِيلَ لهما عند موتهما أو يوم القيامة، وعبر بالماضي لتحقق الوقوع ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ أي مع سائر الداخلين من الكفرة الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء عليهم السلام.
وذكر غير واحد أن المقصود الإشارة إلى أن الكفرة يعاقبون بكفرهم ولا يراعون بما بينهم وبين النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم من الوصلة، وفيه تعريض لأمهات المؤمنين وتخويف لهنّ بأنه لا يفيدهن إن أتين بما حظر عليهن كونهن تحت نكاح النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وليس في ذلك ما يدل على أن فيهن كافرة أو منافقة كما زعمه يوسف الأوالي من متأخري الإمامية سبحانك هذا بهتان عظيم.
وقرأ مبشر بن عبيد «تغنيا» بالتاء المثناة من فوق، وعَنْهُما عليه بتقدير عن نفسهما قال أبو حيان: ولا بد من هذا المضاف إلا أن يجعل- عن- اسما كهي في: دع عنك لأنها إن كانت حرفا كان في ذلك تعدية الفعل الرافع للضمير المتصل إلى ضميره المجرور وهو يجري مجرى الضمير المنصوب وذلك لا يجوز، وفيه بحث وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ أي جعل حالها مثلا لحال المؤمنين في أن وصلة الكفرة لا تضرهم حيث كانت في الدنيا تحت أعدى أعداء الله عز وجل وهي في أعلى غرف الجنة واسمها آسية بنت مزاحم، وقوله تعالى: إِذْ قالَتْ ظرف لمحذوف أي وضرب الله مثلا للذين آمنوا حال امرأة فرعون إذ قالت رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ قيل: أي قريبا من(14/357)
رحمتك لتنزهه سبحانه عن المكان.
وجوز في عِنْدَكَ كونه حالا من ضمير المتكلم وكونه حالا من قوله تعالى: بَيْتاً لتقدمه عليه وكان صفة لو تأخر، وقوله تعالى: فِي الْجَنَّةِ بدل أو عطف بيان لقوله تعالى: عِنْدَكَ أو متعلق بقوله تعالى: ابْنِ وقدم عِنْدَكَ لنكتة، وهي كما في الفصوص الإشارة إلى قولهم: الجار قبل الدار، وجوز أن يكون المراد- بعندك- أعلى درجات المقربين لأن ما عند الله تعالى خير، ولأن المراد القرب من العرش، وعِنْدَكَ بمعنى عند عرشك ومقر عزك وهو على ما قيل: على الاحتمالات في إعرابه ولا يلزم كونه ظرفا للفعل وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ أي من نفس فرعون الخبيثة وسلطانه الغشوم وَعَمَلِهِ أي وخصوصا من عمله وهو الكفر وعبادة غير الله تعالى والتعذيب بغير جرم إلى غير ذلك من القبائح والكلام على أسلوب مَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ [البقرة: 98] . وجوز أن يكون المراد نَجِّنِي من عمل فرعون فهو من أسلوب أعجبني زيد وكرمه، والأول أبلغ لدلالته على طلب البعد من نفسه الخبيثة كأنه بجوهره عذاب ودمار يطلب الخلاص منه، ثم طلب النجاة من عمله ثانيا تنبيها على أنه الطامة العظمى، وخص بعضهم عمله بتعذيبه، وعن ابن عباس أنه الجماع، وما تقدم أولى وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ من القبط التابعين له في الظلم قاله مقاتل، وقال الكلبي: من أهل مصر: وكأنه أراد بهم القبط أيضا، والآية ظاهرة في أنها كانت مؤمنة مصدقة بالبعث، وذكر بعضهم أنها عمة موسى عليه السلام آمنت حين سمعت بتلقف العصا الإفك فعذبها فرعون.
وأخرج أبو يعلى والبيهقي بسند صحيح عن أبي هريرة أن فرعون وتد لامرأته أربعة أوتاد في يديها ورجليها فكانت إذا تفرقوا عنها أظلتها الملائكة عليهم السلام فقالت: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ فكشف لها عن بيتها في الجنة وهو على ما قيل: من درة، وفي رواية عبد بن حميد عنه أنه وتد لها أربعة أوتاد وأضجعها على ظهرها وجعل على صدرها رحى واستقبل بها عين الشمس فرفعت رأسها إلى السماء فقالت رَبِّ ابْنِ لِي إلى الظَّالِمِينَ ففرج الله تعالى عن بيتها في الجنة فرأته، وقيل: أمر بأن تلقى عليها صخرة عظيمة فدعت الله تعالى فرقى بروحها فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه، وعن الحسن فنجاها الله تعالى أكرم نجاة فرفعها إلى الجنة فهي تأكل وتشرب وتتنعم فيها، وظاهره أنها رفعت بجسدها وهو لا يصح.
وفي الآية دليل على أن الاستعاذة بالله تعالى والالتجاء إليه عز وجل ومسألة الخلاص منه تعالى عند المحن والنوازل من سير الصالحين وسنن الأنبياء، وهو في القرآن كثير، وقوله تعالى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ عطف على امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ أي وضرب مثلا للذين آمنوا حالتها وما أوتيت من كرامة الدنيا والآخرة والاصطفاء مع كون أكثر قومها كفارا، وجمع في التمثيل بين من لها زوج ومن لا زوج لها تسلية للأرامل وتطييبا لقلوبهن على ما قيل، وهو من بدع التفاسير كما في الكشاف، وقرأ السختياني- ابنه- بسكون الهاء وصلا أجراه مجرى الوقف الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها صانته ومنعته من الرجال، وقيل: منعته عن دنس المعصية.
والفرج ما بين الرجلين وكني به عن السوءة وكثر حتى صار كالصريح، ومنه ما هنا عند الأكثرين فَنَفَخْنا فِيهِ النافخ رسوله تعالى وهو جبريل عليه السلام فالإسناد مجازي، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي فنفخ(14/358)
رسولنا، وضمير فِيهِ للفرج، واشتهر أن جبريل عليه السلام نفخ في جيبها فوصل أثر ذلك إلى الفرج.
وروي ذلك عن قتادة، وقال الفراء: ذكر المفسرون أن الفرج جيب درعها وهو محتمل لأن الفرج معناه في اللغة كل فرجة بين الشيئين، وموضع جيب درع المرأة مشقوق فهو فرج، وهذا أبلغ في الثناء عليها لأنها إذا منعت جيب درعها فهي للنفس أمنع، وفي مجمع البيان عن الفراء أن المراد منعت جيب درعها عن جبريل عليه السلام، وكان ذلك على ما قيل: قولها إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
[مريم: 18] وأفاد كلام البعض أن أحصنت فرجها على ما نقل أولا عن الفراء كناية عن العفة نحو قولهم: هو نقي الجيب طاهر الذيل.
وجوز في ضمير فِيهِ رجوعه إلى الحمل، وهو عيسى عليه السلام المشعر به الكلام، وقرأ عبد الله- فيها- كما في الأنبياء، فالضمير لمريم، والإضافة في قولها تعالى: مِنْ رُوحِنا للتشريف، والمراد من روح خلقناه بلا توسط أصل، وقيل: لأدنى ملابسة وليس بذاك وَصَدَّقَتْ آمنت بِكَلِماتِ رَبِّها بصحفه عز وجل المنزلة على إدريس عليه السلام وغيره، وسماها سبحانه كلمات لقصرها وَكُتُبِهِ بجميع كتبه والمراد به ما عدا الصحف مما في طول، أو التوراة والإنجيل والزبور، وعد المصحف من ذلك وإيمانها به ولم يكن منزلا بعد كالإيمان بالنبي الموعود عليه الصلاة والسلام فقد كان صلّى الله تعالى عليه وسلم مذكورا بكتابه في الكتب الثلاث، وتفسير الكلمات والكتب بذلك هو ما اختاره جمع، وجوز غير واحد أن يراد بالكلمات ما أوحاه الله تعالى إلى أنبيائه عليهم السلام، وبالكتب ما عرف فيها مما يشمل الصحف وغيرها، وقيل: جميع ما كتب مما يشمل اللوح وغيره، وأن يراد بالكلمات وعده تعالى ووعيده أو ذلك وأمره عز وجل ونهيه سبحانه، وبالكتب أحد الأوجه السابقة، وإرادة كلامه تعالى القديم القائم بذاته سبحانه من الكلمات بعيد جدا، وقرأ يعقوب وأبو مجلز وقتادة عصمة عن عاصم «صدقت» بالتخفيف، ويرجع إلى معنى المشدد وفي البحر أي كانت صادقة بما أخبرت به من أمر عيسى وما أظهره الله تعالى لها من الكرامات وفيه قصور لا يخفى.
وقرأ الحسن ومجاهد والجحدري- بكلمة- على التوحيد فاحتمل أن يكون اسم جنس، وأن يكون عبارة عن كلمة التوحيد، وأن يكون عبارة عن عيسى عليه السلام فقد أطلق عليه السلام أنه كلمة الله ألقاها إلى مريم، وقد مر شرح ذلك، وقرأ غير واحد من السبعة- وكتابه- على الإفراد فاحتمل أن يراد به الجنس وأن يراد به الإنجيل لا سيما إن فسرت الكلمة بعيسى عليه السلام، وقرأ أبو رجاء «وكتبه» بسكون التاء على ما قال ابن عطية، وبه وبفتح الكاف على أنه مصدر أقيم الاسم على ما قال صاحب اللوامح.
وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ أي من عداد المواظبين على الطاعة- فمن- للتبعيض، والتذكير للتغليب، والإشعار بأن طاعتها لم تقصر عن طاعة الرجال حتى عدت من جملتهم فهو أبلغ من قولنا: وكانت من القانتات، أو قانتة، وقيل:
مِنْ لابتداء الغاية، والمراد كانت من نسل القانتين لأنها من أعقاب هارون أخي موسى عليهما السلام، ومدحها بذلك لما أن الغالب أن الفرع تابع لأصله وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً [الأعراف: 58] وهي على ما في بعض الأخبار سيدة النساء ومن أكملهن، روى أحمد في مسنده: سيدة نساء أهل الجنة مريم ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية ثم عائشة، وفي الصحيح كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع: آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ومريم ابنة عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام وخص الثريد- وهو خبز يجعل في مرق وعليه لحم-(14/359)
كما قيل:
إذا ما الخبز تأدمه بلحم ... فذاك أمانة الله الثريد
لا اللحم فقط كما قيل لأن العرب لا يؤثرون عليه شيئا حتى سموه بحبوحة الجنة، والسر فيه على ما قال الطيبي: إن الثريد مع اللحم جامع بين الغذاء واللذة والقوة وسهولة التناول وقلة المئونة في المضغ وسرعة المرور في المريء فضرب به مثلا ليؤذن بأنها رضي الله تعالى عنها أعطيت مع حسن الخلق حلاوة المنطق وفصاحة اللهجة وجودة القريحة ورزانة الرأي ورصانة العقل والتحبب للبعل فهي تصلح للبعل والتحدث والاستئناس بها والإصغاء إليها، وحسبك أنها عقلت من النبي صلّى الله عليه وسلم ما لم يعقل غيرها من النساء وروت ما لم يرو مثلها من الرجال، وعلى مزيد فضلها في هذه السورة الكريمة من عتابها وعتاب صاحبتها حفصة رضي الله تعالى عنهما ما لا يخفى، ثم لا يخفى أن فاطمة رضي الله تعالى عنها من حيث البضعية لا يعد لها في الفضل أحد، وتمام الكلام في ذلك في محله.
وجاء في بعض الآثار أن مريم وآسية زوجا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم في الجنة
، أخرج الطبراني عن سعد بن جنادة قال: قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «إن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران وامرأة فرعون وأخت موسى عليه السلام»
وزعم نبوتها كزعم نبوة غيرهما من النساء كهاجر وسارة غير صحيح لاشتراط الذكورة في النبوة على الصحيح خلافا للأشعري، وقد نبه على هذا الزعم العلامة ابن قاسم في الآيات البينات وهو غريب فليحفظ، والله تعالى أعلم.(14/360)
سورة الملك
وتسمى تبارك والمانعة والمنجية والمجادلة، فقد أخرج الطبراني عن ابن مسعود قال: كنا نسميها على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم المانعة.
وأخرج الترمذي وغيره عن ابن عباس قال: ضرب بعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها فأتى النبي صلّى الله عليه وسلم فأخبره فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر»
وأخرج الطبراني والحاكم وابن مردويه وعبد بن حميد في مسنده واللفظ له عن ابن عباس أنه قال لرجل: ألا أتحفك بحديث تفرح به؟
قال: بلى قال اقرأ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك: 1] وعلمها أهلك وجميع ولدك وصبيان بيتك وجيرانك فإنها المنجية والمجادلة يوم القيامة عند ربها لقارئها وتطلب له أن تنجيه من عذاب النار وينجو بها صاحبها من عذاب القبر الخبر.
وفي جمال القراء تسمى أيضا الواقية المناعة وهي مكية على الأصح. وقيل غير ثلاث آيات منها وأخرج ابن جويبر في تفسيره عن الضحاك عن ابن عباس، وفي قول غريب إنها مدنية وآيها إحدى ثلاثون آية في المكي والمدني الأخير وثلاثون في الباقي وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا ما يرجحه.
ووجه مناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ضرب مثلا للكفار بتينك المرأتين المحتوم لهما بالشقاوة وإن كانتا تحت نبيين عظيمين ومثلا للمؤمنين بآسية ومريم وهما محتوم لهما بالسعادة وإن أكثر قومهما كفار، افتتح هذه بما يدل على إحاطته عز وجل وقهره وتصرفه في ملكه على ما سبق به قضاؤه. وقيل إن أول هذه متصل بقوله تعالى آخر الطلاق اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ [الطلاق: 12] لما فيه من مزيد البسط لما يتعلق بذلك وفصل بسورة التحريم لأنها كالقطعة من سورة الطلاق والتتمة لها، وقد جاء في فضلها أخبار كثيرة منها ما مر آنفا ومنها ما
أخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم وصححه وغيرهم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له»
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ومنها ما
جاء في حديث رواه الطبراني وابن مردويه بسند جيد عن ابن مسعود وآخر رواه عنه جماعة وصححه الحاكم: «من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطيب»
وأخرج ابن مردويه عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ الم تَنْزِيلُ السجدة وتَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ كل ليلة لا يدعهما سفر ولا حضر
، ولهذا ونحوه قيل يندب قراءتها كل ليلة. والحمد لله الذي وفقني لقراءتها كذلك منذ بلغت سن التمييز إلى اليوم، وأسأل الله تعالى التوفيق لما بعد والقبول. ورأيت في بعض شروح البخاري ندب قراءتها عند رؤية الهلال رجاء الحفظ من المكاره في ذلك الشهر ببركة آيها الثلاثين والله تعالى الموفق.(15/3)
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ البركة النماء والزيادة حسية كانت أو عقلية وكثرة الخير ودوامه، ونسبتها إلى الله عز وجل على المعنى الأول وهو الأليق بالمقام باعتبار تعاليه جل وعلا عما سواه في ذاته وصفاته وأفعاله وصيغة التفاعل للمبالغة في ذلك كما في نظائره مما لا يتصور نسبته إليه تعالى من الصيغ كالتكبر. وعلى الثاني باعتبار كثرة ما يفيض منه سبحانه على مخلوقاته من فنون الخيرات والصيغة حينئذ يجوز أن تكون لإفادة نماء تلك الخيرات وازديادها شيئا فشيئا وآنا فآنا بحسب حدوثها أو حدوث متعلقاتها. قيل: ولاستقلالها بالدلالة على غاية الكمال وإنبائها عن نهاية التعظيم لم يجز استعمالها في حق غيره سبحانه ولا استعمال غيرها من الصيغ في حقه تبارك وتعالى. وقد مرّ تمام الكلام في هذا المقام وإسنادها إلى الموصول للاستشهاد بما في حيز الصلة على تحقق مضمونها لأن المراد بذلك أنه سبحانه كامل الإحاطة والاستيلاء بناء على أن بيده الملك استعارة تمثيلية لذلك ولا تجوز في شيء من مفرداته، أو أن الملك على حقيقته واليد مجاز عن الإحاطة والاستيلاء كما قيل، ولاستدعاء ذلك استغناء المتصف به مع افتقار الغير إليه في وجوده وكمالات وجوده كان له اختصاص بالموجود وكذلك في العرف العامي لا يطلق الملك على ما ليس كذلك فلذا قيل هنا في بيان معنى الآية: تعالى وتعاظم بالذات عن كل ما سواه ذاتا وصفة وفعلا الكامل الإحاطة الاستيلاء على كل موجود. وقوله تعالى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تكميل لذلك لأن القرينة الأولى تدل على التصرف التام في الموجودات على مقتضى إرادته سبحانه ومشيئته من غير منازع ولا مدافع لا متصرف فيها غيره عز وجل كما يؤذن به تقديم الظرف وهذه تدل على القدرة الكاملة الشاملة، ولو اقتصر على الأولى لأوهم أن تصرفه تعالى مقصور على تغيير أحوال الملك كما يشاهد من تصرف الملاك المجازي، فقرنت بالثانية ليؤذن بأنه عزّ سلطانه قادر على التصرف وعلى إيجاد الأعيان المتصرف فيها(15/4)
وعلى إيجاد عوارضها الذاتية وغيرها، ومن ثم عقب ذلك بالوصف المتضمن للعوارض وهذا ما اختاره العلامة الطيبي، وصاحب الكشاف اختار في القرينة الأولى ما ذكرناه فيها من التخصيص بالموجود فقال: أي تعالى وتعاظم عن صفات المخلوقين الذي بيده الملك على كل موجود لما سمعت، وفي الثانية التخصيص بالمعدوم فقال: وهو على كل ما لم يوجد مما يدخل تحت القدرة قدير ووجهه على ما في الكشف أن الشيء وإن كان عاما في كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه لكن لما قرن بالقدرة اختص بالمعدوم لاستغناء الموجود عن الفاعل عند جمهور المتكلمين القائلين بأن علة الاحتياج الحدوث وعليه الزمخشري وأصحابه، وأما عند القائلين بأن علة الاحتياج الإمكان كالمحققين فلأن الاختيار يستدعي سبق العدم. وجيء بالقرينة الثانية عليه تكميلا أيضا لأن الاختصاص بالموجود فيه إيهام نقص واختار صاحب التقريب أن قوله تعالى: الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ مطلق. وقوله سبحانه وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عام لما وضع له الشيء فيكون قد قصد بيان القدرة أولا وعمومها ثانيا، ولم يرتض صنيع الزمخشري ونظر فيه بأن الشيء إما أن يختص بالموجود أو يشمل الموجود والمعدوم، وعلى المذهبين فلا وجه لتخصيصه بما لم يوجد مع انضمام كل إليه اللهم إلا أن يقال خصصه به ليغاير ما قبله إذ خصصه بالموجود، وفيه أيضا نظر إذ لو عمم الثاني لتحقق التغاير أيضا مع أن اليد مجاز عن القدرة فإن تخصصت به كما هو مذهبه تخصص الأول بالمعدوم وإن لم تتخصص لم يتخصص الثاني بالمعدوم. وادعى صاحب الكشف سقوطه بما نقلناه عنه واعترض عليه وأجيب بما لا يخلو عن نظر فليتأمل. ومن الناس من حمل الْمُلْكُ على الموجودات وجعل إليه مجازا عن القدرة فيكون المعنى في قدرته الموجودة وتعقبه بعضهم بأن فيه ركاكة وأشار إلى أن الخلاص منها إما بجعل اليد مجازا عن التصرف أو بتفسير الملك بالتصرف، وقيل المراد من كون الملك بيده تعالى أنه عز وجل مالكه فمعنى بِيَدِهِ الْمُلْكُ مالك الملك وفسر الراغب الْمُلْكُ في مثل ذلك بضبط الشيء المتصرف فيه بالحكم، وشاع تخصيصه بعالم الشهادة ويقابله حينئذ الملكوت وليس بمراد هنا كما لا يخفى.
وقوله تعالى الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ شروع في تفصيل بعض أحكام الملك وآثار القدرة وبيان ابتنائهما على قوانين الحكم والمصالح واستتباعهما لغايات جليلة والموصول بدل من الموصول الأول وصلته كصلته في الشهادة بتعاليه عز وجل. وجوز الطبرسي كونه خبر مبتدأ محذوف أي هو الذي إلخ. والموت على ما ذهب الكثير من أهل السنة صفة وجودية تضاد الحياة، واستدل على وجوديته بتعلق الخلق به وهو لا يتعلق بالعدمي لأزلية الإعدام. وأما ما روي عن ابن عباس من أنه تعالى خلق الموت في صورة كبش أملح لا يمر بشيء إلا مات، وخلق الحياة في صورة فرس بلقاء لا تمر بشيء ولا يجد رائحتها شيء إلا حيي فهو أشبه شيء بكلام الصوفية لا يعقل ظاهره. وقيل: هو وارد على منهاج التمثيل والتصوير وذهب القدرية وبعض أهل السنة إلى أنه أمر عدمي هو عدم الحياة عما هي من شأنه وهو المتبادر الأقرب وأجيب عن الاستدلال بالآية بأن الخلق فيها بمعنى التقدير وهو يتعلق بالعدمي كما يتعلق بالوجودي، أو أن الْمَوْتَ ليس عدما مطلقا صرفا بل هو عدم شيء مخصوص ومثله يتعلق به الخلق والإيجاد بناء على أنه إعطاء الوجود ولو للغير دون إعطاء الوجود للشيء في نفسه، أو أن الخلق بمعنى الإنشاء والإثبات دون الإيجاد وهو بهذا المعنى يجري في العدميات، أو أن الكلام على تقدير مضاف أي خلق أسباب الموت أو أن المراد بخلق الْمَوْتَ وَالْحَياةَ خلق زمان ومدة معينة لهما لا يعلمها إلا الله تعالى فإيجادهما عبارة عن إيجاد زمانهما مجازا ولا يخفى الحال في هذه الاحتمالات. ومن الغريب ما قيل إنه كنى بالموت عن الدنيا إذ هو واقع فيها، وبالحياة عن الآخرة(15/5)
من حيث لا موت فيها فكأنه قيل الذي خلق الدنيا والآخرة والحق أنهما بمعناهما الحقيقي والموت على ما سمعت والحياة صفة وجودية بلا خلاف وهي ما يصح بوجوده الإحساس أو معنى زائد على العلم والقدرة يوجب للموصوف به حالا لم يكن قبله من صحة العلم والقدرة، وتقديم الموت على تقدير كونه عدما مطلقا أعني عدم الحياة عما هي من شأنه ظاهر لسبقه على الوجود وعلى تقدير كونه العدم اللاحق كما هو الأنسب بالإرادة هنا أعني عدم الحياة عما اتصف بها فلان فيه مزيد عظة وتذكرة وزجر عن ارتكاب المعاصي وحثّ على حسن العمل، ولذا
ورد: «أكثروا من ذكر ذم اللذات والحياة»
وإن كانت داعية لذلك ضرورة أن من عرف أنها نعمة عظيمة وكان ذا بصيرة عمل شكر الله تعالى عليها لكنها ليست بمثابة الموت في ذلك، فمن زعم أنها لا داعية فيها أصلا وإنما ذكرت باعتبار توقف العمل عليها لم يدقق النظر. وأل في الموضعين عوض عن المضاف إليه أي الذي خلق موتكم الطارئ وحياتكم أيها المكلفون لِيَبْلُوَكُمْ أي ليعاملكم معاملة من يختبركم أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي أصوبه وأخلصه فيجازيكم على مراتب متفاوتة حسب تفاوت مراتب أعمالكم. وأصل البلاء الاختبار ولأنه يقتضي عدم العلم بما اختبره وهو غير صحيح في حقه عز وجل وحمل الكلام على ما ذكر، ويرجع ذلك إلى الاستعارة التمثيلية واعتبار الاستعارة التبعية فيه دونها دون في البلاغة والمراد بالعمل ما يشمل عمل القلب وعمل الجوارح ولذا
قال صلّى الله عليه وسلم في الآية: «أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله تعالى وأسرع في طاعة الله عز وجل»
أي أيكم أتمّ فهما لما يصدر عن جناب الله تعالى وأكمل ضبطا لما يؤخذ من خطابه سبحانه، وإيراد صيغة التفضيل مع أن الابتلاء شامل للمكلفين باعتبار أعمالهم المنقسمة إلى الحسن والقبيح أيضا لا إلى الحسن والأحسن فقط للإيذان بأن المراد بالذات. والمقصد الأصلي من الابتلاء هو ظهور كمال إحسان المحسنين مع تحقق أصل الإيمان والطاعة في الباقين أيضا لكمال تعاضد الموجبات له، وأما الإعراض عن ذلك فبمعزل من الاندراج تحت لوقوع فضلا عن الانتظام في سلك الغاية أو الفرض عند من يراه لأفعال الله عز وجل وإنما هو عمل يصدر عن عامله لسوء اختياره من غير مصحح له ولا تقريب، وفيه من الترغيب في الترقي إلى معارج العلوم ومدارج الطاعات والزجر عن مباشرة نقائصها ما لا يخفى. وجعل ذلك من باب الزيادة المطلقة أو من باب أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً [مريم: 73] ليس بذاك وأَيُّكُمْ أَحْسَنُ مبتدأ وخبر والجملة في محل نصب على أنها مفعول ثان لِيَبْلُوَكُمْ وذلك على ما في الكشاف لتضمنه معنى العلم، وهل يسمى نحو هذا تعليقا أم لا؟ قيل: فيه خلاف ففي البحر لأبي حيان نقلا عن أصحابه أنه يسمى بذلك قال: إذا عدي الفعل إلى اثنين ونصب الأول وجاءت بعده جملة استفهامية أو مقرونة بلام الابتداء أو بحرف نفي كانت الجملة معلقا عنها الفعل وكانت في موضع نصب كما لو وقعت في موضع المفعولين، وفيها ما يعلق الفعل عن العمل. وفي الكشاف هنا لا يسمى تعليقا إنما التعليق أن يوقع بعد الفعل الذي يعلق ما يسد مسد المفعولين جميعا كقولك: علمت أيهما زيد وعلمت أزيد منطلق، وأما إذا ذكر بعده أحد المفعولين نحو علمت القوم أيهم أفضل فلا يكون تعليقا. والآية من هذا القبيل واعترضه صاحب التقريب بأن العلم مضمر وهو المعلق كما قال الفراء والزجاج ولا يلزم ذكر المفعول معه بل التقدير ليبلوكم فيعلم أيكم أحسن. وأيضا لا تقع الجملة الاستفهامية مفعولا ثانيا لعلمت وإنما تقع موقع المفعولين في علمت أيهم خرج لأن المعنى علمت جواب هذا الاستفهام ولا معنى لتقدير مثله في علمته أيهم خرج وأجيب بأن التضمين يغني عن الإضمار وكون الجملة الاستفهامية لا تقع مفعولا ثانيا ضعيف لأنها إذا وقعت مفعولا أولا في نحو لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ [مريم: 69] على معنى لننزعن الذين يقال فيهم أيهم أشد كما قال(15/6)
الخليل، فلم يمتنع وقوعها مفعولا ثانيا بتأويل ليعلمكم الذين يقال في حقهم أَيُّهُمْ أَحْسَنُ وإليه ذهب الطيبي ثم قال: وقد أنصف صاحب الانتصاف حيث قال: التعليق عن أحد المفعولين فيه خلاف والأصح هو الذي اختاره الزمخشري وهذا النحو عشه فيه يدرج ويدري كيف يدخل ويخرج انتهى. والذي ذكره في سورة هود أن في الآية تعليقا لما في الاختبار من معنى العلم لأنه طريق إليه ومثله بقوله انظر أيهم أحسن وجها فجعلوا بين كلاميه تنافيا وفي الكشف أن كلامه هناك صريح بأن التعليق فيه بمعنى تعليق فعل القلب على ما فيه استفهام وهو بهذا المعنى خاص بفعل القلب من غير تخصيص بالسبعة المتعدية إلى مفعولين. وفي الاستفهام خاصة دون ما فيه لام الابتداء ونحوها صرح به الشيخ ابن الحاجب نصا فلا ينافي ما ذكر في هذه السورة من أنه ليس بتعليق، فإنما نفي التعليق بالمعنى المشهور. وأما الحمل عن الإضمار في آية هود والتضمين في آية الملك للتفنن فلا وجه له بعد تصريحه بأنه استعارة انتهى. وكذا على هذا لا وجه لكون ما هناك اختيارا لمذهب الفراء والزجاج وما هنا اختيار لمذهب آخر فتدبر وتذكر فإنه كثيرا ما يسأل عن ذلك قديما وحديثا والله تعالى الموفق.
وَهُوَ الْعَزِيزُ أي الغالب الذي لا يعجزه عقاب من أساء الْغَفُورُ لمن شاء منهم أو لمن تاب على ما اختاره بعضهم لأنه أنسب بالمقام الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ قيل هو نعت للعزيز الغفور أو بيان أو بدل.
واختار شيخ الإسلام أنه نصب أو رفع على المدح متعلق بالموصولين السابقين معنى وإن كان منقطعا عنهما إعرابا منتظم معهما في سلك الشهادة بتعاليمه سبحانه وتعالى ومع الموصول الثاني في كونه مدارا للبلاء كما نطق به قوله تعالى وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود: 7] وقوله تعالى طِباقاً صفة لسبع وكون الوصف للمضاف إليه العدد ليس بلازم بل أكثري وهو مصدر طابقت النعل بالنعل إذا خصفتها، وصف به للمبالغة أو على حذف مضاف أي ذات طباق أو بتأويل اسم المفعول أي مطابقة، وجوز أن يكون مفعولا مطلقا مؤكدا لمحذوف أي طوبقت طباقا، والجملة في موضع الصفة. وأن يكون جمع طبق كجمل وجمال أو جمع طبقة كرحبة بفتح الحاء ورحاب والكلام بتقدير مضاف لأنه اسم جامد لا يوصف به أي ذات طباق وقيل يجوز كونه حالا من سَبْعَ سَماواتٍ لقربه من المعرفة بشموله الكل وعدم فرد وراء ذلك، وتعقب بأن قصارى ذلك بعد القيل والقال أن يكون نحو شمس مما انحصر في فرد وهو لا تجيء الحال المتأخرة منه فلا يقال طلعت علينا شمس مشرقة. وأيّا ما كان فالمراد كما أخرج عبد بن حميد بعضها فوق بعض، ولا دليل في ذلك على تلاصقها كما زعمه متقدمو الفلاسفة ومن وافقهم من الإسلاميين مخالفين لما نطقت به الأحاديث الصحيحة وإن لم يكفر منكر ذلك فيما أرى. واختلف في موادها فقيل: الأولى من موج مكفوف، والثانية من درة بيضاء، والثالثة من حديد، والرابعة من نحاس، والخامسة من فضة، والسادسة من ذهب، والسابعة من زمردة بيضاء. وقيل غير ذلك ولا أظنك تجد خبرا يعول عليه فيما قيل ولو طرت إلى السماء، وأظنك لو وجدت لأولت مع اعتقاد أن الله عز وجل على كل شيء قدير. وقوله تعالى ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ صفة أخرى على ما في الكشاف لسبع سماوات وضع فيها خَلْقِ الرَّحْمنِ موضع الضمير الرابط للتعظيم والإشعار بعلة الحكم بحيث يمكن أن يترتب قياس من الشكل الأول ينتج نفي رؤية تفاوت فيها، وبأنه عز وجل خلقها بقدرته القاهرة رحمة وتفضلا، وبأن في إبداعها نعما جليلة. وما ذكره ابن هشام في الباب الرابع من المغني من أن الجملة الموصوف بها لا يربطها إلا(15/7)
الضمير إما مذكورا وإما مقدرا ليس بحجة على جار الله، والتوفيق بأن ذلك إذا لم يقصد التعظيم ليس بشيء لأنه لا بد له من نكتة سواء كانت التعظيم أو غيره. واستظهر أبو حيان أنه استئناف وإن خلق الرحمن عام للسماوات وغيرها والخطاب لكل أحد ممن يصلح للخطاب. وجوز أن يكون لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلم ولعل الأول أولى ومن لتأكيد النفي أي ما ترى شيئا مِنْ تَفاوُتٍ أي اختلاف وعدم تناسب كما قال قتادة وغيره من الفوت فإن كلا من المتفاوتين يفوت منه بعض ما في الآخر، وفسر بعضهم التفاوت بتجاوز الشيء الحد الذي يجب له زيادة أو نقصا وهو المعنى بالاختلاف وعلى ذلك قول بعض الأدباء:
تناسبت الأعضاء فيه فلا ترى ... بهن اختلافا بل أتين على قدر
وقال السدي: أي من عيب وإليه يرجع قول من قال أي من تفاوت يورث نقصا وقال عطاء بن يسار: أي من عدم استواء، وقيل أي من اضطراب، وقيل أي من اعوجاج، وقيل أي من تناقض. ومآل الكل ما ذكرنا ومن الغريب ما قاله شيخ الطائفة الكشفية في زماننا من أن بين الأشياء جميعها ربطا وهو نوع من التجاذب لا يفوت يسببه بعضها عن بعض، وحمل الآية على ذلك وإلى نحو هذا ذهب الفلاسفة اليوم فزعموا أن بين الأجرام علويها وسفليها تجاذبا على مقادير مخصوصة به حفظت أوضاعها وارتبط بعضها ببعض، لكن ذهب بعضهم إلى أن ما به التجاذب والارتباط يضعف قليلا قليلا على وجه لا يظهر له أثر إلا في مدد طويلة جدا.
واستشعروا من ذلك إلى أنه لا بد من خروج هذا العالم المشاهد عن هذا النظام المحسوس فيحصل التصادم ونحوه بين الأجرام وقالوا إن كان قيامة فهو ذاك ولا يخفى حال ما قاله وما قالوه وإن الآية على ما سمعت بمعزل عن ذلك. وقرأ عبد الله وعلقمة والأسود وابن جبير وطلحة والأعمش «من تفوّت» بشد الواو مصدر تفوت، وحكى أبو زيد عن العرب «في تفاوت» فتح الواو وضمها وكسرها والفتح والكسر شاذان كما في البحر. وقوله تعالى فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ متعلق بما قبله على معنى التسبب أي عن الإخبار بذلك فإنه سبب للأمر بالرجوع دفعا لما يتوهم من الشبهة، فهو في المعنى جواب شرط مقدر أي إن كنت في ريب من ذلك فأرجع البصر حتى يتضح الحال ولا يبقى لك ريب وشبهة في تحقق ما تضمنه ذلك المقال من تناسب خلق الرحمن واستجماعه ما ينبغي له. والفطور قال مجاهد: الشقوق جمع فطر وهو الشق، يقال: فطره فانفطر. والظاهر أن المراد الشق مطلقا لا الشق طولا على ما هو أصله كما قال الراغب. وفي معناه قول أبي عبيدة: الصدوع، وأنشدوا قول عبيد الله بن عقبة بن مسعود:
شققت القلب ثم ذررت فيه ... هواك فليط فالتأم الفطور
وقول السدي: الخروق، وأريد بكل ذلك على ما يفهم من كلام بعض الأجلة الخلل وبه فسره قتادة وفسره ابن عباس بالوهن وجملة هَلْ تَرى إلخ قال أبو حيان: في موضع نصب بفعل معلق محذوف أي فانظر هل ترى أو ضمن فَارْجِعِ الْبَصَرَ معنى فانظر ببصرك ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ أي رجعتين أخريين في ارتياد الخلل والمراد بالتثنية التكرير والتكثير كما قالوا في لبيك وسعديك أي رجعة بعد رجعة أي رجعات كثيرة بعضها في أثر بعض، وهذا كما أريد بأصل المثنى التكثير في قوله:
لوعد قبر وقبر كان أكرمهم ... بيتا وأبعدهم عن منزل الذام
فإنه يريد لو عدت قبور كثيرة وقيل هو على ظاهره وأمر برجع البصر إلى السماء مرتين إذ يمكن غلط في الأولى فيستدرك بالثانية أو الأولى ليرى حسنها واستواءها والثانية ليبصر كواكبها في سيرها وانتهائها وليس(15/8)
بشيء. ويؤيد الأول قوله تعالى: يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً فإنه جواب الأمر والجوابية تقتضي الملازمة وما تضمنه لا يلزم من المرتين غالبا، والمعنى يعد إليك البصر محروما من إصابة ما التمسه من إصابة العيب والخلل كأنه طرد عنه طردا بالصغار بناء على ما قيل إنه مأخوذ من خسأ الكلب المتعدي أي طرده على أنه استعارة، لكن في الصحاح يقال: خسا بصره خسا وخسوأ أي سدر والسدر تحير النظر فكان تفسير خاسِئاً بمتحيرا أخذا له من ذلك أقرب، وكأنهم اختاروا ما تقدم لأن فيه مبالغة وبلاغة ظاهرة مع كونه أبعد عن التكرار مآلا مع قوله تعالى وَهُوَ حَسِيرٌ أي كليل من طول المعاودة وكثرة المراجعة. يقال: حسر بعيره يحسر حسورا أي كلّ وانقطع فهو حسير ومحسور. وقال الراغب: الحسر كشف الملبس عما عليه، يقال: حسرت عن الذراع أي كشفت، والحاسر من لا درع عليه ولا مغفر. وناقة حسير انحسر عنها اللحم والقوة، ونوق حسرى، والحاسر أيضا المعنى لانكشاف قواه ويقال له أيضا محسور أما الحاسر فتصور أنه قد حسر بنفسه قواه، وأما المحسور فتصور أن التعب قد حسره وحسير في الآية يصح أن يكون بمعنى حاسر وأن يكون بمعنى محسور، والجملة في موضع الحال كالوصف السابق من البصر ويحتمل أن تكون حالا من الضمير فيه. وقرأ الخوارزمي عن الكسائي «ينقلب» بالرفع، وخرج على أن الجملة في موضع حال مقدرة. وقوله تعالى وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ إلخ كلام مسوق للحث على النظر قدرة وامتنانا. وفي الإرشاد بيان لكون خلق السماوات في غاية الحسن والبهاء إثر بيان خلوّها عن شائبة العيب والقصور وتصدير الجملة بالقسم لإبراز كمال العناية بمضمونها أي وبالله لقد زينا السماء الدُّنْيا منكم أي التي هي أتم دنوا منكم من غيرها فدنوها بالنسبة إلى ما تحت وأما بالنسبة إلى من حول العرش فبالعكس بِمَصابِيحَ جمع مصباح وهو السراج، وتجوز به عن الكوكب ثم جمع أو تجوز بالمصابيح ابتداء عن الكواكب، وفسره بعض اللغويين بمقر السراج فيكون حينئذ تجوزا على تجوز ولا حاجة إليه مع تصريحهم بأن المصباح نفس السراج أيضا وتنكيرها للتعظيم أي بمصابيح عظيمة ليست كمصابيحكم التي تعرفونها. وقيل للتنويع والأول أولى. والظاهر أن المراد الكواكب المضيئة بالليل إضاءة السراج من السيارات والثوابت بناء على أنها كلها في أفلاك ومجار متفاوتة قربا وبعدا في ثخن السماء الدنيا، وكون السماء هي الفلك خلاف المعروف عن السلف وإنما هو قول قاله من أراد الجمع بين كلام الفلاسفة الأولى وكلام الشريعة فشاع فيما بين الإسلام واعتقده من اعتقده. وعن عطاء أن الكواكب في قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور في أيدي ملائكة وعليه ف زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ كقول القائل:
زينت السقف بالقناديل وهو ظاهر لكن الخبر لا يكاد يصح. ومن اعتقد أن السماء الدنيا فلك القمر والست الباقية أفلاك السيارات الباقية على الترتيب المشهور وأن للثوابت فلكا مخصوصا يسمى بلسان الشرع بالكرسي، أو جوز أن تكون هذه في فلك زحل وهو السماء السابعة، أو يكون بعضها في فلك وبعضها الآخر في آخر فوقه، أو كل منها في فلك وسماء غير السبع. والاقتصار على العدد القليل لا ينفي الكثير قال: إن تخصيص السماء بالتزيين بها لأنها إنما ترى عليها ولا ترى جرم ما فوقها أو رعاية لمقتضى إفهام العامة لتعذر التمييز بين سماء وسماء عليهم، فهم يرون الكواكب كجواهر متلألئة على بساط الفلك الأزرق الأقرب، ومن اعتبر ما عليه أهل الهيئة اليوم من أن الكواكب فلك عجائب القدرة مواخر في بحر جو الفضاء على وجه مخصوص تقتضيه الحكمة(15/9)
ومجاريها فيه هي أفلاكها وقد تحركت إذ تحركت في خلاء أو ما يشبهه مع قوى بها تجاذبت وارتبطت ولها حركات على أنفسها وحركات غير ذلك وليست مركوزة كما اشتهر في أجرام صلبة شفافة لا ثقيلة ولا خفيفة تسمى أفلاكا أو سماء وهي متفاوتة قربا وبعدا تفاوتا كليا، وإن رؤيت كلها قريبة لسبب خفي إلى الآن عليهم حتى أن منها ما لا يصل شعاعه إلينا إلا في عدة سنين مع أن شعاع الشمس وبيننا وبينها أربعة وثلاثون مليونا من الفراسخ، والمليون ألف ألف يصل إلينا في ثمان دقائق وثلاث عشرة ثانية إلى آخر ما زعموا فيها. قال:
يجوز أن يراد بالسماء الدنيا طبقة مخصوصة في هذا الفضاء، وبالمصابيح كواكب فيها نفسها قد زينت تلك الطبقة بها تزيين فضاء دار بطيور يطرن وحائمات فيه مثلا، أو جميع ما يرى من الكواكب وإن كان فوقها وتزيينها بذلك بإظهاره فيها كما مر. وأنت تعلم أن من تصدى لتطبيق الآيات والأخبار على ما قاله الفلاسفة مطلقا فقد تصدى لأمر لا يكاد يتم له والله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم أحق بالاتباع. نعم تأويل النقلي إنما ينبغي إذا قام الدليل العقلي على خلاف ما دل عليه، وأكثر أدلة الفلاسفة قاعدة على العجز عن إثباتها إثباتا صحيحا ما يخالف أدلة أهل الشرع كما لا يخفى على من استضاء بمصابيحه.
وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ الضمير للمصابيح على ما هو الظاهر لا للسماء الدنيا على معنى (جعلنا منها) أي من جهتها كما قيل والرجوم جمع رجم بالفتح، وهو مصدر سمي به ما يرجم به أي يرمى فصار له حكم الأسماء الجامدة ولذا جمع وإن كان الأصل في المصادر أنها لا تجمع. وقيل إنه هنا مصدر بمعنى الرجم أيضا. والمراد بالشياطين مسترقو السمع، ورجمهم على ما اشتهر بانقضاض الشهب المسببة عن الكواكب وإليه ذهب غير واحد من المفسرين وهو مبني على ما قرره الفلاسفة المتقدمون من أن الكواكب نفسها غير منقضة وإنما المنقض شعل نارية تحدث من أجزاء متصاعدة لكرة النار لكنها بواسطة تسخين الكواكب للأرض، فالتجوز في إسناد الجعل إليها أو في لفظها وهو مجاز بوسائط. وقال الشهاب: لا مانع من جعل المنقض نفسه من جنس الكواكب وإن خالف اعتقاد الفلاسفة وأهل الهيئة، ولكن في النصوص الإلهية ما فيه رجوم للشياطين انتهى. وأقول لا يخفى أن ذلك المبنى لا يتم أيضا إلا بثبوت كرة النار الذي لا تراهم يستدلون عليه إلا بحدوث هذه الشهب وسلف الأمة لا يقولون بذلك وكذا أهل الفلسفة الجديدة وهؤلاء لم يحققوا إلى الآن أمر هذه الشهب لكن يميلون إلى أنها أجسام انفصلت عن الكواكب التي يزعمونها عوالم مشتملة على جبال ونحوها اشتمال الأرض على ذلك، وخرجت لبعض الحوادث عن حد القوى الجاذبة لها إلى ما انفصلت عنه ولم تصل إلى حد جذب قوة الأرض لها فبقيت تدور عند منتهى كرة الأرض وما يحيط بها من الهواء، فإذا عرض لها الدخول في هواء الأرض أثناء حركتها احترقت كلا أو بعضا كما تحترق بعض الأجسام المحفوظة عن الهواء إذا صادمها الهواء، وربما تصل في بعض حركاتها إلى حد جذب الأرض فتقع عليها. وبعضهم يزعم في الحجارة الساقطة من الجو التي تسمى عندهم بالأبروليت يعنون حجارة الهواء أنها من تلك الأجسام وكل ذلك حديث خرافة ورجم بظنون فاسدة، وقصارى ما يقال في هذه الشهب أنها تحتمل أن تكون ناشئة من أجرام من جنس الكواكب فيها قوة الإحراق سواء كان كل مضيء محرقا أم لا متكونة في جو هذا الفضاء المشاهد إلا أنها لغاية صغرها لا تشاهد ولو بالنظارات حتى إذا قربت بانقضاضها شوهدت وقد تصادف في انقضاضها أجساما متصاعدة من الأرض فتحرقها، وربما يتصل الحريق إلى ما يقرب من الأرض جدا وربما تكونت الحجارة من ذلك. ثم إن العقل يجوز أن يكون لها دوران على شكل من الأشكال فترجع بعد ما يشاهد(15/10)
لها من الانقضاض، وأن تتلاشى بعد انقضاضها ويخلق الله تعالى غيرها من مادة لا يعلمها إلا هو عز وجل.
والضمير المنصوب في جَعَلْناها وإن عاد على المصابيح لكن لم يعد عليها إلا باعتبار الجنس دون خصوصية كونها مزينة بها السماء الدنيا نظير وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ [فاطر: 11] وعندي درهم ونصفه لما أن التزيين باعتبار الظهور ولا ظهور لهذه الأجرام قبل انقضاضها وإن اعتبر في كونها مصابيح أو كواكب أو نجوما ظهورها في نفسها ولمن يقرب منها دون خصوصية ظهورها لنا، وفي كونها زينة للسماء كونها زينة لها لها في الجملة فالأمر ظاهر جدا. ويحتمل أن تكون ناشئة من المصابيح المشاهدة المزين بها بأن ينفصل عنها وهي في محلها شعل هي الشهب وما ذاك إلّا كقبس يؤخذ من نار والنار ثابتة وإليه ذهب الجبائي وكثير وهو محتمل لأن يكون لكل منها قابلية أن ينفصل عنه ذلك، وأن يكون القابلية لبعضها دون بعض وهذا لعدم الاطلاع على حقائق الأجرام العلوية وأحوالها في أنفسها. والكلام نحو قولك أسكن الأمير قبيلة كذا في ثغر كذا وجعلها ترمي بالبنادق من يقرب منه فإنه لا يلزم أن يكون لكل واحد منها قابلية الرمي، ثم لا يلزم أن يكون كل ما يشاهد من الشهب قبسا من المصابيح بل يجوز أن يكون بعضه وهو الذي ترمي به الشياطين منها وبعضه من أمور تحدث في الجو من اصطكاك أو نحوه، وتفاوت الشهب قلة وكثرة يحتمل أن يكون لتفاوت حوادث الجو، وأن يكون لتفاوت الاستراق وليس في الآيات والأخبار ما هو نص في أن الشهب لا تكون إلّا لرمي الشياطين فيحتمل أن يكون أكثر الشهب من الحوادث الجوية وذوات الأذناب منها في رأي المتقدمين، وهي في أنفسها دون أذنابها نجوم كثيرة جدا تدور لا كما يدور غيرها من النجوم فتقرب تارة وتبعد أخرى فتخرج عن مدارات السيارات إلى حيث لا تشاهد أصلا عند فلاسفة العصر ولهم فيها كلام أطول من أذنابها. وقد أورد الإمام الرازي في هذا الفصل أسئلة وشبها أجاب عنها بما أجاب ونحن فعلنا نحو ذلك فيما تقدم على وجه أتم فليتذكر. وقد أطنبنا هناك الكلام فيما يتعلق بهذا المقام إلّا أن بعضا مما ذكرناه هناك فخذ من الموضعين ما صفا ودع ما كدر بعد أن تتأمل حق التأمل وتتدبر. وقيل: معنى الآية وجعلناها ظنونا ورجوما بالغيب لشياطين الإنس وهم المنجمون المعتقدون تأثير النجوم في السعادة والشقاوة ونحوهما وقد رددنا عليهم أي رد فيما تقدم فارجع إليه أن أردته فإنه نفيس جدا.
وَأَعْتَدْنا لَهُمْ وهيأنا للشياطين عَذابَ السَّعِيرِ عذاب النار المسعرة المشعلة في الآخرة بعد الإحراق في الدنيا بالشهب، ولا يمنع من ذلك أنهم خلقوا من نار لأنهم ليسوا نارا فقط بل هي أغلب عناصرهم فهي منهم كالتراب من بني آدم فيتأثرون من ذلك على أنه تكون نارا أقوى من نار. واستدل بالآية على أن النار مخلوقة الآن وعلى أن الشياطين مكلفون وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ من غير الشياطين أو منهم ومن غيرهم على أنه تعميم بعد التخصيص لدفع إيهام اختصاص العذاب بهم والجار والمجرور خبر مقدم وقوله تعالى عَذابُ جَهَنَّمَ مبتدأ مؤخر والحصر إضافي بقرينة النصوص الواردة في تعذيب العصاة فلا حجة فيه لمن قال من المرجئة: لا يعذب غير الكفرة. وقرأ الضحاك والأعرج وأسيد بن أسيد المزني وحسن في رواية هارون عنه «عذاب» بالنصب عطفا على عَذابَ السَّعِيرِ أي وأعتدنا للذين كفروا عذاب جهنم وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي جهنم إِذا أُلْقُوا فِيها أي وطرحوا فيها كما يطرح الحطب في النار العظيمة سَمِعُوا لَها أي لجهنم نفسها كما هو الظاهر ويؤيده ما بعد والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من قوله تعالى شَهِيقاً لأنه في الأصل صفته فلما صارت حالا أي سَمِعُوا كائنا لَها شَهِيقاً أي صوتا كصوت الحمير وهو(15/11)
حسيسها المنكر الفظيع، ففي ذلك استعارة تصريحية وجوز أن يكون الشهيق لأهلها ممن تقدم طرحهم فيها ومن أنفسهم كقوله تعالى لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ [هود: 106] والكلام على حذف مضاف أو تجوز في النسبة. واعترض بأن ذلك إنما يكون لهم بعد القرار في النار وبعد ما يقال لهم اخْسَؤُا فِيها [المؤمنون:
108] . وهو بعد ستة آلاف سنة من دخولهم كما في بعض الآثار ورد بأن ذلك إنما يدل على انحصار حالهم حينئذ في الزفير والشهيق لا على عدم وقوعها منهم قبل تَكادُ تَمَيَّزُ أي والحال أنها تغلي بهم غليان المرجل بما فيه وَهِيَ تَفُورُ أي ينفصل بعضها من بعض مِنَ الْغَيْظِ من شدة الغضب عليهم قال الراغب الْغَيْظِ أشد الغضب وقال المرزوقي في الفصيح إنه الغضب أو أسوؤه، وقد شبه اشتعال النار بهم في قوة تأثيرها فيهم وإيصال الضرر إليهم باغتياظ المغتاظ على غيره المبالغ في إيصال الضرر إليه على سبيل الاستعارة التصريحية، ويجوز أن تكون هنا تخييلية تابعة للمكنية بأن تشبه جهنم في شدة غليانها وقوة تأثيرها في أهلها بإنسان شديد الغيظ على غيره مبالغ في إيصال الضرر إليه فتوهم لها صورة كصورة الحالة المحققة الوجدانية وهي الغضب الباعث على ذلك، واستعير لتلك الحالة المتوهمة للغيظ. وجوز أن يكون الإسناد في تَكادُ تَمَيَّزُ إلى جهنم مجازا وإنما الإسناد الحقيقي إلى الزبانية، وأن يكون الكلام على تقدير مضاف أي تميز زبانيتها من الغيظ وقيل إن الله تعالى يخلق فيها إدراكا فتغتاظ عليهم فلا مجاز بوجه من الوجوه وورد في بعض الأخبار ما يؤيد ذلك، وزعم بعضهم أنه لا حاجة لشيء مما ذكر لمكان تَكادُ كما في قوله تعالى يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ [النور: 35] وفيه ما فيه والجملة إما حال من فاعل تَفُورُ أو خبر آخر وقرأ طلحة «تتميّز» بتاءين وأبو عمرو «تكاد تميز» بإدغام الدال في التاء والضحاك «تمايز» على وزن تفاعل وأصله تتمايز بتاءين وزيد بن على وابن أبى عبلة «تميز» من ماز كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ استئناف مسوق لبيان حال أهلها بعد بيان نفسها، وقيل لبيان حال آخر من أحوال أهلها وجوز أن تكون الجملة حالا من ضميرها أي كلما ألقي فيها جماعة من الكفرة سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها وهم مالك وأعوانه عليهم السلام، والسائل يحتمل أن يكون واحدا وأن يكون متعددا وليس السؤال سؤال استعلام بل هو سؤال توبيخ وتقريع، وفيه عذاب روحاني لهم منضم إلى عذابهم الجسماني أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ يتلو عليكم آيات الله وينذركم لقاء يومكم هذا قالُوا اعترافا بأنه عزّ وجلّ قد أزاح عللهم بالكلية بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ وجمعوا بين حرف الجواب ونفس الجملة المجاب بها مبالغة في الاعتراف بمجيء النذير، وتحسرا على ما فاتهم من السعادة في تصديقهم، وتمهيدا لما وقع منهم من التفريط تندما واغتماما على ذلك، أي قال كل فوج من تلك الأفواج قد جاء لها نذير أي واحد حقيقة أو حكما كنذر بني إسرائيل فإنهم في حكم نذير واحد فأنذرنا وتلا علينا ما أنزل الله تعالى من آياته.
فَكَذَّبْنا ذلك النذير من جهته تعالى وَقُلْنا في حق ما تلاه من الآيات إفراطا في التكذيب وتماديا في النكير ما نَزَّلَ اللَّهُ على أحد مِنْ شَيْءٍ من الأشياء فضلا عن تنزيل الآيات على بشر مثلكم إِنْ أَنْتُمْ أي ما أنتم في ادعاء ما تدعونه إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ بعيد عن الحق والصواب. وجمع ضمير الخطاب مع أن مخاطب كل فوج نذيره لتغليبه على أمثاله ولو فرضا ليشمل أول فوج أنذرهم نذير. والأصل أنت وأمثالك ممن ادعى أو يدعي دعواك مبالغة في التكذيب وتماديا في التضليل كما ينبىء عنه تعميم المنزل مع ترك ذكر المنزل عليه فإنه ملوح بعمومه حتما، وأما إقامة تكذيب الواحد مقام تكذيب الكل فقيل أمر(15/12)
تحقيقي يصار إليه لتهويل ما ارتكبوه من الجناية لكن لا مساغ لاعتباره من جهتهم ولا لإدراجه تحت عبارتهم. كيف لا وهو منوط بملاحظة اجتماع النذر على ما لا يختلف من الشرائع والأحكام باختلاف العصور والأعوام، وأين هم من ذلك وقد حال الجريض دون القريض؟ هذا إذا جعل ما ذكر حكاية عن كل واحد من الأفواج كما هو الظاهر. وأما إذا جعل حكاية عن الكل فالنذير إما بمعنى الجمع لأنه فعيل وهو يستوي فيه الواحد وغيره، أو مصدر مقدر بمضاف عام أي أهل نذير أو منعوت به للمبالغة فيتفق كلا طرفي الخطاب في الجمعية. ويستشعر من بعض العبارات جواز اعتبار الجمعية بأحد الأوجه المذكورة على الوجه الأول أيضا وفيه بحث. وجوز أن يكون الخطاب من كلام الخزنة للكفار على إرادة القول على أن مرادهم بالضلال ما كانوا عليه في الدنيا أو هلاكهم أو عقاب ضلالهم تسمية له باسم سببه وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى. وكذا ما قيل من جواز كونه من كلام النذير للكفرة حكوه للخزنة وفي الكشف هذا الوجه فيه تكلف بيّن فإما أن يكون مقول قول محذوف يستدعيه قد جاءنا نذير كأنه قيل بلى قد جاءنا نذير قال إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ فكذبنا وقلنا وقدم فكذبنا وقلنا تنبيها على أن التكذيب لم يكن مقصورا على قولهم هذا وإما أن يكون التكذيب واقعا على الجملة أعني إِنْ أَنْتُمْ وقوله سبحانه وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ عطف على (كذبنا) قدم على صلته ليجري مجرى الاعتراض مؤكدا لحكم التكذيب ودالا على عدم القصر أيضا والأول أولى انتهى.
واستدل بالآية على أنه لا تكليف قبل البعثة وحمل النذير على ما في العقول من الأدلة مما لا يقبله منصف ذوي العقول وَقالُوا أيضا معترفين بأنهم لم يكونوا ممن يسمع أو يعقل كان الخزنة قالوا لهم في تضاعيف التوبيخ ألم تسمعوا آيات ربكم ولم تعقلوا معانيها فأجابوهم بقولهم لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ كلاما أَوْ نَعْقِلُ شيئا ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ أي في عدادهم ومن جملتهم والمراد بهم قيل الشياطين لقوله تعالى: وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ وقيل الكفار مطلقا واختصاص اعداد السعير ممنوع لقوله تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً [الإنسان: 4] . والآية لا تدل على الاختصاص وفيه دغدغة لعلك تعرفها مما يأتي إن شاء الله تعالى قريبا فلا تغفل. ونفيهم السماع والعقل لتنزيلهم ما عندهم منهما لعدم انتفاعهم به منزلة العدم، وفي ذلك مع اعتبار عموم المسموع والمعقول ما لا يخفى من المبالغة، واعتبرهما بعض الأجلة خاصين قال:
أي لو كنا نسمع كلام النذير فنقبله جملة من غير بحث وتفتيش اعتمادا على ما لاح من صدقه بالمعجز أو نعقل فنفكر في حكمه ومعانيه تفكر المستبصرين ما كنا إلخ. وفيه إشارة إلى أن السماع والعقل هنا بمعنى القبول والتفكر وأَوْ للترديد لأنه يكفي انتفاء كل منهما لخلاصهم من السعير أو للتنويع فلا ينافي الجمع.
وقيل: أشير فيه إلى قسمي الإيمان التقليدي والتحقيقي أو إلى الأحكام التعبدية وغيرها، واستدل بالآية كما قال ابن السمعاني في القواطع من قال بتحكيم العقل. وأنت تعلم أن قصارى ما تشعر به أن العقل يرشد إلى العقائد الصحيحة التي بها النجاة من العسير، وأما أنها تدل على أن العقل حاكم كما يقول المعتزلة فلا. واستدل بها أيضا كما نقل عن ابن المنير على أن السمع أفضل من البصر ومن العجيب استدلال بعضهم بها على أنه لا يقال للكافر عاقل فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ الذي هو كفرهم وتكذيبهم بآيات الله تعالى ونذره عزّ وجلّ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ أي فبعدا لهم من رحمته تعالى وهو دعاء عليهم. وقرأ أبو جعفر والكسائي «فسحقا» بضم الحاء والسحق مطلقا البعد وانتصابه على أنه مصدر مؤكد أي سحقهم الله تعالى سحقا قال الشاعر:
يجول بأطراف البلاد مغربا ... وتسحقه ريح الصبا كل مسحق(15/13)
وقيل: هو مصدر إما فعل متعد من المزيد بحذف الزوائد كما في قوله:
وإن أهلك فذلك كان قدري أي تقديري والتقدير فأسحقهم الله سحقا أي إسحاقا، أو بفعل مرتب على ذلك الفعل أي فأسحقهم الله تعالى فسحقوا سحقا كما في قوله:
وعضة دهر يا ابن مروان لم تدع ... من المال إلا مسحت أو مجلف
أي لم تدع فلم يبق إلّا مسحت وإلى أول الوجهين ذهب أبو علي الفارسي والزجاج، وبعد ثبوت الفعل الثلاثي المتعدي كما في البيت وبه قال أبو حيان لا يحتاج إلى ما ذكر. واللام في لِأَصْحابِ للتبيين كما في هَيْتَ لَكَ [يوسف: 23] وسقيا لك وفي الآية على ما قيل تغليب، ولعل وجهه عند القائل وهو أن السوق يقتضي أن يقال فسحقا لهم ولأصحاب السعير فإنه تعالى بيّن أولا أحوال الشياطين حيث قاله سبحانه وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ ثم بيّن أحوال الكفار حيث قال عزّ وجلّ وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ والأوفق بقراءة النصب والأبعد من شبهة التكرار أن يراد بالموصول غير الشياطين ثم قال تعالى شأنه فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ فكان السوق يقتضي فسحقا لهم ولأصحاب السعير لكن لم يقل كذلك لأجل التغليب حيث أطلق أصحاب السعير على الشياطين والكفار جميعا. ولا يضر في هذا دلالة غير آية على عدم اختصاص أصحاب السعير بالشياطين بل يطلق على سائر الكفرة أيضا لأنه يكفي في التغليب الاختصاص المتبادر من السوق هنا ولا توقف له على عدم جواز إطلاق ذلك على غير الشياطين في شيء من المواضع على أنه يمكن أن يقال لا حاجة إلى التزام اختصاص أصحاب السعير بالشياطين أصلا ولو بحسب السوق، بلى يكفي لصحة التوجيه كونهم أصيلا في دخول السعير والكفار ملحقين بهم كما يشعر به قوله تعالى ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ بمعنى في عدادهم وجملتهم فحينئذ يكون الداخل في السعير قسمين. وكان مقتضى الظاهر ذكرهما معا في الدعاء عليهم بالسحق كما يشهد به سياق الآية، لكنه عدل وغلب أصحاب السعير الدال على الأصالة على غيره من التوابع وذكر أن في هذا التغلب إيجازا وهو ظاهر، ومبالغة أي في الإبعاد إذ لو أفرد كل من الفريقين بالذكر لأمكن أن يتوهم تفاوت الإبعادين بأن يكون إبعاد الكفرة دون إبعاد الشياطين على ما يشعر به جعلهم الشياطين أصيلا وأنفسهم ملحقة بهم، فلما ضموا إليهم في الحكم به دل على أن إبعادهم لم يقصر عن إبعاد أولئك وأيضا لما غلب سبحانه وتعالى أصحاب السعير وهم الشياطين على الكفار فقد جعل الكفار من قبيل الشياطين فكأنهم هم بأعيانهم، وفيه من المبالغة ما لا يخفى وتعليلا فإن ترقب الحكم على الوصف وكذا تعلقه به يشعر بعليته له فيشعر ذلك بأن الإبعاد حصل لهم لأجل كونهم أصحاب السعير. وقيل في توجيه التغليب وما فيه من الأمور الثلاثة غير هذا، وقد عدّ ذلك من المشكلات وغدا معتركا لعلماء الروم وغيرهم من العلماء الأعلام ولعل ما ذكرناه أقرب إلى الأفهام وأبعد عن النزاع والخصام فتأمل والله تعالى ولي الأفهام. إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أي يخافون عذابه غائبا عنهم أو غائبين عنه أو عن أعين الناس غير مرائين أو بما خفي منهم وهو قلوبهم لَهُمْ مَغْفِرَةٌ عظيمة لذنوبهم وَأَجْرٌ كَبِيرٌ لا يقادر قدره وتقديم المغفرة على الأجر لأن درء المضار أهم من جلب المنافع والجملة المذكورة قيل استئناف بياني وقوله تعالى وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ خطاب عام للمكلفين كما في قوله أولا لِيَبْلُوَكُمْ عطف على مقدر قال في الكشف أصل الكلام وللذين كفروا منكم أيها المكلفون المبتلون وللذين يخشون منكم فقطع هذا الثاني(15/14)
جوابا عن السؤال الذي يقطر من بيان حال الكافرين مع أن ذكرهم بالعرض وهو ماذا حال من أحسن عملا ومن خرج ممحصا عند الابتلاء فأجيب بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ إلخ فأثبت لهم كمال العلم إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] . وكمال التقوى لقوله تعالى بِالْغَيْبِ وفي هذا القطع ترشيح للمعنى المرموز إليه في قوله تعالى: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ المتقي تخصيصا لهم بأنهم المقصودون ولو عطف لدل على التساوي، ثم قيل فاتقوه في السر والعلن ودوموا أنتم أيها الخاشعون على خشيتكم وأنيبوا إلى الخشية والتقوى أيها المغترون، واعتقدوا استواء أسراركم وجهركم في علم ربكم فكونوا على حذر واخشوه حق الخشية فقوله تعالى ذلك عطف على هذا المضمر وجوز أن يجعل قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ إلخ استطراد عقيب ذكر الكفار وجزائهم وقوله سبحانه وَأَسِرُّوا أَوِ اجْهَرُوا على سبيل الالتفات إلى أصحاب السعير لبعد العهد وزيادة الاختصاص عطفا على قوله تعالى
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا كأنه قيل وللكافرين بربهم عذاب جهنم ثم قيل من صفتها كيت وكيت، وإسراركم بالقول وجهركم به أيها الكافرون سيان فلا تفوتوننا جهرتم بالكفر والبغضاء، أو أبطنتموهما فهو من تتمة الوعيد ثم قال والأول املأ بالقبول انتهى ويظهر لي بعد الأول ويؤيد الثاني ما روي عن ابن عباس أنه قال نزلت وَأَسِرُّوا إلخ في المشركين كانوا ينالون من النبي صلّى الله عليه وسلم فيوحى إليه عليه الصلاة والسلام فقال بعضهم لبعض أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ كيلا يسمع رب محمد فقيل لهم أسروا ذلك أو اجهروا به فإن الله تعالى يعلمه وتقديم السر على الجهر للإيذان بافتضاحهم ووقوع ما يحذرونه من أول الأمر، والمبالغة في شمول علمه عزّ وجلّ المحيط بجميع المعلومات كأن علمه تعالى بما يسرونه أقدم منه بما يجهرون به مع كونهما في الحقيقة على السوية، أو لأن مرتبة السر متقدمة على مرتبة الجهر إذ ما من شيء يجهر به إلّا وهو أو مبادئه مضمر في القلب غالبا فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية.
وقوله تعالى إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تعليل لما قبله وتقرير له وفي صيغة الفعيل وتحلية الصدور بلام الاستغراق ووصف الضمائر بصاحبتها من الجزالة ما لا يخفى كأنه قيل إنه عزّ وجلّ مبالغ في الإحاطة بمضمرات جميع الناس وأسرارهم الخفية المستكنة في صدورهم بحيث لا تكاد تفارقها أصلا فكيف لا يعلم ما تسرونه وتجهرون به، ويجوز أن يراد بذات الصدور القلوب التي في الصدور والمعنى أنه تعالى عَلِيمٌ بالقلوب وأحوالها فلا يخفى عليه سر من أسرارها وقوله تعالى أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ إنكار ونفي لعدم إحاطة علمه جل شأنه ومن فاعل يَعْلَمُ أي ألا يعلم السر والجهر من أوجد بموجب حكمته جميع الأشياء التي هما من جملتها. وقوله تعالى وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ حال من فاعل يعلم مؤكدة للإنكار والنفي أي ألا يعلم ذلك والحال أنه تعالى المتوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن وقيل حال من فاعل خَلَقَ والأول أظهر وقدر مفعول يعلم بما سمعت ولم يجعل الفعل من باب يعطي ويمنع لمكان هذه الحال على ما قيل إذ لو قلت إلا يكون عالما من هو خالق وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ لم يكن معنى صحيحا لاعتماد ألا يعلم على الحال والشيء لا يوقت بنفسه فلا يقال: ألا يعلم وهو عالم، ولكن ألا يعلم كذا وهو عالم كل شيء وأورد عليه أن اللطيف هو العالم بالخفيات فيكون المعنى ألا يكون عالما وهو عالم بالخفيات وهو مستقيم. وأجيب بأن لا يعلم من ذلك الباب وهو على ما قرره السكاكي مستغرق في المقام الخطابي واللَّطِيفُ الْخَبِيرُ من يوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن فهما سواء في الاستغراق والإطلاق. وتعقب بأن الاستغراق غير(15/15)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
لازم كما ذكره الزمخشري في قوله تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ [القصص: 23] . الآية ولو سلم فالوجه مختلف لأن العموم المستفاد من الثاني ليس العموم المستفاد من الأول، فإن اللطف للعلم بالخفايا خاصة ويلزم العلم بالجلايا من طريق الدلالة، ثم إن الغزالي اعتبر في مفهوم اللطيف مع العلم بخفايا الأمور سلوك سبيل الرفق في إيصال ما يصلحها فلا يتكرر مع الخبير بناء على أنه العالم بالخفايا أيضا والوجه في الحاجة إلى التقدير كما قال بعض الأئمة إن قوله تعالى: أَلا يَعْلَمُ تذييل بعد التعليل بقوله سبحانه إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فربط المعنى أن يقال أَلا يَعْلَمُ هذا الخفي أعني قولكم المسر به أو ألا يعلم سركم وجهركم من يعلم دقائق الخفايا وجلائلها جملها وتفاصيلها، ولو قيل ألا يكون عالما بليغ العلم من هو كذا لم يرتبط ولكان فيه عي وقصور وجوز كون من مفعول خلق واستظهره أبو حيان أي ألا يعلم مخلوقه وهذه حاله ورجح الأول بأن فيه إقامة الظاهر مقام الضمير الراجع إلى الرب وهو أدل على المحذوف أعني السر والجهر وتعميم المخلوق المتناول لهما تناولا أوليا ولهذا قدروا من خلق الأشياء دلالة على أن حذف المفعول للتعميم.
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا غير صعبة يسهل جدا عليكم السلوك فيها فهو فعول للمبالغة في الذل من ذل بالضم ويكسر ضد الصعوبة، ويستعمل المضموم فيما يقابل العز كما يقتضيه كلام القاموس. وقال ابن عطية: الذلول فعول بمعنى مفعول أي مذلولة كركوب وحلوب انتهى. وتعقب بأن فعله قاصر وإنما يعدى بالهمزة أو التضعيف فلا يكون بمعنى المفعول، واستظهر أن مذلولة خطأ وقال بعضهم: يقولون للدابة إذا كانت منقادة غير صعبة ذلول من الذل بالكسر وهو سهولة الانقياد وفي الكلام استعارة وقيل تشبيه بليغ وتقديم لكم على مفعولي الجعل مع أن حقه التأخر عنهما للاهتمام بما قدم والتشويق إلى ما أخر فإن ما حقه التقديم إذا(15/16)
أخر لا سيما عند كون المقدم مما يدل على كون المؤخر من منافع المخاطبين تبقى النفس مترقبة لوروده فيتمكن لديها عند ذكره فضل تمكن. والفاء في قوله تعالى فَامْشُوا فِي مَناكِبِها لترتيب الأمر على الجعل المذكور وزعم بعضهم أنها فصيحة والمراد بمناكبها على ما روي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما: جبالها. وقال الحسن: طرقها وفجاجها. وأصل المنكب مجتمع ما بين العضد والكتف، واستعماله فيما ذكر على سبيل الاستعارة التصريحية التحقيقية وهي قرينة المكنية في الأرض حيث شبهت بالبعير كما ذكره الخفاجي، ثم قال: فإن قلت كيف تكون مكنية وقد ذكر طرفها الآخر في قوله تعالى ذَلُولًا قلت هو بتقدير أرضا ذلولا فالمذكور جنس الأرض المطلق، والمشبه هو الفرد الخارجي وهو غير مذكور فيجوز كون ذلولا استعارة، والمكنية حينئذ هي مدلول الضمير لا المصرح بها في النظم الكريم والمانع من الاستعارة ذكر المشبه بعينه لا بما يصدق عليه فتأمل ولا تغفل. وفي الكشاف: المشي في مناكبها مثل لفرط التذليل ومجاوزته الغاية لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير وإنباه عن أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه لم يترك بقية من التذليل، والمراد أنه ليس هنا أمر بالمشي حقيقة وإنما القصد به إلى جعله مثلا لفرط التذليل سواء كانت المناكب مفسرة بالجبال أو غيرها وسواء كان ما قبل استعارة أو تشبيها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ انتفعوا بما أنعم جل شأنه وكثيرا ما يعير عن وجوه الانتفاع بالأكل لأنه الأهم الأعم. وفي أنوار التنزيل أي التمسوا من نعم الله سبحانه وتعالى على أن الأكل مجاز عن الالتماس من قبيل ذكر الملزوم وإرادة اللازم، قيل: وهو المناسب لقوله تعالى (امشوا) وجوز بعض إبقاءه على ظاهره على أن ذلك من قبيل الاكتفاء وليس بذاك، واستدل بالآية على ندب التسبب والكسب
وفي الحديث «إن الله تعالى يحب العبد المؤمن المحترف»
وهذا لا ينافي التوكل. بل أخرج الحكيم الترمذي عن معاوية بن قرة قال مر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بقوم فقال:
من أنتم؟ فقالوا: المتوكلون. قال: أنتم المتاكلون، إنما المتوكل رجل ألقى حبه في بطن الأرض وتوكل على ربه عزّ وجلّ. وتمام الكلام في هذا الفصل في محله. والمشهور أن الأمر في الموضعين للإباحة وجوز كونه لمطلق الطلب لأن من المشي وما عطف عليه ما هو واجب كما لا يخفى.
وَإِلَيْهِ النُّشُورُ أي المرجع بعد البعث لا إلى غيره عزّ وجلّ فبالغوا في شكر نعمه التي منها تذليل الأرض وتمكينكم منها وبث الرزق فيها، ومما يقضي منه العجب جواز عود ضمير رزقه على الأرض باعتبار أنها مبدأ أو عنصر من العناصر، أو ذلول وهو يستوي فيه المذكر والمؤنث والإضافة لأدنى ملابسة أي من الرزق الذي خلق عليها، وكذا ضمير إليه أي وإلى الأرض نشوركم ورجوعكم فتخرجون من بيوتكم وقصوركم إلى قبوركم. وجملة إليه النشور قيل عطف على الصلة بعد ملاحظة ما ترتب عليها وقيل حال مقدرة من ضمير المخاطبين المرفوع فتدبر أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ وهو الله عزّ وجلّ كما ذهب إليه غير واحد فقيل على تأويل مَنْ فِي السَّماءِ أمره سبحانه وقضاؤه يعني أنه من التجوز في الإسناد أو أن فيه مضافا مقدرا وأصله من في السماء أمره، فلما حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ارتفع واستتر. وقيل: على تقدير خالق من في السماء وقيل: فِي بمعنى على ويراد العلو بالقهر والقدرة وقيل هو مبني على زعم العرب حيث كانوا يزعمون أنه سبحانه في السماء فكأنه قيل: أَأَمِنْتُمْ من تزعمون أنه فِي السَّماءِ وهو متعال عن المكان وهذا في غاية السخافة فكيف يناسب بناء الكلام في مثل هذا المقام على زعم بعض زعم الجهلة كما لا يخفى على المنصف، أو هو غيره عز شأنه وإليه ذهب بعضهم فقيل: أريد بالموصول الملائكة عليهم السلام(15/17)
الموكلون بتدبير هذا العالم وقيل جبريل عليه السلام وهو الملك الموكل بالخسف، وأئمة السلف لم يذهبوا إلى غيره تعالى والآية عندهم من المتشابه.
وقد قال صلّى الله عليه وسلم: «آمنوا بمتشابهه»
ولم يقل أولوه فهم مؤمنون بأنه عزّ وجلّ في السماء على المعنى الذي أراده سبحانه مع كمال التنزيه، وحديث الجارية من أقوى الأدلة لهم في هذا الباب وتأويله بما أول ابن الخلف خروج عن دائرة الإنصاف عند أولي الألباب. وفي فتح الباري للحافظ ابن حجر أسند اللالكائي عن محمد بن الحسن الشيباني قال: اتفاق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاءت بها الثقات عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في صفة الرب من غير تشبيه ولا تفسير. وأسند البيهقي بسند صحيح عن أحمد بن أبي الحواري عن سفيان بن عيينة: كل ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه وهذه طريقة الشافعي وأحمد بن حنبل. وقال إمام الحرمين في الرسالة النظامية: اختلف مسالك العلماء في هذه الظواهر فرأى بعضهم تأويلها والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الله عزّ وجلّ، والذي نرتضيه رأيا وندين الله تعالى به عقيدة اتباع سلف الأمة للدليل القاطع على أن إجماع الأمة حجة، فلو كان تأويل هذه الظواهر حتما لا وشك أن يكون اهتمامهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، إذا انصرم عصر الصحابة والتابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتبع انتهى. كلام الإمام وقد تقدم النقل في ذلك عن أهل العصر الثالث وهم فقهاء الأمصار كالثوري والأوزاعي ومالك والليث ومن عاصرهم وكذا من أخذ عنهم من الأئمة، فكيف لا يوثق بما اتفق عليه أهل القرون الثلاثة وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام؟ انتهى كلام الحافظ على وجه الاختصار. ونقل نصوص الأئمة في إجراء ذلك على الظاهر مع التنزيه من غير تأويل يفضي إلى مزيد بسط وتطويل وقد ألفت فيه كتب معتبرة مطولة ومختصرة. وفي تنبيه العقول لشيخ مشايخنا إبراهيم الكوراني أن إجماع القرون الثلاثة على إجراء المتشابهات على مواردها مع التنزيه ب لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] دليل على أن الشارع صلوات الله تعالى وسلامه عليه أراد بها ظواهرها والجزم بصدقه صلّى الله عليه وسلم دليل على عدم المعارض العقلي الدال على نقيض ما دل عليه الدليل النقلي في نفس الأمر وإن توهمه العاقل في طور النظر والفكر. فمعرفة الله تعالى بهذا النحو من الصفات طور وراء ذلك انتهى. وأنا أقول في التأويل اتباع الظن وقول في الله عزّ وجلّ بغير علم وإلا لاتحد ما يذكرونه من المعنى فيه مع أن الأمر ليس كذلك حيث يذكرون في تأويل شيء واحد وجوها من الاحتمالات وفيما عليه السلف سلامة من ذلك ويكفي هذا في كونه أحسن المسالك.
وما عليّ إذا ما قلت معتقدي ... دع الجهول يظن الجهل عدوانا
وقرأ نافع «أأمنتم» بتحقيق الهمزة الأولى وتسهيل الثانية وأدخل أبو عمرو وقالون بينهما ألفا. وقرأ قنبل بإبدال الأولى واوا لضم ما قبلها وهو راء النشور وعنه وعن ورش غير ذلك أيضا. وقوله تعالى أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ بدل اشتمال من مَنْ وجوز أن يكون على حذف الجار أي من أن يخسف ومحله حينئذ النصب أو الجر والباء للملابسة والأرض مفعول به ليخسف والخسف قد يتعدى قال الراغب يقال خسفه الله تعالى وخسف هو قال تعالى: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ [القصص: 81] . أي أأمنتم من أن يذهب الأرض إلى سفل ملتبسة بكم وزعم بعضهم لزوم لزومه وأن الْأَرْضَ نصب بنزع الخافض أي أن يخسف بكم في الأرض وليس كذلك فَإِذا هِيَ حين الخسف تَمُورُ ترتج وتهتز اهتزازا شديدا، وأصل المور التردد في المجيء(15/18)
والذهاب أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً إضراب عن الوعيد بما تقدم إلى الوعيد بوجه آخر أي بل أأمنتم من في السماء أن يرسل إلخ وقد تقدم الكلام في الحاصب والوعيد بالخسف أولا لمناسبة ذكر الأرض في قوله تعالى هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا وقد ذكر المنة في تسهيل المشي في مناكبها وذكر إرسال الحاصب ثانيا وهذا في مقابلة الامتنان بقوله تعالى وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ألا ترى إلى قوله تعالى وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ [الذاريات: 22] قاله في الكشف وفي غرة التنزيل للراغب في وجه تقديم الوعيد بالخسف على التوعد بالحاصب إنه لما كانت الأرض التي مهدها سبحانه وتعالى لهم لاستقرارهم يعبدون فيها خالقها فعبدوا الأصنام التي هي شجرها أو حجرها خوفوا بما هو أقرب إليهم، والتخويف بالحاصب من السماء التي هي مصاعد كلهم الطيبة ومعارج أعمالهم الصالحة لأجل أنهم بدلوهما بسيئات كفرهم وقبائح أعمالهم، ولعل ما أشير إليه أولا أولى فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ أي إنذاري فنذير مصدر مثله في قول حسان:
فأنذر مثلها نصحا قريشا ... من الرحمن إن قبلت نذيري
وهو مضاف إلى ياء الضمير والقراء مختلفون فيها فمنهم من حذفها وصلا وأثبتها وقفا ومنهم من حذفها في الحالين اكتفاء بالكسرة، والمعنى فستعلمون ما حال إنذاري وقدرتي على إيقاعه عند مشاهدتكم للمنذر به ولكن لا ينفعكم العلم حينئذ وقرىء شاذا «فسيعلمون» بالياء التحتانية وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من قبل كفار مكة من كفار الأمم السالفة قوم نوح وعاد وأضرابهم والالتفات إلى الغيبة لإبرار الإعراض عنهم فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي إنكاري عليهم بإنزال العذاب أي كان على غاية الهول والفظاعة، وهذا هو مورد التأكيد القسمي لا تكذيبهم فقط الكلام في نَكِيرِ كالكلام في نَذِيرِ وفي الكلام من المبالغة في تسلية رسول الله صلّى الله عليه وسلم وتشديد التهديد لقومه ما لا يخفى أَوَلَمْ يَرَوْا أغفلوا ولم ينظروا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها فإنهن إذا بسطنها صففن قوادمها أعني ما تقدم من ريشها صفا ونصب صافَّاتٍ على الحال من الطير أو من ضميرها في فَوْقَهُمْ وهو في موضع الحال فتكون الحال متداخلة وجوز أن يكون ظرفا لصافات أو ليروا ومفعول صافات على الاحتمالات محذوف كما أشرنا إليه، وناسب ذكر الاعتبار بالطير ذكر التوعد بالحاصب لا سيما إذا فسر بالحجارة إذ قد أهلك الله تعالى بذلك أصحاب الفيل حينما رمتهم به الطير، ففي ذلك إذكار قريش بتلك القصة وَيَقْبِضْنَ ويضممن أجنحتهن إذا ضربن بها جنوبهن والعطف على صافَّاتٍ لأن المعنى يصففن ويقبضن، أو صافات وقابضات وعطف الفعل على الاسم في مثله فصيح شائع وعكسه جائز حسن إلّا عند السهيلي فإنه عنده قبيح نحو قوله:
بات يعشيها بعضب باتر ... يقصد في أسوقها وجائر
فإنه أراد قاصد وجائر ولما كان أصل الطيران هو صف الأجنحة لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء، والأصل فيها مد الأطراف وبسطها وكان القبض طارئا على البسط للاستظهار به على التحرك، جيء بما هو طار غير أصل بلفظ الفعل وبما هو أصل بلفظ الاسم على معنى أنهن صافات ويكون منهن القبض تارة بعد تارة ويتجدد حينا إثر حين كما يكون من السابح ما يُمْسِكُهُنَّ في الجو عند الصف والقبض على خلاف مقتضى طبيعة الأجسام الثقيلة من النزول إلى الأرض والانجذاب إليها إِلَّا الرَّحْمنُ الواسع رحمته كل شيء حيث برأهن عز وجل على أشكال وخصائص وألهمهن حركات قد تأتي منها الجري في الهواء والجملة مستأنفة أو حال من الضمير في يَقْبِضْنَ وقرأ الزهري «ما يمسّكهن» بالتشديد إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ دقيق(15/19)
العلم فيعلم سبحانه وتعالى كيفية إبداع المبدعات وتدبير المصنوعات ومن هذا خلقه عز وجل للطير على وجه تأتي به جريه في الجو مع قدرته تعالى أن يجريه فيه بدون ذلك إلا أن الحكمة اقتضت ربط المسببات بأسبابها، وليس فيما ذكرنا نزوع إلى ما يضر من أقوال أهل الطبيعة لأن كون طبيعة الأجسام الثقيلة ما سمعت أمر محسوس لا ينكره إلا من كابر حسه، ومثله كون الإمساك بالسبب السابق وكونه سببا من آثار رحمته تعالى الواسعة، وأبى ذلك أبو حيان توهما منه أنه نزوع إلى ما يضر من أقوال أهل الطبيعة وقال: نحن نقول إن أثقل الأشياء إذا أراد الله سبحانه إمساكه في الهواء واستعلاءه إلى العرش كان ذلك، وإذا أراد جل شأنه إنزال ما هو أخف سفلا إلى منتهى ما ينزل كان أيضا وليس ذلك لشكل أو ثقل أو خفة ونحن لا ننكر أن الله تعالى على كل شيء قدير وأنه سبحانه فعال لما يريد وأنه لا يتوقف فعله عز وجل على السبب عقلا بيد أنا نقول إنه تعالى اقتضت حكمته في هذا العالم ذلك الربط، وهو أمر عادي اختاره تعالى حكمة وتفضلا ولو شاء جل وعلا غيره لكان كما شاء وتقديم بِكُلِّ شَيْءٍ على بَصِيرٌ للفاصلة أو للحصر ردا على من يزعم عدم شمول علمه تعالى شأنه أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ متعلق عند كثير بقوله سبحانه أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فقال في الإرشاد هو تبكيت لهم بنفي أن يكون لهم ناصر غير الله تعالى كما يلوح به التعرض لعنوان الرحمانية ويعضده قوله تعالى ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ أو ناصر من عذابه تعالى كما هو الأنسب بقوله تعالى بعد أن أمسك رزقه كقوله تعالى أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا [الأنبياء: 43] في المعنيين معا خلا أن الاستفهام هناك متوجه إلى نفس المانع وتحققه وهنا متوجه إلى تعيين الناصر لتبكيتهم بإظهار عجزهم عن تعيينه و (أم) منقطعة مقدرة ببل للانتقال من توبيخهم على ترك التأمل فيما يشاهدونه من أحوال الطير المنبئة عن تعاجيب آثار قدرة الله عز وجل إلى التبكيت بما ذكر والالتفات للتشديد في ذلك، ولا سبيل إلى تقدير الهمزة معها لأن بعدها من الاستفهامية والاستفهام لا يدخل على الاستفهام في المعروف عندهم وهي مبتدأ وهذا خبره وفي الموصول هنا الاحتمالات المشهورة في مثله وجملة يَنْصُرُكُمْ صفة لجند باعتبار لفظه ومِنْ دُونِ الرَّحْمنِ على الوجه الأول أما حال من فاعل يَنْصُرُكُمْ أو نعت لمصدره وعلى الثاني متعلق بينصركم كما في قوله تعالى مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ [هود: 63] فالمعنى من هذا الحقير الذي هو في زعمكم جند لكم ينصركم متجاوزا نصر الرحمن أو ينصركم نصرا كائنا من دون نصره تعالى أو ينصركم من عذاب كائن من عند الله عز وجل وقوله تعالى إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ اعتراض مقرر لما قبله ناع عليهم ما هم فيه من غاية الضلال أي ما هم في زعمهم أنهم محفوظون من النوائب بحفظ آلهتهم لا بحفظه تعالى فقط، وأن آلهتهم تحفظهم من بأس الله تعالى إلا في غرور عظيم وضلال فاحش من جهة الشيطان ليس لهم في ذلك شيء يعتد به في الجملة والالتفات إلى الغيبة للإيذان باقتضاء حالهم الإعراض عنهم وبيان قبائحهم للغير والإظهار في موضع الإضمار لذمهم بالكفر وتعليل غرورهم به والكلام في قوله تعالى:
أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ أي الله عز وجل رِزْقَهُ بإمساك المطر وسائر مبادئه كالذي مر وقوله تعالى بَلْ لَجُّوا إلخ منبىء عن مقدر يستدعيه المقام كأنه قيل أثر التبكيت والتعجيز لم يتأثروا بذلك ولم يذعنوا للحق بل لجوا وتمادوا فِي عُتُوٍّ في عناد واستكبار وطغيان وَنُفُورٍ شراد عن الحق لثقله عليهم وجعل ناصر الدين أم من هذا الذين هو إلخ عديلا لقوله تعالى أَوَلَمْ يَرَوْا على معنى ألم ينظروا في(15/20)
أمثال هذه الصنائع من القبض والبسط والإمساك وما شاكل ذلك مما يدل على كمال القدرة فلم يعلموا قدرتنا على تعذيبهم بنحو خسف وإرسال حاصب أم لكم جند ينصركم من دون الله أن أرسل عليكم عذابه. وقال إنه كقوله تعالى أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا إلّا أنه أخرج مخرج الاستفهام عن تعيين من ينصرهم اشعارا بأنهم اعتقدوا هذا القسم وجعل قوله تعالى أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إلخ على معنى أم من يشار إليه ويقال هذا الذي يرزقكم فقيل إنه عليه الرحمة جعل في الأولى (أم) متصلة و (من) استفهامية وجعل في الثانية (أم) منقطعة و (من) موصولة وهذَا الَّذِي مبتدأ وخبر واقع صلة على تقدير القول وقدر لاستهجان أن يقال الذي هذا الذي يرزقكم ويجعل هذا قائما مقام الضمير الراجع إلى الموصول الأول ومن قيل مبتدأ خبره محذوف أي رازق لكم، وكأنه أشار بذلك إلى صحة كل من الأمرين في الموضعين. وحديث لزوم اجتماع الاستفهامين في بعض الصور ودخول الاستفهام على الاستفهام قيل عليه إنه ليس بضائر إذ لا مانع من اجتماع الاستفهامين إذا قصد التأكيد وقد نقل ابن الشجري عن جميع البصريين أن أم المنقطعة أبدا بمعنى بل والهمزة أي ولو دخلت على استفهام نحو أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ [الرعد: 16] وأَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل:
84] ومذهب غيرهم أنها قد تأتي بمعنى الاستفهام المجرد وروي ذلك عن أبي عبيدة وأنها قد تأتي للإضراب المجرد وقد تتضمنه والاستفهام الإنكاري أو الطلبي. والزمخشري قال في الموضعين: أم من يشار إليه ويقال هذا الذي وجوز في هذا أن يكون إشارة إلى مفروض وأن يكون إشارة إلى جميع الأوثان لاعتقادهم أنهم يحفظون من النوائب ويرزقون ببركة آلهتهم، فكأنهم الجند والناصر والرازق والآية على هذا ليست متعلقة بقوله تعالى أَوَلَمْ يَرَوْا على ما حققه صاحب الكشف قال بعد أن أوضح كلامه: إذا تقرر ذلك فاعلم أن الذي يقتضيه النظم على هذا التفسير أن يكون قوله تعالى أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ متعلقا بحديث الخسف وقوله سبحانه أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ بحديث إرسال الحاصب على سبيل النشر كأنه لما قيل أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فتضطرب نافرة بعد ما كانت في غاية الذلة عقب بقول أم آمنكم الفوج الذي هو في زعمكم هو جند لكم يمنعكم من عذاب الله تعالى وبأسه على أن (أم) منقطعة والاستفهام تهكم، وكذلك لما قيل أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً بدل ما يرسل عليكم رحمته ذنب بقول أم آمنكم الذي تتوهمون أنه يرزقكم وأما قوله تعالى وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فاعتراض يشد من عضد التحذير وأن في الأمم الماضين المخسوف بهم والمرسل عليهم الحواصب إلى غير ذلك من أنواع عذابه عز وجل ما يسلبهم الطمأنينة والوقار لو اعتبروا، وكذلك قوله سبحانه أَوَلَمْ يَرَوْا تصوير لقدرته تعالى الباهرة وإن من قدر على ذلك كان الخسف وإرسال الحاصب عليه أهون شيء، وفيه كما أنه بعظيم قدرته وشمول رحمته أمسك الطير كذلك إمساكه العذاب وإلا فهؤلاء يستحقون كل نكال، وفي الإتيان بهذا من التحقير الدال على تسفيه رأيهم وتقدير القول الدال على الزعم والتأكيد بالموصولين الدال على تأكد اعتقادهم في ذلك الباطل إن كان إشارة إلى الأصنام أو كمال التهكم بهم كأنهم محققون معلومون إن كان إشارة إلى فوج مفروض لأن حالهم في الأمن يقتضي ذلك وهذا أبلغ ولذا قدمه الزمخشري ما يقضي منه العجب ويلوح الإعجاز التنزيلي كأنه رأي العين ثم قال: فهذا ما هديت إليه مع الاعتراف بأن الاعتراف من تيار كلام الله تعالى له رجال ما أبعد مثلي عنهم ولكن أتسلى بقول إمامنا الشافعي:
أحب الصالحين ولست منهم ... انتهى(15/21)
ولعمري قد أبدع وتبوأ ما قاله من القبول عند ذوي العقول المحل الأرفع ويعجبني طرف تدر دموعه.
على فضله العالي فلله دره. وظاهره أن من في الموضعين فاعل لفعل محذوف دل عليه السياق أعني أمنكم لا مبتدأ خبره محذوف كما قيل فيما سبق وقد جوز في الآية غير ما تقدم من أوجه الإعراب وهو أن يكون من خبرا مقدما وهذا مبتدأ ورجح على ما مر من عكسه بأنه سالم عما فيه من الإخبار بالمعرفة عن النكرة فإنه غير جائز عند الجمهور وجوازه مذهب سيبويه إذا كان المبتدأ اسم استفهام أو أفعل تفضيل. وقرأ طلحة في الأولى «أمن» بتخفيف الميم وشدد في الثانية كالجماعة وقوله تعالى أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ مثل ضرب للمشرك والموحد توضيحا لحاليهما في الدنيا وتحقيقا لشأن مذهبيهما والفاء لترتيب ذلك على ما ظهر من سوء حال الكفرة وخرورهم في مهاوي الغروز وركوبهم متن عشواء العتو والنفور، فإن تقدم الهمزة عليها صورة إنما هو لاقتضاء الصدارة، وأما بحسب المعنى فالمعنى بالعكس على ما هو المشهور حتى لو كان مكان الهمزة هل لقيل فهل من يمشي إلخ و (من) موصولة مبتدأ ويَمْشِي صلته ومُكِبًّا حال من الضمير المستتر فيه، وعلى وجهه ظرف لغو متعلق بمكبا أو مستقر حال والأول أولى وأَهْدى خبر (من) و (من) الثانية عطف على الأولى وهو من عطف المفرد على المفرد كما في قولك أزيد أفضل أم عمرو، وقيل: مبتدأ خبره محذوف لدلالة خبر الأولى عليه ولا حاجة إلى ذلك لما سمعت. والمكب الساقط على وجهه يقال: أكب خرّ على وجهه وهو من باب الأفعال، والمشهور أنه لازم وثلاثيه متعد فيقال: كبّه الله تعالى فأكب، وقد جاء ذلك على خلاف القياس وله نظائر يسيرة كأمرت الناقة درت ومر تيها وأشنق البعير رفع رأسه وشنقته، واقشع الغيم وقشعته الريح أي أزالته وكشفته، وأنزفت البئر ونزفتها أخرجت ماءها، وأنسل ريش الطائر ونسلته. وقال بعضهم: التحقيق أن الهمزة فيه للصيرورة فمعنى أكب صار ذا كب ودخل فيه كما في ألأم إذا صار لئيما وانفض إذا صار نافضا لما في مزودته وليست للمطاوعة، ومطاوع كب إنما هو انكب وقد ذهب إلى ذلك ابن سيده في المحكم تبعا للجوهري وغيره، وتبعه ابن الحاجب وأكثر شراح المفصل إلا أن كلام بعض الأجلة ظاهر في التسوية بين المطاوعة والصيرورة، وحكى ابن الأعرابي: كبه الله تعالى وأكبه بالتعدية وفي القاموس ما هو نص فيه وعليه لا مخالفة للقياس، والمعنى أفمن يمشي وهو يعثر في كل ساعة ويخرّ على وجهه في كل خطوة لتوعر طريقه واختلاف أجزائه بانخفاض بعض وارتفاع بعض آخر أهدى وأرشد إلى المقصد الذي يؤمه أم من يمشي قائما سالما من الخبط والعثار على طريق مستوي الأجزاء لا اعوجاج فيه ولا انحراف؟ ولم يصرح بطريق الكافر بل أشير إليه بما دل على توعره وعدم استقامته، أعني مكبا للإشعار بأن ما عليه لا يليق أن يسمى طريقا. وفسر بعضهم السوي بمستوي الجهة قليل الانحراف على أن المكب المتعسف الذي ينحرف هكذا وهكذا وهو غير مناسب هنا لأن قوله تعالى عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يصير كالمكرر وأفعل هنا مثله على ما في البحر في قولك: العسل أحلى من الخل. والآية على ما روي عن ابن عباس نزلت في أبي جهل عليه اللعنة وحمزة رضي الله تعالى عنه والمراد العموم كما روي عن ابن عباس أيضا ومجاهد والضحاك. وقال قتادة: نزلت مخبرة عن حال الكافر والمؤمن في الآخرة فالكفار يمشون فيها على وجوههم والمؤمنون يمشون على استقامة.
وروي أنه قيل للنبي صلّى الله عليه وسلم كيف يمشي الكافر على وجهه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «إن الذي أمشاه في الدنيا على رجليه قادر على أن يمشيه في الآخرة على وجهه» .
وعليه فلا تمثيل وقيل المراد بالمكب الأعمى وبالسوي البصير وذلك إما من باب الكناية أو من باب المجاز المرسل وهو لا يأبى جعله بعد تمثيلا لمن سمعت كما هو معلوم في محله.(15/22)
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ أي القلوب قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي تلك النعم كان تستعملون السمع في سماع الآيات التنزيلية على وجه الانتفاع بها والإبصار في النظر بها إلى الآيات التكوينية الشاهدة بشؤون الله عز وجل والأفئدة بالتفكر بها فيما تسمعونه وتشاهدونه ونصب قَلِيلًا على أنه صفة مصدر مقدر أي شكرا قليلا وما مزيدة لتأكيد التقليل والجملة حال مقدرة والقلة على ظاهرها أو بمعنى النفي إن كان الخطاب للكفرة وجوز في الجملة أن تكون مستأنفة والأول أولى قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي خلقكم وكثركم فيها لا غيره عز وجل وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ للجزاء لا إلى غيره سبحانه اشتراكا أو استقلالا فابنوا أمركم على ذلك وَيَقُولُونَ من فرط عتوهم ونفورهم مَتى هذَا الْوَعْدُ أي الحشر الموعود كما ينبىء عنه قوله تعالى وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يخاطبون به النبي صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين حيث كانوا مشاركين له عليه الصلاة والسلام في الوعد وتلاوة الآيات المتضمنة له وجواب الشرط محذوف أي إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيما تخبرونه من مجيء الساعة والحشر فبينوا وقته. قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ أي العلم بوقته عِنْدَ اللَّهِ عز وجل لا يطلع عليه غيره عز وجل كقوله تعالى قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي [الأعراف: 187] وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أنذركم وقوع الموعود لا محالة وأما العلم بوقت وقوعه فليس من وظائف الإنذار والفاء في قوله تعالى فَلَمَّا رَأَوْهُ فصيحة معربة عن تقدير جملتين وترتيب الشرطية عليهما كأنه قيل وقد أتاهم الموعود فرأوه فلما رأوه إلخ، وهذا نظير قوله تعالى فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ [النمل: 40] إلّا أن المقدر هناك أمر واقع مرتب على ما قبله بالفاء وهاهنا أمر منزل منزلة الواقع وارد على طريقة الاستئناف وقوله تعالى زُلْفَةً حال من مفعول رأوه إما بتقدير المضاف أي ذا زلفة وقرب أو على أنه مصدر بمعنى الفاعل أي مزدلفا أو على أنه مصدر نعت به مبالغة أو ظرف أي رأوه في مكان ذي زلفة، وفسر بعضهم الزلفة بالقريب والأمر عليه ظاهر وكذا على ما روي عن ابن زيد من تفسيره بالحاضر. وقال الراغب:
الزلفة المنزلة والحظوة وما في الآية قيل معناه زلفة المؤمنين، وقيل زلفة لهم. واستعمل الزلفة في منزلة العذاب كما استعملت البشارة ونحوها من الألفاظ انتهى. ولا زلفة في كلا القولين سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا سامتها رؤيته بأن غشيتها بسبها الكآبة ورهقها القتر والذلة ووضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بالكفر وتعليل الساءة به وأشم أبو جعفر والحسن وأبو رجاء وشيبة وابن وثاب وطلحة وابن عامر ونافع الكسائي كسر سين «سيئت» الضم وَقِيلَ توبيخا لهم وتشديد العذاب بهم هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ أي تطلبونه في الدنيا وتستعجلونه إنكارا واستهزاء على أنه تفتعلون من الدعاء والباء صلة الفعل وقيل هو من الدعوى أي تدعون أن لا بعث ولا حشر فالباء سببية أو للملابسة باعتبار الذكر. وأيد التفسير الأول بقراءة أبي رجاء والضحاك والحسن وقتادة وابن يسار وعبد الله بن مسلم وسلام ويعقوب «تدعون» بسكون الدال وهي قراءة ابن أبي عبلة وأبي زيد وعصمة عن أبي بكر والأصمعي عن نافع وذكر الزمخشري في سورة المعارج أن يدعون مخففا من قولهم دعا بكذا إذا استدعاه وعن الفراء أنه من دعوت أدعو والمعنى هذا الذي كنتم به تستعجلون وتدعون الله تعالى بتعجيله يعني قولهم إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ [الأنفال: 32] إلخ وروي عن مجاهد أن الموعود عذاب يوم بدر وهو بعيد وأما ما قيل من أن الموعود الخسف والحاصب وقد وقعا لأن المراد بالخسف الذل كما في قوله:
ولا يقيم على خسف يراد به ... إلا الأذلان عير الحي والوتد(15/23)
وبالحاصب الحصى وقد رمى صلّى الله عليه وسلم به في وجوههم كما في الخبر المشهور، أو لم يقعا بناء على ما عرف أولا من المراد بهما ولا يضر ذلك إذ تخلف الوعيد لا ضير فيه فليس بشيء كما لا يخفى وكان كفار مكة يدعون على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك فقال سبحانه له عليه الصلاة والسلام قُلْ أَرَأَيْتُمْ أي أروني كما هو المشهور وقد مر تحقيقه إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أي من المؤمنين أَوْ رَحِمَنا أي بالنصرة عليكم فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ أي فمن يجيركم من عذاب النار، وأقيم الظاهر مقام المضمر المخاطب دلالة على أن موجب البوار محقق فأنّى لهم الإجارة والظاهر أن جواب الشرط والمعطوف عليه شيء واحد وحاصل المعنى لا مجير لكم من عذاب النار لكفركم الموجب له انقلبنا إلى رحمة الله تعالى بالهلاك كما تمنون لأن فيه الفوز بنعيم الآخرة أو بالنصرة عليكم، والأدلة للإسلام كما نرجو لأن في ذلك الظفر بالبغيتين ويتضمن ذلك حثهم على طلب الخلاص بالإيمان وأن فيما هم فيه شغلا شاغلا عن تمني هلاك النبي عليه الصلاة والسلام ومن معه من المؤمنين، وهذا أوجه أوجه ثلاثة ذكرها الزمخشري. ثانيها أن المعنى أن أهلكنا الله تعالى بالموت ونحن هداتكم والآخذون بحجزكم فمن يجيركم من النار وإن رحمنا بالغلبة عليكم وقتلكم عكس ما تمنون فمن يجيركم لأن المقتول على أيدينا هالك في الدنيا والآخرة، وعلى هذا الجواب متعدد لتعدد موجبه، ورجح الأول بأن فيه تسفيها لرأيهم لطلبهم ما هو سعادة أعدائهم ثم الحث على ما هو أحرى وهو الخلاص مما هم فيه من موجب الهلاك وهذا فيه الأول من حيث إنهم لم يتمنون هلاك من يجيرهم من عذاب بإرشاده والسياق ادعى للأول وثالثها أن المعنى إن أهلكنا الله تعالى في الآخرة بذنوبنا ونحن مسلمون فمن يجير الكافرين وهم أولى بالهلاك لكفرهم وإن رحمنا بالإيمان فمن يجير من لا إيمان له وعلى هذا الجواب متعدد أيضا، والهلاك فيه محمول على المجاز دون الحقيقة كما في سابقه، والغرض الجزم بأنهم لا مجير لهم وأن حالهم إذا ترددت بين الهلاك بالذنب والرحمة بالإيمان وهم مؤمنون فماذا يكون حال من لا إيمان له وهذا فيه بعد قُلْ أي لهم جوابا عن تمنيهم ما لا يجديهم بل يرديهم معرضا بسوء ما هم عليه هُوَ الرَّحْمنُ أي الله الرحمن آمَنَّا بِهِ أي فيجيرنا برحمته عز وجل من عذاب الآخرة ولم نكفر مثلكم حتى لا نجاز البتة ولما جعل الكفر سبب الإساءة في الآية الأولى جعل الإيمان سبب الإجارة في هذه ليتم التقابل ويقع التعريض موقعه ولم يقدم مفعول آمَنَّا لأنه لو قيل به آمنا كان ذهابا إلى التعريض بإيمانهم بالأصنام وكان خروجا عما سيق له الكلام وحسن التقديم في قوله تعالى وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا لاقتضاء التعريض بهم في أمر التوكل ذلك أي وعليه توكلنا ونعم الوكيل فنصرنا لا على العدد والعدد كما أنتم عليه والحاصل أنه لما ذكر فيما قبل الإهلاك والرحمة وفسر برحمة الدنيا والآخرة أكد هاهنا بحصولها لهم في الدارين لإيمانهم وتوكلهم عليه تعالى خاصة، وفي ذلك تحقيق عدم حصولها للكافرين لانتفاء الموجبين ثم في الآية خاتمة على منوال السابقة وتبيين أن أحسن العمل الإيمان والتوكل على الله تعالى وحده وهو حقيقة التقوى وقوله تعالى فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي في الدارين وعيد بعد تلخيص الموجب لكنه أخرج مخرج الكلام المنصف أي من هو منا ومنكم في إلخ وقرأ الكسائي «فسيعلمون» بياء الغيبة نظرا إلى قوله تعالى فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ وقوله سبحانه قُلْ أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً أي غائرا ذاهبا في الأرض بالكلية وعن الكلبي لا تناله الدلاء وهو مصدر وصف به للمبالغة أو مؤول باسم الفاعل. وأيّا ما كان فليس المراد بالماء ماء معينا وإن كانت الآية كما روى ابن المنذر والفاكهي عن ابن الكلبي نازلة في بئر زمزم وبئر ميمون بن الحضرمي فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ أي جار أو ظاهر سهل المأخذ لوصول الأيدي(15/24)
إليه وهو فعيل من معن أو مفعول من عين وعيد في الدنيا خاصة
وأردف الوعيد السابق به تنبيها بالأدنى على الأعلى، وأنكم إذا لم تعبدوه عز وجل للحياة الباقية فاعبدوه للفانية، وتليت هذه الآية عند بعض المستهزئين فلما سمع فَمَنْ يَأْتِيكُمْ
إلخ قال تجيء به الفؤوس والمعاول، فذهب ماء عينيه. نعوذ بالله تعالى من الجراءة على الله جل جلاله وآياته وتفسير الآيات على هذا الطرز هو ما اختاره بعض الأئمة وهو أبعد مغزى من غيره والله تعالى أعلم بأسرار كلامه.(15/25)
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22)
سورة القلم
هي من أوائل ما نزل من القرآن بمكة فقد نزلت على ما روي عن ابن عباس اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق:
1] ثم هذه ثم المزمل ثم المدثر. وفي البحر أنها مكية بلا خلاف فيها بين أهل التأويل وفي الإتقان استثني منها إِنَّا بَلَوْناهُمْ- إلى- يَعْلَمُونَ [القلم: 17- 33] ومن فَاصْبِرْ- إلى- الصَّالِحِينَ [القلم: 48- 50] فإنه مدني حكاه السخاوي وفي جمال القراء وآيها ثنتان وخمسون آية بالإجماع ومناسبتها لسورة الملك على ما قيل من جهة ختم تلك بالوعيد وافتتاح هذه به. وقال الجلال السيوطي في ذلك: إنه تعالى لما ذكر في آخر الملك التهديد بتغوير الماء استظهر عليه في هذه بإذهاب ثمر أصحاب البستان في ليلة بطائف طاف عليهم وهم نائمون فأصبحوا ولم يجدوا له أثرا حتى ظنوا أنهم ضلوا الطريق، وإذا كان هذا في الثمار وهي أجرام كثيفة فالماء الذي هو لطيف أقرب إلى الإذهاب ولهذا قال سبحانه هنا وَهُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ [القلم: 19، 20] وقال جل وعلا هنا إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً [الملك: 30] إشارة إلى أنه يسرى عليه في ليلة كما أسرى على الثمر في ليلة انتهى، ولا يخلو عن حسن. وقال أبو حيان فيه: إنه ذكر فيما قبل أشياء من أحوال السعداء والأشقياء وذكر قدرته الباهرة وعلمه تعالى الواسع، وأنه عز وجل لو شاء لخسف بهم الأرض أو لأرسل عليهم حاصبا وكان ما أخبر به سبحانه هو ما أوحى به إلى رسوله صلّى الله عليه وسلم فتلاه عليه الصلاة والسلام وكان الكفار ينسبونه في ذلك مرة إلى الشعر ومرة إلى السحر ومرة إلى الجنون فبدأ جل شأنه هذه السورة الكريمة ببراءته صلّى الله عليه وسلم مما كانوا ينسبونه إليه من الجنون وتعظيم أجره على صبره على أذاهم، وبالثناء على خلقه فقال عز من قائل:(15/26)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ن بالسكون على الوقف وقرأ الأكثرون بسكون النون وإدغامها في واو وَالْقَلَمِ بغنة عند بعض وبدونها عند آخرين وقرىء بكسر النون. وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق وعيسى بخلاف عنه بفتحها وكل لالتقاء الساكنين، وجوز أن يكون الفتح بإضمار حرف القسم في موضع الجر كقولهم الله لأفعلن بالجر وأن يكون ذلك نصبا بإضمار اذكر ونحوه لا فتحا وامتناع الصرف للتعريف والتأنيث على أنه علم للسورة ثم إن جعل اسما للحرف مسرودا على نمط التعديد للتحدي على ما اشتهر وبين في موضعه، أو اسما للسورة منصوبا على الوجه المذكور أو مرفوعا على أنه خبر مبتدأ محذوف قالوا وفي قوله تعالى وَالْقَلَمِ للقسم وإن جعل مقسما به فهي للعطف عليه على الشائع واختار السلف أن ن من المتشابه وغير واحد من الخلف أنه هنا من أسماء الحروف. وقالوا: يؤيد ذلك أنه لو كان اسم جنس أو علما لأعرب منونا أو ممنوعا من الصرف ولكتب كما يتلفظ به، وكون كتابته كما ترى لنية الوقف وإجراء الوصل مجراه خلاف الأصل وكون خط المصحف لا يقاس مسلم إلا أن الأصل إجراؤه على القياس ما أمكن وقيل هو اسم لحوت عليه الأرض يقال له اليهموت بفتح الياء المثناة التحتية وسكون الهاء ففي حديث رواه الضياء في المختار والحاكم وصححه. وجمع عن ابن عباس خلق الله تعالى النون فبسطت الأرض عليه فاضطرب النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال ثم قرأ ن وَالْقَلَمِ إلخ. وروي ذلك عن مجاهد وروي عن ابن عباس أيضا والحسن وقتادة والضحاك أنه اسم للدواة وأنكر الزمخشري ورود النون بمعنى الدواة في اللغة أو في الاستعمال المعتد به، وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون لغة لبعض العرب أو لفظه أعجمية عربية وأنشد قول الشاعر:
إذا ما الشوق برح بي إليهم ... ألقت النون بالدمع السجوم
والأولون منهم من فسر القلم بالذي خط في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة، ومنهم من فسره بقلم الملائكة الكرام الكاتبين، وأل فيه على التفسيرين للعهد والآخرون منهم من فسره بالجنس على أن التعريف فيه جنسي، ومنهم وهم قليل من فسره بما تقدم أيضا لكن الظاهر من كلامهم أن الدواة ليست عبارة عن الدواة المعروفة بل هي دواة خلقت يوم خلق ذلك القلم
وعن معاوية بن قرة يرفعه: «إن ن لوح من نور والقلم قلم من نور يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة» .
وعن جعفر الصادق: إنه نهر من أنهار الجنة.
وفي البحر لعله لا يصح شيء من ذلك أي من جميع ما ذكر في ن ما عدا كونه اسما من أسماء الحروف وكأنه إن كان مطلعا على الروايات التي ذكرناها لم يعتبر تصحيح الحاكم فيما روي أولا عن ابن عباس، ولا كون أحد رواته الضياء في المختارة التي هي في الاعتبار قرينة من الصحاح ولا كثرة راوية عنه وهو الذي يغلب على الظن لكثرة الاختلاف فيما روي عنه في تعيين المراد به حتى أنه روي عنه أنه آخر حرف من حروف الرحمن، وأن هذا الاسم الجليل فرق في الر وحم ون ولا يخفى أنه إن أريد الحوت أو نهر في الجنة يصير الكلام من باب كم الخليفة وألف بادنجانة وأما إن أريد الدواة فالتنكير آب عن ذلك أشد الإباء على أنه كما سمعت عن الزمخشري لغة لم تثبت، والرد عليه إنما يتأتى بإثبات ذلك عن الثقات. وأنّى به، وذكر(15/27)
صاحب القاموس لا ينتهض حجة على أنه معنى لغوي، وفي صحة الروايات كلام والبيت الذي أنشده ابن عطية لم يثبت عربيا وكونه بمعنى الحوت أطلق على الدواة مجازا بعلاقة المشابهة فإن بعض الحيتان يستخرج منه شيء أشد سوادا من النقس يكتب به لا يخفى ما فيه من السماجة فإن ذلك البعض لم يشتهر حتى يصح جعله مشبها به مع أنه لا دلالة للمنكر على ذلك الصنف بعينه، وكونه بمعنى الحرف مجازا عنها أدهى وأمر كذا قيل، وللبحث في البعض مجال وللقصاص هذا الفصل روايات لا يعول عليها ولا ينبغي الإصغاء إليها ثم إن استحقاق القلم للإعظام بالإقسام به إذا أريد به قلم اللوح الذي جاء في الأخبار أنه أول شيء خلقه الله تعالى أو قلم الكرام الكاتبين ظاهر، وأما استحقاق ما في أيدي الناس إذا أريد به الجنس لذلك فلكثرة منافعه ولو لم يكن له مزية سوى كونه آلة لتحرير كتب الله عز وجل لكفى به فضلا موجبا لتعظيمه. والضمير في قوله سبحانه وَما يَسْطُرُونَ أي يكتبون إما للقلم مرادا به قلم اللوح وعبر عنه بضمير الجمع تعظيما له أو له مرادا به جنس ما به الخط، فضمير الجمع لتعدده لكنه ليس بكاتب حقيقة بل هو آلة للكاتب فالإسناد إليه إسناد إلى الآلة مجازا، والتعبير عنه بضمير العقلاء لقيامه مقامهم وجعله فاعلا أو للكتبة أو الحفظة المفهومين من القلم أولهم باعتبار أنه أريد بالقلم أصحابه تجوزا أو بتقدير مضاف معه، ولا يخفى ما هو الأوجه من ذلك، وأما كونه لما وهي بمعنى من فتكلف بارد والظاهر فيها أنها إما موصولة أي والذي يسطرونه أو مصدرية أي وسطرهم ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ جواب القسم والباء الثانية مزيدة لتأكيد النفي، ومجنون خبر ما والباء الأولى للملابسة في موضع الحال والعامل مجنون وباؤه لا تمنع العمل لأنها مزيدة، وتعقبه ناصر الدين بأن فيه نظرا من حيث المعنى ووجه بأن محصله على هذا التقدير أنه انتفى عنك الجنون وقت التباسك بنعمة ربك، ولا يفهم منه انتفاء مطلق الجنون عنه صلّى الله عليه وسلم وهل المراد إلّا هذا وقيل عليه لا يخفى أنه وارد على ما اختاره هو أيضا أي وذلك لأن المعنى حينئذ انتفى عنك ملتبسا بنعمة ربك الجنون ولا يفهم منه انتفاؤه عنه عليه الصلاة والسلام في جميع الأوقات وهو المراد، وأجيب بأن تلك الحالة لازمة له صلّى الله عليه وسلم غير منفكة عنه فنفيه عنه فيها مستلزم لنفيه عنه دائما وسائر الحالات وتعقب بأن هذا متأت على كلا التقديرين لا اختصاص له بأحدهما دون الآخر، وأنت خبير بأنه فرق بينهما إذ يصير المعنى على تقدير كون العامل مجنون كما أشير إليه أنه انتفى عنك الجنون الواقع عليك حالة الالتباس المذكور، وهذا يدل على إمكان وقوعه في تلك الحالة بل على تحققه أيضا وهو معنى لاغ إذ كيف يتصور وجود الجنون ووقوعه وقت التباسه صلّى الله عليه وسلم بالنعمة، ومن جملتها الحصافة ولا يرد هذا على التقدير المختار إذ الانتفاء المفهوم حينئذ لا يكون واردا على الجنون المقيد بما ذكر وهو وإن كان مقيدا فيه أيضا لا ضير به لكون قيده لازما لذات المنفي عنه كما عرفت هذا، وقيل: إذا حمل الباء على السببية واعتبر الظرف لغوا يظهر عدم جواز تعلقه بما بعده من حيث المعنى:
ظهور نار القرى ليلا على علم ولهم في الجملة الحالية والحال إذا وقعت بعد النفي كلام ذكره الخفاجي وحقق أنه حينئذ إنما يلزم انتفاء مقارنة الحال لذي الحال لا نفيها نفسها فتدبر ولا تغفل. وجوز كون بِنِعْمَةِ رَبِّكَ قسما متوسطا في الكلام لتأكيده من غير تقدير جواب، أو يقدر له جواب يدل عليه الكلام المذكور، واستظهر هذا الوجه أبو حيان والتعرض لوصف الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى معارج الكمال مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لتشريفه صلّى الله عليه وسلم والإيذان بأنه تعالى يتم نعمته عليه ويبلغه في العلو إلى غاية لا غاية وراءها، والمراد تنزيهه(15/28)
صلّى الله عليه وسلم عما كانوا ينسبونه إليه صلّى الله عليه وسلم من الجنون حسدا وعداوة ومكابرة، فحاصل الكلام أنت منزه عما يقولون وَإِنَّ لَكَ بمقابلة مقاساتك ألوان الشدائد من جهتهم وتحملك أعباء الرسالة لَأَجْراً لثوابا عظيما لا يقادر قدره غَيْرَ مَمْنُونٍ أي مقطوع مع عظمه أو غير ممنون عليك من جهة الناس فإنه عطاؤه تعالى بلا واسطة أو من جهته تعالى لأنك حبيب الله تعالى وهو عز وجل أكرم الأكرمين، ومن شيمة الأكارم أن لا تمنوا بإنعامهم لا سيما إذا كان على أحبابهم كما قال:
سأشكر عمرا إن تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلت
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ لا يدرك شأوه أحد من الخلق ولذلك تحتمل من جهتهم ما لا يحتمله أمثالك من أولي العزم.
وفي حديث مسلم وأبي داود والإمام أحمد والدارمي وابن ماجة والنسائي عن سعد بن هشام قال قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها: يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى قالت: فإن خلق نبي الله كان القرآن
وأرادت بذلك على ما قيل إن ما فيه من المكارم كله كان فيه صلّى الله عليه وسلم، وما فيه من الزجر عن سفساف الأخلاق كان منزجرا به عليه الصلاة والسلام لأنه المقصود بالخطاب بالقصد الأول كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ [الفرقان: 32] وربما يرجع إلى هذا قولها كما
في رواية ابن المنذر وغيره عن أبي الدرداء أنه سألها عن خلقه عليه الصلاة والسلام فقالت: كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويسخط لسخطه
وقال العارف بالله تعالى المرصفي أرادت بقولها: كان خلقه القرآن تخلقه بأخلاق الله تعالى لكنها لم تصرح به تأدبا منها. وفي الكشف أنه أدمج في هذه الجملة أنه صلّى الله عليه وسلم متخلق بأخلاق الله عز وجل بقوله سبحانه عَظِيمٍ وزعم بعضهم أن في الآية رمزا إلى أن الأخلاق الحسنة مما لا تجامع الجنون، وأن كلما كان الإنسان أحسن أخلاقا كان أبعد عن الجنون، ويلزم من ذلك أن سوء الأخلاق قريب من الجنون فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ أي المجنون كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس وابن المنذر عن ابن جبير وعبد بن حميد عن مجاهد، وأطلق على المجنون لأنه فتن أي محن بالجنون، وقيل لأن العرب يزعمون أن الجنون من تخبيل الجن وهم الفتان للفتاك منهم والباء مزيدة في المبتدأ وجوز ذلك سيبويه أو الفتنة فالمفتون مصدر كالمعقول والمجلود أي الجنون كما أخرجه عبد بن حميد عن الحسن وأبي الجوزاء وهو بناء على أن المصدر يكون على وزن المفعول كما جوزه بعضهم والباء عليه للملابسة أو بأي الفريقين منكم الجنون أبفريق المؤمنين أم بفريق الكافرين أي في أيهما يوجد من يستحق هذا الاسم وهو تعريض بأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهما. والباء على هذا بمعنى في وقدر بأي الفريقين منكم دفعا لما قيل من أن الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وجماعة قريش ولا يصح أن يقال لجماعة وواحد في أيكم زيد، وأيد الاعتراض بأن قوله تعالى فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ خطاب له عليه الصلاة والسلام خاصة وجواب التأييد أن الخطاب بظاهره خص برسول الله صلّى الله عليه وسلم ليجري الكلام على نهج السوابق ولا يتنافر لكنه ليس كالسوابق في الاختصاص حقيقة لدخول الأمة فيه أيضا فيصح تقدير بأي الفريقين، وادعى صاحب الكشف أن هذا أوجه الأوجه لإفادته التعريض وسلامته عن استعمال النادر يعني زيادة الباء في المبتدأ، وكون المصدر على زنة المفعول وإليه ذهب الفراء، ويؤيده قراءة ابن أبي عبلة في «أيكم» وأيّا ما كان فالظاهر أن بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ معمول لما قبله على سبيل التنازع، والمراد فستعلم ويعلمون ذلك يوم القيامة حين يتبين الحق من الباطل، وروي ذلك عن ابن عباس وقيل فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ في الدنيا بظهور عاقبة الأمر بغلبة الإسلام واستيلائك عليهم بالقتل والنهب وصيرورتك(15/29)
مهيبا معظما في قلوب العالمين، وكونهم أذلة صاغرين ويشمل هذا ما كان يوم بدر. وعن مقاتل أن ذلك وعيد بعذاب يوم بدر وقال أبو عثمان المازني: إن الكلام قد تم عند قوله تعالى وَيُبْصِرُونَ ثم استأنف قوله سبحانه بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ على أنه استفهام يراد به الترداد بين أمرين معلوم نفي الحكم عن أحدهم وتعيين وجوده للآخر وهو كما ترى إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ استئناف لبيان ما قبله وتأكيد لما تضمنه من الوعد والوعيد، أي هو سبحانه أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ المؤدي إلى سعادة الدارين وهام في تيه الضلال متوجها إلى ما يقتضيه من الشقاوة الأبدية ومزيد النكال، وهذا هو المجنون الذي لا يفرق بين النفع والضر بل يحسب الضرر نفعا فيؤثره والنفع ضررا فيهجره وَهُوَ عز وجل أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ إلى سبيله، الفائزين بكل مطلوب، الناجين عن كل محذور، وهم العقلاء المراجيح فيجزي كلا من الفريقين حسبما يستحقه من العقاب والثواب. وفي الكشاف إن ربك هو أعلم بالمجانين على الحقيقة وهم الذين ضلوا عن سبيله، وهو أعلم بالعقلاء وهم المهتدون أو يكون وعيدا ووعدا، وأنه سبحانه أعلم بجزاء الفريقين. قال في الكشف هو على الأول تذييل مؤكد لما رمز إليه في السابق من أن المفتون من قرفك به جار على أسلوب المؤكد في عدم التصريح ولكن على وجه أوضح فإن قوله تعالى بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ لا تعيين فيه بوجه وهذا بدل هُوَ أَعْلَمُ بالمجنون. وبالعاقل يدل على أن الجنون بهذا الاعتبار لا بما توهموه وثبت لهم صرف الضلال في عين هذا الزعم، وعلى الثاني هو تذييل أيضا ولكن على سبيل التصريح لأن بِمَنْ ضَلَّ أقيم مقام (بهم) وبِالْمُهْتَدِينَ أقيم مقام (بكم) ولعل ما اعتبرناه أملا بالفائدة، وكأن تقديم الوعيد ليتصل بما أشعر به أولا والتعبير في جانب الضلال بالفعل للإيماء بأنه خلاف ما تقتضيه
الفطرة وزيادة هو أعلم لزيادة التقرير مع الإيذان باختلاف الجزاء. والفاء في قوله تعالى فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ لترتيب النهي على ما ينبىء عنه ما قبله من اهتدائه صلّى الله عليه وسلم وضلالهم أو على جميع ما فضل من أول السورة، وهذا تهييج وإلهاب للتصميم على معاصاتهم أي دم على ما أنت عليه من عدم طاعتهم وتصلب في ذلك، وجوز أن يكون نهيا عن مداهنتهم ومداراتهم بإظهار خلاف ما في ضميره صلّى الله عليه وسلم استجلابا لقلوبهم لا عن طاعتهم حقيقة، وينبىء عنه قوله تعالى وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ لأنه تعليل للنهي أو للانتهاء، وإنما عبر عنه بالطاعة للمبالغة في التنفير أي أحبوا لو تلاينهم وتسامحهم في بعض الأمور فَيُدْهِنُونَ أي فهم يدهنون حينئذ أو فهم الآن يدهنون طعما في ادهانك، فالفاء للسببية داخلة على جملة مسببة عما قبلها، وقدر المبتدأ لمكان رفع بالفعل والفرق بين الوجهين أن المعنى على أنهم تمنوا لو تدهن فتترتب مداهنتهم على مداهنتك، ففيه ترتب إحدى المداهنتين على الأخرى في الخارج ولَوْ فيه غير مصدرية، وعلى الثاني هي مصدرية، والترتب ذهني على ودادتهم وتمنيهم، وجوز أن تكون الفاء لعطف يدهنون على تُدْهِنُ على أنه داخل معه في حيز لو متمنى مثله، والمعنى ودوا لو يدهنون عقيب ادهانك وما تقدم أبعد عن القيل والقال، وأيّا ما كان فالمعتبر في جانبهم حقيقة الادهان الذي هو لإظهار الملاينة وإضمار خلافها، وإما في جانبه عليه الصلاة والسلام فالمعتبر بالنسبة إلى ودادتهم هو إظهار الملاينة فقط، وأما إضمار خلافها فليس في حيز الاعتبار بل هم في غاية الكراهة له، وإنما اعتباره بالنسبة إليه عليه الصلاة والسلام وفي بعض المصاحف كما قال هارون «فيدهنوا» بدون نون الرفع، فقيل: هو منصوب في جواب التمني المفهوم من وَدُّوا وقيل إنه عطف على تُدْهِنُ بناء على أن لَوْ بمنزلة أن الناصبة فلا يكون لها جواب، وينسبك منها ومما بعدها مصدر يقع مفعولا لودوا كأنه قبل ودوا أن تدهن فيدهنوا، ولعل هذا مراد من قال إنه عطف على توهم أن، وجمهور النحاة على أن(15/30)
لَوْ على حقيقتها وجوابها محذوف. وكذا مفعول وَدُّوا أي ودوا ادهانك لو تدهن فيدهنون لسروا بذلك وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ كثير الحلف في الحق والباطل وكفى بهذا مزجرة لمن اعتاد الحلف لأنه جعل فاتحة المثالب وأساس الباقي، وهو يدل على عدم استشعار عظمة الله عز وجل وهو أم كل شر عقدا وعملا، وذكر بعضهم أن كثرة الحلف مذمومة ولو في الحق لما فيها من الجرأة على اسمه جل شأنه، وهذا النهي للتهييج والإلهاب أيضا أي دم على ما أنت عليه من عدم طاعة كل حلاف مَهِينٍ حقير الرأي والتدبير. وقال الرماني: المهين الوضيع لإكثاره من القبيح من المهانة وهي القلة، وأخرج ابن المنذر وعبد بن حميد عن قتادة أنه قال: هو المكثار في الشر. وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنه الكذاب هَمَّازٍ عياب طعان قال أبو حيان: هو من الهمز وأصله في اللغة الضرب طعنا باليد أو بالعصا ونحوها، ثم استعير للذي ينال بلسانه قال منذر بن سعيد وبعينه وإشارته مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ نقّال للحديث من قوم إلى قوم على وجه الإفساد بينهم، فإن النميم والنميمة مصدران بمعنى السعاية والإفساد. وقيل: النميم جمع نميمة يريدون به الجنس وأصل النميمة الهمس والحركة الخفيفة، ومنه اسكت الله تعالى نامته أي ما ينم عليه من حركته مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ أي بخيل ممسك من منع معروفه عنه إذا أمسكه فاللام للتقوية والخير على ما قيل المال أو مناع الناس الخير وهو الإسلام من منعت زيدا من الكفر إذا حملته على الكف، فذكر الممنوع منه كأنه قيل مناع من الخير دون الممنوع وهو الناس عكس وجه الأول والتعميم هنالك وعدم ذكر الممنوع منه أوقع مُعْتَدٍ مجاوز في الظلم حده أَثِيمٍ كثير الآثام وهي الأفعال البطيئة عن الثواب والمراد بها المعاصي والذنوب عُتُلٍّ قال ابن عباس الشديد الفاتك، وقال الكلبي: الشديد الخصومة بالباطل. وقال معمر وقتادة: الفاحش اللئيم، وقيل: هو الذي يعتل الناس أي يجرهم إلى حبس أو عذاب بعنف وغلظة، ويقال عتنه بالنون كما يقال عتله باللام كما قال ابن السكيت وقرأ الحسن «عتلّ» بالرفع على
الذم بَعْدَ ذلِكَ أي المذكور من مثالبه وقبائحه وبَعْدَ هنا كثم الدالة على التفاوت الرتبي فتدل على أن ما بعد أعظم في القباحة وفي الكشف أشعر كلام الزمخشري أنه متعلق بعتل فلزم تباينه من الصفات السابقة وتباين ما بعده أيضا لأنه في سلكه زَنِيمٍ دعي ملحق بقوم ليس منهم كما قال ابن عباس، والمراد به ولد الزنا كما جاء بهذا اللفظ عنه رضي الله تعالى عنه وأنشد الحسان:
زنيم تداعته الرجال زيادة ... كما زيد في عرض الأديم الأكارع
وكذا جاء عن عكرمة وأنشد:
زنيم ليس يعرف من أبوه ... بغيّ الأم ذو حسب لئيم
من الزنمة بفتحات وهي ما يتدلى من الجلد في حلق المعز والفلقة من أذنه تشق فتترك معلقة، وإنما كان هذا أشد المعايب لأن الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث الناشئ منها ومن ثم
قال صلّى الله عليه وسلم: «فرخ الزنا أي ولده لا يدخل الجنة»
فهو محمول على الغالب فإنه في الغالب لخباثة نطفته يكون خبيثا لا خير فيه أصلا فلا يعمل عملا يدخل به الجنة. وقال بعض الأجلة: هذا خارج مخرج التهديد والتعريض بالزاني، وحمل على أنه لا يدخل الجنة مع السابقين
لحديث الدارمي عن عبد الله بن عمر مرفوعا: «لا يدخل الجنة عاق ولا ولد زنية ولا منان ولا مدمن خمر»
فإنه سلك في قرن العاق والمنان ومدمن الخمر ولا ارتياب أنهم عند أهل السنة ليسوا من زمرة من لا يدخل الجنة أبدا. وقيل المراد أنه لا يدخل الجنة بعمل أبويه إذا مات صغيرا بل يدخلها بمحض(15/31)
فضل الله تعالى ورحمته سبحانه كأطفال الكفار عند الجمهور. وروى ابن جبير عن ابن عباس أن الزنيم هو الذي يعرف بالشر كما تعرف الشاة بالزنمة. وفي رواية ابن أبي حاتم عنه هو الرجل يمر على القوم فيقولون رجل سوء والمال واحد وعنه أيضا أنه المعروف بالأبنة ولا يخفى أن المأبون معدن الشرور بل من لم يصل في ذلك الأمر الشنيع إلى تلك المرتبة كذلك في الأغلب ولا حاجة إلى كثرة الاستشهاد في هذا الباب. وفي قول الشاعر الاكتفاء وهو:
ولكم بذلت لك المودة ناصحا ... فغدرت تسلك في الطريق الأعوج
ولكم رجوتك للجميل وفعله ... يوما فناداني النهي لا ترتج
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه أنه قال: نزل على النبيّ صلّى الله عليه وسلم وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ إلخ فلم يعرف حتى نزل عليه الصلاة والسلام بعد ذلك زَنِيمٍ فعرفناه له زنمة في عنقه كزنمة الشاة، واستشكل هذا بأن الزنيم عليه ليس صفة ذم فضلا عن كونه أعظم فيه من الصفات التي قبل ذلك على ما يفيده بعد ذلك، ولا يكاد يحسن تعليل النهي به على أن من المعلوم أن ليس المراد بالموصوف بهذه الصفات شخصا بعينه لمكان كُلَّ ويحمل ما جاء في الروايات من أنه الوليد بن المغيرة المخزومي وكان دعيا في قريش ليس من سنخهم ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة من مولده، أو الحكم طريد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أو الأخنس بن سريق وكان أصله من ثقيف وعداده في زهرة أو الأسود بن عبد يغوث، أو أبو جهل على بيان سبب النزول وقيل في ذلك أن المراد ذمه بقبح الخلق بعد ذمه بما تقدم وهو كما ترى فتأمل فلعلك تظفر بما يريح البال ويزيح الإشكال.
وقوله تعالى أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ بتقدير لام التعليل وهو متعلق بقوله سبحانه لا تُطِعْ أي لا تطع من هذه مثالبه لأن كان متمولا متقويا بالبنين وقوله سبحانه إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ استئناف جار مجرى التعليل للنهي وجوز أن يكون لأن متعلقا بنحو كذب، ويدل عليه الجملة الشرطية ويقدر مقدما دفعا لتوهم الحصر كأنه قيل كذب لأن كان إلخ والمراد أنه بطر نعمة الله تعالى ولم يعرف حقها ولم يجوز تعلقه بقال المذكور بعد لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله، ولعل من يقول باطراد التوسع في الظرف يجوز ذلك وكذا من يجعل إذا هنا ظرفية. وقال أبو علي الفارسي: يجوز تعلقه بعتل وإن كان قد وصف، وتعقبه أبو حيان بأنه قول كوفي ولا يجوز ذلك عند البصريين، وقيل متعلق بزنيم ويحسن ذلك إذا فسر بقبيح الأفعال.
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وأبو جعفر وأبو بكر وحمزة وابن عامر «أأن كان» على الاستفهام وحقق الهمزتين حمزة وسهل الثانية باقيهم على ما في البحر. وقال بعض: قرأ أبو بكر وحمزة بهمزتين وابن عامر بهمزة ومدة والمعنى أكذب بها لأن كان ذا مال أو أطيعه لأن كان إلخ. وقرأ نافع في رواية اليزيدي عنه «إن كان» بالكسر على أن شرط الغنى في النهي عن الطاعة كالتعليل بالفقر في النهي عن قتل الأولاد بمعنى النهي في غير ذلك يعلم بالطريق الأولى فيثبت بدلالة النص والشرط والعلة في مثله مما لا مفهوم له، أو على أن الشرط للمخاطب. وحاصل المعنى لا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ إلخ شارطا يساره لأن إطاعة الكافر لغناه بمنزلة اشتراط غناه في الطاعة. وفيه تنزيل المخاطب منزلة من شرط ذلك وحققه زيادة للإلهاب والثبات، وتعريضا بمن يحسب الغنى مكرمة. والظاهر أن الجملة الشرطية بعد استئناف وقيل: هذا مما اجتمع فيه شرطان وليسا من الشروط المترتبة الوقوع فالمتأخر لفظا هو المتقدم، والمتقدم لفظا هو شرط في الثاني فهو كقوله:
فإن عثرت بعدها إن وألت ... نفسي من هاتا فقولا لا لعا(15/32)
وقرأ الحسن «أئذا» على الاستفهام وهو استفهام تقريع وتوبيخ على قوله أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ سَنَسِمُهُ سنجعل له سمة وعلامة عَلَى الْخُرْطُومِ أي على الأنف وهو من باب إطلاق مشفر على شفة غليظة لإنسان كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى، وعبر بذلك عن غاية الإذلال لأن السمة على الوجه شين حتى أنه صلّى الله عليه وسلم نهى عنه في الحيوانات ولعن فاعله فكيف على أكرم موضع منه وهو الأنف لتقدمه، وقد قيل الجمال في الأنف وعليه قول بعض الأدباء:
وحسن الفتى في الأنف والأنف عاطل ... فكيف إذا ما الخال كان له حليا
وجعلوه مكان العزة والحمية واشتقوا منه الأنفة وقالوا: الأنف في الأنف وحمى أنفه وفلان شامخ العرنين.
وقالوا في الذليل: جدع أنفه ورغم أنفه ومنه قول جرير:
لما وضعت على الفرزدق ميسمي ... وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل
وفي لفظ الْخُرْطُومِ استهانة لأنه لا يستعمل إلّا في الفيل والخنزير، ففي التعبير عن الأنف بهذا الاسم ترشيح لما دل عليه الوسم على العضو المخصوص من الإذلال والمراد سنهينه في الدنيا ونذله غاية الإذلال، وكون الوعيد المذكور في الدنيا هو المروي عن قتادة وذهب إليه جمع إلّا أنهم قالوا: المعنى سنفعل به في الدنيا من الذم والمقت والاشتهار بالشر ما يبقى فيه ولا يخفى، فيكون ذلك كالوسم على الأنف ثابتا بيّنا كما تقول: سأطوقك طوق الحمامة أي أثبت لك الأمر بيّنا فيك، وزاد ذلك حسنا ذكر الْخُرْطُومِ انتهى. وبينه وبين ما تقدم فرق لا يخفى وقال بعض: هو في الآخرة، ومن القائلين بأن هذا وعيد بأمر يكون فيها من قال هو تعذيب بنار على أنفه في جهنم وحكي ذلك عن المبرد وقال آخرون منهم يوسم يوم القيامة على أنفه بسمة يعرف بها كفره وانحطاط قدره. وقال أبو العالية ومقاتل واختاره الفراء المراد يسود وجهه يوم القيامة قبل دخول النار، وذكر الْخُرْطُومِ والمراد الوجه مجازا ومن القائلين بأنه يكون في الدنيا من قال هو وعيد بما أصابه يوم بدر فإنه خطم فيه بالسيف فبقيت سمة على خرطومه، وروي هذا عن ابن عباس، والمعروف في كتب السير والأحاديث أن أبا جهل قتل يوم بدر والباقين ما عدا الحكم ماتوا قبله فلم يسم أحد منهم بذلك الوسم، وكذا الحكم لم يعلم أنه وسم بذلك وإن كان لم يمت قبل. وعن النضر بن شميل أن الخرطوم الخمر وأنشد:
تظل يومك في لهو وفي لعب ... وأنت بالليل شراب الخراطيم
وإن المعنى سنحده على شربها وتعقب بأنه تنفيه الرواية بأنه أولئك الكفرة هلكوا قبل تحريم الخمر ما عدا الحكم وهو لم يثبت أنه حد على أنهم لم يكونوا ملتزمي الأحكام والدراية أيضا لتعقيد اللفظ وفوات فخامة المعنى إِنَّا بَلَوْناهُمْ أي أصبنا أهل مكة ببلية وهي القحط بدعوة رسول الله صلّى الله عليه وسلم
وقوله: «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف»
كَما بَلَوْنا أي مثل ما بلونا، فالكاف في محل نصب صفة مصدر مقدر و (ما) مصدرية وقيل بمعنى الذي أي كالبلاء الذي بلوناه أَصْحابَ الْجَنَّةِ المعروف خيرها عندهم كانت بأرض اليمن بالقرب منهم قريبا من صنعاء لرجل كان يؤدي حق الله تعالى منها فمات فصارت إلى ولده فمنعوا الناس خيرها وبخلوا بحق الله تعالى منها، فكان ما ذكره الله تعالى وكانت على ما أخرج ابن المنذر وغيره عن ابن جرير بأرض في اليمن يقال لها صوران بينها وبين صنعاء ستة أميال. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس هم ناس من الحبشة كانت لأبيهم جنة وكان يطعم منها المساكين فمات فقال(15/33)
بنوه: إن كان أبونا لأحمق حين يطعم المساكين فأقسموا على أن لا يطعموا منها مسكينا. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال: كانت لشيخ من بني إسرائيل وكان يمسك قوت سنته ويتصدق بالفضل، وكان بنوه ينهونه عن الصدقة فلما مات أقسموا على منع المساكين. وفي رواية أنها كانت لرجل صالح على فرسخين من صنعاء وكان يترك للمساكين ما أخطأه المنجل وما في أسفل الأكداس وما أخطأه القطاف من العنب وما بقي على البساط تحت النخلة إذا صرمت فكان يجتمع لهم شيء كثير فلما مات قال بنوه: إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر ونحن أولو عيال فحلفوا ليصرمنها وقت الصباح خفية عن المساكين كما قال عز وجل إِذْ أَقْسَمُوا معمول لبلونا لَيَصْرِمُنَّها ليقطعن من ثمارها بعد استوائها مُصْبِحِينَ داخلين في الصباح وهذا حكاية لقسمهم لا على منطوقهم وإلا لقيل لنصرمنها بنون المتكلمين وكلا الأمرين جائز في مثله وَلا يَسْتَثْنُونَ قيل أي ولا يقولون إن شاء الله وتسميته استثناء مع أنه شرط من حيث إن مؤداه مؤدى الاستثناء، فإن قولك لأخرجن إن شاء الله تعالى ولا أخرج إلا أن يشاء الله تعالى بمعنى واحد. وقال الإمام أصل الاستثناء من الثني وهو الكف والرد وفي التقييد بالشرط رد لانعقاد ذلك اليمين فإطلاقه عليه حقيقة وقيل أي ولا ينثنون عما هموا به من منع المساكين والظاهر على القولين عطفه على أَقْسَمُوا فمقتضى الظاهر وما استثنوا وكأنه إنما عدل عنه إليه استحضار للصورة لما فيها من نوع غرابة لأن اللائق في الحلف على ما يلزم منه ترك طاعة الاستثناء، وفي الكشف هو حال أي غير مستثنين وفي العدول إلى المضارع نوع تعبير وتنبيه على مكان خطئهم، وفيه رمز إلى ما ذكرنا وقيل: المعنى ولا يستثنون حصة المساكين كما كان يخرج أبوهم وعليه هو معطوف على قوله تعالى لَيَصْرِمُنَّها ومقسم عليه أو على قوله سبحانه مُصْبِحِينَ الحال وهو معنى لا غبار عليه فَطافَ عَلَيْها أي أحاط نازلا على الجنة طائِفٌ أي بلاء محيط فهو صفة لمحذوف، وقول قتادة طائِفٌ أي عذاب بيان لحاصل المعنى ونحوه قول ابن عباس أي أمر وعن الفراء تخصيص الطائف بالأمر الذي يأتي بالليل وكان ذلك على ما قال ابن جريج عنقا من نار خرج من وادي جنتهم وقيل: الطائف هو جبريل عليه السلام اقتلعها وطاف بها حول البلد ثم وضعها قرب مكة حيث مدينة الطائف اليوم ولذلك سميت بالطائف وليس في أرض الحجاز بلدة فيها الماء والشجر والأعناب غيرها ولا يصح هذا عندي كالقول بأن الطائف المدينة المذكورة كانت بالشام فنقلها الله تعالى إلى الحجاز بدعوة إبراهيم عليه السلام وكذا القول بأنها طافت على الماء في الطوفان ولو قيل كل ذلك على ظاهره حديث خرافة لا يعد حديث خرافة وقرأ النخعي «طيف» مِنْ رَبِّكَ مبتدىء من جهته عز وجل وَهُمْ نائِمُونَ في موضع الحال والمراد أتاها ليلا كما روي عن قتادة. وقيل المراد وهم غافلون غفلة تامة عما جرت به المقادير والأول أظهر من جهة السباق واللحاق فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ كالبستان الذي صرمت ثماره بحيث لم يبق فيها شيء ففعيل بمعنى مفعول وقال ابن عباس: كالرماد الأسود وهو بهذا المعنى لغة خزيمة، وعنه أيضا الصريم رملة باليمن معروفة لا تنبت شيئا. وقال مؤرج كالرملة انصرمت من معظم الرمل وهي لا تنبت شيئا ينفع وقال منذر والفراء وجماعة: الصريم الليل، والمراد أصبحت محترقة تشبه الليل في السواد وقال الثوري:
كالصبح من حيث ابيضت كالزرع المحصود وقال بعضهم يسمى كل من الليل والنهار صريما لانصرام كل عن صاحبه وانقطاعه عنه فَتَنادَوْا نادى بعضهم بعضا مُصْبِحِينَ لقسمهم السابق أَنِ اغْدُوا أي اخرجوا على أن أَنِ تفسيرية واغْدُوا بمعنى اخرجوا، أو بأن اغدوا على أن أَنِ مصدرية وقبلهما حرف جر مقدر وهي يجوز أن توصل بالأمر على الأصح عَلى حَرْثِكُمْ أي بستانكم إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ أي(15/34)
فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
قاصدين للصرم وقطع الثمار فاغدوا، وقيل يحتمل أن يكون المراد إن كنتم أهل عزم وإقدام على رأيكم من قولهم سيف صارم وليس بذاك. وظاهر كلام جار الله أن غدا بمعنى بكر يتعدى بإلى وعدي هاهنا بعلى لتضمين الغد، ومعنى الإقبال كما في قولهم يغدى عليه بالجفنة ويراح أي فأقبلوا على حرثكم باكرين ويجوز أن يكون من غدا عليه إذا غار بأن يكون قد شبه غدوهم لقطع الثمار بغدو الجيش على شيء لأن معنى الاستعلاء والاستيلاء موجود فيه وهو الصرم والقطع، ويكون هناك استعارة تبعية وجوز أن تعتبر الاستعارة تمثيلية وقال أبو حيان الذي في حفظي أن غدا يتعدى بعلى كما في قوله:
وقد نغدو على ثبة كرام ... نشاوى واجدين لما نشاء
وكذا بكر مرادفه كما في قوله:
بكرت عليه غدوة فرأيته ... قعودا لديه بالصريم عواذله
فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ أي يتشاورون فيما بينهم بطريق المخافتة، وخفى بفتح الفاء وخفت وخفد ثلاثتها في معنى الكتم ومنه الخفدود للخفاش والخفود للناقة التي تلقي ولدها قبل أن يستبين خلقه أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ أي الجنة عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ أن مفسرة لما في التخافت من معنى القول أو مصدرية، والتقدير بأن ويؤيد الأول قراءة عبد الله وابن أبي عبلة بإسقاطها، وعليه قيل هو بتقدير القول وقيل العامل فيه يَتَخافَتُونَ لتضمنه معنى القول وهو المذهب الكوفي فيه وفي أمثاله، وأيّا ما كان فالمراد بنهي المسكين عن الدخول المبالغة في النهي عن تمكينه منه كقولهم لا أرينك هاهنا وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ أي منع كما قال(15/35)
أبو عبيد وغيره من قولهم حاردت الإبل إذا قّلت ألبانها وحاردت السنة قل مطرها وخيرها والجار متعلق بقوله تعالى قادِرِينَ قدم للحصر ورعاية الفواصل أي وغدوا قادرين على منع لا غير والمعنى أنهم عزموا على منع المساكين وطلبوا حرمانهم ونكدهم وهم قادرون على نفعهم فغدوا بحال لا يقدرون فيها إلّا على المنع والحرمان، وذلك أنهم طلبوا حرمان المساكين فتعجلوا الحرمان أو غدوا على محاردة جنتهم وذهاب خيرها بدل كونهم قادرين على إصابة خيرها ومنافعها أي غدوا حاصلين على حرمان أنفسهم مكان كونهم قادرين على الانتفاع، والحصر على الأول حقيقي وعلى هذا إضافي بالنسبة إلى انتفاعهم من جنتهم والحرمان عليه خاص بهم، وجوز أن يكون عَلى حَرْدٍ متعلقا بغدوا، والمراد بالحرد حرد الجنة جيء به مشاكلة للحرث كأنه لما قالوا اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ وقد خبثت نيتهم عاقبهم الله تعالى بأن حاردت جنتهم وحرموا خيرها فلم يغدوا على حرث وإنما غدوا على حرد وقادِرِينَ من عكس الكلام للتهكم أي قادرين على ما عزموا عليه من الصرام وحرمان المساكين. وقيل الحرد الحرد بفتح الراء وقد قرىء به وهو بمعنى الغيظ والغضب كما قال أبو نصر أحمد بن حاتم صاحب الأصمعي وأنشد:
إذا جياد الخيل جاءت تردي ... مملوءة من غضب وحرد
أي لم يقدروا إلّا على إغضاب بعضهم لبعض كقوله تعالى فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ [القلم: 30] وروي هذا عن سفيان والسدي والحصر حقيقي ادعائي أو إضافي. وقيل بمعنى القصد والسرعة وأنشد:
أقبل سيل جاء من أمر الله ... يحرد حرد الجنة المغلة
أي غدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة قادرين عند أنفسهم على صرامها وروي هذا عن ابن عباس ف عَلى حَرْدٍ ظرف مستقر حال من ضمير غَدَوْا وقادِرِينَ حال أيضا إلّا أنها حال مقدرة على ما قيل وقيل حال حقيقية بناء على القيد بعند أنفسهم وإنما قيد به لأن ثمار جنتهم هالكة فلا قدرة لهم على صرامها وقد فنيت: وقال الأزهري حَرْدٍ اسم قريتهم وفي رواية عن السدي اسم جنتهم ولا أظن ذلك مرادا وقيل الحرد الانفراد يقال: حرد عن قومه إذا تنحى عنهم ونزل منفردا وكوكب حرود معتزل عن الكواكب والمعنى وغدوا إلى جنتهم منفردين عن المساكين ليس أحد منهم معهم قادرين على صرامها وهو من باب التهكم، وقيل قادرين على هذا القول من التقدير بمعنى التضييق أي مضيقين على المساكين إذ حرموهم ما كان أبوهم ينيلهم منها وهو حال مقدرة فَلَمَّا رَأَوْها أول ما وقع نظرهم عليها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ طريق جنتنا وما هي بها قاله قتادة: وقيل لَضَالُّونَ عن الصواب في غدونا على نية منع المساكين وليس بذاك بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قالوه بعد ما تأملوا ووقفوا على حقيقة الأمر مضربين عن قولهم الأول أي لسنا ضالين بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ حرمنا خيرها بجنايتنا على أنفسنا قالَ أَوْسَطُهُمْ أي أحسنهم وأرجحهم عقلا ورأيا أو أوسطهم سنا أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ أي لولا تذكرون الله تعالى وتتوبون إليه من خبث نيتكم وقد كان قال لهم حين عزموا على ذلك اذكروا الله تعالى وتوبوا إليه عن هذه النية الخبيثة من فوركم وسارعوا إلى حسم شرها قبل حلول النقمة فعصوه فعيرهم ويدل على هذا المعنى قوله تعالى قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ لأن التسبيح ذكر الله تعالى وإِنَّا كُنَّا إلخ ندامة واعتراف بالذنب فهو توبة، والظاهر أنهم إنما تكلموا بما كان يدعوهم إلى التكلم به على أثر مقارفة الخطيئة ولكن بعد خراب البصرة، وقيل المراد بالتسبيح الاستثناء(15/36)
لالتقائهما في معنى التعظيم لله عز وجل لأن الاستثناء تفويض إليه سبحانه والتسبيح تنزيه له تعالى وكل واحد من التفويض والتنزيه تعظيم فكأنه قيل ألم أقل لكم لولا تستثنون أي تقولون إن شاء الله تعالى. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي وابن المنذر عن ابن جريج وحكاه في البحر عن مجاهد وأبي صالح أنهما قالا كان استثناؤهم في ذلك الزمان التسبيح كما نقول نحن إن شاء الله تعالى وجعله بعض الحنفية استثناء اليوم فعنده لو قال لزوجته أنت طالق سبحان الله لا تطلق، ونسب إلى الإمام ابن الهمام وادعى أنه قاله في فتاويه، ووجه بأن المراد بسبحان الله فيما ذكر أنزه الله عز وجل من أن يخلق البغيض إليه وهو الطلاق فإنه قد ورد أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق وأنكر بعض المتأخرين نسبته إلى ذلك الإمام المتقدم ونفى أن يكون له فتاوى.
واعترض التوجيه المذكور بما اعترض وهو لعمري أدنى من أن يعترض عليه. وأنا أقول أولى منه قول النحاس في توجيه جعل التسبيح موضع الاستثناء أن المعنى تنزيه الله تعالى أن يكون شيء إلا بمشيئته وقد يقال: لعل من قال ذلك بنى الأمر على صحة ما روي وإن شرع من قبلنا شرع لنا إذا قصه الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم علينا من غير نكير وهذا على علاته أحسن مما قيل في توجيهه كما لا يخفى. وقيل: المعنى لولا تستغفرون ووجه التجوز يعلم مما تقدم فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ يلوم بعضهم بعضا فإن منهم على ما قيل من أشار بذلك ومنهم من استصوبه ومنهم من سكت راضيا به ومنهم من أنكره ولا يأبى ذلك إسناد الأفعال فيما سبق إلى جميعهم لما علم في غير موضع قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ متجاوزين حدود الله تعالى عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا أي يعطينا بدلا منها ببركة التوبة والاعتراف بالخطيئة خَيْراً مِنْها أي من تلك الجنة إِنَّا إِلى رَبِّنا لا إلى غيره سبحانه راغِبُونَ راجون العفو طالبون الخير وإِلى لانتهاء الرغبة أو لتضمنها معنى الرجوع وعن مجاهد أنهم تابوا فأبدلوا خيرا منها وروي أنهم تعاقدوا وقالوا إن أبدلنا الله تعالى خير منها لنصنعن كما صنع أبونا فدعوا الله عز وجل وتضرعوا إليه سبحانه فأبدلهم الله تعالى من ليلتهم ما هو خير منها وقال ابن مسعود: بلغني أن القوم دعوا الله تعالى وأخلصوا وعلم الله تعالى منهم الصدق فأبدلهم بها جنة يقال لها الحيوان فيها عنب يحمل على البغل منها عنقود وقال أبو خالد اليماني رأيت تلك الجنة وكل عنقود منها كالرجل الأسود القائم واستظهر أبو حيان أنهم كانوا مؤمنين أصابوا معصية وتابوا، وحكي عن بعض أنهم كانوا من أهل الكتاب وعن التستري أن المعظم يقولون إنهم تابوا وأخلصوا وتوقف الحسن في إيمانهم فقال: لا أدري أكان قولهم إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ إيمانا أو على حد ما يكون من المشركين إذا أصابتهم الشدة. وسئل قتادة عنهم أهم من أهل الجنة أم من أهل النار؟ فقال للسائل: لقد كلفتني تعنتا وقرأ نافع وأبو عمرو «يبدلنا» مشددا كَذلِكَ الْعَذابُ جملة من مبتدأ وخبر مقدم لإفادة القصر وال للعهد أي مثل ذلك العذاب الذي بلونا به أهل مكة من الجدب الشديد وأصحاب الجنة مما قص عذاب الدنيا، والكلام قيل وارد تحذيرا لهم كأنه لما نهاه سبحانه عن طاعة الكفار وخاصة رؤسائهم ذكر عز وجل أن تمردهم لما أتوه من المال والبنين وعقب جل وعلا بأنهما إذا لم يشكرا المنعم عليهما يؤول حال صاحبهما إلى حال أصحاب الجنة مدمجا فيه أن خبث النية والزوي عن المساكين إذا أفضى بهم إلى ما ذكر فمعاندة الحق تعالى بعناد من هو على خلقه وأشرف الموجودات وقطع رحمه أولى بأن يفضي بأهل مكة إلى البوار وقوله تعالى وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ أي أعظم وأشد تحذير عن العناد بوجه أبلغ وقوله سبحانه لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ نعى عليهم بالغفلة أي لو كانوا من أهل العلم لعلموا أنه أكبر ولأخذوا منه حذرهم إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ أي من الكفر كما في البحر أو منه ومن المعاصي كما في الإرشاد عِنْدَ رَبِّهِمْ أي في الآخرة فإنها مختصة به عز وجل إذ لا يتصرف فيها غيره جل(15/37)
جلاله أو في جوار قدسه جَنَّاتِ النَّعِيمِ جنات ليس فيها إلا النعيم الخالص عن شائبة ما ينغصه من الكدورات وخوف الزوال وأخذ الحصر من الإضافة إلى النَّعِيمِ لإفادتها التميز من جنات الدنيا لغالب عليها النغص:
طبعت على كدر وأنت تريدها ... صفوا من الأقذار والأكدار
وقوله تعالى أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ تقرير لما قبله من فوز المتقين ورد لما يقوله الكفرة عند سماعهم بحديث الآخرة وما وعد الله تعالى إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد صلّى الله عليه وسلم ومن معه لم يكن حالنا وحالهم إلا مثل ما هي في الدنيا وإلّا لم يزيدوا علينا ولم يفضلونا، وأقصى أمرهم أن يساوونا والهمزة للإنكار والفاء للعطف والعطف على مقدر يقتضيه المقال أي فيحيف في الحكم الحكم فيجعل المسلمين كالكافرين ثم قيل لهم بطريق الالتفات لتأكيد الرد وتشديده ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ تعجبا من حكمهم واستبعادا له وإيذانا بأنه لا يصدر من عاقل إذ معنى ما لَكُمْ أي شيء حصل لكم من خلل الفكر وفساد الرأي أَمْ لَكُمْ كِتابٌ نازل من السماء فِيهِ أي في الكتاب والجار متعلق بقوله تعالى تَدْرُسُونَ أي تقرءون فيه والجملة صفة كتاب وجوز أن يكون فيه متعلقا بمتعلق الخبر أو هو الصفة والضمير للحكم أو الأمر وتَدْرُسُونَ مستأنف أو حال من ضمير الخطاب وقوله تعالى إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ أي للذي تختارونه وتشتهونه يقال: تخير الشيء واختاره أخذ خيره وشاع في أخذ ما يريده مطلقا مفعول تَدْرُسُونَ إذ هو المدروس فهو واقع موقع المفرد وأصله أن لكم فيه ما تخيرون بفتح همزة «أن» وترك اللام في خبرها فلما جيء باللام كسرت الهمزة وعلق الفعل عن العمل ومن هنا قيل إنه لا بد من تضمين تَدْرُسُونَ معنى العلم ليجري فيه العمل في الجمل والتعليق وجوز أن يكون هذا حكاية للمدروس كما هو عليه فيكون بعينه لفظ الكتاب من غير تحويل من الفتح للكسر وضمير فِيهِ على الأول للكتاب وأعيد للتأكيد وعلى هذا يعود لأمرهم أو للحكم فيكون محصل ما خط في الكتاب أو الحكم أو الأمر مفوض لهم فسقط قول صاحب التقريب أن لفظ فِيهِ لا يساعده للاستغناء بفيه أولا من غير حاجة إلى جعل ضمير فِيهِ ليوم القيامة بقرينة المقام أو للمكان المدلول عليه بقوله تعالى عِنْدَ رَبِّهِمْ وعلى الاستئناف هو للحكم أيضا وجوز الوقف على تَدْرُسُونَ على أن قوله تعالى إِنَّ لَكُمْ إلخ استئناف على معنى إن كان لكم كتاب فلكم فيه ما تتخيرون وهو كما ترى. والظاهر أن أَمْ لَكُمْ إلخ مقابل لما قبله نظرا لحاصل المعنى إذ محصله أفسد عقلكم حتى حكمتكم بهذا أم جاءكم كتاب فيه تخييركم وتفويض الأمر إليكم وقرأ طلحة والضحاك «أن لكم» بفتح الهمزة واللام في لَما زائدة كقراءة من قرأ «الا انهم ليأكلون الطعام» (1) بفتح همزة أنهم وقرأ الأعرج «أن لكم» بالاستفهام على الاستئناف أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا أي إقسام، وفسرت بالعهود وإطلاق الإيمان عليها من إطلاق الجزء على الكل أو اللازم على الملزوم بالِغَةٌ أي أقصى ما يمكن، والمراد متناهية في التوكيد. وقرأ الحسن وزيد بن علي «بالغة» بالنصب على الحال من الضمير المستتر في عَلَيْنا أو لَكُمْ وقال ابن عطية من إيمان لتخصيصها بالوصف وفيه بعد إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ متعلق بالمقدر في لَكُمْ أي ثابتة لكم إلى يوم القيامة لا نخرج عن عهدتها إلا يومئذ إذا حكمناكم وأعطيناكم ما تحكمون أو
__________
(1) سورة الفرقان، الآية: 20.(15/38)
متعلق ببالغة أي إيمان تبلغ ذلك اليوم وتنتهي إليه وافرة لم يبطل منها يمين فإلى على الأول لغاية الثبوت المقدر في الظرف فهو كأجل الدين وعلى الثاني لغاية البلوغ فهي قيد اليمين أي يمينا مؤكدا لا ينحل إلى ذلك اليوم وليس من تأجيل المقسم عليه في شيء إذ لا مدخل لبالغة في المقسم عليه فتأمل وقوله تعالى إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ جواب القسم لأن معنى أم لكم إيمان علينا أم أقسمنا لكم وهو جار على تفسير الإيمان بمعنى العهود لأن العهد كاليمين من غير فرق فيجاب بما يجاب به القسم وقرأ الأعرج «آن لكم» بالاستفهام أيضا سَلْهُمْ تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بإسقاطهم عن رتبة الخطاب أي سلهم مبكتا لهم أَيُّهُمْ بِذلِكَ الحكم الخارجي عن دائرة العقول زَعِيمٌ قائم يتصدى لتصحيحه، والجملة الاستفهامية في موضع المعمول الثاني لسل والفعل عند أبي حيان وجماعة معلق عنها لمكان الاستفهام، وكون السؤال منزلا منزلة العلم لكونه سببا لحصوله أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ يشاركونهم في هذا القول ويذهبون مذهبهم فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ في دعواهم إذ لا أقل من التقليد، وقد نبه سبحانه وتعالى في هذه الآيات على نفي جميع ما يمكن أن يتعلقوا به في تحقيق دعواهم حيث نبه جل شأنه على نفي الدليل العقلي بقوله تعالى ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ وعلى نفي الدليل النقلي بقوله سبحانه أَمْ لَكُمْ كِتابٌ إلخ وعلى نفي أن يكون الله تعالى وعدهم بذلك ووعد الكريم دين بقوله سبحانه أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا إلخ وعلى نفي التقليد الذي هو أوهن من حبال القمر بقوله عز وجل أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ وقيل المعنى أم لهم آلهة عدوها شركاء في الألوهية تجعلهم كالمسلمين في الآخرة. وقرأ عبد الله وابن أبي عبلة «فليأتوا بشركهم» والمراد به ما أريد بشركائهم يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ متعلق بقوله تعالى فَلْيَأْتُوا على الوجهين ويجوز تعلقه بمقدر كاذكر أو يكون كيت وكيت وقيل بخاشعة وقيل بترهقهم وأيّا ما كان فالمراد بذلك اليوم عند الجمهور يوم القيامة، والساق ما فوق القدم وكشفها والتشمير عنها مثل في شدة الأمر وصعوبة الخطب حتى أنه يستعمل بحيث لا يتصور ساق بوجه كما في قول حاتم:
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها ... وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا
وقول الراجز:
عجبت من نفسي ومن إشفاقها ... ومن طواء الخيل عن أرزاقها
في سنة كشفت عن ساقها ... حمراء تبري اللحم عن عراقها
وأصله تشمير المخدرات عن سوقهن في الهرب فإنهن لا يفعلن ذلك إلّا إذا عظم الخطب واشتد الأمر فيذهلن عن الستر بذيل الصيانة، وإلى نحو هذا ذهب مجاهد وإبراهيم النخعي وعكرمة وجماعة وقد روي أيضا عن ابن عباس أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق عكرمة عنه أنه سئل عن ذلك فقال: إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر فإنه ديوان العرب أما سمعتم قول الشاعر:
صبرا عناق إنه شر باق ... قد سن لي قومك ضرب الأعناق
وقامت الحرب بنا على ساق
والروايات عنه رضي الله تعالى عنه بهذا المعنى كثيرة وقيل: ساق الشيء أصله الذي به قوامه كساق الشجر وساق الإنسان والمراد يوم يكشف عن أصل الأمر فتظهر حقائق الأمور وأصولها بحيث تصير عيانا وإليه يشير كلام الربيع بن أنس فقد أخرج عبد بن حميد عنه أنه قال في ذلك يوم يكشف الغطاء وكذا ما أخرجه(15/39)
البيهقي عن ابن عباس أيضا قال حين يكشف الأمر وتبدو الأعمال وفي الساق على هذا المعنى استعارة تصريحية وفي الكشف تجوز آخر أو هو ترشيح للاستعارة باق على حقيقته وتنكير ساقٍ قيل للتهويل على الأول وللتعظيم على الثاني. وقيل لا ينظر إلى شيء منهما على الأول لأن الكلام عليه تمثيل وهو لا ينظر فيه للمفردات أصلا وذهب بعضهم إلى أن المراد بالساق ساقه سبحانه وتعالى وأن الآية من المتشابه. واستدل على ذلك بما
أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن المنذر وابن مردويه عن أبي سعيد قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقا واحدا»
وأنكر ذلك سعيد بن جبير أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أنه سئل عن الآية فغضب غضبا شديدا وقال: «إن أقواما يزعمون أن الله سبحانه يكشف عن ساقه وإنما يكشف عن الأمر الشديد» وعليه يحمل ما في الحديث على الأمر الشديد أيضا وإضافته إليه عز وجل لتهويل أمره وأنه أمر لا يقدر عليه سواه عز وجل وأرباب الباطن من الصوفية يقولون بالظاهر ويدعون أن ذلك عند التجلي الصوري وعليه حملوا أيضا ما
أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده والطبراني والدارقطني في الرؤية والحاكم وصححه وابن مردويه وغيرهم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجمع الله الناس يوم القيامة وينزل الله في ظلل من الغمام فينادي مناد يا أيها الناس ألم ترضوا من ربكم الذي خلقكم وصوركم ورزقكم أن يولي كل إنسان منكم ما كان يعبد في الدنيا ويتولى أليس ذلك عدلا من ربكم قالوا: بلى قال: «فلينطلق كل إنسان منكم إلى ما كان يتولى في الدنيا ويتمثل لهم ما كانوا يعبدون في الدنيا ويمثل لمن كان يعبد عيسى عليه السلام شيطان عيسى وكذا يمثل لمن كان يعبد عزيرا حتى تمثل لهم الشجرة والعود والحجر ويبقى أهل الإسلام جثوما فيتمثل لهم الرب عز وجل فيقال لهم ما لكم لم تنطلقوا كما انطلق الناس فيقولون: إن لنا ربا ما رأيناه بعد فيقول فبم تعرفون ربكم إن رأيتموه؟ قالوا: بيننا وبينه علامة إن رأيناه عرفناه، قال: وما هي؟ قالوا يكشف عن ساق فيكشف عند ذلك» . الحديث
وهو ونظائره من المتشابه عند السلف. وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة يكشف بفتح الياء مبينا للفاعل وهي رواية عن ابن عباس وقرأ ابن هرمز «نكشف» بالنون وقرىء «يكشف» بالياء التحتية مضمونة وكسر الشين من أكشف إذا دخل في الكشف ومنه اكشف الرجل فهو مكشف انقلبت شفته العليا. وقرىء «تكشف» بالتاء الفوقية والبناء للفاعل وهو ضمير الساعة المعلومة من ذكر يوم القيامة أو الحال المعلومة من دلالة الحال وبها والبناء للمفعول وجعل الضمير للساعة أو الحال أيضا وتعقب بأنه يكون الأصل حينئذ يكشف الله الساعة عن ساقها مثلا ولو قيل ذلك لم يستقم لاستدعائه إبداء الساق وإذهاب الساعة كما تقول: كشفت عن وجهها القناع والساعة ليست سترا على الساق حتى تكشف، وأجيب أنها جعلت سترا مبالغة لأن المخدرة تبالغ في الستر جهدها فكأنها نفس الستر فقيل تكشف الساعة وهذا كما تقول كشفت زيدا عن جهله إذا بالغت في إظهار جهله لأنه كان سترا على جهله يستر معايبه فأبنته وأظهرته إظهارا لم يخف على أحد. وقيل عليه إن الإذهاب حينئذ ادعائي ولا يخفى ما فيه من التكلف ولا عبرة بما ذكر من المثال المصنوع وأقل تكلفا منه جعل عَنْ ساقٍ بدل اشتمال من الضمير المستتر في الفعل بعد نزع الخافض منه.
والأصل يكشف عنها أي عن الساعة أو الحال فنزع الخافض واستتر الضمير وتعقب بأن إبدال الجار والمجرور من الضمير المرفوع لا يصح بحسب قواعد العربية فهو ضغث على إبالة وتكلف على تكلف وقيل إن عَنْ ساقٍ نائب الفاعل وتعقب بأن حق الفعل التذكير كصرف عن هند ومر بدعد وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ توبيخا وتعنيفا على تركهم إياه في الدنيا وتحسيرا لهم على تفريطهم في ذلك فَلا يَسْتَطِيعُونَ لزوال القدرة(15/40)
عليه وفيه دلالة على أنهم يقصدونه فلا يتأتى منهم، وعن ابن مسعود تعقم أصلابهم أي ترد عظاما بلا مفاصل لا تنثني عند الرفع والخفض وتقدم في حديث البخاري ومن معه ما سمعت وفي حديث تصير أصلاب المنافقين والكفار كصياصي البقر عظما واحدا. والظاهر أن الداعي الله تعالى أو الملك وقيل هو ما يرونه من سجود المؤمنين واستدل أبو مسلم بهذه الآية على أن يوم الكشف في الدنيا قال لأنه تعالى قال ويدعون إلى السجود ويوم القيامة ليس فيه تعبد ولا تكليف فيراد منه إما آخر أيام الشخص في دنياه حين يرى الملائكة وإما وقت المرض والهرم والمعجزة ويدفع بما أشرنا إليه خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ حال من مرفوع يُدْعَوْنَ على أن أبصارهم مرتفع شديدة وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ في الدنيا والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير، أو لأن المراد به الصلوات المكتوبة كما قال النخعي والشعبي أو جميع الطاعات كما قيل. والدعوة دعوة التكليف وقال ابن عباس وابن جبير: كانوا يسمعون الأذان والنداء للصلاة فلا يجيبون وَهُمْ سالِمُونَ متمكنون منه أقوى تمكن أي فلا يجيبون إليه ويأبونه وترك ذكر هذا ثقة بظهوره فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ أي إذا كان حالهم ما سمعت فكل من يكذب بالقرآن إليّ واستكفنيه فإن في ما يفرغ بالك ويخلي همك وهو من بليغ الكلام يفيد أن المتكلم واثق بأنه يتمكن من الوفاء بأقصى ما يدور حول أمنية المخاطب وبما يزيد عليه، وقد حققه جار الله بما حاصله أن من استكفى أحدا ترك الأمر إليه وإلا كان استعانة لا استكفاء فأقيم الرادف أعني التخلية وإن يذره وإياه مقام الاستكفاء مبالغة وإنباء عن الكفاية البالغة كيف وهذا الكافي طلب الاستكفاء وقيل: قوله (ذرني) وأبرز ترك الاستكفاء في صورة المنع مبالغة على مبالغة فلو لم يكن شديد الوثوق بتمكنه من الوفاء أقصى التمكن وفوق ما يحوم حول خاطر المستكفي لما كان للطلب على هذا الوجه إلّا بلغ وجه ومَنْ في موضع نصب إما عطفا على المنصوب في (ذرني) أو على أنه مفعول معه وقوله تعالى سَنَسْتَدْرِجُهُمْ استئناف مسوق لبيان كيفية التعذيب المستفاد من الكلام السابق إجمالا والضمير لمن والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد في يُكَذِّبُ باعتبار لفظها أي سنستنزلهم إلى العذاب درجة فدرجة بالإمهال وإدامة الصحة وازدياد النعمة مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ أنه استدراج بل يزعمون أن ذلك إيثار لهم وتفضل على المؤمنين مع أنه سبب لهلاكهم وَأُمْلِي لَهُمْ وأمهلهم ليزدادوا إثما وهم يزعمون أن ذلك لإرادة الخير بهم إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ لا يدفع بشيء وتسمية ذلك كيدا وهو ضرب من الاحتيال لكونه في صورته حيث إنه سبحانه يفعل معهم ما هو نفع لهم ظاهرا ومراده عز وجل به الضرر لما علم من خبث جبلتهم وتماديهم في الكفر والكفران أَمْ تَسْأَلُهُمْ على الإبلاغ والإرشاد أَجْراً دنيويا فَهُمْ لأجل ذلك مِنْ مَغْرَمٍ أي غرامة مالية مُثْقَلُونَ مكلفون حملا ثقيلا فيعرضون عنك وهذه الجملة على ما قاله ابن الشيخ معطوفة على قوله تعالى أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ أي المغيبات أو للوح وأطلق الْغَيْبُ عليه مجازا لأنه محل لكتابة المغيبات أو لظهور صورها بناء على الخلاف المعروف فيه والقرينة فَهُمْ يَكْتُبُونَ ما يحكمون به ويستعنون بذلك عن علمك فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وهو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم. روي أنه صلّى الله عليه وسلم أراد أن يدعو على ثقيف لما آذوه حين عرض عليه الصلاة والسلام نفسه على القبائل بمكة فنزلت وقيل أراد عليه الصلاة والسلام أن يدعو على الذين انهزموا بأحد حين اشتد بالمسلمين الأمر فنزلت وعليه تكون الآية مدنية وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ هو يونس عليه السلام كما أنه المراد من ذي النون إلّا أنه فرق بين ذي
وصاحب بأن «ذي» أبلغ من صاحب قال ابن حجر لاقتضائها تعظيم المضاف إليها والموصوف بها بخلافه ومن ثم قال سبحانه في معرض مدح يونس عليه السلام وَذَا النُّونِ [الأنبياء: 87](15/41)
والنهي عن اتباعه وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ ذا النون لكونه جعل فاتحة سورة أفخم وأشرف من لفظ الحوت ونقل مثل ذلك السرميني عن العلامة السهيلي وفرق بعضهم بغير ذلك مما هو مذكور في حواشينا على رسالة ابن عصام في علم البيان إِذْ نادى في بطن الحوت وَهُوَ مَكْظُومٌ أي مملوء غيظا على قومه إذ لم يؤمنوا لما دعاهم إلى الإيمان وهو من كظم السقاء إذا ملأه ومن استعماله بهذا المعنى قول ذي الرمة:
وأنت من حب ميّ مضمر حزنا ... عاني الفؤاد قريح القلب مكظوم
والجملة حال من ضمير نادى وعليها يدور النهي لا على النداء فإنه آمر مستحسن ولذا لم يذكر المنادى وإِذْ منصوب بمضاف محذوف أي لا يكن حالك كحاله وقت ندائه أي لا يوجد منك ما وجد منه من الضجر والمغاضبة فتبتلي بنحو بلائه عليه السلام لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ وهو توفيقه للتوبة وقبولها منه وقرىء «رحمة» وتذكير الفعل على القراءتين لأن الفاعل مؤنث مجازي مع الفصل بالضمير. وقرأ عبد الله وابن عباس «تداركته» بتاء التأنيث وقرأ ابن هرمز والحسن والأعمش «تدّاركه» بتشديد الدال وأصله تتداركه فأبدل التاء دالا وأدغمت الدال في الدال والمراد حكاية الحال الماضية على معنى لولا أن كان يقال فيه تتداركه لَنُبِذَ بِالْعَراءِ بالأرض الخالية من الأشجار أي في الدنيا، وقيل بعراء القيامة لقوله تعالى فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات: 143، 144] ولا يخفى بعده وَهُوَ مَذْمُومٌ في موضع الحال من مرفوع نبذ وعليها يعتمد جواب لَوْلا لأن المقصود امتناع نبذه مذموما وإلا فقد حصل النبذ فدل على أن حاله كانت على خلاف الذم والغرض أن حالة النبذ والانتهاء كانت مخالفة لحالة الإلامة والابتداء لقوله سبحانه فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ [الصافات: 142] وفي الإرشاد أن الجملة الشرطية استئناف وارد لبيان كون المنهي عنه أمرا محذورا مستتبعا للغائلة وقوله سبحانه فَاجْتَباهُ رَبُّهُ عطف على مقدر أي فتداركته نعمة من ربه فَاجْتَباهُ أي اصطفاه بأن رد عز وجل إليه الوحي وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون وقيل استنبأه إن صح أنه لم يكن نبيا قبل هذه الواقعة وإنما كان رسولا لبعض المرسلين في أرض الشام فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ من الكاملين في الصلاح بأن عصمه سبحانه من أن يفعل فعلا يكون تركه أولى وظاهر كلام بعضهم أن الجعل من الصالحين تفسير للاجتباء قيل وفسر الصالحين بالأنبياء وهو مبني على أنه لم يكن قبل الواقعة نبيا، واستدل بالآية على خلق الأفعال لأن جعله صالحا بجعل صلاحه وخلقه فيه وهو من جملة الأفعال ولا قائل بالفرق والمعتزلة يؤولون ذلك تارة بالإخبار بصلاحه وأخرى باللطف به حتى صلح على أنه يحتمل أن يراد بالصالحين الأنبياء كما قيل فلا تفيد الآية أكثر من كون النبوة مجعولة وهو مما اتفق عليه الفريقان فتدبر وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ إن هي المخففة واللام دليلها لأنها لا تدخل بعد النافية ولذا تسمى الفارقة على عرف عند النحاة والمعنى أنهم لشدة عداوتهم ينظرون إليك شزرا بحيث يكادون يزلون قدمك فيرمونك من قولهم نظر إليّ نظرا يكاد يصرعني أو يكاد يأكلني أي لو أمكنه بنظره الصرع أو الأكل لفعله وجعل مبالغة في عداوتهم حتى كأنها سرت من القلب والجوارح إلى النظر فعاد يعمل الجوارح وأنشدوا قول الشاعر:
يتقارضون إذا التقوا في موطن ... نظرا يزل مواطىء الأقدام
أو أنهم يكادون يصيبونك بالعين إذ روي أنه كان في بني أسد عيانون فأراد بعضهم أن يعين رسول الله صلّى الله عليه وسلم فنزلت. وقال الكلبي: كان رجل من العرب يمكث يومين أو ثلاثة لا يأكل ثم يرفع جانب خبائه فيقول لم(15/42)
أر كاليوم إبلا ولا غنما أحسن من هذه فتسقط طائفة منها وتهلك، فاقترح الكفار منه أن يصيب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأجابهم وأنشد:
قد كان قومك يحسبونك سيدا ... وأخال أنك سيد معيون
فعصم الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلم وأنزل عليه هذه الآية، وقد قيل إن قراءتها تدفع ضرر العين وروي ذلك عن الحسن وفي كتاب الأحكام أنها أصل في أن العين حق والأولى الاستدلال على ذلك بما ورد وصح من عدة طرق أن العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر وبما
أخرجه أحمد بسند رجاله كما قال الهيثمي ثقات عن أبي ذر مرفوعا «إن العين لتولع بالرجل بإذن الله تعالى حتى يصعد حالقا ثم يتردى منه»
إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة وذلك من خصائص بعض النفوس ولله تعالى أن يخص ما شاء منها بما شاء وإضافته إلى العين باعتبار أن النفس تؤثر بواسطتها غالبا وقد يكون التأثير بلا واسطتها بأن يوصف للعائن شيء فتتوجه إليه نفسه فتفسده ومن قال إن الله تعالى أجرى العادة بخلق ما شاء عند مقابلة عين العائن من غير تأثير أصلا فقد سد على نفسه باب العلل والتأثيرات والأسباب والمسببات وخالف جميع العقلاء قاله ابن القيم. وقال بعض أصحاب الطبائع إنه ينبعث من العين قوة سمية تؤثر فيما نظره كما فصل في شرح مسلم وهذا لا يتم عندي فيما لم يره ولا في نحو ما تضمنه حديث أبي ذر المتقدم آنفا ولا في إصابة الإنسان عين نفسه كما حكاه المناوي فإنه لا يقتل الصل سمه. ومن ذلك ما حكاه الغساني قال نظر سليمان بن عبد الملك في المرآة فأعجبته نفسه فقال:
كان محمد صلّى الله عليه وسلم نبيا، وكان أبو بكر صديقا، وكان عمر فاروقا، وعثمان حييا، ومعاوية حليما، ويزيد صبورا، وعبد الملك سائسا، والوليد جبارا، وأنا الملك الشاب، وأنا الملك الشاب فما دار عليه الشهر حتى مات ومثل ذلك ما قيل إنه من باب التأثير في القوة المعروفة اليوم بالقوة الكهربائية عند الطباعيين المحدثين، فقد صح أن بعض الناس يكرر النظر إلى بعض الأشخاص من فوقه إلى قدمه فيصرعه كالمغشي عليه، وربما يقف وراءه جاعلا أصابعه حذاء نقرة رأسه ويوجه نفسه إليه حتى تضعف قواه فيغشاه نحو النوم ويتكلم إذ ذاك بما لا يتكلم به في وقت آخر، وأنا لا أزيد على القول بأنه من تأثيرات النفوس ولا أكيف ذلك فالنفس الإنسانية من أعجب مخلوقات الله عز وجل وكم طوي فيه أسرار وعجائب تتحير فيها العقول ولا ينكرها إلّا مجنون أو جهول، ولا يسعني أن أنكر العين لكثرة الأحاديث الواردة فيها ومشاهدة آثارها على اختلاف الأعصار ولا أخص ذلك بالنفوس الخبيثة كما قيل فقد يكون من النفوس الزكية والمشهور أن الإصابة لا تكون مع كراهة الشيء وبغضه وإنما تكون مع استحسانه وإلى ذلك ذهب القشيري وكأنه يشير بذلك إلى الطعن في صحة الرواية هاهنا لأن الكفار كانوا يبغضونه عليه الصلاة والسلام فلا تتأتي لهم إصابته بالعين وفيه نظر. وحكم العائن على ما قال القاضي عياض أن يجتنب وينبغي للإمام حبسه ومنعه عن مخالطة الناس كفّا لضرره ما أمكن ويرزقه حينئذ من بيت المال. هذا وقرأ نافع «ليزلقونك» بفتح الياء من زلقه بمعنى أزلقه وقرأ عبد الله وابن عباس والأعمش وعيسى «ليزهقونك» بالهاء بدل اللام أي ليهلكونك لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ أي وقت سماعهم القرآن وذلك لاشتداد بغضهم وحسدهم عند سماعه. ولَمَّا كما أشرنا إليه ظرفية متعلقة بيزلقونك ومن قال إنها حرف وجوب لوجوب ذهب إلى أن جوابها محذوف لدلالة ما قبل عليه أي لما سمعوا الذكر كادوا يزلقونك وَيَقُولُونَ لغاية حيرتهم في أمره عليه الصلاة والسلام ونهاية جهلهم بما في تضاعيف القرآن من عجائب الحكم وبدائع العلوم ولتنفير الناس عنه إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وحيث كان مدار حكمهم الباطل ما سمعوا منه صلّى الله عليه وسلم(15/43)
رد ذلك ببيان علو شأنه وسطوع برهانه فقيل وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ على أنه حال من فاعل يقولون والرابط الواو فقط أو مع عموم العالمين كما قيل مفيد لغاية بطلان قولهم وتعجيب للسامعين من جراءتهم على التفوه بتلك العظيمة أي يقولون ذلك والحال أنه ذكر للعالمين أي تذكير وبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمور دينهم فأين من أنزل عليه ذلك وهو مطلع على أسراره طرّا ومحيط بجميع حقائقه خيرا مما قالوه وقيل معناه شرف وفضل لقوله تعالى وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: 44] وعموم العالمين لما فيه من الاعتناء بما ينفعهم وقيل الضمير لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وكونه مذكرا وشرفا للعالمين لا ريب فيه ورجح بأن الجملة عليه تكون صريحة في رد دعواهم الباطلة وأنت تعلم أن الأول أولى والله تعالى أعلم.(15/44)
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)
سورة الحاقّة
مكية وآيها إحدى وخمسون آية بلا خلاف فيهما ويدل للأول ما أخرج الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: خرجت أتعرض لرسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل أن أسلم فوجدته قد سبقني إلى المسجد فوقفت خلفه فاستفتح سورة الحاقة فجعلت أعجب من تأليف القرآن هذا والله شاعر فقال وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ [الحاقة: 41] قلت كاهن فقال لا وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ [الحاقة: 42، 43] إلى آخر السورة فوقع الإسلام في قلبي كل موقع ولما وقع في نون ذكر يوم القيامة مجملا شرح سبحانه في هذه السورة الكريمة نبأ ذلك اليوم وشأنه العظيم وضمنه عز وجل ذكر أحوال أمم كذبوا الرسل عليهم السلام وما جرى عليهم ليزدجر المكذبون المعاصرون له عليه الصلاة والسلام فقال عز من قائل:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَاقَّةُ أي الساعة أو الحاقة التي يحق ويجب وقوعها أو التي تحقق(15/45)
وتثبت فيها الأمور الحقة من الحساب والثواب والعقاب أو التي تحق فيها الأمور أي تعرف على الحقيقة من حقه يحقه إذا عرف حقيقته وروي هذا عن ابن عباس وغيره وإسناد الفعل لها على الوجهين الأخيرين مجاز وهو حقيقة لما فيها من الأمور أو لمن فيها من أولي العلم وفي الكشف كون الإسناد مجازيا إنما هو على الوجه الأخير وأما على الوجه الثاني فيحتمل الإسناد المجازي أيضا لأن الثبوت والوجوب لما فيها ويحتمل أن يراد ذو الحاقة من باب تسمية الشيء باسم ما يلابسه وهذا أرجح لأن الساعة وما فيها سواء في وجوب الثبوت فيضعف قرينة الإسناد المجازي والتجوز فيه تصوير ومبالغة انتهى. وبحث فيه الجلبي بما فيه بحث فارجع إليه وتدبر وقال الأزهري الْحَاقَّةُ القيامة من حاققته فحققته أي غالبته فغلبته فهي حاقة لأنها تحق كل محاق دين الله تعالى بالباطل أي كل مخاصم فتغلبه وظاهر كلامهم أنها على جميع ذلك وصف حذف موصوفة للإيذان بكمال ظهور اتصافه بهذه الصفة وجريانه مجرى الاسم. وقيل إنها على ما روي عن ابن عباس من كونها من أسماء يوم القيامة اسم جامد لا يعتبر موصوف محذوف وقيل هي مصدر كالعاقبة والعافية وأيّا ما كان فهي مبتدأ خبرها جملة مَا الْحَاقَّةُ على أن مبتدأ والْحَاقَّةُ خبر أو بالعكس ورجح معنى والأول هو المشهور والرابط إعادة المبتدأ بلفظه والأصل ما هي أي أي شيء هي في حالها وصفتها فإن ما قد يطلب بها الصفة والحال فوضع الظاهر موضع المضمر تعظيما لشأنها وتهويلا لأمرها. وقوله تعالى وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ أي أي شيء أعلمك ما هي تأكيد لهولها وفظاعتها ببيان خروجها عن دائرة علوم المخلوقات على معنى أن أعظم شأنها ومدى هولها وشدتها بحيث لا يكاد تبلغه دراية أحد ولا وهمه، وكيفما قدرت حالها فهي وراء ذلك وأعظم وأعظم فلا يتسنى الإعلام ومنه يعلم أن الاستفهام كني به عن لازمه من أنها لا تعلم ولا يصل إليها دراية دار ولا تبلغها الأوهام والأفكار وما في موضع الرفع على الابتداء وإدراك خبره ولا مساغ هاهنا للعكس ومَا الْحَاقَّةُ جملة محلها النصب على إسقاط الخافض لا إن أدري يتعدى إلى المفعول الثاني بالباء كما في قوله تعالى وَلا أَدْراكُمْ بِهِ [يونس: 16] فلما وقعت جملة الاستفهام معلقة له كانت في موضع المفعول الثاني، وتعليق هذا الفعل على ما قيل لما فيه من معنى العلم والجملة أعني ما أدراك إلخ معطوفة على ما قبلها من الجملة الصغرى كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ بالقيامة التي تقرع الناس بالإفزاع والأهوال والسماء بالانشقاق والانفطار والأرض والجبال بالدك والنسف والنجوم بالطمس والانكدار ووضعها موضع ضمير الْحَاقَّةُ للدلالة على معنى القرع وهو ضرب شيء بشيء فيها تشديدا لهولها. والجملة استئناف مسوق لبيان بعض أحوال الحاقة له عليه الصلاة والسلام أثر تقريراته ما أدراه صلّى الله عليه وسلم بها أحد والمبين كونها بحيث يحق إهلاك من يكذب بها كأنه قيل وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ كذبت بها ثمود وعاد فأهلكوا فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا أي أهلكهم الله تعالى. وقرأ زيد بن علي «فهلكوا» بالبناء للفاعل بِالطَّاغِيَةِ أي الواقعة المجاوزة للحد وهي الصيحة لقوله تعالى في [هود: 67] وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ وبها فسرت الصاعقة في حم السجدة أو الرجفة لقوله سبحانه في [الأعراف: 78، 91] فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ وهي الزلزلة المسببة عن الصيحة فلا تعارض بين الآيات لأن الإسناد في بعض إلى السبب القريب وفي بعض آخر إلى البعيد والأول مروي عن قتادة قال: أي بالصيحة التي خرجت عن حد كل صيحة، وقال ابن عباس وأبو عبيدة وابن زيد ما معناه الطاغية مصدر فكأنه قيل بطغيانهم وأيد بقوله تعالى كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها [الشمس: 11] والمعول عليه الأول لمكان قوله تعالى وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ وإيضاح ذلك أن الآية فيها جمع وتفريق، فلو قيل أهلك هؤلاء بالطغيان على أن ذلك سبب جالب وهؤلاء بالريح على أنه سبب آلي لم يكن طباق إذ جاز أن يكون(15/46)
هؤلاء أيضا هلكوا بسبب الطغيان وهذا معنى قول الزمخشري في تضعيف الثاني لعدم الطباق بينها
وبين بِرِيحٍ لا أن ذلك لأن أحدهما عين والآخر حدث وما ذكر من التأييد لا يخفى حاله. وكذا يرجح الأول على قول مجاهد وابن زيد أيضا أي بسبب الفعلة الطاغية التي فعلوها وهي عقر الناقة وعلى ما قيل الطاغية عاقر الناقة والهاء فيها للمبالغة كما في رجل راوية وأهلكوا كلهم بسببه لرضاهم بفعله وما قيل أيضا بسبب الفئة الطاغية ووجه الرجحان يعلم مما ذكر ومر الكلام في الصرصر فتذكر وهو صفة ريح وكذا قوله تعالى عاتِيَةٍ أي شديدة العصف أو عتت على عاد فما قدروا على ردها والخلاص منها بحيلة من استتار ببناء أو لياذ بجبل أو اختفاء في حفرة فإنها كانت تنزعهم من مكانهم وتهلكهم والعتو عليهما استعارة وأصله تجاوز الحد وهو قد يكون بالنسبة إلى الغير وقد لا يكون، ومنه يعلم الفرق بين الوجهين
وأخرج ابن جرير عن عليّ بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه أنه قال: لم تنزل قطرة إلّا بمكيال على يدي ملك إلّا يوم نوح فإنه أذن للماء دون الخزان فطغى الماء على الخزان فخرج فذلك قوله تعالى إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ [الحاقة: 11] ولم ينزل شيء من الريح إلّا بمكيال على يدي ملك إلّا يوم عاد فإنه أذن لها دون الخزان فخرجت فذلك قوله تعالى بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ عتت على الخزان.
وفي صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما ما يوافقه فهو تفسير مأثور. وقد حكي ذلك في الكشاف ثم قال: ولعلها عبارة عن الشدة والإفراط فيها، وخرج ذلك في الكشف على الاستعارة التمثيلية ثم قال: إن المثل إذا صار بحيث يفهم منه المقصود من دون نظر إلى أصل القصة جاز أن يقال إنه كناية عنه كما فيما نحن فيه. وجوز أن يكون هناك تشبيه بليغ من العتو وهو الخروج عن الطاعة وقوله تعالى سَخَّرَها عَلَيْهِمْ إلخ استئناف جيء به بيانا لكيفية إهلاكهم بالريح وجوز أن يكون صفة أخرى وأنه جيء به لنفي ما يتوهم من أنها كانت من اقترانات بعض الكواكب ببعض ونزولها في بعض المنازل إذ لو وجدت الاقترانات المقتضية لبعض الحوادث كان ذلك بتقديره تعالى وتسببه عز وجل لا من ذاتها استقلالا والسبب الذي يذكره الطبائعيون للريح تكاثف الهواء في الجهة التي يتوجه إليها وتراكم بعضه على بعض بانخفاض درجة حرارته فيقل تمدده ويتكاثف ويترك أكثر المحل الذي كان مشغولا به خاليا أو بتجمع فجائي يحصل في الأبخرة المنتشرة في الهواء فتخلو محالها. وعلى التقديرين يجري إلى ذلك المحل الهواء المجاور بقوة ليشغله فيحدث ويستمر حتى يمتلىء ذلك الفضاء ويتعادل فيه الهواء فيسكن عند ذلك ويتفاوت سيرها سرعة وبطأ فتقطع الريح المعتدلة على ما قيل في الساعة الواحدة نحو فرسخ والمتوسط فيها نحو أربعة فراسخ والقوية نحو ثمانية فراسخ وما هي أقوى منها نحو ستة عشر فرسخا وما هي أقوى وتسمى المؤتفكة نحو تسعة وعشرين فرسخا وقد تقطع في ساعة نحو ستة وثلاثين فرسخا وهذا أكثر ما قيل في سرعة الريح. وقد عملوا آلة يزعمون أنها مقياس يستعلم بها قوة هبوب الريح وضعفه وهذا غير بعيد من النوع الإنساني ويقال فيما ذكروه من السبب نحو ما سمعت آنفا ومعنى سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سلطها عز وجل بقدرته عليهم سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً أي متتابعات كما قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة وأبو عبيدة جمع حاسم كشهود جمع شاهد من حسمت الدابة إذا تابعت كيها على الداء كرة بعد أخرى حتى ينحسم فهي مجاز مرسل من استعمال المقيد وهو الحسم الذي هو تتابع الكي في مطلق التتابع وفي الكشف هو مستعار من الحسم بمعنى الكي شبه الأيام بالحاسم والريح لملابستها بها وهبوبها فيها واستمرار وصفها بوصفها في قولهم يوم بارد وحار إلى غير ذلك بفعل الأيام كل هبة منها كية وتتابعها بتتابع الكيات حتى يحصل الانحسام أي استئصال الداء الذي هو المقصود. والمعنى بعد التلخيص متتابعة هبوب الرياح حتى أتت عليهم واستأصلتهم أو نحسات مشؤومات كما(15/47)
قال الخليل قيل والمعنى قاطعات الخير بنحوستها وشؤمها فمعمول حُسُوماً محذوف أو قاطعات قطعت دابرهم وأهلكتهم عن آخرهم كما قال ابن زيد. وقال الراغب الحسم إزالة أثر الشيء يقال: قطعه فحسمه أي أزال مادته وبه سمي السيف حساما وحسم الداء إزالة أثره بالكي وقيل للشؤم المزيل لأثر ما ناله حسوم وحُسُوماً في الآية قيل حاسما أثرهم وقيل حاسما خبرهم وقيل قاطعا لعمرهم وكل ذلك داخل في عمومه فلا تغفل. وجوز أن يكون حسوما مصدرا لا جمع حاسم وانتصابه إما بفعله المقدر حالا أي بحسمهم حسوما بمعنى تستأصلهم استئصالا أو على العلة أي سخرها عليهم لأجل الاستئصال أو على أنه صفة أي ذات حسوم.
وأيدت المصدرية بقراءة السدي «حسوما» بفتح الحاء على أنه حال من الريح أي سخرها مستأصلة لتعين كونه مفردا على ذلك وهي كانت أيام العجوز من صبح الأربعاء لثمان بقين من شوال إلى غروب الأربعاء الآخر، وإنما سميت أيام العجوز، لأن عجوزا من عاد توارت في سرب فانتزعتها الريح في اليوم الثامن وأهلكتها، أو لأنها عجز الشتاء فالعجوز بمعنى العجز وأسماؤها الصن والصنبر والوبر والآمر والمؤتمر والمعلل ومطفىء الجمر ومطفىء الظعن ولم يذكر هذا الثامن من قال إنها سبعة لا ثمانية كما هو المختار فَتَرَى الْقَوْمَ أي إن كنت حاضرا حينئذ فالخطاب فيه فرضي فِيها أي في الأيام والليالي وقيل في مهاب الريح وقيل في ديارهم والأول أظهر صَرْعى أي هلكى جمع صريع كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ أي أصول نخيل وقرأ أبو نهيك:
«أعجز» على وزن أفعل كضبع وأضبع وحكى الأخفش أنه قرىء «نخيل» بالياء خاوِيَةٍ خلت أجوافها بلى وفسادا وقال ابن شجرة كانت تدخل من أفواههم فتخرج ما في أجوافهم من الحشو من أدبارهم فصاروا كأعجاز النخل الخاوية. وقال يحيى بن سلام خلت أبدانهم من أرواحهم فكانوا كذلك. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: كانوا في سبعة أيام في عذاب ثم في الثامن ماتوا وألقتهم الريح في البحر فذلك قوله تعالى فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ أي بقية على أن الباقية اسم كالبقية لا وصف والتاء للنقل إلى الاسمية أو نفس باقية على أن الموصوف مقدر والتاء للتأنيث وقال ابن الأنباري أي باق والهاء للمبالغة وجوز أن يكون مصدرا كالطاغية والكاذبة أي بقاء والتاء للوحدة وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ ومن تقدمه من الأمم الكافرة كقوم نوح عليه السلام وفيه تعميم بعد التخصيص فإن منهم عادا وثمودا وقرأ أبو رجاء وطلحة والجحدري والحسن بخلاف عنه وعاصم في رواية أبان والنحويان وأبان «ومن قبله» بكسر القاف وفتح الباء أي ومن في جهته وجانبه والمراد ومن عنده من أتباعه وأهل طاعته ويؤيده قراءة أبي وابن مسعود ومن معه وَالْمُؤْتَفِكاتُ أي قرى قوم لوط عليه السلام والمراد أهلها مجازا بإطلاق المحل على الحال أو بتقدير مضاف وعلى الإسناد المجازي والقرينة العطف على من يتصف بالمجيء وقرى الحسن هنا «والمؤتفكة» على الإفراد بِالْخاطِئَةِ أي بالخطأ على أنه مصدر على زنة فاعلة أو بالفعلة أو الأفعال ذات الخطأ العظيم على أن الإسناد مجازي وهو حقيقة لأصحابها واعتبار العظم لأنه لا يجعل الفعل خاطئا إلّا إذا كان صاحبه بليغ الخطأ ويجوز أن تكون الصيغة للنسبة فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ أي فعصى كل أمة رسولها حين نهاها عما كانت تتعاطاه من القبائح، فإفراد الرسول على ظاهره وجوز أن يكون جمعا أو مما يستوي فيه الواحد وغيره لأنه مصدر في الأصل وأريد منه التكثير لاقتضاء السياق له فهو من مقابلة الجمع المقتضي لانقسام الآحاد أو أطلق الفرد عليهم لاتحادهم معنى فيما أرسلوا به والظاهر أن هذا بيان لمجيئهم بالخاطئة فَأَخَذَهُمْ أي الله عز وجل أَخْذَةً رابِيَةً أي زائدة في الشدة كما زادت قبائحهم في القبح من ربا الشيء إذا زاد إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ جاوز حده المعتاد حتى أنه علا على أعلى جبل خمس عشرة ذراعا أو طغى على خزانه على ما سمعت قبيل هذا وذلك بسبب(15/48)
إصرار قوم نوح عليه السلام على فنون الكفر والمعاصي ومبالغتهم في تكذيبه عليه السلام فيما أوحى إليه من الأحكام التي من جملتها أحوال القيامة حَمَلْناكُمْ أي في أصلاب آبائكم أو حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم على أنه بتقدير مضاف وقيل على التجوز في المخاطبين بإرادة آبائهم المحمولين بعلاقة الحلول وهو بعيد فِي الْجارِيَةِ في سفينة نوح عليه السلام والمراد بحملهم فيها رفعهم فوق الماء إلى انقضاء أيام الطوفان لا مجرد رفعهم إلى السفينة كما يعرب عنه كلمة فِي فإنها ليست بصلة للحمل بل متعلقة بمحذوف هو حال من مفعوله أي رفعناكم فوق الماء وحفظناكم حال كونكم في السفينة الجارية بأمرنا وحفظنا وفيه تنبيه على أن مدار نجاتهم محض عصمته عز وجل وإنما السفينة سبب صوري وكثر استعمال الجارية في السفينة وعليه:
تسعون جارية في بطن جارية لِنَجْعَلَها
أي الفعلة التي هي عبارة عن إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين لَكُمْ تَذْكِرَةً
عبرة ودلالة على كمال قدرة الصانع وحكمته وقوة قهره وسعة رحمته وَتَعِيَها
أي تحفظها والوعي أن تحفظ الشيء في نفسك، والإيعاء أن تحفظه في غير نفسك من وعاء أُذُنٌ واعِيَةٌ
أي من شأنها أن تحفظ ما يجب حفظه بتذكره وإشاعته والتفكر فيه ولا تضيعه بترك العمل به. وعن قتادة الواعية هي التي عقلت عن الله تعالى وانتفعت بما سمعت من كتاب الله تعالى
وفي الخبر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لعلي كرم الله تعالى وجهه: «إني دعوت الله تعالى أن يجعلها أذنك يا علي» قال علي كرم الله تعالى وجهه فما سمعت شيئا فنسيته وما كان لي أن أنسى
. وفي جعل الأذن واعية وكذا جعلها حافظة ومتذكرة ونحو ذلك تجوز والفاعل لذلك إنما هو صاحبها ولا ينسب لها حقيقة إلّا السمع والتنكير للدلالة على قلتها وان من هذا شأنه مع قتله بنسيب لنحاة الجم الغفير وإدامة نسلهم وقيل ضمير نجعلها للجارية وجعلها تذكرة لما أنه على ما قال قتادة أدركها أوائل هذه الأمة أي أدركوا ألواحها على الجودي كما قال ابن جريج. بل قيل إن بعض الناس وجد شيئا من أجزائها بعد الإسلام بكثير والله تعالى أعلم بصحته ولا يخفى أن المعول عليه ما قدمناه. وقرأ ابن مصرف وأبو عمرو في رواية هارون وخارجة عنه وقيل بخلاف عنه «وتعيها» بإسكان العين على التشبيه بكتف وكبد كما قيل وقرأ حمزة بإخفاء الكسرة وروي عن عاصم أنه قرأ بتشديد الياء قال في البحر قيل هو خطأ وينبغي أن يتأول على أنه أريد به شد بيان الياء احترازا ممن سكنها لا إدغام حرف في حرف ولا ينبغي أن يجعل ذلك من التضعيف في الوقف ثم أجري الوصل مجرى الوقف وإن كان قد ذهب إليه بعضهم وروي عن حمزة وموسى بن عبد الله العبسي «وتعيها» بإسكان الياء فاحتمل الاستئناف وهو الظاهر واحتمل أن يكون مثل قراءة من أوسط ما تطعمون أهاليكم بسكون الياء وقرأ نافع «أذن» بإسكان الذال للتخفيف فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ شروع بيان نفس الحاقة وكيفية وقوعها إثر بيان عظم شأنها بإهلاك مكذبيها. والمراد بالنفخة الواحدة النفخة الأولى التي عندها خراب العالم كما قال ابن عباس. وقال ابن المسيب ومقاتل هي النفخة الآخرة والأول أولى لأنه المناسب لما بعد وإن كانت الواو لا تدل على الترتيب لكن مخالفة الظاهر من غير داع مما لا حاجة إليه والنفخة قال جار الله في حواشي كشافه: المرة ودلالتها على النفخ اتفاقية غير مقصودة وحدوث الأمر العظيم بها وعلى عقبها إنما استعظم من حيث وقوع النفخ مرة واحدة لا من حيث إنه نفخ فنبه على ذلك بقوله سبحانه واحِدَةٌ وعن ابن الحاجب أن نَفْخَةٌ لم يوضع للدلالة على الوحدة على حيالها وإنما وضع للدلالة على النفخ والدلالة(15/49)
على الوحدة اتفاقية غير مقصودة، وتعقب بأن هذا بعد التسليم لا يضر لأن الكلام في مقتضى المقام لا أصل الوضع. وقد تقرر أن الذي سيق له الكلام يجعل معتمدا حتى كان غيره مطروح فالمرة هي المعتمدة نظرا للمقام دون النفخ نفسه وإن كان النظر إلى ظاهر اللفظ يقتضي العكس فافهم. وأيّا ما كان فإسناد الفعل إلى نَفْخَةٌ ليس من إسناد الفعل إلى المصدر المؤكد كضرب ضرب وإن لم يلاحظ ما بعده من قوله سبحانه واحِدَةٌ وحسن تذكير الفعل للفصل وكون المرفوع غير حقيقي التأنيث وكونه مصدرا فقد ذكر الجار بردي في شرح الشافية إن تأنيثه غير معتبر لتأويله بأن والفعل والمشهور أن واحِدَةٌ صفة مؤكدة وأطلق عليها بعضهم التوكيد وبعضهم البيان وذكر الطيبي أن التوابع كالبدل وعطف البيان والصفة بيان من وجه للمتبوع عند أرباب المعاني وتمام الكلام في ذلك في المطول. وقرأ أبو السمال «نفخة واحدة» بنصبهما على إقامة الجار والمجرور مقام الفاعل وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ رفعتا من أحيازهما بمجرد القدرة الإلهية من غير واسطة مخلوق أو بتوسط نحو ريح أو ملك قيل أو بتوسط الزلزلة أي بأن يكون لها مدخل في الرفع لا أنها رافعة لهما حاملة إياهما ليقال إنها ليس فيها حمل، وإنما هي اضطراب. وقيل: يجوز أن يخلق الله تعالى من الأجرام العلوية ما فيه قوة جذب الجبال ورفعها عن أماكنها أو أن يكون في الأجرام الموجودة اليوم ما فيه قوة ذلك إلّا أن في البين مانعا من الجذب والرفع وأنه يزول بعد فيحصل الرفع، وكذا يجوز أن يعتبر مثل ذلك بالنسبة إلى الأرض وأن تكون قوتا الجاذبين مختلفتين فإذا حصل رفع كل إلى غاية يريدها الله تعالى حدث في ذلك الجاذب ما لم يبق معه ذلك الجذب من زوال مسامته ونحوه وحصل بين الجبال والأرض ما يوجب التصادم.
ويجوز أيضا أن يحدث في الأرض من القوى ما يوجب قذفها للجبال ويحدث للأرض نفسها ما يوجب رفعها عن حيزها وكون القوى منها ما هو متنافر ومنها ما هو متحاب مما لا لا يكاد ينكر، وقيل يمكن أن يكون رفعهما بمصادمة بعض الأجرام كذوات الأذناب على ما قيل فيها جديدا للأرض فتنفصل الجبال وترتفع من شدة المصادمة. ورفع الأرض من حيزها ولا يخفى أن كل هذا على ما فيه لا يحتاج إليه ويكفينا القول بأن الرفع بالقدرة الإلهية التي لا يتعاصاها شيء وقرأ ابن أبي عبلة وابن مقسم والأعمش وابن عامر في رواية يحيى «وحملت» بتشديد الميم وحمل على التكثير وجوز أن يكون تضعيفا للنقل فيكون الأرض والجبال المفعول الأول أقيم مقام الفاعل والمفعول الثاني محذوف أي قدرة أو ريحا أو ملائكة أو يكون المفعول الثاني أقيم مقام الفاعل والأول محذوف وهو أحد المذكورات فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً فضربت الجملتان أثر رفعهما بعضها ببعض ضربة واحدة حتى تفتت وترجع كما قال سبحانه كَثِيباً مَهِيلًا [المزمل: 14] وقيل تتفرق اجزاؤها كما قال سبحانه هَباءً مُنْبَثًّا [الواقعة: 6] وفرقوا بين الدك والدق بأن في الأول تفرق الأجزاء وفي الثاني اختلافها. وقال بعض الأجلة: أصل الدك الضرب على ما ارتفع لينخفض ويلزمه التسوية غالبا فلذا شاع فيها حتى صار حقيقة ومنه أرض دكاء للمتسعة المستوية وبعير أدك وناقة دكاء إذا ضعفا فلم يرتفع سناما هما واستوت خدجتهما مع ظهريهما فالمرادها هنا فبسطتا بسطة واحدة وسويتا فصارتا أرضا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ولعل التفتت مقدمة للتسوية أيضا وقال الراغب الدك الأرض اللينة السهلة وقوله تعالى فَدُكَّتا أي جعلتا بمنزلة الأرض اللينة وهذا أيضا يرجع إلى التسوية كما لا يخفى. وحكي في مجمع البيان أنهما إذا دكتا تتفتت الجبال وتنسفها الريح وتبقى الأرض مستوية وثني الضمير لإرادة الجملتين كما أشرنا إليه فَيَوْمَئِذٍ أي فحينئذ على أن المراد باليوم مطلق الوقت وهو هاهنا متسع يقع فيه ما يقع والتنوين عوض عن المضاف إليه أي فيوم إذ نفخ في الصور وكان كيت وكيت وَقَعَتِ الْواقِعَةُ أي قامت القيامة وتفسير الواقعة بصخرة بيت المقدس(15/50)
واقع عن درجة القبول وَانْشَقَّتِ السَّماءُ تفطرت وتميز بعضها عن بعض. ولعله إشارة إلى ما تضمنه قوله تعالى: يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان: 25] وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال ذلك قوله تعالى: وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً [النبأ: 19] ولا منافاة بينهما وكذا لا منافاة بين كون الانشقاق لنزول الملائكة وكونه لهول يوم القيامة لأن الأمر قد يكون له علل شتى مثل هذه العلل، والمراد بالسماء جنسها وقيل السماوات السبع وأيما كان فلا يشترط لصحة الانشقاق كونها أجساما صلبة إذ يتصف بنحو ذلك ما ليس بصلب أيضا فقد وصف البحر بالانفلاق فَهِيَ أي السماء يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ ضعيفة من وهى الشيء ضعف وتداعى للسقوط وقال ابن شجرة من قولهم وهي السقاء إذا انخرق ومن أمثالهم قول الراجز:
خل سبيل من وهى سقاؤه ... ومن هريق بالفلاة ماؤه
وَالْمَلَكُ أي الجنس المتعارف بالملك وهو أعم من الملائكة عند الزمخشري وجماعة وقد ذكره الجوهري أيضا وقال أبو حيان: الملك اسم جنس يراد به الملائكة ولا يظهر أنه أعم من الملائكة وتحقيق هذا المقام بما لا مزيد عليه في شرح التلخيص للعلامة الثاني وحواشيه فارجع إن أردت إليه عَلى أَرْجائِها أي جوانبها جمع رجى بالقصر وهو من ذوات الواو، ولذا برزت في التثنية قال الشاعر:
كأن لم تري قبلي أسيرا مقيدا ... ولا رجلا يرمي به الرجوان
والضمير للسماء والمراد بجوانبها أطرافها التي لم تنشق أخرج ابن المنذر عن ابن جبير والضحاك قال إنهما قالا وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها أي على ما لم ينشق منها، ولعل ذلك التجاء منهم للأطراف مما داخلهم من ملاحظة عظمة الله عزّ وجلّ أو اجتماع هناك للنزول. وأخرج ابن المنذر وعبد بن حميد عن الربيع بن أنس قال وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها أي الملائكة على شقها ينظرون إلى شق الأرض وما أتاهم من الفزع والأول أظهر ولعل هذا الانشقاق بعد موت الملائكة عند النفخة الأولى وإحيائهم وهو يحيون قبل الناس كما تقتضيه الأخبار ويجوز أن يكون ذلك بعد النفخة الثانية والناس في المحشر ففي بعض الآثار ما يشعر بانشقاق كل سماء يومئذ ونزول ملائكتها واليوم متسع كما أشرنا إليه. وقال الإمام يحتمل أنهم يقفون على الأرجاء لحظة ثم يموتون. ويحتمل أن يكون المراد بهم الذين استثناهم الله تعالى في قوله سبحانه إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [النمل:
87، الزمر: 68] . وعلى الوجهين ينحل ما يقال الملائكة يموتون في الصعقة الأولى لقوله تعالى فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [الزمر: 68] فكيف يقال إنهم يقفون على أرجاء السماء وفي أنوار التنزيل لعل قوله تعالى وَانْشَقَّتِ السَّماءُ إلخ تمثيل لخراب العالم بخراب المبنيات وانضواء أهلها إلى أطرافها وإن كان على ظاهره فلعل موت الملائكة إثر ذلك انتهى وأنا لا أقول باحتمال التمثيل وفي البحر عن ابن جبير والضحاك إن ضمير أَرْجائِها للأرض وإن بعد ذكرها قالا إنهم ينزلون إليها يحفظون أطرافها كما روي أن الله تعالى يأمر ملائكة السماء الدنيا فيقفون صفا على حافات الأرض ثم ملائكة الثانية فيصفون حولهم ثم ملائكة كل سماء فكلما ند أحد من الجن والإنس وجد الأرض أحيط بها ولعل ما نقلناه عنهما أولى بالاعتماد وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ أي فوق الملائكة الذين على الأرجاء المدلول عليهم بالملك وقيل فوق العالم كلهم وقيل الضمير يعود على الملائكة الحاملين أي يحمل عرش ربك فوق ظهورهم أو رؤوسهم يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ والمرجع وإن تأخر لفظا لكنه متقدم رتبة وفائدة فوقهم الدلالة على أنه ليس محمولا بأيديهم كالمعلق مثلا وأيد هذا واعتبار الظهور بما أخرج الترمذي وأبو داود وابن ماجة عن العباس بن عبد المطلب في حديث(15/51)
وفوق ذلك ثمانية أو عال بين أظلافهن ووركهن ما بين سماء إلى سماء ثم فوق ظهورهن العرش بين أسفله وأعلاه مثل ما بين السماء إلى السماء والمراد بالأوعال فيه ملائكة على صورة الأوعال كما قال ابن الأثير وغيره وهي جمع وعل بكسر العين تيس الجبل واستدل به على أن المراد ثمانية أشخاص والأخبار الدالة على ذلك كثيرة إلا أن فيها تدافعا من حيث دلالة بعضها على أن بعضهم على صورة الإنسان وبعضهم على صورة الأسد وبعضهم على صورة الثور وبعضهم على صورة النسر ودلالة بعض آخر على أن كل واحد منهم أربعة أوجه وجه ثور ووجه نسر ووجه أسد ووجه إنسان وفيه لكل واحد منهم أربعة أجنحة أما جناحان فعلى وجهه مخافة من أن ينظر إلى العرش فيصعق، وأما جناحان فيطير بهما وأبو حيان لم يقل بصحة شيء من ذلك حيث قال ذكروا في صفات هؤلاء الثمانية أشكالا متكاذبة ضربنا عن ذكرها صفحا.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن زيد عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «يحمله اليوم أربعة ويوم القيامة ثمانية»
. وأخرج عنه ابن أبي حاتم أنه لم يسم من حملة العرش إلّا إسرافيل عليه السلام قال وميكائيل عليه السلام ليس من حملة العرش وعليه فمن زعم أنهما وجبرائيل وعزرائيل عليه السلام من جملة حملته يلزمه إثبات ذلك بخبر يعول عليه.
وعن شهر بن حوشب أربعة منهم يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك، وأربعة يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك
.
وفي خبر عن وهب بن منبه ليس لهم كلام إلّا قولهم قدسوا الله القوي الذي ملأت عظمته السماوات
. وأكثر الأخبار في هذا الباب لا يعول عليه
وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك أنه قال يقال ثمانية صفوف لا يعلم عدتهم إلا الله عزّ وجلّ. وأخرج هذا القول ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس
وقال الحسن: الله تعالى أعلم كم هم أثمانية أصناف أم ثمانية أشخاص وأنت تعلم أن الظاهر المؤيد ببعض الأخبار المصححة أنهم ثمانية أشخاص وأيّا كان فالظاهر أن هناك حملا على الحقيقة وإليه ذهب محيي الدين قدس سره قال: إن لله تعالى ملائكة يحملون العرش الذي هو السرير على كواهلهم هم اليوم أربعة وغدا يكونون ثمانية لأجل الحمل إلى أرض المحشر. وله قدس سره في الباب الثالث عشر من فتوحاته كلام واسع في حملة العرش لا سيما على تفسيره بالملك فليرجع إليه من اتسع كرسي ذهنه لفهم كلامه وجوز أن يكون ذلك تمثيلا لعظمته عزّ وجلّ بما يشاهد من أحوال السلاطين يوم خروجهم على الناس للقضاء العام فالمراد تجليه عزّ وجلّ بصفة العظمة وجعل العرض في قوله تعالى يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ مجازا عن الحساب والمراد يومئذ تحاسبون لكنه شبه ذلك بعرض السلطان العسكر ليعرف أحوالهم فعبر عنه به.
وأخرج الإمام أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن ماجه وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال ومعاذير وأما الثالث فعند ذلك تطاير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله»
والجملة المعوض عنها التنوين على ما يدل عليه كلامهم نُفِخَ فِي الصُّورِ وجعل يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ بدلا من فَيَوْمَئِذٍ إلخ وقد سمعت أن الزمان متسع لجميع ما ذكر وغيره وقوله تعالى لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ حال من مرفوع تُعْرَضُونَ أي تعرضون غير خاف عليه عزّ وجلّ سر من أسراركم قبل ذلك أيضا وإنما العرض لإفشاء الحال وإقامة الحجة والمبالغة في العدل أو غير خاف يومئذ على الناس كقوله تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ [الطارق: 9] وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب وطلحة والأعمش وابن مقسم عن عاصم وغيرهم «لا يخفى» بالياء التحتانية فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ تفصيل لأحكام العرض والمراد بكتابه ما كتب الملائكة فيه ما فعله في الدنيا. وقد ذكروا أن أعمال كل يوم وليلة تكتب في صحيفة فتتعدد صحف العبد الواحد فقيل توصل له فيؤتاها موصولة. وقيل ينسخ ما في(15/52)
جميعها في صحيفة واحدة وهذا ما جزم به الغزالي عليه الرحمة وعلى القولين يصدق على ما يؤتاه العبد كتاب وقيل إن العبد يكتب في قبره أعماله في كتاب وهو الذي يؤتاه يوم القيامة وهذا قول ضعيف لا يعول عليه.
وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان كيف يؤتى العبد ذلك فَيَقُولُ تبجحا وافتخارا هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ قال الرضي (ها) اسم لخذ وفيه ثمان لغات الأولى بالألف مفردة ساكنة للواحد والاثنين والجمع مذكرا كان أو مؤنثا. الثانية أن تلحق هذه الألف المفردة كاف الخطاب الحرفية كما في ذلك وتصرفها نحو هاك ها كما ها كم ها كن. الثالثة أن تلحق الألف همزة مكان الكاف وتصريفها تصريف الكاف نحوها هاؤها هاؤم هاء هاؤما هاؤن. الرابعة أن تلحق الألف همزة مفتوحة قبل كاف الخطاب وتصرف الكاف الخامسة هاء بهمزة ساكنة بعد الهاء للكل السادسة أن تصرف هذه الجملة تصريف دع السابعة أن تصرفها تصريف خف. ومن ذلك ما حكى الكسائي من قول من قيل له هاء بالفتح الام إهاء وإهاء بفتح همزة المتكلم وكسرها الثامنة أن تلحق الألف همزة وتصرفها تصريف ناد والثلاثة الأخيرة أفعال غير متصرفة لا ماضي لها ولا مضارع وليست بأسماء أفعال قال الجوهري: هاء بكسرة الهمزة بمعنى هات وبفتحها بمعنى خذ وإذا قيل لك هاء بالفتح قلت ما أهاء أي ما آخذ وما أهاء على ما لم يسم فاعله أي ما أعطى وهذا الذي قال مبني على السابعة نحو ما أخاف وما أخاف انتهى. وقال أبو القاسم: فيها لغات أجودها ما حكاه سيبويه في كتابه فقال: العرب تقول: هاء يا رجل بفتح الهمزة وهاء يا امرأة بكسرها، وهاؤما يا رجلان أو امرأتان، وهاؤم يا رجال، وهاؤن يا نسوة فالميم في هاؤم كالميم في أنتم وضمها كضمها في بعض الأحيان وفسر هاهنا بخذوا وهو متعد بنفسه إلى المفعول تعديته والمفعول محذوف دل عليه المذكور أعني كِتابِيَهْ وهو مفعول اقْرَؤُا واختير هذا دون العكس لأنه لو كان مفعول هاؤُمُ لقيل اقرؤوه إذ الأولى إضمار الضمير إذ أمكن كما هنا، وإنما لم يظهر في الأول لئلا يعود على متأخر لفظا ورتبة وهو منصوب مع أن العامل على اللغة الجيدة اسم فعل فلا يتصل به الضمير. وقيل هاؤُمُ بمعنى تعالوا فيتعدى بإلى. وزعم القتبي أن الهمزة بدل من الكاف قيل وهو ضعيف إلّا إن كان قد عنى أنها تحل محلها في لغة كما سمعت فيمكن لا أنه بدل صناعي لأن الكاف لا تبدل من الهمزة ولا الهمزة منها. وقيل: هاؤُمُ كلمة وضعت لإجابة الداعي عند الفرح والنشاط. وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام ناداه أعرابي بصوت عال فجاوبه صلّى الله عليه وسلم هاؤم بصولة صوته. وجوز إرادة هذا المعنى هنا فإنه يحتمل أن ينادي ذلك المؤتى كتابه بيمينه أقرباؤه وأصحابه مثلا ليقرؤوا كتابه فيجيبهم لمزيد فرحه ونشاطه بقوله هاؤُمُ وزعم قوم أنها مركبة في الأصل ها أموا أي اقصدوا ثم نقله التخفيف والاستعمال إلى ما ذكر. وزعم آخرون أن الميم ضمير جماعة الذكور والهاء في كِتابِيَهْ وكذا في حِسابِيَهْ ومالِيَهْ [الحاقة: 28] وسُلْطانِيَهْ [الحاقة: 29] وكذا ما هِيَهْ في [القارعة: 10] للسكت لا ضمير غيبة فحقها أن تحذف وصلا وتثبت وقفا لتصان حركة الموقوف عليه، فإذا وصل استغنى عنها ومنهم من أثبتها في الوصل لإجرائه مجرى الوقف أو لأنه وصل بنية الوقف والقراءات مختلفة فقرأ الجمهور بإثباتها وصلا ووقفا. قال الزمخشري اتباعا للمصحف الإمام وتعقبه ابن المنير فقال: تقليل القراءة باتباع المصحف عجيب مع أن المعتقد الحق أن القراءات بتفاصيلها منقولة عن النبي صلّى الله عليه وسلم وأطال في التشنيع عليه وهو كما قال وقرأ ابن محيصن بحذفها وصلا ووقفا وإسكان الياء فيما ذكر ولم ينقل ذلك في ما هِيَهْ فيما وقفت عليه وابن أبي إسحاق والأعمش بطرح الهاء فيهن في الوصل لا في الوقف وطرحها حمزة في مالي وسلطاني وما هي في الوصل لا في الوقف وفتح الياء فيهن وما قاله الزهراوي من أن إثبات الهاء في الوصل لحن لا يجوز عند أحد علمته ليس بشيء فإن ذلك(15/53)
متواتر فوجب قبوله إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ أي عملت ذلك كما قاله الأكثرون بناء على أن الظاهر من حال المؤمن تيقن أمور الآخرة كالحساب، فالمنقول عنه ينبغي أن يكون كذلك لكن الأمور النظرية لكون تفاصيلها لا تخلو عن تردد ما في بعضها مما لا يفوت اليقين فيه كسهولة الحساب وشدته مثلا عبر عن العلم بالظن مجازا للإشعار بذلك. وقيل لما كان
الاعتقاد بأمور الآخرة مطلقا مما لا ينفك عن الهواجس والخطرات النفسية كسائر العلوم النظرية نزل منزلة الظن فعبر عنه به لذلك، وفيه إشارة إلى أن ذلك غير قادح في الإيمان وجوز أن يكون الظن على حقيقته على أن يكون المراد من حسابه ما حصل له من الحساب اليسير فإن ذلك مما لا يقين له به وإنما ظنه ورجحه لمزيد وثوقه برحمة الله تعالى عزّ وجلّ ولعل ذلك عند الموت فقد دلت الأخبار على أن اللائق بحال المؤمن حينئذ غلبة الرجاء وحسن الظن. وأما قبله فاستواء الرجاء والخوف وعليه يظهر جدا وقوع هذه الجملة موقع التعليل لما تشعر له الجملة الأولى من حسن الحال فكأنه قيل إني على ما يحسن من الأحوال أو إني فرح مسرور لأني ظننت بربي سبحانه أنه يحاسبني حسابا يسيرا وقد حاسبني كذلك فالله تعالى عند ظن عبده به، وهذا أولى مما قيل يجوز أن يكون المراد إني ظننت أني ملاق حسابي على الشدة والمناقشة لما سلف مني من الهفوات والآن أزال الله تعالى عني ذلك وفرج همي. وقيل: يطلق الظن على العلم حقيقة وهو ظاهر كلام الرضي في أفعال القلوب وفيه نظر. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ قال أبو عبيدة والفراء أي مرضية وقال غير واحد أي ذات رضى على أنه من باب النسبة بالصيغة كلابن وتامر، ومعنى ذات رضى ملتبسة بالرضا فيكون بمعنى مرضية أيضا وأورد عليه أن ما أريد به النسبة لا يؤنث كما صرح به الرضي وغيره وهو هنا مؤنث فلا يصح هذا التأويل إلّا أن يقال التاء فيه للمبالغة وفيه بحث. وقال بعض المحققين الحق أن مرادهم أن ما قصد به النسبة لا يلزم تأنيثه وإن جاء فيه على خلاف الأصل الغالب أحيانا. والمشهور حمل ما ذكر على أنه مجاز في الإسناد والأصل في عيشة راض صاحبها فأسند الرضا إليها لجعلها لخلوصها دائما عن الشوائب كأنها نفسها راضية. وجوز أن يكون فيه استعارة مكنية وتخييلية كما فصل في مطول كتب المعاني فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ مرتفعة المكان لأنها في السماء فنسبة العلو إليها حقيقة ويجوز أن تكون مجازا وهي حقيقة لدرجاتها وما فيها من بناء ونحوه أو يكون هناك مضاف محذوف أي عالية درجاتها أو بناؤها أو أشجارها وفي البحر عالية مكانا وقدرا ولا يخفى ما في استعمال العلو فيهما من الكلام قُطُوفُها جمع قطف بكسر القاف وهو ما يجتنى من الثمر زاد بعضهم بسرعة وكأن ذلك لأنها من شأن القطف بفتح القاف وهو مصدر قطف ولم يجعلوا قطوفها جمعا له لأن المصدر لا يطرد جمعه ولقوله تعالى دانِيَةٌ أي قريبة يتناول الرجل منها وهو قائم كما قال البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه. وقال بعضهم: يدركها القائم والقاعد والمضطجع بفيه من شجرتها وعليه يجوز أن يكون مراد البراء التمثيل وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال:
دنت فلا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك وفسر الدنو عليه بسهولة التناول كُلُوا وَاشْرَبُوا بإضمار القول أي يقال فيها ذلك وجمع الضمير رعاية للمعنى هَنِيئاً صفة لمحذوف وقع مفعولا به والأصل أكلا وشربا هنيئا أي غير منغصين فحذف المفعول به وأقيمت صفته مقامه وصح جعله صفة لذلك مع تعدده لأن فعيلا يستوي فيه الواحد فما فوقه وجعل بعضهم المحذوف مصدرا وكذا صفته أعني هَنِيئاً ووجه عدم تثنيته بأن المصدر يتناول المثنى أيضا فلا تغفل. وجوز أن يكون نصبا على المصدرية لفعل من لفظه وفعيل من صيغ المصادر كما أنه من صيغ الصفات أي هنئتم هنيئا والجملة في موضع الحال والكلام في مثلها مشهور بِما أَسْلَفْتُمْ بمقابلة ما قدمتم من الأعمال الصالحة فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ أي الماضية وهي أيام الدنيا. وقيل أي(15/54)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37) فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
الخالية من اللذائذ أي الحقيقية وهي أيام الدنيا أيضا، وقيل أي التي أخليتموها من الشهوات النفسانية وحمل عليه ما روي عن مجاهد وابن جبير ووكيع من تفسير هذه الأيام بأيام الصيام.
وأخرج ابن المنذر عن يعقوب الحنفي قال: بلغني أنه إذا كان يوم القيامة يقول الله تعالى: «يا أوليائي طالما نظرت إليكم في الدنيا وقد قلصت شفاهكم عن الأشربة وغارت أعينكم وخمصت بطونكم فكونوا اليوم في نعيمكم وكُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ»
والظاهر أن ما على تفسير الأيام الخالية بأيام الصيام غير محمولة على العموم والعموم في الآية هو الظاهر.
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ لما يرى من قبح العمل وانجلاء الحساب عما يسوءه يا لَيْتَها أي الموتة التي متّها في الدنيا كانَتِ الْقاضِيَةَ أي القاطعة لأمري ولم أبعث بعدها ولم أخلق ما ألقى فالضمير للموتة الدال عليها المقام وإن لم يسبق لها ذكر، ويجوز أن يكون لما شاهده من الحالة أي ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضت علي لما أنه وجدها أمر من الموت فتمناه عندها وقد قيل أشد من الموت ما يتمنى الموت عنده. وقد جوز أن يكون للحياة الدنيا المفهومة من السياق أيضا والمراد بالقاضية الموتة فقد اشتهرت في ذلك أي يا ليت الحياة الدنيا كانت الموتة ولم أخلق حيا وبتفسير الْقاضِيَةَ بما ذكر اندفع ما قيل أنها تقتضي تجدد أمر ولا تجدد في الاستمرار على العدم نعم هذا الوجه لا يخلو عن بعد ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ أي ما أغنى عني شيئا الذي كان لي في الدنيا من المال ونحوه كالاتباع على أن ما في ما أَغْنى نافية. وما في ماليه موصولة فاعل أَغْنى ومفعوله محذوف و (ليه) جار ومجرور في موضع الصلة ويجوز أن يجعل مالِيَهْ عبارة عن مال مضاف إلى ياء المتكلم والأول أظهر شمولا للإتباع ونحوها إذ لا يتأتى اعتبار ذلك على الثاني إلا باعتبار اللزوم ويجوز أن تكون ما في ما أَغْنى استفهامية للإنكار ومالِيَهْ على احتمالية أي أي شيء أغنى عني مالي هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ أي بطلت حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا وبه فسره ابن عباس ومجاهد والضحاك وعكرمة والسدي وأكثر السلف أو ملكي وتسلطي على الناس وبقيت فقيرا ذليلا أو تسلطي على القوى والآلات التي خلقت لي فعجزت عن استعمالها في الطاعات. يقول ذلك تحسرا وتأسفا وإلى هذا ذهب(15/55)
قتادة مشيرا إلى وجه اختياره دون الثاني أخرج عبد بن حميد عنه أنه قال: أما والله ما كل من دخل النار كان أمير قرية ولكن الله تعالى خلقهم وسلطهم على أبدانهم وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته وبما أشار إليه رجح الأول على الثاني أيضا لكن قيل ما بعد أشد مناسبة له وستطلع إن شاء الله تعالى على ذلك. وعن ابن عباس أنها نزلت في الأسود بن عبد الأشد ويحكى عن فناخسرو الملقب بعضد الدولة ابن بويه أنه لما أنشد قوله:
ليس شرب الكأس إلا في المطر ... وغناء من جوار في سحر
غانيات سالبات للنهى ... ناعمات في تضاعيف الوتر
مبرزات الكأس من مطلعها ... ساقبات الراح من فاق البشر
عضد الدولة وابن ركنها ... ملك الأملاك غلاب القدر
لم يفلح بعده وجن وكان لا ينطلق لسانه إلا بهذه الآية وفي يتيمة الثعالبي أنه لما احتضر لم ينطلق لسانه إلا بتلاوة ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ نسأل الله تعالى العفو والعافية. وروي عن أبي عمرو أنه أدغم هاء السكت من مالِيَهْ في هاء هَلَكَ وهو ضعيف قياسا لأن هاء السكت لا تدغم لكون الوقف عليها محققا أو مقدرا كما في شرح التوضيح وفيه رواية الإدغام فيما ذكر عن ورش وتعقب بأن المروي عنه إنما هو النقل في كِتابِيَهْ إني والله تعالى أعلم خُذُوهُ بتقدير القول أي فيقول الله تعالى للزبانية خذوه فَغُلُّوهُ أي شدوه بالأغلال ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ أي لا تصلوه إلا الجحيم وهي النار العظيمة الشديدة التأجج لعظم ما أوتي به من المعصية وهي الكفر بالله تعالى العظيم. وقيل حيث كان يتعظم على الناس وهو مبني على اختصاص ما قبل بالسلاطين بقرينة تعظيم أمره وتنصيعن الله تعالى على تعذيبه وأجيب عما يخدشه مما يفهم من كلام قتادة بأنه لا ضير في كونه بيانا لحال بعض من أوتي كتابه بشماله ومثله ما يأتي إن شاء الله تعالى من قوله سبحانه وَلا يَحُضُّ إلخ فكم من أهل الشمال من لا يكون كذلك وأيضا قد ذكروا أن الجحيم اسم لطبقة من النار فتأمل ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها أي قياسها ومقدار طولها سَبْعُونَ ذِراعاً يجوز أن يراد ظاهره من العدد المعروف والله تعالى أعلم بحكمة كونها على هذا العدد.
ويجوز أن يراد به التكثير فقد كثر السبعة والسبعون في التكثير والمبالغة ورجح بأنه أبلغ من إبقائه على ظاهره والذراع مؤنث قال ابن الشحنة وقد ذكره بعض عكل فيقال الثوب خمس أذرع وخمسة أذرع والمراد بها المعروفة عند العرب وهي ذراع اليد لأن الله سبحانه إنما خاطبهم بما يعرفون وقال ابن عباس وابن جريج ومحمد بن المنكدر ذراع الملك وأخرج ابن المبارك وجماعة عن نوف البكالي أنه قال وهو يومئذ بالكوفة الذراع سبعون باعا والباع ما بينك وبين مكة ويحتاج إلى نقل صحيح وقال الحسن الله تعالى أعلم بأي ذراع هي والسلسلة حلق تدخل في حلق على سبيل الطول كأنها من تسلسل الشيء اضطرب وتنوينها للتفخيم وروي عن ابن عباس أنه قال لو وضع منها حلقة على جبل لذاب كالرصاص فَاسْلُكُوهُ أي فادخلوه كما في قوله تعالى فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ [الزمر: 21] وإدخاله فيها بأن تلف على جسده وتلوى عليه من جميع جهاته فيبقى مرهقا فيما بينها لا يستطيع حراكا ما وعن ابن عباس أن أهل النار يكونون فيها كالتعلب في الجبة والتعلب طرف خشبة الرمح والجبة الزج. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريح قال قال ابن عباس إن السلسلة تدخل في استه ثم تخرج من فيه ثم ينظمون فيها كما ينظم الجراد في العود ثم يشوى.
وفي رواية أخرج عنهم أنها تسلك في دبره حتى تخرج من منخريه ومن هنا قيل إن في الآية قلبا والأصل(15/56)
فاسلكوها فيه والجمهور على الظاهر والفاء جزائية كما في قوله تعالى وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر: 3] والتقدير مهما يكن من شيء فاسلكوه في سلسلة إلخ فقدم الظرف وما معه عوضا عن المحذوف ولتتوسط الفاء كما هو حقها وليدل على التخصيص كأنه قيل لا تسلكوه إلّا في هذه السلسلة كأنها أفظع من سائر مواضع الإرهاق من الجحيم ويجوز أن يكون التقدير هكذا ثم مهما يكن من شيء ففي سلسلة ذرعها سبعون ذراعا اسلكوه ففيه تقديمان تقديم الظرف على الفعل للدلالة على التخصيص وتقديمه على الفاء بعد حذف حرف الشرط للتعويض وتوسيط الفاء وثُمَّ في الموضعين لتفاوت ما بين أنواع ما يعذبون به من الغل والتصلية والسلك على ما اختاره جمع، وجوز بعضهم كونها على ظاهرها من الدلالة على المهلة ورجح الأول بأنه أنسب بمقام التهديد، وزعم بعض أن ثُمَّ الثانية لعطف قول مضمر على ما أضمر قبل خُذُوهُ إشعارا بتفاوت ما بين الأمرين وفاء فَاسْلُكُوهُ لعطف المقول على المقول لئلا يتوارد حرفا عطف على معطوف واحد ويلزمه أن يكون تقديم السلسلة على الفاء بعد حذف القول لئلا يلزم التوارد المذكور ومبنى هذا التكلف البادر الغفلة عما ذكرناه فلا تغفل ويعلم منه وهن ما قيل إنه ليس في الآية ما يفيد التخصيص لأن فِي سِلْسِلَةٍ ليس معمولا لاسلكوه لئلا يلزم الجمع بين حرفي عطف بل هو معمول لمحذوف فيقدر مقدما على الأصل على أن تقديم الجحيم كالقرينة على كون فِي سِلْسِلَةٍ مقدما على عامله إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ تعليل على طريقة الاستئناف للمبالغة كأنه قيل لم استحق هذا قيل لم استحق هذا فقيل لأنه كان في الدنيا مستمرا على الكفر بالله تعالى العظيم وقيل أي كان في علم الله تعالى المتعلق بالأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر أنه لا يتصف بالإيمان به عزّ وجلّ والأول هو الظاهر، وذكر الْعَظِيمِ للإشارة إلى وجه عظم عذابه، وقيل للإشعار بأنه عزّ وجلّ المستحق للعظمة فحسب فمن نسبها إلى نفسه استحق أعظم العقوبات وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي ولا يحث على بذل طعامه الذي يستحقه في مال الموسر ففيه مضاف مقدر لأن الحث إنما يكون على الفعل، والطعام ليس به ويجوز أن يكون الطعام بمعنى الإطعام بوضع الاسم موضع المصدر كالعطاء بمعنى الإعطاء أي ولا يحث على إطعام المسكين فضلا عن أن يبذل ما له فليس هناك مضاف محذوف. وقيل ذكر الحض للإشعار بأن تارك الحض بهذه المنزلة فكيف بتارك الفعل.
وما أحسن قول زينب الطثرية ترثي أخاها يزيد:
إذا نزل الأضياف كان عذورا ... على الحي تستقل مراجله
تريد حضهم على القرى واستعجلهم وتشاكس عليهم وفيه أوجه من المدح. وكان أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين ويقول: خلعنا نصف السلسلة بالإيمان أفلا نخلع نصفها اقتبس ذلك من الآية فإنه جعل استحقاق السلسلة معللا بعدم الإيمان وعدم الحض وتخصيص الأمرين بالذكر قيل لما أن أقبح العقائد الكفر وأشنع الرذائل البخل وقسوة القلب وفي الآية دلالة على أن الكفار مخاطبون بالفروع كالهول وإلّا لم يعاقبوا على ترك الحض على طعام المسكين فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ قريب مشفق يحميه ويدفع عنه لأن أولياءه يتحامونه ويفرون منه وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ قال اللغويون هو ما يجري من الجراح إذا غسلت فعلين من الغسل وقال ابن عباس في رواية ابن أبي حاتم وابن المنذر من طريق عكرمة عنه أنه الدم والماء الذي يسيل من لحوم أهل النار وفي معناه قوله في روايتهما من طريق علي بن أبي طلحة عنه هو صديد أهل النار. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عنه أنه قال: ما أدري ما الغسلين ولكني أظنه الزقوم والأكثرون على الأول.
وأخرج الحاكم وصححه عن أبي(15/57)
سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلم لو أن دلوا من غسلين يهراق في الدنيا لأنتن بأهل الدنيا
وجعله بعضهم متحدا مع الضريع. وقال بعضهم: هما متباينان وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى ولَهُ خبر (ليس) قال المهدوي ولا يصح أن يكون هاهنا ولم يبين ما المانع من ذلك وتبعه القرطبي في ذلك. وقال لأن المعنى يصير ليس هاهنا طعام إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ولا يصح ذلك لأن ثم طعاما غيره وهاهُنا متعلق بما في لَهُ من معنى الفعل انتهى.
وتعقب ذلك أبو حيان فقال: إذا كان ثم غيره من الطعام وكان الأكل أكلا آخر صح الحصر بالنسبة إلى اختلاف الأكلين. وأما إن كان الضريع هو الغسلين كما قال بعضهم فلا تناقض بين هذا الحصر والحصر في قوله تعالى لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ [الغاشية: 6] إذ المحصور في الآيتين هو من شيء واحد وإنما يمتنع ذلك من وجه غير ما ذكره وهو إنه إذا جعلنا هاهُنا الخبر كان لَهُ والْيَوْمَ متعلقين بما تعلق به الخبر وهو العامل في هاهُنا وهو عامل معنوي فلا يتقدم معموله عليه فلو كان العامل لفظيا جاز كقوله تعالى وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:
4] فله متعلق بكفوا وهو خبر ليكن اهـ. وفي إطلاق العامل المعنوي على متعلق الجار والمجرور المحذوف بحث لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ أصحاب الخطايا من خطىء الرجل إذا تعمد الذنب لا من الخطأ المقابل للصواب دون المقابل للعمد والمراد بهم على ما روي عن ابن عباس المشركون. وقرأ الحسن والزهري والعتكي وطلحة في رواية «الخاطيون» بياء مضمومة بدلا من الهمزة وقرأ أبو جعفر وشيبة وطلحة في رواية أخرى ونافع بخلاف عنه «الخاطون» بطرح الهمزة بعد إبدالها تخفيفا على أنه من خطىء كقراءة من همز وعن ابن عباس ما يشعر بإنكار ذلك أخرج الحاكم وصححه من طريق أبي الأسود الدؤلي ويحيى بن يعمر عنه أنه قال: ما الخاطون إنما هو الخاطئون ما الصابئون إنما هو الصائبون وفي رواية ما الخاطون كلنا نخطو كأنه يريد أن التخفيف هكذا ليس قياسا وهو ملبس مع ذلك فلا يرتكب وقيل هو من خطا يخطو فالمراد بهم الذين يتخطون من الطاعة إلى العصيان ومن الحق إلى الباطل ويتعدون حدود الله عزّ وجلّ فيكون كناية عن المذنبين أيضا هذا وظواهر هذه الآيات أن المؤمن الطائع يؤتى كتابه بيمينه والكافر يؤتى كتابه بشماله ولم يعلم منها حال الفاسق الذي مات على فسقه من غير توبة بل قيل ليس في القرآن بيان حاله صريحا وقد اختلف في أمره فجزم الماوردي بأن المشهور أنه يؤتى كتابه بيمينه ثم حكى قولا بالوقف وقال لا قائل بأنه يؤتاه بشماله وقال يوسف بن عمر اختلف في عصاة المؤمنين فقيل يأخذون كتبهم بأيمانهم وقيل بشمالهم، واختلف الأولون فقيل: يأخذونها قبل الدخول في النار ويكون ذلك علامة على عدم خلودهم فيها. وقيل يأخذونها بعد الخروج منها ومن أهل العلم من توقف لتعارض النصوص ومن حفظ حجة على من لم يحفظ والمثبت مقدم على النافي ثم إنه ليس في هذه الآيات تصريح بقراءة العبد كتابه والوارد في ذلك مختلف والذي يجمع الآيات والأحاديث على ما قال اللقاني أن من الآخذين من لم يقرأ كتابه لاشتماله على المخازي والقبائح والجرائم والفضائح فيأخذه بسبب ذلك الدهش والرعب حتى لا يميز شيئا كالكافر ومنهم من يقرؤه بنفسه ومنهم من يدعو أهل حاضره لقراءته إعجابا بما فيه وظواهر النصوص أن القراءة حقيقية وقيل مجازية عبر بها عن العلم وليس بشيء. ولفظ الحسن يقرأ كل إنسان كتابه أميا كان أو غير أمي وظواهر الآثار أن الحسنات تكتب متميزة من السيئات فقيل إن سيئات المؤمن أول كتابه وآخره هذه ذنوبك قد سترتها وغفرتها وإن حسنات الكافر أول كتابه وآخره هذه حسناتك قد رددتها عليك وما قبلتها. وقيل يقرأ المؤمن سيئات نفسه ويقرأ الناس حسناته حتى يقولوا ما لهذا العبد سيئة ويقول ما لي حسنة.
وقيل كل يقرأ حسناته وسيئاته وأول سطر من كتاب المؤمن أبيض فإذا قرأه ابيض وجهه والكافر على ضد ذلك وظواهر الآيات والأحاديث عدم اختصاص إيتاء الكتب بهذه الأمة وإن تردد فيه بعض العلماء لما في بعضها مما يشعر بالاختصاص
ففي حديث رواه أحمد عن أبي الدرداء أنه عليه الصلاة والسلام قال وقد قال له رجل: كيف تعرف أمّتك(15/58)
من بين الأمم فيما بين نوح عليه السلام إلى أمتك يا رسول الله: «هم غر محجلون من أثر الوضوء ليس أحد كذلك غيرهم وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم» الحديث
. وقد تقدم فتذكر والحق أن الجن في هذه الأمور حكمهم حكم الإنس على ما بحثه القرطبي وصرح به غيره نعم الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام لا يأخذون كتابا بل إن السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ومنهم أو بكر رضي الله تعالى عنه لا يأخذون أيضا كتابا وأول من يؤتي كتابه بيمينه فله شعاع كشعاع الشمس عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كما في الحديث وبعده أو سلمة بن عبد الأشد وأول من يأخذ كتابه بشماله أخوه الأسود بن عبد الأشد الذي مر ذكره غير بعيد والآثار في كيفية وصول الكتب إلى أيدي أصحابها مختلفة
فقد ورد أن الريح تطيرها من خزانة تحت العرش فلا تخطىء صحيفة عنق صاحبها
وورد أن كل أحد يدعي فيعطى كتابه وجمع بأخذ الملائكة عليهم السلام إياها من أعناقهم ووضعهم لها في أيديهم
والله تعالى أعلم وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ قد تقدم الكلام في فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ [الواقعة: 75] وما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ المشاهدات والمغيبات وإليه يرجع قول قتادة هو عام في جميع مخلوقاته عزّ وجلّ. وقال عطاء ما تُبْصِرُونَ من آثار القدرة وَما لا تُبْصِرُونَ من أسرار القدرة. وقيل الأجسام والأرواح وقيل الدنيا والآخرة وقيل الإنس والجن والملائكة وقيل الخلق والخالق وقيل النعم الظاهرة والباطنة والأول شامل لجميع ما ذكر وسبب النزول على ما قال مقاتل إن الوليد قال: إن محمدا صلّى الله عليه وسلم ساحر وقال أبو جهل شاعر وقال عتبة كاهن فرد الله تعالى عليهم بقوله سبحانه فَلا أُقْسِمُ إلخ إِنَّهُ أي القرآن لَقَوْلُ رَسُولٍ يبلغه عن الله تعالى فإن الرسول لا يقول عن نفسه كَرِيمٍ على الله عزّ وجلّ وهو النبي صلّى الله عليه وسلم في قول الأكثرين. وقال ابن السائب ومقاتل وابن قتيبة هو جبريل عليه السلام وقوله تعالى وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ إلخ قيل دليل لما قاله الأكثرون لأن المعنى على إثبات أنه عليه الصلاة والسلام رسول لا شاعر ولا كاهن كما يشعر بذلك سبب النزول وتوضيح ذلك أنهم ما كانوا يقولون في جبريل عليه السلام أنه كذا وكذا وإنما كانوا يقولونه في النبي صلّى الله عليه وسلم فلو أريد برسول كريم جبريل عليه السلام لفات التقابل ولم يحسن العطف كما تقول إنه لقول عالم وما هو بقول جاهل ولو قلت وما هو بقول شجاع نسبت إلى ما تكره وتعقبه بعض الأئمة بأن هذا صحيح إن سلم أن المعنى على إثبات رسول لا شاعر ويكون قوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ لا قول شاعر إثباتا للرسالة على طريق الكناية أما إذا جعل المقصود من السياق إثبات حقية المنزل وأنه من الله عزّ وجلّ فإنه تذكرة لهؤلاء وحسرة لمقابليهم وهو في نفسه صدق ويقين لا يحوم حوله شك كما يدل عليه ما بعد. فللقول الثاني أيضا موقع حسن وكأنه قيل إن هذا القرآن لقول جبريل الرسول الكريم وما هو من تلقاء محمد صلّى الله عليه وسلم كما تزعمون وتدعون أنه شاعر وكاهن ويكون قد نفى عنه صلّى الله عليه وسلم الشعر والكهانة على سبيل الإدماج انتهى وهو تحقق حسن قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ أي تصدقون تصديقا قليلا على أن قَلِيلًا صفة للمفعول المطلق لتؤمنون وما مزيدة للتأكيد والقلة بمعناها الظاهر لأنهم لظهور صدقه صلّى الله عليه وسلم لزم تصديقهم له عليه الصلاة والسلام في الجملة وإن أظهروا خلافه عنادا وأبوه تمردا بألسنتهم وحمل الزمخشري القلة على العدم والنفي أي لا تؤمنون البتة ولا كلام فيه سوى أنه دون الأول في الظهور. وقال أبو حيان: لا يراد بقليلا هنا النفي المحض كما زعم فذلك لا يكون إلّا في أقل نحو أقل رجل يقول كذا إلّا زيد وفي قل نحو قل رجل يقول كذا إلّا زيد وقد يكون في قليل وقليلة إذا كانا مرفوعين نحو ما جوزوا في قوله:
أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة ... قليل بها الأصوات إلّا بغامها
أما إذا كان منصوبا نحو قليلا ضربت أو قليلا ما ضربت على أن تكون ما مصدرية فإن ذلك لا يجوز(15/59)
لأنه في قليلا ضربت منصوب بضربت ولم تستعمل العرب قليلا إذا انتصب بالفعل نفيا بل مقابلا للكثير وأما في قليلا ما ضربت على أن تكون ما مصدرية فيحتاج إلى رفع قليل لأن ما المصدرية في موضع رفع على الابتداء اهـ. وأنت تعلم أن مثل ذلك لا يسمع على مثل الزمخشري بغير دليل فإن الظاهر أنه ما قال ما قال إلّا عن وقوف وهو فارس ميدان العربية وجوز كونه صفة لزمان محذوف أي زمانا قليلا تؤمنون وذلك على ما قيل إذا سئلوا من خلقهم أو من خلق السماوات والأرض فإنهم يقولون حينئذ الله تعالى. وقال ابن عطية نصب قَلِيلًا بفعل مضمر يدل عليه تُؤْمِنُونَ ويحتمل أن تكون ما نافية فينتفي إيمانهم البتة، ويحتمل أن تكون مصدرية وما يتصف بالقلة هو الإيمان اللغوي وقد صدقوا بأشياء يسيرة لا تغني عنهم شيئا ككون الصلة والعفاف اللذين كانا يأمر بهما عليه الصلاة والسلام حقا وصوابا اهـ. وتعقب بأنه لا يصح نصب قَلِيلًا بفعل مضمر دال عليه تُؤْمِنُونَ لأنه إما أن تكون ما المقدرة معه نافية فالفعل المنفي بما لا يجوز حذفه وكذا حذف ما فلا يجوز زيدا ما أضربه على تقدير ما أضرب زيدا ما أضربه وإن كانت مصدرية كانت إما في موضع رفع على الفاعلية بقليلا أي قليلا إيمانكم ويرد عليه لزوم عمله من غير تقدم ما يعتمد عليه ونصبه لا ناصب له وإما في موضع رفع على الابتداء ويرد عليه لزوم كونه مبتدأ بلا خبر لأن ما قبله منصوب لا مرفوع فتأمل. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بخلاف عنهما والحسن والجحدري «يؤمنون» بالياء التحتية على الالتفات وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ كما تدعون مرة أخرى قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أي تذكرون تذكرا قليلا فلذلك يلتبس الأمر عليكم وتمام الكلام فيه إعرابا كالكلام فيما قبله وكذا القراءة وذكر الإيمان مع نفي الشاعرية والتذكر مع نفي الكاهنية قيل لما أن عدم مشابهة القرآن الشعر أمر بيّن لا ينكره إلّا معاند فلا عذر لمدعيها في ترك الإيمان وهو أكفر من حمار بخلاف مباينته للكهانة فإنها تتوقف على تذكر أحواله صلّى الله عليه وسلم ومعاني القرآن المنافية لطريق الكهانة ومعاني أقوالهم وتعقب بأن ذلك أيضا مما يتوقف على تأمل قطعا وأجيب بأنه يكفي في الغرض الفرق بينهما أن توقف الأول دون توقف الثاني تَنْزِيلٌ أي هو تنزيل مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ نزله سبحانه على لسان جبريل عليه السلام. وقرأ أبو السمال «تنزيلا» بالنصب بتقدير نزله تنزيلا وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ التقول الافتراء وسمي تقولا لأنه قول متكلف والأقاويل الأقوال المفتراة وهي جمع قول على غير القياس أو جمع أقوال فهو جمع الجمع كأناعيم جمع أنعام، وأبابيت جمع أبيات. وفي الكشاف سمي الأقوال المتقولة أقاويل تصغيرا لها وتحقيرا كقولك الأعاجيب والأضاحيك كأنها جمع أفعولة من القول. وتعقبه ابن المنبر بأن أفعولة من القول غريب عن القياس التصريفي وأجيب بأنه غير وارد لأن مراده أنه جمع لمفرد غير مستعمل لأنه لا وجه لاختصاصة بالافتراء غير ما ذكر والأحسن أن يقال بمنع اختصاصه وضعا وأنه جمع على ما سمعت والتحقير جاء من السياق والمراد لو ادعى علينا شيئا لم نقله لَأَخَذْنا مِنْهُ أي لأمسكناه وقوله تعالى بِالْيَمِينِ أي بيان بيمينه بعد الإبهام كما في قوله سبحانه أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح: 1] ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ أي وتينه وهو كما قال ابن عباس نياط القلب الذي إذا انقطع مات صاحبه وعن مجاهد أنه الحبل الذي في الظهر وهو النخاع. وقال الكلبي هو عرق بين العلباء وهي عصب العنق والحلقوم وقيل عرق غليظ تصادفه شفرة الناحر ومنه قول الشماخ بن ضرار:
إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين
وهذا تصوير للإهلاك بأفظع ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه وهو أن يأخذ القتال بيمينه ويكفحه(15/60)
بالسيف ويضرب عنقه. وعن الحسن أن المعنى لقطعنا يمينه ثم لقطعنا وتينه عبرة ونكالا والباء عليه زائدة وعن عباس أن اليمين بمعنى القوة والمراد أخذ بعنف وشدة وضعف بأن فيه ارتكاب مجاز من غير فائدة وأنه يفوت فيه التصوير والتفصيل والإجمال ويصير منه زائدا لا فائدة فيه. وقرأ ذكوان وابنه محمد «ولو يقول» مضارع قال وقرىء «ولو تقوّل» مبنيا للمفعول فنائب الفاعل بَعْضَ إن كان قد قرىء مرفوعا وإن كان قد قرىء منصوبا فهو عَلَيْنا فَما مِنْكُمْ أيها الناس مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ أي عن هذا الفعل وهو القتل حاجِزِينَ أي مانعين يعني فما يمنع أحد عن قتله واستظهر عود ضمير عَنْهُ لمن عاد عليه ضمير تَقَوَّلَ والمعنى فما يحول أحد بيننا وبينه والظاهر في حاجِزِينَ أن يكون خبرا لما على لغة الحجازيين لأنه هو محط الفائدة ومِنْ زائدة وأَحَدٍ اسمها ومِنْكُمْ قيل في موضع الحال منه لأنه لو تأخر لكان صفة له فلما تقدم أعرب حالا كما هو الشائع في نعت النكرة إذا تقدم عليها ونظر في ذلك وقيل للبيان أو متعلق بحاجزين كما تقول ما فيك زيد راغبا. ولا يمنع هذا الفصل من انتصاب خبر (ما) وقال الحوفي وغيره إن حاجِزِينَ نعت لأحد وجمع على المعنى لأنه في معنى الجماعة يقع في النفي العام للواحد والجمع والمذكر والمؤنث ومنه لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ
[البقرة: 285] ولَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ [الأحزاب: 32] فأحد مبتدأ والخبر مِنْكُمْ وضعف هذا القول بأن النفي يتسلط على الخبر وهو كينونته منكم فلا يتسلط على الحجز مع أنه الحقيق بتسلطه عليه وَإِنَّهُ أي القرآن لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ لأنهم المنتفعون به وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ فنجازيهم على تكذييهم وقيل الخطاب للمسلمين والمعنى أن منهم ناسا سيكفرون بالقرآن وَإِنَّهُ أي القرآن لَحَسْرَةٌ عظيمة عَلَى الْكافِرِينَ عند مشاهدتهم لثواب المؤمنين وقال مقاتل وإن تكذيبهم بالقرآن لحسرة عليهم فأعادا الضمير للمصدر المفهوم من قوله تعالى مُكَذِّبِينَ والأول أظهر وَإِنَّهُ أي القرآن لَحَقُّ الْيَقِينِ أي لليقين حق اليقين والمعنى لعين اليقين فهو على نحو عين الشيء ونفسه والإضافة بمعنى اللام على ما صرح به في الكشف وجوز أن تكون الإضافة فيه على معنى من أي الحق الثابت من اليقين وقد تقدم في الواقعة ما ينفعك هنا فتذكره وذكر بعض الصوفية قدست أسرارهم أن أعلى مراتب العلم حق اليقين ودونه عين اليقين ودونه علم اليقين فالأول كعلم العاقل بالموت إذا ذاقه والثاني كعلمه به عند معاينة ملائكته عليهم السلام. والثالث كعلمه به في سائر أوقاته وتمام الكلام في ذلك يطلب من كتبهم فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أي فسبح الله تعالى بذكر اسمه العظيم تنزيها له عن الرضا بالتقول عليه وشكرا على ما أوحى إليك من هذا القرآن الجليل الشأن وقد مر نحو هذا في الواقعة أيضا فارجع إليه إن أردت والله تعالى الموفق.(15/61)
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)
سورة المعارج
وتسمى سورة المواقع وسورة سأل وهي مكية بالاتفاق على ما قال القرطبي وفي مجمع البيان عند الحسن إلا قوله تعالى وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ [المعارج: 24] وآيها ثلاث وأربعون في الشامي واثنتان وأربعون في غيره وهي كالتتمة لسورة الحاقة في بقية وصف القيامة والنار وقد قال ابن عباس إنها نزلت عقيب سورة الحاقة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ أي دعا داع به فالسؤال بمعنى الدعاء ولذا عدي بالباء تعديته بها في قوله تعالى: يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ [الدخان: 55] والمراد استدعاء العذاب وطلبه وليس من التضمين في شيء. وقيل الفعل مضمن معنى الاهتمام والاعتناء أو هو مجاز عن ذلك فلذا عدي بالباء. وقيل إن الباء زائدة وقيل إنها بمعنى عن كما في قوله تعالى فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً [الفرقان: 59] والسائل هو النضر بن الحارث كما روى النسائي وجماعة وصححه الحاكم عن ابن عباس. وروي ذلك عن ابن جريج والسدي والجمهور حيث قال إنكارا واستهزاء اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال: 32] وقيل هو أبو جهل حيث قال فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ [الشعراء: 187]
وقيل هو الحارث بن النعمان الفهري وذلك أنه لما بلغه قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم في علي كرم الله تعالى وجهه: «من كنت مولاه فعلي مولاه» قال: اللهم إن كان ما يقول محمد صلّى الله عليه وسلم حقا فأمطر علينا حجارة من السماء فما لبث حتى رماه الله تعالى بحجر فوقع على دماغه فخرج من أسفله فهلك من ساعته.(15/62)
وأنت تعلم أن ذلك القول منه عليه الصلاة والسلام في أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه كان في غدير خم وذلك في أواخر سني الهجرة فلا يكون ما نزل مكيا على المشهور في تفسيره. وقد سمعت ما قيل في مكية هذه السورة وقيل هو الرسول صلّى الله عليه وسلم استعجل عذابهم وقيل هو نوح عليه السلام سأل عذاب قومه. وقرأ نافع وابن عامر «سال» بألف كقال سايل بياء بعد الألف فقيل يجوز أن يكون قد أبدلت همزة الفعل ألفا وهو بدل على غير قياس وإنما قياس هذا بين بين ويجوز أن يكون على لغة من قال سلت أسال حكاها سيبويه وفي الكشاف هو من السؤال وهو لغة قريش يقولون سلت تسال وهما يتسايلان وأراد أنه من السؤال المهموز معنى لا اشتقاقا بدليل وهما يتسايلان وفيه دلالة على أنه أجوف يأتي وليس من تخفيف الهمزة في شيء. وقيل السؤال بالواو الصريحة مع ضم السين وكسرها وقوله يتسايلان صوابه يتساولان فتكون ألفه منقلبة عن واو كما في قال وخاف وهو الذي ذهب إليه أبو علي في الحجة وذكر فيها أن أبا عثمان حكى عن أبي زيد أنه سمع من العرب من يقول هما يتساولان ثم إن في دعوى كون سلت تسال لغة قريش ترددا والظاهر خلاف ذلك وأنشدوا لورود سال قول حسان يهجو هذيلا لما سألوا النبيّ صلّى الله عليه وسلم أن يبيح لهم الزنا:
سالت هذيل رسول الله فاحشة ... ضلت هذيل بما قالت ولم تصب
وقول آخر:
سالتاني الطلاق أن رأتاني ... قل مالي قد جئتماني بنكر
وجوز أن يكون سال من السيلان وأيد بقراءة ابن عباس «سال سيل» فقد قال ابن جني السيل هاهنا الماء السائل وأصله المصدر من قولك سال الماء سيلا إلّا أنه أوقع على الفاعل كما في قوله تعالى إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً [الملك: 30] أي غائرا وقد تسومح في التعبير عن ذلك بالوادي فقيل: المعنى اندفع واد بعذاب واقع والتعبير بالماضي قيل للدلالة على تحقيق وقوع العذاب إما في الدنيا وهو عذاب يوم بدر وقد قتل يومئذ النضر وأبو جهل. وإما في الآخرة وهو عذاب النار وعن زيد بن ثابت أن سائلا اسم واد في جهنم وأخرج ابن المنذر وعبد بن حميد عن ابن عباس ما يحتمله لِلْكافِرينَ صفة أخرى لعذاب أي كائن لِلْكافِرينَ أو صلة لواقع واللام للتعليل أو بمعنى على ويؤيده قراءة أبيّ «على الكافرين» وإن صح ما روي عن الحسن وقتادة أن أهل مكة لما خوفهم النبيّ صلّى الله عليه وسلم بعذاب سألوا عنه على ما ينزل وبمن يقع فنزلت كان هذا ابتداء كلام جوابا للسائل أي هو للكافرين وقوله تعالى لَيْسَ لَهُ دافِعٌ صفة أخرى لعذاب أو حال منه لتخصيصه بالصفة أو بالعمل أو من الضمير في لِلْكافِرينَ على تقدير كونه صفة لعذاب على ما قيل أو استئناف أو جملة مؤكدة لهو لِلْكافِرينَ على ما سمعت آنفا فلا تغفل وقوله سبحانه مِنَ اللَّهِ متعلق بدافع ومِنَ ابتدائية أي ليس له دافع يرده من جهته عزّ وجلّ لتعلق إرادته سبحانه به وقيل متعلق بواقع فقيل إنما يصح على غير قول الحسن وقتادة وعليه يلزم الفصل بالأجنبي لأن لِلْكافِرينَ على ذلك جواب سؤال ثم إن التعلق ب واقِعٍ على ما عدا قولهما إن جعل للكافرين من صلته أيضا كان أظهر وإلا لزم الفصل بين المعمول وعامله بما ليس من تتمته لكن ليس أجنبيا من كل وجه ذِي الْمَعارِجِ هي لغة الدرجات والمراد بها على ما روي عن ابن عباس السماوات تعرج فيها الملائكة من سماء إلى سماء ولم يعينها بعضهم فقال أي ذي المصاعد التي تصعد فيها الملائكة بالأوامر والنواهي وقيل هي مقامات معنوية تكون فيها الأعمال والاذكار أو مراتب في السلوك كذلك يترقى فيها المؤمنون السالكون أو مراتب الملائكة عليهم السلام. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة(15/63)
تفسيرها بالفضائل والنعم وروى نحوه ابن المنذر وابن أبي عباس وقيل هي الغرف التي جعلها الله تعالى لأوليائه في الجنة والأنسب بما يقتضيه المقام من التهويل ما هو أدل على عزه عزّ وجلّ وعظم ملكوته تعالى شأنه تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ أي جبريل عليه السلام كما ذهب إليه الجمهور أفرد بالذكر لتميزة وفضله بناء على المشهور من أنه عليه السلام أفضل الملائكة. وقيل لمجرد التشريف وإن لم يكن عليه السلام أفضلهم بناء على ما قيل من أن إسرافيل عليه السلام أفضل منه. وقال مجاهد الرُّوحُ ملائكة حفظة للملائكة الحافظين لبني آدم لا تراهم الحفظة كما لا نرى نحن حفظتنا. وقيل خلق هم حفظة الملائكة مطلقا كما أن الملائكة حفظة الناس وقيل ملك عظيم الحلقة يقوم وحدة يوم القيامة صفا ويقوم الملائكة كلهم صفا وقال أبو صالح خلق كهيئة الناس وليسوا بالناس. وقال قبيصة بن ذؤيب: روح الميت حين تقبض ولعله أراد الميت المؤمن وقرأ عبد الله والكسائي وابن مقسم وزائدة عن الأعمش «يعرج» بالياء التحتية إِلَيْهِ قيل أي إلى عرشه تعالى وحيث يهبط منه أو أمره سبحانه وقيل هو من قبيل قول إبراهيم عليه السلام إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي [الصافات: 99] أي إلى حيث أمرني عزّ وجلّ به. وقيل المراد إلى محل بره وكرامته جل وعلا على أن الكلام على حذف مضاف وقيل إلى المكان المنتهى إليه الدال عليه السياق وفسر بمحل الملائكة عليهم السلام من السماء ومعظم السلف يعدون ذلك من المتشابه مع تنزيهه عزّ وجلّ عن المكان والجسمية واللوازم التي لا تليق بشأن الالوهية وقوله تعالى فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ أي من سنينكم الظاهر تعلقه بتعرج، واليوم بمعنى الوقت والمراد به مقدار ما يقوم الناس فيه لرب العالمين إلى أن يستقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار من اليوم الآخر والذي لا نهاية له.
ويشير إلى هذا ما
أخرج الإمام أحمد وابن حبان وأبو يعلى وابن جرير والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ما أطول هذا اليوم فقال عليه الصلاة والسلام: «والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أهون عليه من الصلاة مكتوبة يصليها في الدنيا» .
واختلف في المراد بهذا التقدير على هذا الوجه فقيل الإشارة إلى استطالة ذلك اليوم لشدته لا أنه بهذا المقدار من العدد حقيقة وروي هذا عن ابن عباس والعرب تصف أوقات الشدة والحزن بالطول وأوقات الرخاء والفرح بالقصر ومن ذلك قول الشاعر:
من قصر الليل إذا زرتني ... أشكو وتشكين من الطول
وقوله:
ليلي وليلى نفى نومي اختلافهما ... بالطول والطول يا طوبى لو اعتدلا
يجود بالطول ليلي كلما بخلت ... بالطول ليلى وإن جادت به بخلا
وقوله:
ويوم كظل الرمح قصر طوله ... دم الزق عنا واصطفاق المزاهر
إلى ما لا يكاد يحصى
وفي قوله عليه الصلاة والسلام في الخبر السابق «إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أهون عليه من صلاة مكتوبة»
إشارة إلى هذا وكذا ما
روي عن عبد الله بن عمر من قوله: «يوضع للمؤمنين يومئذ كراسي من ذهب ويظلل عليهم الغمام ويقصر عليهم ذلك اليوم ويهون حتى يكون كيوم من أيامكم هذه»
ولينظر على هذا القول ما حكمة التنصيص على العدد المذكور وقيل هو على ظاهره وحقيقته وإن(15/64)
في ذلك اليوم خمسين موطنا كل موطن ألف سنة من سني الدنيا أي حقيقة. وقيل الخمسون على حقيقتها إلّا أن المعنى مقدار ما يقضي فيه من الحساب قدر ما يقضي بالعدل في خمسين ألف سنة من أيام الدنيا وهو مروي عن عكرمة. وأشار بعضهم إلى أن المقدار المذكور عليه مجاز عما يلزمه من كثرة ما يقع فيه من المحاسبات أو كناية فكأنه قيل في يوم يكثر فيه الحساب ويطول بحيث لو وقع من غير أسرع الحاسبين وفي الدنيا طال إلى خمسين ألف سنة وتخصيص عروج الملائكة والروح بذلك اليوم مع أن عروجهم متحقق في غيره أيضا للإشارة إلى عظم هوله وانقطاع الخلق فيه إلى الله عز وجل وانتظارهم أمره سبحانه فيهم أو للإشارة إلى عظم الهول على وجه آخر وأيّا ما كان فالجملة استئناف مؤكد لما سيق له الكلام. وقيل هو متعلق بواقع وقيل بدافع وقيل بسال إذا جعل من السيلان لا به من السؤال لأنه لم يقع فيه. والمراد باليوم على هذه الأقوال ما أريد به فيما سبق وتَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إليه مستطرد عند وصفه عز وجل بذي المعارج وقيل هو متعلق بتعرج كما هو الظاهر إلا أن العروج في الدنيا والمعنى تعرج الملائكة والروح إلى عرشه تعالى ويقطعون في يوم من أيامكم ما يقطعه الإنسان في خمسين ألف سنة لو فرض سيره فيه. وروي عن ابن إسحاق ومنذر بن سعيد ومجاهد وجماعة وهو رواية عن ابن عباس أيضا واختلف في تحديد المسافة فقيل هي من وجه الأرض إلى منتهى العرش. وقيل من قعر الأرض السابعة السفلى إلى العرش وفصل بأن ثخن كل أرض خمسمائة عام وبين كل أرضين خمسمائة عام وبين الأرض العليا والسماء الدنيا خمسمائة عام وثخن كل سماء كذلك وما بين كل سماءين كذلك وما بين السماء العليا ومقعر الكرسي كذلك، ومجموع ذلك أربعة عشر ألف عام ومن مقعر الكرسي إلى العرش مسيرة ست وثلاثين ألف عام فالمجموع خمسون ألف سنة. وفي خبر أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه ولعله لا يصح وإن لم تبعد هذه السرعة من الملائكة عليهم السلام عند من وقف على سرعة حركة الأضواء وعلم أن الله عز وجل على كل شيء قدير. ومن الناس من اعتبر هذه المدة من الأرض إلى العرش عروجا وهبوطا واعتبرها كذلك من الأرض إلى مقعر السماء الدنيا في قوله سبحانه يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ [السجدة: 5] ومن يعتبر أحد الأمرين يعتبر هنا محدب السماء الدنيا والأرض وسيأتي إن شاء الله تعالى ما للمتصوفة في ذلك. وقيل الكلام بيان لغاية ارتفاع تلك المعارج وبعد مداها على سبيل التمثيل والتخييل. والمراد أنها في غاية البعد والارتفاع المعنوي على بعض الأوجه في المعارج أو الحسي كما في بعض آخر. وليس المراد التحديد وعن عكرمة أن تلك المدة هي مدة الدنيا منذ خلقت إلى أن تقوم الساعة إلى أنه لا يدري أحد ما مضى منها وما بقي أي تعرج الملائكة إليه في مدة الدنيا وبقاء هذه البنية وهذا يحتاج إلى نقل صحيح. والظاهر أنه أراد بالدنيا ما يقابل الأخرى ويشمل العرش ونحوه ويرد عليه أن ما ورد عن علي كرم الله تعالى وجهه جوابا لمن سأله متى خلق الله تعالى العرش يكذبه فإنه يدل على أن ما مضى من أول زمن خلقه إلى اليوم يزيد على خمسين ألف سنة بألوف ألوف سنين لا يحصيها إلا الله عز وجل ولعله أولى بالقبول مما قاله عكرمة. والحق أنه لا يعلم مبدأ الخلق ولا مدة بقاء هذه البنية إلا الله عز وجل بيد أنّا نعلم بتوفيق الله تعالى أن هذا العالم حادث حدوثا زمانيا وأنه ستبدل الأرض غير الأرض والسماوات وتبرز الخلائق لله تعالى الواحد القهار فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا متفرع على قوله تعالى سَأَلَ سائِلٌ ومتعلق به تعلقا معنويا لأن السؤال كان عن استهزاء وتعنت وتكذيب بناء على أن السائل النضر وأضرابه وذلك مما يضجره عليه الصلاة والسلام، أو كان عن تضجر
واستبطاء للنصر بناء على أنه صلّى الله عليه وسلم هو السائل فكأنه قيل: فاصبر ولا تستعجل فإن الموعود كائن لا محالة. والمعنى على هذا أيضا(15/65)
على قراءة من قرأ «سال سائل» من السيلان كقراءة «سال سيل» ولا يظهر تفرعه على سأل من السؤال إن كان السائل نوحا عليه السلام والصبر الجميل على ما أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عباس ما لا شكوى فيه إلى أحد غير الله تعالى. وأخرج عن عبد الأعلى بن الحجاج أنه ما يكون معه صاحب المصيبة في القوم بحيث لا يدري من هو إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ أي العذاب الواقع أو اليوم المذكور في قوله تعالى فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ إلخ بناء على أن المراد به يوم الحساب متعلقا بتعرج على ما سمعت أولا أو بدافع أو بواقع أو بسال من السيلان أو يوم القيامة المدلول عليه بواقع على وجه فما يدل عليه كلام الكشاف من تخصيص عود الضمير إلى يوم القيامة بما إذا كان فِي يَوْمٍ متعلقا بواقع فيه بحث ومعنى يَرَوْنَهُ يعتقدونه بَعِيداً أي من الإمكان والمراد أنهم يعتقدون أنه محال أو من الوقوع والمراد أنهم يعتقدون أنه لا يقع أصلا وإن كان ممكنا ذاتا وكلام كفار أهل مكة بالنسبة إلى يوم القيامة والحساب محتمل للأمرين بل ربما تسمعهم يتكلمون بما يكاد يشعر بوقوعه حيث يزعمون أن آلهتهم تشفع لهم فهم متلونون في أمره تلون الحرباء والعذاب إن أريد به عذاب يوم القيامة فهو كيوم القيامة عندهم أو أنه لا يقع بالنسبة إليهم مطلقا لزعمهم دفع آلهتهم إياه عنهم وإن أريد به عذاب الدنيا فالظاهر أنهم لا ينفون إمكانه وإنما ينفون وقوعه ولا تكاد تتم دعوى أنهم ينفون إمكانه الذاتي وَنَراهُ قَرِيباً أي من الإمكان والتعبير به للمشاكلة كما قيل بها في نَراهُ إذ هو ممكن ولا معنى لوصف الممكن بالقرب من الإمكان لدخوله في حيزه والمراد وصفه بالإمكان أي ونراه ممكنا وهذا على التقدير الأول في يَرَوْنَهُ بَعِيداً أو نَراهُ قَرِيباً من الوقوع وهذا على التقدير الثاني فيه وقد يقال كذلك على الأول أيضا على معنى أنهم يَرَوْنَهُ بَعِيداً من الإمكان ونحن نراه قريبا من الوقوع فضلا عن الإمكان ولعله أولى من تقدير الإمكان في الجملتين وجملة إِنَّهُمْ إلخ تعليل للأمر بالصبر وقيل إن كان المستعجل هو النضر وأضرابه فهي مستأنفة بيانا لشبهة استهزائهم وجوابا عنه وإن كان النبي صلّى الله عليه وسلم فهي تعليل لما ضمن الأمر بالصبر من ترك الاستعجال بأن رؤيتنا ذلك قريبا توجب الوثوق وترك الاستعجال وقوله سبحانه يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ قيل متعلق بقريبا أو بمضمر يدل عليه واقِعٍ وهو يقع أو بدل عن فِي يَوْمٍ إن علل به دون تَعْرُجُ والنصب باعتبار أن محل الجار والمجرور ذلك إذ ليس بدلا عن المجرور وحده فاشتراط أبي حيان لمراعاة المحل كون الجار زائدا أو شبهه كرب غير صحيح ولا يحتاج تصحيح البدلية إلى التزام كون حركة يوم بنائية بناء على مذهب الكوفيين المجوزين لذلك وإن أضيف لمعرب وذكر أنه على هذه التقادير الثلاث المراد بالعذاب عذاب القيامة وأما إذا أريد عذاب الدنيا فيتعين أن يكون التقدير يوم تكون السماء يكون كيت وكيت وكأنهم لما استعجلوا العذاب أجيبوا بأزف الوقوع ثم قيل ليهن ذلك في جنب ما أعد لكم يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ فحينئذ يكون العذاب الذي هو العذاب ثم لا يخفى أن البداية ممكنة على تقدير تعلق فِي يَوْمٍ بتعرج أيضا بناء على أن المراد به يوم القيامة أيضا كما قدمنا وأن الأولى عند تعلقه بقريبا أن لا يراد من القرب من الإمكان الإمكان الذاتي لما في تقييده باليوم نوع إيهام. وأن ضميري يَرَوْنَهُ ونَراهُ إذا كانا ليوم القيامة يلزم وقوع الزمان في الزمان في قولنا يقع يوم القيامة يوم تكون كالمهل ويجاب بما لا يخفى. وجوز في البحر كونه بدلا من ضمير نَراهُ إذا كان عائدا على يوم القيامة وفي الإرشاد كونه متعلقا بليس له دافع وبعضهم كونه مفعولا به لا ذكر محذوفا وتعلقه بنراه كما قاله مكي لا نراه وكذا تعلقه بيبصرونهم كما حكاه ومثله ما عسى أن يقال متعلقه بيود الآتي بعد فتأمل والمهل أخرج أحمد والضياء في المختارة وغيرهما عن ابن عباس أنه دردي الزيت وهو ما يكون في قعره. وقال غير واحد: المهل ما
أذيب على(15/66)
مهل من الفلزات والمراد يوم تكون السماء واهية وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في الآية أن السماء الآن خضراء وأنها تحول يوم القيامة لونا آخر إلى الحمرة وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ كالصوف دون تقييد أو الأحمر أو المصبوغ ألوانا أقوال واختار جمع الأخير وذلك لاختلاف ألوان الجبال فمنها جدد بيض وحمر وغرابيب سود فإذا بست وطيرت في الجو أشبهت العهن أي المنفوش كما في القارعة إذا طيرته الريح وعن الحسن تسير الجبال مع الرياح ثم ينهد ثم تصير كالعهن ثم تنسف فتصير هباء وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً أي لا يسأل قريب مشفق قريبا مشفقا عن حاله ولا يكلمه لابتلاء كل منهم بما يشغله عن ذلك أخرجه ابن المنذر وعبد بن حميد عن قتادة وفي رواية أخرى عنه لا يسأله عن حاله لأنها ظاهرة وقيل لا يسأله أن يحمل عنه أوزاره شيئا ليأسه عن ذلك وقيل لا يسأله شفاعة وفي البحر لا يسأله نصره ولا منفعته لعلمه أنه لا يجد ذلك عنده. ولعل الأول أبلغ في التهويل وأيّا ما كان فمفعول يَسْئَلُ الثاني محذوف وقيل حَمِيماً منصوب بنزع الخافض أي لا يسأل حميم عن حميم وقرأ أبو حيوة وشيبة وأبو جعفر والبزي بخلاف عن ثلاثتهم «ولا يسأل» مبنيا للمفعول أي لا يطلب من حميم حميم ولا يكلف إحضاره أو لا يسأل منه حاله وقيل لا يسأل ذنوب حميمه ليؤخذ بها يُبَصَّرُونَهُمْ أي يبصر الأحماء الأحماء فلا يخفون عليهم وما يمنعهم من التساؤل إلا اشتغالهم بحال أنفسهم وقيل ما يغني عنه من مشاهدة الحال كبياض الوجه وسواده ولا يخفى حاله ويبصرونهم قيل من بصرته بالشيء إذا أوضحته له حتى يبصره ثم ضمن معنى التعريف أو حذف الصلة إيصالا وجمع الضميرين لعموم الحميم والجملة استئناف كأنه لما قيل لا يَسْئَلُ إلخ قيل لعله لا يبصره فقيل يُبَصَّرُونَهُمْ وجوز أن تكون صفة أي حَمِيماً مبصرين معرفين إياهم وأن تكون حالا إما من الفاعل أو من المفعول أو من كليهما ولا يضر التنكير لمكان العموم وهو مسوغ للحالية ورجحت على الوصفية بأن التقييد بالوصف في مقام الإطلاق والتعميم غير مناسب وليس فيها ذلك فلا تغفل. وقرأ قتادة «يبصرونهم» مخففا مع كسر الصاد أي يشاهدونهم يَوَدُّ الْمُجْرِمُ أي يتمنى الكافر وقيل كل مذنب وقوله تعالى لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ أي العذاب الذي ابتلي به يومئذ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ حكاية لودادتهم ولَوْ في معنى التمني وقيل هي بمنزلة أن الناصبة فلا يكون لها جواب، وينسبك منها ومما بعدها مصدر يقع مفعولا ليود والتقدير يَوَدُّ افتداءه ببنيه إلخ والجملة استئناف لبيان أن اشتغال كل مجرم بنفسه بلغ إلى حيث يتمنى أن يفتدى بأقرب الناس إليه وأعلقهم بقلبه فضلا أن يهتم بحاله ويسأل عنها وجوز أن تكون حالا من ضمير الفاعل على فرض أن يكون هو السائل فإن فرض أن السائل المفعول فهي حال من ضميره وقيل الظاهر جعلها حالا من ضمير الفاعل لأنه المتمني وأيّا ما كان فالمراد يَوَدُّ الْمُجْرِمُ منهم وقرأ نافع والكسائي كما في أنوار التنزيل والأعرج «يومئذ» بالفتح على البناء للإضافة إلى غير متمكن وقرأ أبو حيوة كذلك وبتنوين «عذاب» فيومئذ حينئذ منصوب بعذاب لأنه في معنى تعذيب وَفَصِيلَتِهِ أي عشيرته الأقربين الذين فصل عنهم كما ذكره غير واحد ولعله أولى من قول الراغب عشيرته المنفصلة عنه وقال ثعلب فَصِيلَتِهِ آباؤه الأدنون وفسر أبو عبيدة الفصيلة بالفخذ الَّتِي تُؤْوِيهِ أي تضمنه انتماء إليها لياذا بها في النوائب وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً من الثقلين الإنس والجن أو الخلائق الشاملة لهم ولغيرهم ومن للتغليب ثُمَّ يُنْجِيهِ عطف على يَفْتَدِي والضمير المرفوع للمصدر الذي في ضمن الفعل أي يود لو يفتدي ثم لو ينجيه الافتداء، وجوز أبو حيان عود الضمير إلى المذكور والزمخشري عوده إلى مَنْ فِي الْأَرْضِ وثم الاستبعاد الإنجاء يعني يتمنى لو كان هؤلاء جميعا تحت يده وبذلهم في فداء نفسه ثم ينجيه ذلك وهيهات وقرأ الزهري «تؤويه» و «ينجيه»(15/67)
بضم الهاءين كَلَّا ردع للمجرم عن الودادة وتصريح بامتناع الإنجاء وضمير إِنَّها للنار المدلول عليها بذكر العذاب وقوله تعالى لَظى خبر إن وهي علم لجهنم أو للدركة الثانية من دركاتها منقول
من اللظى بمعنى اللهب الخالص ومنع الصرف للعلمية والتأنيث وجوز أن يراد اللهب على المبالغة كأن كلها لهب خالص وحذف التنوين إما لإجراء الوصل مجرى الوقف أو لأنه علم جنس معدول عما فيه اللام كسحر إذا أردت سحرا بعينه وقوله تعالى نَزَّاعَةً لِلشَّوى أي الأطراف كاليد والرجل كما أخرجه ابن المنذر وابن حميد عن مجاهد وأبي صالح وقاله الراغب وغيره وقيل الأعضاء التي ليست بمقتل ولذا يقال رمى فأشوى إذا لم يقتل أو جمع شواة وهي جلدة الرأس وأنشدوا قول الأعشى:
قالت قتيلة ما له ... قد جللت شيبا شواته
وروي هذا عن ابن عباس وقتادة وقرة بن خالد وابن جبير وأخرجه ابن أبي شيبة عن مجاهد وأخرج هو عن أبي صالح والسدي تفسيرها بلحم الساقين وعن ابن جبير العصب والعقب وعن أبي العالية محاسن الوجه وفسر نزعها لذلك بأكلها له فتأكله ثم يعود وهكذا نصب بتقدير أعني أو أخص وهو مراد من قال نصب على الاختصاص للتهويل وجوز أن يكون حالا والعامل فيها لَظى وإن كان علما لما فيه من معنى التلظي كما عمل العلم في الظرف في قوله:
أنا أبو المنهال بعض الأحيان أي المشهور بعض الأحيان قاله أبو حيان وإليه يشير كلام الكشف وقال الخفاجي لَظى بمعنى متلظية والحال من الضمير المستتر فيها لا منها بالمعنى السابق لأنها نكرة أو خبر. وفي مجيء الحال من مثله ما فيه وقيل هو حال مؤكدة كما في قوله:
أنا ابن دارة معروفا بها نسبي ... وهل بدارة يا للناس من عار
والعامل أحقه أو الخبر لتأويله بمسمى أو المبتدأ لتضمنه معنى التنبيه أو معنى الجملة وارتضاء الرضى وقيل حال من ضمير تدعو قدم عليه وجوز الزمخشري أن يكون ضمير إنها مبهما ترجم عنه الخبر أعني لَظى وبحث فيه بما رده المحققون وقرأ الأكثرون «نزّاعة» بالرفع على أنه خبر ثان لأن أو صفة للظى وهو ظاهر على اعتبار كونها نكرة وكذا على كونها علم جلس لأنه كالمعرف بلام الجنس في إجرائه مجرى النكرة أو هو الخبر ولَظى بدل من الضمير وإن اعتبرت نكرة بناء على أن إبدال النكرة غير منعوتة من المعرفة قد أجازه أبو علي وغيره من النحاة إذا تضمن فائدة كما هنا. وجوز على هذه القراءة أن يكون ضمير إِنَّها للقصة ولَظى مبتدأ بناء على أنه معرفة ونَزَّاعَةً خبره وقوله تعالى تَدْعُوا خبر مبتدأ مقدر أو حال متداخلة أو مترادفة أو مفردة أو خبر بعد خبر على قراءة الرفع فلا تغفل والدعاء على حقيقته وذلك كما روي عن ابن عباس وغيره يخلق الله تعالى فيها القدرة على الكلام كما يخلقه في جلودهم وأيديهم وأرجلهم فتناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم وروي أنها تقول لهم إليّ إليّ يا كافر يا منافق. وجوز أن يراد به الجذب والإحضار كما في قول ذي الرمة يصف الثور الوحشي:
أمسى بوهبين مجتازا لمرتعه ... من ذي الفوارس تدعو أنفه الربب
ونحوه قوله أيضا:
ليالي اللهو يطبيني فأتبعه ... كأنني ضارب في غمرة لعب(15/68)
إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
ولا يبعد أن يقال شبه لياقتها لهم أو استحقاقهم لها على ما قيل بدعائها لهم فعبر عن ذلك بالدعاء على سبيل الاستعارة. وقال ثعلب تدعو تهلك من قول العرب دعاك الله تعالى أي أهلكك وحكاه الخليل عنهم.
وفي الأساس دعاه الله تعالى بما يكره أنزله به وأصابتهم دواعي الدهر صروفه ومن ذلك قوله:
دعاك الله من رجل بأفعى ... إذا نام العيون سرت عليكا
واستظهر أنه معنى حقيقي للدعاء لكنه غير مشهور وفيه تردد وجوز أن يكون الدعاء لزبانيتها وأسند إليها مجازا أو الكلام على تقدير مضاف أي تدعو زبانينها مَنْ أَدْبَرَ في الدنيا عن الحق وَتَوَلَّى أعرض عن الطاعة وَجَمَعَ فَأَوْعى أي جمع المال فجعله في وعاء وكنزه ولم يؤد حقوقه وتشاغل به عن الدين زها باقتنائه حرصا وتأميلا وهذا إشارة إلى كفار أغنياء وما أخوف عبد الله بن عكيم فقد أخرج ابن سعيد عن الحكم أنه قال كان عبد الله بن عكيم لا يربط كيسه ويقول سمعت الله تعالى يقول وَجَمَعَ فَأَوْعى.
إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً الهلع سرعة الجزع عند مس المكروه وسرعة المنع عند مس الخير من قولهم ناقة هلوع سريعة السير وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وغيرهما عن عكرمة قال سئل ابن عباس عن الهلوع فقال هو كما قال الله تعالى إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ إلخ وأخرج ابن المنذر عن الحسن أنه سئل عن ذلك أيضا فقرأ الآية وحكي نحوه عن ثعلب قال قال لي محمد بن عبد الله بن طاهر: ما الهلع؟ فقلت: قد فسره الله تعالى ولا يكون تفسير أبين من تفسيره سبحانه يعني قوله تعالى إِذا مَسَّهُ الآية ونظير ذلك قوله:
الألمعي الذي يظن بك الظن ... كأن قد رأى وقد سمعا
والجملة المؤكدة في موضع التعليل لما قبلها والْإِنْسانَ الجنس أو الكافر قولان أيد ثانيهما بما روى الطستي عن ابن عباس أن الآية في أبي جهل بن هشام ولا يأبى ذاك إرادة الجنس والشر الفقر والمرض ونحوهما وأل للجنس أي إذا مسه جنس الشر جَزُوعاً أي مبالغا في الجزع مكثرا منه. والجزع قال الراغب أبلغ من الحزن فإن الحزن عام والجزع حزن يصرف الإنسان عما هو بصدده ويقطعه عنه. وأصله قطع الحبل من نصفه يقال: جزعه فانجزع ولتصور الانقطاع فيه قيل جزع الوادي لمنقطعه والانقطاع اللون بتغيره قيل للخرز المتلون جزع وعنه استعير قولهم لحم مجزع إذ كان ذا لونين وقيل للبسرة إذا بلغ الإرطاب نصفها(15/69)
مجزعة وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ المال والغنى أو الصحة مَنُوعاً مبالغا في المنع والإمساك وإِذا الأولى ظرف لجزوعا والثانية ظرف لمنوعا والوصفان على ما اختاره بعض الأجلة صفتان كاشفتان لهلوعا الواقع حالا كما هو الأنسب بما سمعت عن ابن عباس وغيره. وقال غير واحد الأوصاف الثلاثة أحوال فقيل مقدرة إن أريد اتصاف الإنسان بذلك بالفعل فإنه في حال الخلق لم يكن كذلك وإنما حصل له ذلك بعد تمام عقله ودخوله تحت التكليف، ومحققة إن أريد اتصافه بمبدأ هذه الأمور من الأمور الجبلية والطبائع الكلية المندرجة فيها تلك الصفات بالقوة ولا مانع عند أهل الحق من خلقه تعالى الإنسان وطبعه سبحانه إياه على ذلك وفي زوالها بعد خلاف فقيل إنها تزول بالمعالجة ولولاه لم يكن للمنع منها والنهي عنها فائدة وهي ليست من لوازم الماهية فالله تعالى كما خلقها يزيلها وقيل: إنها لا تزول وإنما تستر ويمنع المرء عن آثارها الظاهرة كما قيل:
والطبع في الإنسان لا يتغير وهذا الخلاف جار في جميع الأمور الطبيعية وقال بعضهم: الأمور التابعة منها لأصل المزاج لا تتغير والتابعة لعرضه قد تتغير. وذهب الزمخشري إلى أن في الكلام استعارة فقال: المعنى أن الإنسان لإيثاره الجزع والمنع وتمكنهما منه ورسوخهما فيه كأنه مجبول عليهما مطبوع وكأنه أمر خلقي وضروري غير اختياري كقوله تعالى خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء: 37] لأنه في البطن والمهد لم يكن به هلع ولأنه ذم والله تعالى لا يذم فعله سبحانه والدليل عليه استثناء المؤمنين الذين جاهدوا أنفسهم وحملوها على المكاره وطلقوها من الشهوات حتى لم يكونوا جازعين ولا مانعين. وتعقب بأنه في المهد أهلع وأهلع فيسرع إلى الثدي ويحرص على الرضاع وإن مسه ألم جزع وبكى وإن تمسك بشيء فزوحم عليه منع بما في قدرته من اضطراب وبكاء وفي البطن لا يعلم حاله وأيضا الاسم يقع عليه بعد الوضع فما بعده هو المعتبر وإن الذم من حيث القيام بالعبد كما حقق في موضعه وإن الاستثناء إما منقطع لأنه لما وصف سبحانه من أدبر وتولى معللا بهلعه وجزعه قال تعالى لكن المصلين في مقابلتهم أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ [المعارج: 35] ثم كر على السابق وقال فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا [المعارج: 36] بالفاء تخصيصا بعد تعميم ورجعا إلى بدء لأنهم من المستهزئين الذين افتتح السورة بذكر سؤالهم أو متصل على أنهم لم يستمر خلقهم على الهلع فإن الأول لما كان تعليلا كان معناه خلقا مستمرا على الهلع والجزع إِلَّا الْمُصَلِّينَ فإنهم لم يستمر خلقهم على ذلك فلا يرد أن الهلع الذي في المهد لو كان مرادا لما صح استثناء المصلين لأنهم كغيرهم في حال الطفولية انتهى وهذا الاستثناء هو ما تضمنه قوله تعالى إِلَّا الْمُصَلِّينَ إلخ وقد وصفهم سبحانه بما ينبىء عن كمال تنزههم عن الهلع من الاستغراق في طاعة الحق عز وجل والإشفاق على الخلق والإيمان بالجزاء والخوف من العقوبة وكسر الشهوة وإيثار الآجل على العاجل فقال عز من قائل الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ أي مواظبون على أدائها لا يخلون بها ولا يشتغلون عنها بشيء من الشواغل وفيه إشارة إلى فضل المداومة على العبادة
وقد أخرج ابن حبان عن أبي سلمة قال حدثتني عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «خذوا من العمل ما تطيقون فإن الله تعالى لا يمل حتى تملوا»
قالت فكان أحب الأعمال إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما دام عليه وإن قل، وكان إذا صلى صلاة دام عليها وقرأ أبو سلمة الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ وأخرج أحمد في مسنده عنها أنها قالت: كان عمله صلّى الله عليه وسلم ديمة قال جار الله أي ما فعل من أفعال الخير إلّا وقد اعتاد ذلك ويفعله كلما جاء وقته ووجه بأن الفعلة للحال التي يستمر عليها الشخص ثم في جعله نفس الحالة ما لا يخفى من المبالغة والدلالة على أنه(15/70)
كان ملكة له عليه الصلاة والسلام وقيل دائِمُونَ أي لا يلتفتون فيها ومنه الماء الدائم وروي ذلك عن عمران بن حصين وكذا عن عقبة بن عامر أخرج ابن المنذر عن أبي الخير أن عقبة قال لهم: من الذين هم على صلاتهم دائمون؟ قال: قلنا الذين لا يزالون يصلون، فقال: لا ولكن الذين إذا صلوا لم يلتفتوا عن يمين ولا شمال وإليه ذهب الزجاج فتشعر الآية بذم الالتفات في الصلاة وقد نطقت الأخبار بذلك واستدل بعضهم بها على أنه كبيرة وتحقيقه في الزواجر. وعن ابن مسعود ومسروق أن دوامها أداؤها في مواقيتها وهو كما ترى ولعل ترك الالتفات والأداء في الوقت يتضمنه ما يأتي من المحافظة إن شاء الله تعالى والمراد بالصلاة على ما أخرج عبد بن حميد عن إبراهيم التيمي الصلاة المكتوبة
وعن الإمام أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أن المراد بها النافلة
وقيل ما أمروا به مطلقا منها وقرأ الحسن «صلواتهم» بالجمع وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ أي نصيب معين يستوجبونه على أنفسهم تقربا إلى الله تعالى وإشفاقا على الناس وهو على ما
روي عن الإمام أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ما يوظفه الرجل على نفسه يؤديه في كل جمعة أو كل شهر مثلا
وقيل هو الزكاة لأنها مقدرة معلومة وتعقب بأن السورة مكية والزكاة إنما فرضت وعيّن مقدارها في المدينة وقبل ذلك كانت مفروضة من غير تعيين لِلسَّائِلِ الذي يسأل وَالْمَحْرُومِ الذي لا يسأل فيظن أنه غني فيحرم واستعماله في ذلك على سبيل الكناية ولا يصح أن تراد به من يحرمونه بأنفسهم للزوم التناقض كما لا يخفى وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ المراد التصديق به بالأعمال حيث يتعبون أنفسهم في الطاعات البدنية طمعا في المثوبة الأخروية لأن التصديق القلبي عام لجميع المسلمين لا امتياز فيه لأحد منهم وفي التعبير بالمضارع دلالة على أن التصديق والأعمال تتجدد منهم آنا فآنا وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ خائفون على أنفسهم مع ما لهم من الأعمال الفاضلة استقصارا لها واستعظاما لجنابه عز وجل كقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ [المؤمنون: 60] وقوله سبحانه إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ اعتراض مؤذن بأنه لا ينبغي لأحد أن يأمن عذابه عز وجل وإن بالغ في الطاعة كهؤلاء ولذا كان السلف الصالح وهم هم خائفين وجلين حتى قال بعضهم يا ليتني كنت شجرة تعضد وآخر ليت أمي لم تلدني إلى غير ذلك وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ سبق تفسيره في سورة المؤمنين على وجه مستوفى فتذكره وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ لا يخلّون بشيء من حقوقها وكأنه لكثرة الأمانة جمعت ولم يجمع العهد قبل إيذانا بأنه ليس كالأمانة كثرة وقيل لأنه مصدر ويدل على كثرة الأمانة ما روى الكلبي: كل أحد مؤتمن على ما افترض عليه من العقائد والأقوال والأحوال والأفعال ومن الحقوق في الأموال وحقوق الأهل والعيال وسائر الأقارب والمملوكين والجار وسائر المسلمين. وقال السدي إن حقوق الشرع كلها أمانات قد قبلها المؤمن وضمن أداءها بقبول الإيمان وقيل كل ما أعطاه الله تعالى للعبد من الأعضاء وغيرها أمانة عنده فمن استعمل ذلك في غير ما أعطاه لأجله وأذن سبحانه له به فقد خان الأمانة والخيانة فيها وكذا الغدر بالعهد من الكبائر على ما نص غير واحد.
وقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر مرفوعا: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» .
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أنس قال: ما خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلّا قال: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له»
. وقرأ ابن كثير «لأمانتهم» بالإفراد على إرادة الجنس وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ مقيمون لها بالعدل غير منكرين لها أو لشيء منها ولا مخفين إحياء لحقوق الناس فيما(15/71)
يتعلق بها وتعظيما لأمر الله عز وجل فيما يتعلق بحقوقه سبحانه، وخص بعضهم الشهادة بما يتعلق بحقوق العباد وذكر أنها مندرجة في الأمانات إلّا أنها خصت بالذكر لإبانة فضلها وجمعها لاختلاف الأنواع ولو لم يعتبر ذلك أفرد على ما قيل لأنها مصدر شامل للقليل والكثير. وقرأ الجمهور بالإفراد على ما سمعت آنفا وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ أي يراعون شرائطها ويكملون فرائضها وسننها ومستحباتها باستعارة الحفظ من الضياع للإتمام والتكميل وهذا غير الدوام فإنه يرجع إلى أنفس الصلوات وهذا يرجع إلى أحوالها فلا يتكرر مع ما سبق من قوله تعالى الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ وكأنه لما كان ما يراعى في إتمام الصلاة وتكميلها مما يتفاوت بحسب الأوقات جيء بالمضارع الدال على التجدد كذا قيل. وقيل إن الإتيان به مع تقديم هم لمزيد الاعتناء بهذا الحكم لما أن أمر التقوى في مثل ذلك أقوى منه في مثل هم محافظون واعتبر هذا هنا دون ما في الصدر لأن المراعاة المذكورة كثيرا ما يفغل عنها. وفي افتتاح الأوصاف بما يتعلق بالصلاة واختتامها به دلالة على شرفها وعلو قدرها لأنها معراج المؤمنين ومناجاة رب العالمين ولذا جعلت قرة عين سيد المرسلين صلّى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين وتكرير الموصولات لتنزيل اختلاف الصفات منزلة اختلاف الذوات إيذانا بأن كان واحد من الأوصاف المذكورة نعت جليل على حياله له شأن خطير مستتبع لأحكام جمة حقيق بأن يفرد له موصوف مستقل ولا يجعل شيء منها تتمة للآخر أُولئِكَ إشارة إلى الموصوفين بما ذكر من الصفات وما فيه من معنى البعد لبعد المشار إليهم إما في الفضل أو في الذكر باعتبار مبدأ الأوصاف المذكورة وهو مبتدأ خبره فِي جَنَّاتٍ أي مستقرون في جنات لا يقادر قدرها ولا يدرك كنهها وقوله تعالى مُكْرَمُونَ خبر آخر أو هو الخبر وفِي جَنَّاتٍ متعلق به قدم عليه للاهتمام مع مراعاة الفواصل أو بمضمر هو حال من الضمير في الخبر أي مكرمون كائنين في جنات فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ أي في الجهة التي تليك مُهْطِعِينَ مسرعين نحوك مادّي أعناقهم إليك مقبلين بأبصارهم عليك ليظفروا بما يجعلونه هزؤا عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ جماعات في تفرقة كما قال أبو عبيدة وأنشدوا قول عبيد بن الأبرص:
فجاؤوا يهرعون إليه حتى ... يكونوا حول منبره عزينا
وخص بعضهم كل جماعة بنحو ثلاثة أشخاص أو أربعة جمع عزة وأصلها عزوة من العز ولأن كل فرقة تعتزي وتنتسب إلى غير من تعتزي إليه الأخرى فلامها واو وقيل لامها هاء والأصل عزهة وجمعت بالواو والنون كما جمعت سنة وأخواتها وتكسر العين في الجمع وتضم. وقالوا: عزى على فعل ولم يقولوا عزات ونصب عزين على أنه حال من الَّذِينَ كَفَرُوا أو من الضمير في مُهْطِعِينَ على التداخل وعَنِ الْيَمِينِ إما متعلق به لأنه بمعنى متفرقين أو بمهطعين أي مسرعين عن الجهتين أو هو حال أي كائنين عن اليمين
روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي عند الكعبة ويقرأ القرآن فكان المشركين يجتمعون حوله حلقا حلقا وفرقا يستمعون ويستهزئون بكلامه عليه الصلاة والسلام ويقولون إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد صلّى الله عليه وسلم فلندخلها قبلهم فنزلت
وفي بعض الآثار ما يشعر بأن الأولى أن لا يجلس المؤمنون عزين لأنه من عادة الجاهلية أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ أي بلا إيمان وهو إنكار لقولهم إن دخل هؤلاء الجنة إلخ وقرأ ابن يعمر والحسن وأبو رجاء وزيد بن علي وطلحة والمفضل عن عاصم «يدخل» بالبناء للفاعل كَلَّا ردع لهم عن ذلك الطمع الفارغ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ
قيل هو تعليل للردع والمعنى إنا خلقناهم من أجل ما يعلمون وهو تكميل النفس بالإيمان والطاعة فمن لم يستكملها بذلك فهو بمعزل من أن يتبوأ متبوأ الكاملين فمن أين لهم أن يطمعوا في دخول الجنة وهم مكبون على الكفر والفسوق وإنكار البعث وكون ذلك(15/72)
معلوما لهم باعتبار سماعهم إياه من النبي صلّى الله عليه وسلم وقيل من ابتدائية والمعنى أنهم مخلوقون من نطفة قذرة لا تناسب عالم القدس فمتى لم تستكمل بالإيمان والطاعة ولم تتخلق بأخلاق الملائكة عليهم السلام لم تستعد لدخولها وكلا القولين كما ترى وقال مفتي الديار الرومية إن الأقرب كونه كلاما مستأنفا قد سيق تمهيدا لما بعده من بيان قدرته عز وجل على أن يهلكهم لكفرهم بالبعث والجزاء واستهزائهم برسول الله صلّى الله عليه وسلم وبما نزل عليه عليه الصلاة والسلام من الوحي وادعائهم دخول الجنة بطريق السخرية وينشىء بدلهم قوما آخرين فإن قدرته سبحانه على ما يعلمون من النشأة الأولى حجة بينة على قدرته عز وجل على ذلك كما يفصح عنه الفاء الفصيحة في قوله تعالى فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ أي إذا كان الأمر كما ذكرنا من أن خلقهم مما يعلمون وهو النطفة القذرة فلا أقسم برب المشارق والمغارب إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ أي نهلكهم بالمرة حسبما تقتضيه جناياتهم ونأتي بدلهم بخلق آخرين ليسوا على صفتهم وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أي بمغلوبين إن أردنا ذلك لكن مشيئتنا المبينة على الحكم البالغة اقتضت تأخير عقوباتهم وفيه نوع بعد ولعل الأقرب كونه في معنى التعليل لكن على وجه قرر به صاحب الكشف كلام الكشاف فقال أراد أنه ردع عن الطمع معلل بإنكارهم البعث من حيث إن ذكر دليله إنما يكون مع المنكر فأقيم علة العلة مقام العلة مبالغة لما حكي عنهم طمع دخول الجنة. ومن البديهي أنه ينافي حال من لا يثبتها فكأنه قيل إنه ينكر البعث فأنّى يتجه طمعه واحتج عليهم بخلقهم أولا وبقدرته سبحانه على خلق مثلهم ثانيا وفيه تهكم بهم وتنبيه على مكان مناقضتهم فإن الاستهزاء بالساعة والطمع في دخول الجنة مما يتنافيان ووجه أقربيته قوة الارتباط كبما سبق عليه وهو في الحقيقة أبعد مغزى ومنه يعلم أن ما قيل في قوله سبحانه إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ إلخ أن معناه إِنَّا لَقادِرُونَ على أن نعطي محمدا صلّى الله عليه وسلم من هو خير منهم وهم الأنصار ليس بذاك وفي التعبير عن مادة خلقهم بما يعلمون مما يكسر سورة المتكبرين ما لا يخفى والمراد بالمشارق والمغارب مشارق الشمس المائة والثمانون ومغاربها كذلك أو مشارق ومغارب الشمس والقمر على ما روي عن عكرمة أو مشارق الكواكب ومغاربها مطلقا كما قيل وذهب بعضهم إلى أن المراد رب المخلوقات بأسرها والكلام في فَلا أُقْسِمُ قد تقدم وقرأ قوم «فلا قسم» بلاء دون ألف وعبد الله بن مسلم وابن محيصن والجحدري «المشرق والمغرب» مفردين فَذَرْهُمْ فخلّهم غير مكترث بهم يَخُوضُوا في باطلهم الذي من جملته ما حكي عنهم وَيَلْعَبُوا في دنياهم حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ هو يوم البعث عند النفخة الثانية لقوله سبحانه يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ أي القبور فإنه بدل من يَوْمَهُمُ وهو مفعول به ليلاقوا، وتفسيره بيوم موتهم أو يوم بدر أو يوم النفخة الأولى وجعل يَوْمَ مفعولا به لمحذوف كاذكر أو متعلقا ب تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مما لا ينبغي أن يذهب إليه وما في الآية من معنى المهادنة منسوخ بآية السيف. وقرأ أبو جعفر وابن محيصن «يلقوا» مضارع لقي وروى أبو بكر عن عاصم أنه قرأ «يخرجون» على البناء للمفعول من الإخراج سِراعاً أي مسرعين وهو حال من مرفوع يَخْرُجُونَ وهو جمع سريع كظريف وظراف كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ وهو ما نصب فعبد من دون الله عز وجل وعده غير واحد مفردا وأنشد
قول الأعشى:
وذا النصب المنصوب لا تنسكنه ... لعاقبة والله ربك فاعبدا
وقال بعضهم: هو جمع نصاب ككتاب وكتب وقال الأخفش جمع نصب كرهن ورهن والأنصاب جمع الجمع. وقرأ الجمهور «نصب» بفتح النون وسكون الصاد وهو اسم مفرد فقيل الصنم المنصوب للعبادة أو العلم المنصوب على الطريق ليهتدي به السالك. وقال أبو عمرو: هو شبكة يقع فيها الصيد فيسارع إليها(15/73)
صاحبها مخافة أن يتفلت الصيد. وقيل: ما ينصب علامة لنزول الملك وسيره. وقرأ أبو عمران الحوفي ومجاهد «نصب» بفتح النون والصاد فعل بمعنى مفعول وقرأ الحسن وقتادة «نصب» بضم النون وسكون الصاد على أنه تخفيف «نصب» بضمتين أو جمع نصب بفتحتين كولد وولد يُوفِضُونَ أي يسرعون وأصل الإيفاض كما قال الراغب أن يعدو من عليه الوفضة وهي الكنانة فتخشخش عليه ثم استعمل في الإسراع وقيل هو مطلق الانطلاق. وروي عن الضحاك والأكثرون على الأول والمراد أنهم يخرجون مسارعين إلى الداعي يسبق بعضهم بعضا. والإسراع في السير إلى المعبودات الباطلة كان عادة للمشركين وقد رأينا كثيرا من إخوانهم الذين يعبدون توابيت الأئمة ونحوهم رضي الله تعالى عنهم كذلك وكذا عادة من ضل الطريق أن يسرع إلى أعلامها وعادة الجند أن يسرعوا نحو منزل الملك خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ لعظم ما تحققوه ووصفت أبصارهم بالخشوع مع أنه وصف الكل لغاية ظهور آثاره فيها تَرْهَقُهُمْ تغشاهم ذِلَّةٌ شديدة ذلِكَ الذي ذكر ما سيقع فيه من الأحوال الهائلة الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ أي في الدنيا. واسم الإشارة مبتدأ والْيَوْمُ خبر والموصول صفته والجملة بعده صلته والعائد محذوف أي يوعدونه وقرأ عبد الرحمن بن خلاذ عن داود بن سالم عن يعقوب والحسن بن عبد الرحمن عن التمار «ذلّة» بغير تنوين مضافا إلى ذلِكَ الْيَوْمُ بالجر هذا واعلم أن بعض المتصوفة في هذا الزمان ذكر في شأن هذا اليوم الذي أخبر الله تعالى أن مقداره خمسون ألف سنة أن المراتب أربع: الملك والملكوت والجبروت واللاهوت وكل مرتبة عليا محيطة بالسفلى وأعلى منها بعشر درجات لأنها تمام المرتبة لأن الله خلق الأشياء من عشر قبضات يعني من سر عشر مراتب الأفلاك التسعة والعناصر في كل عالم بحسبه ولذا ترتبت مراتب الأعداد على الأربع والألف منتهى المراتب وأقصى الغايات ولما كانت النسبة إلى الرب أي إلى وجهة الحق هي الغاية القصوى بالنسبة إلى ما عداها أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النجم: 42] كان اليوم الواحد المنسوب إليه ألفا ولذا كان اليوم الربوبي ألف سنة كما قال سبحانه وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج: 47] فإذا ترقى الكون واقتضت الحكمة ظهور النشأة الأخرى وبروز آثار الاسم الأعظم في مقام الألوهية في رتبة الجامع ظهر الكون والأكوان والمكونات في محشر واحد على مراتبها في الأعيان فظهر سر النون من كلمة كُنْ [البقرة: 117 وغيرها] لظهور فيكون فظهر الخمسون في العود كما نزل في البدء وهو قوله سبحانه كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف: 29] فكان اليوم الواحد عند ظهور الاسم الأعظم في الجهة الجامعة خمسين ألف سنة، فالألف لترقي الواحد ولما كانت المراتب خمسين كان خمسين ألفا والخمسون تفاصيل ظهور اسم الرب عند ظهور اسم الله في عالم الأمر الذي هو أول مراتب التفصيل في قوله تعالى كُنْ وكان أول ظهور التفصيل خمسين لأن التوحيد الظاهر في النقطة والألف والحروف والكلمة التامة والدلالة التي هي تمام الخمسة إنما كانت في عشرة عوالم المراتب التعينات أو لأن الطبائع الأربع مع حصول المزاج بظهور طبيعة خامسة وبها تمام الخمسة إنما كانت في عشرة عوالم يحسبها فكان المجموع خمسين والعوالم العشرة هي عالم الإمكان وعالم الفؤاد وعالم القلب وعالم العقل وعالم الروح وعالم النفس وعالم الطبيعة وعالم المادة وعالم المثال وعالم الأجسام. والخمسون في وجه الرب ووجهة الحق في العالم الأول الذي هو الآخر تكون خمسين ألف سنة انتهى فإن فهمت منه معنى صحيحا تقبله ذوو العقول ولا يأباه المنقول فذاك وإلّا فاحمد الله تعالى على العافية واسأله عز وجل التوفيق للوصول إلى معالم التحقيق وللشيخ الأكبر قدس سره أيضا كلام في هذا المقام فمن أراده فليتتبع كتبه وليسأل الله تعالى الفتوحات وهو سبحانه ولي الهبات.(15/74)
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16)
سورة نوح
مكية بالاتفاق وهي ثمان وعشرون آية في الكوفي وتسع في البصري والشامي وثلاثون فيما عدا ذلك ووجه اتصالها بما قبلها على ما قال الجلال السيوطي وأشار إليه غيره أنه سبحانه لما قال في سورة المعارج إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ [المعارج: 4، 41] عقبه تعالى بقصة قوم نوح عليه السلام المشتملة على إغراقهم عن آخرهم بحيث لم يبق منهم في الأرض ديار وبدل خيرا منهم فوقعت موقع الاستدلال والاستظهار لتلك الدعوى كما وقعت قصة أصحاب الجنة في سورة ن موقع الاستظهار لما ختم به تبارك هذا مع تواخي مطلع السورتين في ذلك العذاب الموعد به الكافرون ووجه الاتصال على قول من زعم أن السائل هو نوح عليه السلام ظاهر وفي بعض الآثار ما يدل على أن النبي صلّى الله عليه وسلم يقرؤها على قوم نوح عليه السلام يوم القيامة
أخرج الحاكم عن ابن عباس مرفوعا قال: «إن الله تعالى يدعو نوحا وقومه يوم القيامة أول الناس فيقول:
ماذا أجبتم نوحا؟ فيقولون: ما دعانا وما بلّغنا ولا نصحنا ولا أمرنا ولا نهانا، فيقول نوح عليه السلام: دعوتهم يا رب دعاء فاشيا في الأولين والآخرين أمة بعد أمة حتى انتهى إلى خاتم النبيين أحمد صلّى الله عليه وسلم فانتسخه وقرأه وآمن به وصدقه فيقول الله عز وجل للملائكة عليهم السلام: ادعوا أحمد وأمته فيدعونهم فيأتي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأمته يسعى نورهم بين أيديهم فيقول نوح عليه السلام لمحمد صلّى الله عليه وسلم وأمته: هل تعلمون أني بلغت قومي الرسالة واجتهدت لهم بالنصيحة وجهدت أن أستنقذهم من النار سرا وجهارا فلم يزدهم دعائي إلّا فرارا؟ فيقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأمته: فإنّا نشهد بما أنشدتنا أنك في جميع ما قلت من الصادقين. فيقول قوم نوح عليه السلام: وأنى علمت هذا أنت وأمتك ونحن أول الأمم وأنت آخر الأمم، فيقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [نوح: 1] حتى يختم السورة، فإذا ختمها قالت أمته نشهد إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم. فيقول الله عز وجل عند ذلك: امتازوا اليوم أيها المجرمون» .(15/75)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً هو اسم أعجمي زاد الجواليقي معرب والكرماني معناه بالسريانية الساكن وصرف لعدم زيادته على الثلاثة مع سكون وسطه وليس بعربي أصلا. وقول الحاكم في المستدرك إنما سمي نوحا لكثرة نوحه وبكائه على نفسه، واسمه عبد الغفار لا أظنه يصح وكذا ما ينقل في سبب بكائه من أنه عليه السلام رأى كلبا أجرب قذرا فبصق عليه فأنطقه الله تعالى فقال أتعيبني أم تعيب خالقي فندم وناح لذلك. والمشهور أنه عليه السلام ابن لمك بفتح اللام وسكون الميم بعدها كاف ابن مثوشلخ بفتح الميم وتشديد المثناة المضمومة بعدها واو ساكنة وفتح الشين المعجمة واللام والخاء المعجمة ابن خنوخ بفتح الخاء المعجمة وضم النون الخفيفة وبعدها واو ساكنة ثم خاء معجمة وشاع أخنوخ بهمزة أوله وهو إدريس عليه السلام بن يرد بمثناة من تحت مفتوحة ثم راء ساكنة مهملة ابن مهلاييل بن قينان بن أنوش بالنون والشين المعجمة ابن شيث بن آدم عليه السلام وهذا يدل على أنه عليه السلام بعد إدريس عليه السلام.
وفي المستدرك أن أكثر الصحابة رضي الله تعالى عنهم على أنه قبل إدريس وفيه عن ابن عباس كان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرة قرون وفيه أيضا مرفوعا بعث الله تعالى نوحا لأربعين سنة فلبث في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما يدعوهم وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا. وذكر ابن جرير أن مولده كان بعد وفاة آدم عليه السلام بمائة وستة وعشرين عاما وفي التهذيب للنوي رحمه الله تعالى أنه أطول الأنبياء عليهم السلام عمرا وقيل إنه أطول الناس مطلقا عمرا فقد عاش على ما قال شداد ألفا وأربعمائة وثمانين سنة ولم يسمع عن أحد أنه عاش كذلك يعني بالاتفاق لئلا يرد الخضر عليه السلام وقد يجاب بغير ذلك وهو على ما قيل أول من شرعت له الشرائع وسنت له السنن وأول رسول أنذر على الشرك وأهلكت أمته، والحق أن آدم عليه السلام كان رسولا قبله أرسل إلى زوجته حواء ثم إلى بنيه وكان في شريعته وما نسخ بشريعة نوح في قول وفي آخر لم يكن في شريعته إلّا الدعوة إلى الإيمان ويقال لنوح عليه السلام شيخ المرسلين وآدم الثاني وكان دقيق الوجه في رأسه طول عظيم العينين غليظ العضدين كثير لحم الفخذين ضخم السرة طويل اللحية والقامة جسيما. واختلف في مكان قبره فقيل بمسجد الكوفة وقيل بالجبل الأحمر وقيل بذيل جبل لبنان بمدينة الكرك. وفي إسناد الفعل إلى الضمير العظمة مع تأكيد الجملة ما لا يخفى من الاعتناء بأمر إرساله عليه السلام إِلى قَوْمِهِ قيل هم سكان جزيرة العرب ومن قرب منهم لا أهل الأرض كافة لاختصاص نبينا صلّى الله عليه وسلم بعموم البعثة من بين المرسلين عليهم السلام، وما كان لنوح بعد قصة الغرق على القول بعمومه أمر اتفاقي واشتهر أنه عليه الصلاة والسلام كان يسكن أرض الكوفة وهناك أرسل أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ أي أي أَنْذِرْ(15/76)
قَوْمَكَ
على أن أَنْ تفسيرية لما في الإرسال من معنى القول دون حروفه فلا محل للجملة من الإعراب أو بأن أنذرهم أي بإنذارهم أو لإنذارهم على أن أَنْ مصدرية وقبلها حرف جر مقدر هو الباء أو اللام وفي المحل بعد الحذف من الجر والنصب قولان مشهوران. ونص أبو حيان على جواز هذا الوجه في بحره هنا ومنعه في موضع آخر. وحكى المنع عنه ابن هشام في المغني وقال: زعم أبو حيان أنها لا توصل بالأمر وإن كل شيء سمع من ذلك فأن فيه تفسيرية واستدل بدليلين أحدهما أنهما إذا قدرا بالمصدر فات معنى الأمر الثاني أنهما لم يقعا فاعلا ولا مفعولا لا يصح أعجبني أن قم ولا كرهت أن قم كما يصح ذلك مع الماضي والمضارع، والجواب عن الأول أن فوات معنى الأمرية عند التقدير بالمصدر كفوات معنى المضي والاستقبال في الموصولة بالمضارع والماضي عند التقدير المذكور ثم إنه يسلم مصدرية المخففة مع لزوم نحو ذلك فيها في نحو قوله تعالى وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها [النور: 9] إذ لا يفهم الدعاء من المصدر إلّا إذا كان مفعولا مطلقا نحو سقيا ورعيا. وعن الثاني أنه إنما منع ما ذكره لأنه لا معنى لتعليق الإعجاب والكراهية بالإنشاء لا لما ذكره ثم ينبغي له أن لا يسلم مصدرية كي لأنها لا تقع فاعلا ولا مفعولا وإنما تقع مخفوضة بلام التعليل، ثم مما يقطع به على قوله بالبطلان حكاية سيبويه كتبت إليه بأن قم واحتمال زيادة الباء كما يقول وهم فاحش لأن حروف الجر مطلقا لا تدخل إلّا على الاسم أو ما في تأويله انتهى. وأجاب بعضهم عن الأول أيضا بأنه عند التقدير يقدر الأمر فيقال فيما نحن فيه مثلا إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ بالأمر بإنذارهم وتعقب بأنه ليس هناك فعل يكون الأمر مصدره كأمرنا أو نأمر ثم إنه يكون المعنى في نحو أمرته بأن قم أمرته بالأمر بالقيام. وأشار الزمخشري إلى جواب ذلك هو أنه إذا لم يسبق لفظ الأمر أو ما في معناه من نحو رسمت فلا بد من تقدير القول لئلا يبطل الطلب فيقال هنا: أرسلناه بأن قلنا له أنذر أي بالأمر بالإنذار وإذا سبقه ذلك لا يحتاج إلى تقديره لأن مآل العبارات أعني أمرته بالقيام وأمرته بأنه قم وأن قم بدون الباء على أنها مفسرة إلى واحد وفي الكشف لو
قيل إن التقدير وأرسلناه بالأمر بالإنذار من دون إضمار القول لأن الأمرية ليست مدلول جوهر الكلمة بل من متعلق الأداة فيقدر بالمصدر تبعا وفي أمر المخاطب اكتفى بالصيغة تحقيقا لكان حسنا وهذا كما أن التقدير في أن لا يزني خير له عدم الزنا فيقدر النفي بالمصدر على سبيل التبعية، وأما إذا صرح بالأمر فلا يحتاج إلى تقدير مصدر للطلب أيضا هذا ولو قدر أمرته بالأمر بالقيام أي بأن يأمر نفسه به مبالغة في الطلب لم يبعد عن الصواب ولما فهم منه ما فهم من الأول وأبلغ استعمل استعماله من غير ملاحظة الأصل وأوعى بعضهم أن تقدير القول هنا ليس لئلا يفوت معنى الطلب بل لأن الباء المحذوفة للملابسة وإرسال نوح عليه السلام لم يكن ملتبسا بإنذاره لتأخره عنه وإنما هو ملتبس بقول الله تعالى له عليه السلام أَنْذِرْ ولما كان هذا القول منه تعالى لطلب الإنذار قيل: المعنى أرسلناه بالأمر بالإنذار، وكان هذا القائل لا يبالي بفوات معنى الطلب كما يقتضيه كلام ابن هشام المتقدم آنفا. وبحث الخفاجي فيما ذكروه من الفوات فقال: كيف يفوت معنى الطلب وهو مذكور صريحا في أَنْذِرْ ونحوه وتأويله بالمصدر المسبوك تأويل لا ينافيه لأنه مفهوم أخذوه من موارد استعماله فكيف يبطل صريح منطوقه فما ذكروه مما لا وجه له وإن اتفقوا عليه فاعرفه انتهى. وأقول: لعلهم أرادوا بفوات معنى الطلب فواته عند ذكر المصدر الحاصل من التأويل بالفعل على معنى أنه إذا ذكر بالفعل لا يتحقق معنى الطلب ولا يتحد الكلامان ولم يريدوا أنه يفوت مطلقا كيف وتحققه في المنطوق الصريح كنار على علم، ويؤيد هذا منعهم بطلان اللازم المشار إليه بقول ابن هشام أن فوات معنى الأمرية عند التقدير بالمصدر كفوات المضي والاستقبال إلخ فكأنه قيل لا نسلم أن هذا الفوات(15/77)
باطل لم لا يجوز أن يكون كفوات معنى المضي والاستقبال وفوات معنى الدعاء في نحو أَنَّ غَضَبَ [النور: 9] وقد أجمعوا أن ذلك ليس بباطل لأنه فوات عند الذكر بالفعل وليس بلازم، وليس بفوات مطلقا لظهور أن المنطوق الصريح متكفل به فتدبر. وقرأ ابن مسعود «أنذر» بغير أَنْ على إرادة القول أي قائلين أنذر مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ عاجل وهو ما حل بهم من الطوفان كما قال الكلبي أو آجل وهو عذاب النار كما قال ابن عباس. والمراد أنذرهم من قبل ذلك لئلا يبقى لهم عذر ما أصلا قالَ استئناف بياني كأنه قيل فما فعل عليه الصلاة والسلام بعد هذا الإرسال فقيل قال لهم يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ منذر موضح لحقيقة الأمر واللام في لَكُمْ للتقوية أو للتعليل أي لأجل نفعكم من غير أن أسألكم أجرا وقوله تعالى أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ متعلق بنذير على مصديرية أَنِ وتفسيريتها ومر نظيره في الشعراء وقوله سبحانه يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ مجزوم في جواب الأمر واختلف في مِنْ فقيل ابتدائية وإن لم تصلح هنا لمقارنة إلى وابتداء الفعل من جانبه تعالى على معنى أنه سبحانه يبتدئهم بعد إيمانهم بمغفرة ذنوبهم إحسانا منه عز وجل وتفضلا، وجوز أن يكون من جانبهم على معنى أول ما يحصل لهم بسبب إيمانهم مغفرة ذنوبهم وليس بذاك وقيل بيانية ورجوعها إلى معنى الابتدائية استبعده الرضي ويقدر قبلها مبهم يفسر بمدخولها أي يغفر لكم أفعالكم التي هي الذنوب، وقيل: زائدة على رأي الأخفش المجوز لزيادتها مطلقا وجزم بذلك هنا وقيل تبعيضية أي يغفر لكم بعض ذنوبكم واختاره بعض. واختلف في البعض المغفور فذهب قوم إلى أنه حقوق الله تعالى فقط السابقة على الإيمان وآخرون إلى أنه ما اقترفوه قبل الإيمان مطلقا الظاهر ما ورد من أن الإيمان يجب ما قبله واستشكل ذلك العز بن عبد السلام في الفوائد المنتشرة وأجاب عنه فقال: كيف يصح هذا على رأي سيبويه الذي لا يرى كالأخفش زيادتها في الموجب بل يقول إنها للتبعيض مع أن الإسلام يجب ما قبله بحيث لا يبقى منه شيء والجواب أن إضافة الذنوب إليهم إنما تصدق حقيقة فيما وقع إذا ما لم يقع لا يكون ذنبا لهم وإضافة ما لم يقع على طريق التجوز كما في وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ [المائدة: 89] إذا المراد بها الأيمان المستقبلة وإذا كانت الإضافة تارة تكون حقيقة وتارة تكون مجازا، فسيبويه يجمع بين الحقيقة والمجاز فيها وهو جائز
يعني عند أصحابه الشافعية، ويكون المراد من بعض ذنوبكم البعض الذي وقع انتهى ولا يحتاج إلى حديث الجمع من خص الذنوب المغفورة بحقوق الله عز وجل وهاهنا بحث وهو أن الحمل على التبعيض يأباه يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر: 53] وقد نص البعلي في شرح الجمل على أن ذلك هو الذي دعا الأخفش للجزم بالزيادة هنا وجعله ابن الحاجب حجة له ورده بعض الأجلة بأن الموجبة الجزئية من لوازم الموجبة الكلية ولا تناقض بين اللازم والملزوم ومبناه الغفلة عن كون مدلول من التبعيضية هي البعضية المجردة عن الكلية المنافية لها لا الشاملة لما في ضمنها المجتمعة معها وإلّا لما تحقق الفرق بينها وبين من البيانية من جهة الحكم ولما تيسر تمشية الخلاف بين الإمام أبي حنيفة وصاحبيه فيما إذا قال:
طلقي نفسك من ثلاث ما شئت بناء على أن من للتبعيض عنده وللبيان عندهما قال في الهداية وإن قال لها طلقي نفسك من ثلاث ما شئت فلها أن تطلق نفسها واحدة وثنتين ولا تطلق ثلاثا عند أبي حنيفة وقالا تطلق ثلاثا إن شاءت لأن كلمة ما محكمة في التعميم وكلمة من قد تستعمل للتمييز فتحمل على تمييز الجنس ولأبي حنيفة أن كلمة من حقيقة في التبعيض وما للتعميم فيعمل بهما انتهى. ولا خفاء في أن بناء الجواب المذكور على كون من للتبعيض إنما يصح إذا كان مدلولها حينئذ البعضية المجردة المنافية للكلية ومن هنا تعجب من صاحب التوضيح في تقرير الخلاف المذكور حيث استدل على أولوية التبعيض بتيقنه ولم يدر أن(15/78)
البعض المراد قطعا على تقدير البيان البعض العام الشامل لما في ضمن الكل لا البعض المجرد المراد هاهنا.
فبالتعليل على الوجه المذكور لا يتم التقريب بل لا انطباق بين التعليل والمعلل على ما قيل. وصوب العلامة التفتازاني حيث قال: علقه على التلويح مستدلا على أن البعضية التي تدل عليها من التبعيضية هي البعضية المجردة المنافية للكلية لا البعضية التي هي أعم من أن تكون في ضمن الكل أو بدونه لاتفاق النحاة على ذلك حيث احتاجوا إلى التوفيق بين قوله تعالى يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً فقالوا لا يبعد أن يغفر سبحانه الذنوب لقوم وبعضها لآخرين أو خطاب البعض لقوم نوح عليه السلام وخطاب الكل لهذه الأمة، ولم يذهب أحد إلى أن التبعيض لا ينافي الكلية ولم يصوب الشريف في رده عليه قائلا وفيه بحث إذ الرضي صرح بعدم المنافاة بينهما حيث قال: ولو كان أيضا خطابا لأمة واحدة فغفران بعض الذنوب لا يناقض غفران كلها بل عدم غفران بعضها يناقض غفران كلها لأن قول الرضي غير مرتضى لما عرفت من أن مدلول التبعيضية البعضية المجردة. واعترض قول النحاة أو خطاب البعض لقوم نوح عليه السلام وخطاب الكل لهذه الأمة بأن الإخبار عن مغفرة البعض ورد في مواضع منها قوله تعالى في سورة [إبراهيم: 10] يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ومنها في سورة [الأحقاف: 31] يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ومنها ما هنا وهو الذي ورد في قوم نوح عليه السلام، وأما ما ذكر في الأحقاف فقد ورد في الجن، وما ورد في إبراهيم فقد ورد في قوم نوح وعاد وثمود على ما أفصح به السياق فكيف يصح ما ذكروه. وقيل جيء بمن في خطاب الكفرة دون المؤمنين في جميع القرآن تفرقة بين الخطابين ووجه بأن المغفرة حيث جاءت في خطاب الكفار مرتبة على الإيمان وحيث جاءت في خطاب المؤمنين مشفوعة بالطاعة والتجنب عن المعاصي ونحو ذلك، فيتناول الخروج عن المظالم واعترض بأن التفرقة المذكورة إنما تتم لو لم يجىء الخطاب للكفرة على العموم وقد جاء كذلك كما في سورة [الأنفال: 38] قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وقد أسلفنا ما يتعلق بهذا المقام أيضا فتذكر وتأمل وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو الأمد الأقصى الذي قدره الله تعالى بشرط الإيمان والطاعة وراء ما قدره عز وجل لهم على تقدير بقائهم على الكفر والعصيان فإن وصف الأجل بالمسمى وتعليق تأخيرهم إليه بالإيمان والطاعة صريح في أن لهم أجلا آخر لا يجاوزونه إن لم يؤمنوا وهو المراد بقوله تعالى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ أي ما قدره عز وجل لكم على تقدير بقائكم على ما أنتم عليه إِذا جاءَ وأنتم على ما أنتم لا يُؤَخَّرُ فبادروا إلى الإيمان والطاعة قبل مجيئه حتى لا يتحقق شرطه الذي هو بقاؤكم على الكفر والعصيان فلا يجيء ويتحقق شرط التأخير إلى الأجل المسمى فتؤخروا إليه، وجوز أن يراد به وقت إتيان العذاب المذكور في قوله سبحانه مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فإنه أجل مؤقت له حتما وأيّا ما كان لا تناقض بين يُؤَخِّرْكُمْ وإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ كما يتوهم وقال الزمخشري في ذلك ما حاصله أن الأجل أجلان وأجل الله حكمه حكم المعهود والمراد منه الأجل المسمى الذي هو آخر الآجال، والجملة عنده تعليل لما فهم من تعليقه سبحانه التأخير بالأجل المسمى وهو عدم تجاوز التأخير عنه، والأول هو المعول عليه فإن الظاهر أن الجملة تعليل للأمر بالعبادة المستتبعة للمغفرة والتأخير إلى الأجل المسمى فلا بد أن يكون المنفي عند مجيء الأجل هو التأخير الموعود فكيف يتصور أن يكون ما فرض مجيئه هو الأجل المسمى الذي هو آخر الآجال لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي لو كنتم من أهل العلم لسارعتم لما آمركم به لكنكم لستم من أهله في شيء فلذا لم تسارعوا فجواب لَوْ مما يتعلق بأول الكلام ويجوز أن يكون مما يتعلق بآخره أي لو كنتم من أهل العلم لعلمتم ذلك أي عدم تأخير الأجل إذا(15/79)
جاء وقته المقدر له، والفعل في الوجهين منزل منزلة اللازم ويجوز أن يكون محذوفا لقصد التعميم أي لو كنتم تعلمون شيئا. ورجح الأول بعدم احتياجه للتقدير والجمع بين صيغتي الماضي والمضارع للدلالة على استمرار النفي المفهوم من لَوْ وجعل العلم المنفي هو العلم النظري لا الضروري ولا ما يعمه فإنه مما لا ينفي اللهم إلّا على
سبيل المبالغة قالَ أي نوح عليه السلام مناجيا ربه عز وجل وحاكيا له سبحانه بقصد الشكوى وهو سبحانه أعلم بحاله ما جرى بينه وبين قومه من القيل والقال في تلك المدد الأطوال بعد ما بذل في الدعوة غاية المجهود وجاز في الإنذار كل حد معهود وضاقت عليه الحيل وعيت به العلل رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي إلى الإيمان والطاعة لَيْلًا وَنَهاراً أي دائما من غير فتور ولا توان فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً مما دعوتهم إليه وإسناد الزيادة إلى الدعاء من باب الإسناد إلى السبب على حد الإسناد في سرتني رؤيتك وفِراراً قيل تمييز وقيل مفعول ثان بناء على تعدي الزيادة والنقص إلى مفعولين وقد قيل إنه لم يثبت وإن ذكره بعضهم وفي الآية مبالغات بليغة وكان الأصل فلم يجيبوني ونحوه فعبر عن ذلك بزيادة الفرار المسندة للدعاء وأوقعت عليهم مع الإتيان بالنفي والإثبات وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ أي إلى الإيمان فمتعلق الفعل محذوف وجوز جعله منزلا منزلة اللازم والجملة عطف على ما قبلها وليس ذلك من عطف المفصل على المجمل كما توهم حتى يقال إن الواو من الحكاية لا من المحكي لِتَغْفِرَ لَهُمْ أي بسبب الإيمان جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ أي سدوا مسامعهم عن استماع الدعوة فهو كناية عما ذكر ولا منع من الحمل على الحقيقة وفي نسبة الجعل إلى الأصابع وهو منسوب إلى بعضها وإيثار الجعل على الإدخال ما لا يخفى وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ أي بالغوا في التغطي بها كأنهم طلبوا من ثيابهم أن تغشاهم لئلا يروه كراهة النظر إليه من فرط كراهة الدعوة ففي التعبير بصيغة الاستفعال ما لا يخفى من المبالغة وكذا في تعميم آلة الإبصار وغيرها من البدن بالستر مبالغة في إظهار الكراهة، ففي الآية مبالغة بحسب الكيف والكم. وقيل: بالغوا في ذلك لئلا يعرفهم عليه السلام فيدعوهم وفيه ضعف فإنه قيل عليه إنه يأباه ترتبه على قوله كُلَّما دَعَوْتُهُمْ اللهم إلّا أن يجعل مجازا عن إرادة الدعوة وهو تعكيس للأمر وتخريب للنظم وَأَصَرُّوا أي أكبوا على الكفر والمعاصي وانهمكوا وجدوا فيها مستعار من أصر الحمار على العانة إذا صر أذنيه أي رفعهما ونصبهما مستويين وأقبل عليها يكدمها ويطردها وفي ذلك غاية الذم لهم. وعن جار الله لو لم يكن في ارتكاب المعاصي إلا التشبيه بالحمار لكفى به مجزرة كيف والتشبيه في أسوأ أحواله وهو حال الكدم والسفاد وما ذكر من الاستعارة قيل في أصل اللغة وقد صار الإصرار حقيقة عرفية في اللازمة والانهماك في الأمر. وقال الراغب: الإصرار التعقد في الذنب والتشديد فيه والامتناع من الإقلاع عنه وأصله من الصر أي الشد ولعله لا يأبى ما تقدم بناء على أن الأصل الأول الشد والأصل الثاني ما سمعت أولا وَاسْتَكْبَرُوا من اتباعي وطاعتي اسْتِكْباراً عظيما وقيل نوعا من الاستكبار غير معهود والاستكبار طلب الكبر من غير استحقاق له ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً أي دعوتهم مرة بعد مرة وكرة غب كرة على وجوه متخالفة وأساليب متفاوتة وهو تعميم لوجوه الدعوة بعد تعميم الأوقات وقوله ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً يشعر بمسبوقية الجهر بالسر وهو الأليق بمن همه الإجابة لأنه أقرب إليها لما فيه من اللطف بالمدعو فتم لتفاوت الوجوه وإن الجهار أشد من الإسرار والجمع بينهما أغلظ من الإفراد وقال بعض الأجلة ليس في النظم الجليل ما يقتضي أن الدعوة الأولى كانت سرا فقط فكأنه أخذ ذلك من المقابلة ومن تقديم قوله لَيْلًا وذكرهم بعنوان قومه وقوله فِراراً فإن القرب ملائم له. وجوز كون ثُمَّ على معناها الحقيقي وهو التراخي الزماني لكنه باعتبار مبدأ(15/80)
كل من الإسرار والجهار ومنتهاه، وباعتبار منتهى الجمع بينهما لئلا ينافي عموم الأوقات السابق، ويحسن اعتبار ذلك وإن اعتبر عمومها عرفيا كما في لا يضع العصا عن عاتقه وجِهاراً منصوب بدعوتهم على المصدرية لأنه أحد نوعي الدعاء كما نصب القرفصاء في قعدت القرفصاء عليها لأنها أحد أنواع القعود أو أريد بدعوتهم جاهرتهم أو صفة لمصدر محذوف أي دعوتهم دعاء جهارا أي مجاهرا بفتح الهاء به أو مصدر في موقع الحال أي مجاهرا بزنة اسم الفاعل فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ بالتوبة عن الكفر والمعاصي فإنه سبحانه لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء
: 48، 116] وقال ربكم تحريكا لداعي الاستغفار إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً دائم المغفرة كثيرها للتائبين كأنهم تعللوا وقالوا إن كنا على الحق فكيف نتركه وإن كنا على الباطل فكيف يقبلنا، ويلطف بنا جل وعلا بعد ما عكفنا عليه دهرا طويلا فأمرهم بما يمحق ما سلف منهم من المعاصي ويجلب إليهم المنافع ولذلك وعدهم على الاستغفار بأمور هي أحب إليهم وأوقع في قلوبهم من الأمور الأخروية أعني ما تضمنه يُرْسِلِ السَّماءَ إلخ وأجبتهم لذلك لما جبلوا عليه من محبة الأمور الدنيوية.
والنفس مولعة بحب العاجل قال قتادة: كانوا أهل حب للدنيا فاستدعاهم إلى الآخرة من الطريق التي يحبونها وقيل لما كذبوه عليه الصلاة والسلام بعد تكرير الدعوة حبس الله تعالى عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة وقيل سبعين سنة فوعدهم أنهم إن آمنوا يرزقهم الله تعالى الخصب ويدفع عنهم ما هم فيه وهو قوله يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً أي كثير الدر ورأى السيلان والسماء السحاب أو المطر ومن إطلاقها على المطر وكذا على النبات أيضا قوله:
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
وجوز أن يراد بها المظلة على ما سمعت غيره مرة وهي تذكر وتؤنث ولا يأبى تأنيثها وصفها بمدرار إلا أن صيغ المبالغة كلها كما صرح به سيبويه يشترك فيها المذكر والمؤنث. وفي البحر أن مفعالا لا تلحقه التاء إلا نادرا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ أي بساتين وَيَجْعَلْ لَكُمْ فيها أو مطلقا أَنْهاراً جارية وأعاد فعل الجعل دون أن يقول يجعل لكم جنات وأنهارا لتغايرهما فإن الأول مما لفعلهم مدخل بخلاف الثاني ولذا قال يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ ولم يعد العامل كذا قيل وهو كما ترى. ولعل الأولى أن يقال إن الإعادة للاعتناء بأمر الأنهار لما أن لها مدخلا عاديا أكثريا في وجود الجنات وفي بقائها مع منافع أخر لا تخفى، ورعاية لمدخليتها في بقائها الذي هو أهم من أصل وجودها مع قوة هذه المدخلية أخرت عنها وإن ترك إعادة العامل مع البنين لأنه الأصل أو لأنه لما كان الإمداد أكثر ما جاء في المحبوب ولا تكمل محبوبية كل من الأموال والبنين بدون الآخر ترك إعادة العامل بينهما للإشارة إلى أن التفضيل بكل غير منغص بفقد الآخر. وتأخير البنين قيل لأن بقاء الأموال غالبا بهم لا سيما عند أهل البادية مع رمز إلى أن الأموال تصل إليهم آخر الأمر وهو مما يسر المتمول كما لا يخفى فتأمل. وقال البقاعي: المراد بالجنات والأنهار ما في الآخرة والجمهور على الأول وروي عن الربيع بن صبيح أن رجلا أتى الحسن وشكا إليه الجدب فقال له:
استغفر الله تعالى وأتاه آخر فشكا إليه الفقر فقال له استغفر الله تعالى، وأتاه آخر فقال: ادع الله سبحانه أن يرزقني ابنا فقال له استغفر الله تعالى، وأتاه آخر فشكا إليه جفاف بساتينه فقال له: استغفر الله تعالى فقلنا أتاك رجال يشكون ألوانا ويسألون أنواعا فأمرتهم كلهم بالاستغفار فقال: ما قلت من نفسي شيئا إنما اعتبرت قول الله(15/81)
عزّ وجلّ حكاية عن نبيه نوح عليه الصلاة والسلام إنه قال لقومه اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ الآية ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً إنكار لأن يكون لهم سبب ما في عدم رجائهم لله تعالى وَقاراً على أن الرجاء بمعنى الخوف كما أخرجه الطستي عن ابن عباس مجيبا به سؤال نافع بن الأزرق منشدا قوله أبي ذؤيب:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ... وحالفها في بيت نوب عواسل
أو على أنه بمعنى الاعتقاد كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وجماعة، وعبر به بالرجاء التابع لأدنى الظن مبالغة ولا تَرْجُونَ حال من ضمير المخاطبين، والعامل فيها معنى الاستقرار في لَكُمْ على أن الإنكار متوجه إلى السبب فقط مع تحقق مضمون الجملة الحالية لا إليهما معا ولِلَّهِ متعلق بمضمر وقع حالا من وَقاراً ولو تأخر لكان صفة له، والوقار كما رواه جماعة عن الحبر بمعنى العظمة لأنه على ما نقل الخفاجي عن الانتصاف ورد في صفاته تعالى بهذا المعنى ابتداء أو لأنه بمعنى التؤدة لكنها غير مناسبة له سبحانه فأطلقت باعتبار غايتها وما يتسبب عنها من العظمة في نفس الأمر أو في نفوس الناس أي أي سبب حصل لكم حال كونكم غير خائفين أو غير معتقدين لله تعالى عظمة موجبة لتعظيمه سبحانه بالإيمان به جل شأنه والطاعة له تعالى وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً أي والحال أنكم على حال منافية لما أنتم عليه بالكلية وهو أنكم تعلمون أنه عزّ وجلّ خلقكم مدرجا لكم في حالات عناصر ثم أغذية ثم أخلاطا ثم نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم عظاما ولحوما ثم خلقا آخر فإن التقصير في توقير من هذا شأنه في القدرة القاهرة والإحسان التام مع العلم بذلك مما لا يكاد يصدر عن العاقل فالجملة حال من فاعل لا تَرْجُونَ مقررة للإنكار والأطوار الأحوال المختلفة. وأنشدوا قوله:
فإن أفاق فقد طارت عمايته ... والمرء يخلق طورا بعد أطوار
وحملها على ما سمعت من الأحوال مما ذهب إليه جمع وعن ابن عباس ومجاهد ما يقتضيه وإن اقتصر على ذكر النطفة والعلقة والمضغة وقيل: المراد بها الأحوال المختلفة بعد الولادة إلى الموت من الصبا والشباب والكهولة والشيوخة والقوة والضعف وقيل من الألوان والهيئات والأخلاق والملل المختلفة. وقيل من الصحة والسقم وكمال الأعضاء ونقصانها والغنى والفقر ونحوها هذا وقيل: الرجاء بمعنى الأمل كما هو الأصل المعروف فيه والوقار بمعنى التوقير كالسلام بمعنى التسليم وأريد به التعظيم ولله بيان للموقر المعظم فهو خبر مبتدأ محذوف أي إرادتي لله أو متعلق بمحذوف يفسره المذكور أي وقارا لله ولم يعلق بالمذكور بناء على ما صحح على ما فيه من أن معمول المصدر مطلقا لا يتقدم عليه ولو تأخر لكان صلة له على ما في الكشاف.
وفيه أن المعنى ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله تعالى إياكم في دار الثواب وحاصله ما لكم لا ترجون أن توقروا وتعظموا على البناء للمفعول فكأنه قيل لمن التوقير أي من الذي يعظمنا ويختص به إعظامه إيانا فقيل لله وفسره بقوله على حال إلخ إشارة إلى أنه ينبغي عليهم اغترارهم كأنه قيل ما لكم مغترين غير راجين. وجعل الحث على الرجاء كناية عن الحث على الإيمان والعمل الصالح لاقتضائه انعقاد الأسباب بخلاف الغرور وهي كناية إيمائية إذ لا واسطة ولو جعلت رمزية لخفاء الفرق بين الرجاء والغرور على الأكثر لكان وجها قاله في الكشف. وتعقب ذلك مفتي الديار الرومية عليه الرحمة بأن عدم رجاء الكفرة لتعظيم الله تعالى إياهم في دار الثواب ليس في حيز الاستبعاد والإنكار مع أن في جعل الوقار بمعنى التوقير من التعسف وفي جعل لله بيانا للموقر ودعوى أنه لو تأخر لكان صلة للوقار من التناقض ما لا يخفى فإن كونه بيانا للموقر(15/82)
يقتضي أن يكون التوقير صادرا عنه تعالى والوقار وصفا للمخاطبين، وكونه صلة للوقار يوجب كون التوقير صادرا عنهم والوقار وصفا له عزّ وجلّ انتهى. وأجيب عن أمر التناقض بأنك إذا قلت ضرب لزيد جاز أن يكون زيد فاعلا وأن يكون مفعولا وكفى شاهدا صحة الإضافتين فعند التأخر يحتمل أن يكون الوقار بمعنى التوقير صادرا منه تعالى فيكون الوقار وصفا للمخاطبين، ويحتمل أن يكون متعلقا به فيكون التوقير صادرا عنهم والوقار وصفا له تعالى. غاية ما في الباب أنه لما قدم لله وامتنع تعلقه بالمصدر المتأخر صار بيانا وعينت القرينة إرادة صدور التوقير عنه عزّ وجلّ وأين هذا من التناقض نعم يبقى الكلام في القرينة ولعلها السياق بناء على أن القوم استبعدوا أن يقبلوا ويلطف الله تعالى بهم إن هم تركوا باطلهم فيكون هذا من تتمة إزالة الشبهة فيما سمعت من قولهم كيف يقبلنا ويلطف بنا إلخ. ويعلم من هذا الجواب عن قوله إن عدم رجاء الكفرة لتعظيم الله تعالى ليس في حيز الاستبعاد كما لا يخفى وعليه وقيل يكون قوله تعالى وَقَدْ خَلَقَكُمْ إلى قوله سبحانه- فِجاجاً للدلالة على أنه جل شأنه لا يزال ينعم عليكم مع كفركم فكيف لا يلطف بكم ويوقركم إذا آمنتم. وتفسر الأطوار بما يعتري الإنسان في أسنانه من الأمور المختلفة كالصبا والشباب والكهولة وغيرها مما يكون بعضه في حال الكفر ويصلح لأن يمتن به ويلتزم كون الإعادة في الأرض من النعم عندهم بناء على أن فيها ستر فظاعة الأبدان على أسهل وجه بعد حلول الموت الضروري في هذه النشأة والإنصاف بعد هذا كله ثم أم لم يتم أن الوجه المذكور متكلف بعيد عن الظاهر بمراحل وقيل: المعنى ما لكم لا تخافوا الله تعالى حلما وترك معاجلة بالعقاب فتؤمنوا فالرجاء بمعنى الخوف والوقار بمعنى الحلم حقيقة كما هو ظاهر كلام الراغب أو استعارة له لاشتراكهما في الثاني أو مجازا إذ لا يتخلف الحلم عن الوقار عادة وفي رواية عن ابن عباس تفسيره بالعاقبة حيث قال أي لا تخافون لله عاقبة وهو من الكناية حينئذ أخذا من الوقار بمعنى الثبات وعن مجاهد والضحاك أن المعنى ما لكم لا تبالون لله تعالى عظمة. قال قطرب: هذه لغة أهل الحجاز وهذيل وخزاعة ومضر يقولون لم أرج أي لم أبال وأظهر المعاني ما ذكرناه أولا ولما ذكر من آيات الأنفس ما ذكر اتبعه بشيء من آيات الآفاق ولبعد أحد الأمرين عن الآخر رتبة لم يأت بالعطف بل قطع فقال أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً أي متطابقة بعضها فوق بعض وتفسير التطابق بالتوافق في الحسن والاشتمال على الحكم وجودة الصنع ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [الملك: 3] عدول عن الظاهر الذي تطابقت عليه الأخبار من غير داع إليه وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً منور الوجه الأرض في ظلمة الليل وجعله فيهن مع أنه في إحداهن وهي السماء الدنيا كما يقال زيد في بغداد وهو في بقعة منها، والمرجح له الإيجاز والملابسة بالكلية والجزئية وكونها طباقا شفافة وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً يزيل ظلمة الليل ويبصر أهل الدنيا في ضوئها وجه الأرض ويشاهدون الآفاق كما يبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى إبصاره وتنوينه للتعظيم. وفي الكلام
تشبيه بليغ ولكون السراج أعرف وأقرب جعل مشبها به ولاعتبار التعدي إلى الغير في مفهومه بخلاف النور كان أبلغ منه ولعل في تشبيهها بالسراج القائم ضياءه لا بطريق الانعكاس رمزا إلى أن ضياءها ليس منعكسا إليها من كوكب آخر كما أن نور القمر منعكس عليه من الشمس لاختلاف تشكلاته بالقرب والبعد منها مع خسوفه بحيلولة الأرض بينه وبينها، وجزم أهل الهيئة القديمة بذلك وفي رواية أظنها تصح أن ضياء الشمس مفاض عليها من العرش، وأظن أن من يقول إنها تدور على كوكب آخر من أهل الهيئة الجديدة يقول باستفادتها النور من غيرها. ثم الظاهر أن المراد وجعل الشمس فيهن فقيل هي في السماء الدنيا في فلك في ثخنها، وقيل في السماء الرابعة وهو المشهور عند متقدمي أهل الهيئة واستدلوا عليه بما هو(15/83)
وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
مذكور في كتبهم وفي البحر حكاية قول إنها في الخامسة ولا يكاد يصح ومما يضحك الصبيان فضلا عن فحول ذوي العرفان ما حكي فيه أيضا أنها في الشتاء في الرابعة وفي الصيف في السابعة وذهب متأخرو أهل الهيئة إلى أنها مركز للسيارات وعدوا الأرض منها ولم يعدوا القمر لدورانه على الأرض وهو بينها وبين الشمس عندهم وسنعمل إن شاء الله تعالى رسالة في تحقيق الحق والحق عند ذويه أظهر من الشمس.
وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً أي أنشاكم منها فاستعير الإنبات للإنشاء لكونه أدل على الحدوث والتكون من الأرض لكونه محسوسا وقد تكرر إحساسه وهم وإن لم ينكروا الحدوث جعلوا بإنكار البعث كمن أنكره ففي الكلام استعارة مصرحة تبعية، ومِنَ ابتدائية داخلة على المبدأ البعيد ونَباتاً قال أبو حيان وجماعة مصدر مؤكد لأنبتكم بحذف الزوائد والأصل إنباتا أو نصب بإضمار فعل أن فنبتم نباتا وفي الكشف أن الإنبات والنبات من الفعل والانفعال وهما واحد في الحقيقة والاختلاف بالنسبة إلى القيام بالفاعل والقابل فلا حاجة إلى تضمين فعل آخر ولا تقديره ثم إن الإنبات إن حمل على معناه الوضعي فلا احتياج إلى التقدير إذ هو في نفسه متضمن للنبات كما أشرنا إليه فيكون نباتا نصبا بالتكتم لهذا التضمن وإن حمل على المتعارف من إطلاقه على مقدمة الإنبات من إخفاء الحب في الأرض مثلا فالوجه الحمل على أن المراد أَنْبَتَكُمْ فنبتّم نَباتاً ليكون فيه إشعار بنحو النكتة التي جرت في قوله تعالى فَانْبَجَسَتْ [الأعراف: 160] من الدلالة على القدرة وسرعة نفاذ حكمها. وجوز أن يكون الأصل أنبتكم من الأرض إنباتا فنبتم نباتا فحذف من الجملة الأولى المصدر ومن الثانية الفعل اكتفاء بما ذكر في الأخرى على أنه من الاحتباك. وقال القاضي:
اختصر اكتفاء بالدلالة الالتزامية وفيه على ما قال الخفاجي الاشعار المذكورة فتأمل ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها أي في الأرض بالدفن عند موتكم وَيُخْرِجُكُمْ منها عند البعث والحشر إِخْراجاً محققا لا ريب فيه وعطف يُعِيدُكُمْ بثم لما بين الإنشاء والإعادة من الزمان المتراخي الواقع فيه التكليف الذي به استحقوا الجزاء بعد الإعادة، وعطف يُخْرِجُكُمْ بالواو دون ثم مع أن الإخراج كذلك لأن أحوال البرزخ والآخرة في حكم شيء واحد فكأنه قضية واحدة ولا يجوز أن يكون بعضها محقق الوقوع دون بعض بل لا بد أن تقع الجملة لا محالة وإن تأخرت عن الإبداء وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً تتقلبون عليها كالبساط وليس فيه دلالة على أن الأرض مبسوطة غير كرية كما في البحر وغيره لأن الكرة العظيمة يرى كل من عليها ما يليه مسطحا، ثم(15/84)
إن اعتقاد الكرية أو عدمها ليس بأمر لازم في الشريعة لكن كريتها كالأمر اليقيني وإن لم تكن حقيقة ووجه توسيط لَكُمُ بين الجعل ومفعوله الصريح يعلم مما مر غير مرة لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا طرقا فِجاجاً واسعات جمع فج فهو صفة مشبهة نعت لسبلا. وقال غير واحد: هو اسم للطريق الواسعة وقيل: اسم للمسلك بين الجبلين فيكون بدلا أو عطف بيان و (من) متعلقة بما قبلها لتضمنه معنى الاتخاذ وإلّا فهو يتعدى بفي أو بمضمر هو حال من سُبُلًا أي سبلا كائنة من الأرض ولو تأخر لكان صفة لها قالَ نُوحٌ أعيد لفظ الحكاية لطول العهد بحكاية مناجاته لربه عزّ وجلّ أي قال عليه السلام مناجيا له تعالى شاكيا إليه عزّ وجلّ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي أي داموا على عصياني فيما أمرتهم به مع ما بالغت في إرشادهم بالعظة والتذكير وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً أي واستمروا على اتباع رؤسائهم الذين أبطرتهم أموالهم وغرتهم أولادهم وصار ذلك سببا لزيادة خسارهم في الآخرة فصاروا أسوة لهم في الخسار والظاهر أن اتباع عامتهم وسفلتهم لأولئك الرؤساء وفي وصفهم بذلك إشعار بأنهم اتبعوهم لوجاهتهم الحاصلة لهم بسبب الأموال والأولاد لا لما شاهدوا فيهم من شبهة مصححة للاتباع في الجملة. وقرأ ابن الزبير والحسن والنخعي والأعرج ومجاهد والأخوان وابن كثير أبو عمرو ونافع في رواية خارجة عنه «وولده» بضم الواو وسكون اللام فقيل هو مفرد لغة في ولد بفتحهما كالحزن والحزن وقيل جمع له كالأسد والأسد وفي القاموس الولد محركة وبالضم والكسر والفتح واحد وجمع وقد يجمع على أولاد وولدة والدة بكسرها وولد بالضم انتهى. وقرأ بالكسر والسكون الحسن أيضا والجحدري وقتادة وذر وطلحة وابن أبي إسحاق وأبو عمرو في رواية وَمَكَرُوا عطف على صلة مَنْ والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد في الضمائر الأول باعتبار لفظها وكان فيه إشارة إلى اجتماعهم في المكر ليكون أشد وأعظم. وقيل عطف على عَصَوْنِي والأول أنسب لدلالته على أن المتبوعين ضموا إلى الضلال الإضلال وهو الأوفق بالسياق فإن المتبادر أن ما بعده من صفة الرؤساء أيضا واعتبار ذلك العطف على أن المعنى مكر بعضهم ببعض وقال بعضهم لبعض خلاف المتبادر مَكْراً كُبَّاراً أي كبيرا في الغاية فهو من صيغ المبالغة قال عيسى بن عمر: هي لغة يمانية وعليها قول الشاعر:
بيضاء تصطاد القلوب وتستبي ... بالحسن قلب المسلم القراء
وقوله:
والمرء يلحقه بفتيان الندى ... خلق الكريم وليس بالوضاء
وقد سمع بعض الأعراب الجفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية فقال: ما أفصح ربك يا محمد وإذا اعتبر التنوين في مكرا للتفخيم زاد أمر المبالغة في مكرهم أي كبيرا في الغاية وذلك احتيالهم في الدين وصدهم للناس عنه وإغراءهم وتحريضهم على أذية نوح عليه السلام. وقرأ عيسى وابن محيصن وأبو السمال «كبارا» بتخفيف الباء وهو بناء مبالغة أيضا إلّا أنها دون المبالغة في المشدد ومثل كبار في ذلك حسان وطوال وعجاب وجمال إلى ألفاظ كثيرة وقرأ زيد بن علي وابن محيصن فيما روى عنه وهب بن واضح «كبارا» بكسر الكاف وفتح الباء قال ابن الأنباري هو جمع كبير كأنه جعل مَكْراً مكان ذنوب أو أفاعيل يعني فلذلك وصف بالجمع وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ أي لا تتركوا عبادتها على الإطلاق إلى عبادة رب نوح عليه السلام وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً أي ولا تتركوا عبادة هؤلاء خصوها بالذكر مع اندراجها فيما سبق لأنها كانت أكبر أصنامهم ومعبوداتهم الباطلة وأعظمها عندهم وإن كانت متفاوتة في العظم(15/85)
فيما بينها بزعمهم كما يومىء إليه إعادة لا مع بعض وتركها مع آخر، وقيل أفرد يعوق ونسر عن النفي لكثرة تكرار لا وعدم اللبس. وقد انتقلت هذه الأصنام إلى العرب. أخرج البخاري وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح عليه السلام في العرب بعد أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، وكانت هذه الأسماء أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إليهم أن انصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها انصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ودرس العلم عبدت وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: كان لآدم عليه السلام خمسة بنين ود وسواع إلخ فكانوا عبادا فمات رجل منهم فحزنوا عليه حزنا شديدا فجاءهم الشيطان فقال: حزنتم على صاحبكم هذا؟ قالوا: نعم، قال: هل لكم أن أصور لكم مثله في قبلتكم إذا نظرتم إليه ذكرتموه؟ قالوا: نكره أن تجعل لنا في قبلتنا شيئا نصلي عليه قال: فأجعله في مؤخر المسجد، قالوا: نعم فصوره لهم حتى مات خمستهم فصور صورهم في مؤخر المسجد فنقصت الأشياء حتى تركوا عبادة الله تعالى وعبدوا هؤلاء فبعث الله تعالى نوحا عليه السلام فدعاهم إلى عبادة الله تعالى وحده وترك عبادتها فقالوا ما قالوا. وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير أن ودا كان أكبرهم وأبرهم وكانوا كلهم أبناء آدم عليه السلام، وروي أن ودا أول معبود من دون الله سبحانه وتعالى. أخرج عبد بن حميد عن أبي مطهر قال: ذكروا عند أبي جعفر رضي الله تعالى عنه يزيد بن المهلب فقال: أما إنه قتل في أول أرض عبد فيها غير الله تعالى ثم ذكر ودا وقال: كان رجلا مسلما وكان محببا في قومه، فلما مات عسكروا حول قبره في أرض بابل وجزعوا عليه فلما رأى إبليس جزعهم تشبه في صورة إنسان ثم قال: أرى جزعكم على هذا فهل لكم أن أصور لكم مثله فيكون في ناديكم فتذكرونه به؟ قالوا: نعم، فصور لهم مثله فوضعوه في ناديهم فجعلوا يذكرونه به فلما رأى ما بهم من ذكره قال: هل لكم أن أجعل لكم في منزل كل رجل منكم تمثالا مثله فيكون في بيته فيذكر به؟ فقالوا: نعم، ففعل فأقبلوا يذكرونه به وأدرك أبناؤهم فجعلوا يرون ما يصنعون به وتناسلوا ودرس أمر ذكرهم إياه حتى اتخذوه إلها يعبدون من دون الله تعالى فكان أول من عبد غير الله تعالى في الأرض ودا وأخرج ابن المنذر وغيره عن أبي عثمان النهدي أنه قال: رأيت يغوث وكان من رصاص يحمل على جمل أجرد ويسيرون معه لا يهيجونه حتى يكون هو الذي يبرك فإذا نزلوا وقالوا قد رضي لكم المنزل فينزلون حوله ويضربون عليه بناء (1) وقيل يبعد بقاء أعيان تلك الأصنام وانتقالها إلى العرب فالظاهر أنه لم يبق إلا الأسماء فاتخذت العرب أصناما وسموها بها وقالوا أيضا
عبد ود وعبد يغوث يعنون أصنامهم. وما رآه أبو عثمان منها مسمى باسم ما سلف ويحكى أن ودا كان على صورة رجل وسواعا كان على صورة امرأة ويغوث كان على صورة أسد ويعوق كان على صورة فرس ونسرا كان على صورة نسر وهو مناف لما تقدم أنهم كانوا على صور أناس صالحين وهو الأصح. وقرأ نافع وأبو جعفر وشيبة بخلاف عنهم «ودّا» بضم الواو وقرأ الأشهب العقيلي «ولا يغوثا ويعوقا» بتنوينهما قال صاحب اللوامح جعلهما فعولا فلذلك صرفهما وهما في قراءة الجمهور صفتان من الغوث والعوق يفعل منهما وهما معرفتان فلذلك منعا الصرف لاجتماع الثقلين اللذين هما التعريف ومشابهة
__________
(1) (قوله وقيل يبعد إلخ) قد أخرج الإفرنج في حدود الألف والمائتين والستين أصناما وتماثيل من أرض الموصل كانت منذ نحو من ثلاثة آلاف سنة فلا تغفل اهـ منه.(15/86)
الفعل المستقبل وتعقبه أبو حيان فقال هذا تخبيط أما أولا فلا يمكن أن يكونا فعولا لأن مادة يغث مفقودة وكذلك يعق وأما ثانيا فليسا بصفتين لأن يفعلا لم يجىء اسما ولا صفة وإنما امتنعا من الصرف للعلمية ووزن الفعل إن كانا عربيين وللعلمية والعجمة إن كانا عجميين. وقال ابن عطية: قرأ الأعمش «ولا يغوثا ويعوقا» بالصرف وهو وهم لأن التعريف لازم وكذا وزن الفعل وأنت تعلم أن الأعمش لم ينفرد بذلك وليس بوهم فقد خرجوه على أحد وجهين أحدهما أن الصرف للتناسب كما قالوا في سلاسلا وأغلالا وهو نوع من المشاكلة ومعدود من المحسنات وثانيهما أنه جاء على لغة من يصرف جميع ما لا ينصرف عند عامة العرب وذلك لغة حكاها الكسائي وغيره لكن يرد على هذا أنها لغة غير فصيحة لا ينبغي التخريج عليها وَقَدْ أَضَلُّوا أي الرؤساء كَثِيراً خلقا كثيرا أي قبل هؤلاء الموصين بأن يتمسكوا بعبادة الأصنام فهم ليسوا بأول من أضلوهم ويشعر بذلك المضي والاقتران بقد حيث أشعر ذلك بأن الإضلال استمر منهم إلى زمن الإخبار بإضلال الطائفة الأخيرة، وجوز أن يراد بالكثير هؤلاء الموصين، وكان الظاهر وقد أضل الرؤساء إياهم أي الموصين المخاطبين بقوله لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ فوضع كثيرا موضع ذلك على سبيل التجريد وقال الحسن وقد أضلوا أي الأصنام فهو كقوله تعالى رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إبراهيم: 36] وضمير العقلاء لتنزيلها منزلتهم عندهم وعلى زعمهم ويحسنه على ما في البحر عود الضمير على أقرب مذكور ولا يخفى أن عوده على الرؤساء أظهر إذ هم المحدث عنهم والمعنى فيهم أمكن والجملة قيل حالية أو معطوفة على ما قبلها وقوله تعالى وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا قيل عطف على رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي على حكاية كلام نوح عليه السلام بعد قالَ والواو النائبة عنه ومعناه قال رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وقال لا تَزِدِ إلخ أي قال هذين القولين على أن الواو من كلام الله تعالى لأنها داخلة في الحكاية وما بعدها هو المحكي وإليه ذهب الزمخشري وإنما ارتكب ذلك فرارا من عطف الإنشاء على الخبر. وقيل عطف عليه والواو من المحكي والتناسب إنشائية وخبرية غير لازم في العطف كما قاله أبو حيان وغيره وفيه خلاف وفي الكشف لك أن تجعله من باب وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم: 46] أي فاخذلهم ولا تزدهم وفي العدول إلى الظَّالِمِينَ إشعار باستحقاقهم الدعاء عليهم وإبداء لعذره عليه السلام وتحذير ولطف لغيرهم، وفيه أنه بعض ما يتسبب من مساوئهم وهو معنى حسن فعنده العطف على محذوف إنشائي ولعل الأولى أن يقال إن العطف على رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي والواو من المحكي والتناسب حاصل. وقال الخفاجي: الظاهر أن الغرض من قوله رَبِّ إِنَّهُمْ إلخ الشكاية وإبداء العجز واليأس منهم. فهو طلب للنصرة عليهم كقوله رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ [الدخان: 22] ولو لم يقصد ذلك تكرر مع ما مر منه عليه السلام فحينئذ يكون كناية عن قوله اخذلهم أو انصرني أو أظهر دينك أو نحوه فهو من عطف الإنشاء على الإنشاء من غير تقدير ويشهد له أن الله تعالى سمى مثله دعاء حيث قال سبحانه فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ [الدخان: 22] فتدبر وهو حسن خال عن التكلف وارتكاب المختلف فيه إلّا أن في الشهادة دغدغة والمراد بالضلال المدعو بزيادته إما الضلال في ترويج مكرهم ومصالح دنياهم فيكون ذلك دعاء عليهم بعدم تيسير أمورهم وإما الضلال بمعنى الهلاك كما في قوله تعالى إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ [القمر: 47] وهو مأخوذ من الضلال في الطريق لأن من ضل فيها هلك فيكون المعنى أهلكهم. وفسره ابن بحر بالعذاب وهو قريب مما ذكر وقيل هو على ظاهره أعني الضلال في الدين والدعاء بزيادته إنما كان بعد ما أوحى إليه عليه السلام أنه لن يؤمن من قومك إلّا من قد آمن ومآله الدعاء عليهم بزيادة عذابهم ويحتاج إلى دليل وبما سمعت ينحل ما يقال إن طلب الضلال ونحوه إما غير جائز مطلقا أو إذا دعي به على وجه الاستحسان وبدونه وإن(15/87)
كان جائزا لكنه غير ممدوح ولا مرضي فكيف دعا بذلك نوح عليه السلام عليهم مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أي من أجل خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا بالطوفان لا من أجل أمر آخر فمن تعليلية وما زائدة بين الجار والمجرور لتعظيم الخطايا في كونها من كبائر ما ينهى عنه ومن لم ير زيادتها جعلها نكرة وجعل خَطِيئاتِهِمْ بدلا منها. وزعم ابن عطية أن (من) لابتداء الغاية وهو كما ترى. وقرأ أبو رجاء «خطياتهم» بإبدال الهمزة ياء وإدغامها في الياء. وقرأ الجحدري وعبيد عن أبي عمرو «خطيئتهم» على الإفراد مهموزا وقرأ الحسن وعيسى والأعرج بخلاف عنهم وأبو عمرو «خطاياهم» جمع تكسير وقرأ عبد الله «من خطيئاتهم ما أغرقوا» بزيادة «ما» بين خَطِيئاتِهِمْ وأُغْرِقُوا وخرج على أنها مصدرية أي بسبب خطيئاتهم إغراقهم وقرأ زيد بن علي «غرّقوا» بالتشديد بدل الهمزة وكلاهما للنقل فَأُدْخِلُوا ناراً هي نار البرزخ والمراد عذاب القبر ومن مات في ماء أو نار أو أكلته السباع أو الطير مثلا أصابه ما يصيب المقبور من العذاب وقال الضحاك: كانوا يغرقون من جانب ويحرقون بالنار من جانب وأنشد ابن الأنباري:
الخلق مجتمع طورا ومفترق ... والحادثان فنون ذات أطوار
لا تعجبن لأضداد إذا اجتمعت ... فالله يجمع بين الماء والنار
ويجوز أن يراد بها نار الآخرة والتعقيب على الأول ظاهر وهو على هذا لعدم الاعتداد بما بين الإغراق والإدخال فكأنه شبه تخلل ما لا يعتد به بعدم تخلل شيء أصلا، وجوز أن تكون فاء التعقيب مستعارة للسببية لأن المسبب كالمتعقب للسبب وإن تراخى عنه لفقد شرط أو وجود مانع وتنكير النار إما لتعظيمها وتهويلها أو لأنه عزّ وجلّ أعدّ لهم على حسب خطيئاتهم نوعا من النار ولا يخفى ما في أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً من الحسن الذي لا يجارى ولله تعالى در التنزيل فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً أي فلم يجد أحدهم واحدا من الأنصار وفيه تعريض لاتخاذهم آلهة من دونه سبحانه وتعالى وبأنها غير قادرة على نصرهم وتهكم بهم وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً عطف على نظيره السابق وقوله تعالى مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ إلخ اعتراض وسط بين دعائه عليه السلام للإيذان من أول الأمر بأن ما أصابهم من الإغراق والإحراق لم يصبهم إلّا لأجل خطيئاتهم التي عدها نوح عليه السلام وأشار إلى استحقاقهم للهلاك لأجلها لا أنه حكاية لنفس الإغراق والإحراق على طريقة حكاية ما جرى بينه عليه السلام وبينهم من الأحوال والأقوال وإلّا لأخر عن حكاية دعائه هذا قاله مفتي الديار الرومية عليه الرحمة. وما قيل إنه عطف على لم يجدوا أو على جملة مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ إلخ وليس المراد حقيقة الدعاء بل التشفي وإظهار الرضا بما كان من هلاكهم بعيد غاية البعد والمعروف أن هذا الدعاء كان قبل هلاكهم والديار من الأسماء التي لا تستعمل إلّا في النفي العام يقال: ما بالدار ديار أو ديور كقيام وقيوم أي ما بها أحد وهو فيعال من الدار أو من الدور كأنه قيل لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ من يسكن دارا أو لا تذر عليها منهم من يدور ويتحرك وأصله ديوار اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء وليس بفعال وإلّا لكان دوارا إذ لا داعي للقلب حينئذ ومِنَ الْكافِرِينَ حال منه ولو أخر كان صفة له والمراد بالكافرين قومه الذين دعاهم إلى الإيمان والطاعة فلم يجيبوا فإن كان الناس منتشرين في مشارق الأرض ومغاربها نحو انتشارهم اليوم وكانت بعثته لبعض منهم كسكان جزيرة العرب ومن يقرب منهم فذاك وإن كانوا غير منتشرين كذلك بل كانوا في الجزيرة وقريبا منها فإن كانت البعثة لبعضهم أيضا فكذلك وإن كانت لكلهم فقد استشكل بأنه يلزم عموم البعثة وقد قالوا بأنه مخصوص بنبينا صلّى الله عليه وسلم وأجيب بأن ذلك العموم ليس كعموم بعثته صلّى الله عليه وسلم بل لانحصار أهل الأرض في قطعة منها فهو انحصار ضروري وليس عموما من(15/88)
كل وجه، وهذا نحو ما يقال في بعثة آدم عليه السلام إلى زوجته وأولاده فإنهم حينئذ ليسوا إلّا كأهل بيت واحد على أنه قيل لا إشكال ولو قلنا بانتشار الناس إذ ذاك كانتشارهم اليوم وإرساله إليهم جميعا لأن العموم المخصوص بنبينا عليه الصلاة والسلام هو العموم المندرج فيه الإنس والجن إلى يوم القيامة بل الملائكة عليهم السلام بل وبل والمشهور أنه عليه السلام كان مبعوثا لجميع أهل الأرض وأنه ما آمن منهم إلا قليل واستدل عليه بهذا الدعاء وعموم الطوفان وتعقب بأن الأرض كثيرا ما تطلق على قطعة منها فيحتمل أن تكون هنا كذلك سلمنا إرادة الجميع لكن الدعاء على الكافرين وهم من بعث إليهم فدعاهم ولم يجيبوه وكونهم من عدا أهل السفينة أول المسألة والطوفان لا نسلم عمومه وإن سلم لا يقتضي أن يكون كل من غرق به مكلفا بالإيمان به عليه السلام عاصيا بتركه، فالبلاء قد يعم الصالح والطالح لكن يصدرون مصادر شتى كما ورد في حديث خسف البيداء ويرشد إلى هذا أن أولادهم قد أغرقوا على ما قيل معهم. وقد سئل الحسن عن ذلك فقال: علم الله تعالى براءتهم فأهلكهم بغير عذاب. نعم الحكمة في إهلاك هؤلاء زيادة عذاب في آبائهم وأمهاتهم إذا ابصروا أطفالهم يغرقون وزعم بعضهم أن الله تعالى أعقم أرحام نسائهم وأيبس أصلاب رجالهم قبل الطوفان بأربعين أو سبعين سنة فلم يكن معهم صبي حين أغرقوا ويحتاج إلى نقل صحيح وحكم الله عزّ وجلّ لا تحصى فافهم إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ أي على الأرض كلا أو بعضا يُضِلُّوا عِبادَكَ عن طريق الحق ولعل المراد بهم من آمن به عليه السلام وبإضلالهم إياهم ردهم إلى الكفر بنوع من المكر أو المراد بهم من ولد منهم ولم يبلغ زمن التكليف أو من يولد من أولئك المؤمنين ويدعى إلى الإيمان، وبإضلالهم إياهم صدهم عن الإيمان وفي بعض الأخبار أن الرجل منهم كان يأتي بابنه إليه عليه السلام ويقول: احذر هذا فإنه كذاب وإن أبي أوصاني بمثل هذه الوصية فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك قيل ومن هنا قال عليه السلام وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً أي من سيفجر ويكفر فوصفهم بما يصيرون إليه لاستحكام علمه بذلك بما حصل له من التجربة ألف سنة إلّا خمسين عاما ومثله قوله عليه السلام إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وقيل أراد من جبل على الفجور والكفر وقد علم كل ذلك بوحي كقوله سبحانه لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود: 36] وعن قتادة ومحمد بن كعب والربيع وابن زيد أنه عليه السلام ما دعا عليهم إلا بعد أن أخرج الله تعالى كل مؤمن من الأصلاب وأعقم أرحام نسائهم وأيّا ما كان فقوله إِنَّكَ إلخ اعتذار مما عسى أن يقال من أن الدعاء بالاستئصال مع احتمال أن يكون من أخلافهم من يؤمن مما لا يليق بشأن الأنبياء عليهم السلام رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ أراد أباه لمك بن متوشلخ (1) وقد تقدم ضبط ذلك وأمه شمخي بالشين والخاء المعجمتين بوزن سكرى بنت أنوش بالإعجام بوزن أصول وكانا مؤمنين ولولا ذلك لم يجز الدعاء لهما بالمغفرة وقيل أراد بهما آدم وحواء وقرأ ابن جبير والجحدري «ولوالدي» بكسر الدال وإسكان الياء فإما أن يكون قد خص أباه الأقرب أو أراد جميع من ولدوه إلى آدم عليه السلام ولم يكفر كما قال ابن عباس لنوح أب ما بينه وبين أدم عليه السلام وقرأ الحسين بن عليّ كرم الله وجههما ورضي عنهما وزيد بن عليّ بن الحسين رضي الله تعالى عنهم ويحيى بن يعمر والنخعي والزهري «ولولديّ» تثنية ولد يعني ساما وحاما على ما قيل وفي رواية أن ساما كان نبيا وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ قيل أراد منزله وقيل سفينته وقال الجمهور وابن عباس: أراد مسجده وفي رواية عن الحبر أنه أراد شريعته استعار لها اسم البيت كما قالوا قبة الإسلام وفسطاط الدين والمتبادر
__________
(1) قوله وقد تقدم ضبط ذلك لكن قيل في لمك أنه بفتحتين ويقال فيه لا مك كهاجر ومتوشلخ على ما في جامع الأصول بضم الميم وفتح الفوقية وفتح الواو وبسكون الشين المعجمة وكسر اللام وبالخاء المعجمة اهـ منه.(15/89)
المنزل وتخرج امرأته وابنه كنعان بقوله مُؤْمِناً وقيل يمكن أنه لم يجزم بخروج كنعان إلا بعد ما قيل له أنه ليس من أهلك وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي من كل أمة إلى يوم القيامة وهو تعميم بعد التخصيص واستغفر ربه عزّ وجلّ إظهارا لمزيد الافتقار إليه سبحانه وحبا للمستغفر لهم من والديه والمؤمنين وقيل إنه استغفر لما دعا على الكافرين لأنه انتقام منهم ولا يخفى أن السياق يأباه وكذا قوله وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً أي هلاكا وقال مجاهد خسارا والأول أظهر وقد دعا عليه السلام دعوتين دعوة على الكافرين ودعوة للمؤمنين وحيث استجيبت له الأولى فلا يبعد أن تستجاب له الثانية والله تعالى أكرم الأكرمين ومعظم آيات هذه السورة الكريمة وغيرها نص في أن القوم كفرة هالكون يوم القيامة فالحكم بنجاتهم كما يقتضيه كلام الشيخ الأكبر قدس سره في فصوصه مما يبرأ إلى الله تعالى منه كزعم أن نوحا عليه السلام لم يدعهم على وجه يقتضي إيمانهم مع قوله سبحانه اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام:
124] وقصارى ما أقول رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات.(15/90)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)
سورة الجنّ
بسم الله الرحمن الرحيم وتسمى قل أوحى إليّ وهي مكية بالاتفاق وآيها بلا خلاف ثمان وعشرون آية ووجه اتصالها قال الجلال السيوطي فكرت فيه مدة فلم يظهر لي سوى أنه سبحانه قال في سورة [نوح: 10، 11] اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وقال عز وجل في هذه السورة لكفار مكة وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً [الجن: 16] وهذا وجه بين في الارتباط انتهى وفي قوله لكفار مكة شيء ستعلمه إن شاء الله تعالى ويجوز أن يضم إلى ذلك اشتمال هذه السورة على شيء مما يتعلق بالسماء كالسورة السابقة وذكر العذاب لمن يعصي الله عز وجل في قوله سبحانه وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً [الجن: 23] فإنه يناسب قوله تعالى أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً [نوح: 25] على وجه وقال أبو حيان في ذلك أنه تعالى لما حكى تمادي قوم نوح في الكفر والعكوف على عبادة الأصنام وكان أول رسول إلى أهل الأرض كما أن محمدا صلّى الله عليه وسلم آخر رسول إلى أهل الأرض والعرب الذين هو منهم صلّى الله عليه وسلم كانوا عباد أصنام كقوم نوح حتى أنهم عبدوا أصناما مثل أصنام أولئك في الأسماء أي أو عينها وكان ما جاء به عليه الصلاة والسلام هاديا إلى الرشد وقد سمعته العرب وتوقف عن الإيمان به أكثرهم أنزل الله تعالى سورة الجن وجعلها إثر سورة نوح تبكيتا لقريش والعرب في كونهم تباطؤوا عن الإيمان وكانت الجن خيرا منهم إذ أقبل للإيمان من أقبل منهم وهم من غير جنس الرسول عليه الصلاة والسلام حتى كادوا يكونون عليه لبدا ومع ذلك التباطي فهم مكذبون له ولما جاء به حسدا وبغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فقال عز من قائل:(15/91)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ وقرأ ابن أبي عبلة والعتكي عن أبي عمرو وجؤبة بن عائذ الأسدي «وحّي» بلا همزة وهو بمعنى أوحي بالهمز ومنه قول العجاج:
وحي لها القرار فاستقرت وقرأ زيد بن علي وجؤبة فيما روى عنه الكسائي وابن أبي عبلة في رواية «أحي» بإبدال واو وحي همزة كما قالوا في وعد أعد قال الزمخشري وهو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة وقد أطلقه المازني في المكسورة أيضا كإشاح وإعاء وإسادة وهذا أحد قولين للمازني والقول الآخر قصر ذلك على السماع وما ذكره من إطلاق الجواز في المضمومة تعقب بأن المضمومة قد تكون أولا وحشوا وآخرا ولكل منها أحكام وفي بعضها خلاف وتفصيل مذكور في كتب النحو فليراجع وزاد بعض الأجلة قلب الواو والمضموم ما قبلها فقال إنه أيضا مقيس مطرد وإنه قد يرد ذلك في المفتوحة كأحد وعلى جميع القراءات الجار متعلق بما عنده ونائب الفاعل أَنَّهُ إلخ على أنه في تأويل المصدر والضمير للشأن اسْتَمَعَ أي القرآن كما ذكر في الأحقاق وقد حذف لدلالة ما بعده عليه نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ النفر في المشهور ما بين الثلاثة والعشرة. وقال الحريري في درته: إن النفر إنما يقع على الثلاثة من الرجال إلى العشرة وقد وهم في ذلك فقد يطلق على ما فوق العشرة في الفصيح وقد ذكره غير واحد من أهل اللغة وفي كلام الشعبي حدثني بضعة عشر نفرا ولا يختص بالرجال بل ولا بالناس لإطلاقه على الجن هنا وفي المجمل الرهط والنفر يستعمل إلى الأربعين والفرق بينهما أن الرهط يرجعون إلى أب واحد بخلاف النفر وقد يطلق على القوم ومنه قوله تعالى وَأَعَزُّ نَفَراً [الكهف: 34] وقول امرئ القيس:
فهو لا تنمى (1) رميته ... ما له لا عد من نفره
وقال الإمام الكرماني للنفر معنى آخر في العرف وهو الرجل وأراد بالعرف عرف اللغة لأنه فسر به الحديث الصحيح فليحفظ والْجِنِّ واحده جني كروم ورومي وهم أجسام عاقلة تغلب عليها النارية كما يشهد له قوله تعالى وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ [الرحمن: 15] وقيل الهوائية قابلة جميعها أو صنف منها للتشكل بالأشكال المختلفة من شأنها الخفاء، وقد ترى بصور غير صورها الأصلية بل وبصورها الأصلية التي خلقت عليها كالملائكة عليهم السلام وهذا للأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم ومن شاء الله تعالى
__________
(1) قوله تنمى إلخ يقال أنمى إذا توارى اهـ منه.(15/92)
من خواص عباده عز وجل، ولها قوة على الأعمال الشاقة ولا مانع عقلا من أن تكون بعض الأجسام اللطيفة النارية مخالفة لسائر أنواع الجسم اللطيف في الماهية ولها قبول لإفاضة الحياة والقدرة على أفعال عجيب مثلا.
وقد قال أهل الحكمة الجديدة بأجسام لطيفة أثبتوا لها من الخواص ما يبهر العقول فلتكن أجسام الجن على ذلك النحو من الأجسام وعالم الطبيعة أوسع من أن تحيط بحصر ما أودع فيه الأفهام وأكثر الفلاسفة على إنكار الجن. وفي رسالة الحدود لابن سينا الجني حيوان هوائي متشكل بأشكال مختلفة وهذا شرح الاسم وظاهره نفي أن يكون لهذه الحقيقة وجود في الخارج ونفي ذلك كفر صريح كما لا يخفى، واعترف جمع عظيم من قدماء الفلاسفة وأصحاب الروحانيات بوجودهم ويسمونهم بالأرواح السفلية والمشهور أنهم زعموا أنها جواهر قائمة بأنفسها ليست أجساما ولا جسمانية وهي أنواع مختلفة بالماهية كاختلاف ماهيات الأعراض فبعضها خيرة وبعضها شريرة ولا يعرف عدد أنواعها وأصنافها إلّا الله عز وجل ولا يبعد على هذا أن يكون في أنواعها ما يقدر على أفعال شاقة عظيمة يعجز عنها البشر بل لا يبعد أيضا على ما قيل أن يكون لكل نوع منها تعلق بنوع مخصوص من أجسام هذا العالم ومن الناس من زعم أن الأرواح البشرية والنفوس الناطقة إذا فارقت أبدانها ازدادت قوة وكمالا بسبب ما في ذلك العالم الروحاني من انكشاف الأسرار الروحانية فإذا اتفق حدوث بدن آخر مشابه لما كان لتلك النفس المفارقة من البدن تعلقت تلك النفس به تعلقا ما وتصير كالمعاونة لنفس ذلك البدن في أفعالها وتدبيرها لذلك البدن فإن اتفقت هذه الحالة في النفوس الخيرة سمي ذلك المعين ملكا وتلك الإعانة إلهاما وإن اتفقت في النفوس الشريرة سمي ذلك المعين شيطانا وتلك الإعانة وسوسة والكل مخالف لأقوال السلف. وظاهر الآيات والأحاديث وجمهور أرباب الملل معترفون بوجودهم كالمسلمين وإن اختلفوا في حقيقتهم وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من آكام المرجان. وفي التفسير الكبير طرف مما يتعلق بذلك فارجع إليه إن أردته. واختلف في عدد المستمعين فقيل سبعة فعن زر ثلاثة من أهل حران وأربعة من أهل نصيبين قرية باليمن غير القرية التي بالعراق، وعن عكرمة أنهم كانوا اثني عشر ألفا من جزيرة الموصل وأين سبعة أو تسعة من اثني عشر ألفا ولعل النفر عليه القوم وفي الكشاف كانوا من الشيصبان وهم أكثر الجن عددا وعامة جنود إبليس منهم، والآية ظاهرة في أنه صلّى الله عليه وسلم علم استماعهم له بالوحي لا بالمشاهدة وقد وقع في الأحاديث أنه عليه الصلاة والسلام رآهم وجمع ذلك بتعدد القصة قال في آكام المرجان ما محصله في الصحيحين في حديث ابن عباس ما قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم وإنما انطلق بطائفة من الصحابة لسوق عكاظ قد حيل بين الجن والسماء بالشهب فقالوا: ما ذاك إلا لشيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فمر من ذهب لتهامة منهم به عليه الصلاة والسلام وهو يصلي الفجر بأصحابه بنخلة فلما استمعوا له قالوا: هذا الذي حال بيننا وبين السماء ورجعوا إلى قومهم وقالوا: يا قومنا إلخ فأنزل الله تعالى عليه قُلْ أُوحِيَ إلخ ثم قال ونفى ابن عباس إنما هو في هذه القصة واستماعهم تلاوته صلّى الله عليه وسلم في الفجر في هذه القصة لا مطلقا ويدل عليه قوله تعالى وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ [الأحقاف: 29] إلخ فإنها تدل على أنه عليه الصلاة والسلام كلمهم ودعاهم وجعلهم رسلا لمن عداهم كما قاله البيهقي وروى أبو داود عن علقمة عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أتاني داعي الجن فذهبت معه وقرأت عليهم القرآن قال وانطلق بنا وأرانا آثارهم وآثار نيرانهم»
إلخ وقد دلت الأحاديث على أن وفادة الجن كانت ست مرات. وقال ابن تيمية إن ابن عباس علم ما دل عليه القرآن ولم يعلم ما علمه ابن مسعود وأبو هريرة من إتيان الجن له صلّى الله عليه وسلم ومكالمتهم إياه عليه الصلاة والسلام وقصة الجن كانت قبل الهجرة بثلاث سنين. وقال الواقدي كانت سنة إحدى عشرة من(15/93)
النبوة وابن عباس ناهز الحلم في حجة الوداع فقد علمت أن قصة الجن وقعت ست مرات.
وفي شرح البيهقي من طرق شتى عن ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلّى العشاء ثم انصرف فأخذ بيدي حتى أتينا مكان كذا فأجلسني وخط عليّ خطا ثم قال: «لا تبرحن خطك» فبينما أنا جالس إذ أتاني رجال منهم كأنهم الزط فذكر حديثا طويلا وأنه صلّى الله عليه وسلم ما جاء إلى السحر قال وجعلت أسمع الأصوات ثم جاء عليه الصلاة والسلام فقلت:
أين كنت يا رسول الله؟ فقال: «أرسلت إليّ الجن» فقلت: ما هذه الأصوات التي سمعت؟ قال: «هي أصواتهم حين ودعوني وسلموا علي»
وقد يجمع الاختلاف في القلة والكثرة بأن ذلك لتعدد القصة أيضا والله تعالى أعلم. واختلف فيما استمعوه فقال عكرمة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] وقيل سورة الرحمن فَقالُوا أي لقومهم عند رجوعهم إليهم إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً أي كتابا مقروءا على ما فسره به بعض الأجلة وفسر بذلك للإشارة إلى أن ما ذكروه في وصفه مما يأتي وصف له كله دون المقروء منه فقط، والمراد أنه من الكتب السماوية والتنوين للتفخيم أي قرآنا جليل الشأن عَجَباً بديعا مباينا لكلام الناس في حسن النظم ودقة المعنى وهو مصدر وصف به للمبالغة يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ إلى الحق والصواب وقيل إلى التوحيد والإيمان وقرأ عيسى «الرشد» بضمتين وعنه أيضا فتحهما فَآمَنَّا بِهِ أي بذلك القرآن من غير ريث وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً حسبما نطق به ما فيه من دلائل التوحيد أو حسبما نطق به الدلائل العقلية على التوحيد ولم تعطف هذه الجملة بالفاء قال الخفاجي لأن نفيهم للإشراك إما لما قام عندهم من الدليل العقلي فحينئذ لا يترتب على الإيمان بالقرآن وإما لما سمعوه من القرآن فحينئذ يكفي في ترتبها عليه عطف الأول بالفاء خصوصا والباء في به تحتمل السببية فيعم الإيمان به الإيمان بما فيه فإنك إذا قلت ضربته فتأدب وانقاد لي فهم ترتب الانقياد على الضرب ولو قلت فانقاد لم يترتب على الأول بل على ما قبله. وقيل: عطفت بالواو ولتفويض الترتب إلى ذهن السامع وقد يقال إن مجموع فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ مسبب عن مجموع إِنَّا سَمِعْنا إلخ فكونه قرآنا معجزا يوجب الإيمان به وكونه يهدي إلى الرشد يوجب قلع الشرك من أصله والأول أولى وجوز أن يكون ضمير به لله عز وجل لأن قوله سبحانه بِرَبِّنا يفسره فلا تغفل وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا اختلفوا قراءة في أن هذه وما بعدها إلى وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وتلك اثنتا عشرة فقرأها ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف وحفص بفتح الهمزة فيهن ووافقهم أبو جعفر في ثلاثة ما هنا وأنه كان يقول وإنه كان رجال وقرأ الباقون بكسرها في الجميع واتفقوا على الفتح في أَنَّهُ اسْتَمَعَ وأَنَّ الْمَساجِدَ [الحج: 18] لأن ذلك لا يصح أن يكون من قول الجن بل هو مما أوحى بخلاف الباقي فإنه يصح أن يكون من قولهم ومما أوحى واختلفوا في أنه لما قام فقرأ نافع وأبو بكر بكسر الهمزة والباقون بفتحها كذا فصله بعض الأجلة وهو المعول عليه ووجه الكسر في أن هذه وما بعدها إلى وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ ظاهر كالكسر في إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً لظهور عطف الجمل على المحكي بعد القول ووضوح اندراجها تحته، وأما وجه الفتح ففيه خفاء ولذا اختلف فيه فقال الفراء والزجاج والزمخشري هو العطف على محل الجار والمجرور في فَآمَنَّا بِهِ كأنه قيل صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا وأنه كان يقول سفيهنا وكذلك البواقي ويكفي في إظهاره المحل إظهار مع المرادف وليس من العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار الممنوع عند البصريين في شيء وإن قيل به هنا بناء على مذهب الكوفيين المجوزين له ولو قيل إنه بتقدير الجار لاطراد حذفه قبل أن وإن لكان سديدا كما في الكشف وضعف مكي العطف على ما في حيز (آمنا) فقال فيه بعد في المعنى لأنهم لم يخبروا أنهم آمنوا بأنهم لما سمعوا الهدى آمنوا به ولا أنهم آمنوا بأنه كان رجال إنما حكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا ذلك مخبرين عن(15/94)
أنفسهم لأصحابهم وأجيب عن الذاهبين إليه بأن الإيمان والتصديق يحسن في بعض تلك المعطوفات بلا شبهة فيمضي في البواقي ويحمل على المعنى على حد قوله:
وزججن الحواجب والعيونا فيخرج على ما خرج عليه أمثاله فيؤول صدقنا بما يشمل الجميع أو يقدر مع كل ما يناسبه وقال أبو حاتم هو العطف على نائب فاعل أوحى أعني أنه استمع كما في أن المساجد على أن الموحى عين عبارة الجن بطريق الحكاية كأنه قيل قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ كيت وكيت وهذه العبارات وتعقب بأن حكاية عباراتهم تقتضي أن تكون أن في كلامهم مفتوحة الهمزة ولا يظهر ذلك إلا أن يكون في كلامهم ما يقتضي الفتح كاسمعوا أو اعلموا أو نخبركم لكنه أسقط وقت الحكاية ولا يظهر لإسقاطه وجه وعلى تقدير الظهور فالفتح ليس لأجل العطف فإن النائب عن الفاعل عليه مجموع كل جملة على إرادة اللفظ دون المنسبك من أن وما بعدها وإلّا لما صح أن يقال الموحى كيت وكيت وهذه العبارات فإن كانت أن في كلامهم مكسورة الهمزة وصحت دعوى أن الحكاية اقتضت فتحها مع صحة إرادة هذه العبارات معه فذاك وإلّا فالأمر كما ترى فافهم وتأمل والجد العظمة والجلال يقال جد في عيني أي عظم وجل أي وصدقنا أن الشأن ارتفع عظمة وجلال ربنا أي عظمت عظمته عز وجل وفيه من المبالغة ما لا يخفى وقال أبو عبيدة والأخفش الملك والسلطان وقيل الغني وهو مروي عن أنس والحسن في الآية والأول مروي عن الجمهور والجد على جميع هذه الأوجه مستعار من الجد الذي هو البخت وقوله عز وجل مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً عليها تفسير للجملة وبيان لحكمها ولذا لم يعطف عليها فالمراد وصفه عز وجل بالتعالي عن الصاحبة والولد لعظمته أو لسلطانه أو لغناه سبحانه وتعالى وكأنهم سمعوا من القرآن ما نبههم على خطأ ما اعتقده كفرة الجن من تشبيهه سبحانه بخلقه في اتخاذ الصاحبة والولد فاستعظموه ونزّهوه تعالى عنه. وقرأ حميد بن قيس «جد» بضم الجيم قال في البحر ومعناه العظيم حكاه سيبويه وإضافته إلى رَبِّنا من إضافة الصفة إلى الموصوف والمعنى تعالى ربنا العظيم وقرأ عكرمة «جد» منونا مرفوعا «ربّنا» بالرفع وخرج على أن الجد بمعنى العظيم أيضا و «ربنا» خبر مبتدأ محذوف أي هو ربنا أو بدل من «جد» وقرأ أيضا «جدا» منونا منصوبا على أنه تميز محول عن الفاعل وقرأ هو أيضا وقتادة «جدا» بكسر الجيم والتنوين والنصب «ربّنا» بالرفع قال ابن عطية نصب «جدا» على الحال والمعنى تعالى ربنا حقيقة ومتمكنا وقال غيره هو صفة لمصدر محذوف أي تعاليا جدا وقرأ ابن السميفع «جدا ربنا» أي جدواه ونفعه سبحانه وكان المراد بذلك الغنى فلا تغفل وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا هو إبليس عند الجمهور وقيل مردة الجن والإضافة للجنس والمراد سفهاؤنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً أي قولا ذا شطط أي بعد عن القصد ومجاوزة الحد أو هو في نفسه شطط لفرط بعده عن الحق وهو نسبة الصاحبة والولد إليه عز وجل وتعلق الإيمان والتصديق بهذا القول بناء على ما يقتضيه العطف على ما في حيز فَآمَنَّا ليس باعتبار نفسه فإنهم كانوا عالمين بقول سفيههم من قبل بل باعتبار كونه شططا كأنه قيل وصدقنا أن ما كان يقول سفيهنا في حقه سبحانه كان شططا وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً اعتذار منهم عن تقليدهم لسفيههم أي كنا نظن أن لن يكذب على الله تعالى أحد فينسب إليه سبحانه الصاحبة والولد ولذلك اعتقدنا صحة قول السفيه ولعل الإيمان متعلق بما يشعر به كلامهم هذا وينساق إليه من خطئهم في ظنهم كأنه قيل وصدقنا بخطئنا في ظننا الذي لأجله اعتقدنا ما اعتقدنا وكَذِباً مصدر مؤكد لتقول لأنه نوع من القول كما(15/95)
في قعدت القرفصاء أو وصف لمصدر محذوف أي قولا كذبا أي مكذوبا فيه لأنه لا يتصور صدور الكذب منه وإن اشتهر توصيفه به كالقائل وجوز أن يكون من الوصف بالمصدر مبالغة وهي راجعة للنفي دون المنفي.
وقرأ الحسن والجحدري وعبد الرحمن بن أبي بكرة ويعقوب وابن مقسم «تقول» مضارع تقول وأصله تتقول بتاءين فحذفت إحداهما فكذبا مصدر مؤكد لأن الكذب هو التقول وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ كان الرجل من العرب إذا أمسى في واد قفر وخاف على نفسه نادى بأعلى صوته يا عزيز هذا الوادي أعوذ بك من السفهاء الذين في طاعتك يريد الجن وكبيرهم فإذا سمعوا بذلك استكبروا وقالوا سدنا الجن والإنس وذلك قوله تعالى فَزادُوهُمْ أي زاد الرجال العائذون الجن رَهَقاً أي تكبرا وعتوا فالضمير المرفوع لرجال الإنس إذ هم المحدث عنهم والمنصوب لرجال الجن وهو قول مجاهد والنخعي وعبيد بن عمير وجماعة إلّا أن منهم من فسر الرهق بالإثم وأنشد الطبري لذلك قول الأعشى:
لا شيء ينفعني من دون رؤيتها ... لا يشتكي وامق ما لم يصب رهقا
فإنه أراد ما لم يغش محرما فالمعنى هنا فزادت الإنس والجن مأثما لأنهم عظموهم فزادوهم استحلالا لمحارم الله تعالى أو فزاد الجن العائذين غيّا بأن أضلوهم حتى استعاذوا بهم فالضميران على عكس ما تقدم وهو قول قتادة وأبي العالية والربيع وابن زيد والفاء على الأول للتعقيب وعلى هذا قيل للترتيب الإخباري.
وذهب الفراء إلى أن ما بعد الفاء قد يتقدم إذا دل عليه الدليل كقوله تعالى وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا [الأعراف: 4] وجمهور النحاة على خلافه وقيل في الكلام حذف أي فاتبعوهم فزادوهم. والآية ظاهرة في أن لفظ الرجال يطلق على ذكور الجن كما يطلق على ذكور الإنس. وقيل لا يطلق على ذكور الجن ومِنَ الْجِنِّ في الآية متعلق ب يَعُوذُونَ ومعناها أنه كان رجال من الإنس يعوذون من شر الجن برجال من الإنس وكان الرجل يقول مثلا أعوذ بحذيفة بن بدر من جن هذا الوادي وهو قول غريب مخالف لما عليه الجمهور المؤيد بالآثار، ولعل تعلق الإيمان بهذا باعتبار ما يشعر به من كون ذلك ضلالا موجبا لزيادة الرهق.
وقد جاء في بعض الأخبار ما يقال بدل هذه الاستعاذة
ففي حديث طويل أخرجه أبو نصر السجزي في الإبانة من طريق مجاهد عن ابن عباس وقال غريب جدا أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا أصاب أحدا منكم وحشة أو نزل بأرض مجنة فليقل أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزها بر ولا فاجر من شر ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل السماء وما يعرج فيها ومن فتن النهار ومن طوارق الليل إلّا طارقا يطرق بخير»
وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا أي الإنس كَما ظَنَنْتُمْ أيها الجن على أنه كلام بعضهم لبعض أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً أي من الرسل أحد من العباد وقيل إنه لن يبعث سبحانه أحدا بعد الموت وأيّا ما كان فالمراد وقد أخطؤوا وأخطأتم ولعله متعلق الإيمان وقيل المعنى أن الجن ظنوا كما ظننتم أيها الكفرة أن لن إلخ فتكون هذه الآية من جملة الكلام الموحى به معطوفة على قوله تعالى أَنَّهُ اسْتَمَعَ وعلى قراءة الكسر تكون استئنافا من كلامه تعالى وكذا ما قبلها على ما قيل وفي الكشاف قيل الآيتان يعني هذه وقوله تعالى وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ إلخ من جملة الموحى وتعقب ذلك في الكشف بأن فيه ضعفا لأن قوله سبحانه وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ إلخ من كلام الجن أو مما صدقوه على القراءتين لأن من الموحى إليه فتخلل ما تخلل ما تخلل وليس اعتراضا غير جائز إلّا أن يؤول بأنه يجري مجراه لكونه يؤكد ما حدث عنهم في تماديهم في الكفر أولا ولا يخفى ما فيه من التكلف انتهى. وأبو السعود اختار في جميع الجمل المصدرة بأنا العطف على أَنَّهُ اسْتَمَعَ على نحو ما سمعت عن أبي حاتم وقد سمعت ما فيه آنفا وأن مخففة من الثقيلة اسمها ضمير الشأن والجملة بعدها خبر وجملة أن لن يبعث إلخ(15/96)
قيل سادة مسد مفعولي ظنوا وجوز أن تكون سادة مسد مفعولي ظننتم ويكون الساد مسد مفعولي الأول محذوفا كما هو المختار في أمثال ذلك ورجح الأول في الآية بأن ظَنُّوا هو المقصود فيها فجعل المعمول المذكور له أحسن وأما كَما ظَنَنْتُمْ فمذكور بالتبع ومنه يعلم أن كون المختار أعمال الثاني في باب التنازع ليس على إطلاقه وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ أي طلبنا بلوغها لاستماع كلام أهلها أو طلبنا خبرها. واللمس قيل مستعار من المس للطلب كالجس يقول لمسه والتمسه وتلمسه كطلبه وأطلبه وتطلبه. والظاهر أن الاستعارة هنا لغوية لأنه مجاز مرسل لاستعماله في لازم معناه والسماع على ظاهرها فَوَجَدْناها أي صادفناها وأصبناها فوجد متعد لواحد وقوله تعالى مُلِئَتْ في موضع الحال بتقدير قد أو بدونه وإن كانت وجد من أفعال القلوب فهذه الجملة في موضع المفعول الثاني وقرأ الأعرج «مليت» بالياء دون همز حَرَساً أي حرسا اسم جمع كخدم كما ذهب إليه جمع لأنه على وزن يغلب في المفردات كبصر وقمر ولذا نسب إليه فقيل حرسي وذهب بعض إلى أنه جمع والصحيح الأول ولذا وصف بالمفرد فقيل شَدِيداً أي قويا ونحوه قوله:
ننيته بعصبة من ماليا ... أخشى رجيلا وركيبا عاديا
ولو روعي معناه جمع بأن يقال شدادا إلّا أن ينظر لظاهر وزن فعيل فإنه يستوي فيه الواحد والجمع والمراد بالحرس الملائكة عليهم السلام الذين يمنعونهم عن قرب السماء وَشُهُباً جمع شهاب وقد مر الكلام فيه وجوز بعضهم أن يكون المراد بالحرس الشهب والعطف مثله في قوله:
وهند أتى من دونها النأي والبعد وهو خلاف الظاهر ودخول أَنَّا لَمَسْنَا إلخ في حيز الإيمان وكذا أكثر الجمل الآتية في غاية الخفاء والظاهر تقدير نحو نخبركم فيما لا يظهر دخوله في ذلك أو تأويل (آمنا) من أول الأمر بما ينسحب على الجميع وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ قبل هذا مِنْها أي من السماء مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ أي مقاعد كائنة للسمع خالية عن الحرس والشهب أو صالحة للترصد والاستماع ولِلسَّمْعِ متعلق بنقعد أي لأجل السمع أو بمضمر هو صفة لمقاعد وكيفية قعودهم على ما قيل ركوب بعضهم فوق بعض وروي في ذلك خبر مرفوع وقيل لا مانع من أن يكون بعروج من شاء منهم بنفسه إلى حيث يسمع منه الكلام فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ قال في شرح التسهيل الْآنَ معناه هنا القرب مجازا فيصح مع الماضي والمستقبل وفي البحر أنه ظرف زمان للحال ويَسْتَمِعِ مستقبل فاتسع في الظرف واستعمل للاستقبال كما قال:
سأسعى الآن إذ بلغت أناها فالمعنى فمن يقع منه استماع في الزمان الآتي يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً أي يجد شهابا راصدا له ولأجله يصده عن الاستماع بالرجم فرصد صفة شِهاباً فإن كان مفردا فالأمر ظاهر وإن كان اسم جمع للراصد كحرس فوصف المفرد به لأن الشهاب لشدة منعه وإحراقه جعل كأنه شهب ونظير ذلك وصف المعا وهو واحد الأمعاء بجياع في قول القتامي:
كأن قيود رجلي حين ضمت ... حوالب غرزاو معا جياعا
وجوز كونه مفعولا له أي لأجل الرصد وقيل يجوز أن يكون اسم جمع صفة لما قبله بتقدير ذوي شهاب فكأنه قيل يجد له ذوي شهاب راصدين بالرجم وهم الملائكة عليهم السلام الذي يرجمونهم بالشهب ويمنعونهم من الاستماع وفيه بعد. وفي الآية رد على من زعم أن الرجم حدث بعد مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو(15/97)
إحدى آياته عليه الصلاة والسلام حيث قيل فيها ملئت وهو كما قال الجاحظ ظاهر في أن الحادث هو الملء والكثرة وكذا قوله سبحانه نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ على ما في الكشاف فكأنه قيل كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب والآن ملئت المقاعد كلها فَمَنْ يَسْتَمِعِ إلخ ويدل على وجود الشهب قبل ذكرها في شعر الجاهلية قال بشر بن أبي خازم:
والعير يرهقها الغبار وجحشها ... ينقض خلفهما انقضاض الكوكب
وقال أوس بن حجر:
وانقض كالدري يتبعه ... نقع يثور تخاله طنبا
وقال عوف بن الخرع يصف فرسا:
يرد علينا العير من دون إلفه ... أو الثور كالدري يتبعه الدم
فإن هؤلاء الشعراء كلهم كما قال التبريزي جاهلون ليس فيهم مخضرم. وما
رواه الزهري عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما عن ابن عباس بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم جالس في نفر من الأنصار إذ رمى بنجم فاستنار فقال: «ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية» ؟ قالوا: كنا نقول يموت عظيم أو يولد عظيم
. وروي عن معمر قلت للزهري: أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال: نعم، قلت: أرأيت قوله تعالى وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ فقال غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي صلّى الله عليه وسلم وكأنه أخذ ذلك من الآية أيضا. وقال بعضهم: إن الرمي لم يكن أولا ثم حدث للمنع عن بعض السماوات ثم كثير ومنع به الشياطين عن جميعها يوم تنبأ النبي عليه الصلاة والسلام وجوز أن تكون الشهب من قبل لحوادث كونية لا لمنع الشياطين أصلا والحادث بعد البعثة رمي الشياطين بها على معنى أنهم إذا عرجوا للاستماع رموا بها فلا يلزم أيضا أن يكون كل ما يحدث من الشهب اليوم للرمي بل يجوز أن يكون لأمور أخر بأسباب يعلمها الله تعالى ويجاب بهذا عن حدوث الشهب في شهر رمضان مع ما جاء من أنه تصفد مردة الشياطين فيه ولمن يقول إن الشهب لا تكون إلّا للرمي جواب آخر مذكور في موضعه وذكروا وجدانهم المقاعد مملوءة من الحراس ومنع الاستراق بالكلية قيل بيان لما حملهم على الضرب في البلاد حتى عثروا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم واستمعوا قراءته عليه الصلاة والسلام وقولهم وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ بحراسة السماء أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً أي خيرا كالتتمة لذلك فالحامل في الحقيقة تغير الحال عما كانوا ألفوه والاستشعار أنه لأمر خطير والتشوق إلى الإحاطة به خبرا ولا يخفى ما في قولهم أَشَرٌّ أُرِيدَ إلخ من الأدب حيث لم يصرحوا بنسبة الشر إلى الله عز وجل كما صرحوا به في الخير وإن كان فاعل الكل هو الله تعالى ولقد جمعوا بين الأدب وحسن الاعتقاد وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ أي الموصوفون بصلاح الحال في شأن أنفسهم وفي معاملتهم مع غيرهم المائلون إلى الخير والصلاح حسبما تقتضيه الفطرة السليمة لا إلى الشر والفساد كما هو مقتضى النفوس الشريرة وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ أي قوم دون ذلك المذكور ويطرد حذف الموصوف إذا كان بعض اسم مجرور بمن مقدم عليه والصفة ظرف كما هنا أو جملة كما في قوله منا أقام ومنا ظعن وأرادوا بهؤلاء القوم المقتصدين في صلاح الحال على الوجه السابق لا في الإيمان والتقوى كما قيل فإن هذا بيان لحالهم قبل استماع القرآن كما يعرب عنه قوله تعالى كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً وأما حالهم بعد استماعه فستحكى بقوله تعالى وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى إلى قوله تعالى وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ إلخ وجوز بعضهم كون دُونَ بمعنى غير فيكون دون ذلك شاملا للشرير المحض وأيّا ما(15/98)
كان فجملة كنا إلخ تفسير للقسمة المتقدمة لكن قيل الأنسب عليه كون دون بمعنى غير والكلام على حذف مضاف أي كنا ذوي طرائق أي مذاهب أو مثل طرائق في اختلاف الأحوال أو كانت بطرائقنا طرائق قددا وكون هذا من تلقي الركبان لا يلتفت إليه وعدم اعتبار التشبيه البليغ ليستغني عن تقدير مثل قيل لأن المحل ليس محل المبالغة وجوز الزمخشري كون طَرائِقَ منصوبا على الظرفية بتقدير في أي كنا في طَرائِقَ وتعقب بأن الطريق اسم خاص لموضع يستطرق فيه فلا يقال للبيت أو المسجد طريق على الإطلاق وإنما يقال جعلت المسجد طريقا فلا ينتصب مثله على الظرفية إلا في الضرورة وقد نص سيبويه على أن قوله:
كما عسل الطريق الثعلب شاذ فلا يخرج القرآن الكريم على ذلك. وقال بعض النحاة: هو ظرف عام لأن كل موضع يستطرق طريق والقدد المتفرقة المختلفة قال الشاعر:
القابض الباسط الهادي بطاعته ... في فتنة الناس إذ أهواؤهم قدد
جمع قدة من قد إذا قطع كأن كل طريق لامتيازها مقطوعة من غيرها وَأَنَّا ظَنَنَّا أي علمنا الآن أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ أي إن الشأن لن نعجز الله تعالى كائنين فِي الْأَرْضِ أي أينما كنا من أقطارها وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً أي هاربين منها إلى السماء فالأرض محمولة على الجملة ولما كان وَلَنْ إلخ في مقابلة ما قبل لزم أن يكون الهرب إلى السماء وفيه ترقّ ومبالغة كأنه قيل لن نعجزه سبحانه في الأرض ولا في السماء. وجوز أن لا ينظر إلى عموم ولا خصوص كما في أرسلها العراك ويجعل الفوت على قسمين أخذا من لفظ الهرب والمعنى لن نعجزه سبحانه في الأرض إن أراد بنا أمرا، ولن نعجزه عز وجل هربا إن طلبنا وحاصله إن طلبنا لم نفته وإن هربنا لم نخلص منه سبحانه وفائدة ذكر الأرض تصوير أنها مع هذه البسطة والعراضة ليس فيها منجا منه تعالى ولا مهرب لشدة قدرته سبحانه وزيادة تمكنه جل وعلا ونحوه قول القائل:
وإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
وقيل فائدة ذكر الْأَرْضِ تصوير تمكنهم عليها وغاية بعدها عن محل استوائه سبحانه وتعالى وليس بذاك وكون فِي الْأَرْضِ وهَرَباً حالين كما أشرنا إليه هو الذي عليه الجمهور وجوز في هَرَباً كونه تمييزا محولا عن الفاعل أي لن يعجزه سبحانه هربنا وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى أي القرآن الذي هو الهدى بعينه آمَنَّا بِهِ من غير تلعثم وتردد فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ وبما أنزله عز وجل فَلا يَخافُ جواب الشرط ومثله من المنفي بلا يصح فيه دخول الفاء وتركها كما صرح به في شرح التسهيل إلّا أن الأحسن تركها ولذا قدر هاهنا مبتدأ لتكون الجملة اسمية ولزم اقترانها بالفاء إذا وقعت جوابا إلا فيما شذ من نحو:
من يفعل الحسنات الله يشكرها معلوم وبعضهم أوجب التقدير لزعمه عدم صحة دخول الفاء في ذلك أي فهو لا يخاف بَخْساً أي نقصا في الجزاء. وقال الراغب: البخس نقص الشيء على سبيل الظلم وَلا رَهَقاً أي غشيان ذلة من قوله تعالى وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ [يونس: 27] وأصله مطلق الغشيان وقال الراغب: رهقه الأمر أي غشيه بقهر وفي الأساس رهقه دنا منه وصبي مراهق مدان للحلم وفي النهاية يقال رجل فيه رهق إذا كان يخف إلى الشر ويغشاه. وحاصل المعنى فلا يخاف أن يبخس حقه ولا أن ترهقه ذلة فالمصدر أعني بَخْساً مقدر باعتبار المفعول وليس المعنى على أن غير المؤمن يبخس حقه بل النظر إلى تأكيد ما ثبت له من الجزاء وتوفيره كملا(15/99)
وأما غيره فلا نصيب له فضلا عن الكمال وفيه أن ما يجزي به غير المؤمن مبخوس في نفسه وبالنسبة إلى هذا الحق فيه كل البخس وإن لم يكن هناك بخس حق كذا في الكشف أو فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً لأنه لم يبخس أحدا حقا ولا رهقه ظلما فلا يخاف جزاءهما وليس من إضمار مضاف، أعني الجزاء بل ذلك بيان لحاصل المعنى وأن ما ذكر في نفسه مخوف فإنه يصح أن يقال خفت الذنب وخفت جزاءه لأن ما يتولد منه المحذور محذور. وفيه دلالة على أن المؤمن لاجتنابه البخس والرهق لا يخافهما فإن عدم الخوف من المحذور إنما يكون لانتفاء المحذور وجاز أن يحمل على الإضمار وأصل الكلام فمن لا يبخس أحدا ولا يرهق ظلمه فلا يخاف جزاءهما فوضع ما في النظم الجليل موضعه تنبيها بالسبب على المسبب والأول كما قيل أظهر وأقرب مأخذا. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية: لا يخاف نقصا من حسناته ولا زيادة في سيئاته. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال: فلا يخاف بخسا ظلما بأن يظلم من حسناته فينتقص منها شيء ولا رهقا ولا أن يحمل عليه ذنب غيره وأخرج نحوه عن الحسن ولعل المعنى الأول أنسب بالترغيب بالإيمان وبلفظ الرهق أيضا نظرا إلى ما سمعت من قوله تعالى وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وقرأ ابن وثاب والأعمش «فلا يخف» بالجزم على أن لا ناهية لا نافية لأن الجواب المقترن بالفاء لا يصح جزمه وقيل الفاء زائدة ولا للنفي وليس بشيء وأيا ما كان فالقراءة الأولى أدل على تحقق أن المؤمن ناج لا محالة وأنه هو المختص بذلك دون غيره وذلك لتقدير هو عليها وبناء الفعل عليه نحو هو عرف ويجتمع فيه التقوى والاختصاص إذا اقتضاهما المقام. وقرأ ابن وثاب «بخسا» بفتح الخاء المعجمة وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ الجائرون على طريق الحق الذي هو الإيمان والطاعة يقال: قسط الرجل إذا جار وأنشدوا:
قوم هم قتلوا ابن هند عنوة ... عمرا وهم قسطوا على النعمان
فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ الإشارة إلى من أسلم والجمع باعتبار المعنى تَحَرَّوْا توخوا وقصدوا رَشَداً عظيما بلغهم إلى الدار للثواب وقرأ الأعرج «رشدا» بضم الراء وسكون الشين أَمَّا الْقاسِطُونَ
الجائرون عن سنن الإسلام كانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
توقد بهم كما توقد بكفرة الإنس واستظهر أن فَمَنْ أَسْلَمَ إلخ من كلام الجن وقال ابن عطية الوجه أن يكون مخاطبة من الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلم ويؤيده ما بعد الآيات وفي الكشاف زعم من لا يرى للجن ثوابا أن الله تعالى أوعد قاسطيهم وما وعد مسلميهم وكفى به وعدا أن قال سبحانه فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً فذكر سبب الثواب والله عزّ وجلّ أعدل من أن يعاقب القاسط ولا يثيب الراشد وهو ظاهر في أنه من كلامه عزّ وجلّ وقوله تعالى وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا إلخ معطوف قطعا على قوله سبحانه أَنَّهُ اسْتَمَعَ ولا يضر تقدم المعطوف على غيره على القول به لظهور الحال وعدم الالتباس وأَنْ مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن. وقرأ الأعمش وابن وثاب بضم واو لَوِ والمعنى وأوحى إلى أن الشأن لو استقام الإنس والجن أو كلاهما عَلَى الطَّرِيقَةِ التي هي ملة الإسلام لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً أي كثيرا وقرأ عاصم في رواية الأعمش بكسر الدال والمراد لوسعنا عليهم الرزق وتخصيص الماء الغدق بالذكر لأنه أصل المعاش وكثرته أصل السعة فقد قيل المال حيث الماء ولعزة وجوده بين العرب لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أي لنختبرهم كيف يشكرونه أي لنعاملهم معاملة المختبر وقيل لو استقام الجن على الطريقة المثلى أي لو ثبت أبوهم الجان على ما كان عليه من عبادة الله تعالى وطاعته سبحانه ولم يتكبر عن السجود لآدم ولم يكفر وتبعه ولده على الإسلام لأنعمنا عليهم ووسعنا رزقهم لنختبرهم ويجوز على هذا رجوع الضمير(15/100)
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
إلى (القاسطين) وهو المروي عن ابن عباس وقتادة ومجاهد وابن جبير واعتبار المثلى قيل لأن التعريف للعهد والمعهود طريقة الجن المفضلة على غيرها وقيل لأن جعلها طريقة وما عداها ليس بطريقة يفهم منه كونه مفضلة. وقيل المعنى أنه لو استقام الجن على طريقتهم وهي الكفر ولم يسلموا باستماع القرآن لوسعنا عليهم الرزق استدراجا لنوقعهم في الفتنة ونعذبهم في كفران النعمة وروي نحو هذا عن الضحاك والربيع بن أنس وزيد بن أسلم وأبي مجلز بيد أنهم أعادوا الضمير على من أسلم وقالوا أي لو كفر من أسلم من الناس لَأَسْقَيْناهُمْ إلخ وهو مخالف للظاهر لاستعمال الاستقامة على الطريقة في الاستقامة على الكفر وكون النعمة المذكورة استدراجا من غير قرينة عليه مع أن قوله تعالى وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا [الأعراف: 96] إلخ يؤيد الأول وزعم الطيبي أن التذييل بقوله عزّ وجلّ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ إلخ ينصر ما قيل قال لأنه توكيد لمضمون السابق من الوعيد أي لنستدرجهم فيتبعوا الشهوات التي هي موجبة للبطر والإعراض عن ذكر الله تعالى وفيه نظر والذكر مصدر مضاف لمفعوله تجوز به عن العبادة أو هو بمعنى التذكير مضاف لفاعله ويفسر بالموعظة وقال بعضهم المراد بالذكر الوحي أن وَمَنْ يُعْرِضْ عن عبادة ربه تعالى أو عن موعظته سبحانه أو عن وحيه عزّ وجلّ يَسْلُكْهُ مضمن معنى ندخله ولذا تعدى إلى المفعول الثاني أعني قوله تعالى عَذاباً صَعَداً بنفسه دون فى أو هو من باب الحذف والإيصال والصعد مصدر وصف به مبالغة أو تأويلا أي ندخله عذابا يعلو المعذب ويغلبه وفسر بشاق يقال فلان في صعد من أمره أي في مشقة ومنه قول عمر رضي الله تعالى عنه ما تصعدني شيء كما تصعدني خطبة النكاح أي ما شق عليّ وكأنه أخذ إنما قال ذلك لأنه كان من عادتهم أن يذكروا جميع ما كان في الخاطب من الأوصاف الموروثة والمكتسبة فكان يشق عليه ارتجالا، أو كان يشق أن يقول الصدق في وجه الخاطب وعشيرته وقيل إنما شق من الوجوه ونظر بعضهم إلى بعض وقال أبو سعيد الخدري وابن عباس: صعد جبل في النار قال الخدري كلما وضعوا أيديهم عليه ذابت وقال عكرمة هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها فإذا انتهى إلى أعلاها جدر إلى جهنم فعلى هذا قال أبو حيان: يجوز
أن يكون بدلا من عذاب على حذف مضاف أي عذاب صعد ويجوز أن يكون مفعول نَسْلُكُهُ وعَذاباً مفعول من أجله وقرأ الكوفيون يَسْلُكْهُ بالياء وباقي السبعة بالنون وابن جندب بالنون من أسلك وبعض التابعين بالياء كذلك وهما لغتان سلك وأسلك قال الشاعر يصف جيشا مهزومين:
حتى إذا أسلكوهم في قتائدة (1) ... شلا كما تطرد الجمالة الشردا
__________
(1) قتائدة ثنية معروفة اهـ منه. [.....](15/101)
وقرأ قوم «صعدا» بضمتين وابن عباس والحسن بضم الصاد وفتح العين قال الحسن معناه لا راحة فيه وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ عطف على أَنَّهُ اسْتَمَعَ فهو من جملة الموحى والظاهر أن المراد بالمساجد المواضع المعدة للصلاة والعبادة أي وأوحي إليّ أن المساجد مختصة بالله تعالى شأنه فَلا تَدْعُوا أي فلا تعبدوا فيها مَعَ اللَّهِ أَحَداً غيره سبحانه. وقال الحسن المراد كل موضع سجد فيه من الأرض سواء أعد لذلك أم لا إذ الأرض كلها مسجد لهذه الأمة وكأنه ذلك مما
في الحديث الصحيح: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا»
واشتهر أن هذا من خصائص نبينا صلّى الله عليه وسلم أي شريعته فيكون له ولأمته عليه الصلاة والسلام وكان من قبل إنما تباح لهم الصلاة في البيع والكنائس واستشكل بأن عيسى عليه السلام كان يكثر السياحة وغيره من الأنبياء عليهم السلام يسافرون فإذا لم تجز لهم الصلاة في غير ما ذكر لزم ترك الصلاة في كثير من الأوقات وهو بعيد لا سيما في الخضر عليه السلام ولذا قيل المخصوص كونها مسجدا وطهورا أي المجموع ويكفي في اختصاصه اختصاص التيمم وأجيب بأن المراد الاختصاص بالنسبة إلى الأمم السالفة دون أنبيائها عليهم السلام والخضر إن كان حيّا اليوم فهو من هذه الأمة سواء كان نبيا أم لا لخبر لو كان موسى حيا ما وسعه إلّا اتباعي وحكمه قبله نبيا ظاهر والأمر فيه غير نبي سهل وقيل المراد بها المسجد الحرام أي الكعبة نفسها أو الحرم كله على ما قيل والجمع لأن كل ناحية منه مسجد له قبلة مخصوصة أو لأنه لما كان قبلة المساجد فإن كل قبلة متوجهة نحوه جعل كأنه جميع المساجد مجازا وقيل: المراد هو وبيت المقدس فقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس لم يكن يوم نزلت وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ إلخ في الأرض مسجدا لا المسجد الحرام ومسجد إيليا بيت المقدس وأمر الجمع عليه أظهر منه على الأول لا أنه كالأول خلاف الظاهر وما ذكر لا يتم دليلا له. وقال ابن عطاء وابن جبير والزجاج والفراء المراد بها الأعضاء السبعة التي يسجد عليها واحدها مسجد بفتح الجيم وهي القدمان والركبتان والكفان والوجه أي الجبهة والأنف. وروي أن المعتصم سأل أبا جعفر محمد بن عليّ بن موسى الكاظم رضي الله تعالى عنهم عن ذلك فأجاب بما ذكر. وقيل السجدات على أن المسجد بفتح الجيم مصدر ميمي ونقل عن الخليل بن أحمد أن قوله تعالى وَأَنَّ الْمَساجِدَ بتقدير لام التعليل وهو متعلق بما بعد والْمَساجِدَ بمعناها المعروف أي لأن الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً ولما لم تكن الفاء في جواب شرط محقق كانت في الحقيقة زائدة فلا يمتنع تقديم معمول ما بعدها عليها نعم قال غير واحد جيء بها لتضمن الكلام معنى الشرط، والمعنى أن الله تعالى يحب أن يوحد ولا يشرك به أحد فإن لم يوحدوه في سائر المواضع فلا تدعوا معه أحدا في المساجد لأن المساجد له سبحانه مختصة به عزّ وجلّ فالإشراك فيها أقبح وأقبح ونظير هذا قوله تعالى لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا [قريش: 1- 3] على وجه ولا يعد ذلك من الشرط المحقق ويندفع بما ذكر لزوم جعل الفاء لغوا لأنها للسببية ومعناها مستفاد من اللام المقدرة وقيل في دفعه أيضا أنها تأكيد للام أو زائدة جيء بها للإشعار بمعناها وأنها مقدرة والخطاب في تَدْعُوا قيل للجن وأيد بما
روي عن ابن جبير قال: إن الجن قالوا يا رسول الله كيف نشهد الصلاة معك على نأينا عنك فنزلت الآية
ليخاطبهم على معنى أن عبادتكم حيث كانت مقبولة إذا لم تشركوا فيها. وقيل هو خطاب عام وعن قتادة كان اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله(15/102)
عزّ وجلّ فأمرنا أن نخلص لله تعالى الدعوة إذا دخلنا المساجد يعني بهذه الآية وعن ابن جريج بدل (فأمرنا) إلخ «فأمرهم أن يوحدوه» وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بذلك أيضا وقرأ كما في البحر ابن هرمز وطلحة «وإن المساجد» بكسر همزة «إن» وحمل ذلك على الاستئناف وَأَنَّهُ بفتح الهمزة عند الجمهور على أنه عطف على أَنَّهُ اسْتَمَعَ كالذي قبله فهو من كلامه تعالى أي وأوحى إليّ أن الشان لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ أي النبي صلّى الله عليه وسلم وقوله تعالى يَدْعُوهُ حال من عَبْدُ أي لما قام عابدا له عزّ وجلّ وذلك قيامه عليه الصلاة والسلام لصلاة الفجر بنخلة كما مر كادُوا أي الجن كما قال ابن عباس والضحاك يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً متراكمين من ازدحامهم عليه تعجبا مما شاهدوا من عبادته وسمعوا من قراءته واقتداء أصحابه به قياما وركوعا وسجودا لأنهم رأوا ما لم يروا مثله وسمعوا ما لم يسمعوا نظيره وهذا كالظاهر في أنهم كانوا كثيرين لا تسعة ونحوها وإيراده عليه الصلاة والسلام بلفظ العبد دون لفظ النبي أو الرسول أو الضمير إما لأنه مقول على لسانه صلّى الله عليه وسلم لأنه أمر أن يقول أوحي كذا فجيء به على ما يقتضيه مقام العبودية والتواضع، أو لأنه تعالى عدل عن ذلك تنبيها على أن العبادة من العبد لا تستبعد، ونقل عليه الصلاة والسلام كلامه سبحانه كما هو رفعا لنفسه عن البين فلا وجود للأثر بعد العين وحيث كان هذا العدول منه جل وعلا إما لكذا أو لكذا لا أنه تصرف من رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يمتنع كما قال بعض الأجلة الجمع بين الحسنيين. وقال الحسن وقتادة ضمير كادُوا لكفار قريش والعرب فيراد بالقيام القيام بالرسالة وبالتلبد التلبد للعداوة والمعنى وأنه لما قام عبد الله بالرسالة يدعو لله تعالى وحده ويذر ما كانوا يدعون من دونه كادوا لتظاهرهم عليه وتعاونهم على عداوته يزدحمون عليه متراكمين وجوز أن يكون الضمير على هذا للجن والإنس. وعن قتادة أيضا ما يقتضيه قال: تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه فأبى الله تعالى إلا أن ينصره على من ناوأه وفي البحر أبعد من قال عبد الله هنا نوح عليه السلام كاد قومه يقتلونه حتى استنقذه الله تعالى منهم قاله الحسن وأبعد منه قول من قال إنه عبد الله بن سلام اهـ ولعمري إنه لا ينبغي القول بذلك ولا أظن له صحة بوجه من الوجوه. وقرأ نافع وأبو بكر كما قدمنا وابن هرمز وطلحة كما في الحبر «وإنه» بكسر الهمزة وحمل على أن الجملة استئنافية من كلامه عزّ وجلّ وجوز أن تكون من كلام الجن معطوفة على جملة إِنَّا سَمِعْنا حكوا فيها لقومهم لما رجعوا إليهم ما رأوا من صلاته صلّى الله عليه وسلم وازدحام أصحابه عليه في ائتمامهم به وحكي ذلك عن ابن جبير وجوز نحو هذا على قراءة الفتح بناء على ما سمعت عن أبي حاتم أو بتقدير ونخبركم بأنه أو نحوه هذا. وفي الكشف الوجه على تقدير أن يكون وَأَنَّ الْمَساجِدَ من جملة الموحي أن يكون فَلا تَدْعُوا خطابا للجن محكيا إن جعل قوله تعالى «وإنه لما قام» على قراءة الكسر من مقول الجن لئلا ينفك النظم لو جعل ابتداء قصة ووحيا آخر منقطعا عن حكاية الجن وكذلك لو جعل ضمير كادُوا للجن على قراءة الفتح أيضا والأصل أن المساجد لله فلا تدعوا أيها الجن مع الله أحدا فقيل قل يا محمد لمشركي مكة أُوحِيَ إِلَيَّ كذا وإذا كان كذلك فيجيء في ضمن الحكاية إثبات هذا الحكم بالنسبة إلى المخاطبين أيضا لاتحاد العلة، وأما لو جعل خطابا عاما فالوجه أن يكون ضمير كادُوا راجعا إلى المشركين أو إلى الجن والإنس وأن يكون على قراءة الكسر جملة استئنافية ابتداء قصة منه جل شأنه في الإخبار عن حال رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو تمهيد لما يأتي من بعد وتوكيد لما ذكر من قبل فكأنه قيل: قل لمشركي مكة ما كان من حديث
الجن وإيمان بعضهم وكفر آخرين منهم ليكون حكاية ذلك لطفا لهم في الانتهاء عما كانوا فيه وحثا على الإيمان ثم قيل وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ ويوحده كاد الفريقان من كفرة الجن والإنس يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً دلالة على عدم ارتداعهم مع هذه الدلائل الباهرة والآيات النيرة،(15/103)
وما أحسن التقابل بين قوله تعالى وَأَنَّ الْمَساجِدَ وبين هذا القول كأنهم نهوا كلهم عن الإشراك ودعوا إلى التوحيد فقابلوا ذلك بعداوة من يوحد الله سبحانه ويدعوه ولم يرضوا بالاباء وحده وهذا من خواص الكتاب الكريم وبديع أسلوبه إذا أخذ في قصة غب قصه جعلهما متناصفتين فيما سيق له الكلام وزاد عليه التآخي بينهما. في تناسب خاتمة الأولى وفاتحة الثانية، ولعل هذا الوجه من الوجاهة بمكان وأما لو فسر بما حكي عن الخليل ولأن المساجد لله فلا تدعوا إلخ فالوجه أن يكون استطرادا ذكر عقيب وعيد المعرض والحمل على هذا على الأعضاء السبعة أظهر لأن فيه تذكيرا لكونه تعالى المنع بها عليهم وتنبها على أن الحكمة في خلقها خدمة المعبود من حيث العدول عن لفظ الأعضاء وأسمائها الخاصة إلى المساجد ودلالة على أن ذلك ينافي الإشراك وحينئذ لا يبقى إشكال في ارتباط ما بعده بما قبله على القراءتين والأوجه والله تعالى أعلم اهـ فتأمل. واللبد بكسر اللام وفتح الباء كما قرأ الجمهور جمع لبدة بالكسر نحو كسرة وكسر وهي الجماعات شبهت بالشيء المتلبد بعضه فوق بعض ويقال للجراد ومنه كما قال الجبائي قول عبد مناف بن ربع الهذلي:
صافوا بستة أبيات وأربعة ... حتى كأن عليهم جابيا لبدا
وقرأ مجاهد وابن محيصن وابن عامر بخلاف عنه «لبدا» بضم اللام جمع لبدة كزبرة وزبر وعن ابن محيصن أيضا تسكين الباء وضم اللام وقرأ الحسن والجحدري وأبو حيوة وجماعة عن أبي عمرو بضمتين جمع لبد كرهن ورهن أو جمع لبود كصبور وصبر وقرأ الحسن والجحدري أيضا بخلاف عنهما «لبّدا» بضم اللام وتشديد الباء جمع لا بد وأبو رجاء بكسرها وشد الباء المفتوحة قُلْ إِنَّما أَدْعُوا أعبد رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ في العبادة أَحَداً فليس ذلك ببدع ولا مستنكر يوجب التعجب أو الاطباق على عداوتي وقرأ الأكثرون «قال» على أنه حكاية منه تعالى لقوله صلّى الله عليه وسلم للمتراكمين عليه أو حكاية من الجن له عند رجوعهم إلى قومهم فلا تغفل وقراءة الأمر وهي قراءة عاصم وحمزة وأبي عمرو بخلاف عنه أظهر وأوقف لقوله سبحانه قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً أي ولا نفعا تعبيرا باسم السبب عن المسبب، والمعنى لا أستطيع أن أضركم ولا أنفعكم إنما الضار والنافع هو الله عزّ وجلّ أو لا أملك لكم غيّا ولا رشدا على أن الضر مراد به الغي تعبير باسم السبب عن السبب ويدل عليه قراءة أبي «غيّا» بدل ضَرًّا والمعنى لا أستطيع أن أقسركم على الغي والرشد إنما القادر على ذلك هو الله سبحانه وتعالى وجوز أن يكون في الآية الاحتباك والأصل لا أملك لكم ضرا ولا نفعا ولا غيا ولا رشدا فترك من كلا المتقابلين ما ذكر في الآخر. وقرأ الأعرج «رشدا» بضمتين قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ إن أرادني سبحانه بسوء وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً أي معدلا ومنحرفا وقال الكلبي مدخلا في الأرض وقال السدي حرزا وأصله المدخل من اللحد والمراد ملجأ يركن إليه وأنشدوا:
يا لهف نفسي ونفسي غير مجدية ... عني وما من قضاء الله ملتحد
وجوز فيه الراغب كونه اسم مكان وكونه مصدرا وهذا على ما قيل بيان لعجزه عليه الصلاة والسلام عن شؤون نفسه بعد بيان عجزه صلّى الله عليه وسلم عن شؤون غيره وقيل في الكلام حذف وهو قالوا اترك ما تدعو إليه ونحن نجيرك فقيل له قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي إلخ وقيل هو جواب لقول ورد أن سيد الجن وقد ازدحموا عليه أنا أرحلهم عنك فقال إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي إلخ ذكره الماوردي والقولان ليسا بشيء وقوله تعالى إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ استثناء من مفعول لا أَمْلِكُ كما يشير إليه كلام قتادة وما بينهما اعتراض مؤكد لنفي الاستطاعة فلا اعتراض بكثرة الفصل المبعدة لذلك فإن كان المعنى لا أملك أن أضركم ولا أنفعكم كان استثناء متصلا كأنه(15/104)
قيل لا أملك شيئا إلّا بلاغا وإن كان المعنى لا أملك أن أقسركم على الغي والرشد كان منقطعا أو من باب:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم كما في الكشف وظاهر كلام بعض الأجلة أنه إما استثناء متصل من رَشَداً فإن الإبلاغ إرشاد ونفع والاستثناء من المعطوف دون المعطوف عليه جائز، وأما استثناء منقطع من مُلْتَحَداً قال الرازي لأن البلاغ من الله تعالى لا يكون داخلا تحت قوله سبحانه مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً لأنه لا يكون من دون الله سبحانه بل منه جل وعلا وبإعانته وتوفيقه. وفي البحر قال الحسن هو استثناء منقطع أي لَنْ يُجِيرَنِي أحد لكن إن بلغت رحمتي بذلك والإجارة مستعارة للبلاغ إذ هو سبب إجارة الله تعالى ورحمته سبحانه وقيل هو على هذا المعنى استثناء متصل.
والمعنى لن أجد شيئا أميل إليه وأعتصم به إلّا أن أبلغ وأطيع فيجيرني فيجوز نصبه على الاستثناء من مُلْتَحَداً أو على البدل وهو الوجه لأن قبله نفيا وعلى البدل خرجه الزجاج انتهى. والأظهر ما تقدم وقيل إن إلّا مركبة من أن الشرطية ولا النافية والمعنى أن لا أبلغ بلاغا وما قبله دليل الجواب فهو كقولك إلّا قياما فقعودا وظاهره أن المصدر سد مسد الشرط كمعمول كان ولهم في حذف جملة الشرط مع بقاء الأداة كلام والظاهر إن إطراد حذفه مشروط ببقاء لا كما في قوله:
فطلقها فلست لها بكفء ... وإلّا يعل مفرقك الحسام
ما لم يسد مسده شيء من معمول أو مفسر ك إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ [التوبة: 6] والناس مجزيون بأعمالهم إن خيرا فخير وهذا الوجه خلاف المتبادر كما لا يخفى وقوله تعالى وَرِسالاتِهِ عطف على بَلاغاً ومِنَ اللَّهِ متعلق بمحذوف وقع صفة له أي بلاغا كائنا من الله وليس بصلة له لأنه يستعمل بعن كما في
قوله صلّى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية»
والمعنى على ما علمت أولا في الاستثناء لا أملك لكم إلّا تبليغا كائنا منه تعالى ورسالاته التي أرسلني عز وجل بها. وفي الكشف في الكلام إضمار أي بلاغ رسالته وأصل الكلام إلّا بلاغ رسالات الله فعدل إلى المنزل ليدل على التبليغين مبالغة وإن كلا من المعنيين أعني كونه من الله تعالى وكونه بلاغ رسالاته يقتضي التشمر لذلك انتهى. وفي عبارة الكشاف رمز ما إليه لكن قيل عليه لا ينبغي تقدير المضاف فيه أعني بلاغ فإنه يكون العطف حينئذ من عطف الشيء على نفسه إلّا أن يوجه بأن البلاغ من الله تعالى فيما أخذه عنه سبحانه بغير واسطة والبلاغ للرسالات فيما هو بها وهو بعيد غاية البعد فافهم. واستظهر أبو حيان عطفه على الاسم الجليل فقال الظاهر عطف رِسالاتِهِ على اللَّهِ أي إلّا أن أبلغ عن الله وعن رسالاته وظاهره جعل مِنَ بمعنى عن وقد تقدم منه أنها لابتداء الغاية. وقرىء «قال لا أملك» أي قال عبد الله للمشركين أو للجن وجوز أن يكون من حكاية الجن لقومهم. هذا ووجه ارتباط الآية بما قبلها قيل بناء على أن التلبد للعداوة أنهم لما تلبدوا عليه صلّى الله عليه وسلم متظاهرين للعداوة قيل له عليه الصلاة والسلام قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً أي ما أردت إلّا نفعكم وقابلتموني بالإساءة وليس في استطاعتي النفع الذي أردت ولا الضر الذي أكافئكم به إنما ذان إلى الله تعالى وفيه تهديد عظيم وتوكيل إلى الله جل وعلا وأنه سبحانه هو الذي يجزيه بحسن صنيعه وسوء صنيعهم، ثم فيه مبالغة من حيث إنه لا يدع التبليغ لتظاهرهم هذا فإن الذي يستطيعه عليه الصلاة والسلام هو التبليغ ولا يدع المستطاع ولهذا قال إِلَّا بَلاغاً وجعله بدلا من مُلْتَحَداً شديد الطباق على هذا والشرط قريب منه، وأما إن كان الخطاب للجن والتلبد للتعجب(15/105)
فالوجه أنهم لما تلبدوا لذلك قيل له عليه الصلاة والسلام قل لهم ما لكم ازدحمتم علي متعجبين مني ومن تطامن أصحابي على العبادة أني ليس إليّ النفع والضر إنما أنا مبلغ عن الضار النافع فأقبلوا أنتم مثلنا على العبادة ولا تقبلوا على التعجب فإن العجب ممن يعرض عن المنعم المنتقم الضار النافع ولعل اعتبار قوة الارتباط يقتضي أولوية كون التلبد كان للعداوة ومعصية الرسول عليه الصلاة والسلام وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي في الأمر بالتوحيد إذ الكلام فيه فلا يصح استدلال المعتزلة ونحوهم بالآية على تخليد العصاة في النار وجوز أن يراد بالرسول رسول الملائكة عليهم السلام دون رسول البشر فالمراد بعصيانه أن لا يبلغ المرسل إليه ما وصل إليه كما وصل وهو خلاف الظاهر فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أي في النار أو في جهنم وجمع خالِدِينَ باعتبار معنى مِنَ كما أن الإفراد قبل باعتبار لفظها ولو روعي هنا أيضا لقيل خالدا أَبَداً بلا نهاية. وقرأ طلحة «فأن» بفتح الهمزة على أن التقدير كما قال ابن الأنباري وغيره فجزاءه أن له إلخ وقد نص النحاة على أن أن بعد فاء الشرط يجوز فيها الفتح والكسر فقول ابن مجاهد ما قرأ به أحد وهو لحن لأنه بعد فاء الشرط ناشىء من قلة تتبعه وضعفه في النحو وقوله تعالى حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً جملة شرطية مقرونة بحتى الابتدائية وهي وإن لم تكن جارة فيها معنى الغاية فمدخولها غاية لمحذوف دلت عليه الحال من استضعاف الكفار لأنصاره عليه الصلاة والسلام واستقلالهم لعدده كأنه قيل: لا يزالون يستضعفون ويستهزئون حتى إذا رأوا ما يوعدون من فنون العذاب في الآخرة تبين لهم أن المستضعف من هو ويدل على ذلك أيضا جواب الشرط وكذا ما قيل على ما قيل لأن قوله سبحانه قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي تعريض بالمشركين كيفما قدر بل السورة الكريمة من مفتتحها مسوقة للتعريض بحال مشركي مكة وتسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وتسرية عنه عليه الصلاة والسلام وتعبير لهم بقصور نظرهم عن الجن مع ادعائهم الفطانة وقلة إنصافهم ومبادهتهم بالتكذيب والاستهزاء بدل مبادهة الجن بالتصديق والاستهداء، ويجوز جعل ذلك غاية لقوله تعالى يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً إن فسر بالتلبد على العداوة ولا مانع من تخلل أمور غير أجنبية بين الغاية والمغيا
فقول أبي حيان أنه بعيد جدا لطول الفصل بينهما بالجمل الكثيرة ليس بشيء كجعله إياه غاية لما تضمنته الجملة قبل يعني فإن له نار جهنم من الحكم بكينونة النار له ومثل ذلك ما قيل من أنه غاية لمحذوف والتقدير دعهم حتى إذا رأوا إلخ والظاهر أن مَنْ استفهامية كما أشرنا إليه وهي مبتدأ وأَضْعَفُ خبر والجملة في موضع نصب بما قبلها وقد علق عن العمل لمكان الاستفهام وجوز كونها موصولة في موضع نصب ب (يعلمون) وأَضْعَفُ خبر مبتدأ محذوف والجملة صلة لمن والتقدير فسيعرفون الذي هو أضعف وحسن حذف صدر الصلة طولها بالتمييز وجوز تفسير ما يُوعَدُونَ بيوم بدر ورجح الأول بأن الظاهر أن قوله سبحانه قُلْ إِنْ أَدْرِي أي ما أدري أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً رد لما قاله المشركون عند سماعهم ذلك، ومقتضى حالهم أنهم قالوا إنكارا واستهزاء متى يكون ذلك الموعود بل روي عن مقاتل أن النضر بن الحارث قال ذلك فقيل قل إنه كائن لا محالة وأما وقته فما أدري متى يكون والأحرى بسؤالهم وهذا الجواب إرادة ما في يوم القيامة المنكرين له أشد الإنكار والخفي وقته عن الخلائق غاية الخفاء والمراد بالأمد الزمان البعيد بقرينة المقابلة بالقريب وإلّا فهو وضعا شامل لهما ولذا وصف ببعيدا في قوله تعالى تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً [آل عمران: 30] وقيل إن معنى القرب ينبىء عن مشارفة النهاية فكأنه قيل لا أدري أهو حال متوقع في كل ساعة أم هو مؤجل ضرب له غاية والأول أولى وأقرب عالِمُ الْغَيْبِ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو سبحانه عالم الغيب وجوز أبو حيان كونه(15/106)
بدلا من رَبِّي وغيره أيضا كونه بيانا له ويأبى الوجهين الفاء في قوله تعالى فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إذ يكون النظم حينئذ أَمْ يَجْعَلُ له عالم الغيب أَمَداً فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً وفيه من الإخلال ما لا يخفى، وإضافة عالِمُ إلى الْغَيْبِ محصنة لقصد الثبات فيه فيفد تعريف الطرفين التخصيص وتعريف الغيب للاستغراق وفي الرضي أن اسم الجنس أعني الذي يقع على القليل والكثير بلفظ الواحد إذا استعمل ولم تقم قرينة تخصصه ببعض ما يصدق عليه فهو في الظاهر لاستغراق الجنس أخذا من استقراء كلامهم فمعنى التراب يابس والماء بارد كل ما فيه هاتان الماهيتان حاله كذا فلو قلت في قولهم النوم ينقض الطهارة النوم مع الجلوس لا ينقضها لكان مناقضا لذلك اللفظ انتهى. وهو يؤيد إرادة ذلك هنا لأن الغيب كالماء يقع على القليل والكثير بلفظ واحد ولا يضر في ذلك جمعه على غيوب كما لا يضر فيه جمع الماء على المياه وكذا المراد بغيبه جميع غيبه وقد نص عليه عزمي زاده معللا له بكون اسم الجنس المضاف بمنزلة المعرف باللام سيما إذا كان في الأصل مصدرا وعزى إلى شرح المقاصد ما يقتضيه وربما يقال يفهم ذلك أيضا من اعتبار كون الإضافة للعهد وأن المعهود هو الغيب المستغرق أو من اعتبارها للاختصاص وأن الغيب المختص به تعالى بمعنى المختص علمه سبحانه به هو كل غيب واعتناء بشأن الاختصاص جيء بالمظهر موضع المضمر والجملة استئناف لدفع توهم نقص من نفى الدارية والفاء لترتيب عدم الإظهار على تفرده تعالى بعلم الغيب والمراد بالإظهار المنفي الاطلاع الكامل الذي تنكشف به جلية الحال على أتم وجه كما يرشد إليه حرف الاستعلاء فكأنه قيل ما عليّ إذا قلت ما أدري قرب ذلك الموعد الغيب ولا بعده فالله سبحانه وتعالى عالم كل غيب وحده فلا يطلع على ذلك المختص علمه به تعالى اطلاعا كاملا أحدا من خلقه ليكون أليق بالتفرد وأبعد عن توهم مساواة علم خلقه لعلمه سبحانه وإنما يطلع جل وعلا إذا اطلع من شاء على بعضه مما تقتضيه الحكمة التي هي مدار سائر أفعاله عز وجل وما نفيت عني العلم به مما لم يطلعني الله تعالى عليه لما أن الاطلاع عليه مما لا تقتضيه الحكمة التشريعية التي يدور عليها فلك الرسالة بل هو مخل بها وإن شئت فاعتبر الجملة واقعة موقع التعليل لنفي الدراية السابقة ولما كان مساق الكلام مما قد يتوهمون منه أنه عليه الصلاة والسلام لم يطلع على شيء من الغيب عقّب عز وجل الكلام بالاستثناء المنقطع كما روي في البحر عن ابن عباس الذي هو بمعنى الاستدراك
لدفع ذلك على أبلغ وجه حيث عمم الأمر في الرسل المرتضين وأقام كيفية الإظهار مقام الإظهار مع الإشارة إلى البعض الذي اطلعوا عليه المناسب لمقام الدعوة فقال عز من قائل إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً أي لكن الرسول المرتضى يظهره جل وعلا على بعض الغيوب المتعلقة برسالته كما يعرب عنه بيان من ارتضى بالرسول تعلقا ما إما لكونه من مبادئها بأن يكون معجزة وإما لكونه من أركانها وأحكامها كعامة التكاليف الشرعية وكيفيات الأعمال وأجزيتها ونحو ذلك من الأمور الغيبية التي بيانها من وظائف الرسالة بأن يسلك من جميع جوانبه عند اطلاعه على ذلك حرسا من الملائكة عليهم السلام يحرسونه من تعرض الشياطين لما أريد اطلاعه عليه اختطافا أو تخليطا لِيَعْلَمَ متعلق ب يَسْلُكُ وعلة له والضمير لمن أي لأجل أن يعلم ذلك المرتضى الرسول ويصدق تصديقا جازما ثابتا مطابقا للواقع أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا أي الشأن قد أبلغ إليه الرصد وهو من قبيل: بنو تميم قتلوا زيدا فإن المبلغ في الحقيقة واحد معهم وهو جبريل عليه السلام كما هو المشهور من أنه المبلغ من بين الملائكة عليهم السلام إلى الأنبياء رِسالاتِ رَبِّهِمْ وهي الغيوب المظهر عليها كما هي من غير اختطاف ولا تخليط، وعلى هذا فليكن من مبتدأ وجملة إنه يَسْلُكُ خبره وجيء بالفاء لكونه اسم موصول وقوله تعالى(15/107)
وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ أي بما عند الرصد وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ أي مما كان ومما سيكون عَدَداً أي فردا فردا حال من فاعل يَسْلُكُ بتقدير قد أو بدونه جيء به لمزيد الاعتناء بأمر علمه تعالى بجميع الأشياء وتفرده سبحانه بذلك على أتم وجه بحيث لا يشاركه سبحانه في ذلك الملائكة الذين هم وسائط العلم فكأنه قيل لكن المرتضى الرسول يعلمه الله تعالى بواسطة الملائكة بعض الغيوب مما له تعلق ما برسالته والحال أنه تعالى قد أحاط علما بجميع أحوال أولئك الوسائط وعلم جل وعلا جميع الأشياء بوجه جزئي تفصيلي فأين الوسائط منه تعالى أو حال من فاعل أبلغوا جيء به للإشارة إلى أن الرصد أنفسهم لم يزيدوا ولم ينقصوا فيما بلغوا كأنه قيل ليعلم الرسول أن قد أبلغ الرصد إليه رسالات ربه في حال أن الله تعالى قد علم جميع أحوالهم وعلم كل شيء فلو أنهم زادوا أو نقصوا عند الإبلاغ لعلمه سبحانه فما كان يختارهم للرصدية والحفظ هذا ما سنح لذهني القاصر في تفسير هذه الآيات الكريمة ولست على يقين من أمره بيد أن الاستدلال بقوله سبحانه فَلا يُظْهِرُ إلخ على نفي كرامة الأولياء بالاطلاع على بعض الغيوب لا يتم عليه لأن قوله تعالى فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً في قوة قضية سالبة جزئية لدخول ما يفيد العموم في حيز السلب وأكثر استعمالاته لسلب العموم وصرح به فيما هنا في شرح المقاصد لا لعموم السلب وهو سلب جزئي فلا ينافي الإيجاب الجزئي كأن يظهر بعض الغيب على ولي على نحو ما قال بعض أهل السنة في قوله تعالى لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: 103] ولا يرد أن الاستثناء يقتضي أن يكون المرتضى الرسول مظهرا على جميع غيبه تعالى بناء على أن الاستثناء من النفي يقتضي إيجاب نقيضه للمستثنى ونقيض السالبة الجزئية الموجبة الكلية مع أنه سبحانه لا يظهر أحدا كائنا من كان على جميع ما يعلمه عز وجل من الغيب وذلك لانقطاع الاستثناء المصرّح به ابن عباس وكذا لا يرد أن الله تعالى نفى إظهار شيء من غيبه على أحد إلّا على الرسول فيلزم أن لا يظهر سبحانه أحدا من الملائكة على شيء منه لأن الرسول هنا ظاهر في الرسول البشري لقوله تعالى فَإِنَّهُ يَسْلُكُ إلخ وذلك ليس إلّا فيه كما لا يخفى على من علم حكمة ذلك ويلزم أن لا يظهر أيضا أحدا من الأنبياء الذين ليسوا برسل بناء على إرادة المعنى الخاص من الرسول هنا وذلك لما ذكرنا أولا وكذا لا يرد أنه يلزم أن لا يظهر المرتضى الرسول على شيء من الغيوب التي لا تتعلق برسالته ولا يخل الإظهار عليها بالحكمة التشريعية إذ لا حصر للبعض المظهر فيما يتعلق بالرسالة وإنما أشير إلى المتعلق بها لاقتضاء المقام لذلك وكون كل غيب يظهر عليه الرسول لا يكون إلا متعلقا برسالته محل توقف وللمفسرين هاهنا كلام لا بأس بذكره بما له وما عليه حسب الإمكان ثم الأمر بعد ذلك إليك فنقول لما كان مذهب أكثر أهل السنة القول
بكرامة الولي بالاطلاع على الغيب وكان ظاهر قوله تعالى عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ إلخ دالا على نفيها ولذا قال الزمخشري إن في هذا إبطال الكرامات أي في الجملة وهي ما كان من الإظهار على الغيب لأن الذين تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل، وقد خص الله تعالى الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وإبطال الكهانة والتنجيم لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط انتهى. أنجدوا وأتهموا وأيمنوا وأشأموا في تفسير الآية على وجه لا ينافي مذهبهم ولا يتم عليه استدلال المعتزلي على مذهبه فقال الإمام ليس في قوله تعالى عَلى غَيْبِهِ صيغة عموم فيكفي في العمل بمقتضاه أن لا يظهر تعالى خلقه على غيب واحد من غيوبه فنحمله على وقت وقوع القيامة فيكون المراد من الآية أنه تعالى لا يظهر هذا الغيب لأحد فلا يبقى في الآية دلالة على أنه سبحانه لا يظهر شيئا من الغيوب لأحد ويؤكد ذلك وقوع الآية بعد قوله تعالى قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ والمراد به وقوع يوم القيامة ثم قال فإن قيل إذا حملتم ذلك على القيامة فكيف(15/108)
قال سبحانه إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ مع أنه لا يظهر هذا الغيب لأحد من رسله قلنا بل يظهره عند القرب من إقامة القيامة وكيف لا وقد قال تعالى يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان: 25] ولا شك أن الملائكة يعلمون في ذلك الوقت وأيضا يحتمل أن يكون هذا الاستثناء منقطعا كأنه قيل عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ المخصوص وهو قيام القيامة أَحَداً ثم قيل إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ حفظة يحفظونه من شر مردة الإنس والجن انتهى. وتعقب بأن في غيبه ما يدل على العموم كما سمعت أولا والسياق لا يأباه اللهم إلا أن يطعن في ذلك. وأيضا ظاهر جوابه الأول عن القيل كون المراد بالرسول في الآية الرسول الملكي ويأباه ما بعد من قوله تعالى فَإِنَّهُ يَسْلُكُ إلخ على أن علم الملائكة بوقت الساعة يوم تشقق السماء ليس من الإظهار على الغيب بل هو من إظهار الغيب وإبرازه للشهادة كإظهار المطر عند نزوله وما في الأرحام عند وضعه إلى غير ذلك، وأيضا الانقطاع على الوجه الذي ذكره بعيد جدا إذ فيه قطع المناسبة بين السابق واللاحق بالكلية اللهم إلّا أن يقال مثله لا يضر في المنقطع وقيل إن الإظهار على الغيب بمعنى الاطلاع عليه على أتم وجه بحيث يحصل به أعلى مراتب العلم والمراد عموم السلب ولا يضر في ذلك دخول ما يفيد العموم في حيز النفي لأن القاعدة أكثرية لا مطردة لقوله تعالى وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ [الحديد: 23] وقوله سبحانه وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقرة:
276] وقد نص على ذلك العلامة التفتازاني فيكون المعنى فَلا يُظْهِرُ عَلى شيء من غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فإنه سبحانه يظهره على شيء من غيبه بأن يسلك إلخ ولا يرد كرامة الولي إذ ليست من الإظهار المذكور إذ لا يحصل له أعلى مراتب العلم بالغيب الذي يخبر به وإنما يحصل له ظنون صادقة أو نحوها وكذا شأن غيره من أرباب الرياضات من الكفرة وغيرهم وتعقب بأن من الصوفية من قال كالشيخ محيي الدين قدس سره بنزول الملك على الولي وإخباره إياه ببعض المغيبات أحيانا ويرشد إلى نزوله عليه قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصلت: 30، الأحقاف: 13] الآية وكون ما يحصل له إذ ذاك ظن أو نحوه لا علم كالعلم الحاصل للرسول بواسطة الملك لا يخلو عن بحث بل قد يحصل له بواسطة الإلهام والنفث في الروع نحو ما يحصل للرسول وأيضا يلزم أن لا يظهر الملك على الغيب إذ الرسول المستثنى رسول البشر على ما هو الظاهر والتزام أنه لا يظهر بالمعنى السابق ويظهر بواسطته مما لا وجه له أصلا وأيضا يلزم أن ما يحصل للنبي غير الرسول بالمعنى الأخص المتبادر هنا ليس بعلم بالمعنى المذكور وهو كما ترى وقيل المراد بالغيب في الموضعين الجنس والإظهار عليه على ما سمعت وكذا عدم ورود الكرامة والبحث فيه كالبحث في سابقه وزيادة وقال صاحب الكشف في الرد على الزمخشري الغيب إن كان مفسرا بما فسره في قوله تعالى يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 3] فالآية حجة عليه لأنه جوز هنالك أن يعلم بإعلامه تعالى أو بنصبه الدليل. وهذا الثاني أعني القسم العقلي تنفيه الآية وترشد إلى أن تهذيب طرق الأدلة أيضا بواسطة الأنبياء عليهم السلام والعقل غير مستقل وأهل السنة عن آخرهم على أن الغيب بذلك المعنى لا يطلع عليه إلّا رسول أو آخذ منهم وليس فيه نفي الكرامة أصلا وإن أراد الغائب عن الحس في الحال مطلقا فلا بد من التخصيص بالاتفاق فليس فيه ما ينفيها أيضا وإن فسر بالمعدوم كما ذكره في قوله تعالى عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ [الأنعام: 73 وغيرها] فلا بد أيضا من التخصيص وكذلك لو فسر بما غاب عن العباد أو بالسر على أن ظاهر الآية أنه تعالى عالم كل غيب وحده لا يظهر على غيبه المختص به وهو يتعلق بذاته تعالى وصفاته عز وجل بدلالة الإضافة إلا رسولا وهو كذلك فإن غيبه تعالى لا يطلع عليه إلّا بالإعلام من رسول ملكي أو بشري ولا(15/109)
كل غيبه تعالى الخاص مطلع عليه بل بعضه وأقل القليل منه فدل المفهوم على أن غير هذا النوع الخاص من الغيب لا منع من إطلاع الله تعالى غير الرسول عليه فهذا ظاهر الآية دون تعسف ثم لو سلم فالثاني إما مستغرق وإذا قال سبحانه لا يطلع على جميعه أحدا إلا من ارتضى من رسول لم يدل على أنه لا يجوز اطلاع غير الرسول على البعض وإما مطلق ينزل على الكامل منه فيرجع إلى ما اخترناه وتعاضد دلالتا تشريف الإضافة والإطلاق فلا وجه لتعليقه بهذه الآية ومنه يظهر أن الاستدلال من الآية على إبطال الكهانة والتنجيم غير ناهض وإن كان إبطالهما حقا لأنكره فضلا عن تكفير من قال بدلالته على حياة أو موت لأنه كفر بهذه الآية كما نقله شيخنا الطيبي عن الواحدي والزجاج وصاحب المطلع انتهى. وبحث فيه بأن حمل غيبه على الغيب الخاص بمعنى ما يتعلق بذاته تعالى وصفاته عز وجل مما لا يناسب السياق وبأن ظاهر ما قرره على احتمال الاستغراق يقتضي على تقدير اتصال الاستثناء وإيجاب ضد ما نفى للمستثنى أن يظهر الرسول على جميع غيبه تعالى إلى ما يظهر بالتأمل وذكر العلامة البيضاوي أولا ما يفهم منه على ما قيل حمل غيبه على العموم مع الاختصاص أي عموم الغيب المخصوص به علمه تعالى وحمل فلا يظهر على سلب العموم وحمل الرسول على الرسول البشري واعتبار الاستثناء منقطعا على أن المعنى فَلا يُظْهِرُ على جميع غَيْبِهِ المختص به علمه تعالى أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فيظهره على بعض غيبه حتى يكون اخباره به معجزة فلا يتم الاستدلال بالآية على نفي الكرامة. وفسر الاختصاص بأنه لا يعلمه بالذات ولكنه علما حقيقيا يقينيا بغير سبب كاطلاع الغير إلا هو سبحانه وأما علم غيره سبحانه لبعضه فليس علما للغيب إلّا بحسب الظاهر
وبالنسبة لبعض البشر وقيل أراد بالغيب المخصوص به تعالى ما لم ينصب عليه دليل ولا يقدح في الاختصاص علم الغير به بإعلامه تعالى إذ هو إضافي بالنسبة إلى من لم يعلم. وقال ثانيا في الجواب عن الاستدلال ولعله أراد الجواب عند القوم ما نصه وجوابه تخصيص الرسول بالملك والإظهار بما يكون بغير توسط وكرامات الأولياء على المغيبات إنما تكون تلقيا من الملائكة أي بالنفث في الروع ونحوه وحاصله أن الاستدلال إنما يتم أن لو تحقق كون المراد بالرسول رسول البشر والملك جميعا أو رسول البشر فقط وبالإظهار الإظهار بواسطة أولا والكل ممنوع إذ يجوز أن يخص الرسول برسول الملك وأن يراد بالإظهار الإظهار بلا واسطة ويكون المعنى فلا يظهر بلا واسطة على غيبه إلّا رسل الملائكة ولا ينافي ذلك إظهار الأولياء على غيبه لأنه لا يكون إلّا بالواسطة وهو جواب بمنع المقدمتين وإن كان يكفي فيه منع أحدهما كما فعل الإمام والتفتازاني في شرح المقاصد وتعقب بأن رسل البشر قد يطلعون بغير واسطة أيضا وفي قصة المعراج وتكليم موسى عليه السلام ما يكفي في ذلك على أنه قد قيل عليه بعد ما قيل وأغرب ما قيل في هذا المقام كون إِلَّا في قوله تعالى إِلَّا مَنِ ارْتَضى للعطف والمعنى فلا يظهر على غيبه أحد ولا من ارتضى من رسول وحاله لا يخفى ثم إن تفسير قوله تعالى فَإِنَّهُ يَسْلُكُ إلخ بما سمعت هو الذي عليه جمهور المفسرين وكانت الحفظة الذين ينزلون مع جبريل عليه السلام على نبينا صلّى الله عليه وسلم على ما أخرج ابن المنذر وجماعة عن ابن جبير أربعة وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: ما أنزل الله تعالى على نبيه صلّى الله عليه وسلم آية من القرآن إلّا ومعها أربعة من الملائكة يحفظونها حتى يؤدونها إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم ثم قرأ عالِمُ الْغَيْبِ الآية وقد يكون مع الوحي أكثر من ذلك ففي بعض الأخبار أنه نزل مع سورة الأنعام سبعون ألف ملك ملك وجاء في شأن آية الكرسي ما جاء وقال ابن كمال لاحت دقيقة بخاطري الفاتر قلما يوجد مثلها في بطون الدفاتر وهي أن المراد مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ في الآية القوى الظاهرة وَمِنْ خَلْفِهِ القوى الباطنة ولذلك قال سبحانه يَسْلُكُ إلخ أي يدخل حفظة من الملائكة يحفظون قواه الظاهرة(15/110)
والباطنة من الشياطين ويعصمونه من وساوسهم من تينك الجهتين ولو كان المراد حفظة من الجوانب كي لا يقربه الشياطين عند إنزال الوحي فتلقى غير الوحي أو تسمعه فتلقيه إلى الكهنة فتخبر به قبل إخبار الرسول كما ذهب إليه صاحب التيسير وغيره لما كان نظم الكلام على الوجه المذكور فإن عبارة يَسْلُكُ وتخصيص الجهتين المذكورتين إنما يناسب ما ذكرناه لا ما ذكروه انتهى ولا يخفى أنه نحو من الإشارة ولعل التعبير بيسلك على تفسير الجمهور لتصوير الجهات التي تأتي منها الشياطين بالثغور الضيقة والمسالك الدقيقة وفي ذلك من الحسن ما فيه وذهب كثير إلى أن ضمير لِيَعْلَمَ لله تعالى وضمير أَبْلَغُوا إما للرصد أو لمن ارتضى والجمع باعتبار معنى من كما أن الإفراد في الضميرين قبل باعتبار لفظها والمعنى أنه تعالى يسلكهم ليعلم أن الشأن قد أبلغوا رسالات ربهم علما مستتبعا للجزاء وهو أن يعلمه تعالى موجودا حاصلا بالفعل كما في قوله تعالى حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ [محمد: 31] فالغاية في الحقيقة هو الإبلاغ والجهاد وإيراد علمه تعالى لإبراز اعتنائه تعالى بأمرهما والإشعار بترتب الجزاء عليهما والمبالغة في الحث عليهما والتحذير عن التفريط فيهما وقوله تعالى وَأَحاطَ إلخ إما عطف على لا يظهر أو حال من فاعل يَسْلُكُ جيء به لدفع التوهم وتحقيق استغنائه تعالى في العلم بالإبلاغ عما ذكر من سلك الرصد على الوجه المذكور أو عطف كما زعم بعض على مضمر لأن لِيَعْلَمَ متضمن معنى علم فصار المعنى قد علم ذلك وأحاط إلخ وجوز أن يكون ضمير يعلم للرسول الموحى إليه وضمير أَبْلَغُوا للرصد النازلين إليه بالوحي. وروي عن ابن جبير ما يؤيده أو للرسل سواه وَأَحاطَ إلخ عطف على أَبْلَغُوا أو على لا يُظْهِرُ وعن مجاهد ليعلم من كذب وأشرك أن الرسل قد أبلغوا وفيه من البعد ما فيه وعليه لا يقع هذا العلم على ما في البحر إلّا في الآخرة وقيل ليعلم إبليس
أن الرسل قد أبلغوا وقيل ليعلم الجن أن الرسل قد أبلغوا ما أنزل إليهم ولم يكونوا هم المتلقين باستراق السمع وكلا القولين كما ترى ونصب عَدَداً عند جمع على أنه تمييز محول عن المفعول به والأصل أحصى عدد كل شيء إلّا أنه قال أبو حيان في كونه ثابتا من لسان العرب خلاف وأنت تعلم أن التحويل في مثله تقديري وجوز أن يكون حالا أي معدودا محصورا ولا يضر تنكير صاحبها للعموم وأن يكون نصبا على المصدر بمعنى إحصاء فتأمل جميع ذلك والله تعالى الموفق لسلوك أحسن المسالك وقرىء «عالم» بالنصب على المدح «وعلم» فعلا ماضيا «الغيب» بالنصب وقرأ ابن عباس وزيد بن علي «ليعلم» بالبناء للمفعول والزهري وابن أبي عبلة «ليعلم» بضم الياء وكسر اللام من الإعلام أي ليعلم الله تعالى من شاء أن يعلمه أن قد أبلغوا إلخ وقرأ أبو حيوة «رسالة» بالإفراد وقرأ ابن أبي عبلة و «أحيط» و «أحصي» كل بالبناء للمفعول في الفعلين. ورفع «كلّ» على النيابة والفاعل هو الله عز وجل فهو سبحانه المحيط بالأحوال علما والمحصي لكل شيء عددا.(15/111)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)
سورة المزّمّل
مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر وقال ابن عباس وقتادة كما ذكر الماوردي الآيتين منها وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ [المزمل: 10] والتي تليها وحكي في البحر عن الجمهور أنها مكية إلا قوله تعالى:
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ [المزمل: 20] إلى آخرها وتعقبه الجلال السيوطي بعد أن نقل الاستثناء عن حكاية ابن الفرس بقوله ويرده ما أخرجه الحاكم عن عائشة أن ذلك نزل بعد نزول صدر السورة بسنة وذلك حين فرض قيام الليل في أول الإسلام قبل فرض الصلوات الخمس وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بذلك وآيها ثماني عشرة آية في المدني الأخير وتسع عشرة في البصري وعشرون فيما عداهما ولما ختم سبحانه سورة الجن بذكر الرسل عليهم الصلاة والسلام افتتح عزّ وجلّ هذه بما يتعلق بخاتمهم عليه وعليهم الصلاة والسلام وهو وجه في المناسبة وفي تناسق الدرر لا يخفى اتصال أولها قُمِ اللَّيْلَ [المزمل: 2] إلخ بقوله تعالى في آخر تلك وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن: 19] وبقوله سبحانه وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ [الجن: 18] الآية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وقال الأخفش: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ أي المتزمل من تزمل بثيابه إذا تلفف(15/112)
بها فأدغم التاء في الزاي وقد قرأ أبيّ على الأصل وعكرمة «المزمل» بتخفيف الزاي وكسر الميم أي المزمل جسمه أو نفسه وبعض السلف «المزمل» بالتخفيف وفتح الميم اسم مفعول ولا تدافع بين القراءات فإنه عليه الصلاة والسلام هو زمل نفسه الكريمة من غير شبهة لكن إذا نظر إلى أن كل أفعاله من الله تعالى فقد زمله غيره ولا حاجة إلى أن يقال إنه صلّى الله عليه وسلم زمل نفسه أولا ثم نام فزمله غيره أو أنه زمله غيره أولا ثم سقط عنه ما زمل به فزمل هو نفسه، والجمهور على
أنه صلّى الله عليه وسلم لما جاءه الملك في غار حراء وحاوره بما حاوره رجع إلى خديجة رضي الله تعالى عنها فقال: «زملوني زملوني» فنزلت يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ
وعلى أثرها نزلت يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ
وأخرج البزار والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الدلائل عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: لما اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا: سموا هذا الرجل اسما تصدر الناس عنه فقالوا كاهن قالوا ليس بكاهن قالوا مجنون قالوا ليس بمجنون قالوا ساحر قالوا ليس بساحر قالوا يفرق بين الحبيب وحبيبه فتفرق المشركون على ذلك فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلم فتزمل في ثيابه وتدثر فيها فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا أيها المزمل يا أيها المدثر
ونداؤه عليه الصلاة والسلام بذلك تأنيس له وملاطفة على عادة العرب في اشتقاق اسم للمخاطب من صفته التي هو عليها
كقوله صلّى الله عليه وسلم لعلي كرم الله تعالى وجهه حين غاضب فاطمة رضي الله عنها فأتاه وهو نائم لصق بجنبه التراب «قم أبا تراب»
قصدا لرفع الحجاب وطي بساط العتاب وتنشيطا له ليتلقى ما يرد عليه بلا كسل:
وكل ما يفعل المحبوب محبوب وزعم الزمخشري أنه عليه الصلاة والسلام نودي بذلك تهجينا للحالة التي عليها من التزمل في قطيفة واستعداده للاستثقال في النوم كما يفعل من لا يهمه أمر ولا يعنيه شأن إلى آخر ما قال مما ينادي عليه كما قال الأكثرون بسوء الأدب ووافقه في بعضه من وافقه وقال صاحب الكشف أراد أنه عليه الصلاة والسلام وصف بما هو ملتبس به يذكره تقاعده فهو من لطيف العتاب الممزوج بمحض الرأفة ولينشطه ويجعله مستعدا لما وعده تعالى بقوله سبحانه إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل: 5] ولا يربأ برسول الله صلّى الله عليه وسلم عن مثل هذا النداء فقد خوطب بما هو أشد في قوله تعالى عَبَسَ وَتَوَلَّى [عبس: 1] ومثل هذا من خطاب الإدلال والترؤف لا يتقاعد ما في ضمنه من البر والتقريب عما في ضمن يا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأنفال: 64] وغيرها. يا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة: 41، 67] من التعظيم والترحيب انتهى ولا يخفى أنه لا يندفع به سوء أدب الزمخشري في تعبيره فإنه تعالى وإن كان له أن يخاطب حبيبه بما شاء لكنا نحن لا نجري على ما عامله سبحانه به بل يلزمنا الأدب والتعظيم لجنابه الكريم ولو خاطب بعض الرعايا الوزير بما خاطبه به السلطان طرده الحجاب وربما كان العقاب هو الجواب وقيل كان صلّى الله عليه وسلم متزملا بمرط لعائشة رضي الله تعالى عنها يصلي فنودي بذلك ثناء عليه وتحسينا لحاله التي كان عليها ولا يأباه الأمر بالقيام بعد إما لأنه أمر بالمداومة على ذلك والمواظبة عليه أو تعليم له عليه الصلاة والسلام وبيان لمقدار ما يقوم على ما قيل نعم أورد عليه أن السورة من أوائل ما نزل بمكة ورسول الله صلّى الله عليه وسلم إنما بني على عائشة رضي الله عنها بالمدينة مع أن الأخبار الصحيحة متضافرة بأن النداء المذكور كان وهو عليه الصلاة والسلام في بيت خديجة رضي الله تعالى عنها ويعلم منه حال ما روي عن عائشة أنها سئلت ما كان تزميله صلّى الله عليه وسلم قالت كان مرطا طوله أربع عشرة ذراعا نصفه عليّ وأنا نائمة ونصفه عليه وهو يصلي وكان سداه شعرا ولحمته وبرا وتكلف صاحب الكشف فقال الجواب أنه عليه الصلاة والسلام(15/113)
عقد في مكة فلعل المرط بعد العقد صار إليه صلّى الله عليه وسلم نعم دل أنه بعد وفاة خديجة إنما إشكال في قول عائشة نصفه عليّ إلخ وجوابه أنه يمكن أن يكون قد بات صلّى الله عليه وسلم في بيت الصديق رضي الله تعالى عنه ذات ليلة وكان المرط على عائشة وهي طفلة والباقي لطوله على النبيّ عليه الصلاة والسلام فحكت ذلك أم المؤمنين إذ لا دلالة على أنها حكاية ما بعد البناء فهذا ما يتكلف لصحة هذا القول انتهى وأنت تعلم أن هذا الحديث لم يقع في الكتب الصحيحة كما قاله ابن حجر بل هو مخالف لها ومثل الاحتمالات لا يكتفى بها بل قال أبو حيان إنه كذب صريح وعن قتادة كان صلّى الله عليه وسلم قد تزمل في ثيابه للصلاة واستعد لها فنودي بيا أيها المزمل على معنى يا أيها المستعد للعبادة. وقال عكرمة: المعنى يا أيها المزمل للنبوة وأعبائها والزمل كالحمل لفظا ومعنى ويقال ازدمله أي احتمله وفيه تشبيه إجراء مراسم النبوة بتحمل الحمل الثقيل لما فيهما من المشقة وجوز أن يكون كناية عن المتثاقل لعدم التمرن وأورد عليه نحو ما أورد على وجه الزمخشري ومع صحة المعنى الحقيقي واعتضاده بالأحاديث الصحيحة لا حاجة إلى غيره كما قيل قُمِ اللَّيْلَ أي قم إلى الصلاة وقيل داوم عليها وأيّا ما كان فمعمول قُمِ مقدر واللَّيْلَ منصوب على الظرفية وجوز أن يكون منصوبا على التوسع والإسناد المجازي ونسب هذا إلى الكوفيين وما قيل إلى البصريين، وقيل القيام مستعار للصلاة ومعنى قُمِ صل فلا تقدير وقرأ أبو السمال بضم الميم اتباعا لحركة القاف وقرىء بفتحها طلبا للتخفيف والكسر في قراءة الجمهور على أصل التقاء الساكنين إِلَّا قَلِيلًا استثناء من اللَّيْلَ وقوله تعالى نِصْفَهُ بدل من قَلِيلًا بدل الكل والضمير لليل وفي هذا الإبدال رفع الإبهام وفي الإتيان بقليل ما يدل على أن النصف المغمور بذكر الله تعالى بمنزلة
الكل والنصف الفارغ وإن ساواه في الكمية لا يساويه في التحقيق أَوِ انْقُصْ مِنْهُ عطف على الأمر السابق والضمير المجرور لليل أيضا مقيدا بالاستثناء لأنه الذي سيق له الكلام وقيل للنصف لقربه قَلِيلًا أي نقصا قليلا أو مقدارا قليلا بحيث لا ينحط عن نصف النصف أَوْ زِدْ عَلَيْهِ عطف كما سبق وكذا الكلام في الضمير ولا يختلف المعنى على القولين فيه وهو تخييره صلّى الله عليه وسلم بين أن يقوم نصف الليل أو أقل من النصف أو أكثر بيد أنه رجح الأول بأن فيه جعل معيار النقص والزيادة النصف المقارن للقيام وهو أولى من جعله للنصف العاري منه بالكلية وإن تساويا كمية وجهل بعضهم الإبدال من الليل الباقي بعد الثنيا والضميرين له وقال في الإبدال من قليل ليس بسديد لهذا ولأن الحقيقي بالاعتناء الذي ينبىء عنه الإبدال هو الجزء الباقي بعد الثنيا المقارن للقيام لا للجزء المخرج العاري عنه ولا يخفى أنه على طرف التمام وكذا اعترض أبو حيان ذلك الإبدال بقوله: إن ضمير نِصْفَهُ حينئذ إما أن يعود على المبدل منه أو على المستثنى منه وهو اللَّيْلَ لا جائز أن يعود على المبدل منه لأنه يكون استثناء مجهول إذ التقدير إلّا قليلا نصف القليل، وهذا لا يصح له معنى البتة ولا جائز أن يعود على المستثنى منه لأنه يلغو فيه الاستثناء إذ لو قيل قم الليل نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه أفاد معناه على وجه أخصر وأوضح وأبعد عن الإلباس وفيه أنا نختار الثاني وما زعمه من اللغوية قد أشرنا إلى دفعه وأوضحه بعض الأجلة بقوله: إن فيه تنبيها على تخفيف القيام وتسهيله لأن قلة أحد النصفين تلازم قلة الآخر وتنبيها على تفاوت ما شعل بالطاعة وما خلا منها الإشعار بأن البعض المشغول بمنزلة الكل مع ما في ذلك من البيان بعد الإبهام الداعي للتمكن في الذهب وزيادة التشويق وتعقب السمين الشق الأول أيضا بأن قوله استثناء مجهول من مجهول غير صحيح لأن اللَّيْلَ معلوم وكذا بعضه من النصف وما دونه وما فوقه ولا ضير في استثناء المجهول من المعلوم نحو فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا [البقرة: 249] بل لا ضمير في إبدال مجهول من مجهول كجاءني جماعة بعضهم مشاة ومع هذا(15/114)
المعول عليه ما سلف وجوز أن يكون نِصْفَهُ بدلا من اللَّيْلَ بدل بعض من كل والاستثناء منه والكلام على نية التقديم والتأخير والأصل ثم نصف الليل إلا قليلا وضمير منه وعليه للأقل من النصف المفهوم من مجموع المستثنى منه فكأنه قيل قم أقل من نصف الليل بأن تقوم ثلث الليل أو أنقص من ذلك الأقل قليلا بأن تقوم ربع الليل أو زد على ذلك الأقل بأن تقوم النصف فالتخيير على هذا بين الأقل من النصف والأقل من الأقل وإلّا زيد منه وهو النصف بعينه وماله إلى التخيير بين النصف والثلث والربع، فالفرق بين هذا الوجه وما ذكر قيل مثل الصبح ظاهر وفي الكشاف ما يفهم منه على ما قيل إن التخيير فيما وراء النصف أي فيما يقل عن النصف ويزيد على الثلث فلا يبلغ بالزيادة النصف ولا بالنقصان الثلث. قال في الكشف وإنما جعل الزيادة دون النصف والنقصان فوق الثلث لأنهما لو بلغا إلى الكسر الصحيح لكان الأشبه أن يذكر بصريح اسميهما وأيضا إيثار القلة ثانيا دليل على التقريب من ذلك الأقل وما انتهى إلى كسر صحيح فليس بناقص قليل في ذوق هذا المقام وذا القول في جانب الزيادة كيف وقد بنى الأمر على كونه أقل من النصف انتهى وهو وجه متكلف ونحوه فيما أرى ما سمعت قبيله وظاهر كلام بعضهم أن ذكر الثلث والربع والنصف فيه على سبيل التمثيل لا أن الأقل والأنقص والأزيد محصورات فيما ذكر. وجوز أيضا كون الكلام على نية التقديم والتأخير كما مر آنفا لكن مع جعل الضميرين للنصف لا للأقل منه كما في ذلك والمعنى التخيير بين أمرين بين أن يقوم عليه الصلاة والسلام أقل من نصف الليل على البت وبين أن يختار أحد الأمرين وهما النقصان من النصف والزيادة عليه فكأنه قيل قم أقل من نصف الليل على البت أو أنقص من النصف أو زد عليه تخييرا قيل وللاعتناء بشأن الأقل لأنه الأصل الواجب كرر على
نحو أكرم إما زيدا وإما زيدا أو عمرا وتعقب بأن فيه تكلفا لأن تقديم الاستثناء على البدل ظاهر في أن البدل من الحاصل بعد الاستثناء لأن في تقدير تأخير الاستثناء عدولا عن الأصل من غير دليل ولأن الظاهر على هذا رجوع الضميرين إلى النصف بعد الاستثناء لأنه السابق لا النصف المطلق وأيضا الظاهر أن النقصان رخصة لأن الزيادة نفل والاعتناء بشأن العزيمة أولى ثم فيه أنه لا يجوز قيام النصف ويرده القراءة الثابتة في السبعة إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ [المزمل: 20] بالجر فإن استدل من جواز الأقل على جوازه لمفهوم الموافقة لزم أن يلغوا التعرض للزيادة على النصف لذلك أيضا ولا يخفى أن بعض هذا يرد على الوجه المار آنفا واعترض قوله الظاهر أن النقصان رخصة بأنه محل نظر إذ الظاهر أنه من قبيل فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ [القصص: 27] فالتخيير ليس على حقيقته وفيه بحث. وجوز أيضا كون الإبدال من قَلِيلًا الثاني بمعنى نصف النصف وهو الربع وضمير عليه لهذا القليل وجعل المزيد على هذا القليل أعني الربع نصف الربع كأنه قيل قم نصف الليل أو أنقص من النصف قليلا نصفه أو زد على هذا القليل قليلا نصفه ومآله قم نصف الليل أو نصف أو زد على نصف النصف نصف نصف النصف فيكون التخيير فيما إذا كان الليل ست عشرة ساعة مثلا بين قيام ثماني ساعات وأربع وست ولا يخفى أن الإطلاق في أو زد عليه ظاهر الإشعار بأنه غير مقيد بقليلا إذ لو كان للاستغناء لاكتفى في أو انقص إلخ بالأول أيضا ومن هنا قيل يجوز أن تجعل الزيادة لكونها مطلقة تتمة للثلث فيكون التخيير بين النصف والثلث والربع وفيه أن جعلها تتمة الثلث لا دليل عليه سوى موافقة القراءة بالجر في نصفه وثلثه بعد. وجوز الإمام أن يراد بقليلا في قوله تعالى إِلَّا قَلِيلًا الثلث وقال إن نِصْفَهُ على حذف حرف العطف فكأنه قيل ثلثي الليل أو قم نصفه أو أنقص من النصف أو زد عليه وأطال في بيان ذلك والذب عنه ومع ذلك لا يخفى حاله وذكر أيضا وجها ثانيا لا يخفى أمره على من أحاط بما تقدم خبرا نعم تفسيره(15/115)
القليل بالثلث مروي عن الكلبي ومقاتل وعن وهب بن منبه تفسيره بما دون المعشار والسدس وهو على ما قدمنا نصف واستدل به من قال بجواز استثناء النصف وما فوقه على ما فصل في الأصول وقال التبريزي الأمر بالقيام والتخيير في الزيادة والنقصان وقع على الثلثين من آخر الليل لأن الثلث الأول وقت العتمة والاستثناء وارد على المأمور به فكأنه قيل قم ثلثي الليل إلّا قليلا ثم جعل نصفه بدلا من قليلا فصار القليل مفسرا بالنصف من الثلثين وهو قليل على ما تقدم أو أنقص منه أي من المأمور به وهو قيام الثلثين قليلا أي ما دون نصفه أو زد عليه فكان التخيير في الزيادة والنقصان واقعا على الثلثين انتهى. وهو كما ترى وقيل الاستثناء من اعداد الليل لا من أجزائه فإن تعريفه للاستغراق إذ لا عهد فيه والضمير راجع إليه باعتبار الأجزاء على أن هناك استخداما أو شبهه والتخيير بين قيام النصف والناقص عنه والزائد عليه وهو بمكان من البعد وبالجملة قد أكثر المفسرون الكلام في هذه الآية حتى ذكروا ما لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى العزيز عليه وأظهر الوجوه عندي وأبعدها عن التكلف وأليقها بجزالة التنزيل هو ما ذكرناه أولا والله تعالى أعلم بما في كتابه الجليل الجزيل وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بالأمر في قوله سبحانه قُمِ اللَّيْلَ إلخ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ أي في أثناء ما ذكر من القيام أي اقرأه على تؤدة وتمهل وتبيين حروف تَرْتِيلًا بليغا بحيث يتمكن السامع من عدها من قولهم ثغر رتل بسكون التاء ورتل بكسرها إذا كان مفلجا لم تتصل أسنانه بعضها ببعض
وأخرج العسكري في المواعظ عن عليّ كرم الله تعالى وجهه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية فقال: «بينه تبيينا ولا تنثره نثر الدقل ولا تهذه هذا الشعر قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة»
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ أي سنوحي إليك وإيثار الإلقاء عليه لقوله تعالى قَوْلًا ثَقِيلًا وهو القرآن العظيم فإنه لما فيه من التكاليف الشاقة ثقيل على المكلفين سيما على الرسول صلّى الله عليه وسلم فإنه عليه الصلاة والسلام مأمور بتحملها وتحميلها للأمة وهذه الجملة المؤكدة معترضة بين الأمر بالقيام وتعليله الآتي لتسهيل ما كلفه عليه الصلاة والسلام من القيام كأنه قيل إنه سيرد عليك في الوحي المنزل تكاليف شاقة هذا بالنسبة إليها سهل فلا تبال بهذه المشقة وتمرن بها لما بعدها وادخل بعضهم في الاعتراض جملة وَرَتِّلِ إلخ وتعقب بأنه لا وجه له وقيل معنى كونه ثَقِيلًا أنه رصين لإحكام مبانيه ومتانة معانيه والمراد أنه راجح على ما عداه لفظا ومعنى لكن تجوز بالثقيل عن الراجح لأن الراجح من شأنه أن يكون كذلك وفي معناه ما قيل المراد كلام له وزن ورجحان ليس بالسفساف وقيل معناه أنه ثقيل على المتأمل فيه لافتقاره إلى مزيد تصفيه للسر وتجريد للنظر، فالثقيل مجاز عن الشاق وقيل ثقيل في الميزان والثقل إما حقيقة أو مجاز عن كثرة ثواب قارئه وقال أبو العلية والقرطبي ثقله على الكفار والمنافقين بإعجازه ووعيده وقيل ثقيل تلقّيه يعني يثقل عليه صلّى الله عليه وسلم والوحي به بواسطة الملك فإنه كان يوحي إليه عليه الصلاة والسلام على أنحاء منها أن لا يتمثل له الملك ويخاطبه بل يعرض له عليه الصلاة والسلام كالغشي لشدة انجذاب روحه الشريفة للملأ إلّا على بحيث يسمع ما يوحي به إليه ويشاهده ويحسه هو عليه الصلاة والسلام دون من معه وفي هذه الحالة كان يحس في بدنه ثقلا حتى كادت فخذه صلّى الله عليه وسلم أن ترض فخذ زيد بن ثابت وقد كانت عليها وهو يوحى إليه
وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن جرير وابن نصر والحاكم وصححه عن عائشة أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها فما تستطيع أن تتحرك حتى يسري عنه وتلت إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا
وروى الشيخان ومالك والترمذي والنسائي عنها أنها قالت ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا
وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون ثَقِيلًا صفة لمصدر حذف فأقيم مقامه وانتصب انتصابه أي(15/116)
إلقاء ثقيلا وليس صفة قَوْلًا وقيل ذلك عن بقائه على وجه الدهر لأن الثقيل من شأنه أن يبقى في مكانه.
وقيل ثقله باعتبار ثقل حروفه حقيقة في اللوح المحفوظ فعن بعضهم أن كل حرف من القرآن في اللوح أعظم من جبل قاف، وأن الملائكة لو اجتمعت على الحرف أن يقلوه ما أطاقوه حتى يأتي إسرافيل عليه السلام وهو ملك اللوح فيرفعه ويقله بإذن الله تعالى لا بقوته ولكن الله عزّ وجلّ طوقه ذلك وهذا مما يحتاج إلى نقل صحيح عن الصادق عليه الصلاة والسلام ولا أظن وجوده. والجملة قيل على معظم هذه الأوجه مستأنفة للتعليل فإن التهجد يعد النفس لأن تعالج ثقله فتأمل. واستدل بالآية على أنه لا ينبغي أن يقال سورة خفيفة لما أن الله تعالى سمى فيها القرآن كله قَوْلًا ثَقِيلًا وهذا من باب الاحتياط كما لا يخفى إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ أي إن النفس التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة أي تنهض من نشأ من مكانه ونشر إذ نهض وأنشد قوله:
نشأنا إلى خوص برى فيها السرى ... وأشرف منها مشرفات القماحد
وظاهر كلام اللغويين أن نشأ بهذا المعنى لغة عربية وقال الكرماني في شرح البخاري هي لغة حبشية عربوها وأخرج جماعة نحوه عن ابن عباس وابن مسعود وحكاه أبو حيان عن ابن جبير وابن زيد وجعل ناشِئَةَ جمع ناشىء فكأنه أراد النفوس الناشئة أي القائمة ووجه الإفراد ظاهر والإضافة إما بمعنى في أو على نحو سيد غضي وهذا أبلغ أو أن قيام الليل على أن الناشئة مصدر نشأ بمعنى قام كالعاقبة وإسنادها إلى الليل مجاز كما يقال: قام ليله وصام نهاره، وخص مجاهد هذا القيام بالقيام من النوم وكذا عائشة ومنعت أن يراد مطلق القيام وكان ذلك بسبب أن الإضافة إلى الليل في قولهم قيام الليل تفهم القيام من النوم فيه أو القيام وقت النوم لمن قال الليل كله أو أن العبادة التي تنشأ أي تحدث بالليل على أن الإضافة اختصاصية أو بمعنى في أو على نحو مَكْرُ اللَّيْلِ [سبأ: 33] وقال ابن جبير وابن زيد وجماعة ناشِئَةَ اللَّيْلِ ساعاته لأنها تنشأ أي تحدث واحدة بعد واحدة أي متعاقبة والإضافة عليه اختصاصية أو ساعاته الأول من نشأ إذا ابتدأ وقال الكسائي ناشئة أوله وقريب منه ما
روي عن ابن عمر وأنس بن مالك وعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم هي ما بين المغرب والعشاء
هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً أي هي خاصة دون ناشئة النهار أشد مواطأة يواطىء قلبها لسانها إن أريد بالناشئة النفس المتهجدة أو يواطىء فيها قلب القائم لسانه إن أريد بها القيام أو العبادة أو الساعات والإسناد على الأول حقيقي وعلى هذا مجازي واعتبار الاستعارة المكنية ليس بذاك أو أشد موافقة لما يراد من الإخلاص فلا مجاز على جميع المعاني. وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد والعربيان وطاء بكسر الواو وفتح الطاء ممدودا على أنه مصدر واطأ وطاء كقاتل قتالا وقرأ قتادة وشبل عن أهل مكة بكسر الواو وسكون الطاء والهمز مقصورا وقرأ ابن محصن بفتح الواو ممدودا وَأَقْوَمُ قِيلًا أي وأسوأ مقالا أو أثبت قراءة لحضور القلب وهدو الأصوات وقِيلًا عليهما مصدر لكنه على الأول عام للأذكار والأدعية وعلى الثاني مخصوص بالقراءة ونصبه ونصب وطأ على التمييز وأخرج ابن جرير وغيره عن أنس بن مالك أنه قرأ «وأصوب قليلا» فقال له رجل إنا نقرؤها «وأقوم قليلا» فقال إن أصوب وأقوم وأهيأ وأشباه هذا واحد إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا أي تقلبا وتصرفا في مهماتك واشتغالا بشواغلك فلا تستطيع أن تتفرغ للعبادة فعليك بها في الليل وأصل السبح المر السريع في الماء فاستعير للذهاب مطلقا كما قاله الراغب وأنشدوا قول الشاعر:
أباحوا لكم شرق البلاد وغربها ... ففيها لكم يا صاح سبح من السبح
وهذا بيان للداعي الخارجي إلى قيام الليل بعد بيان ما في نفسه من الداعي وقيل أي إن لك في النهار(15/117)
فراغا وسعة لنومك وتصرفك في حوائجك وقيل إن فاتك من الليل شيء فلك في النهار فراغ تقدر على تداركه فيه فالسبح لفراغ وهو مستعمل في ذلك لغة أيضا لكن الأول أوفق لمعنى قولهم سبح في الماء وأنسب للمقام ثم إن الكلام على هذا إما تتميم للعلة يهون عليه أن النهار يصلح للاستراحة فليغتنم الليل للعبادة وليشكر إن لم يكلف استيعابهما بالعبادة أو تأكيد للاحتفاظ به بأنه إن فات لا بد من تداركه بالنهار ففيه متسع لذلك وفيه تلويح إلى معنى جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً [الفرقان: 62] وقرأ ابن يعمر وعكرمة وابن أبي عبلة «سبخا» بالخاء المعجمة أي تفرق قلب بالشواغل مستعار من سبخ الصوف وهو نقشه ونشر أجزائه وقال غير واحد خفة من التكاليف قال الأصمعي يقال: سبخ الله تعالى عنك الحمى خففها
وفي الحديث «لا تسبخي بدعائك»
أي لا تخففي ومنه قوله:
فسبخ عليك الهم واعلم بأنه ... إذا قدر الرحمن شيئا فكائن
وقيل السبخ المد يقال سبخي قطنك أي مديه، ويقال لقطع القطن سبائخ الواحدة سبخة ومنه قول الأخطل يصف قناصا وكلابا:
فأرسلوهن يذرين التراب كما ... يذري سبائخ قطن ندف أوتار
وقال صاحب اللوامح إن ابن يعمر وعكرمة فسرا «سبخا» بالمعجمة بعد أن قرآ به فقالا معناه نوما أي ينام بالنهار ليستعين به على قيام الليل وقد يحتمل هذه القراءة غير هذا المعنى لكنهما فسراها فلا نتجاوز عنه اهـ ولعل ذلك تفسير باللازم وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ أي ودم على ذكره تعالى ليلا ونهارا على أي وجه كان من تسبيح وتهليل وتحميد وصلاة وقراءة قرآن وغير ذلك وفسر الأمر بالدوام لأنه عليه الصلاة والسلام لم ينسه تعالى حتى يؤمر بذكره سبحانه والمراد الدوام العرفي لا الحقيقي لعدم إمكانه ولأن مقتضى السياق أن هذا تعميم بعد التخصيص كان المعنى على ما سمعت من اعتبار ليلا ونهارا وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ أي وانقطع إليه تعالى بالعبادة وجرد نفسك عما سواه عزّ وجلّ واستغرق في مراقبته سبحانه وكان هذا أمر بما يتعلق بالباطن بعد الأمر بما يتعلق بالظاهر ولتأكيد ذلك قال سبحانه تَبْتِيلًا ونصبه بتبتل لتضمنه معنى بتل على ما قيل وقد تقدم الكلام في تحقيق ذلك عند قوله تعالى وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] فتذكر فما في العهد من قدم وكيفما كان الأمر ففيه مراعاة الفواصل رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ مرفوع على المدح وقيل على الابتداء خبره لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وقرأ زيد بن عليّ رضي الله تعالى عنهما «ربّ» بالنصب على الاختصاص والمدح وهو يؤيد الأول وقرأ الإخوان وابن عامر وأبو بكر ويعقوب «ربّ» بالجر على أنه بدل من رَبِّكَ وقيل على إضمار حرف القسم وجوابه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وفيه حذف حرف القسم من غير ما يسد مسده وإبقاء عمله وهو ضعيف جدا كما بين في العربية وقد نقل هذا عن ابن عباس وتعقبه أبو حيان بقوله لعله لا يصح عنه إذ فيه إضمار الجار في القسم ولا يجوز عند البصريين إلّا في لفظة الجلالة الكريمة نحو الله لأفعلن كذا ولا قياس عليه ولأن الجملة المنفية في جواب القسم إذا كانت اسمية تنفى بما لا غير ولا تنفى بلا إلا الجملة المصدرة بمضارع كثيرا وبماض في معناه قليلا انتهى وظاهر كلام ابن مالك في التسهيل إطلاق وقوع الجملة المنفية جوابا للقسم وقال في شرح الكافية إن الجملة الاسمية تقع جوابا للقسم مصدرة بلا النافية لكن يجب تكرارها إذا تقدم خبرها أو كان المبتدأ معرفة نحو والله لا في الدار رجل ولا امرأة وو الله لا زيد في الدار ولا عمرو ومنه يعلم أن المسألة خلافية بين هذين الإمامين وقرأ ابن عباس وعبد الله وأصحابه «رب المشارق(15/118)
والمغارب» وبجمعهما وقد تقدم الكلام في وجه الإفراد والجمع. والفاء في قوله تعالى فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا لترتيب الأمر وموجبه على اختصاص الألوهية والربوبية به عزّ وجلّ وجل ووكيل فعيل بمعنى مفعول أي موكول إليه والمراد من اتخاذه سبحانه وكيلا أن يعتمد عليه سبحانه ويفوض كل أمر إليه عزّ وجلّ وذكر أن مقام التوكل فوق مقام التبتل لما فيه من رفع الاختيار وفيه دلالة على غاية الحب له تعالى وأنشدوا:
هواي له فرض تعطف أم جفا ... ومنهله عذب تكدر أم صفا
وكلت إلى المعشوق أمري كله ... فإن شاء أحياني وإن شاء أتلفا
ومن كلام بعض السادة: من رضي بالله تعالى وكيلا وجد إلى كل خير سبيلا وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ مما يؤلمك من الخرافات كقولهم يفرق بين الحبيب وحبيبه على ما سمعت في بعض روايات أسباب النزول وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا بأن تجانبهم وتداريهم ولا تكافئهم وتكل أمورهم إلى ربهم كما يعرب عنه قوله تعالى وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أي خل بيني وبينهم وكل أمرهم إليّ فإن في ما يفرغ بالك ويجلي همك ومر في أن تمام الكلام في ذلك وجوز في المكذبين هنا أن يكونوا هم القائلين ففيه وضع الظاهر موضع المضمر وسما لهم بميسم الذم مع الإشارة إلى علة الوعيد وجوز أن يكونوا بعض القائلين فهو على معنى ذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ منهم والآية قيل نزلت في صناديد قريش المستهزئين وقيل في المطعمين يوم بدر أُولِي النَّعْمَةِ أرباب التنعم وغضارة العيش وكثرة المال والولد فالنعمة بالفتح التنعم وأما بالكسر فهي الإنعام وما ينعم به وأما بالضم فهي المسرة وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا أي زمانا قليلا وهو مدة الحياة الدنيا وقيل المدة الباقية إلى يوم بدر وأيّا ما كان فقليلا نصب على الظرفية وجوز أن يكون نصبا على المصدرية أي إمهالا قليلا والتفعيل لتكثير المفعول إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا جمع نكل بكسر النون وفتحها وهو القيد الثقيل وقيل الشديد وقال الكلبي الأنكال الأغلال الأول أعرف في اللغة وعن الشعبي لم تجعل الأنكال في أرجلهم خوفا من هربهم ولكن إذا أرادوا أن يرتفعوا استفلت بهم والجملة تعليل لقوله تعالى ذَرْنِي وما عطف عليه فكأنه قيل كل أمرهم إلي ومهلهم قليلا لأن عندي ما أنتقم به منهم أشد الانتقام أنكالا وَجَحِيماً نارا شديدة الإيقاد وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ ينشب في الحلوق ولا يكاد يساغ كالضريع والزقوم. وعن ابن عباس شوك من نار يعترض في حلوقهم لا يخرج ولا ينزل وَعَذاباً أَلِيماً يَوْمَ ونوعا آخر من العذاب مؤلما لا يقادر قدره ولا يعرف كنهه إلّا الله عزّ وجلّ كما يشعر بذلك المقابلة والتنكير وما أعظم هذه الآية
فقد أخرج الإمام أحمد في الزهد وابن أبي داود في الشريعة وابن عدي في الكامل والبيهقي في الشعب من طريق حمران بن أعين عن أبي حرب بن الأسود أن النبي صلّى الله عليه وسلم سمع رجلا يقرأ إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا إلخ فصعق
وفي رواية أنه عليه الصلاة والسلام نفسه قرأ إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا فلما بلغ أَلِيماً صعق
وقال خالد بن حسان: أمسى عندنا الحسن وهو صائم فأتيته بطعام فعرضت له هذه الآية إِنَّ لَدَيْنا إلخ فقال أرفعه فلما كانت الليلة الثانية أتيته بطعام فعرضت له أيضا فقال ارفعه وكذلك الليلة الثالثة فانطلق ابنه إلى ثابت البناني ويزيد الضبي ويحيى البكاء فحدثهم بحديثه فجاؤوا معه فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق. وفي الحديث السابق إذا صح ما يقيم العذر للصوفية ونحوهم الذين يصعقون عند سماع بعض الآيات ويقعد إنكار عائشة رضي الله عنها ومن وافقها عليهم اللهم إلّا أن يقال إن الإنكار ليس إلّا على من يصدر منه ذلك اختيارا وهو أهل لأن ينكر عليه كما لا يخفى أو يقال صعق من الصعق بسكون العين وقد يحرك غشي عليه لا من الصعق بالتحريك شدة الصوت وذلك مما لم(15/119)
تنكره عائشة رضي الله تعالى عنها ولا غيرها وللإمام في الآية كلام على نحو كلام الصوفية قال اعلم أنه يمكن حمل هذه المراتب الأربعة على العقوبة الروحانية اما الأنكال فهي عبارة عن بقاء النفس في قيد التعلقات الجسمانية واللذات البدنية فإنها في الدنيا لما اكتسبت ملكة تلك المحبة والرغبة فبعد البدن يشتد الحنين مع أن آلات الكسب قد بطلت فصارت تلك كالأنكال والقيود المانعة له من التخلص إلى عالم الروح والصفاء ثم يتولد من تلك القيود الروحانية نيران روحانية فإن شدة ميلها إلى الأحوال البدنية وعدم تمكنها من الوصول إليها توجب حرقة شديدة روحانية كمن تشتد رغبته في وجدان شيء ثم إنه لا يجده فإنه يحترق قلبه عليه فذاك هو الجحيم ثم إنه يتجرع غصة الحرمان وألم الفراق فذاك هو المراد من قوله سبحانه وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ ثم إنه بسبب هذه الأحوال بقي محروما عن تجلي نور الله تعالى والانخراط في سلك القدسيين وذلك هو المراد بقوله عزّ وجلّ وَعَذاباً أَلِيماً وتنكير عَذاباً يدل على أنه أشد مما تقدم وأكمل وأعلم أني لا أقول المراد بالآية ما ذكرته فقط بل أقول إنها تفيد حصول المراتب الأربعة الجسمانية وحصول المراتب الأربعة الروحانية ولا يمتنع الحمل عليهما وإن كان اللفظ بالنسبة إلى المراتب الجسمانية حقيقة وبالنسبة إلى المراتب الروحانية مجازا لكنه مجاز متعارف مشهور انتهى وتعقب بأنه بالحمل عليهما يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز أو عموم المجاز من غير قرينة وليس في الكلام ما يدل عليه بوجه من الوجوه وأنت تعلم أن أكثر باب الإشارة عند الصوفية من هذا القبيل وقوله تعالى تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ قيل متعلق بذرني وقيل صفة عَذاباً وقيل متعلق بأليما واختار جمع أنه متعلق بالاستقرار الذي تعلق به لَدَيْنا أي استقر ذلك العذاب لدينا وظهر يوم تضطرب الأرض والجبال وتتزلزل وقرأ زيد بن علي «ترجف» مبنيا للمفعول وَكانَتِ الْجِبالُ مع صلابتها وارتفاعها كَثِيباً رملا مجتمعا من كثب الشيء إذا جمعه فكأنه في الأصل فعيل بمعنى مفعول ثم غلب حتى صار له حكم الجوامد والكلام على التشبيه البليغ وقيل لا مانع من أن تكون رملا حقيقة مَهِيلًا قيل أي رخوا لينا إذا وطئته القدم زل من تحتها وقيل منثورا من هيل هيلا إذا نثر وأسيل وكونه كثيبا باعتبار ما كان عليه قبل النثر فلا تنافي بين كونه مجتمعا ومنثورا وليس المراد أنه في قوة ذلك وصدده كما قيل إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ خطاب للمكذبين أولي النعمة سواء جعلوا القائلين أو بعضهم ففيه التفات من الغيبة وهو التفات جليل الموقع أي إنا أرسلنا إليكم أيها المكذبون من أهل مكة رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ يشهد يوم القيامة بما صدر منكم من الكفر والعصيان كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا هو موسى عليه السلام وعدم تعيينه لعدم دخله في التشبيه أو لأنه معلوم غني عن البيان فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ المذكور الذي أرسلناه إليه فالتعريف للعهد الذكري والكاف في محل النصب على أنها صفة لمصدر محذوف على تقدير اسميتها أي إرسالا مثل إرسالنا أو الجار والمجرور في موضع الصفة على تقدير حرفيتها أي إرسالا كائنا كما والمعنى أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم فعصيتموه كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصاه وفي إعادة فرعون والرسول مظهرين تفظيع لشأن عصيانه وإن ذلك لكونه عصيان الرسول لا لكونه عصيان موسى وفيه إن عصيان المخاطبين أفظع وأدخل في الدم إذ زاد جل وعلا لهذا الرسول وصفا آخر أعني شاهِداً عَلَيْكُمْ وأدمج
فيه أنه لو آمنوا كانت الشهادة لهم وقوله تعالى فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا أي ثقيلا رديء العقبى من قولهم كلأ وبيل وحم لا يستمرأ لثقله والوبيل أيضا العصا الضخمة ومنه الوابل للمطل العظيم قطره خارج عن التشبيه جيء به لإيذان المخاطبين بأنهم مأخوذون بمثل ذلك وأشد وأشد وقوله تعالى فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً مراتب على الإرسال فالعصيان ويَوْماً مفعول به لتتقون ما بتقدير مضاف(15/120)
أي عذاب أو هول يوم أو بدونه إلّا أن المعنى عليه وضمير يَجْعَلُ لليوم والجملة صفته والإسناد مجازي وقال بعض الضمير لله تعالى والإسناد حقيقي والجملة صفة محذوفة الرابط أي يجعل فيه كما في قوله تعالى وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ [البقرة: 48] وكان ظاهر الترتيب أن يقدم على قوله تعالى كَما أَرْسَلْنا إلا انه أخر إلى هنا زيادة على زيادة في التهويل فكأنه قيل هبوا أنكم لا تؤخذون في الدنيا أخذة فرعون وأضرابه فكيف تقون أنفسكم هول القيامة وما أعد لكم من الأنكال إن دمتم على ما أنتم عليه ومتم في الكفر وفي قوله سبحانه إِنْ كَفَرْتُمْ وتقديره تقدير مشكوك في وجوده ما ينبه على أنه لا ينبغي أن يبقى مع إرسال هذا الرسول لأحد شبهة تبقيه في الكفر فهو النور المبين وجوز أن يكون يوما ظرفا لتتقون على معنى فكيف لكم بالتقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا والكلام حينئذ للحث على الإقلاع من الكفر والتحذير عن مثل عاقبة آل فرعون قبل أن لا ينفع الندم وجوز أيضا أن ينتصب بكفرتم على تأويل جحدتم والمعنى فكيف يرجى إقلاعكم عن الكفر واتقاء الله تعالى وخشيته وأنتم جاحدون يوم الجزاء كأنه لما قيل يوم ترجف عقب بقوله تعالى فَكَيْفَ تَتَّقُونَ الله إِنْ كَفَرْتُمْ به فأعيد ذكر اليوم بصفة أخرى زيادة في التهويل والوجه الأول أولى قاله في الكشف وقال العلامة الطيبي في الوجه الأخير أعني انتصاب يَوْماً بكفرتم أنه أوفق للتأليف يعني خوفناكم بالإنكال والجحيم وأرسلنا إليكم رسولا شاهدا يوم القيامة بكفركم وتكذيبكم وأنذرناكم بما فعلنا بفرعون من العذاب الوبيل والأخذ الثقيل فما نجع فيكم ذلك كله ولا اتقيتم الله تعالى فكيف تتقونه وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة والجزاء وفيه أن ملاك التقوى والخشية الإيمان بيوم القيامة انتهى. ولا يخفى أن جزالة المعنى ترجح الأول وذهب جمع إلى أن الخطاب في إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ عام للأسود والأحمر فالظاهر أنه ليس من الالتفات في شيء وأيّا ما كان فجعل الولدان شيبا أي شيوخا جمع أشيب قيل حقيقة فتشيب الصبيان وتبيض شعورهم من شدة يوم القيامة وذلك على ما أخرج ابن المنذر عن ابن مسعود حين يقول الله تعالى لآدم عليه السلام قم فأخرج من ذريتك بعث النار فيقول يا رب لا علم لي إلّا ما علمتني فيقول الله عزّ وجلّ أخرج بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين فيخرجون ويساقون إلى النار سوقا مقرنين زرقا كالحين قال ابن مسعود فإذا خرج بعث النار شاب كل وليد وفي حديث الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس نحن ذلك وقيل مثل في شدة الهول من غير أن يكون هناك شيب بالفعل فإنهم يقولون في اليوم الشديد يوم يشيب نواصي الأطفال والأصل في ذلك أن الهموم إذا تفاقمت على المرء أضعفت قواه وأسرعت فيه الشيب ومن هنا قيل الشيب نوار الهموم وحديث البعث لا يأبى هذا وجوز الزمخشري أن يكون ذلك وصفا لليوم بالطول وأن الأطفال يبلغون فيه أو أن الشيخوخة والشيب وليس المراد به التقدير الحقيقي بل وصف بالطول فقط على ما تعارفوه وإلّا فهو أطول من ذاك وأطول فلا اعتراض لكنه مع هذا ليس بذلك والظاهر عموم الولدان وقال السدي هم هنا أولاد الزنا وقيل هم أولاد المشركين وقرأ زيد بن علي «يوم» بغير تنوين «نجعل» بالنون فالظرف مضاف إلى جملة نجعل إلخ السَّماءُ مُنْفَطِرٌ أي منشق وقرىء «متفرط» أي متشقق بِهِ أي بذلك اليوم والباء للآلة مثلها في قولك فطرت العود بالقدوم فانفطر به يعني أن السماء على عظمها وإحكامها تنفطر بشدة ذلك اليوم وهوله كما ينفطر الشيء بما يفطر به فما ظنك بغيرها من الخلائق وجوز أن يراد السماء مثقلة به الآن أثقالا يؤدي إلى انفطارها لعظمه عليها
وخشيتها من وقوعه كقوله تعالى ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ [الأعراف:
187] فالكلام من باب التخييل والانفطار كناية عن المبالغة في ثقل ذلك اليوم والمراد إفادة أنه الآن على هذا الوصف والأول أظهر وأوفق لأكثر الآيات وكان الظاهر السماء منفطرة بتأنيث الخبر لأن المشهور أن السماء(15/121)
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
مؤنثة لكن اعتبر إجراء ذلك على موصوف مذكر فذكر أي شيء منفطر به والنكتة فيه التنبيه على أنه تبدلت حقيقتها وزال عنها اسمها ورسمها ولم يبق منها إلّا ما يعبر عنه بالشيء. وقال أبو عمرو بن العلاء وأبو عبيدة والكسائي وتبعهم منذر بن سعيد التذكير لتأويل السماء بالسقف وكان النكتة فيه تذكير معنى السقفية والإضلال ليكون أمر الانفطار أدهش وأهول وقال أبو عليّ الفارسي التقدير ذات انفطار كقولهم امرأة مرضع أي ذات رضاع فجرى على طريق النسب وحكي عنه أيضا أن هذا من باب الجراد المنتشر والشجر الأخضر وأعجاز نخل منقعر يعني أن السماء من باب اسم الجنس الذي بينه وبين مفرده تاء التأنيث وأن مفرده سماءة واسم الجنس يجوز فيه التذكير والتأنيث فجاء منفطر على التذكير وقال الفراء السماء يعني المظلة تذكر وتؤنث فجاء مُنْفَطِرٌ على التذكير ومنه قوله الشاعر:
فلو رفع السماء إليه قوما ... لحقنا بالسماء وبالسحاب
وعليه لا حاجة إلى التأويل وإنما تطلب نكتة اعتبار التذكير مع أن الأكثر في الاستعمال اعتبار التأنيث ولعلها ظاهرة لمن له أدنى فهم وحمل الباء في بِهِ على الآلة هو الأوفق لتهويل أمر ذلك اليوم وجوز حملها على الظرفية أي السماء منفطر فيه وعود الضمير المجرور على اليوم هو الظاهر الذي عليه الجمهور وقال مجاهد يعود على الله تعالى أي بأمره سبحانه وسلطانه عزّ وجلّ فهو عنده كالضمير في قوله تعالى كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا فإنه له تعالى لعلمه من السباق والمصدر مضاف إلى فاعله ويجوز أن يكون لليوم كضمير به عند الجمهور والمصدر مضاف إلى مفعوله إِنَّ هذِهِ إشارة إلى الآيات المنطوية على القوارع المذكورة تَذْكِرَةٌ أي موعظة فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا بالتقرب إليه تعالى بالإيمان والطاعة فإنه المنهاج الموصل إلى مرضاته عزّ وجلّ ومفعول شاءَ محذوف والمعروف في مثله أن يقدر من جنس الجواب أي فمن شاء اتخاذ سبيل إلى ربه تعالى اتخذ إلخ وبعض قدره الاتعاظ لمناسبة ما قبل أي فمن شاء الاتعاظ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا والمراد من نوى أن يحصل له الاتعاظ تقرب إليه تعالى لكن ذكر السبب وأريد مسببه فهو الجزاء في الحقيقة واختار في البحر ما هو المعروف وقال إن الكلام على معنى الوعد والوعيد.
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ أي زمانا أقل منهما استعمل فيه الأدنى وهو اسم تفضيل من دنا إذا قرب لما أن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الأحياز فهو فيه مجاز مرسل لأن القرب يقتضي قلة الاحياز بين الشيئين فاستعمل في لازمه أو في مطلق القلة وجوز اعتبار التشبيه بين القرب والقلة ليكون هناك استعارة والإرسال أقرب وقرأ الحسن وشيبة وأبو حيوه وابن السميفع وهشام وابن مجاهد عن قنبل فيما ذكر صاحب الكامل «ثلثي» بإسكان اللام وجاء ذلك عن نافع وابن عامر فيما ذكر صاحب اللوامح وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ بالنصب عطفا على أَدْنى كأنه قيل يعلم أنك تقوم من الليل أقل من ثلثيه وتقوم نصفه وتقوم ثلثه وقرأ العربيان ونافع ونصفه وثلثه بالجر عطفا على ثُلُثَيِ اللَّيْلِ أي تقوم أقل من الثلثين وأقل من(15/122)
النصف وأقل من الثلث والأول مطابق لكون التخيير فيما مر بين قيام النصف بتمامه وبين قيام الناقص منه وهو الثلث وبين قيام الزائد عليه وهو الأدنى من الثلثين والثاني مطابق لكون التخيير بين النصف وهو أدنى من الثلثين وبين الثلث وهو أدنى من النصف وبين الربع وهو أدنى من الثلث كذا قال غير واحد فلا تغفل واستشكل الأمر بأن التفاوت بين القراءتين ظاهر فكيف وجه صحة علم الله تعالى لمدلولها وهما لا يجتمعان وأجيب بأن ذلك بحسب الأوقات فوقع كل في وقت فكانا معلومين له تعالى واستشكل أيضا هذا المقام على تقدير كون الأمر واردا بالأكثر بأنه يلزم إما مخالفة النبيّ صلّى الله عليه وسلم لما أمر به أو اجتهاده والخطأ في موافقة الأمر وكلاهما غير صحيح أنا الأول فظاهر لا سيما على كون الأمر للوجوب وأما الثاني فلأن من جوز اجتهاده عليه الصلاة والسلام والخطأ فيه يقول إنه لا يقر عليه الصلاة والسلام على الخطأ وأجيب بالتزام أن الأمر وارد بالأقل لكنهم زادوا حذرا من الوقوع في المخالفة وكان يشق عليهم وعلم الله سبحانه أنهم لو لم يأخذوا بالأشق وقعوا في المخالفة فنسخ سبحانه الأمر كذا قيل فتأمل فالمقام بعد محتاج إليه وقرأ ابن كثير في رواية شبل «وثلثه» بإسكان اللام وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ عطف على الضمير المستتر في تَقُومُ وحسنه الفصل بينهما أي وتقوم معك طائفة من أصحابك وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يعلم مقادير ساعاتهما كما هي إلّا الله تعالى فإن تقديم اسمه تعالى مبتدأ مبينا عليه يقدر دال على الاختصاص على ما ذهب إليه جار الله ويؤيده قوله تعالى عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فإن الضمير لمصدر يقدر لا للقيام المفهوم من الكلام والمعنى علم أن الشأن لن تقدروا على تقدير الأوقات ولن تستطيعوا ضبط الساعات ولا يتأتى لكم حسابها بالتعديل والتسوية إلّا أن تأخذوا بالأوسع للاحتياط وذلك شاق عليكم بالغ منكم فَتابَ عَلَيْكُمْ أي بالترخيص في ترك القيام المقدر ورفع التبعة عنكم في تركه فالكلام على الاستعارة حيث شبه الترخيص بقبول التوبة في رفع التبعة واستعمل اللفظ الشائع في المشبه به في المشبه كما في قوله تعالى فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ [البقرة:
187] وزعم بعضهم أنه على ما يتبادر منه فقال فيه دليل على أنه كان فيهم من ترك بعض ما أمر به وليس بشيء فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ أي فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل عبر عن الصلاة بالقراءة كما عبر عنها بسائر أركانها. وقيل الكلام على حقيقته من طلب قراءة القرآن بعينها وفيه بعد عن مقتضى السياق ومن ذهب أي الأول قال إن الله تعالى افترض قيام مقدار معين من الليل في قوله سبحانه قُمِ اللَّيْلَ إلخ ثم نسخ بقيام مقدار ما منه في قوله سبحانه فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا الآية فالأمر في الموضعين للوجوب إلّا أن الواجب أولا كان معينا من معينات وثانيا كان بعضا مطلقا ثم نسخ وجوب القيام على الأمة مطلقا بالصلوات الخمس ومن ذهب إلى الثاني قال: إن الله تعالى رخص لهم في ترك جميع القيام وأمر بقراءة شيء من القرآن ليلا فكأنه قيل فتاب عليكم ورخص في الترك فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ إن شق عليكم القيام فإن هذا لا يشق وتنالون بهذه القراءة ثواب القيام وصرح جمع أن فَاقْرَؤُا على هذا أمر ندب بخلافه على الأول هذا واعلم أنهم اختلفوا في أمر التهجد فعن مقاتل وابن كيسان أنه كان فرضا بمكة قبل أن تفرض الصلوات الخمس ثم نسخ بهن إلّا ما تطوعوا به ورواه البخاري ومسلم في حديث جابر،
وروى الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والدارمي وابن ماجة والنسائي عن سعد بن هشام قال قلت لعائشة: يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى قالت: فإن خلق نبي الله تعالى القرآن قال: فهممت أن أقوم ولا أسأل أحدا عن شيء حتى أموت ثم بدا لي فقلت أنبئيني عن قيام رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالت: ألست تقرأ يا أيها المزمل؟ قلت: بلى، قالت: فإن الله تعالى افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام نبي الله وأصحابه حولا(15/123)
وأمسك الله تعالى خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء حتى أنزل الله تعالى في آخر السورة التخفيف وصار قيام الليل تطوعا
. وفي رواية عنها أنه دام ذلك ثمانية أشهر وعن قتادة دام عاما أو عامين وعن بعضهم أنه كان واجبا وإنما وقع التخيير في المقدار ثم نسخ بعد عشر سنين وكان الرجل كما قال الكلبي يقوم حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ ما بين النصف والثلث والثلثين وقيل كان نفلا بدليل التخيير في المقدار وقوله تعالى وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ [الإسراء: 79] حكاه غير واحد وبحثوا فيه لكن قال الإمام صاحب الكشف لم يرد هذا القائل إن التخيير ينافي الوجوب بل استدل بالاستقراء وإن الفرائض لها أوقات محدودة متسعة كانت أو ضيقة لم يفوض التحديد إلى رأي الفاعل وهو دليل حسن. وأما القائل بالفرضية فقد نظر إلى اللفظ دون الدليل الخارجي ولكل وجه وأما قوله ولقوله تعالى وَمِنَ اللَّيْلِ إلخ فالاستدلال بأنه فسر نافِلَةً لَكَ أن معناه زائدة على الفرائض لك خاصة دون غيرك لأنها تطوع لهم وهذا القائل لا يمنع الوجوب في حقه عليه الصلاة والسلام وإنما يمنعه في حق غيره صلّى الله عليه وسلم والآية تدل عليه فلا نظر فيه ثم إنه لما ذكر سبحانه في تلك السورة وَمِنَ اللَّيْلِ أي خص بعض الليل دون توقيت وهاهنا وقت جل وعلا ودل على مشاركة الأمة له عليه الصلاة والسلام قوله تعالى وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ نزل ما ثم على الوجوب عليه صلّى الله عليه وسلم خاصة وهاهنا على التنفل في حقه وحق الأمة وهذا قول سديد إلّا أن قوله تعالى عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ يؤيد الأول انتهى وعنى بالأول القول بالفرضية عليه عليه الصلاة والسلام وعلى الأمة وظواهر الآثار الكثيرة تشهد له لكن في البحر أن قوله تعالى وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ دليل على أنه لم يكن فرضا على الجميع إذ لو كان فرضا عليهم لكان التركيب (والَّذِينَ مَعَكَ) إلّا أن أعتقد أنه كان منهم من يقوم في بيته ومنهم من يقوم معه فيمكن إذ ذاك الفرضية في حق الجميع انتهى وأنت تعلم أنه لا يتعين كون مِنْ تبعيضية بل تحتمل أن تكون بيانية ومن يقول بالفرضية على الكل صدر الإسلام بحملها على ذلك دون البعضية باعتبار المعية فإنها ليست بذاك والله تعالى أعلم. وأفادت الآية على القول الأخير في قوله سبحانه فَاقْرَؤُا إلخ ندب قراءة شيء من القرآن ليلا وفي بعض الآثار من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن وفي بعضها من قرأ مائة آية كتب من القانتين وفي بعض خمسين آية والمعول عليه من القولين فيه القول الأول وقد سمعت أن الأمر عليه للإيجاب وأنه كان يجب قيام شيء من الليل ثم نسخ وجوبه عن الأمة بوجوب الصلوات الخمس فهو اليوم في حق الأمة سنة وفي البحر بعد تفسير فَاقْرَؤُا يصلوا وحكاية ما قيل من النسخ وهذا الأمر عند الجمهور أمر إباحة وقال الحسن وابن سيرين قيام الليل فرض ولو قدر حلب شاة وقال ابن جبير وجماعة هو فرض لا بد منه ولو بمقدار خمسين آية انتهى. وظاهر سياقه أن هؤلاء قائلون بوجوبه اليوم وأنه لم ينسخ الوجوب مطلقا وإنما نسخ وجوب معين وهذا خلاف المعروف فعن ابن عباس سقط قيام الليل عن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصار تطوعا وبقي ذلك فرضا على رسول الله عليه الصلاة والسلام وأظن الأمر غنيا عن الاستدلال فلنطو بساط القيل والقال نعم كان السلف الصالح يثابرون على القيام مثابرتهم على فرائض الإسلام لما في ذلك من الخلوة بالحبيب والأنس به وهو القريب من غير رقيب نسأل الله تعالى أن يوفقنا كما وفقهم ويمن علينا كما منّ عليهم بقي هنا بحث وهو أن الإمام أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه استدل بقوله تعالى فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ على أن الفرض في الصلاة مطلق القراءة لا الفاتحة بخصوصها وهو ظاهر على القول بأنه عبر فيه عن الصلاة بركنها وهو القراءة كما عبر عنها بالسجود والقيام والركوع في مواضع وقدر ما تيسر بآية على ما حكاه عنه الماوردي وبثلث على ما حكاه عنه ابن العربي والمسألة مقررة في الفروع وخص الشافعي ومالك ما تيسر(15/124)
بالفاتحة واحتجوا على وجوب قراءتها في الصلاة بحجج كثيرة
منها ما
نقل أبو حامد الأسفرايني عن ابن المنذر بإسناده عن أبي هريرة عنه عليه الصلاة والسلام «لا تجزي صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب»
ومنها ما
روي أيضا عن أبي هريرة عنه صلّى الله عليه وسلم: «كل صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج فهي خداج»
أي نقصان للمبالغة أو ذو نقصان واعترض بأن النقصان لا يدل على عدم الجواز وأجيب بأنه يدل لأن التكليف بالصلاة قائم والأصل في الثابت البقاء خالفناه عند الإتيان بها على صفة الكمال فعند النقصان وجب أن يبقى على الأصل ولا يخرج عن العهدة وأكد بقول أبي حنيفة بعدم جواز صوم يوم العيد قضاء عن رمضان مع صحة الصوم فيه عنده مستدلا عليه بأن الواجب عليه الصوم الكامل والصوم في هذا اليوم ناقص فلا يفيد الخروج عن العهدة ومنها
قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب»
وهو ظاهر في المقصود إذ التقدير لا صلاة صحيحة إلّا بها واعترض بجواز أن يكون التقدير لا صلاة كاملة فإنه لما امتنع نفي مسمى الصلاة لثبوته دون الفاتحة لم يكن بد من صرفه إلى حكم من أحكامها وليس الصرف إلى الصحة أولى من الصرف إلى الكمال وأجيب بأنّا لا نسلم امتناع دخول النفي على مسماها لأن الفاتحة إذا كانت جزءا من ماهية الصلاة تنفي الماهية عند عدم قراءتها فيصح دخوله على مسماها وإنما يمتنع لو ثبت أنها ليست جزءا منها وهو أول المسألة سلمناه لكن لا نسلم أن صرفه إلى الصحة ليس أولى من صرفه إلى الكمال بل هو أولى لأن الحمل على المجاز الأقرب عند تعذر الحمل على الحقيقة أولى بل واجب بالإجماع ولا شك أن الموجود الذي لا يكون صحيحا أقرب إلى المعدوم من الموجود الذي يكون كاملا ولأن الأصل بقاء ما كان وهو التكليف على ما كان ولأن جانب الحرمة أرجح لأنه أحوط ومنها أن الصلاة بدون الفاتحة توجب فوات الفضيلة الزائدة من غير ضرورة للإجماع على أن الصلاة معها أفضل فلا يجوز المصير إليه لأنه قبيح عرفا فيكون قبيحا شرعا
لقوله عليه الصلاة والسلام: «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن. وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح»
ومنها أن قراءتها توجب الخروج عن العهدة بيقين فتكون أحوط فوجب القول بوجوبها
لنص: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»
وللمعقول وهو دفع ضرر الخوف عن النفس فإنه واجب. وكون اعتقاد الوجوب يورث الخوف لجواز كوننا مخطئين معارض باعتقاد عدمه فيتقابلان وأما في العمل فالقراءة لا توجب الخوف وتركها يوجبه فالأحوط القراءة إلى غير ذلك وأجاب ساداتنا الحنفية بما أجابوا واستدلوا على أن الواجب ما تيسر من القرآن لا الفاتحة بخصوصها بأمور منها ما
روى أبو عثمان النهدي عن أبي هريرة أنه قال: أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أخرج وأنادي لا صلاة إلّا بقراءة ولو بفاتحة الكتاب
ودفع بأنه معارض بما
نقل عن أبي هريرة أنه قال: أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أخرج وأنادي لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب
وبأنه يجوز أن يكون المراد من قوله ولو بفاتحة الكتاب هو أنه لو اقتصر على الفاتحة لكفى ويجب الحمل عليه جمعا بين الأدلة وفيه تعسف ولعل الأول في الجواب جواز كون المراد ولو بفاتحة الكتاب ما هو السابق إلى الفهم من قول القائل لا حياة إلّا بقوت ولو الخبز كل يوم أوقية وهو أن هذا القدر لا بد منه وعليه يصير الحديث من أدلة الوجوب ومنها أنه لو وجبت الفاتحة لصدق قولنا كلما وجبت القراءة وجبت الفاتحة ومعناه مقدمة صادقة وهي أنه لو لم تجب الفاتحة لوجبت القراءة لوجوب مطلق القراءة بالإجماع فتنتج المقدمتان لو لم تجب الفاتحة لوجبت الفاتحة وهو باطل وأجيب بمنع الصغرى أي لا نسلم صدق قولنا لو لم تجب الفاتحة لوجبت القراءة لأن عدم وجوب الفاتحة محال والمحال جاز أن يستلزم المحال وهو رفع وجوب مطلق القراءة الثابت بالإجماع سلمناها لكن لا نسلم استحالة قولنا لو لم تجب الفاتحة لوجبت الفاتحة لما ذكر آنفا وجعل بعض القياس حجة على الحنفية لأن كل ما استلزم عدمه(15/125)
وجوده ثبت وجوده ضرورة ورد بأن هذا إنما يلزم لو كانت الملازمة وهي قولنا لو لم تجب الفاتحة لوجبت ثابتة في نفس الأمر وليس كذلك بل هي ثابتة على تقدير وجوب قراءة الفاتحة فلهذا لا يصير حجة عليهم وتمام الكلام على ذلك في موضعه وأنت تعلم أنه على القول الثاني في الآية لا يظهر الاستدلال بها على فرضية مطلق القراءة في الصلاة إذ ليس فيها عليه أكثر من الأمر بقراءة شيء من القرآن قل أو أكثر بدل ما افترض عليهم من صلاة الليل فليتنبه وقوله تعالى عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى استئناف مبين لحكمة أخرى غير ما تقدم من عسرة إحصاء تقدير الأوقات مقتضية للترخيص والتخفيف أي علم أن الشأن سيكون منكم مرضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يسافرون فيها للتجارة يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وهو الربح وقد عمم ابتغاء الفضل لتحصيل العلم والجملة في موضع الحال وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني المجاهدين وفي قرن المسافرين لابتغاء فضل الله تعالى بهم إشارة إلى أنهم نحوهم في الأجر أخرج سعيد بن منصور والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهما عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: ما من حال يأتيني عليه الموت بعد الجهاد في سبيل الله أحب إليّ من أن يأتيني وأنا بين شعبتي جبل ألتمس من فضل الله تعالى وتلا هذه الآية وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ إلخ
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما من جالب يجلب طعاما إلى بلد من بلدان المسلمين فيبيعه لسعر يومه إلّا كانت منزلته عند الله» ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم «وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»
والمراد أنه عزّ وجلّ علم أن سيكون من المؤمنين من يشق عليه القيام كما علم سبحانه عسر إحصاء تقدير الأوقات وإذا كان الأمر كما ذكر وتعاضدت مقتضيات الترخيص فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ أي من القرآن من غير تحمل المشاق وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي المفروضة وَآتُوا الزَّكاةَ كذلك وعلى هذا أكثر المفسرين والظاهر أنهم عنوا بالصلاة المفروضة الصلوات الخمس وبالزكاة المفروضة أختها المعروفة واستشكل بأن السورة من أوائل ما نزل بمكة ولم تفرض الصلوات الخمس إلا بعد الإسراء والزكاة إنما فرضت بالمدينة وأجيب بأن الذاهب إلى ذلك يجعل هذه الآيات مدنية وقيل إن الزكاة فرضت بمكة من غير تعيين للأنصباء والذي فرض بالمدينة تعيين الأنصباء فيمكن أن يراد بالزكاة الزكاة المفروضة في الجملة فلا مانع عن كون الآيات مكية لكن يلتزم لكونها نزلت بعد الإسراء وحكمها على صلاة الليل السابقة حيث كانت مفروضة تنافي الترخيص وقيل يجوز أن تكون الآية مما تأخر حكمه عن نزوله وليس بذاك وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أريد به الانفاقات في سبيل الخيرات أو أداء الزكاة على أحسن الوجوه وأنفعها للفقراء وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ أي خير كان مما ذكر ومما لم يذكر تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً أي من الذي تؤخرونه إلى الوصية عند الموت وخَيْراً ثاني مفعولي تَجِدُوهُ وهو تأكيد لضمير تَجِدُوهُ وإن كان بصورة المرفوع والمؤكد منصوب لأن هو يستعار لتأكيد المجرور والمنصوب كما ذكره الرضي أو ضمير فصل وإن لم يقع بين معرفتين فإن أفعل من حكم المعرفة ولذا يمتنع من حرف التعريف كالعلم وجوز أبو البقاء البدلية من ضمير تَجِدُوهُ ووهمه أبو حيان بأن الواجب عليها إياه وقرأ أبو السمال باللام العدوي وأبو السماك بالكاف الغنوي وأبو السميفع هو «خير وأعظم» برفعهما على الابتداء والخبر وجعل الجملة في موضع المفعول الثاني قال أبو زيد هي لغة بني تميم يرفعون ما بعد الفاصلة يقولون كان زيد هو الفاعل بالرفع وعليه قول قيس بن ذريح:
تحن إلى لبنى وأنت تركتها ... وكنت عليها بالملا أنت أقدر(15/126)
فقد قال أبو عمرو الجرمي أنشده سيبويه شاهدا للرفع والقوافي مرفوع ويروى أقدرا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ في كافة أحوالكم فإن الإنسان قلما يخلو مما يعد تفريطا بالنسبة إليه وعد من ذلك الصوفية رؤية العابد عبادته قيل ولهذا الإشارة أمر بالاستغفار بعد الأوامر السابقة بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإقراض الحسن إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيغفر سبحانه ذنب من استغفره ويرحمه عزّ وجلّ وفي حذف المعمول دلالة على العموم وتفصيل الكلام فيه معلوم نسأل الله تعالى عظيم مغفرته ورحمته لنا ولوالدينا ولكافة مؤمني بريته بحرمة سيد خليقته وسند أهل صفوته صلّى الله عليه وسلم وصحبه وشيعته.(15/127)
سورة المدّثر
مكية قال ابن عطية بإجماع وفي التحرير قال مقاتل إلّا آية وهي وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً [المدثر:
31] إلخ وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يشعر بأن قوله تعالى عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر: 30] مدني بما فيه وآيها ست وخمسون في العراقي والمدني الأول وخمس وخمسون في الشامي والمدني الأخير على ما فصل في محله، وهي متواخية مع السورة قبلها في الافتتاح بنداء النبيّ صلّى الله عليه وسلم وصدر كليهما نازل على المشهور في قصة واحدة وبدئت تلك بالأمر بقيام الليل وهو عبادة خاصة وهذه بالأمر بالإنذار وفيه من تكميل الغير ما فيه. وروى أمية الأزدي عن جابر بن زيد وهو من علماء التابعين بالقرآن أن المدثر نزلت عقب المزمل وأخرج ابن الضريس عن ابن عباس وجعلوا ذلك من أسباب وضعها بعدها والظاهر ضعف هذا القول
فقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وجماعة عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن فقال:
يا أيها المدثر، قلت: يقولون اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق: 1] فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك وقلت له مثل ما قلت فقال جابر: لا أحدثك إلّا ما حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ونظرت خلفي فلم أر شيئا فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجئثت منه رعبا فرجعت فقلت دثروني فدثروني فنزلت يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ
[المدثر: 1- 3]
وفي رواية «فجئت أهلي فقلت: زملوني زملوني زملوني فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ- إلى قوله- فَاهْجُرْ
فإن القصة واحدة ولو كانت يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ هي النازلة قبل فيها لذكرت نعم ظاهر هذا الخبر يقتضي أن يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ نزل قبل اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ والمروي في الصحيحين وغيرهما عن عائشة أن ذاك أول ما نزل من قرآن وهو الذي ذهب إليه أكثر الأمة حتى قال بعضهم هو الصحيح، ولصحة الخبرين احتاجوا للجواب فنقل في الإتقان خمسة أجوبة الأول أن السؤال في حديث جابر كان عن نزول سورة كاملة فبين أن سورة المدثر نزلت بكمالها قبل تمام سورة اقْرَأْ فإن أول ما نزل منها صدرها الثاني أن مراد جابر بالأولية أولية مخصوصة بما بعد فترة الوحي لا أولية مطلقة الثالث أن المراد أولية مخصوصة بالأمر بالإنذار، وعبر بعضهم عن هذا بقوله أول ما نزل للنبوة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ وأول ما نزل للرسالة يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ الرابع أن المراد أول ما نزل بسبب متقدم وهو ما وقع من التدثر الناشئ عن الرعب وأما اقرأ فنزلت ابتداء بغير سبب متقدم الخامس أن جابر استخرج ذلك باجتهاده وليس هو من روايته فيقدم عليه ما روت عائشة رضي الله تعالى عنها ثم قال: وأحسن هذه الأجوبة الأول والأخير انتهى وفيه نظر فتأمل ولا تغفل.(15/128)
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ أصله المتدثر فأدغم وهو على الأصل في حرف أبيّ من تدثر لبس الدثار بكسر الدال وهو ما فوق القميص الذي يلي البدن ويسمى شعارا لاتصاله بالبشرة والشعر. ومنه
قوله عليه الصلاة والسلام: «الأنصار شعار والناس دثار»
والتركيب على ما قيل دائر مع معنى الستر على سبيل الشمول كان الدثار ستر بالغ مكشوف نودي صلّى الله عليه وسلم باسم مشتق من صفته التي كان عليها تأنيسا له وملاطفة كما سمعت في يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ وتدثره عليه الصلاة والسلام لما سمعت آنفا.
وأخرج الطبراني وابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاما فلما أكلوا قال: ما تقولون في هذا الرجل؟
فاختلفوا ثم اجتمع رأيهم على أنه سحر يؤثر فبلغ ذلك النبيّ صلّى الله عليه وسلم فحزن وقنع رأسه وتدثر أي كما يفعل المغموم فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ- إلى قوله تعالى- وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ
. وقيل المراد بالمدثر المتدثر بالنبوة والكمالات النفسانية على معنى المتحلي بها والمتزين بآثارها، وقيل أطلق الْمُدَّثِّرُ وأريد به الغائب عن النظر على الاستعارة والتشبيه فهو نداء له بما كان عليه في غار حراء. وقيل: الظاهر أن يراد بالمدثر وكذا بالمزمل الكناية عن المستريح الفارغ لأنه في أول البعثة فكأنه قيل له عليه الصلاة والسلام قد مضى زمن الراحة وجاءتك المتاعب من التكاليف وهداية الناس وأنت تعلم أنه لا ينافي إرادة الحقيقة وأمر التلطيف على حاله.
وقال بعض السادة أي يا أيها الساتر للحقيقة المحمدية بدثار الصورة الآدمية أو يا أيها الغائب عن أنظار الخليقة فلا يعرفك سوى الله تعالى على الحقيقة إلى غير ذلك من العبارات، والكل إشارة إلى ما قالوا في الحقيقة المحمدية من أنها حقيقة الحقائق التي لا يقف على كنهها أحد من الخلائق وعلى لسانها قال من قال:
وإني وإن كنت ابن آدم صورة ... فلي فيه معنى شاهد بأبوتي
وأنها التعين الأول وخازن السر المقفل وأنها وأنها إلى أمور هيهات أن يكون للعقل إليها منتهى.(15/129)
أعيا الورى فهم معناه فليس يرى ... في القرب والبعد منه غير منفحم
كالشمس تظهر للعينين من بعد ... صغيرة وتكل الطرف من أمم
وكيف يدرك في الدنيا حقيقته ... قوم نيام تسلوا عنه بالحلم
فمبلغ العلم فيه أنه بشر ... وأنه خير خلق الله كلهم
وقرأ عكرمة «المدثّر» بتخفيف الدال وتشديد الثاء المكسورة على زنة الفاعل وعنه أيضا «المدثّر» بالتخفيف والتشديد على زنة المفعول من دثره وقال دثرت هذا الأمر وعصب بك أي شد والمعنى أنه المعول عليه فالعظائم به منوطة وأمور حلها وعقدها به مربوطة فكأنه قيل يا من توقف أمور الناس عليه لأنه وسيلتهم عند الله عز وجل قُمْ من مضجعك أو قم قيام عزم وتصميم، وجعله أبو حيان على هذا المعنى من أفعال الشروع كقولهم: قام زيد يفعل كذا وقوله:
علام قام يشتمني لئيم وقام بهذا المعنى من أخوات كاد وتعقب بأنه لا يخفى بعده هنا لأنه استعمال غير مألوف وورود الأمر منه غير معروف مع احتياجه إلى تقدير الخبر فيه وكله تعسف فَأَنْذِرْ أي فافعل الإنذار أو أحدثه فلا يقصد منذر مخصوص، وقيل يقدر المفعول خاصا أي فأنذر عشيرتك الأقربين لمناسبته لابتداء الدعوة في الواقع، وقيل يقدر عاما أي فأنذر جميع الناس لقوله تعالى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [سبأ: 28] ولم يقل هنا وبشر لأنه كان في ابتداء النبوة والإنذار هو الغالب إذ ذاك أو هو اكتفاء لأن الإنذار يلزمه التبشير وفي هذا الأمر بعد ذلك النداء إشارة عند بعض السادة إلى مقام الجلوة بعد الخلوة. قالوا: وإليهما الإشارة أيضا في
حديث: «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف»
إلخ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ واخصص ربك بالتكبير وهو وصفه تعالى بالكبرياء والعظمة اعتقادا وقولا.
ويروى أنه لما نزل قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الله أكبر» فكبرت خديجة وفرحت وأيقنت أنه الوحي
وذلك لأن الشيطان لا يأمر بذلك والأمر بالنسبة إليه صلّى الله عليه وسلم غني عن الاستدلال وجوز أن يحمل على تكبير الصلاة
فقد أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قلنا يا رسول الله كيف نقول إذا دخلنا في الصلاة؟ فأنزل الله تعالى وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ فأمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن نفتح الصلاة بالتكبير
. وأنت تعلم أن نزول هذه الآية كان حيث لا صلاة أصلا فهذا الخبر إن صح مؤول والفاء هنا وفيما بعد لإفادة معنى الشرط فكأنه قيل: وما كان أي أي شيء حدث فلا تدع تكبيره عز وجل، فالفاء جزائية وهي لكونها على ما قيل مزحلقة لا يضر عمل ما بعدها فيما قبلها وقيل إنها دخلت في كلامهم على توهم شرط فلما لم تكن في جواب شرط محقق كانت في الحقيقة زائدة فلم يمتنع تقديم معمول ما بعدها عليها لذلك ثم إن في ذكر هذه الجملة بعد الأمر السابق مقدمة على سائر الجمل إشارة إلى مزيد الاهتمام بأمر التكبر وإيماء على ما قيل إلى أن المقصود الأول من الأمر بالقيام أن يكبر ربه عز وجل وينزهه من الشرك، فإن أول ما يجب معرفة الله تعالى ثم تنزيهه عما لا يليق بجنابه والكلام عليه من باب: إياك أعني واسمعي يا جارة وقد يقال: لعل ذكر هذه الجملة كذلك مسارعة لتشجيعه عليه الصلاة والسلام على الإنذار وعدم مبالاته بما سواه عز وجل حيث تضمنت الإشارة إلى أن نواصي الخلائق بيده تعالى وكل ما سواه مقهور تحت كبريائه تعالى وعظمته، فلا ينبغي أن يرهب إلّا منه ولا يرغب إلّا فيه فكأنه قيل قم فأنذر واخصص ربك بالتكبير فلا يصدنك شيء عن الإنذار فتدبر وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ تطهير الثياب كناية عن تطهير النفس عما تذم به من الأفعال وتهذيبها عما يستهجن من الأحوال لأن(15/130)
من لا يرضى بنجاسة ما يماسه كيف يرضى بنجاسة نفسه يقال: فلان طاهر الثياب نقي الذيل والأردان إذا وصف بالنقاء من المعايب ومدانس الأخلاق، ويقال: فلان دنس الثياب وكذا دسم الثياب للغادر ولمن قبح فعله ومن الأول قول الشاعر:
ويحيى ما يلام بسوء خلق ... ويحيى طاهر الأثواب حر
ومن الثاني قوله:
قوله لا هم إن عامر بن جهم ... أو ذم حجا في ثياب دسم
وكلمات جمهور السلف دائرة على نحو هذا المعنى في الآية الكريمة. أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أنه قال فيها يقول طهرها من المعاصي وهي كلمة عربية كانت العرب إذا نكث الرجل ولم يف بعهد قالوا إن فلانا لدنس الثياب وإذا وفى وأصلح قالوا: إن فلانا لطاهر الثياب، وأخرج ابن المنذر عن أبي مالك أنه قال فيها عنى نفسه، وأخرج هو وجماعة عن مجاهد أنه قال: أي وعملك فأصلح ونحوه عن أبي رزين والسدي. وأخرج هو أيضا وجماعة منهم الحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ أي من الإثم. وفي رواية من الغدر أي لا تكن غدارا وفي رواية جماعة عن عكرمة أن ابن عباس سئل عن قوله تعالى وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ فقال لا تلبسها على غدرة ولا فجرة ثم قال ألا تسمعون قول غيلان بن سلمة:
فإني بحمد الله لا ثوب فاجر ... لبست ولا من غدرة أتقنع
ونحوه عن الضحاك وابن جبير وعن الحسن والقرطبي أي وخلقك فحسن، وأنشدوا للكناية عن النفس بالثياب قول عنترة:
فشككت بالرمح الطويل ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم
وفي رواية عن الحبر وابن جبير أنه كنى بالثياب عن القلب كما في قول امرئ القيس:
فإن تك قد ساءتك مني خليقة ... فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
وقيل كنى بها عن الجسم كما في قول ليلى وقد ذكرت إبلا ركبها قوم وذهبوا بها:
رموها بأثواب خفاف فلا نرى ... لها شبها إلّا النعام المنفرا
وطهارة الجسم قد يراد بها أيضا نحو ما تقدم. ومناسبة هذه المعاني لمقام الدعوة مما لا غبار عليه وقيل على كون تطهير الثياب كناية عما مر يكون ذلك أمرا باستكمال القوة العلمية بعد الأمر باستكمال القوة النظرية والدعاء إليه، وقيل: إنه أمر له صلّى الله عليه وسلم بالتخلق بالأخلاق الحسنة الموجبة لقبول الإنذار بعد أمره عليه الصلاة والسلام بتخصيصه ربه عز وجل بالتكبير الذي ربما يوهم إباءه خفض الجناح لما سواه عز وجل واقتضاءه عدم المبالاة والاكتراث بمن كان فضلا عن أعداء الله جل وعلا فكان ذكره لدفع ذلك التوهم، وقيل على تفسير المدثر بالتدثر بالنبوة والكمالات النفسانية المعنى طهر دثارات النبوة وآثارها وأنوارها الساطعة من مشكاة ذاتك عما يدنسها من الحقد والضجر وقلة الصبر، وقيل الثياب كناية عن النساء كما قال تعالى هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ [البقرة: 187] وتطهيرهن من الخطايا والمعايب بالوعظ والتأديب كما قال سبحانه قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً [التحريم: 6] وقيل تطهيرهن اختيار المؤمنات العفائف منهن وقيل وطؤوهن في القبل لا في الدبر وفي الطهر لا في الحيض حكاه ابن بحر وأصل القول فيما أرى بعيد عن السياق ثم رأيت الفخر صرح(15/131)
بذلك وذهب جمع إلى أن الثياب على حقيقتها فقال محمد بن سيرين: أي اغسلها بالماء إن كانت متنجسة وروي نحوه عن ابن زيد وهو قول الشافعي رضي الله تعالى عنه، ومن هنا ذهب غير واحد إلى وجوب غسل النجاسة من ثياب المصلي وأمر صلّى الله عليه وسلم بذلك على ما روي عن ابن زيد مخالفة للمشركين لأنهم ما كانوا يصونون ثيابهم عن النجاسات. وقيل ألقي عليه صلّى الله عليه وسلم سلا شاة فشق عليه فرجع إلى بيته حزينا فتدثر فقيل له يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ ولا تمنعنك تلك السفاهة عن الإنذار وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ عن أن لا ينتقم منهم وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ عن تلك النجاسات والقاذورات وإرادة التطهير من النجاسة للصلاة بدون ملاحظة قصة قيل خلاف الظاهر ولا تناسب الجملة عليها ما قبلها إلّا على تقدير أن يراد بالتكبير التكبير للصلاة وبعض من فسر الثياب بالجسم جوز إبقاء التطهير على حقيقته. وقال أمر عليه الصلاة والسلام بالتنظيف وقت الاستنجاء لأن العرب ما كانوا ينظفون أجسامهم أيضا عن النجاسة وكان كثير منهم يبول على عقبه وقال بعض الأمر لمطلق الطلب فإن تطهير ما ليس بطاهر من الثياب واجب في الصلاة ومحبوب في غيرها، وقيل تطهيرها تقصيرها وهو أيضا أمر له عليه الصلاة والسلام برفض عادات العرب المذمومة فقد كانت عادتهم تطويل الثياب وجرهم الذيول على سبيل الفخر والتكبر قال الشاعر:
ثم راحوا عبق المسك بهم ... يلحفون الأرض هداب الأزر
وفي الحديث: «أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه ولا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين وما كان أسفل من ذلك ففي النار»
. واستعمال التطهير في التقصير مجاز للزومه له فكثيرا ما يفضي تطويلها إلى جر ذيولها على القاذورات، ومن الناس من جل التقصير بعد إرادته من التطهير كناية عن عدم التكبر والخيلاء ويكون ذلك أمرا له صلّى الله عليه وسلم بالتواضع والمداومة على ترك جر ذيول التكبر والخيلاء بعد أمره بتخصيص الكبرياء والعظمة به تعالى قولا واعتقادا فكأنه قيل وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وأنت لا تتكبر ليتسنى لك أمر الإنذار وبعض من يرى جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز حمل التطهير على حقيقته ومجازه أعني التقصير والتوصل إلى إرادة مثل ذلك عند من لا يرى جواز الجمع سهل، وجوز أن يراد بالتطهير إزالة ما يستقذر مطلقا سواء النجس أو غيره من المستقذر الطاهر ومنه الأوساخ فيكون ذلك أمرا صلّى الله عليه وسلم بتنظيف ثيابه وإزالة ما يكون فيها من وسخ وغيره من كل ما يستقذر فإنه منفر لا يليق بمقام البعثة، ويستلزم هذا بالأولى تنظيف البدن من ذلك ولذا صلّى الله عليه وسلم أنظف الناس ثوبا وبدنا وربما يقال باستلزام ذلك بالأولى أيضا الأمر بالتنزه عن المنفر القولي والفعلي كالفحش والفظاظة والغلظة إلى غير ذلك فلا تغفل وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ قال القتبي الرُّجْزَ العذاب وأصله الاضطراب وقد أقيم مقام سببه المؤدي إليه من المآثم فكأنه قيل اهجر المآثم والمعاصي المؤديان إلى العذاب أو الكلام بتقدير مضاف أي أسباب الرجز أو التجوز في النسبة على ما قيل ونحو هذا قول ابن عباس الرُّجْزَ السخط وفسر الحسن الرُّجْزَ بالمعصية والنخع بالإثم وهو بيان للمراد. ولما كان المطالب بهذا الأمر هو النبيّ صلّى الله عليه وسلم وهو البريء عن ذلك كان من باب: إياك أعني واسمعي. أو المراد الدور والثياب على هجر ذلك وقيل الرجز اسم لصنمين إساف ونائلة وقيل للأصنام عموما وروي ذلك عن مجاهد وعكرمة والزهري والكلام على ما سمعت آنفا. وقيل الرُّجْزَ اسم للقبيح المستقذر والرجز فاهجر كلام جامع في مكارم الأخلاق كأنه قيل اهجر الجفاء والسفه وكل شيء يقبح ولا تتخلق بأخلاق هؤلاء المشركين وعليه يحتمل أن يكون هذا أمرا بالثياب على تطهير الباطن بعد الأمر بالثياب على تطهير الظاهر بقوله سبحانه وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وقرأ الأكثرون «الرّجز» بكسر الراء(15/132)
وهي لغة قريش ومعنى المكسور والمضموم واحد عند جمع، وعن مجاهد أن المضموم بمعنى الصنم والمكسور بمعنى العذاب. وقيل المكسور النقائص والفجور ذو المضموم اساف ونائل وفي كتاب الخليل «الرّجز» بضم الراء عبادة الأوثان وبكسرها العذاب. ومن كلام السادة أي الدنيا فاترك وهو مبني على أنه أريد بالرجز الصنم والدنيا من أعظم الأصنام التي حبها بين العبد وبين مولاه وعبدتها أكثر من عبدتها فإنها تعبد في البيع والكنائس والصوامع والمساجد وغير ذلك أو أريد بالرجز القبيح المستقذر والدنيا عند العارف في غاية القبح والقذارة
فعن الأمير كرم الله تعالى وجهه أنه قال: الدنيا أحقر من ذراع خنزير ميت بال عليها كلب في يد مجذوم
وقال الشافعي:
وما هي إلّا جيفة مستحيلة ... عليها كلاب همهن اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها ... وإن تجتذبها نازعتك كلابها
ويقال كل ما ألهى عن الله عز وجل فهو رجز يجب على طالب الله تعالى هجره إذ بهذا الهجر ينال الوصال وبذلك القطع يحصل الاتصال ومن أعظم لاه عن الله تعالى النفس، ومن هنا قيل أي نفسك فخالفها والكلام في كل ذلك من باب: إياك أعني. أو القصد فيه إلى الدوام والثياب كما تقدّم وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ أي ولا تعط مستكثرا أي طالبا للكثير ممن تعطيه قاله ابن عباس، فهو نهي عن الاستغزار وهو أن يهب شيئا وهو يطمع أن يتعوض من الموهوب له أكثر من الموهوب وهذا جائز. ومنه الحديث الذي رواه ابن أبي شيبة موقوفا على شريح المستغزر يثاب من هبته وإلّا صح عند الشافعية أن النهي للتحريم وأنه من خواصه عليه الصلاة والسلام لأن الله تعالى اختار له عليه الصلاة والسلام أكمل الصفات وأشرف الأخلاق فامتنع عليه أن يهب لعوض أكثر وقيل هو نهي تنزيه للكل أو ولا تعط مستكثرا أي رائيا لما تعطيه كثيرا فالسين للوجدان لا للطلب كما في الوجه الأول الظاهر والنهي عن ذلك لأنه نوع إعجاب وفيه بخل خفي. وعن الحسن والربيع:
لا تَمْنُنْ بحسناتك على الله تعالى مستكثرا لها أي رائيا إياها كثيرة فتنقص عند الله عز وجل وعد من استكثار الحسنات بعض السادة رؤية أنها حسنات وعدم خشية الرد والغفلة عن كونها منه تعالى حقيقة. وعن ابن زيد لا تمنن بما أعطاك الله تعالى من النبوة والقرآن مستكثرا به أي طالبا كثير الأجر من الناس وعن مجاهد لا تضعف عن عملك مستكثرا لطاعتك فتمنن من قولهم حبل منين أي ضعيف، ويتضمن هذا المعنى ما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال: أي لا تقل قد دعوتهم فلم يقبل مني عد فادعهم. وقرأ الحسن وابن أبي عبلة «تستكثر» بسكون الراء وخرج على أنه جزم والفعل بدل من تَمْنُنْ المجزوم بلا الناهية كأنه قيل ولا تمنن لا تستكثر لأن من شأن المانّ بما يعطي أن يستكثره أي يراه كثيرا ويعتد به وهو بدل اشتمال، وقيل بدل كل من كل على دعاء الاتحاد. وفي الكشف الأبدال من تَمْنُنْ على أن المن هو الاعتداد بما أعطى لا الإعطاء نفسه فيه لطيفة لأن الاستكثار مقدمة المن فكأنه قيل: لا تستكثر فضلا عن المن. وجوز أن يكون سكون وقف حقيقة أو بإجراء الوصل مجراه أو سكون تخفيف على أن شبه ثرو بعضد فسكن الراء الواقعة بين الثاء وواو وَلِرَبِّكَ كما سكنت الضاد وليس بذاك والجملة عليه في موضع الحال وقرأ الحسن أيضا والأعمش «تستكثر» بالنصب على إضمار أن كقولهم مره يحفرها أي أن يحفرها وقوله:
ألا أيهذا الزاجري احضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
في رواية نصب أحضر وقرأ ابن مسعود «أن تستكثر» بإظهار أن فالمن بمعنى الإعطاء والكلام على إرادة(15/133)
التعليل أي ولا تعط لأجل أن تستكثر أي تطلب الكثير ممن تعطيه وأيد به إرادة المعنى الأول في قراءة الرفع، وجوز الزمخشري في تلك القراءة أن يكون الرفع لحذف أن وإبطال عملها كما روي أحضر الوغى بالرفع فالجملة حينئذ ليست حالية، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يجوز حمل القرآن على ذلك إذ لا يجوز ما ذكر إلّا في الشعر ولنا مندوحة عنه مع صحة معنى الحال، ورد بأن المخالف للقياس بقاء عملها بعد حذفها، وأما الحذف والرفع فلا محذور فيه وقد أجازه النحاة ومنه: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ قيل على أذى المشركين وقيل على أداء الفرائض. وقال ابن زيد: على حرب الأحمر والأسود وفيه بعد إذ لم يكن جهاد يوم نزولها. وعن النخعي على عطيتك كأنه وصله بما قبله وجعله صبرا على العطاء من غير استكثار والوجه كما قال جار الله أن يكون أمرا بنفس الفعل والمعنى لقصد جهته تعالى وجانبه عز وجل فاستعمل الصبر فيتناول لعدم تقدير المتعلق المفيد للعموم كل مصبور عليه ومصبور عنه ويراد الصبر على أذى المشركين لأنه فرد من أفراد العام لا لأنه وحده هو المراد. وعن ابن عباس الصبر في القرآن على ثلاثة أوجه صبر على أداء الفرائض وله ثلاثمائة درجة، وصبر عن محارم الله تعالى وله ستمائة درجة، وصبر على المصائب عند الصدمة الأولى وله تسعمائة درجة وذلك لشدته على النفس وعدم التمكن منه إلّا بمزيد اليقين ولذلك
قال صلّى الله عليه وسلم: «أسألك من اليقين ما تهون به عليّ مصائب الدنيا»
وذكروا أن للصبر باعتبار حكمه أربعة أقسام فرض كالصبر عن المحظورات وعلى أداء الواجبات ونفل كالصبر عن المكروهات والصبر على المسنونات ومكروه كالصبر عن أداء المسنونات والصبر على فعل المكروهات وحرام كالصبر على من يقصد حريمه بمحرم وترك التعرض له مع القدرة إلى غير ذلك وتمام الكلام عليه في محله وفضائل الصبر الشرعي المحمود مما لا تحصى. ويكفي في ذلك قوله تعالى إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الزمر: 10]
وقوله صلّى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى إذا وجهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله أو ولده ثم استقبل ذلك بصبر جميل استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزانا أو أنشر له ديوانا» .
فَإِذا نُقِرَ أي نفخ فِي النَّاقُورِ في الصور وهو فاعول من النقر بمعنى التصويت وأصله القرع الذي هو سببه ومنه منقار الطائر لأنه يقرع به ولهذه السببية تجوز به عنه وشاع ذلك وأريد به النفخ لأنه نوع منه، والفاء للسببية كأنه قيل اصبر على أذاهم فبين أيديهم يوم هائل يلقون فيه عاقبة أذاهم وتلقى عاقبة صبرك عليه والعامل في «إذا» ما دل عليه قوله تعالى فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ فالمعنى إذا نقر في الناقور عسر الأمر على الكافرين والفاء في هذا للجزاء وذلك إشارة إلى وقت النقر المفهوم من فَإِذا نُقِرَ وما فيه من المعنى البعد مع قرب العهد لفظا بالمشار إليه للإيذان ببعد منزلته في الهول والفظاعة ومحله الرفع على الابتداء ويَوْمَئِذٍ قيل بدل منه مبني على الفتح لإضافته إلى غير متمكن والخبر يَوْمٌ عَسِيرٌ فكأنه قيل فيوم النقر يوم عسير وجوز أن يكون يَوْمَئِذٍ ظرفا مستقرا ل يَوْمٌ عَسِيرٌ أي صفة له، فلما تقدم عليه صار حالا منه والذي أجاز ذلك على ما في الكشاف أن المعنى فذلك وقت النقر وقوع يوم عسير لأن يوم القيامة يأتي ويقع حين ينقر في الناقور فهو على منوال زمن الربيع العيد فيه أي وقوع العيد فيه وماله فذلك الوقوع وقوع يوم إلخ، ومما ذكر يعلم اندفاع ما يتوهم من تقديم معمول المصدر أو معمول ما في صلته على المصدر إن جعل ظرف الوقوع المقدر أو ظرف عسير والتصريح بلفظ وقوع إبراز للمعنى وتفص عن جعل الزمان مظروف الزمان برجوعه إلى الحدث فتدبر وظاهر صنيع الكشاف اختيار هذا الوجه وكذا كلام صاحب الكشف إذ قررة على أتم وجه وادعى فيما سبق تعسفا نعم جوز عليه الرحمة أن يكون يَوْمَئِذٍ معمول ما دل عليه الجزاء أيضا كأنه قيل فإذا نقر في الناقور عسر الأمر على(15/134)
الكافرين يومئذ وأيّا ما كان ف عَلَى الْكافِرِينَ متعلق ب عَسِيرٌ وقيل بمحذوف وهو صفة لعسير أو حال من المستكن فيه وأجاز أبو البقاء تعلقه ب يَسِيرٍ في قوله تعالى غَيْرُ يَسِيرٍ وهو الذي يقتضيه كلام قتادة وتعقبه أبو حيان بأنه ينبغي أن لا يجوز لأن فيه تقديم معمول المضاف إليه على المضاف وهو ممنوع على الصحيح وقد أجازه بعضهم في غير حملا لها على لا فيقول أنا بزيد غير راض وزعم الحوفي أن إذا متعلقة بإنذار والفاء زائدة، وأراد أنها مفعول به لأنذر كأنه قيل قم فأنذرهم وقت النقر في الناقور. وقوله تعالى فَذلِكَ إلخ جملة مستأنفة في موضع التعليل وهو كما ترى. وجوز أبو البقاء تخريج الآية على قول الأخفش بأن تكون «إذا» مبتدأ والخبر فَذلِكَ والفاء زائدة وجعل يَوْمَئِذٍ ظرفا لذلك ولا أظنك في مرية من أنه كلام أخفش. وقال بعض الأجلة إن ذلك مبتدأ وهو إشارة إلى المصدر أي فذلك النقر وهو العامل في يَوْمَئِذٍ ويَوْمٌ عَسِيرٌ خبر المبتدأ والمضاف مقدر أي فذلك النقر في ذلك اليوم نقر يوم وفيه تكلف وعدول عن الظاهر مع أن عسر اليوم غير مقصود بالإفادة عليه، وظاهر السياق قصده بالإفادة وجعل العلامة الطيبي هذه الآية من قبيل ما اتحد فيه الشرط والجزاء نحو: «من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله» إذ جعل الإشارة إلى وقت النقر وقال: إن في ذلك مع ضم التكرير دلالة على التنبيه على الخطب الجليل والأمر العظيم وفيه نظر وفائدة قوله سبحانه غَيْرُ يَسِيرٍ أي سهل بعد قوله تعالى عَسِيرٌ تأكيد عسره على الكافرين فهو يمنع أن يكون عسيرا عليهم من وجه دون وجه يشعر بتيسره على المؤمنين كأنه قيل:
عسير على الكافرين غير يسير عليهم كما هو يسير على أضدادهم المؤمنين، ففيه جمع بين وعيد الكافرين وزيادة غيظهم وبشارة المؤمنين وتسليتهم ولا يتوقف هذا على تعلق على الكافرين بيسير، نعم الأمر عليه أظهر كما لا يخفى ثم مع هذا لا يخلو قلب المؤمن من الخوف. أخرج ابن سعيد والحاكم عن بهز بن حكيم قال:
أمّنا زارة بن أوفى فقرأ المدثر فلما بلغ فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ خر ميتا فكنت فيمن حمله.
وأخرج ابن أبي شيبة والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن وحنى جبهته يستمع متى يؤمر» . قالوا كيف نقول يا رسول الله؟ قال: «قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل وعلى الله توكلنا»
واختلف في أن المراد بذلك الوقت يوم النفخة الأولى أو يوم النفخة الثانية، ورجع أنه يوم الثانية لأنه الذي يختص عسره بالكافرين، وأما وقت النفخة الأولى فحكمه الذي هو الإصعاق يعم البر والفاجر وهو على المشهور مختص بمن كان حيا عند وقوع النفخة ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي كما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم، بل قيل كونها فيه متفق عليه وهو يقتضي أن هذه السورة لم تنزل جملة إذ لم يكن أمر الوليد وما اقتضى نزول الآية فيه في بدء البعثة فلا تغفل ووَحِيداً حال إما من الياء في ذَرْنِي وهو المروي عن مجاهد أي ذرني وحدي معه فأنا أغنيك في الانتقام عن كل منتقم أو من التاء في خَلَقْتُ أي خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد فأنا أهلكه لا أحتاج إلى ناصر في إهلاكه أو من الضمير المحذوف العائد على مَنْ على ما استظهره أبو حيان أي ومن خلقته وحيدا فريدا لا مال له ولا ولد، وجوز أن يكون منصوبا بأذم ونحوه فقد كان الوليد يلقب في قومه بالوحيد فتهكم الله تعالى به وبلقبه أو صرفه عن الغرض الذي كانوا يؤمونه من مدحه والثناء عليه إلى جهة ذمه وعيبه فأراد سبحانه وحيدا في الخبث والشرارة أو وحيدا عن أبيه لأنه كان دعيا لم يعرف نسبه للمغيرة حقيقة كما مر في سورة نون وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً مبسوطا كثيرا أو ممدودا بالنساء من مد النهر ومده نهر آخر وقيل كان له الضرع والزرع والتجارة. وعن ابن عباس هو ما كان له بين(15/135)
مكة والطائف من الإبل والنعم والجنان والعبيد وقيل كان له بستان بالطائف لا تنقطع ثماره صيفا وشتاء. وقال النعمان بن بشير المال الممدود هو الأرض لأنها مدت. وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه المستغل الذي يجبي شهرا بعد شهر فهو ممدود لا ينقطع. وعن ابن عباس ومجاهد وابن جبير كان له ألف دينار. وعن قتادة ستة آلاف دينار وقيل تسعة آلاف دينار. وعن سفيان الثوري روايتان أربعة آلاف دينار وألف ألف دينار وهذه الأقوال إن صحت ليس المراد بها تعيين المال الممدود وأنه متى أطلق يراد به ذلك بل بيان أنه كان بالنسبة إلى المحدث عنه كذا وَبَنِينَ شُهُوداً حضورا معه بمكة يتمتع بمشاهدتهم لا يفارقونه للتصرف في عمل أو تجارة لكونهم مكفيين لوفور نعمهم وكثرة خدمهم أو حضورا في الأندية والمحافل لوجاهتهم واعتبارهم أو تسمع شهاداتهم فيما يتحاكم فيه واختلف في عددهم فعن مجاهد أنهم عشرة وقيل ثلاثة عشر وقيل سبعة كلهم رجال الوليد بن الوليد وخالد وهشام وقد أسلم هؤلاء الثلاثة والعاص وقيس وعبد شمس وعمارة واختلف الرواية فيه أنه قتل يوم بدر أو قتله النجاشي لجناية نسبت إليه في حرم الملك والروايتان متفقتان على أنه قتل كافرا ورواية الثعلبي عن مقاتل إسلامه لا تصح ونص ابن حجر على أن ذلك غلط وقد وقع في هذا الغلط صاحب الكشاف وتبعه فيه من تبعه، والعجب أيضا أنهم لن يذكروا الوليد بن الوليد فيمن أسلم مع أن المحدثين عن آخرهم أطبقوا على إسلامه وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً بسطت له الرياسة والجاه العريض فأتممت عليه نعمتي الجاه والمال واجتماعهما هو الكمال عند أهل الدنيا، وأصل التمهيد التسوية والتهيئة وتجوز به عن بسطة المال والجاه وكان لكثرة غناه ونضارة حاله الرائقة في الأعين منظرا ومخبرا يلقب ريحانة قريش. وكذا كانوا يلقبونه بالتوحيد بمعنى المنفرد باستحقاق الرياسة. وعن ابن عباس وسعت له ما بين اليمن إلى الشام. وعن مجاهد مهدت له المال بعضه فوق بعض كما يمهد الفراش ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ على ما أديته وهو استبعاد واستنكار لطمعه وحرصه إما لأنه في غنى تام لا مزيد على ما أوتي سعة وكثرة أو لأنه مناف لما هو عليه من كفران النعم ومعاندة المنعم. وعن الحسن وغيره أنه كان يقول إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة إلّا لي واستعمال ثُمَّ للاستبعاد كثير قيل وهو غير التفاوت الرتبي بل عد الشيء بعيدا غير مناسب لما عطف عليه كما تقول تسيء إليّ ثم ترجو إحساني
. وكان ذلك لتنزيل البعد المعنوي منزلة البعد الزماني كَلَّا ردع وزجر له عن طمعه الفارغ وقطع لرجائه الخائب وقوله سبحانه إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً جملة مستأنفة استئنافا بيانا لتعليل ما قبل كأنه قيل لم زجر عن طلب المزيد وما وجه عدم لياقته فقيل إنه كان معاندا لآيات المنعم وهي دلائل توحيده أو الآيات القرآنية حيث قال فيها ما قال والمعاندة تناسب الإزالة وتمنع من الزيادة قال مقاتل: ما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقص من ماله وولده حتى هلك سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً سأغشيه عقبة شاقة المصعد وهو مثل لما يلقى من العذاب الشاق الصعب الذي لا يطاق شبه ما يسوقه الله تعالى له من المصائب وأنواع المشاق بتكليف الصعود في الجبال الوعرة الشاقة وأطلق لفظه عليه على سبيل الاستعارة التمثيلية
وروى أحمد والترمذي والحاكم وصححه وجماعة عن أبي سعيد الخدري مرفوعا: «الصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوي فيه كذلك أبدا»
وعنه صلّى الله عليه وسلم: «يكلف أن يصعد عقبة في النار كلما وضع عليها يده ذابت وإذا رفعها عادت وإذا وضع رجله ذابت فإذا رفعها عادت»
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ تعليل للوعيد واستحقاقه له أو بيان لعناده لآياته عز وجل فيكون جملة مفسرة لذلك لا محل لها من الإعراب وما بينهما اعتراض وقيل الجملة عليه بدل من قوله تعالى إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً أي إنه فكر ماذا يقول في شأن القرآن وقدر في نفسه ما يقول فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ تعجيب من تقديره وإصابته فيه(15/136)
المحذور رميه الغرض الذي كان ينتجه قريش فهو نظير قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [التوبة: 30، المنافقون: 4] أو ثناء عليه تهكما على نحو قاتله الله ما أشجعه أو حكاية لما كرروه على سبيل الدعاء عند سماع كلمته الحمقاء فالعرب تقول قتله الله ما أشجعه وأخزاه الله ما أشعره يريدون أنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك وما له على ما قيل إلى الأول وإن اختلف الوجه روي أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن فكأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا فيعطوكه فإنك أتيت محمدا لتصيب مما عنده قال قد علمت قريش أني من أكثرها مالا قال فقيل فيه قولا يبلغ قومك إنك منكر له وأنك كاره له قال وماذا أقول فو الله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني لا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا وو الله إن لقوله الذي يقوله حلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسلفه وإنه ليعلو ولا يعلى وإنه ليحطم ما تحته قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه قال: دعني حتى أفكر فلما فكر قال ما هو إلّا سحر يؤثر فعجّوا (1) بذلك وقال محيي السنة لما نزل على النبيّ صلّى الله عليه وسلم حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ- إلى قوله تعالى- الْمَصِيرُ [غافر: 1- 3] قام النبي صلّى الله عليه وسلم في المسجد والوليد قريب منه يسمع قراءته، فلما فطن النبيّ عليه الصلاة والسلام لاستماعه أعاد القراءة فانطلق الوليد إلى مجلس قومه بني مخزوم فقال: والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق. وإنه ليعلو وما يعلى. فقالت قريش: صبأ والله الوليد والله لتصبأن قريش كلهم فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه فقعد إليه حزينا وكلمه بما أحماه فقام فأتاهم فقال: تزعمون أن محمدا مجنون فهل رأيتموه يخنق، وتقولون إنه كاهن فهل رأيتموه قط يتكهن، وتزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعرا، وتزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه شيئا من الكذب؟ فقالوا في كل ذلك اللهم لا، ثم قالوا فما هو؟ ففكر فقال: ما هو إلّا ساحر أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه وما الذي يقوله إلّا سحر يأثره عن مسيلمة وعن أهل بابل فارتج النادي فرحا وتفرقوا معجبين بقوله متعجبين منه ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ تكرير للمبالغة كما هو معتاد من أعجب غاية الإعجاب والعطف ب ثُمَّ للدلالة على تفاوت الرتبة وإن الثانية أبلغ من الأولى فكأنه قيل قتل بنوع ما من القتل لا بل قتل بأشده وأشده، ولذا ساغ العطف فيه مع أنه تأكيد ونحوه ما في قوله:
ومالي من ذنب إليهم علمته ... سوى أنني قد قلت يا سرحة اسلمي
ألا يا اسلمي ثم اسلمي ثم اسلمي ... ثلاث تحيات وإن لم تكلمي
والإطراء في الإعجاب بتقديره يدل على غاية التهكم به وبمن فرح بمحصول تفكيره. وقال الراغب في غرة التنزيل: كان الوليد بن المغيرة لما سئل عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قدر ما أتى به من القرآن فقال: إن قلنا شاعر كذبتنا العرب إذا عرضت ما أتى به على الشعر وكان يقصد بهذا التقدير تكذيب الرسول صلّى الله عليه وسلم بضرب من الاحتيال فلذلك كان كل تقدير مستحقا لعقوبة من الله تعالى هي كالقتل إهلاكا له فالأول لتقديره على الشعر أي أهلك إهلاك المقتول كيف قدر وقوله تعالى ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ لتقديره الآخر فإنه قدر أيضا. وقال: فإن ادعينا أن ما أتى به من كلام الكهنة كذبتنا العرب إذا رأوا هذا الكلام مخالفا لكلام الكهان فهو في تقديره له على كلام الكهنة مستحق من العقوبة لما هو
__________
(1) فعجّوا: اي ضجّوا.(15/137)
كالقتل إهلاكا له فجاء ذلك لهذا فلم يكن في الإعادة تكرار والأول هو ما ذهب إليه جار الله وجعل الدعاء اعتراضا وقال عليه الطيبي إنه ليس من الاعتراض المتعارف الذي ينحل لتزيين الكلام وتقريره لأن الفاء مانعة من ذلك بل هو من كلام الغير ووقع الفاء في تضاعيف كلامه فأدخل بين الكلامين المتصلين على سبيل الحكاية ثم قال: وهو متعسف وإنما سلكه لأنه جعل الدعاءين من كلام الغير وأما إذا جعلا من كلام الله تعالى استهزاء كما ذكر هو أو دعاء عليه كما ذهب إليه الراغب وعليه تفسير الواحدي على ما قال، ونقل عن صاحب النظم فَقُتِلَ كَيْفَ أي عذب ولعن كَيْفَ قَدَّرَ كما يقال لأضربنه كيف صنع أي على أي حال كانت منه لتكون الأفعال كلها متناسقة مرتبة على التفاوت في التعقيب والتراخي زمانا ورتبة كما يقتضيه المقام كان أحسن وجاء النظم على السنن المألوف من التنزيل إلى آخر ما قال وما تقدم أبعد مغزى والاعتراض من المتعارف وهو يؤكد ما سيق له الكلام أحسن تأكيد والفاء غير مانعة على ما نص عليه جار الله وغيره وجعل من الاعتراض المقرون بها فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ [النحل: 43، الأنبياء:
7] ومنه قوله:
واعلم فعلم المرء ينفعه ... أن سوف يأتي كل ما قدرا
وقد حقق أنه بالحقيقة نتيجة وقعت بين أجزاء الكلام اهتماما بشأنها فأفادت فائدة الاعتراض وعدت منه، والاعتراض بين قوله تعالى إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ وقوله سبحانه ثُمَّ نَظَرَ للعطف وثُمَّ فيه وفيما بعد على معناها الوضعي وهو التراخي الزماني مع مهلة أي ثم فكر في أمر القرآن مرة بعد أخرى ثُمَّ عَبَسَ قطب وجهه لما لم يجد فيه مطعنا وضاقت عليه الحيل ولم يدر ماذا يقول وقيل ثم نظر في وجوه القوم ثم قطب وجهه وقيل نظر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم قطب في وجهه عليه الصلاة والسلام وَبَسَرَ أي أظهر العبوس قبل أو انه وفي غير وقته فالبسر الاستعجال بالشيء نحو بسر الرجل لحاجة طلبها في غير أوانها وبسر الفحل الناقة ضربها قبل أن تطلب وماء بسر متناول من غديره قبل سكونه وقيل للجبن الذي ينكأ قبل النضج بسر ومنه قيل لما لم يدرك من الثمر بسر، وبهذا فسره الراغب هنا وفسره بعضهم بأشد العبوس من بسر إذا قبض ما بين عينيه كراهة للشيء واسودّ وجهه منه، ويستعمل بمعنى العبوس ومنه قول توبة:
قد رابني منها صدود رأيته ... وإعراضها عن حاجتي وبسورها
وقول سعد لما أسلمت راغمتني أمي فكانت تلقاني مرة بالبشر ومرة بالبسر فحينئذ يكون ذكر بَسَرَ كالتأكيد ل عَبَسَ ولعله مراد من قال اتباع له وأهل اليمين يقولون بسر المركب وأبسر إذا وقف ولم أر من جز إرادة ذاك هنا ولو على بعد وفي النفس من ثبوت ذلك لغة صحيحة توقف ثُمَّ أَدْبَرَ عن الحق أو عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وَاسْتَكْبَرَ عن اتباعه فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ أي يروى ويتعلم من سحرة بابل ونحوهم، وقيل أي يختار ويرجح على غيره من السحر وليس بمختار، والفاء للدلالة على أن هذه الكلمة الحمقاء لما خطرت بباله تفوه بها من غير تلعثم وتلبث فهي للتعقيب من غير مهلة ولا مخالفة فيه لما مر من الرواية كما لا يخفى. وقوله إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ كالتأكد للجملة الأولى لأن المقصود منهما نفي كونه قرآنا ومن كلام الله تعالى وإن اختلفا معنى ولاعتبار الاتحاد في المقصود لم يعطف عليها وأطلق بعضهم عليه التأكيد من غير تشبيه والأمر سهل وفي وصف إشكاله التي تشكل بها حتى استنبط هذا القول السخيف استهزاء به وإشارة إلى أنه عن الحق الأبلج بمعزل ثم إن الذي يظهر من تتبع أحوال الوليد أنه إنما قال ذلك عنادا وحمية جاهلية لا جهلا بحقيقة الحال وقوله تعالى سَأُصْلِيهِ سَقَرَ بدل من سَأُرْهِقُهُ إلخ بدل اشتمال(15/138)
لاشتمال السقر على الشدائد وعلى الجبل من النار، والوصف الآتي لا ينافي الإبدال على إرادة الجبل بناء على أن المراد به نحو ما في الحديث وقال أبو حيان: يظهر أنهما جملتان اعتقبت كل واحدة منهما على سبيل توعد العصيان الذي قبل كل واحدة منهما فتوعد على كونه عنيدا لآيات الله تعالى بإرهاق صعود وعلى قوله إن القرآن سحر يؤثر بإصلاء سقر وفيه بحث لا يخفى على من أحاط خبرا بما تقدم وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ أي أي شيء أعلمك ما سقر على أن ما الأولى مبتدأ وأَدْراكَ خبره وما الثانية خبر لأنها مفيدة لما قصد إفادته من التهويل والتفظيع وسَقَرُ مبتدأ أي أي شيء هي في وصفها فإن ما قد يطلب بها الوصف وإن كان الغالب أن يطلب بها الاسم والحقيقة وقوله سبحانه لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ بيان لوصفها وحالها فالجملة مفسرة أو مستأنفة من غير حاجة إلى جعلها خبر مبتدأ محذوف وقيل حال من سَقَرُ والعامل فيها معنى التعظيم أي أعظم سقر وأهول أمرها حال كونها لا تُبْقِي إلخ وليس بذاك أي لا تبقي شيئا يلقى فيها إلا أهلكته وإذا هلك لم نذره هالكا حتى يعاد. وقال ابن عباس لا تُبْقِي إذا أخذت فيهم لم تبق منهم شيئا وإذا بدلوا خلقا جديدا لم تَذَرُ أن تعاودهم سبيل العذاب الأول وروي نحوه عن الضحاك بزيادة ولكل شيء فترة وملالة إلّا جهنم. وقيل لا تُبْقِي على شيء ولا تدعه من الهلاك بل كل ما يطرح فيها هالك لا محالة. وقال السدي: لا تبقي لهم لحما ولا تذر عظما وهو دون ما تقدم لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ قال ابن عباس ومجاهد وأبو رزين والجمهور أي مغيرة للبشرات مسودة للجلود، وفي بعض الروايات عن بعض بزيادة «محرقة» والمراد في الجملة ف لَوَّاحَةٌ من لوحته الشمس إذا سودت ظاهره وأطرافه قال:
تقول ما لاحك يا مسافر ... يا ابنة عمي لاحني الهواجر
والبشر جمع بشرة وهي ظاهر الجلد وفي بعض الآثار أنها تلفح الجلد لفحة فتدعه أشد سوادا من الليل. واعترض بأنه لا يصح وصفها بتسويدها الظاهر الجلود مع قوله سبحانه لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ الصريح في الإحراق وأجيب بأنها في أول الملاقاة تسوده ثم تحرقه وتهلكه أو الأول حالها مع من دخلها وهذا حالها مع من يقرب منها، وأنت تعلم أنه إذا قيل لا يحسن وصفها بتسويد ظاهر الجلود بعد وصفها بأنها لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ لم يحسن هذا الجواب وقد يجاب حينئذ بأن المراد ذكر أوصافها المهولة الفظيعة من غير قصد إلى ترقّ من فظيع إلى أفظع وكونها لَوَّاحَةٌ وصف من أوصافها ولعله باعتبار أول الملاقاة وقيل الإهلاك وفي ذكره من التفظيع ما فيه لما أن في تسويد الجلود مع قطع النظر عما فيه من الإيلام تشويها للخلق ومثلة للشخص فهو من قبيل التتميم وفي استلزام الإهلاك تسويد الجلود تردد وإن قيل به فتدبر، وجوز على تفسير لَوَّاحَةٌ بما ذكر كون البشر اسم جنس بمعنى الناس، ويرجع المعنى إلى ما تقدم وقال الحسن وابن كيسان والأصم لَوَّاحَةٌ بناء مبالغة من لاح إذا ظهر والبشر بمعنى الناس أي تظهر للناس لعظمها وهولها كما قال تعالى وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى وقد جاء أنها تظهر لهم من مسيرة خمسمائة عام. ورفع لَوَّاحَةٌ على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي لواحة. وقرأ عطية العوفي وزيد بن علي والحسن وابن أبي عبلة «لوّاحة» بالنصب على الاختصاص للتهويل أي أخص أو أعني وجوز أن يكون حالا مؤكدة من ضمير تُبْقِي أو تَذَرُ بناء على زعم الاستلزام وأن يكون حالا من سَقَرُ والعامل ما مر عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ الظاهر ملكا ألا ترى العرب وهم الفصحاء كيف فهموا منه ذلك فقد روي عن ابن عباس أنها لم نزلت عليها تسعة عشر قال أبو جهل لقريش ثكلتكم أمهاتكم أسمع أن ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة(15/139)
النار تسعة عشر وأنتم الدهم أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم، فقال له أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي وكان شديد البطش: أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين فأنزل الله تعالى وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً أي ما جعلناهم رجالا من جنسكم يطاقون وأنزل سبحانه في أبي جهل أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى [القيامة: 34، 35] والظاهر أن المراد بأصحاب النار هم التسعة عشر ففيه وضع الظاهر موضع الضمير وكأن ذلك لما في هذا الظاهر من الإشارة إلى أنهم المدبرون لأمرها القائمون بتعذيب أهلها ما ليس في الضمير. وفي ذلك إيذان بأن المراد بسقر النار مطلقا لا طبقة خاصة منها والجمهور على أن المراد بهم النقباء فمعنى كونهم عَلَيْها أنهم يتولون أمرها وإليهم جماع زبانيتها وإلّا
فقد جاء: «يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها»
. وذهب بعضهم إلى أن التمييز المحذوف صف وقيل صف والأصل عليها تِسْعَةَ عَشَرَ صنفا أو عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ صفا ويبعده ما تقدم في رواية الحبر وكذا قوله تعالى وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا فإن المتبادر أن افتتانهم باستقلالهم لهم واستبعادهم تولي تسعة عشر لتعذيب أكثر الثقلين واستهزائهم بذلك، ومع تقدير الصنف أو الصف لا يتسنى ذلك وقال غير واحد في تعليل جعلهم ملائكة ليخالفوا جنس المعذبين فلا يرقوا لهم ولا يستروحوا إليهم ولأنهم أقوى الخلق وأقومهم بحق الله تعالى وبالغضب له سبحانه وأشدهم بأسا.
وفي الحديث: «كأن أعينهم البرق وكأن أقوالهم الصياصي يجرون أشعارهم لهم مثل قوة الثقلين يقبل أحدهم بالأمة من الناس يسوقهم على رقبته جبل حتى يرمي بهم في النار فيرمي بالجبل عليهم»
ولا يبعد أن يكون في التنوين إشعار إلى عظم أمرهم ومعنى قوله تعالى وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إلى آخره على ما اختاره بعض الأجلة وما جعلنا عدد أصحاب النار إلّا العدد الذي اقتضى فتنة الذين كفروا بالاستقلال والاستهزاء وهو التسعة عشر فكأن الأصل وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إلّا تسعة عشر فعبر بالأثر وهو فتنة الذين كفروا عن المؤثر وهو خصوص التسعة عشر لأنه كما علم السبب في افتتانهم وقيل إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ تنبيها على أن الأثر هنا لعدم انفكاكه عن مؤثره لتلازمهما كانا كشيء واحد يعبر باسم أحدهما عن الآخر ومعنى جعل عدتهم المطلقة العدة المخصوصة أن يخبر عن عددهم بأنه كذا إذ الجعل لا يتعلق بالعدة إنما يتعلق بالمعدود، فالمعنى أخبرنا أن عدتهم تسعة عشر دون غيرها لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي ليكتسبوا اليقين بنبوته صلّى الله عليه وسلم وصدق القرآن لأجل موافقة المذكورين ذكرهم في القرآن بهذا العدد وفي الكتابين كذلك وهذا غير جعل الملائكة على العدد المخصوص لأنه إيجاد ولا يصح على ما قال بعض المحققين أن يجعل إيجادهم على الوصف علة للاستيقان المذكور لأنه ليس إلّا للموافقة وتكلف بعضهم لتصحيحه بأن الإيجاد سبب للإخبار والإخبار سبب للاستيقان فهو سبب بعيد له والشيء كما يسند لسببه البعيد يسند لسببه القريب لكنه كما قال لا يحسن ذلك وإنما احتيج إلى التأويل بالتعبير بالأثر عن المؤثر ولم يبق الكلام على ظاهره لأن الجعل من دواخل المبتدأ والخبر فما يترتب عليه يترتب باعتبار نسبة أحد المفعولين إلى الآخر كقولك جعلت الفضة خاتما لتزين به، وكذلك ما جعلت الفضة إلّا خاتما لكذا ولا معنى لترتب الاستيقان وما بعده على جعل عدتهم فتنة للكفار ولا مدخل لافتتانهم بالعدد المخصوص في ذلك، وإنما الذي له مدخل العدة بنفسها أي العدة باعتبار أنها العدة المخصوصة والإخبار بها كما سمعت وليس ذلك تحريفا لكتاب الله تعالى ولا مبنيا على رعاية مذهب باطل كما توهم. ومنهم من تكلف لأمر السببية على الظاهر بما تمجه الأسماع فلا نسود به الرقاع. وفي البحر لِيَسْتَيْقِنَ مفعول من أجله وهو(15/140)
متعلق ب جَعَلْنا لا ب فِتْنَةً فليست الفتنة معلولة للاستيقان بل المعلول جعل العدة سبب الفتنة. وفي الانتصاف يجوز أن يرجع قوله تعالى لِيَسْتَيْقِنَ إلى ما قبل الاستثناء أي جعلنا عدتهم سببا لفتنة الكفار ويقين المؤمنين وذكر الإمام في ذلك وجهين الثاني ما قدمناه مما اختاره بعض الأجلة والأول أن التقدير وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً للكافرين وإلا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قال: وهذا كما يقال فعلت كذا لتعظيمك ولتحقير عدوك فالواو العاطفة قد تذكر في هذا الموضع تارة وقد تحذف أخرى. وقال بعض أنه متعلق بمحذوف أي فعلنا ذلك ليستيقن إلخ والكل كما ترى وحمل الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ على أهل الكتابين مما ذهب إليه جمع وقيل المراد بهم اليهود فقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن البراء أن رهطا من اليهود سألوا رجلا من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم عن خزنة جهنم فقال الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم أعلم فجاء فأخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلم فنزل عليه ساعتئذ عليها تسعة عشر.
وأخرج الترمذي وابن مردويه عن جابر قال: قال ناس من اليهود لأناس من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم: هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم؟
فأخبروا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «هكذا وهكذا في مرة عشرة وفي مرة تسعة»
واستشعر من هذا أن الآية مدنية لأن اليهود إنما كانوا فيها وهو استشعار ضعيف لأن السؤال لصحابي فلعله كان مسافر فاجتمع بيهودي حيث كان وأيضا لا مانع إذ ذاك من إتيان بعض اليهود نحو مكة المكرمة ثم إن الخبرين لا يعينان حمل الموصول على اليهود كما يخفى فالأولى إبقاء التعريف على الجنس وشمول الموصول للفريقين أي لِيَسْتَيْقِنَ أهل الكتاب من اليهود والنصارى وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً أي يزداد إيمانهم كيفية بما رأوا من تسليم أهل الكتاب وتصديقهم أنه كذلك أو كمية بانضمام إيمانهم بذلك إلى إيمانهم بسائر ما أنزل وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ تأكيد لما قبله من الاستيقان وازدياد الإيمان ونفي لما قد يعتري المستيقن من شبهة ما للغفلة عن بعض المقدمات أو طريان ما توهم كونه معارضا في أول وهلة ولما فيه من هذه الزيادة جاز عطفه على المؤكد بالواو لتغايرهما في الجملة، وإنما لم ينظم المؤمنون في سلك أهل الكتاب في نفي الارتياب حيث لم يقل ولا يرتابوا للتنبيه على تباين النفيين حالا فإن انتفاء الارتياب من أهل الكتاب مقارن لما ينافيه من الجحود ومن المؤمنين مقارن لما يقتضيه من الإيمان وكم بينهما وقيل إنما لم يقل ولا يرتابوا بل قيل وَلا يَرْتابَ إلخ للتنصيص على تأكيد الأمرين لاحتمال عود الضمير في ذلك على المؤمنين فقط والتعبير عن المؤمنين باسم الفاعل بعد ذكرهم بالموصول والصلة الفعلية المنبئة عن الحدوث للإيذان بثباتهم على الإيمان بعد ازديادهم ورسوخهم في ذلك وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شك أو نفاق فيكون بناء على أن السورة بتمامها مكية، والنفاق إنما حدث بالمدينة إخبارا عما سيحدث من المغيبات بعد الهجرة وَالْكافِرُونَ المصرون على التكذيب ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا أي أي شيء أراد الله تعالى أو ما الذي أراد الله تعالى بهذا العدد المستغرب استغراب المثل وعلى الأول ماذا منزّلة منزلة اسم واحد للاستفهام في موضع نصب ب أَرادَ وعلى الثاني هي مؤلفة من كلمة ما اسم استفهام مبتدأ وذا اسم موصول خبره والجملة بعد صلة والعائد فيها محذوف ومَثَلًا نصب على التمييز أو على الحال كما في قوله تعالى هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ [الأعراف: 73، هود: 64] آية والظاهر أن ألفاظ هذه الجملة من المحكي وعنوا بالإشارة التحقير وغرضهم نفي أن يكون ذلك من عند الله عز وجل على أبلغ وجه لا الاستفهام حقيقة عن الحكمة ولا القدح في اشتماله عليها مع اعترافهم بصدور الأخبار بذلك عنه تعالى، وجوز أن يكون أراد الله من الحكاية وهم قالوا ماذا أريد ونحوه وقيل يجوز أن(15/141)
يكون المثل بمعناه الآخر وهو ما شبه مضربه بمورده بأن يكونوا قد عدوه لاستغرابه مثلا مضروبا ونسبوه إليه عز وجل استهزاء وتهكما. وإفراد قوله بهذا التعليل مع كونه من باب فتنتهم قيل للإشعار باستقلاله في الشناعة وفي الحواشي الشهابية إنما أعيد اللام فيه للفرق بين العلتين إذ مرجع الأولى الهداية المقصودة بالذات ومرجع هذه الضلال المقصود بالعرض الناشئ من سوء صنيع الضالين وتعليل أفعاله تعالى بالحكم والمصالح جائز عند المحققين وجوز في هذه اللام وكذا الأولى كونها للعاقبة كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ ذلك إشارة إلى ما قبله من معنى الإضلال والهداية ومحل الكاف في الأصل النصب على أنها صفة لمصدر محذوف وأصل التقدير يضل الله من يشاء وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إضلالا وهداية كائنين مثل ما ذكر من الإضلال والهداية فحذف المصدر وأقيم وصفه مقام ثم قدم على الفعل لإفادة القصر فصار النظم مثل ذلك الإضلال وتلك الهداية يُضِلُّ اللَّهُ تعالى مَنْ يَشاءُ إضلاله لصرف اختياره حسب استعداده السيء إلى جانب الضلال عند مشاهدته لآيات الله تعالى الناطقة بالهدى وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ هدايته لصرف اختياره حسب استعداده الحسن عند مشاهدة تلك الآيات إلى جانب الهدى لا إضلالا وهداية أدنى منهما، ويجوز أن تكون الإشارة إلى ما بعد كما في قوله تعالى وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] على ما حقق في موضعه وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ جمع جند اشتهر في العسكر اعتبارا بالغلظة من الجند أي الأرض الغليظة التي فيها حجارة. ويقال لكل جمع أي وما يعلم جموع خلقه تعالى التي من جملتها الملائكة المذكورون على ما هم عليه إِلَّا هُوَ عز وجل إذ لا سبيل لأحد إلى حصر الممكنات
والوقوف على حقائقها وصفاتها ولو إجمالا فضلا عن الاطلاع على تفاصيل أحوالها من كم وكيف ونسبة. وهُوَ رد لاستهزائهم يكون الخزنة تسعة عشر لجهلهم وجه الحكمة في ذلك. وقال مقاتل هو جواب لقول أبي جهل أما لرب محمد أعوان إلّا تسعة عشر وحاصله أنه لما قلل الأعوان أجيب بأنهم لا يحصون كثرة إنما الموكلون على النار هؤلاء المخصوصون لا أن المعنى ما يعلم بقوة بطش الملائكة إلّا هو خلافا للطيبي فإن اللفظ غير ظاهر الدلالة على هذا المعنى واختلف في أكثر جنود الله عز وجل فقيل الملائكة لخبر: «أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلّا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد» . وفي بعض الأخبار أن مخلوقات البر عشر مخلوقات البحر والمجموع عشر مخلوقات الجو والمجموع عشر ملائكة السماء الدنيا والمجموع عشر ملائكة السماء الثانية وهكذا إلى السماء السابعة والمجموع عشر ملائكة الكرسي والمجموع عشر الملائكة الحافين بالعرش والمجموع أقل قليل بالنسبة إلى ما لا يعلمه إلّا الله، وقيل المجموع أقل قليل بالنسبة إلى الملائكة المهيمين الذين لا يعلم أحدهم أن الله تعالى خلق أحدا سواء والمجموع أقل قليل بالنسبة إلى ما يعلمه سبحانه من مخلوقاته.
وعن الأوزاعي قال: قال موسى عليه السلام: يا رب من معك في السماء؟ قال: ملائكتي، قال: كم عدتهم؟ قال: اثنا عشر سبطا، قال: كم عدة كل سبط؟ قال:
عدد التراب
. وفي صحة هذا نظر وإن صح فصدره من المتشابه وأنا لا أجزم بأكثرية صف فما يعلم جنود ربك إلّا هو ولم يصح عندي نص في ذلك بيد أنه يغلب على الظن أن الأكثر الملائكة عليهم السلام، وهذه الآية وأمثالها من الآيات والأخبار تشجع على القول باحتمال أن يكون في الأجرام العلوية جنود من جنود الله تعالى لا يعلم حقائقها وأحوالها إلّا هو عز وجل ودائرة ملك الله جل جلاله أعظم من أن يحيط بها نطاق الحصر أو يصل إلى مركزها طائر الفكر فأنّى وهيهات ولو استغرقت القوى والأوقات هذا واختلف في المخصص لهذا العدد أعني تسعة عشر فقيل إن اختلاف النفوس البشرية في النظر والعمل بسبب القوى(15/142)
الحيوانية الاثنتي عشرة يعني الحواس الخمسة الباطنة والحواس الخمسة الظاهرة والقوة الباعثة كالغضبية والشهوية والقوة المحركة فهذه اثنتا عشرة والطبيعية السبع التي ثلاث منها مخدومة وهي القوة النامية والغادية والمولدة وأربع منها خادمة وهي الهاضمة والجاذبة والدافعة والماسكة وهذا مع ابتنائه على الفلسفة لا يكاد يتم كما لا يخفى على من وقف على كتبها. وقيل: إن لجهنم سبع دركات ست منها لأصناف الكفار وكل صنف يعذب بترك الاعتقاد والإقرار والعمل أنواعا من العذاب تناسبها فيضرب الست في الثلاثة يحصل ثمانية عشر وعلى كل نوع ملك أو صنف يتولاه وواحدة لعصاة الأمة يعذبون فيها بترك العمل نوعا يناسبه ويتولاه ملك أو صنف وبذلك تتم التسعة عشرة. وخصت ست منها بأصناف الكفار وواحدة بأصناف الأمة، ولم يجعل تعذيب الكفار في خمس منها فيبق للمؤمنين اثنتان إحداهما لأهل الكبائر والأخرى لأهل الصغائر أو إحداهما للعصاة منهم والأخرى للعاصيات لأنه حيث أعدت النار للكافرين أولا وبالذات ناسب أن يستغرقوها كلية ويوزعوا على جميع أماكنها بقدر ما يمكن لكن لما تعلقت إرادته سبحانه بتعذيب عصاة الأمة بها أفرزت واحدة منها لهم وقيل: إن الساعات أربع وعشرون خمسة منها مصروفة للصلاة فلم يخلق في مقابلتها زبانية لبركة الصلاة الشاملة لمن لم يصل فيبقى تسعة عشرة، وقيل إن لجهنم سبع دركات ست منها لأصناف الكفار وللاعتناء بأمر عذابهم واستمراره ناسب أن يقوم عليه ثلاثة واحد في الوسط واثنان في الطرفين فهذه ثمانية عشر وواحدة منها لعصاة المؤمنين ناسب أمر عذابهم أن يقوم عليه واحد وبه تتم التسعة عشر وقيل إن العدد على وجهين قليل وهو من الواحد إلى التسعة وكثير وهو من العشرة إلّا ما لا نهاية له فجمع بين نهاية القليل وبداية الكثير وقيل غير ذلك والذي مال إليه أكثر العلماء أن ذلك مما لا يعلم حكمته على التحقيق إلّا الله عز وجل وهو كالمتشابه يؤمن به ويفوض علمه إلى الله تعالى وكل ما ذكر مما لا يعول عليه كما لا يخفى على من وجه أدنى نظره إليه والله تعالى الهادي لصوب الصواب والمتفضل على من شاء يعلم لا شك معه ولا ارتياب. وقرأ أبو جعفر وطلحة بن سليمان «تسعة عشر» بإسكان العين وهو لغة فيه كراهة توالي الحركات فيما هو كاسم واحد. وقرأ أنس بن مالك وابن عباس وابن قطب وإبراهيم بن قتة «تسعة» بضم التاء وهي حركة بناء عدل إليها عن الفتح لتوالي خمس فتحات ولا يتوهم أنها حركة إعراب وإلّا أعرب عشر وقرأ أنس أيضا «تسعة» بالضم «أعشر» بالفتح قال صاحب اللوامح فيجوز أنه جمع العشرة على أعشر ثم أجراه مجرى تسعة عشر وعنه أيضا «تسعة» و «عشر» بالضم وقلب الهمزة واوا خالصة تخفيفا والتاء فيهما مضمومة ضمة بناء لما سمعت آنفا. وعن سليمان بن قتة وهو أخو إبراهيم أنه قرأ «تسعة أعشر» بضم التاء ضمة إعراب والإضافة إلى أعشر وجره منونا وهو على ما قال صاحب اللوامح جمع عشرة وقد صرح بأن الملائكة على القراءة بهذا الجمع معربا أو مبنيا تسعون ملكا. وقال الزمخشري جمع عشير مثل يمين وأيمن. وروي عنه أنه قال أي تسعة من الملائكة كل واحد منهم عشير فهم مع أشياعهم تسعون والعشير بمعنى العشر فدل على أن النقباء تسعة وتعقب بأن دلالته على هذا المعنى غير واضحة ولهذا قال ابن جني لا وجه لتلك القراءة إلّا أن يعني تسعة
أعشر جمع العشير وهم والأصدقاء فليراجع وَما هِيَ أي سقر كما يقتضيه كلام مجاهد إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ إلا تذكرة لهم والعطف قيل على قوله تعالى سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إلى هنا اعتراض ووجهه أنه لما قيل عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ زيادة في تهويل أمر جهنم عقب بما يؤكد قوتهم وتسلطهم وتباينهم بالشدة عن سائر المخلوقات ثمّ بما يؤكد الكمية وما أكد المؤكد فهو مؤكد أيضا. وقيل الضمير للآيات الناطقة بأحوال(15/143)
كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
سقر، وقيل لعد خزنتها والتذكير والعظة فيها من جهة أن في خلقه تعالى ما هو في غاية العظمة حتى يكون لقليل منهم معذبا ومهلكا لما لا يحصى دلالة على أنه عز وجل لا يقدر حق قدره ولا توصف عظمته ولا تصل الأفكار إلى حرم جلاله. وقيل الضمير للجنود وقيل لنار الدنيا وهذا أضعف الأقوال وأقواها على ما قيل ما تقدم. وبين «البشر» هاهنا و «البشر» فيما سبق أعني قوله تعالى لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ على تفسير الجمهور تجنيس تام لفظي وخطي وقل من تذكر له.
كَلَّا ردع لمن أنكرها وقيل زجر عن قول أبي جهل وأصحابه إنهم يقدرون على مقاومة خزنة جهنم.
وقيل: ردع عن الاستهزاء بالعدة المخصوصة وقال الفراء: هي صلة للقسم وقدرها بعضهم بحقا وبعضهم بألا الاستفتاحية. وقال الزمخشري إنكار بعد أن جعلها سبحانه ذكرى أن يكون لهم ذكرى وتعقبه أبو حيان بأنه لا يسوغ في حقه تعالى أن يخبر أنها ذكرى للبشر ثم ينكر أن يكون لهم ذكرى وأجيب بأنه لا تناقض لأن معنى كونها ذكرى أن شأنها أن تكون مذكرة لكل أحد ومن لم يتذكر لغلبة الشقاء عليه لا يعد من البشر ولا يلتفت لعدم تذكره كما أن حلاوة العسل لا يضرها كونها مرة في فم منحرف المزاج المحتاج إلى العلاج وحال حسن الوقف على كلا وعدم حسنه هنا يعلم من النظر إلى المراد بها وصرح بعضهم بذلك فقال: إن كانت متعلقة بالكلام السابق يحسن الوقف عليها، وإن كانت متعلقة بالكلام اللاحق لا يحسن ذلك أي كما أنها كانت بمعنى ألا الاستفتاحية فالوقت حينئذ تام على للبشر ويستأنف كَلَّا وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ أي ولى وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وعطاء وابن يعمر وأبو جعفر وشيبة وأبو الزناد وقتادة وعمر بن عبد العزيز والحسن وطلحة والنحويان والابنان وأبو بكر «إذا» ظرف زمان مستقبل «دبر» بفتح الدال وهو بمعنى أدبر المزيد كقبل وأقبل والمعروف المزيد وحسن الثلاثي هنا مشاكلة أكثر الفواصل وقيل دبر من دبر الليل النهار إذا خلفه والتعبير بالماضي مع إذا التي للمستقبل للتحقيق ويجوز أن يقال إنها تقلبه مستقبلا. وقرأ أبو رزين وأبو رجاء والأعمش ومطر ويونس بن عبيد وهي رواية عن الحسن وابن يعمر والسلمي وطلحة «إذا» بالألف أَدْبَرَ بالهمز وكذا هو في مصحف عبد الله وأبيّ وهو أنسب بقوله تعالى وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ أي أضاء وانكشف على قراءة الجمهور وقرأ ابن السميفع وعيسى بن الفضل «سفر» ثلاثيا وفسر بطرح الظلمة عن وجهه إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ جواب للقسم وجوز أن يكون كَلَّا ردعا لمن ينكر أن تكون إحدى الكبرى لما علم من أن(15/144)
أن واللام من الكلام الإنكاري في جواب منكر مصر وهذا تعليل ل كَلَّا والقسم معترض للتأكيد لا جواب له أو جوابه مقدر يدل عليه كَلَّا وفي التعليل نوع خفاء فتأمل. وضمير إِنَّها لسقر والْكُبَرِ جمع الكبرى جعلت ألف التأنيث كتائها فكما جمعت فعلة على فعل جمعت فعلى عليها ونظيرها السوافي في جمع السافياء والقواصع في جمع القاصعاء فإن فاعلة تجمع على فواعل باطراد لا فاعلاء لكن حمل فاعلاه على فاعلة لاشتراك الألف والتاء في الدلالة على التأنيث وضعا فجمع فيهما على فواعل وقول ابن عطية الْكُبَرِ جمع كبيرة وهم كما لا يخفى أي إن سقر لإحدى الدواهي الكبر على معنى أن البلايا الكبيرة كثيرة وسقر واحدة منها قيل فيكون في ذلك إشارة إلى أن بلاءهم غير محصور فيها بل تحل بهم بلايا غير متناهية أو أن البلايا الكبيرة كثيرة وسقر من بينهم واحدة في العظم لا نظير لها وهذا كما يقال فلان أحد الأحدين وهو واحد الفضلاء وهي إحدى النساء وعلى هذا اقتصر الزمخشري. ورجح الأول بأنه أنسب بالمقام ولعله لما تضمن من الإشارة وقيل المعنى إنها لإحدى دركات النار الكبر السبع لأنها جهنم ولظى والحطمة وسقر والسعير والجحيم والهاوية. ونقل عن صاحب التيسير وليس بذاك أيضا وقيل ضمير إِنَّها يحتمل أن يكون للنذارة وأمر الآخرة.
قال في البحر فهو للحال والقصة وقيل هو للساعة فيعود على غير مذكور. وقرأ نصر بن عاصم وابن محيصن ووهب بن جرير عن ابن كثير «لحدى الكبرى» بحذف همزة إحدى وهو حذف لا ينقاس وتخفيف مثل هذه الهمزة أن تجعل بين بين نَذِيراً لِلْبَشَرِ قيل تمييز لَإِحْدَى الْكُبَرِ على أن نَذِيراً مصدر بمعنى إنذارا كالنكير بمعنى الإنكار أي إنها لإحدى الكبر إنذارا والمعنى على ما سمعت عن الزمخشري أنها لأعظم الدواهي إنذارا وهو كما تقول هي إحدى النساء عفافا. وقال الفراء: هو مصدر نصب بإضمار فعل أي إنذار إنذارا وذهب غير واحد إلى أنه اسم فاعل بمعنى منذرة فقال الزجاج حال من الضمير في أنها وفيه مجيء الحال من اسم أن وقيل حال من الضمير في لَإِحْدَى واختار أبو البقاء كونه حالا مما دلت عليه الجملة والتقدير عظمت أو كبرت نذيرا وهو على ما قال أبو حيان قول لا بأس به وجوزت هذه الأوجه على مصدريته أيضا بتأويله بالوصف وقال النحاس: حذفت الهاء من نَذِيراً وإن كان للنار على معنى النسب يعني ذات إنذار وقد يقال في عدم إلحاق الهاء فيه غير ذلك مما قيل في عدم إلحاقها في قوله تعالى إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56] وقال أبو رزين: المراد بالنذير هنا هو الله تعالى فهو منصوب بإضمار فعل أي ادع نذيرا أو نحوه. وقال ابن زيد: المراد به النبيّ صلّى الله عليه وسلم قيل فهو منصوب بإضمار فعل أي ادع نذيرا أو نحوه. وقال ابن زيد: المراد به النبي صلّى الله عليه وسلم قيل فهو منصوب بإضمار فعل أيضا أي ناد أو بلغ أو أعلن وهو كما ترى ولو جعل عليه حالا من الضمير المستتر في الفعل لكان أولى وكذا لو جعل منادى والكلام نظير قولك إن الأمر كذا يا فلان وقيل إنه على هذا حال من ضمير قُمْ أول السورة وفيه خرم النظم الجليل ولذا قيل هو من بدع التفاسير. وقرأ أبيّ وابن أبي وابن عبلة «نذير» بالرفع على أنه خبر بعد خبر لأن أو خبر لمبتدأ محذوف أي هي نذير على ما هو المعول عليه من أنه وصف النار وأما على القول بأنه وصف الله تعالى أو الرسول عليه الصلاة والسلام فهو خبر لمحذوف لا غير أي هو نذير لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ الجار والمجرور بدل من الجار والمجرور فيما سبق أعني «البشر» وضمير شاءَ للموصول أي نذيرا للمتمكنين منكم من السبق إلى الخير والتخلف عنه. وقال السدي أن يتقدم إلى النار المتقدم ذكرها أو يتأخر عنها إلى الجنة وقال الزجاج:
أن يتقدم إلى المأمورات أو يتأخر عن المنهيات وفسر بعضهم التقدم بالإيمان والتأخر بالكفر وقيل: ضمير شاء الله تعالى أي نذيرا لمن شاء الله تعالى منكم تقدمه أو تأخره وجوز أن يكون لمن خبرا مقدما وأن يتقدم أو(15/145)
يتأخر مبتدأ كقولك لمن توضأ أن يصلي ومعناه مطلق لمن شاء التقدم أي السبق إلى الخير أو التأخر أي التخلف عنه أن يتقدم ويتأخر فيكون كقوله تعالى فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: 29] ولا يخفى أن اللفظ يحتمله لكنه بعيد جدا كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ مرهونة عند الله تعالى بكسبها والرهينة مصدر بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم لا صفة وإلّا لقيل رهين لأن فعيلا بمعنى مفعول لا يدخله التاء ويستوي فيه المذكر والمؤنث ومنه قول عبد الرحمن بن زيد وقد قتل أبوه وعرض عليه سبع ديات فأبى أن يأخذها:
أبعد الذي بالنعف نعف كويكب ... رهينة رمس ذي تراب وجندل
أذكر بالبقيا على من أصابني ... وبقياي أني جاهد غير مؤتل
واختير على رهين مع موازنته لليمين وعدم احتياجه للتأويل لأن المصدر هنا أبلغ فهو أنسب بالمقام فلا يلتفت للمناسبة اللفظية فيه، وقيل الهاء في رَهِينَةٌ للمبالغة واختار أبو حيان أنها مما غلب عليه الاسمية كالنطيحة وإن كانت الأصل فعيلا بمعنى مفعول وهو وجه أيضا وادعى أن التأنيث في البيت على معنى النفس إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ وهم المسلمون المخلصون كما قال الحسن وابن كيسان والضحاك ورواه ابن المنذر عن ابن عباس فإنهم فاكّون رقابهم بما أحسنوا من أعمالهم كما يفك الراهن رهنه بأداء الدين.
وأخرج ابن المنذر وابن جرير وجماعة عن عليّ كرم الله تعالى وجهه أنهم أطفال المسلمين
وأخرجوه أيضا عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ونقل بعضهم عن ابن عباس أنهم الملائكة فإنهم غير مرهونين بديون التكاليف كالأطفال وتعقب بأن إطلاق النفس على الملك غير معروف وبأنهم لا يوصفون بالكسب أيضا على أن الظاهر سباقا وسياقا أن يراد بهم طائفة من البر المكلفين والكثير على تفسيرهم بما سمعت. وقيل هم الذين سبقت لهم من الله الحسنى وقيل الذين كانوا عن يمين آدم عليه السلام يوم الميثاق وقيل الذين يعطون كتبهم بأيمانهم ولا تدافع بين هذه الأقوال كما لا يخفى والاستثناء على ما تقدم، وكذا هذه الأقوال متصل وأما على قول الأمير كرم الله تعالى وجهه وما نقل عن ابن عمه فقال أبو حيان: هو استثناء منقطع وقيل يجوز الاتصال والانقطاع بناء على أن الكسب مطلق العمل أو ما هو تكليف فلا تغفل فِي جَنَّاتٍ خبر مبتدأ محذوف والتنوين للتعظيم والجملة استئناف وقع جواب عن سؤال نشأ مما قبله من استثناء أصحاب اليمين كأنه قيل ما بالهم؟ فقيل: هم في جنات لا يكتنه كنههما ولا يدرك وصفها وجوز أن يكون الظرف في موضع الحال من أَصْحابَ الْيَمِينِ أو من ضميرهم في قوله تعالى يَتَساءَلُونَ قدم للاعتناء مع رعاية الفاصلة. وقيل ظرف للتساؤل وليست المراد بتساؤلهم أن يسأل بعضهم بعضا على أن يكون كل واحد منهم سائلا ومسؤولا معا بل وقوع السؤال منهم مجردا عن وقوعه عليهم فإن صيغة التفاعل وإن وضعت في الأصل للدلالة على صدور الفعل عن المتعدي ووقوعه عليه معا بحيث يصير كل واحد من ذلك فاعلا ومفعولا معا كما في قولك تشاتم القوم أي شتم كل واحد منهم الآخر لكنها قد تجرد عن المعنى الثاني ويقصد بها الدلالة على الأول فقط ويكون الواقع عليه شيئا آخر كما في قولك: تراه والهلال. قال جار الله: إذا كان المتكلم مفردا يقول: دعوته وإذا كان جماعة يقول: تداعيناه، ونظيره رميته وتراميناه ورأيت الهلال وتراءيناه ولا يكون هذا التفاعل من الجانبين وعلى هذا فالمسؤول محذوف أعني المجرمين والتقدير يَتَساءَلُونَ المجرمين عنهم أي يسألون المجرمين عن أحوالهم فغير إلى ما في النظم الجليل وقيل يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ والمعنى على ذلك وحذف المسئول لكونه غير المسئول عنه وقوله تعالى ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ بيان للتساؤل من غير حاجة إلى إضمار قول أو هو مقدر بقول وقع حالا من فاعل(15/146)
يَتَساءَلُونَ أي يسألونهم قائلين أي شيء أدخلكم في سقر وقيل المسئول غير المجرمين كجماعة من الملائكة عليهم السلام وما سَلَكَكُمْ إلخ حكاية قول المسئولين عنهم أي لما سأل أصحاب اليمين الملائكة عن حال المجرمين قالوا لهم نحن سألنا المجرمين عن ذلك وقلنا لهم ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ إلى الآخر وكان يكفيهم أن يقولوا حالهم كيت وكيت لكن أتى بالجواب مفصلا حسب ما سألوه ليكون أثبت للصدق وأدل على حقيقة الأمر ففي الكلام حذف واختصار. وجوز أن تكون صيغة التفاعل على حقيقتها أي يسأل بعضهم بعضا عن المجرمين وما سَلَكَكُمْ حكاية قول المسئول عنهم أيضا ولا يخفى ما في اعتبار الحكاية من التكلف فليس ذاك بالوجه وإن كان الإيجاز نهج التنزيل والحذف كثيرا في كلامه تعالى الجليل، والظاهر أن السؤال سؤال توبيخ وتحسير وإلّا فهم عالمون ما الذي أدخلهم النار ولو كانوا الأطفال فيما أظن لانكشاف الأمر ذلك اليوم. وروى عبد الله بن أحمد وجماعة عن ابن الزبير أنه يقرأ «يتساءلون عن المجرمين يا فلان ما سلككم» ورويت عن عمر أيضا وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن ابن مسعود أنه قرأ «يا أيها الكفار ما سلككم في سقر» قالُوا أي المجرمون مجيبين للسائلين لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ للصلاة الواجبة وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ أي نعطيه ما يجب إعطاؤه والمعنى على استمرار النفي الاستمرار. واستدل بالآية على أن الكفار مخاطبون بفروع العبادات لأنهم جعلوا عذابهم لترك الصلاة فلو لم يخاطبوا بها لم يؤاخذوا وتفصيل المسألة في الأصول وتعقب هذا الاستدلال بأنه لا خلاف في المؤاخذة في الآخرة على ترك الاعتقاد فيجوز أن يكون المعنى من المعتقدين للصلاة ووجوبها فيكون العذاب على ترك الاعتقاد، وأيضا المضلين يجوز أن يكون كناية عن المؤمنين، وأيضا ذاك من كلام الكفرة فيجوز كذبهم أو خطؤهم فيه وأجيب بأن ذلك عدول عن الظاهر يأباه قوله تعالى وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ إلخ
والمقصود من حكاية السؤال والجواب التحذير فلو كان الجواب كذبا أو خطأ لم يكن في ذكره فائدة وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ أي نشرع في الباطل مع الشارعين فيه والخوض في الأصل ابتداء الدخول في الماء والمرور فيه واستعماله في الشروع في الباطل من المجاز المرسل أو الاستعارة على ما قرروه في المشفر ونحوه. وعن بعضهم أنه اسم غالب في الشر وأكثر ما استعمل في القرآن بما يذم الشروع فيه وأريد بالباطل ما لا ينبغي من القول والفعل وعد من ذلك حكاية ما يجري بين الزوجين في الخلوة مثلا وحكاية أحوال الفسقة بأقسامهم على وجه الالتذاذ والاستئناس بها ونقل الحروب التي جرت بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم لغير غرض شرعي بل لمجرد أن يتوصل به إلى طعن وتنقيص والتكلم بالكلمة يضحك بها الرجل جلساءه سواء كانت مباحة في نفسها أم لا نعم التكلم بالكلمة المحرمة لذلك باطل على باطل إلى غير ذلك مما لا يحصى وكان ذكر مَعَ الْخائِضِينَ إشارة إلى عدم اكتراثهم بالباطل ومبالاتهم به فكأنهم قالوا وكنا لا نبالي بباطل وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ أي بيوم الجزاء أضافوه إلى الجزاء مع أن فيه من الدواهي والأهوال ما لا غاية له لأنه أدهاها وأهولها وأنهم ملابسوه وقد مضت بقية الدواهي وتأخير جنايتهم هذه مع كونها أعظم من الكل لتفخيمها كأنهم قالوا وكنا بعد ذلك كله مكذبين بيوم القيامة ولبيان كون تكذيبهم به مقارنا لسائر جناياتهم المعدودة مستمرا إلى آخر عمرهم حسبما نطق به قولهم حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ أي الموت ومقدماته كما ذهب إليه جل المفسرين وقال ابن عطية الْيَقِينُ عندي صحة ما كانوا يكذبون به من الرجوع إلى الله تعالى والدار الآخرة وقول المفسرين هو الموت متعقب عندي لأن نفس الموت يقين عند الكافر وهو حي فلم يريدوا باليقين إلّا الشيء الذي كانوا يكذبون به وهم أحياء في الدنيا فتيقنوه بعد الموت انتهى وفيه نظر. ثم الظاهر أن مجموع ما ذكروه سبب لدخول مجموعهم النار فلا يضر في ذلك أن من أهل النار من لم يكن وجب عليه إطعام مسكين كفقراء الكفرة المعدمين. وفي الكشاف يحتمل الكلام أن يكون دخول كل منهم النار لمجموع الأربعة ويحتمل أن يكون دخول بعضهم لبعضها كان يكون(15/147)
ذلك لمجرد ترك الصلاة أو ترك الإطعام وفيه دسيسة اعتزال وهو تخليد مرتكب الكبيرة من المؤمنين كتارك الصلاة في النار وأنت تعلم أن الآية في الكفار لا في أعم منهم فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ لو شفعوا لهم جميعا فالكلام على الفرض واشتهر أنه من باب:
ولا ترى الضب بها ينجحر وحمل التعريف على الاستغراق أبلغ وأنسب بالمقام والفاء في قوله فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ لترتيب إنكار إعراضهم عن القرآن بغير سبب على ما قبلها من موجبات الإقبال عليه والاتعاظ به من سوء حال المكذبين ومُعْرِضِينَ حال لازمة من الضمير في الجار الواقع خبرا لما الاستفهامية أعني لهم وهي المقصودة من الكلام وعَنِ متعلقة بها والتقديم للعناية مع رعاية الفاصلة أي فإذا كان حال المكذبين به على ما ذكر فأي شيء حصل لهم معرضين عن القرآن مع تعاضد موجبات الإقبال عليه وتأخذ الدواعي إلى الإيمان به وجوز أن يراد بالتذكرة ما يعم القرآن وما بعد يرجح الأول وهو مصدر بمعنى التذكير أصل على ما ذكر مبالغة وقوله تعالى كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ حال من المستكن في معرضين بطريق التداخل والحمر جمع حمار والمراد به كما قال ابن عباس حمار الوحش لأنه بينهم مثل بالنفار وشدة الفرار ومُسْتَنْفِرَةٌ من استنفر بمعنى نفر كعجب واستعجب كما قيل والأحسن أن استفعل للمبالغة كأن الحمر لشدة العدو تطلب النفار من نفسها والمعنى مشبهين بحمر نافرة جدا فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ أي أسد وهي فعولة من القسر وهو القهر والغلبة وأخرج ذلك ابن جرير وعبد بن حميد وغيرهما عن أبي هريرة، وأخرجه ابن المنذر عن ابن عباس أيضا بيد أنه قال هو بلسان العرب «الأسد» وبلسان الحبشة قَسْوَرَةٍ وفي رواية أخرى عنه إنها الرجال الرماة القنص وروي نحوه عن مجاهد وعكرمة وابن جبير وعطاء بن أبي رباح وفي رواية أخرى عنه أخرجها ابن عيينة في تفسيره أنه ركز الناس أي أصواتهم وعنه أيضا حبال الصيادين وعن قتادة النبل وقال ابن الأعرابي وثعلب القسورة أول الليل أي فرت من ظلمة الليل وجمهور اللغويين على أنه الأسد وأيّا ما كان فقد شبهوا في إعراضهم عن القرآن واستماع ما فيه من المواعظ وشرادهم عنه بحمر وحشية جدت في نفارها مما أفزعها وفي تشبيههم بالحمر مذمة ظاهرة وتهجين لحالهم بني كما في قوله سبحانه كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الجمعة: 5] أو شهادة عليهم بالبله وقلة العقل. وقرأ الأعمش «حمر» بإسكان الميم وقرأ نافع وابن عامر والمفضل عن عاصم «مستنفرة» بفتح الفاء أي استنفرها فزعها من القسورة وفرت يناسب الكسر فعن محمد بن سلام قال سألت أبا سرار الغنوي وكان أعرابيا فصيحا فقلت: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ ماذا فقال مسنفرة طردها قسورة ففتح الفاء فقلت إنما هو فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ قال أفرت؟ قلت: نعم، قال فمستنفرة إذن فكسر الفاء وقوله تعالى بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً عطف على مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل لا يكتفون بتلك التذكرة ولا يرضون بها بل يريد كل واحد منهم أن يؤتى قراطيس تنشر وتقرأ كالكتب التي يتكاتب بها وجوز أن يراد كتبا كتبت في السماء ونزلت بها الملائكة ساعة كتبت منشرة على أيديها غضة رطبة لم تطو بعد وفيه بعد وذلك على الوجهين أنهم قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم إن سرك أن نتابعك فأت كل واحد منا بكتب من السماء عنوانها من رب العالمين إلى فلان بن فلان نؤمر فيها باتباعك فنزلت ونحوه قوله تعالى لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الإسراء: 93] وقال وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ [الأنعام: 7] الآية وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي عن أبي صالح قال: قالوا إن كان محمد صادقا فليصبح تحت رأس كل رجل منا صحيفة فيه براءة وأمنة من النار وقيل كانوا يقولون بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح مكتوبا على رأسه ذنبه وكفارته فأتنا بمثل ذلك وهذا من الصحف المنشرة بمعزل إلّا أن يراد بالصحف(15/148)
المنشرة الكتابات الظاهرة المكشوفة ونحوه ما روي عن أبي صالح فمآلهما إلى واحد لاشتراكهما في أن المنشر لم يبق على أصله وأن لكل صحيفة مخصوصة به إما لخلاصه من الذنب وإما لوجه خلاصة فالمعمول عليه ما تقدم وهو مروي عن الحسن وقتادة وابن زيد. وقرأ سعيد بن جبير «صحفا» بإسكان الحاء «منشرة» بالتخفيف على أن أنشر الصحف ونشرها واحد كأنزل ونزله وفي البحر المحفوظ في الصحيفة والثوب نشر مخففا ثلاثيا ويقال في الميت أنشره الله تعالى
ونشره ويقال: أنشره الله تعالى فنشر هو أي أحياه فحيي كَلَّا ردع عن إرادتهم تلك وزجر لهم عن اقتراح الآيات بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ فلذلك يعرضون عن التذكرة لا لامتناع إيتاء الصحف وحصول مقترحهم كما يزعمون وقرأ أبو حيوة «تخافون» بتاء الخطاب التفاتا كَلَّا ردع لهم عن إعراضهم إِنَّهُ أي القرآن أو التذكرة السابقة في قوله تعالى فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ وكذا الضمير الآتي وذكر لأنه بمعنى القرآن أو الذكر تَذْكِرَةٌ وأي تذكرة فَمَنْ شاءَ أن يذكره ذَكَرَهُ وحاز بسببه سعادة الدارين والوقف على كَلَّا على ما سمعت في الموضعين وعلى مُنَشَّرَةً والْآخِرَةَ إن جعلت كما في الحواشي بمعنى إلّا وَما يَذْكُرُونَ أي بمجرد مشيئتهم للذكر كما هو المفهوم من ظاهر قوله تعالى فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ إذ لا تأثير لمشيئة العبد وإرادته في أفعاله وهو قوله سبحانه إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ استثناء مفرغ من أعم العلل أو من أعم الأحوال أي وما يذكرون بعلة من العلل أو في حال من الأحوال إلّا بأن يشاء الله تعالى أو حال إن يشاء الله ذلك وهذا تصريح بأن أفعال العباد بمشيئة الله عز وجل بالذات أو بالواسطة فيه رد على المعتزلة وحملهم المشيئة على مشيئة القسر والإلجاء خروج عن الظاهر من غير قسر وإلجاء. وقرأ نافع وسلام ويعقوب «تذكرون» بتاء الخطاب التفاتا مع إسكان الذال وروي عن أبي حيوة «يذّكرون» بياء الغيبة وشد الذال وعن أبي جعفر «تذكرون» بالتاء الفوقية وإدغامها في الذال هُوَ أَهْلُ التَّقْوى حقيق بأن يتقى عذابه ويؤمن به ويطاع فالتقوى مصدر المبني للمفعول وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ حقيق بأن يغفر جل وعلا لمن آمن به وأطاعه فالمغفرة مصدر المبني للفاعل وأخرج أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه والنسائي وابن ماجة وخلق آخرون
عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ فقال: «قد قال ربكم أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها آخر فأنا أهل أن أغفر له» . وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن دينار عن أبي هريرة وابن عمر وابن عباس مرفوعا ما يقرب من ذلك.
وفي حديث أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن الحسن قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى إني لأجدني أستحي من عبدي يرفع يديه إليّ ثم يردهما من غير مغفرة، قالت الملائكة: إلهنا ليس لذلك بأهل قال الله تعالى لكني أهل التقوى وأهل المغفرة أشهدكم أني قد غفرت له»
وكأن الجملة لتحقيق الترهيب والترغيب اللذين أشعر بهما الكلام السابق كما لا يخفى على المتذكر
وعن بعضهم أنه لما سمع قوله تعالى هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ قال: «اللهم اجعلني من أهل التقوى وأهل المغفرة
على أن أول الثاني كثاني الأول مبنيا للفاعل وثاني الثاني كأول الأول مبنيا للمفعول وإلّا فلا يحسن الدعاء وإن تكلف لتصحيحه فافهم والله تعالى أعلم.(15/149)
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21)
سورة القيمة
ويقال لها سورة لا أقسم وهي مكية من غير حكاية خلاف ولا استثناء واختلف في عدد آيها ففي الكوفي أربعون وفي غيره تسع وثلاثون والخلاف في لِتَعْجَلَ بِهِ
[القيامة: 16] ولما قال سبحانه وتعالى في آخر ال مدثر كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ [المدثر: 53] بعد ذكر الجنة والنار وكان عدم خوفهم إياها لإنكارهم البعث ذكر جلا وعلا في هذه السورة الدليل عليه بأتم وجه ووصف يوم القيامة وأهواله وأحواله ثم ذكر ما قبل ذلك من خروج الروح من البدن ثم ما قبل من مبدأ الخلق على عكس الترتيب الواقعي فقال عز من قائل عظيم:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ إدخال لا النافية صورة على فعل القسم مستفيض في كلامهم وأشعارهم قال امرؤ القيس:
لا وأبيك ابنة العامري ... لا يدعي القوم أني أفر
وقول غوية بن سلمى يرثي:
ألا نادت أمامة باحتمال ... لتحزنني فلا بك ما أبالي
وملخص ما ذهب إليه جار الله في ذلك أن لا هذه إذا وقعت في خلال الكلام كقوله تعالى فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ [النساء: 65] فهي صلة تزاد لتأكيد القسم مثلها في قوله تعالى لِئَلَّا يَعْلَمَ [الحديد: 29] لتأكيد العلم وأنها إذا وقعت ابتداء كما في هذه السورة وسورة البلد فهي للنفي لأن الصلة إنما تكون في وسط(15/150)
الكلام ووجهه أن إنشاء القسم يتضمن الإخبار عن تعظيم المقسم به فهو نفي لذلك الخبر الضمني على سبيل الكناية، والمراد أنه لا يعظم بالقسم لأنه في نفسه عظيم أقسم به أولا ويترقى من هذا التعظيم إلى تأكيد المقسم عليه إذ المبالغة في تعظيم المقسم به تتضمن المبالغة فيه فما يختلج في بعض الخواطر من أنه يلزم أن يكون على هذا إخبارا لا إنشاء فلا يستحق جوابا، وأن المعنى على تعظيم المقسم عليه لا المقسم به مدفوع، ووراء ذلك أقوال فقيل إنها لنفي الإقسام لوضوح الأمر. وقال الفراء: لنفي كلام معهود قبل القسم ورده فكأنهم هنا أنكروا البعث فقيل لا أي الأمر كذلك ثم قيل أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ وقدح الإمام فيه بإعادة حرف النفي بعد وقيل إنها ليس لا وإنما اللام أشبعت فتحتها فظهر من ذلك ألف والأصل «لأقسم» كما قرأ به قنبل وروي عن البزي والحسن وهي لام الابتداء عند بعض والأصل «لأنا أقسم» وحذف المبتدأ للعلم به ولام التأكيد دخلت على الفعل المضارع كما في إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ [النحل: 124] والأصل إني لأقسم عند بعض، ولام القسم ولم يصحبها نون التوكيد لعدم لزوم ذلك وإنما هو أغلبي على ما حكي عن سيبويه مع الاعتماد على المعنى عند آخرين. وقال الجمهور: إنها صلة واختاره جار الله في المفصل وما ذكر من الاختصاص غير مسلم لأن الزيادة إذا ثبتت في القسم فلا فرق بين أول الكلام وأوسطه لا أنه مسلم لكن القرآن في حكم سورة واحدة متصل بعضه ببعض لأن كونه كذلك بالنسبة إلى التناقض ونحوه لا بالنسبة إلى مثل هذا الحكم ثم فهم ما ذكره في توجيه النوفي من اللفظ بعيد وحال سائر الأقوال غير خفي وقد مر بعض الكلام في ذلك فتذكر والكلام في قوله تعالى وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ على ذلك النمط بيد أنه قبل على قراءة لأقسم فيما قبل أن المراد هنا النفي على معنى «أني لأقسم بيوم القيامة» لشرفه وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ لخستها. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة ما يقتضيه وحكاه في البحر عن الحسن وقال قتادة في هذه النفس هي الفاجرة الجشعة اللوامة لصاحبها على ما فاته من سعي الدنيا وأغراضها وجاء نحوه في رواية عن ابن عباس والحق أنه تفسير لا يناسب هذا المقام ولذلك قيل هي النفس المتقية التي تلوم النفوس يوم القيامة على تقصيرهن في التقوى والمبالغة بكثرة المفعول. وقال مجاهد: هي التي تلوم نفسها على ما فات وتندم على الشر لم فعلته وعلى الخير لم لم تستكثر منه فهي لم تزل لائمة وإن اجتهدت في الطاعات فالمبالغة في الكيف باعتبار الدوام وقيل المراد «بالنفس اللوامة» جنس النفس الشاملة للتقية والفاجرة لما
روي أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «ليس من نفس برة ولا فاجرة إلّا وتلوم نفسها يوم القيامة إن عملت خيرا قالت كيف لم أزد منه، وإن عملت شرا قالت ليتني قصرت»
. وضمها إلى يوم القيامة لأن المقصود من إقامتها مجازاتها وبعثها فيه، وضعف بأن هذا القدر من اللوم لا يكون مدارا للإعظام بالإقسام وإن صدر عن النفس المؤمنة المسيئة فكيف من الكافرة المندرجة تحت الجنس وأجيب بأن القسم بها حينئذ بقطع النظر عن الصفة والنفس من حيث هي شريفة لأنها الروح التي هي من عظيم أمر الله عز وجل، وفيه أنه لا يظهر لذكر الوصف حينئذ فائدة والإمام أوقف الخبر على ابن عباس واعترضه بثلاثة أوجه، وأجاب عنها بحمل اللوم على تمني الزيادة وتمني إن لم يكن ما وقع من المعصية واقعا وما ذكر من توجيه الضم لا يخص هذا الوجه كما لا يخفى وقيل المراد بها نفس آدم عليه السلام فإنها لم تزل تلوم نفسها على فعلها الذي خرجت به من الجنة وأكثر الصوفية على أن النفس اللوامة فوق الأمارة وتحت المطمئنة، وعرفوا الأمارة بأنها هي التي تميل إلى الطبيعة البدنية وتأمر باللذات والشهوات الحسية وتجذب القلب إلى الجهة السفلية، وقالوا هي مأوى الشرور ومنبع الأخلاق الذميمة.
وعرفوا اللوامة بأنها هي التي تنورت بنور القلب قدر ما تنبهت عن سنة الغفلة فكلما صدر عنها سيئة بحكم(15/151)
جبلّتها الظلمانية أخذت تلوم نفسها ونفرت عنها. وعرفوا المطمئنة بأنها التي تم تنورها بنور القلب حتى انخلعت عن صفاتها الذميمة وتخلقت بالأخلاق الحميدة وسكنت عن منازعة الطبيعة ومنهم من قال في اللَّوَّامَةِ هي المطمئنة اللائمة للنفس الأمارة ومنهم من قال هي فوق المطمئنة وهي التي ترشحت لتأديب غيرها إلى غير ذلك والمشهور عنهم تقسيم مراتب النفس إلى سبع منها هذه الثلاثة وفي سير السلوك إلى ملك الملوك كلام نفيس في ذلك فليراجعه من شاء وجواب القسم ما دل عليه قوله تعالى أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ وهو ليبعثن وقيل هو أَيَحْسَبُ إلخ وقيل بَلى قادِرِينَ وكلاهما ليسا بشيء أصلا كزعم عدم الاحتياج إلى جواب لأن المراد نفي الأقسام والمراد بالإنسان الجنس والهمزة لإنكار الواقع واستقباحه والتوبيخ عليه و (إن) مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف أي أيحسب أن الشأن لن نجمع بعد التفرق عظامه، وحاصله لم يكون هذا الحسبان الفارغ عن الإمارة المنافي لحق اليقين وصريحه والنسبة إلى الجنس لأن فيه من يحسب ذلك بل لعله الأكثرون وجوز أن يكون التعريف للعهد والمراد بالإنسان عدي ابن أبي ربيعة وختن الأخنس بن شريق وهما اللذان
كان النبي صلّى الله عليه وسلم يقول فيهما: «اللهم اكفني جاريّ السوء»
فقد روي أنه جاء إليه عليه الصلاة والسلام فقال: يا محمد حدثني عن يوم القيامة متى يكون وكيف يكون أمره؟
فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أومن به أو يجمع الله تعالى هذه العظام فنزلت
. وقيل أبو جهل فقد روي أنه كان يقول: أيزعم محمد أن يجمع الله تعالى هذه العظام بعد بلائها وتفرقها فيعيدها خلقا جديدا فنزلت وليس كإرادة الجنس وسبب النزول لا يعنيه وذكر العظام وأن المعنى على إعادة الإنسان وجمع أجزائه المتفرقة لما أنها قالب الخلق. وقرأ قتادة «تجمع بالتاء الفوقية مبينا للمفعول «عظامه» بالرفع على النيابة بَلى أي نجمعها بعد تفرقها ورجوعها رميما ورفاتا في بطون البحار وفسيحات القفار وحيثما كانت حال كوننا قادِرِينَ فقادرين حال من فاعل الفعل المقدر بعد بَلى وهو قول سيبويه وقيل منصوب على أنه خبر كان أي بلى كنا قادرين في البدء أفلا نقدر في الإعادة وهو كما ترى. وقيل انتصب لأنه وقع في موضع نقدر إذ التقدير بلى نقدر فلما وضع موضع الفعل نصب حكاه مكي وقال إنه بعيد من الصواب يلزم عليه نصب قائم في قولك مررت برجل قائم لأنه في موضع يقوم فتأمل. وقرأ ابن أبي عبلة وابن السميفع «قادرون» أي نحن قادرون عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ هي اسم جنس جمعي واحده بنانة وفسرها الراغب بالأصابع ثم قال قيل سميت بذلك لأن بها صلاح الأحوال التي يمكن للإنسان أن يبين بها ما يريد أي يقيم غيره بما صغر من عظام الأطراف كاليدين والرجلين وفي القاموس البنان الأصابع أو أطرافها فالمعنى نجمع العظام قادرين على تأليف جمعها وإعادتها إلى التركيب الأول وإلى أن نسوي أصابعه التي هي أطرافه وآخر ما يتم به خلقه، أو على أن نسوي ونضم سلامياته على صغرها ولطافتها بعضها إلى بعض كما كانت أولا من غير نقصان ولا تفاوت بكيف بكبار العظام وما ليس في الأطراف منها؟ وفي الحال المذكورة أعني قادِرِينَ عَلى إلخ بعد الدلالة على التقييد تأكيد لمعنى الفعل لأن الجمع من الأفعال التي لا بد فيه من القدرة فإذا قيد بالقدرة البالغة فقد أكد والوجه الأول من المعنى يدل على تصوير الجمع وأنه لا تفاوت بين الإعادة والبدء في الاشتمال على جميع الأجزاء التي كان بها قوام البدن أو كماله، والثاني يدل على تحقيق الجمع التام فإنه إذا قدر على جمع الألطف الأبعد عادة عن الإعادة فعلى جمع غيره أقدر ولعله الأوفق بالمقام. ويعلم منهما نكتة تخصيص البنان بالذكر وقيل المعنى بلى نجمعها ونحن قادرون على أن نسوي أصابع يديه ورجليه أن نجعلها مستوية شيئا واحدا كخف البعير وحافر الحمار ولا نفرق بينها فلا يمكنه أن يعمل بها شيئا مما يعمل(15/152)
بأصابعه المفرقة ذات المفاصل والأنامل من فنون الأعمال والبسط والقبض والتأتي لما يريد من الحوائج وروي هذا عن ابن عباس وقتادة ومجاهد وعكرمة والضحاك ولعل المراد نجمعها ونحن قادرون على التسوية وقت الجمع فالكلام يفيد المبالغة السابقة لكن من وجه آخر وهو أنه سبحانه إذا قدر على إعادته على وجه يتضمن تبديل بعض الأجزاء فعلى الاحتذاء بالمثال الأول في جميعه أقدر وأبو حيان حكى هذا المعنى عن الجمهور لكن قيد التسوية فيه بكونها في الدنيا وقال: إن في الكلام عليه توعدا ثم تعقب ذلك بأنه خلاف الظاهر المقصود من سوق الكلام والأمر كما قال لو كان كما فعل فلا تغفل. ولا يخفى أن في الإتيان بلا أولا وحذف جواب القسم والإتيان بقوله سبحانه أَيَحْسَبُ ورعاية أسلوب:
وثناياك إنها إغريض في القسم بيوم البعث والمبعوث فيه ثم إيثار لفظ الحسبان والإتيان بهمزة الإنكار مسندا إلى الجنس وبحرف الإيجاب والحال بعدها من المبالغات في تحقيق المطلوب وتفخيمه وتهجين المعرض عن الاستعداد له ما تبهر عجائبه ثم الحسن كل الحسن في ضمن حرف الإضراب في قوله سبحانه بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ وهو عطف على أَيَحْسَبُ جي للإضراب عن إنكار الحسبان إلى الإخبار عن حال الإنسان الحاسب بما هو أدخل في اللوم والتوبيخ من الأول كأنه قيل دع تعنيفه فإنه أشط من ذلك وأنّى يرتدع وهو يريد ليدوم على فجوره فيما بين يديه من الأوقات وفيما يستقبله من الزمان لا ينزع عنه، أو هو عطف على يَحْسَبُ منسجما عليه الاستفهام أو على أَيَحْسَبُ مقدرا فيه ذلك أي بل أريد جيء به زيادة إنكار في إرادته هذه وتنبيها على أنها أفظع من الأول للدلالة على أن ذلك الحسبان بمجرده إرادة الفجور كما نقول في تهديد جمع عاثوا في البلد أيحسبون أن لا يدخل الأمير بل يريدون أن يتملكوا فيه لم تقل هذه إلّا وأنت مترق في الإنكار منزل عبثهم منزلة إرادة التملك وعدم العبء بمكان الأمير، وإلى هذين الوجهين أشار جار الله على ما قرر في الكشف والوجه الأول أبلغ لأن هذا على الترقي والأول إضراب عن الإنكار وإيهام أن الأمر أطم من ذلك وأطم، وفيهما إيماء إلى أن ذلك الإنسان عالم بوقوع الحشر ولكنه متغاب واعتبر الدوام في لِيَفْجُرَ لأنه خبر عن حال الفاجر بأنه يريد ليفجر في المستقبل على أن حسبانه وإرادته هما عين الفجور، وقيل لأن أَمامَهُ ظرف مكان استعير هنا للزمان المستقبل فيفيد الاستمرار وفي إعادة المظهر ثانيا ما لا يخفى من التهديد والنعي على قبيح ما ارتكبه وأن الإنسانية تأبى هذا الحسبان والإرادة وعود ضمير أَمامَهُ على هذا المظهر هو الأظهر. وعن ابن عباس ما يقتضي عوده على يوم القيامة والأول هو الذي يقتضيه كلام كثير من السلف لكنه ظاهر في عموم الفجور قال مجاهد والحسن وعكرمة وابن جبير والضحاك والسدي في الآية إن الإنسان إنما يريد شهواته ومعاصيه ليمضي فيها أبدا قدما راكبا رأسه ومطيعا أمله ومسوفا لتوبته وهو حسن لا يأبى ذلك الإضراب، وفيه إشارة إلى أن مفعول يُرِيدُ محذوف دل عليه لِيَفْجُرَ وقال بعضهم وهو منزل منزلة اللام ومصدره مقدر بلام الاستغراق أي يوقع جميع إرادته لِيَفْجُرَ وعن الخليل وسيبويه ومن تبعهما في مثله أن الفعل مقدر بمصدر مرفوع بالابتداء وليفعل خبر فالتقدير هنا بل إرادة الإنسان كائنة ليفجر يَسْئَلُ سؤال استهزاء أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ أي متى يكون، والجملة قيل حال وقيل تفسير لِيَفْجُرَ وقيل بدل منه.
واختار المحققون أنه استئناف بياني جيء به تعليلا لإرادة الدوام على الفجور إذ هو في معنى لأنه أنكر البعث واستهزأ به، وفيه أن من أنكر البعث لا محالة يرتكب أشد الفجور وطرف من قوله تعالى هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما(15/153)
تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا
[المؤمنون: 36] فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ تحير فزعا وأصله من برق الرجل إذا نظر إلى البرق فدهش بصره ومنه قول ذي الرمة:
ولو أن لقمان الحكيم تعرضت ... لعينيه ميّ سافرا كاد يبرق
ونظيره قمر الرجل إذا نظر إلى القمر فدهش بصره، وكذلك ذهب وبقر للدهش من النظر إلى الذهب والبقر فهو استعارة أو مجاز مرسل لاستعماله في لازمه أو في المطلق. وقرأ نافع وزيد بن ثابت وزيد بن علي وأبان عن عاصم وهارون ومحبوب كلاهما عن أبي عمرو وخلق آخرون «برق» بفتح الراء فقيل هي لغة في «برق» بالكسر وقيل هو من البريق بمعنى لمع من شدة شخوصه. وقرأ أبو السمال «بلق» باللام عوض الراء أي انفتح وانفرج يقال بلق الباب أبلقته وبلقته فتحته هذا قول أهل اللغة إلّا الفراء فإنه يقول بلقه وأبلقه إذا أغلقه وخطأه ثعلب وزعم بعضهم أنه من الأضداد والظاهر أن اللام فيه أصلية وجوز أن تكون بدلا من الراء فهما يتعاقبان في بعض الكلم نحو نتر ونتل ووجر ووجل وَخَسَفَ الْقَمَرُ ذهب ضوءه وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وزيد بن علي ويزيد بن قطيب «خسف القمر» على البناء للمفعول وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ حيث يطلعهما الله تعالى من المغرب على ما روي عن ابن مسعود ولا ينافيه الخسوف إذ ليس المراد به مصطلح أهل الهيئة وهو ذهاب نور القمر لتقابل النيرين وحيلولة الأرض بينهما بل ذهاب نوره لتجلّ خاص في ذلك اليوم أو لاجتماعه مع الشمس وهو المحاق، وجوز أن يكون الخسوف بالمعنى الاصطلاحي ويعتبر في وسط الشهر مثلا ويعتبر الجمع في آخره إذ لا دلالة على اتحاد وقتيهما في النظم الجليل، وأنت تعلم أن هذا خسوف يزري بحال أهل الهيئة ولا يكاد يخطر لهم ببال كالجمع المذكور. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عطاء بن يسار قال: يجمعان ثم يقذفان في البحر فيكون نار الله الكبرى وتوسعة البحر أو تصغيرهما مما لا يعجز الله عز وجل وأحوال يوم القيامة على خلاف النمط الطبيعي وحوادثه أمور وراء الطبيعة فلا يقال أين البحر من جرم القمر فضلا عن جرم الشمس الذي هو بالنسبة إليها كالبعوضة بالنسبة إلى الفيل ولا كيف يجمعان ويقذفان، وقيل: يجمعان أسودين مكورين كأنهما ثوران عقيران في النار وعن عليّ كرم الله تعالى وجهه وابن عباس يجمعان ويجعلان في نور الحجب وقيل يجمعان ويقربان من الناس فيلحقهم العرق لشدة الحر وقيل جمعا في ذهاب الضوء وروي عن مجاهد وهو اختيار الفراء والزجاج فالجمع مجاز عن التساوي صفة وفيه بعد إذ كان الظاهر عند إرادة ذلك أن يقال من أول الأمر وخسف الشمس والقمر ولا غبار في نسبة الخسوف إليهما لغة وكذا الكسوف ولم يلحق الفعل علامة التأنيث لتقدمه وكون الشمس مؤنثا مجازيا وفي مثله يجوز الأمران وكان اختيار ترك الإلحاق لرعاية حال القمر المعطوف. وقال الكسائي: إن التذكير حمل على المعنى والتقدير جمع النوران أو الضياءان وليس بذاك يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ يوم إذ تقع هذه الأمور أَيْنَ الْمَفَرُّ أي الفرار يأسا منه وجوز إبقاؤه على حقيقة الاستفهام لدهشته وتحيره وقرأ الحسن ريحانة رسول الله صلّى الله عليه وسلم والحسن بن زيد وابن عباس ومجاهد وعكرمة وجماعة كثيرة «المفرّ» بفتح الميم وكسر الفاء اسم مكان قياسي من يفر بالكسر أي أين موضع الفرار وجوز أن يكون مصدرا أيضا كالمرجع. وقرأ الحسن البصري بكسر الميم وفتح الفاء ونسبها ابن عطية للزهري أي الجيد الفرار وأكثر ما يستعمل هذا الوزن في الآلات وفي صفات الخيل ومنه قوله:
مكر مفر مقبل مدبر معا ... كجلمود صخر حطه السيل من عل(15/154)
واختلف في هذا اليوم فالأكثرون على أنه يوم القيامة وهو المنصور، وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد أنه قال: فإذا برق البصر عند الموت والاحتضار وخسف القمر وجمع الشمس والقمر أي كور يوم القيامة وجوز أن يكون الأخيران عند الموت أيضا ويفسر الخسوف بذهاب ضوء البصر منه وجمع الشمس والقمر باستتباع الروح حاسة البصر في الذهاب والتعبير بالشمس عن الروح وبالقمر عن حاسة البصر على نهج الاستعارة فإن نور البصر بسبب الروح كما أن نور القمر بسبب الشمس أو يفسر الخسوف بما سمعت، وجمع الشمس والقمر بوصول الروح الإنسانية إلى من كانت تقتبس منه نور العقل وهم الأرواح القدسية المنزهة عن النقائص فالقمر مستعار للروح والشمس لسكان حظيرة القدس والملأ الأعلى لأن الروح تقتبس منهم الأنوار اقتباس القمر من الشمس. ووجه الاتصال بما قبل على جعل الكل عند الموت أنه إذ ذاك ينكشف الأمر للإنسان فيعلم على أتم وجه حقيقة ما أخبر به وأنت تعلم أن هذا على علاته أقرب إلى باب الإشارة على منزع الصوفية وإذا فتح هذا الباب فلا حصر فيما ذكر من الاحتمال عند ذوي الألباب كَلَّا ردع عن طلب المفر وتمنيه لا وَزَرَ لا ملجأ وأصله الجبل المنيع وقد كان مفرا في الغالب لفرار العرب واشتقاقه من الوزر وهو الثقل ثم شاع وصار حقيقة لكل ملجأ من جبل أو حصن أو سلاح أو رجل أو غير ذلك ومنه قوله:
لعمرك ما للفتى من وزر ... من الموت يدركه والكبر
إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ
أي إليه جل وعلا وحده استقرار العباد أي لا ملجأ ولا منجى لهم غيره عز وجل أو إلى حكمه تعالى استقرار أمرهم لا يحكم فيه غير سبحانه أو إلى مشيئته تعالى موضع قرارهم من جنة أو نار فمن شاء سبحانه أدخله الجنة ومن شاء أدخله النار. فتقديم الخير لإفادة الاختصاص وإن اختلف وجهه حسب اختلاف المراد بمستقر وكَلَّا لا وَزَرَ يحتمل أن يكون من كلامه تعالى يقال للقائل أين المفر يوم يقوله أو هو مقول اليوم على معنى ليرتدع عن طلب الفرار وتمنيه ذلك اليوم ويحتمل أن يكون من تمام قول الإنسان كأنه بعد أن يقول أَيْنَ الْمَفَرُّ يعود على نفسه فيستدرك ويقول كَلَّا لا وَزَرَ وأيّا ما كان فالظاهر أن قوله تعالى إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ
استئناف كالتعليل للجملة قبله أو تحقيق وكشف لحقيقة الحال والخطاب فيه لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلم ولا يحسن أن يكون من جملة ما يخاطب به القائل ذلك اليوم، ولا مما يقوله لنفسه فيه لمكان يَوْمَئِذٍ
وفي البحر الظاهر أن قوله تعالى كَلَّا لا وَزَرَ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ من تمام قول الإنسان وقيل هو من كلام الله تعالى لا حكاية عن الإنسان انتهى وفيه بحث وجوز أن تكون كَلَّا بمعنى ألا الاستفتاحية أو بمعنى حقا فتأمل ولا تغفل يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ
أي يخبر يَوْمَئِذٍ
وذلك على ما عليه الأكثر عند وزن الأعمال بِما قَدَّمَ
أي بما عمل من عمل خيرا كان أو شرا فيثاب بالأول ويعاقب على الثاني وَأَخَّرَ
أي ترك ولم يعمل خيرا كان أو شرا فيعاقب بالأول ويثاب بالثاني، أو بما قدم من حسنة أو سيئة وبما أخر ما سنه من حسنة أو سيئة يعمل بها بعده، أخرج ذلك ابن المنذر وعبد بن حميد وغيرهما عن ابن مسعود وهو رواية عن ابن عباس. وقال زيد بن أسلم: بما قدم من ماله لنفسه فتصدق به في حياته وبما أخر منه للوارث وزيد أو وقفه أو أوصى به. وقال مجاهد والنخعي بأول عمله وآخره، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس بما قم من المعصية وأخر من الطاعة وأخرج نحوه عن قتادة وعبد بن حميد نحوه أيضا عن عكرمة وعليه فالظاهر أنه عنى بالإنسان الفاجر وفصل هذه الجملة عما قبلها لاستقلال كل منها ومن قوله تعالى يَقُولُ إلخ في الكشف عن شدة الأمر أو عن سوء حال الإنسان بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ(15/155)
بَصِيرَةٌ
أي حجة بينة واضحة على نفسه شاهدة بما صدر عنه من الأعمال السيئة كما يؤذن به كلمة عَلى
والجملة الحالية بعد ف الْإِنْسانُ
مبتدأ وعَلى نَفْسِهِ
متعلق ب بَصِيرَةٌ
بتقدير أعمال أو المعنى عليه من غير تقدير وبَصِيرَةٌ
بصير خيبر وهي مجاز عن الحجة البينة الواضحة أو بمعنى بينة وهي صفة لحجة مقدرة هي الخبر، وجعل الحجة بصيرة لأن صاحبها بصير بها فالإسناد مجازي أو هي بمعنى دالة مجازا وجوز أن يكون هناك استعارة مكنية وتخييلية والتأنيث للمبالغة أو لتأنيث الموصوف أعني حجة وقيل ذلك لإرادة الجوارح أي جوارحه على نفسه بصيرة أي شاهدة ونسب إلى القتبي، وجوز أن يكون التقدير عين بصيرة وإليه ذهب الفراء وأنشد:
كأن على ذي العقل عينا بصيرة ... بمجلسه أو منظر هو ناظره
يحاذر حتى يحسب الناس كلهم ... من الخوف لا يخفى عليهم سرائره
وعليه قيل الْإِنْسانُ
مبتدأ أول وبَصِيرَةٌ
بتقدير عين بصيرة مبتدأ ثان وعَلى نَفْسِهِ
خبر المبتدأ والثاني والجملة خبر المبتدأ الأول واختار أبو حيان أن تكون بَصِيرَةٌ
فاعلا بالجار والمجرور وهو الخبر عن الإنسان وعمل بالفاعل لاعتماده على ذلك وأمر التأنيث ظاهر وبَلِ
للترقي على الوجهين إرادة حجة بصيرة وإرادة عين بصيرة، والمعنى عليهما يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ
بأعماله بل فيه ما يجزي عن الإنباء لأنه عالم بتفاصيل أحواله شاهد على نفسه بما عملت لأن جوارحه تنطق بذلك يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [النور: 24] وفي كلا الوجهين كما قيل شائبة التجريد وهي في الثاني أظهر وقوله تعالى وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
أي ولو جاء بكل معذرة يمكن أن يعتذر بها عن نفسه حال من المستكن في بَصِيرَةٌ
أو من مرفوع يُنَبَّؤُا
أي هو على نفسه حجة وهو شاهد عليها ولو أتى بكل عذر في الذب عنها ففيه تنبيه على أن الذب لا رواج له أو ينبأ بأعماله ويجازى ويعاقب لا محالة ولو أتى بكل عذر فهو تأكيد لما يفهم من مجموع قوله تعالى يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ
إلخ والمعاذير جمع معذرة بمعنى العذر على خلاف القياس والقياس معاذر بغير ياء وأطلق عليه الزمخشري اسم الجمع كعادته في إطلاق ذلك على الجموع المخالفة للقياس وإلّا فهو ليس من أبنية اسم الجمع. وقال صاحب الفرائد: يمكن أن يقال الأصل فيه معاذر فحصلت الياء من إشباع الكسرة وهو كما ترى أو جمع معذار على القياس وهو بمعنى العذر، وتعقب بأنه بهذا المعنى لم يسمع من الثقات نعم قال السدي والضحاك: المعاذير الستور بلغة اليمن واحدها معذار وحكي ذلك عن الزجاج أي ولو أرخى ستوره، والمعنى أن احتجابه في الدنيا واستتاره لا يغني عنه شيئا لأن عليه من نفسه بصيرة وفيه تلويح إلى معنى قوله تعالى وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ [فصلت: 22] الآية وقيل البصيرة عليه الكاتبان يكتبان ما يكون من خير أو شر، فالمعنى بل الإنسان عليه كاتبان يكتبان أعماله ولو تستر بالستور ولا يكون في الكلام على هذا شائبة تجريد كما تقدم، والإلقاء على إرادة الستور ظاهر وأما على إرادة الأعذار فقيل شبه المجيء بالعذر بإلقاء الدلو في البئر للاستقاء به فيكون فيه تشبيه ما يراد بذلك بالماء المروي للعطش ويشير إلى هذا قول السدي في ذلك ولو أدلى بحجة وعذر وقيل المعنى ولو رمى بأعذاره وطرحها واستسلم وقيل ولو أحال بعضهم على بعض كما يقول بعضهم لبعض لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ [سبأ:
31] ولَوْ
على جميع هذه الأقوال إما أن يكون معنى الشرطية منسلخا عنها كما قيل فلا جواب لها، وإما أن يكون باقيا فيها فالجواب محذوف يدل عليه ما قبل. واستظهر الخفاجي الأول وفي الآية على بعض(15/156)
وجوهها دليل كما قال ابن العربي على قبول إقرار المرء على نفسه وعدم قبول الرجوع عنه والله تعالى أعلم.
أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وعبد بن حميد والطبراني وأبو نعيم والبيهقي معا في الدلائل وجماعة عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة فكان يحرك به لسانه وشفتيه مخافة أن ينفلت منه يريد أن يحفظه فأنزل الله تعالى لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
إلخ فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل عليه السلام أطرق وفي لفظ استمع فإذا ذهب قرأه كما وعد الله عز وجل
فالخطاب في قوله تعالى لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
للنبيّ صلّى الله عليه وسلم والضمير للقرآن لدلالة سياق الآية نحو إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1] أي لا تحرك بالقرآن لسانك عند إلقاء الوحي من قبل أن يقضي إليك وحيه لِتَعْجَلَ بِهِ
أي لتأخذه على عجلة مخافة أن ينفلت منك على ما يقتضيه كلام الحبر. وقيل لمزيد حبك له وحرصك على أداء الرسالة روي عن الشعبي ولا ينافي ما ذكر والباء عليهما للتعدية إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ
في صدرك بحيث لا يذهب عليك شيء من معانيه وَقُرْآنَهُ
أي إثبات قراءته في لسانك بحيث تقرأه متى شئت فالقرآن هنا وكذا فيما بعد مصدر كالرجحان بمعنى القراءة كما في قوله:
ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحا وقرآنا
مضاف إلى المفعول وثم مضاف مقدر وقيل قُرْآنَهُ
أي تأليفه والمعنى إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ
أي حفظه في حياتك وتأليفه على لسانك. وقيل: قُرْآنَهُ
تأليفه وجمعه على أنه مصدر قرأت أي جمعت ومنه قولهم للمرأة التي لم تلد ما قرأت سلى قط وقول عمرو بن كلثوم:
ذراعي بكرة أدماء بكر ... هجان اللون لم تقرأ جنينا
ويراد من جَمْعَهُ
الأول جمعه في نفسه ووجوده الخارجي ومن قُرْآنَهُ
بهذا المعنى جمعه في ذهنه صلّى الله عليه وسلم وكلا القولين لا يخفى حالهما وإن نسب الأول إلى مجاهد فَإِذا قَرَأْناهُ
أي أتممنا قراءته عليك بلسان جبريل عليه السلام المبلغ عنا فالإسناد مجازي وفي ذلك مع اختيار نون العظمة مبالغة في إيجاب التأتي فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
فكن مقفيا له لا مباريا، وقيل: أي فإذا قرأناه فاتبع بذهنك وفكرك قرآنه أي فاستمع وأنصت وصح هذا من رواية الشيخين وغيرهما عن ابن عباس وعنه أيضا وعن قتادة والضحاك أي فاتبع في الأوامر والنواهي قرآنه وقيل اتبع قرآنه بالدرس على معنى كرره حتى يرسخ في ذهنك ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ أي بيان ما أشكل عليك من معانيه وأحكامه على ما قيل واستدل به القاضي أبو الطيب ومن تابعه على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب لمكان ثُمَّ وتعقب بأنه يجوز أن يراد بالبيان الإظهار لا بيان المجمل وقد صح من رواية الشيخين وجماعة عن الحبر أنه قال في ذلك ثم إن علينا أن نبينه بلسانك وفي لفظ علينا أن تقرأه، ويؤيد ذلك أن المراد بيان جميع القرآن والمجمل بعضه كَلَّا إرشاد لرسوله صلّى الله عليه وسلم وأخذ به عن عادة العجلة وترغيب له عليه الصلاة والسلام في الأناة وبالغ سبحانه في ذلك لمزيد حبه إياه باتباعه قوله تعالى بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ تعميم الخطاب للكل كأنه قيل بل أنتم يا بني آدم لما خلقتم من عجل وجبلتم عليه تعجلون في كل شيء ولذا تحبون العاجلة وتذرون الآخرة ويتضمن استعجالك لأن عادة بني آدم الاستعجال ومحبة العاجلة، وفيه أيضا أن الإنسان وإن كان مجبولا على ذلك إلّا أن مثله عليه الصلاة والسلام ممن هو في أعلى منصب النبوة لا ينبغي أن يستفزه مقتضى الطباع البشرية وأنه إذا نهي صلّى الله عليه وسلم عن العجلة في طلب العلم والهدى فهؤلاء ديدنهم حب العاجلة وطلب الردى كأنهم نزلوا منزلة من لا ينجع فيهم النهي فإنما(15/157)
يعاتب الآدمي ذو البشرة ومنه يعلم أن هذا متصل بقوله سبحانه بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ فإنه ملوح إلى معنى بَلْ تُحِبُّونَ إلخ وقوله عز وجل لا تُحَرِّكْ
إلخ متوسط بين حبي العاجلة: حبها الذي تضمنه بل يريد تلويحا وحبها الذي آذن به بل تحبون تصريحا لحسن التخلص منه إلى المفاجأة والتصريح. ففي ذلك تدرج ومبالغة في التقريع والتدرج وإن كان يحصل لو لم يؤت بقوله سبحانه لا تُحَرِّكْ
إلخ في البين أيضا إلا أنه يلزم حينئذ فوات المبالغة في التقريع وأنه إذا لم تجز العجلة في القرآن وهو شفاء ورحمة فكيف فيما هو فجور وثبور ويزول ما أشير إليه من الفوائد فهو استطراد يؤدي مؤدى الاعتراض وأبلغ وأطلق بعضهم عليه الاعتراض. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ومجاهد والحسن وقتادة والجحدري «يحبون» و «يذرون» بياء الغيبة فيهما وأمر الربط عليها كما تقدم وهي أبلغ من حيث إن فيها التفاتا وإخراجا له عليه الصلاة والسلام من صريح الخطاب بحب العاجلة مضمنا طرفا من التوبيخ على سبيل الرمز لطفا منه تعالى شأنه في شأنه صلّى الله عليه وسلم. وأما القراءة بالتاء ففيها تغليب المخاطب والالتفات وهو عكس الأول هذا خلاصة ما رمز إليه جار الله على ما أفيد.
وقد اندفع به قول بعض الزنادقة وشرذمة من قدماء الرافضة أنه لا وجه لوقوع لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
إلخ في أثناء أمور الآخرة ولا ربط في ذلك بوجه من الوجوه، وجعلوا ذلك دليلا لما زعموه من أن القرآن قد غيّر وبدّل وزيد فيه ونقص منه وللعلماء حماة المسلمين وشهب سماء الدين في دفع كلام كثير منه ما تقدم وللإمام أوجه فيه منها الحسن ومنها ما ليس كذلك بالمرة وقال الطيبي إن قوله تعالى كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ متصل بقوله تعالى وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
أي يقال للإنسان عند إلقاء معاذيره كلا إن أعذارك غير مسموعة فإنك فجرت وفسقت وظننت أنك تدوم على فجورك وأن لا حشر ولا حساب ولا عقاب وذلك من حبك العاجلة والإعراض عن الآخرة، وكان من عادة الرسول صلّى الله عليه وسلم أنه إذا لقن القرآن أن ينازع جبريل عليه السلام القراءة وقد أنفق عند التلقين للآيات السابقة ما جرت به عادته من العجلة فلما وصل إلى قوله تعالى وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
أوحى إلى جبريل عليه السلام بأن يلقي إليه عليه الصلاة والسلام ما يرشده إلى أخذ القرآن على أكمل وجه فألقى تلك الجمل على سبيل الاستطراد ثم عاد إلى تمام ما كان فيه بقوله تعالى كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ إلخ مثاله الشيخ إذا كان يلقن تلميذه درسا أو يلقي إليه فصلا ورآه في أثناء ذلك يعجل ويضطرب يقول له لا تعجل ولا تضطرب فإني إذ فرغت إن كان لك إشكال أزيله أو كنت تخاف فوتا فأنا أحفظه ثم يأخذ الشيخ في كلامه ويتممه انتهى. فما في البين مناسب لما وقع في الخارج دون المعنى الموحى به، وخصه بعضهم لهذا بالاستطراد وأطلق آخر عليه الاعتراض بالمعنى اللغوي وهذا عندي بعيد لم يتفق مثله في النظم الجليل ولا دليل لمن يراه على وقوع العجلة في أثناء هذه الآيات سوى خفاء المناسبة. وقال أبو حيان يظهر أن المناسبة بين هذه الآية وما قبلها أنه سبحانه لما ذكر منكر القيامة والبعث معرضا عن آيات الله تعالى ومعجزاته وأنه قاصر شهواته على الفجور غير مكترث بما يصدر منه ذكر حال من يثابر على تعلم آيات الله تعالى وحفظها وتلقنها والنظر فيها وعرضها على من ينكرها رجاء قبوله إياها ليظهر بذلك تباين من يرغب في تحصيل آيات الله تعالى ومن يرغب عنها:
وبضدها تتبين الأشياء انتهى وفيه أن هذا إنما يحسن بعد تمام ما يتعلق بذلك المنكر والظاهر أن لا تُحَرِّكْ
إلخ وقع في البين وقال القفال قوله تعالى لا تُحَرِّكْ
إلخ خطاب للإنسان المذكور في قوله تعالى يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ
وذلك(15/158)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
حال إنبائه بقبائح أفعاله يعرض عليه كتابه فيقال له اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء: 14] فإذا أخذ في القراءة تلجلج لسانه من شدة الخوف وسرعة القراءة فقيل له لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
فإنه يجب علينا بحكم الوعد أو بحكم الحكمة أن نجمع أعمالك وأن نقرأها عليك فإذا قرأناه عليك فاتبع قراءته بالإقرار بأنك فعلت تلك الأفعال أو التأمل فيه ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ أي بيان أمره وشرح عقوبته، والحاصل على هذا أنه تعالى يوقف الكافر على جميع أعماله على التفصيل وفيه أشد الوعيد في الدنيا والتهويل في الآخرة انتهى. فضمير بِهِ
وكذا الضمائر بعد للكتاب المشعر به قوله تعالى يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ
بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
وكذا قوله تعلى بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
على قول من فسّر البصيرة بالكتابين، ولعل الجملة على هذا الوجه في موضع الحال من مفروع يُنَبَّأْ بتقدير القول كأنه قيل يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ
عند أخذ كتابه بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
مقولا له لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
إلخ فالربط عليه ظاهر جدا ومن هنا اختاره البلخي ومن تبعه لكنه مخالف للصحيح المأثور الذي عليه الجمهور من أن ذلك خطاب له صلّى الله عليه وسلم. والظاهر أن التحريك قبل النهي إنما صدر منه عليه الصلاة والسلام بحكم الإباحة الأصلية فلا يتم احتجاج من جوز الذنب على الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية. وقال الإمام: لعل ذلك الاستعجال إن كان مأذونا فيه عليه الصلاة والسلام إلى وقت النهي وكأنه أراد بالإذن الإذن الصريح المخصوص وفيه بعد ما
وعن الضحاك أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يخاف أن ينسى القرآن فكان يدرسه حتى غلب ذلك وشق عليه فنزل لا تُحَرِّكْ بِهِ
إلخ وليس بالثبت ولعل ظاهر الآية لا يساعده ثم إنه ربما يتخيل في الآية وجه غير ما ذكر عن القفال الربط عليه ظاهر أيضا وهو أنه يكون الخطاب في لا تُحَرِّكْ
إلخ لسيد المخاطبين حقيقة أو من باب إياك أعني واسمعي أو لكل من يصلح له وضمير بِهِ
ونظائره ليوم القيامة والجملة اعتراض جيء به لتأكيد تهويله وتفظيعه مع تقاضي السباق له فكأنه لما ذكر سبحانه مما يتعلق بذلك اليوم الذي فتحت السورة بعظامه ما يتعلق قوي داعي السؤال عن توقيته وأنه متى يكون وفي أي وقت يبين لا سيما وقد استشعر أن السؤال عن ذلك إذا لم يكن استهزاء مما لا بأس به فقيل لا تُحَرِّكْ بِهِ
أي بطلب توقيته لسانك وهو نهي عن السؤال على أتم وجه كما يقال لا تفتح فمك في أمر فلان لتعجل به لتحصل علمه على عجلة إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ
ما يكون فيه من الجمع وَقُرْآنَهُ
ما يتضمن شرح أحواله وأهواله من القرآن.
فَإِذا قَرَأْناهُ
ما يتعلق به فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
بالعمل بما يقتضيه من الاستعداد له ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ إظهاره وقوعا بالنفخ في الصور وهو الطامة الكبرى وحاصله لا تسأل عن توقيت ذلك اليوم العظيم مستعجلا(15/159)
معرفة ذلك فإن الواجب علينا حكمة حشر الجمع فيه وإنزال قرآن يتضمن بيان أحواله ليستعد له وإظهاره بالوقوع الذي هو الداهية العظمى وما عدا ذلك من تعيين وقته فلا يجب علينا حكمة بل هو مناف للحكمة فإذا سألت فقد سألت ما ينافيها فلا تجاب انتهى. وفيه ما فيه وما كنت أذكره لولا هذا التنبيه واللائق بجزالة التنزيل ولطيف إشاراته ما أشار إليه ذو اليد الطولى جار الله تجاوز الله تعالى عن تقصيراته فتأمل فلا حجر على فضل الله عز وجل. ولما ردع سبحانه عن حب العاجلة وترك الآخرة عقب ذلك بما يتضمن تأكيد هذا الردع مما يشير إلى حسن عاقبة حب الآخرة وسوء مغبة العاجلة فقال عز من قائل وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ أي وجوه كثيرة وهي وجوه المؤمنين المخلصين يوم إذ تقوم القيامة بهية متهللة من عظيم المسرة يشاهد عليها نضرة النعيم على أن وُجُوهٌ مبتدأ وناضِرَةٌ خبره ويَوْمَئِذٍ منصوب ب ناضِرَةٌ وناظِرَةٌ في قوله تعالى إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ خبر ثان للمبتدأ أو نعت ل ناضِرَةٌ وإِلى رَبِّها متعلق ب ناظِرَةٌ وصح وقوع النكرة مبتدأ لأن الموضع موضع تفصيل كما في قوله:
فيوم لنا ويوم علينا ... ويوم نساء ويوم نسرّ
لا على أن النكرة تخصصت بيومئذ كما زعم ابن عطية لأن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثث ولا على أن ناضِرَةٌ صفة لها والخبر ناظِرَةٌ كما قيل لما أن المشهور الغالب كون الصفة معلومة الانتساب إلى الموصوف عند السامع وثبوت النظرة للوجوه ليس كذلك فحقه أن يخبر به نعم ذكر هذا غير واحد احتمالا في الآية وقال فيه أبو حيان هو قول سائغ. ومعنى كونها ناظرة إلى ربها أنها تراه تعالى مستغرقة في مطالعة جماله بحيث تغفل عما سواه وتشاهده تعالى على ما يليق بذاته سبحانه ولا حجر على الله عز وجل وله جل وعلا لتنزه الذاتي التام في جميع تجلياته. واعترض بأن تقديم المعمول يعني إِلى رَبِّها يفيد الاختصاص كما في نظائره في هذه السورة وغيرها وهو لا يتأتى لو حمل ذلك على النظر بالمعنى المذكور ضرورة أنهم ينظرون إلى غيره تعالى. وحيث كان الاختصاص ثابتا كان الحمل على ذلك باطلا وفيه أن التقديم لا يتمحض للاختصاص كيف والموجب من رعاية الفاصلة والاهتمام قائم ثم لو سلم فهو باق بمعنى أن النظر إلى غيره تعالى في جنب النظر إليه سبحانه لا يعد نظرا كما قيل في نحو ذلك الكتاب على أن ذلك ليس في جميع الأحوال بل في بعضها وفي ذلك لالتفات إلى ما سواه جل جلاله
فقد أخرج مسلم والترمذي عن صهيب عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تعالى تريدون شيئا أزيدكم فيقولون ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار قال فيكشف الله تعالى الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم» .
وفي حديث جابر وقد رواه ابن ماجة: «فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم» .
ومن هنا قيل:
فينسون النعيم إذا رأوه ... فيا خسران أهل الاعتزال
وكثيرا ما يحصل نحو ذلك للعارفين في هذه النشأة فيستغرقون في بحار الحب وتستولي على قلوبهم أنوار الكشف فلا يلتفتون إلى شيء من جميع الكون:
فلما استبان الصبح أدرج ضوءه ... بإسفاره أنوار ضوء الكواكب
وقيل الكلام على حذف مضاف أي إلى ملك أو رحمة أو ثواب ربها ناظرة والنظر على معناه المعروف أو على حذف مضاف والنظر بمعنى الانتظار فقد جاء لغة بهذا المعنى أي إلى أنعام ربها منتظرة وتعقب بأن(15/160)
الحذف خلاف الظاهر وما زعموا من الداعي مردود في محله وبأن النظر بمعنى الانتظار لا يتعدى بإلى بل بنفسه وبأنه لا يسند إلى الوجه فلا يقال وجه زيد منتظر، والمتبادر من الإسناد إسناد النظر إلى الوجوه الحقيقية وهو يأني إرادة الذات من الوجه وتفصّى الشريف المرتضى في الدرر عن بعض هذا بأن إِلى اسم بمعنى النعمة واحد الآلاء وهو مفعول به ل ناظِرَةٌ بمعنى منتظرة فيكون الانتظار قد تعدى بنفسه وفيه من البعد ما فيه والزمخشري إذا تحققت كلامه رأيته لم يدع أن النظر بمعنى الانتظار ليتعقب عليه بما تعقب، بل أراد أن النظر بالمعنى المتعارف كناية عن التوقع والرجاء، فالمعنى عنده أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلّا من ربهم كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلّا إياه سبحانه وتعالى. ويرد عليه أنه يرجع إلى إدارة الانتظار لكن كناية والانتظار لا يساعده المقام إذ لا نعمة فيه وفي مثله قيل الانتظار موت أحمر والذي يقطع الشغب ويدق في فروة من أخس الطلب ما
أخرجه الإمام أحمد والترمذي والدارقطني وابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي وعبد بن حميد وابن أبي شيبة وغيرهم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية» ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ»
فهو تفسير منه عليه الصلاة والسلام: ومن المعلوم أنه أعلم الأولين والآخرين لا سيما بما أنزل عليه من كلام رب العالمين ومثل هذا فيما ذكر ما
أخرجه الدارقطني والخطيب في تاريخه عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلم أقرأه وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ فقال: «والله ما نسخها منذ أنزلها يزورون ربهم تبارك وتعالى فيطعمون ويسقون ويطيبون ويحلون ويرفع الحجاب بينه فينظرون إليه وينظر إليهم عز وجل»
وهذا الحجاب على ما قال السادة من قبلهم لا من قبله عز وجل وأنشدوا:
وكنا حسبنا أن ليلى تبرقعت ... وأن حجابا دونها يمنع اللثما
فلاحت فلا والله ما ثم حاجب ... سوى أن طرفي كان عن حسنها أعمى
ثم إن أجهل الخلق عندهم المعتزلة وأشدهم عمى وأدناهم منزلة حيث أنكروا صحة رؤية من لا ظاهر سواه بل لا موجود على الحقيقة إلّا إياه وأدلة إنكارهم صحة رؤيته تعالى مذكورة مع ردودها في كتب الكلام وكذا أدلة القدوم على الصحة وكأني بك بعد الإحاطة وتدقيق النظر تميل إلى أنه سبحانه وتعالى يرى لكن لا من حيث ذاته سبحانه البحت ولا من حيث كل تجل حتى تجليه بنوره الشعشعاني الذي لا يطاق. وقرأ زيد بن عليّ «وجوه يومئذ نضرة» بغير ألف وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ أي شديدة العبوس وباسل أبلغ من باسر فيما ذكر لكنه غلب في الشجاع إذا اشتدت كلوحته فعدل عنه لإيهامه غير المراد وعنى بهذه الوجوه وجوه الكفرة تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ أي داهية عظيمة تقصم فقار الظهر من فقره أصاب فقاره وقال أبو عبيدة فاقِرَةٌ من فقرت البعير إذا وسمت أنفه بالنار وفاعل تَظُنُّ ضمير (الوجوه) بتقدير مضاف أي تظن أربابها وجوز أن يكون الضمير راجعا إليها على أن الوجه بمعنى الذات استخداما وفيه بعد. والظن قيل أريد به اليقين واختاره الطيبي وأن المصدرية لا تقع بعد فعل التحقيق الصرف دون فعل الظن أو ما يؤدي معنى العلم فتقع بعده كالمشددة والمخففة على ما نص عليه الرضي وقيل هو على معناه الحقيقي المشهور والمراد تتوقع ذلك واختاره من اختاره ولا دلالة فيه بواسطة التقابل على أن يكون النظر ثم بالمعنى المذكور كما زعمه من زعمه وتحقيق ذلك أن ما يفعل بهم في مقابلة النظر إلى الرب سبحانه لكون ذلك غاية النعمة وهذا غاية النقمة وجيء(15/161)
بفعل الظن هاهنا دلالة على أن ما هم فيه وإن كان غاية الشر يتوقع بعده أشد منه وهكذا أبدا وذلك لأن المراد بالفاقرة ما لا يكننه من العذاب فكل ما يفعل به من أشده استدل منه على آخر وتوقع أشد منه وإذا كان ظانا كان أشد عليه مما إذا كان عالما موطنا نفسه على الأمر على أن العلم بالكائن واقع لا بما يتجدد آنا فآنا فهذا وجه الإتيان بفعل الظن ولم يؤت في المقابل بفعل ظن أو علم لأنهم وصلوا إلى ما لا مطلوب وراءه وذاقوه ثم بعد ذلك التفاوت في ذلك النظر قوة وضعفا بالنسبة إلى الرائي على ما قرره فلعل هذا حجة على الزاعم لا له أسبغ الله علينا برؤيته فضله كَلَّا ردع عن إيثار العاجلة على الآخرة كأنه قيل ارتدعوا عن ذلك وتنبهوا لما بين أيديكم من الموت الذي تنقطع عنده ما بينكم وبين العاجلة من العلاقة إِذا بَلَغَتِ أي النفس أو الروح الدال على سياق الكلام كما في قول حاتم:
أماويّ ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
ونحو قول العرب أرسلت يريدون جاء المطر ولا تكاد تسمعهم يقولون أرسلت السماء نعم قد يصرح فيما هنا بالفاعل فيقال بلغت النفس التَّراقِيَ أي أعالي الصدر وهي العظام المكتنفة ثغرة النحر عن يمين وشمال جمع ترقوة وأنشدوا لدريد بن الصمة:
ورب عظيمة رافعت عنهم ... وقد بلغت نفوسهم التراقي
وَقِيلَ مَنْ راقٍ
أي قال من حضر صاحبها من يرقيه وينجيه مما هو فيه من الرقية وهي ما يستشفى به الملسوع والمريض من الكلام المعد لذلك ومنه آيات الشفاء ولعلة أريد به مطلق الطبيب أعم من أن يطب بالقول أو بالفعل وروي عن ابن عباس والضحاك وأبو قلابة وقتادة ما هو ظاهر فيه والاستفهام عند بعض حقيقي وقيل هو استفهام استبعاد وإنكار أي قد بلغ مبلغا لا أحد يرقيه كما يقال عند اليأس من ذا الذي يقدر أن يرقى هذا المشرف على الموت وروي ذلك عن عكرمة وابن زيد وقيل هو من كلام ملائكة الموت أي أيكم يرقى بروحه أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب من الرقي وهو العروج وروي هذا عن ابن عباس أيضا وسليمان التيمي والاستفهام عليه حقيقي وتعقب بأن اعتبار ملائكة الرحمة يناسب قوله تعالى بعد فَلا صَدَّقَ إلخ ودفع بأن الضمير للإنسان والمراد به الجنس والاقتصار بعد ذلك على أحوال بعض الفريقين لا ينافي العموم فيما قبل ووقف حفص رواية عن عاصم على من وابتدأ راقٍ
وأدغم الجمهور قال أبو علي: لا أدري ما وجه قراءته وكذلك قرأ بَلْ رانَ [المطففين: 14] وقال بعضهم كأنه قصد أن لا يتوهم أنها كلمة واحدة فسكت سكتة لطيفة ليشعر أنهما كلمتان وإلّا فكان ينبغي أن يدعم في مَنْ راقٍ
فقد قال سيبويه إن النون تدغم في الراء وذلك نحو من راشد والإدغام بغنة وبغير غنة ولم يذكر الإظهار ويمكن أن يقال لعل الإظهار رأي كوفي فعاصم شيخ حفص يذكر أنه كان عالما بالنحو، وأما بَلْ رانَ فقد ذكر سيبويه في ذلك أيضا أن إظهار اللام وإدغامها مع الراء حسنان، فلعل حفصا لما أفرط في إظهار الإظهار فيه صار كالوقف القليل واستدل بقوله تعالى إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ على أن النفس جسم لا جوهر مجرد إذ لا يتصف بالحركة والتحيز وأجاب بعض بأن هذه النفس المسند إليها بلوغ التراقي هي النفس الحيوانية لا الروح الأمرية وهي الجوهر المجرد دون الحيوانية وآخر بأن المراد ببلوغها التراقي قرب انقطاع التعلق وهو مما يتصف به المجرد إذ لا يستدعي حركة ولا تحيزا ولا نحوهما مما يستحيل عليه. وزعم أنه لا يمكن إرادة الحقيقة ولو كانت النفس جسما ضرورة أن بلوغها التراقي لا يتحقق إلّا بعد مفارقتها القلب وحينئذ يحصل الموت ولا يقال مَنْ راقٍ
كما هو ظاهر(15/162)
على الوجه الأول فيه ولا يتأنى أيضا ما يذكر بعد على ما ستعلمه إن شاء الله تعالى فيه والذي عليه جمهور الأمة سلفا وخلفا أن النفس وهي الروح الأمرية جسم لطيف جدا ألطف من الضوء عند القائل بجسميته والنفس الحيوانية مركب لها وهي سارية في البدن نحو سريان ماء الورد في الورد والنار في الفحم وسريان السيال الكهربائي عند القائل به في الأجسام والأدلة على جسميتها كثيرة وقد استوفاها الشيخ ابن القيم في كتاب الروح وأتى فيه بالعجب ثم الظاهر أن المراد ببلوغ التراقي مشارفة الموت وقرب خروج الروح من البدن سلمت الضرورة التي في كلام ذلك الزاعم أم لم تسلم لقوله تعالى وَقِيلَ مَنْ راقٍ
وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ أي وظن الإنسان المحتضر أن ما نزل به الفراق من حبيبته الدنيا ونعيمها وقيل فراق الروح الجسد، والظن هنا عند أبي حيان على بابه وأكثر المفسرين على تفسيره باليقين قال الإمام ولعله إنما سمي اليقين هاهنا بالظن لأن الإنسان ما دامت روحه متعلقة ببدنه يطمع في الحياة لشدة حبه لهذه الحياة العاجلة ولا ينقطع رجاؤه عنها فلا يحصل له يقين الموت بل الظن الغالب مع رجاء الحياة أو لعله سماه بالظن على سبيل التهكم وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ أي التفّت ساقه بساقه والتوت عليها عند هلع الموت وقلبه كما روي عن الشعبي وقتادة وأبي مالك وقال الحسن وابن المسيب هما ساقا الميت عند ما لفا في الكفن وقيل المراد بالتفافهما انتهاء أمرهما وما يراد فيهما يعني موتهما وقيل يبسهما بالموت وعدم تحرك إحداهما عن الأخرى حتى كأنهما ملتفتان فهما أول ما يخرج الروح منه فتبردان قبل سائر الأعضاء وتيبسان فالساق بمعناها الحقيقي وأل فيها عهدية أو عوض
عن المضاف إليه وقال ابن عباس والربيع بن أنس وإسماعيل بن أبي خالد. وهو رواية عن الحسن أيضا الْتَفَّتِ شدة فراق الدنيا لشدة إقبال الآخرة واختلطتا ونحوه قول عطاء: اجتمع عليه بشدة مفارقة المألوف من الوطن والأهل والولد والصديق وشدة القوم على ربه جل شأنه لا يدري بماذا يقدم عليه، فالساق عبارة عن الشدة وهو مثل في ذلك والتعريف للعهد وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الضحاك الْتَفَّتِ أسوق حاضريه من الإنس والملائكة هؤلاء يجهزون بدنه إلى القبر وهؤلاء يجهزون روحه إلى المساء فكأنهم للاختلاف في الذهاب والإياب والتردد في الأعمال قد التفّت أسوقهم وهذا الالتفاف على حد اشتباك الأسنة إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ أي إلى الله تعالى وحكمه سوقه لا إلى غيره على أن المساق مصدر ميمي كالمقال وتقدم الخير للحصر والكلام على تقدير مضاف هو حكم وقيل هو موعد والمراد به الجنة والنار وقيل ليس هناك مضاف مقدر على أن الرب جل شأنه هو السائق أي سوق هؤلاء مفوض إلى ربك لا إلى غيره والظاهر ما تقدم ثم إن كان هذا في أن الفاجر أو فيما يعمه والبر يراد بالسوق السوق المناسب للمسوق وهذه الآية لعمري بشارة لمن حسن ظنه بربه وعلم أنه الرب الذي سبقت رحمته غضبه:
قالوا غدا نأتي ديار الحمى ... وينزل الركب بمغناهم
فقلت لي ذنب فما حيلتي ... بأي وجه أتلقاهم
قالوا أليس العفو من شأنهم ... لا سيما عمن ترجاهم
ثم إن جواب إِذا محذوف دل عليه ما ذكر أي كان ما كان أو انكشفت للمرء حقيقة الأمر أو وجد الإنسان ما عمله من خير أو شر فَلا صَدَّقَ أي ما يجب تصديقه من الله عز وجل والرسول صلّى الله عليه وسلم والقرآن الذي أنزل عليه وَلا صَلَّى ما فرض عليه أي لم يصدق ولم يصل فلا داخلة على الماضي كما في قوله:
إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما
والضمير في الفعلين للإنسان المذكور في قوله تعالى أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ والجملة عطف على قوله سبحانه(15/163)
يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ على ما ذهب إليه الزمخشري فالمعنى بناء على ما علمت من أن السؤال سؤال استهزاء واستبعاد استبعد البعث وأنكره فلم يأت بأصل الدين وهو التصديق بما يجب تصديقه به ولا بأهم فروعه وهو الصلاة ثم أكد ذلك بذكر ما يضاده بقوله تعالى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى نفيا لتوهم السكوت أو الشك أي ومع ذلك أظهر الجحود والتولي عن الطاعة ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى يتبختر افتخارا بذلك ومن صدر عنه مثل ذلك ينبغي أن يخاف من حلول غضب الله تعالى به فيمشي خائفا متطامنا لا فرحا متبخترا فثم للاستبعاد ويَتَمَطَّى من المط فإن المتبختر يمد خطاه فيكون أصله يتمطط قلبت الطاء فيه حرف علة كراهة اجتماع الأمثال كما قالوا تظني من الظن وأصله تظنن أو من المطا وهو الظهر فإن المتبختر يلوي مطاه تبخترا فيكون معتلا بحسب الأصل
وفي الحديث «إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم فقد جعل بأسهم بينهم وسلط شرارهم على خيارهم»
وجعل الطيبي عطف هذه الجملة للتعجب على معنى يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ وما استعد له إلّا ما يوجب دماره وهلاكه. وقال إن قوله تعالى فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ إلخ جواب عن السؤال أقحم بين المعطوف والمعطوف عليه لشدة الاهتمام وأن قوله سبحانه لا تُحَرِّكْ
إلخ استطراد على ما سمعت وجعل صَدَّقَ من التصدق هو المروي عن قتادة وقال قوم: هو من التصديق أي فلا صدّق ماله ولا زكاه. قال أبو حيان: وهذا الذي يظهر نفي عنه الزكاة والصلاة وأثبت له التكذيب كما في قوله تعالى قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر: 43- 46] وحمله على نفي التصديق يقتضي أن يكون ولكن كذب تكرارا ولزم أن يكون استدراكا بعد وَلا صَلَّى لا بعد فَلا صَدَّقَ لأنهما متوافقان وفيه نظر يعلم مما قررناه ثم إنه استبعد العطف على قوله تعالى يَسْئَلُ إلخ وذكر أن الآية نزلت في أبي جهل وكادت تصرح به في قوله تعالى يَتَمَطَّى فإنها كانت مشيته ومشية قومه بني مخزوم وكان يكثر منها ولم يبين حال العطف على هذا وأنت تعلم أن العطف لا يأبي حديث النزول في أبي جهل وقد قيل إن قوله تعالى أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ نازل فيه أيضا والحكم على الجنس بأحكام لا يضر فيه تعين بعض أفراده في حكم منها نعم لا شك في بعد هذا العطف لفظا لكن في بعده معنى مقال ولعل فيما بعد ما يقوي جانب العطف على ذاك أَوْلى لَكَ فَأَوْلى من الولي بمعنى القرب فهو للتفضيل في الأصل غلب في قرب الهلاك ودعاء السوء كأنه قيل هلاكا أولى لك بمعنى أهلكك الله تعالى هلاكا أقرب لك من كل شر، وهلاك وهذا كما غلب بعدا وسحقا في الهلاك وفي الصحاح عن الأصمعي قاربه ما يهلكه أي نزل به وأنشد:
فعادى بين هاديتين منها ... وأولى أن نزيد على الثلاث
أي قارب ثم قال قال ثعلب: ولم يقل أحد في أَوْلى أحسن مما قاله الأصمعي وعلى هذا أَوْلى فعل مستتر فيه ضمير الهلاك بقرينة السياق واللام مزيدة على ما قيل وقيل هو فعل ماض دعائي من الولي أيضا إلّا أن الفاعل ضميره تعالى واللام مزيدة أي أولاك الله تعالى ما تكرهه أو غير مزيدة أي أدنى الله الهلاك لك وهو قريب مما ذكر عن الأصمعي وعن أبي علي أن أَوْلى لَكَ علم للويل مبني على زنة أفعل من لفظ الويل على القلب وأصله أويل وهو غير منصرف للعلمية والوزن فهو مبتدأ ولَكَ خبره وفيه أن الويل غير منصرف فيه ومثل يوم أيوم مع أنه غير منقاس لا يفرد عن الموصوف البتة وأن القلب على خلاف الأصل لا يرتكب إلّا بدليل وإن علم الجنس شيء خارج عن القياس مشكل التعقل خاصة فيما نحن فيه، وقيل اسم فعل مبني ومعناه ويلك شر بعد شر. واختار جمع أنه أفعل تفضيل بمعنى الأحسن والأحرى خبر لمبتدأ محذوف يقدر كما يليق بمقامه فالتقدير هنا النار أولى لك أي أنت أحق بها وأهل لها فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى تكرير للتأكيد وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر. والظاهر أن الجملة(15/164)
تذييل للدعاء لا محل لها من الإعراب، وجوز أن تكون في موضع الحال بتقدير القول كأنه قيل ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى مقولا له أَوْلى لَكَ إلخ ويؤيده ما أخرج النسائي والحاكم وصححه وعبد بن حميد وابن جرير ابن المنذر وغيرهم عن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عباس عن قول الله تعالى أَوْلى لَكَ فَأَوْلى أشيء قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلم من نفسه أم أمره الله تعالى به؟ قال: بل قال من قبل نفسه ثم أنزله الله تعالى واستدل بقوله سبحانه فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى إلخ. على أن الكفار مخاطبون بالفروع فلا تغفل أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أي مهملا فلا يكلف ولا يجزى وقيل أن يترك في قبره فلا يبعث ويقال: إبل سدى أي مهملة ترعى حيث شاءت بلا راع وأسديت الشيء أي أهملته وأسديت حاجتي ضيعتها ولم أعتن بها. قال الشاعر:
فأقسم بالله جهد اليم ... ين ما خلق الله شيئا سدى
ونصب سُدىً على الحال من ضمير يُتْرَكَ وأَنْ يُتْرَكَ في موضع المفعولين ليحسب والاستفهام إنكاري وكان تكريره بعد قوله تعالى أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ لتكرير إنكار الحشر قيل مع تضمن الكلام الدلالة على وقوعه حيث إن الحكمة تقتضي الأمر بالمحاسن والنهي عن القبائح والرذائل والتكليف لا يتحقق إلّا بمجازاة وهي قد لا تكون في الدنيا فتكون في الآخرة وجعل بعضهم هذا استدلالا عقليا على وقوع الحشر وفيه بحث لا يخفى وقوله تعالى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى إلخ استئناف وارد لإبطال الحسبان المذكور فإن مداره لما كان استبعادهم للإعادة دفع ذلك ببدء الخلق. وقرأ الحسن «ألم تك» بباء الخطاب على سبيل الالتفات وقرأ الأكثر «تمنى» بالتاء الفوقية فالضمير للنطفة أي يمنيها الرجل ويصبها في الرحم وعلى قراءة الياء وهي قراءة حفص وأبي عمرو بخلاف عنه ويعقوب وسلام والجحدري وابن محيصن للمني ثُمَّ كانَ عَلَقَةً أي بقدرة الله تعالى كما قال تعالى ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً [المؤمنون: 14] فَخَلَقَ أي فقدر الله عز وجل بأن جعلها سبحانه مخلقة فَسَوَّى فعدل وكمل فَجَعَلَ مِنْهُ أي من الإنسان وقيل من المني الزَّوْجَيْنِ أي الصنفين الذَّكَرَ وَالْأُنْثى بدل من الزوجين والخنثى لا يعدوهما. وقرأ زيد بن علي الزوجان بالألف على لغة بني الحارث بن كعب ومن وافقهم من العرب من كون المثنى بالألف في جميع حالاته أَلَيْسَ ذلِكَ العظيم الشأن الذي أنشأ هذا الإنشاء البديع بِقادِرٍ أي قادرا وقرأ زيد «يقدر» مضارعا عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى وهو أهون من البدء في قياس العقل. وقرأ طلحة بن سليمان والفيض بن غزوان «على أن يحيي» بسكون الياء وأنت تعلم أن حركاتها حركة إعراب لا تنحذف إلّا في الوقف وقد جاء في الشعر حذفها بدونه وعن بعضهم «يحيي» بنقل حركة الياء إلى الحاء وإدغام الياء في الياء قال ابن خالويه: لا يجيز أهل البصرة سيبويه وأصحابه إدغام يحيي قالوا لسكون الياء الثانية ولا يعتدون بالفتحة فيها لأنها حركة إعراب غير لازمة، والفراء أجاز ذلك واحتج بقوله تمشي بشدة فتعي يريد فتعيا، وبالجملة القراءة شاذة
وجاء في عدة أخبار أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال: «سبحانك اللهم وبلى» وفي بعضها «سبحانك فبلى»
وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ منكم والتين والزيتون فانتهى إلى آخرها أليس الله بأحكم الحاكمين فليقل بلى وأنا على ذلكم من الشاهدين، ومن قرأ لا أقسم بيوم القيامة فانتهى إلى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى فليقل بلى، ومن قرأ والمرسلات فبلغ فبأي حديث بعده يؤمنون فليقل آمنا بالله» .(15/165)
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13)
سورة الإنسان
وتسمى سورة الدهر والأبرار والأمشاج وهل أتى وهي مكية عند الجمهور على ما في البحر وقال مجاهد وقتادة مدنية كلها وقال الحسن وعكرمة والكلبي مدنية إلا آية واحدة فمكية وهي ولا تطع منهم آثما أو كفورا وقيل مدنية إلّا من قوله تعالى فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ [الإنسان: 24] إلى آخرها فإنه مكي وعن ابن عادل حكاية مدنيتها على الإطلاق عن الجمهور وعليه الشيعة وآيها إحدى وثلاثون آية بلا خلاف والمناسبة بينها وبين ما قبلها في غاية الوضوح.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً أصله على ما قيل أهل على أن الاستفهام للتقرير أي الجمل على الإقرار بما دخلت عليه والمقرر به من ينكر البعث وقد علم أنهم يقولون نعم قد مضى على الإنسان حين لم يكن كذلك فيقال فالذي أوجده بعد إن لم يكن كيف يمتنع عليه إحياؤه بعد موته وهَلْ بمعنى قد وهي للتقريب أي تقريب الماضي من الحال فلما سدت هَلْ مسد الهمزة دلت على معناها ومعنى الهمزة معا ثم صارت حقيقة في ذلك فهي للتقرير والتقريب واستدل على ذلك الأصل بقول زيد الخيل:(15/166)
سائل فوارس يربوع بشدتنا ... أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم
وقيل هي للاستفهام ولا تقريب وجمعها مع الهمزة في البيت للتأكيد كما في قوله:
ولا للملبهم أبدا دواء بل التأكيد هنا أقرب لعدم الاتحاد لفظا على أن السيرافي قال: الرواية الصحيحة أم هل رأونا على أن أم منقطعة بمعنى بل وقال السيوطي في شرح شواهد المغني الذي رأيته في نسخة قديمة من ديوان زيد فهل رأونا بالفاء وعن ابن عباس وقتادة هي هنا بمعنى قد وفسرها بها جماعة من النحاة كالكسائي وسيبويه والمبرد والفراء وحملت على معنى التقريب، ومن الناس من حملها على معنى التحقيق وقال أبو عبيدة: مجازها قد أتى على الإنسان وليس باستفهام وكأنه أراد ليس باستفهام حقيقة وإنما هي للاستفهام التقريري ويرجع بالآخرة إلى قد أتى ولعل مراد من فسرها بذلك كابن عباس وغيره ما ذكر لا أنها بمعنى قد حقيقة وفي المغني ما تفيدك مراجعته بصيرة فراجعه والمراد بالإنسان الجنس على ما أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس، والحين طائفة محدودة من الزمان شاملة للكثير والقليل والدَّهْرِ الزمان الممتد الغير المحدود ويقع على مدة العالم جميعها وعلى كل زمان طويل غير معين والزمان عام للكل والدهر وعاء الزمان كلام فلسفي وتوقف الإمام أبو حنيفة في معنى الدهر منكر أي في المراد به عرفا في الإيمان حتى يقال بماذا يحنث إذا قال: والله لا أكلمه دهرا والمعرف عنده مدة حياة الحالف عند عدم النية وكذا عند صاحبيه والمنكر عندهما كالحين وهو معرفا ومنكرا كالزمان ستة أشهر إن لم تكن نية أيضا وبها ما نوي على الصحيح وما اشتهر من حكاية اختلاف فتاوى الخلفاء الأربعة في ذلك على عهده عليه الصلاة والسلام مستدلا كل بدليل.
وقوله صلّى الله عليه وسلم بعد الرفع إليه: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم»
إلّا أنه اختار فتوى الأمير كرم الله تعالى وجهه بأن الحين يوم وليلة لما فيه من التيسير لا يصح كما لا يخفى على الناقد البصير ولو صح لم يعدل عن فتوى الأمير معدن البسالة والفتوة بعد أن اختارها مدينة العلم ومفخر الرسالة والنبوة والمعنى هنا قد أتى أو هَلْ أَتى عَلَى جنس الْإِنْسانِ قبل زمان قريب طائفة محدودة مقدرة كائنة من الزمان الممتد لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً بلى كان شيئا غير مذكور بالإنسانية أصلا أي غير معروف بها على أن النفي راجع إلى القيد والمراد أنه معدوم لم يوجد بنفسه بل كان الموجود أصله مما لا يسمى إنسانا ولا يعرف بعنوان الإنسانية وهو مادته البعيدة أعني العناصر أو المتوسطة وهي الأغذية أو القريبة وهي النطفة المتولدة من الأغذية المخلوقة من العناصر وجملة لَمْ يَكُنْ إلخ حال من الإنسان أي غير مذكور وجوز أن تكون صفة لحين بحذف العائد عليه أي لم يكن فيه شيئا مذكورا كما في قوله تعالى وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [البقرة: 123] وإطلاق الْإِنْسانِ على مادته مجاز بجعل ما هو بالقوة منزلا منزلة ما هو بالفعل أو هو من مجاز الأول وقيل المراد بالإنسان آدم عليه السلام وأيد الأول بقوله تعالى إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فإن الإنسان فيه معرفة معادة فلا يفترقان كيف وفي إقامة الظاهر مقام المضمر فضل التقرير والتمكين في النفس فإذا اختلفا عموما وخصوصا فاتت الملايمة ولا شك أن الحمل على آدم عليه السلام في هذا ولا وجه له ولا نقض به على إرادة الجنس بناء على أنه لا عموم فيه ولا خصوص. نعم دل قوله سبحانه مِنْ نُطْفَةٍ على أن المراد غيره أو هو تغليب وقيل يجعل ما للأكثر للكل مجازا في الإسناد أو الطرف ورويت إرادته عن قتادة والثوري وعكرمة والشعبي وابن عباس أيضا وقال في رواية أبي صالح عنه مرت به أربعون سنة قبل أن ينفخ فيه الروح وهو ملقى بين مكة(15/167)
والطائف. وفي رواية الضحاك عنه أنه خلق من طين فأقام أربعين سنة ثم من حمأ مسنون فأقام أربعين سنة ثم من صلصال فأقام أربعين سنة فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة ثم نفخ فيه الروح. وحكى الماوردي عنه أن الحين المذكور هاهنا هو الزمن الطويل الممتد الذي لا يعرف مقداره. وروي نحوه عن عكرمة فقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أنه قال إن من الحين حينا لا يدرك وتلا الآية فقال: والله ما يدري كم أتى عليه حتى خلقه الله تعالى. ورأيت لبعض المتصوفة أن هل للاستفهام الإنكاري فهو في معنى النفي أي ما أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا وظاهره القول بقدم الإنسان في الزمان على معنى أنه لم يكن زمان إلّا وفيه إنسان وهو القدم النوعي كما قال به من قال من الفلاسفة وهو كفر بالإجماع ووجه بأنهم عنوا شيئية الثبوت لقدم الإنسان عندهم بذلك الاعتبار دون شيئية الوجود ضرورة أنه بالنسبة إليها حادث زمانا ويرشد إلى هذا قول الشيخ محيي الدين في الباب 358 من الفتوحات المكية لو لم يكن في العالم من هو على صورة الحق ما حصل المقصود من العلم بالحق أعني العلم الحادث في قوله سبحانه:
«كنت كنزا لم أعرف فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق وتعرفت إليهم فعرفوني»
فجعل نفسه كنزا والكنز لا يكون إلّا مكتنزا في شيء فلم يكن كنز الحق نفسه إلّا في صورة الإنسان الكامل في شيئية ثبوته هناك كان الحق مكنوزا فلما ألبس الحق الإنسان شيئية الوجود ظهر الكنز بظهوره فعرفه الإنسان الكامل بوجوده وعلم أنه كان مكنوزا فيه في شيئية ثبوته وهو لا يشعر به انتهى ولا يخفى أن الأشياء كلها في شيئية الثبوت قديمة لا الإنسان وحده، ولعلهم يقولون الإنسان هو كل شيء لأنه الإمام المبين وقد قال سبحانه وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ [يس: 12] والكلام في هذا المقام طويل ولا يسعنا أن نطيل بيد أنّا نقول كون هَلْ هنا للإنكار منكر وأن دعوى صحة ذلك لإحدى الكبر والذي فهمه أجلة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم من الآية الإخبار الإيجابي. أخرج عبد بن حميد وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه سمع رجلا يقرأ «هل أتى على الإنسان شيء من الدهر لم يكن شيئا مذكورا» فقال ليتها تمت. وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه سمع رجلا يتلو ذلك فقال يا ليتها تمت فعوقب في قوله هذا فأخذ عمودا من الأرض فقال يا ليتني كنت مثل هذا أَمْشاجٍ جمع مشج بفتحتين كسبب وأسباب، أو مشج بفتح فكسر ككتف وأكتاف، أو مشيج كشهيد وأشهاد ونصير وأنصار أي أخلاط جمع خلط بمعنى مختلط ممتزج، يقال: مشجت الشيء إذا خلطته ومزجته فهو مشيج وممشوج، وهو صفة لنطفة ووصف بالجمع وهي مفردة لأن المراد بها مجموع ماء الرجل والمرأة والجمع قد يقال على ما فوق الواحد أو باعتبار الأجزاء المختلفة فيهما رقة وغلظا وصفرة وبياضا وطبيعة وقوة وضعفا حتى اختص بعضها ببعض الأعضاء على ما أراده الله تعالى بحكمته فخلقه بقدرته. وفي بعض الآثار أن ما كان من عصب وعظم وقوة فمن ماء الرجل، وما كان من لحم ودم فمن ماء المرأة، والحاصل أنه نزل الموصوف منزلة الجمع ووصف بصفة أجزائه وقيل هو مفرد جاء على أفعال كأعشار وأكياش في قولهم برمة أعشار أي متكسرة وبرد أكيش أي مغزول غزله مرتين. واختاره الزمخشري والمشهور عن نص سيبويه وجمهور النحاة أن أفعالا لا يكون جمعا وحكي عنه أنه ذهب إلى ذلك في العام ومعنى نطفة مختلطة عند الأكثرين نطفة اختلط وامتزج فيها الماءان، وقيل: اختلط فيها الدم والبلغم والصفراء والسوداء وقيل الأمشاج نفس الأخلاط التي هي عبارة عن هذه الأربعة فكأنه قيل من نطفة هي عبارة عن أخلاط أربعة. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد أنه قال: أمشاج أي ألوان أي ذات ألوان فإن ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اختلطا ومكثا في قعر الرحم اخضرّا كما يخضر الماء بالمكث، وروي عن الكلبي وأخرج عن زيد بن أسلم أنه قال: الأمشاج العروق التي في النطفة، وروي(15/168)
ذلك عن ابن مسعود أي ذات عروق، وروي عن عكرمة وكذا ابن عباس أنه قال «أمشاج» أطوار أي ذات أطوار فإن النطفة تصير علقة ثم مضغة وهكذا إلى تمام الخلقة ونفخ الروح وقوله تعالى نَبْتَلِيهِ حال من فاعل خلقنا والمراد مريدين ابتلاءه واختباره بالتكليف فيما بعد على أن الحال مقدرة أو ناقلين له من حال إلى حال ومن طور إلى طور على طريقة الاستعارة لأن المنقول يظهر في كل طهور ظهورا آخر كظهور نتيجة الابتلاء والامتحان بعده. وروي نحوه عن ابن عباس وعلى الوجهين ينحل ما قيل إن الابتلاء بالتكليف وهو يكون بعد جعله سَمِيعاً بَصِيراً لا قبل فكيف يترتب عليه قوله سبحانه فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً وقيل الكلام على التقديم والتأخير والجملة استئناف تعليلي أي فجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه وحكي ذلك عن الفراء وعسف لأن التقديم لا يقع في حاق موقعه لا لفظا لأجل الفاء ولا معنى لأنه لا يتجه السؤال قبل الجعل والأوجه الأول، وهذا الجعل كالمسبب عن الابتلاء لأن المقصود من جعله كذلك أن ينظر الآيات الآفاقية والأنفسية ويسمع الأدلة السمعية فلذلك عطف على الخلق المقيد به بالفاء ورتب عليه قوله تعالى إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ لأنه جملة مستأنفة تعليلية في معنى لأنا هديناه أي دللناه على ما يوصله من الدلائل السمعية كالآيات التنزيلية والعقلية كالآيات الأفاقية والأنفسية وهو إنما
يكون بعد التكليف والابتلاء إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً حالان من مفعول هدينا وإما للتفصيل باعتبار تعدد الأحوال مع اتحاد الذات أي هديناه ودللناه على ما يوصل إلى البغية في حالتيه جميعا من الشكر والكفر أو للتقسيم للمهدي باختلاف الذوات والصفات أي هديناه السبيل مقسوما إليها بعضهم شاكر بالاهتداء للحق وطريقه بالأخذ فيه وبعضهم كفور بالأعراض عنه وحاصله دللناه على الهداية والإسلام فمنهم مهتد مسلم ومنهم ضال كافر وقيل حالان من السبيل أي عرفناه السبيل إما سبيلا شاكرا وإما سبيلا كفورا على وصف السبيل بوصف سالكه مجازا والمراد به لا يخفى وعن السدي أن السبيل هنا سبيل الخروج من الرحم وليس بشيء أصلا وقرأ أبو السمال وأبو العاج (1) أما بفتح الهمزة في الموضعين وهي لغة حكاها أبو زيد عن العرب وهي التي عدها بعض الناس على ما قال أبو حيان في حروف العطف وأنشدوا:
تلقحها إما شمال عرية ... وإما صبا جنح العشي هبوب
وجعلها الزمخشري أما التفصيلية المتضمنة معنى الشرط على معنى إِمَّا شاكِراً فبتوفيقنا وَإِمَّا كَفُوراً فبسوء اختياره وهذا التقدير إبراز منه للمذهب قيل ولا عليه أن يجعله من باب يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً [البقرة: 26] كأنه قيل إِمَّا شاكِراً فبهدايتنا أي دعائنا أو أقدارنا على ما فسر به الهداية وَإِمَّا كَفُوراً فبها أيضا لاختلاف وجه الدعاء لأن الهداية هاهنا ليست في مقابلة الضلال وهذا جار على المذهبين وسالم عن حذف ما لا دليل عليه، وجوز في الانتصاف أن يكون التقدير إِمَّا شاكِراً فمثاب وَإِمَّا كَفُوراً فمعاقب وإيراد الكفور بصيغة المبالغة لمراعاة الفواصل والإشعار بأن الإنسان قلما يخلو من كفران ما، وإنما المؤاخذ عليه الكفر المفرط إِنَّا أَعْتَدْنا هيأنا لِلْكافِرِينَ من أفراد الإنسان الذي هديناه السبيل سَلاسِلَ بها يقادون وَأَغْلالًا بها يقيدون وَسَعِيراً بها يحرقون وتقديم وعيدهم مع تأخرهم للجمع بينهما في الذكر كما في قوله تعالى يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ [آل عمران: 106] الآية ولأن الإنذار أنسب بالمقام وحقيق بالاهتمام ولأن تصدير الكلام وختمه بذكر المؤمنين أحسن على أن وصفهم تفصيلا ربما يخل تقديمه بتجارب أطراف النظم الكريم. وقرأ نافع
__________
(1) قوله وأبو العاج وهو كثير بن عبد الله السلمي شامي ولي البصرة لهشام بن عبد الملك.(15/169)
والكسائي وأبو بكر والأعمش «سلاسلا» بالتنوين وصلا وبالألف المبدلة منه وقفا وقال الزمخشري وفيه وجهان أحدهما أن تكون هذه النون بدلا عن حرف الإطلاق ويجري الوصل مجرى الوقف. والثاني أن يكون صاحب القراءة ممن ضرى برواية الشعر ومرن لسانه على صرف غير المنصرف. وفي الأول أن الإبدال من حروف الإطلاق في غير الشعر قليل كيف وضم إليه إجراء للوصل مجرى الوقف. وفي الثاني تجويز القراءة بالتشهي دون سداد وجهها في العربية والوجه أنه لقصد الازدواج والمشاكلة فقد جوزوا لذلك صرف ما لا ينصرف لا سيما الجمع فإنه سبب ضعيف لشبهه بالمفرد في جمعه كصواحبات يوسف ونواكسي الأبصار ولهذا جوز بعضهم صرفه مطلقا كما قيل.
والصرف في الجمع أتى كثيرا ... حتى ادعى قوم به التخييرا
وحكى الأخفش عن قوم من العرب أن لغتهم صرف كل ما لا ينصرف إلّا أفعل من وصرف «سلاسلا» ثابت في مصاحف المدينة ومكة والكوفة والبصرة وفي مصحف أبيّ وعبد الله بن مسعود وروى هشام عن ابن عامر «سلاسل» في الوصل وسلاسلا بألف دون تنوين في الوقف إِنَّ الْأَبْرارَ شروع في بيان حسن حال الشاكرين إثر بيان حال سوء الكافرين وإيرادهم بعنوان البر للإشعار بما استحقوا به ما نالوه من الكرامة السنية مع تجديد صفة مدح لهم والأبرار جمع بر كربّ وأرباب أو بار كشاهد وأشهاد بناء على أن فاعلا يجمع على أفعال والبر المطيع المتوسع في فعل الخير وقيل من يؤدي حق الله تعالى ويوفي بالنذر وعن الحسن هو الذي لا يؤذي الذر ولا يرضى الشر يَشْرَبُونَ في الآخرة مِنْ كَأْسٍ هي كما قال الزجاج الإناء إذا كان فيه الشراب فإذا لم يكن لم يسم كأسا وقال الراغب: الكأس الإناء بما فيه من الشراب ويسمى كل واحد منهما بانفراده كأسا والمشهور أنها تطلق حقيقة على الزجاجة إذا كانت فيها خمر ومجازا على الخمر بعلاقة المجاورة والمراد بها هاهنا قيل الخمر فمن تبعيضية أو بيانية وقيل الزجاجة التي فيها الخمر ف مِنْ ابتدائية وقوله تعالى كانَ مِزاجُها كافُوراً أظهر ملاءمة للأول والظاهر أن هذا على منوال كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [النساء: 17 وغيرها] والمجيء بالفعل للتحقيق الدوام، وقيل كانَ تامة من قوله تعالى كُنْ فَيَكُونُ [البقرة: 117 وغيرها] والمزاج ما يمزج به كالحزام لما يحزم به فهو اسم آلة، وكافور على ما قال الكلبي علم عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور وعرفه وبرده وصرف لتوافق الآي والكلام على حذف مضاف أي ماء كافور والجملة صفة كَأْسٍ وهذا القول خلاف الظاهر ولعله إن لم يصح فيه خبر لا يقبل. وقرأ عبد الله «قافورا» بالقاف بدل الكاف وهما كثيرا ما يتعاقبان في الكلمة كقولهم عربي قح وكح وقوله تعالى عَيْناً بدل من كافور وقال قتادة يمزج لهم بالكافور ويختم لهم بالمسك وذلك لبرودة الكافور وبياضه وطيب رائحته، فالكافور بمعناه المعروف وقيل إن خمر الجنة قد أودعها الله تعالى إذ خلقها أوصاف الكافور الممدوحة فكونه مزاجا مجاز في الإنصاف بذلك فعينا على هذين القولين بدل من محل كَأْسٍ على تقدير مضاف أي يشربون خمرا خمر عين أو نصب على الاختصاص بإضمار أعني أو أخص كما قال المبرد وقيل على الحال من ضمير مِزاجُها وقيل من كَأْسٍ وساغ لوصفه وأريد بذلك وصفها بالكثرة والصفاء وقيل منصوب بفعل يفسره ما بعد أعني قوله تعالى يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ على تقدير مضاف أيضا أي يشربون ماء عين يشرب بها إلخ. وتعقب بأن الجملة صفة عَيْناً فلا يعمل فعلها بها وما لا يعمل لا يفسر عاملا وأجيب بمنع كونها صفة على هذا الوجه والتركيب عليه نحو رجلا ضربته نعم هي صفة عين على غير هذا الوجه والباء للإلصاق، وليست للتعدية وهي متعلقة معنى بمحذوف أي يشرب الخمر ممزوجة بها أي بالعين عِبادُ اللَّهِ(15/170)
وهو كما تقول شربت الماء بالعسل هذا إذا جعل كافور علم عين في الجنة وأما على القولين الآخرين فقيل وجه الباء أن يجعل الكلام من باب:
يجرح في عراقيبها نصلي لإفادة المبالغة. وقيل: الباء للتعدية وضمن يَشْرَبُ معنى يروى فعدي بها وقيل هي بمعنى من، وقيل: هي زائدة والمعنى يشربها كما في قول الهزلي:
شربن بماء البحر ثم ترفعت ... متى لحج خضر لهن نئيج
ويعضد هذا قراءة ابن أبي عبلة «يشربها» وقيل ضمير بِها للكأس، والمعنى يشربون العين بتلك الكأس وعليه يجوز أن يكون عَيْناً مفعولا ليشرب مهدما عليه وعِبادُ اللَّهِ المؤمنون أهل الجنة يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً صفة أخرى لعينا أي يجرونها حيث شاؤوا من منازلهم إجراء سهلا لا يمتنع عليهم على أن التنكير للتنويع. أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن ابن شوزب أنه قال: معهم قضبان ذهب يفجرون بها فيتبع الماء قضبانهم. وفي بعض الآثار أن هذه العين في دار رسول الله صلّى الله عليه وسلم تفجر إلى دور الأنبياء عليهم السلام والمؤمنين يُوفُونَ بِالنَّذْرِ استئناف مسوق لبيان ما لأجله يرزقون هذا النعيم مشتمل على نوع تفصيل لما ينبىء عنه اسم الأبرار إجمالا كأنه قيل: ماذا يفعلون حتى ينالوا تلك المرتبة العالية؟ فقيل: يوفون إلخ، وأفيد أنه استئناف للبيان ومع ذلك عدل عن أوفوا إلى المضارع للإستحضار والدلالة على الاستمرار والوفاء بالنذر كناية عن أداء الواجبات كلها العلم ما عداه بالطريق الأولى وإشارة النص فإن من أوفى بما أوجبه على نفسه كان إيفاء ما أوجبه الله تعالى عليه أهم له وأحرى، وجعل ذلك كناية هو الذي يقتضيه ما روي عن قتادة وعن عكرمة ومجاهد إبقاؤه على الظاهر قالا: أي إذا نذروا طاعة فعلوها وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ عذابه مُسْتَطِيراً فاشيا منتشرا في الأقطار غاية الانتشار من استطار الحريق والفجر وهو أبلغ من طار لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، وللطلب أيضا دلالة على ذلك لأن ما يطلب من شأنه أن يبالغ فيه. وفي وصفهم بذلك إشعار بحسن عقيدتهم واجتنابهم عن المعاصي وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ أي كائنين على حب الطعام أي مع اشتهائه والحاجة إليه فهو من باب التتميم ويجاوبه من القرآن قوله تعالى لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92] وروي عن ابن عباس ومجاهد أو على حب الإطعام بأن يكون ذلك بطيب نفس وعدم تكلف، وإليه ذهب الحسن بن الفضل وهو حسن أو كائنين على حب الله تعالى أو إطعاما كائنا على حبه تعالى ولوجهه سبحانه وابتغاء مرضاته عز وجل وإليه ذهب الفضيل بن عياض وأبو سليمان الداراني. ف عَلى حُبِّهِ من باب التكميل وزيفه بعضهم وقال الأول هو الوجه ويجاوبه القرآن على أن في قوله تعالى لوجه الله بعد غنية عن قوله سبحانه لوجه الله وفيه نظر بل لعله الأنسب لذاك، وذكر الطعام مع أن الإطعام يغني عنه لتعيين مرجع الضمير على الأول، ولأن الطعام كالعلم فيما فيه قوام البدن واستقامة البنية وبقاء النفس ففي التصريح به تأكيد لفخامة فعلهم على الأخيرين ويجوز أن يعتبر على الأول أيضا ثم الظاهر أن المراد بإطعام الطعام حقيقته. وقيل هو كناية عن الإحسان إلى المحتاجين والمواساة معهم بأي وجه كان وإن لم يكن ذلك بالطعام بعينه فكأنه ينفعون بوجوه المنافع مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً قيل أي أسير كان،
فعن الحسن أنه صلّى الله عليه وسلم كان يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول: «أحسن إليه» فيكون عنده اليومين والثلاثة فيؤثره على نفسه
وقال قتادة: كان أسيرهم يومئذ المشرك وأخوك المسلم أحق أن تطعمه.(15/171)
وأخرج ابن عساكر عن مجاهد أنه قال: لما صدر النبيّ صلّى الله عليه وسلم بالأسارى من بدر أنفق سبعة من المهاجرين أبو بكر وعمر وعلي والزبير وعبد الرحمن وسعد وأبو عبيدة بن الجراح على أسارى مشركي بدر، فقالت الأنصار:
قتلناهم في الله وفي رسوله صلّى الله عليه وسلم وتعينونهم بالنفقة؟ فأنزل الله تعالى فيهم تسعة عشرة آية إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ- إلى قوله تعالى- عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا
[الإنسان: 5- 18] ففيه دليل على أن إطعام الأسارى وإن كانوا من أهل الشرك حسن ويرجى ثوابه، والخبر الأول قال ابن حجر لم يذكره من يعتمد عليه من أهل الحديث.
وقال ابن العراقي: لم أقف عليه، والخبر الثاني لم أره لفرد غير ابن عساكر ولا وثوق لي بصحته وهو يقتضي مدنية هذه الآيات وقد علمت الخلاف في ذلك نعم عند عامة العلماء يجوز الإحسان إلى الكفار في دار الإسلام ولا تصرف إليهم الواجبات. وقال ابن جبير وعطاء: هو الأسير من أهل القبلة. قال الطيبي هذا إنما يستقيم إذا اتفق الإطعام في دار الحرب من المسلم لأسير في أيديهم. وقيل هو الأسير المسلم ترك في بلاد الكفار رهينة وخرج لطلب الفداء. وروى محيي السنة عن مجاهد وابن جبير وعطاء أنهم قالوا: هو المسجون من أهل القبلة وفيه دليل على أن إطعام أهل المحبوس المسلمين حسن، وقد يقال: لا يحسن إطعام المحبوس لوفاء دين يقدر على وفائه إنما امتنع عنه تعنتا ولغرض من الأغراض النفسانية. وعن أبي سعيد الخدري هو المملوك والمسجون وتسمية المسجون أسيرا مجاز لمنعه عن الخروج، وأما تسمية المملوك فمجاز أيضا لكن قيل باعتبار ما كان وقيل باعتبار شبهه به في تقييده بأسار الأمر وعدم تمكنه من فعل ما يهوى وعد الغريم أسيرا
لقوله صلّى الله عليه وسلم: «غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك»
وهو على التشبيه البليغ إلّا أنه قيل في هذا الخبر ما قيل في الخبر الأول وقال أبو حمزة اليماني: هي الزوجة وضعّفه هاهنا ظاهر إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ على إرادة قول هو في موضع الحال من فاعل يُطْعِمُونَ أي قائلين ذلك بلسان الحال لما يظهر عليهم من إمارات الإخلاص وعن مجاهد إما إنهم ما تكلموا به ولكن علمه الله تعالى منهم فأثنى سبحانه به عليهم ليرغب فيه راغب أو بلسان المقال إزاحة لتوهم المن المبطل للصدقة وتوقع المكافأة المنقصة للأجر وعن الصديقة رضي الله تعالى عنها أنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت ثم تسأل الرسول ما قالوا فإذا ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقى لها ثواب الصدقة خالصا عند الله عز وجل. وجوز أن يكون قولهم هذا لهم لطفا وتفقيها وتنبيها على ما ينبغي أن يكون عليه من أخلص لله تعالى وليس بذاك وقوله سبحانه لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً بالأفعال وَلا شُكُوراً ولا شكرا وثناء بالأقوال تقرير وتأكيد لما قبله إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً أي عذاب يوم فهو على تقدير مضاف أو أن خوفه كناية عن خوف ما فيه عَبُوساً تعبس فيه الوجوه على أنه من الإسناد المجازي كما في نهاره صائم فقد روي عن ابن عباس أن الكافر يعبس يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران أو يشبه الأسد العبوس على أنه من الاستعارة المكنية التخييلية لكن لا يخفى أن العبوس ليس من لوازم الأسد وإنما اشتهر وصفه به ففي التخييلية ضعف ما وقيل إنه من التشبيه البليغ قَمْطَرِيراً شديد العبوس ويقال شديدا صعبا كأنه التف شره ببعضه وقيل طويلا وهو رواية عن ابن عباس وجاء قماطر وأنشدوا لأسد بن ناغصة:
واصطليت الحروب في كل يوم ... باسل الشر فمطرير الصباح
بني عمنا هل تذكرون بلاءنا ... عليكم إذا ما كان يوم قماطر(15/172)
وقول آخر:
وإلى الأول ذهب الزجاج فقال: القمطرير الذي يعبس حتى يجتمع ما بين عينيه، ويقال: اقمطرت الناقة إذا رفعت ذنبها وزمت بأنفها وجمعت قطريها أي جانبيها كأنها تفعل ذلك إذا لحقت كبرا. وقيل: لتضع حملها فاشتقاقه عنده على ما قيل من قطر بالاشتقاق الكبير والميم زائدة وهذا لا يلزم الزجاج فيجوز أن يكون مشتقا كذلك من القمط، ويقال: قمطه إذا شده وجمع أطرافه وفي البحر يقال: اقمطر فهو مقمطر وقمطرير وقماطر إذا صعب واشتد واختلف في هذا الوزن وأكثر النحاة لا يثبتون افمعل في أوزان الأفعال وهذه الجملة جوز أن تكون علة لإحسانهم وفعلهم المذكور كأنه قيل نفعل بكم ما نفعل لأنّا نخاف يوما صفته كيت وكيت، فنحن نرجو بذلك أن يقينا ربنا جل وعلا شره، وأن تكون علة لعدم إرادة الجزاء والشكور أي إنّا لا تريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله تعالى على طلب المكافأة بالصدفة وإلى الوجهين أشار في الكشاف وقال في الكشف: الثاني أوجه ليبقى قوله لوجه الله خالصا غير مشوب بحظ النفس من جلب نفع أو دفع ضر ولو جعل علة للإطعام المعلل على المعنى إنما خصصنا الإحسان لوجهه تعالى لأنّا نخاف يوم جزائه ومن خافه لازم الإخلاص لكان وجها فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ بسبب خوفهم وتحفظهم عنه. وقرأ أبو جعفر «فوقّاهم» بشد القاف وهو أوفق بقوله تعالى وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً أي أعطاهم بدل عبوس الفجار وحزنهم نضرة في الوجوه وسرورا في القلوب وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا بصبرهم على مشاق الطاعات ومهاجرة هوى النفس في اجتناب المحرمات وإيثار الأموال مأكلا وملبسا جَنَّةً بستانا عظيما يأكلون منه ما شاؤوا وَحَرِيراً يلبسونه ويتزينون به
ومن رواية عطاء عن ابن عباس أن الحسن والحسين مرضا فعادهما جدهما محمد صلّى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وعادهما من عادهما من الصحابة فقالوا لعلي كرم الله تعالى وجهه: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما إن برآ مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام شكرا فألبس الله تعالى الغلامين ثوب العافية. وليس عند آل محمد قليل ولا كثير فانطلق علي كرم الله تعالى وجهه إلى شمعون اليهودي الخيبري فاستقرض منه ثلاثة أصوع من شعير فجاء بها فقامت فاطمة رضي الله تعالى عنها إلى صاع فطحنته وخبزت منه خمسة أقراص على عددهم وصلى علي كرم الله تعالى وجهه مع النبي صلّى الله عليه وسلم المغرب ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه فوقف بالباب سائل فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد صلّى الله عليه وسلم، أنا مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله تعالى من موائد الجنة، فآثروه وباتوا لم يذوقوا شيئا إلّا الماء وأصبحوا صياما، ثم قامت فاطمة رضي الله تعالى عنها إلى صاع آخر فطحنته وخبزته وصلى علي كرم الله تعالى وجهه مع النبي صلّى الله عليه وسلم المغرب ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه فوقف يتيم بالباب، وقال:
السلام عليكم يا أهل بيت محمد صلّى الله عليه وسلم، يتيم من أولاد المهاجرين أطعموني أطعمكم الله تعالى من موائد الجنة، فآثروه ومكثوا يومين وليلتين لم يذوقوا شيئا إلّا الماء القراح وأصبحوا صياما فلما كان يوم الثالث قامت فاطمة رضي الله تعالى عنها إلى الصاع الثالث وطحنته وخبزته وصلى علي كرم الله تعالى وجهه مع النبي صلّى الله عليه وسلم المغرب فأتى المنزل فوضع الطعام بين يديه فوقف أسير بالباب فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد صلّى الله عليه وسلم، أنا أسير محمد عليه الصلاة والسلام أطعموني أطعمكم الله، فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلّا الماء القراح. فلما أصبحوا أخذ علي كرم الله تعالى وجهه الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ورآهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال: «يا أبا الحسن ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم» وقام فانطلق معهم إلى فاطمة رضي الله(15/173)
تعالى عنها فرآها في محرابها قد التصق بطنها بظهرها وغارت عيناها من شدة الجوع فرق لذلك صلّى الله عليه وسلم وساءه ذلك فهبط جبريل عليه السلام فقال: خذها يا محمد هنّاك الله تعالى في أهل بيتك قال: «وما آخذ يا جبريل» فاقرأه هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ
السورة
وفي رواية ابن مهران فوثب النبي صلّى الله عليه وسلم حتى دخل على فاطمة فأكب عليها يبكي فهبط جبريل عليه السلام بهذه الآية إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ
إلى آخره وفي رواية عن عطاء أن الشعير كان عن أجرة سقي نخل وأنه جعل في كل يوم ثلث منه عصيدة فآثروا بها
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في قوله سبحانه وَيُطْعِمُونَ إلخ نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه وفاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعليهم وسلم
ولم يذكر القصة والخبر مشهور بين الناس وذكره الواحدي في كتاب البسيط وعليه قول بعض الشيعة:
إلا إلام وحتى متى ... أعاتب في حب هذا الفتى
وهل زوجت غيره فاطم ... وفي غيره هل أتى هل أتى
وتعقب بأنه خبر موضوع مفتعل كما ذكره الترمذي وابن الجوزي وآثار الوضع ظاهرة عليه لفظا ومعنى، ثم إنه يقتضي أن تكون السورة مدنية لأن بناء علي كرم الله تعالى وجهه على فاطمة رضي الله تعالى عنها كان بالمدينة وهي عند ابن عباس المروي هو عنه على ما أخرج النحاس مكية وكذا عند الجمهور في قول. وأقول أمر مكيتها ومدنيتها مختلف فيه جدا كما سمعت فلا جزم فيه بشيء وابن الجوزي نقل الخبر في تبصرته ولم يتعقبه على أنه ممن يتساهل في أمر الوضع حتى قالوا إنه لا يعول عليه في هذا الباب فاحتمال أصل النزول في الأمير كرم الله تعالى وجهه وفاطمة رضي الله تعالى عنها قائم ولا جزم بنفي ولا إثبات لتعارض الأخبار ولا يكاد يسلم المرجح عن قيل وقال، نعم لعله يترجح عدم وقوع الكيفية التي تضمنتها الرواية الأولى، ثم إنه على القول بنزولها فيهما لا يتخصص حكمها بهما بل يشمل كل من فعل مثل ذلك كما ذكره الطبرسي من الشيعة في مجمع البيان راويا له عن عبد الله بن ميمون عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه وعلى القول بعدم النزول فيهما لا يتطامن مقامهما ولا ينقص قدرهما إذ دخولهما في الأبرار أمر جلي بل هو دخول أولى فهما هما وماذا عسى يقول امرؤ فيهما سوى أن عليا مولى المؤمنين ووصي النبي وفاطمة البضعة الأحمدية والجزء المحمدي وأما الحسنان فالروح والريحان وسيدا شباب الجنان وليس هذا من الرفض بشيء بل ما سواه عندي هو الغيّ:
أنا عبد الحق لا عبد الهوى ... لعن الله الهوى فيمن لعن
ومن اللطائف على القول بنزولها فيهم أنه سبحانه لم يذكر فيها الحور العين وإنما صرح عز وجل بولدان مخلدين رعاية لحرمة البتول وقرة عين الرسول لئلا تثور غيرتها الطبيعية إذا أحست بضرة وهي في أفواه تخيلات الطباع البشرية ولو في الجنة مرة. ولا يخفى عليك أن هذا زهرة ربيع ولا تتحمل الفرك ثم التذكير على ذلك أيضا من باب التغليب.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه «جازاهم»
على وزن فاعل مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ حال من (هم) في جَزاهُمْ والعامل جزى وخص الجزاء بهذه الحالة لأنها أتم حالات المتنعم ولا يضر في ذلك قوله تعالى بِما صَبَرُوا لأن الصبر في الدنيا وما تسبب عليه في الآخرة وقيل صفة الجنة ولم يبرز الضمير مع أن الصفة جارية على غير من هي عليه فلم يقل متكئين هم فيها لعدم الإلباس كما في قوله:
قومي ذري المجد بانوها وقد علمت ... بكنه ذلك عدنان وقحطان(15/174)
وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
وأنت تعلم هذا رأي الكوفية ومذهب البصرية وجوب إبراز الضمير في ذلك مطلقا وفي البيت كلام وقيل يجوز كونه حالا مقدرة من ضمير صَبَرُوا وليس بذاك والْأَرائِكِ جمع أريكة وهي السرير في الحجلة من دونه ستر ولا يسمى مفردا أريكة وقيل هو كل ما اتكئ عليه من سرير أو فراش أو منصة وكان تسميته بذلك لكونه مكانا للإقامة أخذا من قولهم أرك بالمكان أروكا أقام، وأصل الأروك الإقامة على رعي الأراك الشجر المعروف ثم استعمل في غيره من الإقامات وقوله تعالى لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً إما حال ثانية من الضمير أو حال من المستكن في مُتَّكِئِينَ وجوز فيه كونه صفة لجنة أيضا والمراد من ذلك أن هواءها معتدل لا حر شمس يحمي ولا شدة برد يؤذي. وفي الحديث: «هواء الجنة سجسج لا حر ولا قر» فقصد بنفي الشمس نفيها ونفي لازمها معا لقوله سبحانه وَلا زَمْهَرِيراً فكأنه قيل لا يرون فيها حرا ولا قرا.
وقيل الزمهرير القمر وعن ثعلب أنه في لغة طيىء وأنشد:
وليلة ظلامها قد اعتكر ... قطعتها والزمهرير ما زهر
وليس هذا لأن طبيعته باردة كما قيل لأنه في حيز المنع بل قيل إنه برهن على أن الأنوار كلها حارة فيحتمل أن ذلك للمعانه أخذا له من ازمهر الكوكب لمع، والمعنى على هذا القول أن هواءها مضيء بذاته لا يحتاج إلى شمس ولا قمر. وفي الحديث: إن الجنة لا خطر بها هي ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانة تهتز وقصر مشيد الحديث ثم إنها مع هذا قد يظهر فيها نور أقوى من نورها كما تشهد به الأخبار الصحيحة. وفي بعض الآثار عن ابن عباس بينا أهل الجنة في الجنة إذ رأوا ضوءا كضوء الشمس وقد أشرقت الجنان به فيقول أهل الجنة: يا رضوان ما هذا وقد قال ربنا لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً فيقول لهم رضوان: ليس هذا بشمس ولا قمر ولكن علي وفاطمة رضي الله تعالى عنهما ضحكا فأشرقت الجنان من نور ثغريهما.
وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها عطف على الجملة وحالها حالها أو صفة لمحذوف معطوف على جنة فيما سبق أي وجنة أخرى دانية عليهم ظلالها على أنهم وعدوا جنتين كما في قوله تعالى وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ(15/175)
جَنَّتانِ
[الرحمن: 46] وقرأ أبو حيوة «دانية» بالرفع وخرج على أن دانية خبر مقدم لظلالها والجملة في حيز الحال على أن الواو عاطفة أو حالية أو في حيز الصفة على أن الواو عاطفة أيضا أو للإلصاق على ما يراه الزمخشري. وقال الأخفش «ظلالها» مرفوع بدانية على الفاعلية واستدل بذلك على جواز عمل اسم الفاعل من غير اعتماد نحو قائم الزيدون وقد علمت أنه لا يصلح للاستدلال لقيام ذلك الاحتمال على أنه يجوز أن يكون خبر المبتدأ مقدر فيعتمد أي وهي دانية عليهم ظلالها. وقرأ أبيّ «ودان» كقاض ولا يتم الاستدلال به للأخفش أيضا وإن كان بينه وبين ما تقدم فرق ما. وقرأ الأعمش «ودانيا عليهم» نحو خاشعا أبصارهم والمراد أن ظلال أشجار الجنة قريبة من الأبرار مظلة عليهم زيادة في نعيمهم وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا أي سخرت ثمارها لمتناولها وسهل أخذها من الذل وهو ضد الصعوبة. قال قتادة ومجاهد وسفيان: إن كان الإنسان قائما تناول الثمر دون كلفة، وإن كان قاعدا أو مضطجعا فكذلك فهذا تذليلها لا يرد اليد عنها بعد ولا شوك، والجملة حال من ضمير دانِيَةً أي تدنو ظلالها عليهم مذللة لهم قطوفها أو معطوفة على ما قبلها وهي فعلية معطوفة على اسمية في قراءة «دانية» بالرفع ونكتة التخالف أن استدامة الظل مطلوبة هنالك والتجدد في تذليل القطوف على حسب الحاجة وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ جمع إناء ككساء وأكسية، وهو ما يوضع فيه الشيء والأواني جمع الجمع مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ جمع كوب وهو قدح لا عروة له كما قال الراغب وفي القاموس: كوز لا عروة له أو لا خرطوم له، وقيل: الكوز العظيم الذي لا أذن له ولا عروة كانَتْ أي تلك الأكواب قَوارِيرَا جمع قارورة وهي إناء رقيق من الزجاج يوضع فيه الأشربة ونصبه على الحال فإن كان تامة وهو كما تقول خلقت قوارير وقوله تعالى قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ بدل والكلام على التشبيه البليغ فالمراد تكونت جامعة بين صفاء الزجاجة وشفيفها ولين الفضة وبياضها. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور والبيهقي عن ابن عباس قال: لو أخذت فضة من فضة الدنيا فضربتها حتى جعلتها مثل جناح الذباب لم ير الماء من ورائها ولكن قوارير الجنة ببياض الفضة مع صفاء القوارير. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال: ليس في الجنة شيء إلّا قد أعطيتم في الدنيا شبهه إلّا قوارير من فضة. وقرأ نافع والكسائي وأبو بكر بتنوين «قوارير» في الموضعين وصلا وإبداله ألفا وقفا وابن كثير يمنع صرف الثاني ويصرف الأول لوقوعه في الفاصلة وآخر الآية، وقف عليه بألف مشاكلة لغيره من كلمات الفواصل والتنوين عند الزمخشري في الأول بدل من ألف الإطلاق كما في قوله:
يا صاح ما هاج العيون الذرفن وفي الثاني للاتباع فتذكر والقراءة بمنع صرفهما لحفص وابن عامر وحمزة وأبي عمرو وقرأ الأعمش الثاني «قوارير» بالرفع أي هي قوارير قَدَّرُوها تَقْدِيراً أي قدروا تلك القوارير في أنفسهم فجاءت حسب ما قدروا لا مزيد على ذلك ولا يمكن أن يقع زيادة عليه، وفي معناه قول الطائي:
ولو صورت نفسك لم تزدها ... على ما فيك من كرم الطباع
فإنه ينبىء عن كون نفسه خلقت على أتمّ ما ينبغي من مكارم الصفات بحيث لا مزيد على ذلك فضمير قَدَّرُوها للأبرار المطاف عليهم أو قدروا شرابها على قدر الري وهو ألذ للشارب. قال ابن عباس: أتوا بها على الحاجة لا يفضلون شيئا ولا يشتهون بعدها شيئا وعن مجاهد تقديرها أنها ليست بالملأى التي تفيض ولا بالناقصة التي تغيض، فالضمير على ما هو الظاهر للسقاة الطائفين بها المدلول عليه بقوله تعالى يُطافُ عَلَيْهِمْ. وقد روى عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس أنه قال قدرتها السقاة وقيل: المعنى قدروها(15/176)
بأعمالهم الصالحة فجاءت على حسبها والضمير على هذا قيل للملائكة وقيل للسقاة. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس والسلمي والشعبي وقتادة وزيد بن علي والجحدري والأصمعي عن أبي عمرو وابن عبد الخالق عن يعقوب وغيرهم «قدروها» على البناء للمفعول واختلف في تخريجها فقال أبو علي: كان اللفظ قدروا عليها، وفي المغني قلب لأن حقيقته أن يقال قدرت عليهم فهو نحو قوله تعالى ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ [القصص: 76] وقول العرب إذا طلعت الجوزاء ارتقى العود على الحرباء. وقال الزمخشري: وجه ذلك أن يكون من قدرت الشيء بالتخفيف أي بينت مقداره فنقل إلى التفعيل فتعدى لاثنين أحدهما الضمير النائب عن الفاعل، والثاني ها والمعنى جعلوا قادرين لها كما شاؤوا وأطلق لهم أن يقدروا على حسب ما اشتهوا وقال أبو حاتم: قدرت الأواني على قدر ريهّم ففسر بعضهم هذا بأن في الكلام حذفا وهو أنه كان قدر على قدر ريهم إياها فحذف على فصار قدر نائب الفاعل ثم حذف فصار ريهم نائب الفاعل ثم حذف وصاروا والجمع نائب الفاعل واتصل المفعول الثاني بقدر فصار قدرها وقال أبو حيان الأقرب أن يكون الأصل قدر ريهم منها تقديرا فحذف المضاف وهو الري وأقيم الضمير مقامه فصار قدروا منها ثم اتسع في الفعل فحذفت من ووصل الفعل إلى الضمير بنفسه فصار قَدَّرُوها فلم يكن فيه إلّا حذف مضاف واتساع في المجرور.
ولا يخفى أن القلب زيف وما قرره البعض تكلف جدا وفي كون ما اختاره أبو حيان أقرب مما اختاره جار الله نظر ولعله أكثر تكلفا منه. وقوله تعالى وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا يجري فيه معظم ما جرى في قوله تعالى يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً إلخ من الأوجه والزنجبيل قال الدينوري نبت في أرض عمان وهو عروق تسري في الأرض وليس بشجرة ومنه ما يحمل من بلاد الزنج والصين وهو الأجود وكانت العرب تحبه لأنه يوجب لذعا في اللسان إذا مزج بالشراب فيلتذون ولذا يذكرونه في وصف رضاب النساء قال الأعشى:
كأن القرنفل والزنجبيل ... باتا بفيها وأريا مسورا
وقال عمرو المسيب بن علس:
وكان طعم الزنجبيل به ... إذ ذقته وسلافة الخمر
وعده بعضهم في المعربات وكون الزنجبيل اسما لعين في الجنة مروي عن قتادة وقال: يشرب منها المقربون صرفا وتمزج لسائر أهل الجنة، والظاهر أنهم تارة يشربون من كأس مزاجها كافور وتارة يسقون من كأس مزاجها زنجبيل، ولعل ذكر يُسْقَوْنَ هنا دون يَشْرَبُونَ لأنه الأنسب بما تقدمه من قوله تعالى وَيُطافُ عَلَيْهِمْ إلخ ويمكن أن يكون فيه رمز إلى أن هذه الكأس أعلى شأنا من الكأس الأولى. وعن الكلبي يسقى بجامين الأول مزاجه الكافور والثاني مزاجه الزنجبيل، والسلسبيل كالسلسل والسلسال قال الزجاج: ما كان من الشراب غاية في السلاسة وسهولة الانحدار في الحلق. وقال ابن الأعرابي: لم أسمع السلسبيل إلّا في القرآن وكأن العين إنما سميت بذلك لسلاستها وسهولة مساغها قال عكرمة: عين سلسل ماؤها، وقال مجاهد: حديدة الجري سلسلة سهلة المساغ، وقال مقاتل: عين يتسلسل عليهم ماؤها في مجالسهم كيف شاؤوا وهي على ما روي عن قتادة عين تنبع من تحت العرش من جنة عدن تتسلسل إلى الجنان. وفي البحر الظاهر أن هذه العين تسمى سلسبيلا بمعنى توصف بأنها سلسة الانسياغ سهلة في المذاق ولا يحمل سلسبيل على أنه اسم حقيقة لأنه إذ ذاك كان ممنوع الصرف للتأنيث والعلمية وقد روي عن طلحة(15/177)
أنه قرأه بغير ألف جعله علما لها فإن كان علما فوجه قراءة الجمهور بالتنوين المناسب للفواصل كما قيل في «سلاسلا» «وقواريرا» وزعم الزمخشري أن الباء زيدت فيه حتى صارت الكلمة خماسية، فإن عنى أنها زيدت حقيقة فليس بجيد لأن الباء ليست من حروف الزيادة المعهودة وإن عنى أنها حرف جاء في سنح الكلمة وليس في سلسل ولا في سلسال صح ويكون مما اتفق معناه وكان مختلفا في المادة انتهى. وفي الكشف لا يريد الزيادة المصطلحة ألا ترى إلى قوله حتى صارت خماسية وهو أيضا من الاشتقاق الأكبر فلا تغفل. وقال بعض المعربين سَلْسَبِيلًا أمر للنبي صلّى الله عليه وسلم ولأمته بسؤال السبيل إليها وعزوه إلى علي كرم الله تعالى وجهه وهو غير مستقيم بظاهره إلّا أن يراد أن جملة قول القائل سَلْسَبِيلًا جعلت اسما للعين كما قيل تأبط شرا وذرى حبا، وسميت بذلك لأنه لا يشرب منها إلّا من سال إليها سبيلا بالعمل الصالح وهو مع استقامته في العربية تكلف وابتداع، وعزوه إلى مثل الأمير كرم الله تعالى وجهه أبدع ونص بعضهم على أنه افتراء عليه كرم الله تعالى وجهه وفي شعر ابن مطران الشاشي:
سلسبيلا فيها إلى راحة النفس ... براح كأنها سلسبيل
وفيه الجناس الملفق واستعمله غير واحد من المحدثين وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ أي للخدمة وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ أي دائمون على ما هم فيه من الطراوة والبهاء وقيل مقرطون بخلدة وهي ضرب من القرطة
وجاء في حديث أخرجه ابن مردويه عن أنس مرفوعا: «إنهم ألف خادم»
وفي بعض الآثار أضعاف ذلك:
والجود أعظم والمواهب أوسع ويختلف ذلك قلة وكثرة باختلاف أعمال المخدومين إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً لحسنهم وصفاء ألوانهم وإشراق وجوههم وانبثاثهم في مجالسهم ومنازلهم وانعكاس أشعة بعضهم إلى بعض، وقيل شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا نثر من صدفه لأنه أحسن وأكثر ماء وعليه هو من تشبيه المفرد لأن الانبثاث غير ملحوظ والخطاب في رَأَيْتَهُمْ للنبي صلّى الله عليه وسلم أو لكل واقف عليه وكذا في قوله تعالى وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ أي هناك يعني في الجنة وهو في موضع النصب على الظرف، ورأيت منزل منزلة اللازم فيفيد العموم في المقام الخطابي فالمعنى أن بصرك أينما وقع في الجنة رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً عظيم القدر لا تحيط به عبارة وهو يشمل المحسوس والمعقول. وقال عبد الله بن عمرو الكلبي: عريضا واسعا يبصر أدناهم منزلة في الجنة في ملك مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه وذلك لما يعطي من حدة النظر أو هو من خصائص الجنة.
وقال مجاهد: هو استئذان الملائكة عليهم السلام فلا يدخلون عليهم إلّا بإذن. وقال الترمذي: وأظنه كما ظن أبو حيان الحكيم لا أبا عيسى المحدث صاحب الجامع هو ملك التكوين والمشيئة إذا أرادوا شيئا كان، وقيل هو النظر إلى الله عز وجل وقيل غير ذلك وقيل الملك الدائم الذي لا زوال له. وزعم الفراء أن المعنى وَإِذا رَأَيْتَ ما ثَمَّ رَأَيْتَ إلخ وخرج على أنه أراد أن ثَمَّ ظرف لمحذوف وقع صلة لموصول محذوف هو مفعول رَأَيْتَ والتقدير وَإِذا رَأَيْتَ ما ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً إلخ فحذف ما كما حذف في قوله تعالى لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الأنعام: 94] أي ما بينكم وتعقبه الزجاج ثم الزمخشري بأنه خطأ لأنه لا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة وأنت تعلم أن الكوفيين يجيزون ذلك ومنه قوله:
فمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء(15/178)
أراد ومن يمدحه فحذف الموصول وأبقى صلته وقد يقال إن ذلك إنما يرد لو أراد أن الموصول مقدر أما لو أراد المعنى وأن الظرف يغني غناء المفعول به فهو كلام صحيح لأن الظرف والمرئي كليهما الجنة. وقرأ حميد الأعرج «ثمّ» بضم الثاء حرف عطف وجواب إِذا على هذا المحذوف يقدر بنحو تحيّر فكرك أو بنحو رأيت عاملا في نَعِيماً عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ قيل عالِيَهُمْ ظرف بمعنى فوقهم على أنه خبر مقدم وثِيابُ مبتدأ مؤخر والجملة حال من الضمير المجرور في عالِيَهُمْ فهي شرح لحال الأبرار المطوّف عليهم. وقال أبو حيان: إن عالي نفسه حال من ذلك الضمير وهو اسم فاعل وثِيابُ مرفوع على الفاعلية به ويحتاج في إثبات كونه ظرفا إلى أن يكون منقولا من كلام العرب عاليك ثوب مثلا ومثله فيما ذكر عالية. وقيل: حال من ضمير لقاهم أو من ضمير جزاهم وقيل من الضمير المستتر في مُتَّكِئِينَ والكل بعيد وجوز كون الحال من مضاف مقدر قبل نَعِيماً أو قبل مُلْكاً أي رأيت أهل نعيم أو أهل ملك عاليهم إلخ وهو تكلف غير محتاج إليه. وقيل: صاحب الحال الضمير المنصوب في حَسِبْتَهُمْ فهي شرح لحال الطائفين ولا يخفى بعده لما فيه من لزوم التفكيك ضرورة أن ضمير سَقاهُمْ فيما بعد كالمتعين عوده على الأبرار وكونه من التفكيك مع القرينة المعينة وهو مما لا بأس به ممنوع.
واعترض أيضا بأن مضمون الجملة يصير داخلا تحت الحسبان وكيف يكون ذلك وهم لابسون الثياب حقيقة بخلاف كونهم لؤلؤا فإنه على طريق التشبيه المقتضي لقرب شبههم باللؤلؤ أن يحسبوا لؤلؤا. وأجيب بأن الحسبان في حال من الأحوال لا يقتضي دخول الحال تحت الحسبان ورفع خُضْرٌ على أنه صفة ثِيابُ وإِسْتَبْرَقٌ على أنه عطف على ثِيابُ والمراد وثياب إستبرق. والسندس قال ثعلب: ما رق من الديباج، وقيل: ما رق من ثياب الحرير والفرق أن الديباج ضرب من الحرير المنسوج يتلون ألوانا. وقال الليث: هو ضرب من البزيون يتخذ من المرعز وهو معرب بلا خلاف بين أهل اللغة على ما في القاموس وغيره. وزعم بعض أنه مع كونه معربا أصله سندي بياء النسبة لأنه يجلب من السند فأبدلت الياء سينا كما قال في سادي سادس وهو كما ترى. والإستبرق قيل: ما غلظ من ثياب الحرير، وقال أبو إسحاق: الديباج الصفيق الغليظ الحسن، وقال ابن دريد: ثياب حرير نحو الديباج. وعن ابن عبادة هو بردة حمراء وقيل هو المنسوج من الذهب وهو اسم أعجمي معرب عند جمع أصله بالفارسية استبره، وفي القاموس معرب استروه وحكي ذلك عن ابن دريد وأنه قال: إنه سرياني وقيل معرب استفره وما في صورة الفاء ليست فاء خالصة وإنما هي بين الفاء والباء، وقيل: عربي وافقت لغة العرب فيه لغة غيرهم واستصوبه الأزهري وكما اختلفوا فيه هل هو معرب أو عربي اختلفوا هل هو نكرة أو علم جنس مبني أو معرب أو ممنوع من الصرف وهمزته همزة قطع أو وصل، والصحيح على ما قال الخفاجي أنه نكرة معرب مصروف مقطوع الهمزة كما يشهد به القراءة المتواترة، وسيعلم إن شاء الله تعالى حال ما يخالفها وفي جامع التعريب أن جمعه أبارق وتصغيره أبيرق حذفت السين والتاء في التكسير لأنهما زيدتا معا فأجري مجرى الزيادة الواحدة وفي المسألة خلاف أيضا مذكور في محله ولم يذكر لون هذا الإستبرق. وأشار ناصر الدين إلى أنه الخضرة ف خُضْرٌ وإن توسط بين المعطوف والمعطوف عليه فهو لهما وعلى كل حال هذه الثياب لباس لهم وربما تشعر الآية بأن تحتها ثيابا أخرى وقيل على وجه الحالية من ضمير مُتَّكِئِينَ أن المراد فوق حجالهم المضروبة عليهم ثياب سندس إلخ. وحاصله أن حجالهم مكللة بالسندس والإستبرق. وقرأ ابن عباس بخلاف عنه والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن ونافع وحمزة «عاليهم» بسكون الياء وكسر الهاء وهي رواية أبان عن عاصم فهو مرفوع بضمة مقدرة على الياء على(15/179)
أنه مبتدأ «وثياب» خبره وعند الأخفش فاعل سد مسد الخبر وقيل على أنه خبر مقدم «وثياب» مبتدأ مؤخر وأخبر به عن النكرة لأنه نكرة وإضافته لفظية وهو في معنى الجماعة كما في سامِراً تَهْجُرُونَ [المؤمنون:
67] على ما صرح به مكي ولا حاجة إلى التزامه على رأي الأخفش. وقيل: هو باق على النصب والفتحة مقدرة على الياء وأنت تعلم أن مثله شاذ أو ضرورة فلا ينبغي أن يخرج عليه القراءة المتواترة. وقرأ ابن مسعود والأعمش وطلحة وزيد بن علي «عاليتهم» بالياء والتاء مضمومة وعن الأعمش أيضا وأبان عن عاصم فتح التاء الفوقية وتخريجهما كتخريج «عاليهم» بالسكون والنصب. وقرأ ابن سيرين ومجاهد في رواية وقتادة وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزعفراني وأبان أيضا «عليهم» جارا ومجرورا فهو خبر مقدم وثِيابُ مبتدأ مؤخر. وقرأت عائشة «علتهم» بتاء التأنيث فعلا ماضيا «فثياب» فاعل. وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة «ثياب سندس» بتنوين «ثياب» ورفع «سندس» على أنه وصف لها وهذا كما نقول ثوب حرير تريد من هذا الجنس. وقرأ العربيان ونافع في رواية «وإستبرق» بالجر عطفا على «سندس» . وقرأ ابن كثير وأبو بكر بجر «خضر» صفة ل «سندس» وهو في معنى الجمع. وقد صرحوا بأن وصف اسم الجنس الذي يفرق بينه وبين واحده بتاء التأنيث بالجمع جائز فصيح وعليه يُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ [الرعد: 12] والنَّخْلَ باسِقاتٍ [ق: 10] وقد جاء «سندسة» في الواحدة كما قاله غير واحد وجوز كونه صفة لثياب وجره للجوار وفيه توافق القراءتين معنى إلّا أنه قليل. وقرأ الأعمش وطلحة والحسن وأبو عمرو بخلاف عنهما وحمزة والكسائي «خضر وإستبرق» بجرهما وقرأ ابن محيصن «وإستبرق» بوصل الألف وفتح القاف كما في عامة كتب القراءات ويفهم من الكشاف أنه قرأ بالقطع والفتح وأن غيره قرأ بما تقدم وهو خلاف المعروف، وخرج الفتح على المنع من الصرف للعلمية والعجمة وغلظ بأنه نكرة يدخله حرف التعريف فيقال: الإستبرق وقيل إن ذاك كذا والوصل مبني على أنه عربي مسمى باستفعل من البريق يقال برق وإستبرق كعجب واستعجب فهو في الأصل فعل ماض ثم جعل علما لهذا النوع من الثياب فمنع من الصرف للعلمية ووزن الفعل دون العجمة وتعقب بأن كونه معربا مما لا ينبغي أن ينكر.
وقيل هو مبني منقول من جملة فعل وضمير مستتر وحاله لا يخفى. واختار أبو حيان أن «إستبرق» على قراءة ابن محيصن فعل ماض من البريق كما سمعت وأنه باق على ذلك لم ينقل ولم يجعل علما للنوع المعروف من الثياب وفيه ضمير عائد على السندس أو على الأخضر الدال عليه خُضْرٌ كأنه لما وصف بالخضرة وهي مما يكون فيها لشدتها دهمة وغيش أخبر أن في ذلك اللون بريقا وحسنا يزيل غبشه فقيل وَإِسْتَبْرَقٌ أي برق ولمع لمعانا شديدا ثم قال معرضا بمن غلطه كأبي حاتم والزمخشري وهذا التخريج أولي من تلحين قارئ جليل مشهور بمعرفة العربية وتوهيم ضابط ثقة قد أخذ عن أكابر العلماء انتهى. وقيل: الجملة عليه معترضة أو حال بتقدير قد أو بدونه وَحُلُّوا أَساوِرَ جمع سوار وهو معروف وذكر الراغب أنه معرب دستواره مِنْ فِضَّةٍ هي فضة لائقة بتلك الدار، والظاهر أن هذا عطف على يَطُوفُ عَلَيْهِمْ واختلافهما بالمضي والمضارعة لأن الحالية مقدمة على الطواف المتجدد ولا ينافي ما هنا قوله تعالى أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ 21 [الكهف:
31، الحج: 23، فاطر: 33] لإمكان الجمع بتعدد الأساور لكل والمعاقبة بلبس الذهب تارة الفضة أخرى، والتبعيض بأن يكون أساور بعض ذهبا وبعض فضة لاختلاف الأعمال. وقيل: هو حال من ضمير عالِيَهُمْ بإضمار قد أو بدونه فإن كان الضمير للطائفين على أن يكون عالِيَهُمْ حالا من ضمير حسبتهم جاز أن يقال الفضة للخدم والذهب للمخدومين. وجوز أن يكون المراد بالأساور الأنوار الفائضة على أهل الجنة المتفاوتة لتفاوت الأعمال تفاوت الذهب والفضة والتعبير عنها بأساور الأيدي لأنه جزاء ما عملته أيديهم، ولا يخفى أن(15/180)
هذا مما لا يليق بالتفسير. وحري أن يكون من باب الإشارة ثم إن التحلية إن كانت للولدان فلا كلام ويكونون على القول الثاني في مُخَلَّدُونَ مسورين (مقرطين) وهو من الحسن بمكان وإن كانت لأهل الجنة المخدومين فقد استشكل بأنها لا تليق بالرجال وإنما تليق بالنساء والوالدان، وأجيب بأن ذلك مما يختلف باختلاف العادات والطبائع ونشأة الآخرة غير هذه النشأة ومن المشاهد في الدنيا أن بعض ملوكها يتحلون بأعضادهم وعلى تيجانهم وعلى صدورهم ببعض أنواع الحلي مما هو عند بعض الطباع أولى بالنساء وللصبيان ولا يرون ذلك بدعا ولا نقصا كل ذلك لمكان الإلف والعادة، فلا يبعد أن يكون من طباع أهل الجنة في الجنة الميل إلى الحلي مطلقا لا سيما وهم جرد مرد أبناء ثلاثين. وقيل إن الأساور إنما تكون لنساء أهل الجنة والصبيان فقط لكن غلب في اللفظ جانب التذكير وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً هو نوع آخر يفوق النوعين السابقين، وهما ما مزج بالكافور وما مزج بالزنجبيل كما يرشد إليه إسناد سقيه إلى رب العالمين ووصفه بالطهورية. قال أبو قلابة: يؤتون بالطعام والشراب فإذا كان آخر ذلك أتوا بالشراب الطهور فيطهر بذلك قلوبهم وبطونهم ويفيض عرقا من جلودهم مثل ريح المسك. وعن مقاتل هو ماء عين على باب الجنة من ساق شجرة من شرب منه نزع الله تعالى ما كان في قلبه من غش وغل وحسد وما كان في جوفه من قذر وأذى أي إن كان فالطهور عليهما بمعنى المطهر وقد تقدم في ذلك كلام فتذكر.
وقال غير واحد أريد أنه في غاية الطهارة لأنه ليس برجس كخمر الدنيا التي هي في الشرع رجس لأن الدار ليست دار تكليف أو لأنه لم يعصر فتمسه الأيدي الوضرة وتدوسه الأقدام الدنسة. ولم يجعل في الدنان والأباريق التي لم يعن بتنظيفها أو لأنه لا يؤول إلى النجاسة لأنه يرشح عرقا من أبدانهم له ريح كريح المسك، وقيل: أريد بذاك الشراب الروحاني لا المحسوس وهو عبارة عن التجلي الرباني الذي يسكرهم عما سواه:
صفاء ولا ماء ولطف ولا هوا ... ونور ولا نار وروح ولا جسم
ولعل كل ما ذكره ابن الفارض في خمريته التي لم يفرغ مثلها في كأس إشارة إلى هذا الشراب وإياه عنى بقوله:
سقوني وقالوا لا تغنّ ولو سقوا ... جبال حنين ما سقوني لغنت
ويحكى أنه سئل أبو يزيد عن هذه الآية فقال سقاهم شرابا طهرهم به عن محبة غيره ثم قال: إن الله تعالى شرابا ادخره لأفاضل عباده يتولى سقيهم إياه فإذا شربوا طاشوا وإذا طاشوا طاروا وإذا طاروا وصلوا وإذا وصلوا اتصلوا فهم فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: 55] وحمل بعضهم جميع الأشربة على غير المتبادر منها، فقال: إن الأنوار الفائضة من جواهر أكابر الملائكة وعظمائهم عليهم السلام على هذه الأرواح مشبهة بالماء العذب الذي يزيل العطش ويقوي البدن، وكما أن العيون متفاوتة في الصفاء والكثرة والقوة فكذا ينابيع الأنوار العلوية مختلفة فبعضها كافورية على طبع البرد واليبس ويكون صاحب ذلك في الدنيا في مقام الحزن والبكاء والانقباض، وبعضها يكون زنجبيليا على طبع الحر واليبس ويكون صاحبه قليل الالتفات إلى السوي قليل المبالاة بالأجسام والجسمانيات ثم لا يزال الروح البشري منتقلا من ينبوع إلى ينبوع ومن نور إلى نور ولا شك أن الأسباب والمسببات متناهية في ارتقائها إلى واجب الوجود الذي هو النور المطلق جل جلاله، فإذا وصل إلى ذلك المقام وشرب ذلك الشراب انهضمت تلك الأشربة المتقدمة بل فنيت لأن نور ما سوى الله يضمحل في مقابلة نور جلال الله سبحانه وكبريائه وذلك آخر سير الصديقين ومنتهى درجاتهم في الارتقاء(15/181)
والكمال، ولهذا ختم الله تعالى ذكر ثواب الأبرار بقوله جل وعلا وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً إِنَّ هذا الذي ذكر من فنون الكرامات الجليلة الشأن كانَ لَكُمْ جَزاءً بمقابلة أعمالكم الصالحة التي اقتضاها حسن استعدادكم واختياركم، والظاهر أن المجيء بالفعل للتحقيق والدوام وجوز أن يكون المراد كان في علمي وحكمي وكذا في قوله تعالى وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً أي مرضيا مقبولا أو مجازى عليه غير مضيع، والكلام على ما روي عن ابن عباس على إضمار القول أي ويقال لهم بعد دخولهم الجنة ومشاهدتهم ما أعد لهم إن هذا إلخ والغرض أن يزداد سرورهم فإنه يقال للمعاقب هذا بعملك الرديء فيزداد غمه وللمثاب هذا بطاعتك وعملك الحسن فيزداد سروره ويكون ذلك تهنئة له، وجوز أن يكون خطابا من الله تعالى في الدنيا كأنه سبحانه بعد أن شرح ثواب أهل الجنة قال: إن هذا كان في علمي وحكمي جزاء لكم يا معشر عبادي وكان سعيكم مشكورا، وقيل: وهو لا يغني عن الإضمار ليرتبط بما قبله وقد ذكر سبحانه من الجزاء ما تهش له الألباب وأعقبه جل وعلا بما يدل على الرضا الذي هو أعلى وأغلى لدى الأحباب:
إذا كنت عني يا منى القلب راضيا ... أرى كل من في الكون لي يتبسم
وروي من طرق أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قرأ هذه السورة وقد أنزلت عليه وعنده رجل من الحبشة أسود، فلما بلغ صفة الجنان زفر زفرة خرجت نفسه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أخرج نفس صاحبكم الشوق إلى الجنة» .
ولما ذكر سبحانه أولا حال الإنسان وقسمه إلى الطائع والعاصي وأمعن جل شأنه فيما أعده للطائع مشيرا إلى عظم سعة الرحمة ذكر ما شرف به نبيه صلّى الله عليه وسلم إزالة لوحشته وتقوية لقلبه فقال عز قائلا إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا أي أنزلناه مفرقا منجما في نحو ثلاث وعشرين سنة لحكم بالغة مقتضية له لا غيرنا كما يعرب عنه تكرير الضمير مع أن سواء كان المنفصل تأكيدا أو فصلا أو مبتدأ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ بتأخير نصرك على الكفار فإن له عاقبة حميدة وَلا تُطِعْ قلة صبر منك على أذاهم وضجرا من تأخر نصرك مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً قيل إن أَوْ لأحد الشيئين في جميع مواقعها، ويعرض لها معان أخر كالشك والإباحة وغيرهما فيكون أصل المعنى هنا وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ أحد النوعين ولما كان أحد الأغلب عليه في غير الإثبات العموم واحتمال غيره احتمال مرجوح صار المعنى على النهي عن إطاعة هذا وهذا، ولم يؤت بالواو لاحتمال الكلام عليه النهي عن المجموع ويحصل امتثاله بالانتهاء عن واحد دون الآخر، فلا يرد أن لا تطلع أحد النوعين يحصل الامتثال به بترك إطاعة واحد من إطاعة الآخر إذ يقال لمن فعل ذلك إنه لم يطع أحدهما، ومن هنا قيل إن أَوْ في الإثبات تفيد أحد الأمرين، وفي النفي تفيد نفي كلا الأمرين جميعا، ولعل ما ذكر في معنى كلام ابن الحاجب حيث قال: إن وضع أَوْ لإثبات الحكم لأحد الأمرين إلّا أنه إن حصلت قرينة يفهم معها أن أحد الأمرين غير حاجز عن الآخر مثل قولك جالس الحسن أو ابن سيرين سمي إباحة وإن حجر فهو لأحد الأمرين. واستشكل بعضهم وقوعها في النهي ك لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً إذا لو انتهى عن أحدهما لم يمتثل. ومن ثم حملها بعضهم يعني أبا عبيدة على أنها بمعنى الواو والأول أن تبقى على بابها وإنما جاء التعميم فيها من وراء ذلك وهو النهي الذي فيه معنى النفي لأن المعنى قبل وجود النهي تطيع آثما أو كفورا أي واحدا منهما، فإذا جاء النهي ورد على ما كان ثابتا في المعنى فيصير المعنى ولا تطع واحدا منهما فيجيء التعميم فيهما من جهة النهي وهي على بابها فيما ذكر لأنه لا يحصل الانتهاء عن أحدهما حتى ينتهي عنهما بخلاف الإثبات فإنه قد يفعل أحدهما دون الآخر انتهى. وعليه ما قيل إن إفادة العموم في النفي والنهي الذي(15/182)
في معناه لما أن تقيض الإيجاب الجزئي السلب الكلي. وقريب من ذلك قول الزجاج إن أَوْ هاهنا أوكد من الواو لأنك إذا قلت لا تطع زيدا وعمرا فأطاع أحدهما كان غير عاص، فإذا أبدلتها بأو فقد دللت على أن كل واحد منهما أهل لأن يعصي ويعلم منه النهي عن إطاعتهما معا كما لا يخفى. وأفاد جار الله أن أَوْ باقية على حقيقتها وأن النهي عن إطاعتهما جميعا إنما جاء من دلالة النص وهي المسمى مفهوم الموافقة بقسميه الأولي والمساوي فتأمل. والمراد بالآثم والكفور جنسهما وتعليق النهي بذلك مشعر بعلية الوصفين له فلا بد أن يكون النهي عن الإطاعة في الإثم والكفر لا فيما ليس بإثم ولا كفر، والمراد ولا تطع مرتكب الإثم الداعي لك إليه أو مرتكب الكفر الداعي إليه أي لا تتبع أحدا من الآثم إذا دعاك إلى الإثم، ومن الكفور إذا دعاك إلى الكفر فإنه إذا قيل لا تطع الظالم فهم منه لا تتبعه في الظلم إذا دعاك إليه ومنع هذا الفهم مكابرة فلا يتم الاستدلال بالآية على عدم جواز الاقتداء بالفاسق إذا صلى إماما ثم إن التقسيم باعتبار ما يدعوان إليه من الكفر والإثم المقابل له لا باعتبار الذوات حتى يكون بعضهم آثما وبعضهم كفورا فيقال: كيف ذلك وكلهم كفرة والمبالغة في «كفور» قيل لموافقة الواقع وهذا كقوله تعالى لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً [آل عمران: 130] واعتبار رجوعها إلى النهي كاعتبار رجوعها إلى النفي على ما قيل في قوله تعالى وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] كما ترى، وقيل الآثم المنافق والكفور المشرك المجاهر. وقيل الآثم عتبة بن ربيعة، والكفور الوليد بن المغيرة لأن عتبة كان ركابا للمآثم متعاطيا لأنواع الفسوق، وكان الوليد غاليا في الكفر شديد الشكيمة في العتو وعن مقاتل أنهما قالا له صلّى الله عليه وسلم: ارجع عن هذا الأمر ونحن
نرضيك بالمال والتزويج فنزلت.
وقيل الكفور أبو جهل والآية نزلت فيه والأولى ما تقدم. وفي النهي مع العصمة إرشاد لغير المعصوم إلى التضرع إلى الله تعالى والرغبة إليه سبحانه في الحفظ عن الوقوع فيما لا ينبغي وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا وداوم على ذكره سبحانه في جميع الأوقات أو دم على صلاة الفجر والظهر والعصر فإن الأصيل قد يطلق على ما بعد الزوال إلى المغرب فينتظمهما وَمِنَ اللَّيْلِ أي بعضه فَاسْجُدْ فصلّ لَهُ عز وجل على أن السجود مجاز عن الصلاة بذكر الجزء وإرادة الكل وحمل ذلك على صلاة المغرب والعشاء وتقديم الظرف للاعتناء والاهتمام لما في صلاة الليل. من مزيد كلفة وخلوص وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا وتهجد له تعالى قطعا من الليل طويلا فهو أمر بالتهجد على ما اختار له بعضهم. وتنوين لَيْلًا للتبعيض وأصل التسبيح التنزيه ويطلق على مطلق العبادة القولية والفعلية. وعن ابن زيد وغيره أن ذلك كان فرضا ونسخ فلا فرض اليوم إلّا الخمس وقال قوم: هو محكم في شأنه عليه الصلاة والسلام. وقال آخرون: هو كذلك مطلقا على وجه الندب وفي تأخير الظرف قيل دلالة على أنه ليس بفرض كالذي قبله وكذا في التعبير عنه بالتسبيح وفيه نظر وقال الطيبي: الأقرب من حيث النظم أنه تعالى لما نهى حبيبه صلّى الله عليه وسلم عن إطاعة الآثم والكفور وحثه على الصبر على أذاهم وإفراطهم في العداوة، وأراد سبحانه أن يرشده إلى متاركتهم عقب ذلك بالأمر باستغراق أوقاته بالعبادة ليلا ونهارا بالصلوات كلها من غير اختصاص وبالتسبيح بما يطيق على منوال قوله تعالى وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [الحجر: 97، 98] انتهى. وهو حسن إِنَّ هؤُلاءِ الكفرة يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وينهمكون في لذاتها الفانية وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ أي أمامهم يَوْماً ثَقِيلًا هو يوم القيامة وكونه أمامهم ظاهر أو يذرون وراء ظهورهم يوما ثقيلا لا يعبئون به فالظرف قيل على الأول حال من يَوْماً وعلى هذا ظرف يَذَرُونَ ولو جعل على وتيرة واحدة في التعلق صح أيضا ووصف اليوم بالثقيل لتشبيه شدته وهو له بثقل شيء قادح باهظ لحامله بطريق الاستعارة، والجملة كالتعليل لما أمر به ونهى(15/183)
عنه كأنه قيل لا نطعمهم واشتغل بالأهم من العبادة لأن هؤلاء تركوا الآخرة للدنيا فاترك أنت الدنيا وأهلها للآخرة وقيل: إن هذا يفيد ترهيب محب العاجل وترغيب محب الآجل والأول علة للنهي عن إطاعة الآثم والكفور والثاني علة للأمر بالعبادة نَحْنُ خَلَقْناهُمْ لا غيرنا وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ أي أحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب والعروق والأسر في الأصل الشد والربط وأطلق على ما يشد به ويربط كما هنا، وإرادة الأعصاب والعروق لشبهها بالحبال المربوط بها ووجه الشبه ظاهر ومن هنا قد يقول العارف من كان أسره من ذاته وسجنه دنياه في حياته فليشك مدة عمره وليتأسف على وجوده بأسره والمراد شدة الخلق وكونه موثقا حسنا.
ومنه فرس ما سور الخلق إذا كان موثقه حسنا. وعن مجاهد الأسر الشرج وفسر بمجرى الفضلة وشد ذلك جعله بحيث إذا خرج الأذى انقبض. ولا يخفى أن هذا داخل في شدة الخلق وكونه موثقا حسنا وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ أي أهلكناهم وبدلنا أمثالهم في شدة الخلق تَبْدِيلًا بديعا لا ريب فيه يعني البعث والنشأة الأخرى فالتبديل في الصفات لأن المعاد هو المبتدأ ولكون الأمر محققا كائنا جيء بإذا وذكر المشيئة لإبهام وقته ومثله شائع كما يقول العظيم لمن يسأله الإنعام إذا شئت أحسن إليك ويجوز أن يكون المعنى وإذا شئنا أهلكناهم وبدلنا غيرهم ممن يطيع فالتبديل في الذوات وإذا التحقق قدرته تعالى عليه وتحقق ما يقتضيه من كفرهم المقتضي لاستئصالهم فجعل ذلك المقدور المهدد به كالمحقق وعبر عنه بما يعبر به عنه ولعله الذي أراده الزمخشري بما نقل عنه من قوله إنما جاز ذلك لأنه وعيد جيء به على سبيل المبالغة كان له وقتا معينا ولا يعترض عليه بقوله تعالى وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ [محمد: 38] لأن النكات لا يلزم اطرادها فافهم. والوجه الأول أوفق بسياق النظم الجليل إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ إشارة إلى السورة أو الآيات القرآنية فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أي فمن شاء أن يتخذ إليه تعالى سبيلا أي وسيلة توصله إلى ثوابه اتخذه أي تقرب إليه بالطاعة فهو توصل أيضا السبيل للمقاصد وَما تَشاؤُنَ أي شيئا أو اتخاذ السبيل إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي إلّا وقت مشيئة الله تعالى لمشيئتكم. وقال الزمخشري: أي وَما تَشاؤُنَ الطاعة إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ تعالى قسركم عليها وهو تحريف للآية بلا دليل، ويلزمه على ما في الانتصاف أن مشيئة العبد لا يوجد إلّا إذا انتفت وهو عن مذهب الاعتزال بمعزل وأبعد منزل. والظاهر ما قررنا لأن المفعول المحذوف هو المذكور أولا كما تقول: لو شئت لقتلت زيدا أي لو شئت القتل لا لو شئت زيدا ولا يمكن للمعتزلة أن ينازعوا أهل الحق- في ذلك لأن المشيئة ليست من الأفعال الاختيارية وإلّا لتسلسلت بل الفعل المقرون بها منها فدعوى استقلال العبد مكابرة وكذلك دعوى الجبر المطلق مهاترة والأمر بين الأمرين لإثبات المشيئتين وحاصله على ما حققه الكوراني أن العبد مختار في أفعاله وغير مختار في اختياره والثواب والعقاب لحسن الاستعداد النفس الأمري وسوئه فكل يعمل على شاكلته وسبحان من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. وفي التفسير الكبير هذه الآية من الآيات التي تلاطمت فيها أمواج القدر والجبر فالقدري يتمسك بالجملة الأولى ويقول إن مفادها كون مشيئة العبد مستلزمة للفعل وهو مذهبي والجبري يتمسك بضم الجملة الثانية ويقول إن مفادها أن مشيئة الله تعالى مستلزمة لمشيئة العبد فيتحصل من الجملتين أن مشيئة الله تعالى مستلزمة لمشيئة العبد وأن مشيئة العبد مستلزمة لفعل العبد كما تؤذن به الشرطية فإذن مشيئة الله تعالى مستلزمة لفعل العبد لأن مستلزم المستلزم مستلزم وذلك هو الجبر وهو صريح مذهبي وتعقب بأن هذا ليس بالجبر المحض المسلوب معه الاختيار بالكلية بل يرجع أيضا إلى أمر بين أمرين وقدر بعض الأجلة مفعول يَشاءَ الاتخاذ والتحصيل ردا للكلام على الصدر. فقال: إن قوله سبحانه وَما تَشاؤُنَ إلخ تحقيق للحق ببيان أن مجرد مشيئتهم غير كافية في(15/184)
اتخاذ السبيل كما هو المفهوم من ظاهر الشرطية أي وما تشاؤون اتخاذ السبيل ولا تقدرون على تحصيله في وقت من الأوقات إلّا وقت مشيئته تعالى اتخاذه وتحصيله لكم إذ لا دخل لمشيئة العبد إلّا من الكسب وإنما التأثير والخلق لمشيئة الله عز وجل وفيه نوع مخالفة للظاهر كما لا يخفى. نعم قيل إن ظاهر الشرطية أن مشيئة العبد مطلقا مستلزمة للفعل فيلزم أنه متى شاء فعلا فعله مع أن الواقع خلافه فلا بد مما قاله هذا البعض، وجعل الجملة الثانية تحقيقا للحق وأجيب بأنها للتحقيق على وجه آخر وذلك أن الأولى أفهمت الاستلزام والثانية بينت أن هذه المشيئة المستلزمة لا تتحقق إلّا وقت مشيئة الله تعالى إياها فكأنه قيل: وما تشاؤون مشيئة تستلزم الفعل إلّا وقت أن يشاء الله تعالى مشيئتكم تلك فتأمل. وأنت تعلم أن هذه المسألة من محار الأفهام ومزال أقدام أقوام بعد أقوام وأقوى شبه الجبرية أنه قد تقرر أن الشيء ما لم يجب لم يوجد فإن وجب صدور الفعل فلا اختيار
وإلّا فلا صدور وبعبارة أخرى أن جميع ما يتوقف عليه الفعل إذا تحقق فإما أن يلزم الفعل فيلزم الاضطرار أولا فيلزم جواز تخلف المعلول عن علته التامة بل مع الصدور الترجح بلا مرجح فقد قيل إنها نحو شبهة ابن كمونة في التوحيد يصعب التفصي عنها وللفقير العاجز جبر الله تعالى فقره ويسّر أمره عزم على تأليف رسالة إن شاء الله تعالى في ذلك سالكا فيها بتوفيقه سبحانه أحسن المسالك وإن كان الكوراني قدس سره لم يدع فيها مقالا وأوشك أن يدع كل من جاء بعد فيها بشيء عليه عيالا والله تعالى الموفق. وقرأ العربيان وابن كثير «وما يشاؤون» بياء الغيبة وقرأ ابن مسعود «إلّا ما يشاء الله» وما فيه مصدرية كأن في قراءة الجماعة وقد أشرنا إلى أن المصدر في محل نصب على الظرفية بتقدير المضاف الساد هو مسده وهو ما اختاره غير واحد وتعقبة أبو حيان بأنهم نصوا على أنه لا يقوم مقام الظرف إلّا المصدر المصرح فلا يجوز أجيئك أن يصيح الديك أو ما يصيح الديك وإنما يجوز أجيئك صياح الديك وكأنه لهذا قيل إن أَنْ يَشاءَ بتقدير حرف الجر والاستثناء من أعلم الأسباب أي وَما تَشاؤُنَ بسبب من الأسباب إلا بأن يشاء الله تعالى إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً مبالغا في العلم فيعلم مشيئات العباد المتعلقة بالأفعال التي سألوها بألسنة استعداداتهم حَكِيماً مبالغا في الحكمة فيفيض على كما هو الأوفق باستعداده وما هو عليه في نفس الأمر من المشيئة أو أنه تعالى مبالغ في العلم والحكمة فيعلم ما يستأهله كل أحد من الطاعة وخلافها فلا يشاء لهم إلّا ما يستدعيه علمه سبحانه وتقتضيه حكمته عز وجل وقيل عَلِيماً أي يعلم ما يتعلق به مشيئة العباد من الأعمال حَكِيماً لا يشاء إلّا على وفق حكمته وهو أن يشاء العبد فيشاء الرب سبحانه وتعالى لا العكس ليتأتى التكليف من غير انفراد لأحد المشيئتين عن الأخرى وفيه بحث وقوله تعالى يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ إلخ بيان لما تضمنته الجملة قيل أي يدخل سبحانه في رحمته من يشاء أن يدخله فيها وهو الذي علم فيه الخير حيث يوفقه لما يؤدي إلى دخول الجنة من الإيمان والطاعة وَالظَّالِمِينَ أي لأنفسهم وهم الذين علم فيهم الشر أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً متناهيا في الإيلام ونصب الظَّالِمِينَ بإضمار فعل يفسره أعد إلخ وقدر يعذب وقد يقدر أو عد أو كافأ أو شبه ذلك ولم يقدر أعد لأنه لا يتعدى باللام. وقرأ ابن الزبير وأبان بن عثمان وابن أبي عبلة «والظالمون» على الابتداء وقراءة الجمهور أحسن. وإن أوجبت تقديرا للطباق فيها وذهابه في هذه إذ الجملة عليها اسمية والأولى فعلية. ولا يقال زيادة التأكيد في طرف الوعيد مطلوبة لأنّا نقول الأمر بالعكس لو حقق لسبق الرحمة الغضب. وقرأ عبد الله «وللظالمين» بلام الجر فقيل متعلق بما بعد على سبيل التوكيد. وقيل هو بتقدير أعد للظالمين أَعَدَّ لَهُمْ والجمهور على الأول ثم إن هذه السورة وإن تضمنت من سعة رحمة الله عز وجل ما تضمنت إلّا أنها أشارت من عظيم جلاله سبحانه وتعالى إلى ما أشارت(15/185)
أخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجة والضياء في المختارة والحاكم وصححه وغيرهم عن أبي ذر قال: قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حتى ختمها ثم قال: «إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله تعالى والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل» .
وهذا كالظاهر فيما قلنا نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الأبرار والمقربين الأخيار فيرزقنا جنة وحريرا ويجعل سعينا لديه مشكورا بحرمة النبيّ صلّى الله عليه وسلم وأهل بيته المطهرين من الرجس تطهيرا.(15/186)
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26)
سورة المرسلات
وتسمى سورة العرف وهي مكية
فقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي وابن مردويه عن ابن مسعود قال: بينما نحن مع النبيّ صلّى الله عليه وسلم في غار بمنى إذ نزلت عليه سورة وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فيه وإن فاه لرطب بها إذ خرجت علينا حية فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «اقتلوها» فابتدرناها فسبقتنا، فدخلت جحرها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «وقيت شركم كما وقيتم شرها»
. وعن ابن عباس وقتادة ومقاتل إن فيها آية مدنية وهي وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ [المرسلات: 48] وظاهر حديث ابن مسعود هذا عدم استثناء ذلك وأظهر منه ما
أخرجه الحاكم وصححه وابن مردويه عنه أيضا قال: كنا مع النبيّ صلّى الله عليه وسلم في غار فنزلت عليه والمرسلات، فأخذتها من فيه وإن فاه لرطب بها فلا أدري بأيهما ختم فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ
[المرسلات: 50]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ وآيها خمسون آية بلا خلاف ومناسبتها لما قبلها أنه سبحانه لما قال فيما قبل يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ [الإنسان: 31] إلخ افتتح هذه بالإقسام على ما يدل على تحقيقه وذكر وقته وأشراطه وقيل إنه سبحانه أقسم على تحقيق جميع ما تضمنته السورة قبل من وعيد الكافرين الفجار ووعد المؤمنين الأبرار فقال عز من قائل:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً وَالنَّاشِراتِ نَشْراً فَالْفارِقاتِ فَرْقاً(15/187)
فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً
قيل أقسم سبحانه بمن اختاره من الملائكة عليهم السلام على ما أخرجه عبد بن حميد عن مجاهد، فقيل المرسلات والعاصفات طوائف، والناشرات والفارقات والملقيات طوائف أخرى فالأولى طوائف أرسلن بأمره تعالى وأمرن بإنفاذه فعصفن في المضي وأسرعن كما تعصف الريح تخففا في امتثال الأمر وإيقاع العذاب بالكفرة إنقاذا للأنبياء عليهم السلام ونصرة لهم والثانية طوائف نشرن أجنحتهن في الجو عنده انحطاطهن بالوحي ففرقن بين الحق والباطل فألقين ذكرا إلى الأنبياء عليهم السلام، ولعل من يلقي الذكر لهم غير مختص بجبريل عليه السلام بل هو رئيسهم ويرشد إلى هذا الحديث الرصد
وفي بعض الآثار «نزل إليّ ملك بألوكة من ربي فوضع رجلا في السماء وثنى الأخرى بين يدي»
فالمرسلات صفة لمحذوف، والمراد وكل طائفة مرسلة وكذا النَّاشِراتِ ونصب عُرْفاً على الحال والمراد متتابعة، وكان الأصل والمرسلات متتابعة كالعرف وهو عرف الدابة كالفرس والضبع أعني الشعر المعروف على قفاها فحذف متتابعة لدلالة التشبيه عليه، ثم حذف أداة التشبيه مبالغة ومن هذا قولهم جاؤوا عرفا واحدا إذا جاؤوا يتبع بعضهم بعضا وهم عليه كعرف الضبع إذا تألبوا عليه. ويؤخذ من كلام بعض أن العرف في الأصل ما ذكر ثم كثر استعماله في المعنى التتابع فصار فيه حقيقة عرفية أو على أنه مفعول له على أنه بمعنى العرف الذي هو نقيص النكر أي وَالْمُرْسَلاتِ للإحسان والمعروف ولا يعكر على ذلك أن الإرسال لعذاب الكفار لأن ذلك إن لم يكن معروفا لهم فإنه معروف للأنبياء عليهم السلام والمؤمنين الذين انتقم الله تعالى لهم منهم. وعطف النَّاشِراتِ على ما قبل بالواو ظاهر للتغاير بالذات بينهما وعطف «العاصفات» على «المرسلات» و «الفارقات» على «الناشرات» وكذا ما بعد بالفاء لتنزيل تغاير الصفات منزلة تغاير الذات كما في قوله:
يا لهف زيادة للحارث الصابح فالغانم فالآيب وهي للدلالة على ترتيب معاني الصفات في الوجود أي الذي صبح فغنم فآب، وترتيب مضي الأمر على الإرسال به والأمر بإنقاذه ظاهر، وأما ترتيب إلقاء الذكر إلى الأنبياء عليهم السلام على الفرق بين الحق والباطل مع ظهور تأخر الفرق عن الإلقاء فقيل لتأويل الفرق بإرادته فحينئذ يتقدم على الإلقاء، وقيل لتقدم الفرق على الإلقاء من غير حاجة إلى أن يؤول بإرادته لأنه بنفس نزولهم بالوحي الذي هو الحق المخالف للباطل الذي هو الهوى ومقتضى الرأي الفاسد وإنما العلم به متأخر. ومن هذا يظهر ترتيب الفرق على نشر الأجنحة إذ الحاصل عليه نشرن أجنحتهن للنزول فنزلن فألقين وهو غير ظاهر على ما قبله لأن إرادة الفرق تجامع النشر وكذا إرادته إذا أول أيضا بحسب الظاهر بل ربما يقال إن تلك الإرادة قبل، وقيل: إن الفاء في ذلك للترتيب الرتبي ضرورة أن إرادة الفرق أعلى رتبة من النشر، وقيل: إنها فيه وفيما بعده لمجرد الإشعار بأن كلا من الأوصاف المذكورة أعني النشر والفرق مستقل بالدلالة على استحقاق الطوائف الموصوفة بها للتفخيم والإجلال بالإقسام بهن فإنه لو جيء بها على ترتيب الوقوع لربما فهم أن مجموع الثلاثة المترتبة هو الموجب لما ذكر من الاستحقاق.
واستعمال «العاصفات» بمعنى المسرعات سرعة الريح مجاز على سبيل الاستعارة ولا يبعد أن يراد بالعاصفات المذهبات المهلكات بالعذاب الذي أرسلن به من أرسلن إليه على سبيل الاستعارة أيضا أو المجاز المرسل.
وعُذْراً ونُذْراً في قوله تعالى عُذْراً أَوْ نُذْراً جوز أن يكونا مصدرين من عذر إذا أزال الإساءة، ومن أنذر إذا خوف جاءا على فعل كالشكر والكفر والأول ظاهر لأن فعلا من مصادر الثلاثي، وأما الثاني فعلى خلاف القياس مصدر أفعل الأفعال، وقيل هو اسم المصدر كالطاقة أو مصدر نذر بمعنى أنذر(15/188)
وتسومح فيما تقدم وإن يكونا جمع عذير بمعنى المعذرة ونذير بمعنى الإنذار وانتصابهما على العلية والعامل فيهما «الملقيات» أو ذِكْراً وهو بمعنى التذكير والعظة بالترغيب والترهيب أي فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً لأجل العذر للمحقين أو لأجل النذر للمبطلين أو على الحالية من «الملقيات» أو الضمير المستتر فيها على التأويل أي عاذرين أو منذرين أو على البدلية من ذِكْراً على أن المراد به الوحي فيكونان بدل بعض أو التذكير والعظة فيكونان بدل كل وإن يكونا وصفين بمعنى عاذرين ومنذرين فنصبهما على الحالية لا غير. وأَوْ في جميع ذلك للتنويع لا للترديد ومن ثم قال الدينوري في مشكل القرآن إنها بمعنى الواو، وقيل الثانية طوائف نشرن الشرائع في الأرض إلى آخر ما تقدم، ووجه العطف بأن المراد أردن النشر فنزلن فألقين واحتيج للتأويل لمكان الإلقاء إلى الأنبياء عليهم السلام وإلّا فهو لا يحتاج إليه في النشر والفرق لظهور ترتب الفرق على النشر كذا قيل فلا تغفل، وقيل طوائف نشرن النفوس الموتى بالكفر الجهل بما أوحين ففرقن إلخ والنشر على هذا بمعنى الإحياء وفيما قبله بمعنى الإشاعة. وقيل لا مغايرة بين الكل إلّا بالصفات وهم جميعا من الملائكة على الأقوال السابقة بيد أنه لم يعتبر هذا القائل تفسير النشر بنشر الأجنحة فقال: أقسم سبحانه بطوائف من الملائكة أرسلهن عز وجل بأوامره متتابعة فعصفن عصف الرياح في الامتثال ونشرن الشرائع في الأرض أو نشرن النفوس الموتى بالجهل بما أوحين من العلم ففرقن بين الحق والباطل فألقين إلى الأنبياء ذكرا، وظاهره أيضا أن الإرسال للأنبياء بالشرائع من الأمر والنهي بناء على أن الأوامر جمع جمع مخصوص بالأمر مقابل النهي، ففي كلامه الاكتفاء.
وخص الأمر بالذكر قيل لأنه أهم مع أنه لا يؤدي ما يراد من النهي بصيغته كدع مثلا. وقيل في عطف النَّاشِراتِ بالواو دون الفاء وعطف «الفارقات» به أن النشر عليه بمعنى الإشاعة للشرائع وهو يكون بعد الوحي والدعوة والقبول، ويقتضي زمانا فلذا جيء بالواو ولم يقرن بالفاء التعقيبية. وإذا حصل النشر ترتب عليه الفرق من غير مهلة ولا يتوهم أنه كان حق النَّاشِراتِ حينئذ ثم لأنه لا يتعلق القصد هاهنا بالتراخي ويبقى الكلام في وجه تقديم نشر الشرائع أو نشر النفوس والفرق على الإلقاء مع أنهما بعده في الواقع فقيل الإيذان بكونهما غاية للإلقاء حقيقة بالاعتناء أو الإشعار بأن كلا من الأوصاف مستقل بالدلالة على استحقاق التعظيم كما سمعت على أن باب التأويل واسع فتذكر. وقيل: أقسم سبحانه بأفراد نوعين من الرياح فيقدر للمرسلات موصوف وللناشرات موصوف آخر، ويراد بالمرسلات الرياح المرسلة للعذاب لأن الإرسال شاع فيه، وبالناشرات رياح رحمة وحاصله أنه جل وعلا أقسم برياح عذاب أرسلهن فعصفن ورياح رحمة نشرن السحاب في الجو ففرقنه على البقاع فألقين ذكرا إما عُذْراً للذين يعتذرون إلى الله تعالى بتوبتهم واستغفارهم إذا شاهدوا آثار رحمته تعالى في الغيث. وإما (إنذارا) للذين يكفرون ذلك وينسبونه إلى الأنواء ونحوها وإسناد إلقاء الذكر إليهن لكونهن سببا في حصوله إذا شكرت النعمة فيهن أو كفرت فالتجوز في الإسناد، والمراد ب عُرْفاً متتابعة أو الناشرات رياح رحمة نشرن النبات وأبرزنه أي صرن سببا لذلك بنشر السحاب وإدراره ففرقن كل صنف منه عن سائر الأصناف بالشكل واللون وسائر الخواص فتسببن ذِكْراً إما عُذْراً للشاكرين وإما نُذْراً للكافرين. وقيل أقسم سبحانه أولا بالرياح وثانيا بسحائب نشرن الموات ففرقن بين من يشكر وبين من يكفر كقوله تعالى لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [الجن: 16، 17] فتسببن ذِكْراً إما وإما وقيل: أقسم جل وعلا بآيات القرآن المرسلة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فضلا وإحسانا أو شيئا بعد شيء لأنها نزلت منجّمة فعصفن وأذهبن سائر الكتب بالنسخ ونشرن آثار الهدى في مشارق الأرض ومغاربها وفرقن بين الحق والباطل فألقين ذكر الحق في أكتاف العالمين. وقيل: أقسم جل جلاله برسله من البشر أرسلوا إحسانا وفضلا كما هو المذهب(15/189)
الحق لا وجوبا كما زعم من زعم فاشتدوا وعظم أمرهم ونشروا دينهم وما جاؤوا به ففرقوا بين الحق والباطل والحلال والحرام فألقوا ذكرا بين المكلفين، ويجوز أن يراد على هذا بعرفا متتابعة. وقيل: أقسم تبارك وتعالى بالنفوس الكاملة أي المخلوقة على صفة الكمال والاستعداد لقبول ما كلفت به وخلقت لأجله المرسلة إحسانا إلى الأبدان لاستكمالها فعصفن وأذهبن ما سوى الحق بالنظر في الأدلة الحقة ففرقن بين الحق المتحقق بذاته الذي لا مدخل للغير فيه وهو واجب الوجود سبحانه وبين الباطل المعدوم في نفسه فرأين كل شيء هالكا إلّا وجهه فألقين في القلوب والألسنة ومكن فيها ذكره تعالى فليس في قلوبها وألسنتها إلّا ذكره عز وجل، أو طرحن ذكر غيره سبحانه عن القلوب والألسنة فلا ذكر فيها لما عداه. وقيل: الثلاثة الأول الرياح والأخيرتان الملائكة عليهم السلام وقيل بالعكس، والمناسبة باللطافة وسرعة الحركة وقيل الأولتان الملائكة إلّا أن المرسلات ملائكة الرحمة، والعاصفات ملائكة العذاب، والثلاثة الأخيرة آيات القرآن النازلة بها الملائكة.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر من وجه عن أبي صالح أنه قال: الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً الرسل ترسل بالمعروف، فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً الريح والنَّاشِراتِ نَشْراً المطر، فَالْفارِقاتِ فَرْقاً الرسل ومن وجه آخر الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً الملائكة فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً الرياح العواصف وَالنَّاشِراتِ نَشْراً الملائكة ينشرون الكتب أي كتب الأعمال كما جاء مصرحا به في بعض الروايات فَالْفارِقاتِ فَرْقاً الملائكة يفرقون بين الحق والباطل فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً الملائكة أيضا يجيئون بالقرآن والكتاب عُذْراً أَوْ نُذْراً منه تعالى إلى الناس وهم الرسل يعذرون وينذرون. وعن أبي صالح روايات أخر في ذلك وكذا عن أجلة الصحابة والتابعين، فعن ابن مسعود وأبي هريرة ومقاتل الْمُرْسَلاتِ الملائكة أرسلت بالعرف ضد النكر وهو الوحي.
وفي أخرى عن ابن مسعود أنها الرياح وفسر العاصفات بالشديدات الهبوب. وروي تفسير الْمُرْسَلاتِ بذلك عن ابن عباس ومجاهد وقتادة. وفي أخرى عن ابن عباس أنها جماعة الأنبياء أرسلت إفضالا من الله تعالى على عباده وعن أبي مسعود النَّاشِراتِ الرياح تنشر رحمة الله تعالى ومطره. وروي عن مجاهد وقتادة وقال الربيع: الملائكة تنشر الناس من قبورهم، قال الضحاك: الصحف تنشر على الله تعالى بأعمال العباد وعليه تكون النَّاشِراتِ على معنى النسب. وعن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والضحاك «الفارقات» الملائكة تفرق بين الحق والباطل والحلال والحرام. وقال قتادة والحسن وابن كيسان: آيات القرآن فرّقت بين ما يحل وما يحرم. وعن مجاهد أيضا الرياح تفرق بين السحاب فتبدده. وعن ابن عباس وقتادة والجمهور «الملقيات» الملائكة تلقي ما حملت من الوحي إلى الأنبياء. وعن الربيع آيات القرآن ومن الناس من فسر «العاصفات» بالآيات المهلكة كالزلازل والصواعق وغيرها، ومنهم من فسر «الفارقات» بالسحائب الماطرة على تشبيهها بالناقة الفاروق وهي الحامل التي تجزع حين تضع، ومنهم من فسرها بالعقول تفرق بين الحق والباطل والصحيح والفاسد إلى غير ذلك من الروايات والأقوال التي لا تكاد تنضبط والذي أخاله أظهر كون المقسم به شيئين «المرسلات العاصفات والناشرات الفارقات الملقيات» لشدة ظهور العطف بالواو في ذلك وكون الكل من جنس الريح لأنه أوفق بالمقام المتضمن لأمر الحشر والنشر لما أن الآثار المشاهدة المترتبة على الرياح ترتبا قريبا وبعيدا تنادي بأعلى صوت حتى يكاد يشبه صوت النفخ في الصور على إمكان ذلك وصحته ودخوله في حيطة مشيئة الله تعالى وعظيم قدرته ومع هذا الأقوال كثيرة لديك وأنت غير مجحود عليك فاختر لنفسك ما يحلو.(15/190)
وقرأ عيسى «عرفا» بضمتين نحو نكر في نكر وقرأ ابن عباس «فالملّقيات» بالتشديد من التلقية وقيل وهي كالإلقاء إيصال الكلام إلى المخاطب، يقال: لقيته الذكر فتلقاه. وذكر المهدوي أنه رضي الله عنه قرأ «فالملقّيات» بفتح اللام وتشديد القاف اسم مفعول أي ملقية من الله عز وجل. وقرأ زيد بن ثابت وابن خارجة وطلحة وأبو جعفر وأبو حيوة وعيسى والحسن بخلاف والأعمش عن أبي بكر «عذرا أو نذرا» بضم الذالين. وقرأ الحرميان وأبو عامر وأبو بكر وزيد بن علي وشيبة وأبو جعفر أيضا بسكون الذال في «عذرا» وضمها في «نذرا» وقرأ إبراهيم التيمي «ونذرا» بالواو. وقوله تعالى إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ جواب للقسم وما موصولة وإن كتبت موصولة والعائد محذوف أي إن الذي توعدونه من مجيء القيامة كائن لا محالة، وجوز أن يراد بالموصول جميع ما تضمنته السورة السابقة وهو خلاف الظاهر جدا فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ أزيل أثرها بإزالة نورها أو بإعدام ذاتها وإذهابها بالكلية وكل من الأمرين سيكون وليس من المحال في شيء وما زعمه الفلاسفة المتقدمون في أمر تلك الأجرام واستحالة التحلل والعدم عليها أوهن من بيت العنكبوت، وما زعمه المعاصرون منهم فيها وإن كان غير ثابت عندنا إلّا أن إمكان الطمس عليه في غاية الظهور وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ شقت كما قال سبحانه إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق: 1] ويَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ [الفرقان: 25] وقيل فتحت كما قال سبحانه وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً [النبأ: 19] وأنشد سيبويه:
الفارجي باب الأمير المبهم ولا مانع من ذلك أيضا سواء كانت السماء جسما صلبا أو جسما لطيفا، وأدلة استحالة الخرق والالتئام فيها خروق لا تلتئم وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ جعلت كالحب الذي ينسف بالمنسف ونحوه وبست الجبال بسا وكانت الجبال كثيبا مهيلا قال في البحر: فرقتها الرياح وذلك بعد التسيير وقيل ذلك جعلها هباء وقيل نسفت أخذت من مقارها بسرعة من انتسفت الشيء إذا اختطفته، وقرأ عمرو بن ميمون «طمّست» و «فرّجت» بتشديد الميم والراء وذكر في الكشاف أن الأفعال الثلاثة قرئت بالتشديد. وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ أي بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره وهو يوم القيامة وجوز أن يكون المعنى عيّن لها الوقت الذي تحضر فيه للشهادة على الأمم وذلك عند مجيئه وحصوله والوجه هو الأول كما قال جار الله وتحقيقه كما في الكشف أن توقيت الشيء تحديده وتعيين وقته فإيقاعه على الذوات بإضمار لأن المؤقت هو الأحداث لا الجثث، ويجيء بمعنى جعل الشيء منتهيا إلى وقته المحدود وعلى هذا يقع عليها دون إضمار إذا كان بينها وبين ذلك الوقت ملابسة وإنما كان الوجه لأن القيامة ليست وقتا يتبين فيه وقت الرسل الذي يحضرون فيه للشهادة بل هي نفس ذلك الوقت وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ يقتضي ذلك لأنك إذا قلت إذا أكرمتني أكرمتك اقتضى أن يكون زمان إكرام المخاطب للمتكلم هو ما دل عليه إِذَا سواء جعل الظرف معموله أو معمول الجزاء أي فلا بد من التأويل، وقد أشير إليه في ضمن التفسير. وقرأ النخعي والحسن وعيسى وخالد «أقتت» بالهمزة وتخفيف القاف وقرأ أبو الأشهب وعمرو بن عبيد وأبو عمرو وعيسى أيضا «وقّتت» بالواو على الأصل لأن الهمزة مبدلة من الواو المضمومة ضمة لازمة وهو أمر مطرد كما بيّن في محله. وقال عيسى: وقتت لغة سفلى مضر. وقرأ عبد الله بن الحسن وأبو جعفر «وقتت» بواو واحدة وتخفيف القاف. وقرأ الحسن أيضا «ووقتت» بواوين على وزن فوعلت وإِذَا في جميع ما تقدم شرطية. وقوله تعالى لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ قيل مقول لقول مقدر هو جواب إِذَا أي يقال لِأَيِّ يَوْمٍ إلخ وجعل التأجيل بمعنى التأخير من قولهم دين مؤجل في مقابل الحال والضمير لما(15/191)
يشعر به الكلام والاستفهام للتعظيم والتعجيب من هول ذلك اليوم أي إذا كان كذا وكذا يقال: لأي يوم أخرت الأمور المتعلقة بالرسل من تعذيب الكفرة وإهانتهم وتنعيم المؤمنين ورعايتهم وظهور ما كانت الرسل عليهم السلام تذكره من الآخرة وأحوالها وفظاعة أمورها وأهوالها. وجوز أن يكون الضمير للأمور المشار إليها فيما قبل من طمس النجوم وفرج السماء ونسف الجبال وتأقيت الرسل وأن يكون للرسل إلّا أن المعنى على نحو ما تقدم. وقيل أن يكون القول المقدر في موضع الحال من مرفوع أُقِّتَتْ أي مقولا فيها لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ وأن تكون الجملة نفسها من غير تقدير قول في موضع المفعول الثاني لأقتت على أنه بمعنى أعلمت كأنه قيل: وإذا الرسل أعلمت وقت تأجيلها أي بمجيئه وحصوله. وجواب إِذَا على الوجهين قيل قوله تعالى الآتي وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وجاء حذف الفاء في مثله. وقيل محذوف لدلالة الكلام عليه أي وقع الفصل أو وقع ما توعدون. واختار هذا أبو حيان ويجوز على احتمال كون الجواب وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أو تقدير المقدر مؤخرا كون جملة لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ اعتراضا لتهويل شأن ذلك اليوم. وقوله تعالى لِيَوْمِ الْفَصْلِ بدل من لِأَيِّ يَوْمٍ مبين له، وقيل: متعلق بمقدر تقديره أجلت ليوم الفصل بين الخلائق وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ أي أي شيء جعلك داريا ما هو على أن ما الأولى مبتدأ وأَدْراكَ خبره، وما الثانية خبر مقدم ويَوْمُ مبتدأ مؤخر لا بالعكس كما اختاره سيبويه لأن محط الفائدة بيان كون يَوْمُ الْفَصْلِ أمرا بديعا لا يقادر قدره ولا يكتنه كنهه كما يفيده خبرية ما لا بيان كون أمر بديع من الأمور يوم الفصل كما يفيده عكسه. ووضع الظاهر موضع الضمير لزيادة التفظيع والتهويل المقصودين من الكلام وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي في ذلك اليوم الهائل ووَيْلٌ في الأصل مصدر بمعنى هلاك وكان حقه النصب بفعل من لفظه أو معناه إلّا أنه رفع على الابتداء للدلالة على ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه ويَوْمَئِذٍ ظرفه أو
صفته فمسوغ الابتداء به ظاهر والمشهور أن مسوغ ذلك كونه للدعاء كما في سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرعد: 24] أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ كقوم نوح وعاد وثمود. وقرأ قتادة «نهلك» بفتح النون على أنه من هلكه بمعنى أهلكه ومنه هالك بمعنى مهلك كما هو الظاهر في قول العجاج:
ومهمه هالك من تعرجا ... هائلة أهواله من أدرجا
لئلا يلزم حذف الضمير مع حرف الجر أعني به أو فيه وليناسب ما في الشطر الثاني ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ بالرفع على الاستئناف وهو وعيد لأهل مكة وإخبار عما يقع بعد الهجرة كبدر كأنه قيل: ثم نحن نفعل بأمثالهم من الآخرين مثل ما فعلنا بالأولين ونسلك بهم سبيلهم لأنهم كذبوا مثل تكذيبهم. ويقويه قراءة عبد الله «ثم سنتبعهم» بسين الاستقبال وجوز العطف على قوله تعالى أَلَمْ نُهْلِكِ إلى آخره. وقرأ الأعرج والعباس عن أبي عمرو «نتبعهم» بإسكان العين فحمل على الجزم والعطف على نُهْلِكِ فيكون المراد بالآخرين المتأخرين هلاكا من المذكورين كقوم لوط وشعيب وموسى عليهم السلام دون كفار أهل مكة لأنهم بعد ما كانوا قد أهلكوا والعطف على نُهْلِكِ يقتضيه. وجوز أن يكون قد سكن تخفيفا كما في وَما يُشْعِرُكُمْ [الأنعام: 109] فهو مرفوع كما في قراءة الجمهور إلّا أن الضمة مقدرة كَذلِكَ مثل ذلك الفعل الفظيع نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أي بكل من أجرم والمراد أن سنتنا جارية على ذلك وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ أهلكناهم لِلْمُكَذِّبِينَ بآيات الله تعالى وأنبيائه عليهم السلام وليس فيه تكرير لما أن الويل الأول لعذاب الآخرة وهذا لعذاب الدنيا. وقيل: لا تكرير لاختلاف متعلق المكذبين في الموضعين بأن يكون متعلقة هنا ما(15/192)
وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
سمعت وفيما تقدم يوم الفصل ونحوه وكذا يقال فيما بعد. وجوز اعتبار الاتحاد والتأكيد أمر حسن لا ضير فيه أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ من نطفة قذرة مهينة وليس فيه دليل على نجاسة المني فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ هو الرحم إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ أي مقدار معلوم عند الله تعالى من الوقت قدره سبحانه للولادة تسعة أشهر أو أقل منها أو أكثر فَقَدَرْنا أي فقدرنا ذلك تقديرا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ أي فنعم المقدرون له نحن.
وجوز أن يكون المعنى فقدرنا على ذلك فنعم القادرون عليه نحن والأول أولى لقراءة عليّ كرم الله تعالى وجهه ونافع والكسائي «فقدّرنا» بالتشديد ولقوله تعالى مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ [عبس: 19] ولقوله سبحانه إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ فزاده تفخيما بأن جعلت الغاية مقصودة بنفسها، فقيل: فقدنا ذلك تقديرا أي تقديرا دالا على كمال القدرة وكمال الرحمة على أن حديث القدرة قد تم في قوله تعالى أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ وقول الطيبي في ترجيح الثاني إثبات القدرة أولى لأن الكلام مع المنكرين لا وجه له إذ لا أحد ينكر هذه القدرة ولو سلم فقد قرروا بها بقوله تعالى أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ فتأمل. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي بقدرتنا على ذلك أو الإعادة أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً الكفات اسم جنس أو اسم آلة لما يكفت أي يضم ويجمع من كفت الشيء إذا ضمه وجمعه كالضمام والجماع لما يضم ويجمع، وأنشدوا قول الصمصامة بن الطرماح:
فأنت اليوم فوق الأرض حي ... وأنت غدا تضمك في كفات
وعن أبي عبيدة تفسيره بالوعاء وقوله تعالى أَحْياءً وَأَمْواتاً مفعول محذوف لا «لكفاتا» لأن اسم الجنس وكذا اسم الآلة كما صرح به النحاة لا يعمل أي ألم نجعلها كفاتا تكفت وتجمع أحياء كثيرة على ظهرها وأمواتا غير محصورة في بطنها. وقيل: هو مصدر كالقتال نعت به للمبالغة فلا يحتاج إلى تقدير فعل.
وقيل: جمع كافت كصيام وصائم فلا يحتاج إلى تقدير أيضا، أو جمع كفت بكسر الكاف وسكون الفاء وهو الوعاء كقدح وقداح وأجرى على الأرض مع جمعه وإفرادها باعتبار أقطارها. وجوز انتصاب الجمعين على الحالية من مفعول كِفاتاً المحذوف والتقدير كفاتا إياهم أو إياكم أو كفاتا الأنس أَحْياءً وَأَمْواتاً أو من مفعول حذف مع فعله أي كِفاتاً تكفتهم أو تكفتكم أو تكفت الإنس أَحْياءً وَأَمْواتاً وأن يكون انتصابهما على المفعولية لنجعل بتقدير مضاف أي ذات أحياء وأموات أو على أن المراد بأمواتا الأرض الموات على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد، وبأحياء ما يقابلها. وانتصاب كِفاتاً على الحالية من الأرض وأنت تعلم أن انتصابهما على المفعولية أظهر وبعده انتصابهما على الحالية من محذوف وتنوينهما على ما سمعت أولا للتكثير وجوز أن يكون للتبعيض بإرادة أحياء الإنس وأمواتهم وهم ليسوا بجميع الأحياء والأموات ولا ينافي ذلك التفخيم نظرا إلى أنه بعض غير محصور كثير في نفسه فلا تغفل. واستدل الكيا بالآية على وجوب مواراة الميت ودفنه. وقال ابن عبد البر: احتج ابن القاسم بها على قطع النباش لأنه تعالى جعل القبر للميت كالبيت للحيّ فيكون حرزا ولا يخفى ضعف الاستدلالين.(15/193)
وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ أي جبالا ثوابت شامِخاتٍ مرتفعات، ومنه شمخ بأنفه. ووصف جمع المذكر بجمع المؤنث في غير العقلاء مطرد ك أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [البقرة: 197] وتنكيرها للتفخيم أو للإشعار بأن في الأرض جبالا لم تعرف ولم يوقف عليها، فأرض الله تعالى واسعة وفيها ما لم يعلمه إلّا الله عز وجل.
وقيل للإشعار بأن في الجبال ما لم يعرف وهو الجبال السماوية وهو مما يوافق أهل الفلسفة الجديدة إذ قالوا بوجود جبال كثيرة في القمر وظنوا وجودها في غيره وتعقب بأنه تفسير بما لم يعرف وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً أي عذبا وذلك بأن خلقناه في أصولها وأجريناه لكم منها في أنهار وأنبعناه في منابع تستمد مما استودعناه فيها وقد يفسر بما هو أعم من ذلك والماء المنزل من السماء وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بأمثال هذه النعم العظيمة انْطَلِقُوا أي يقال لهم يومئذ للتوبيخ والتقريع انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ في الدنيا من العذاب انْطَلِقُوا أي خصوصا فليس تكرارا للأول وقيل هو تكرار له وإن قيد بقوله تعالى إِلى ظِلٍّ هو ظل دخان جهنم كما قاله جمهور المفسرين فهو كقوله تعالى وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ [الواقعة: 43] وفيه استعارة تهكمية، وقرأ رويس عن يعقوب «انطلقوا» بصيغة الماضي وهو استئناف بياني كأنه قيل فما كان بعد الأمر فقيل انطلقوا إلى ظل ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ متشعب لعظمه ثلاث شعب كما هو شأن الدخان العظيم تراه يتفرق تفرق الذوائب. وفي بعض الآثار يخرج لسان من النار فيحيط بالكفار كالسرادق ويتشعب من دخانها ثلاث شعب فتظلهم حتى يفرغ من حسابهم والمؤمنون في ظل العرش. وخصوصية الثلاث قيل إما لأن حجاب النفس عن أنوار القدس الحس والخيال والوهم أو لأن المؤدي إلى هذا العذاب هو القوة الوهمية الشيطانية الحالّة في الدماغ والقوة الغضبية السبعية التي عن يمين القلب والقوة الشهوية البهيمية التي عن يساره، ولذلك قيل تقف شعبة فوق الكافر وشعبة عن يمينه وشعبة عن يساره. وقيل لأن تكذيبهم بالعذاب يتضمن تكذيب الله تعالى وتكذيب رسوله صلّى الله عليه وسلم فهناك ثلاثة تكذيبات. واعتبر بعضهم التكذيب بالعذاب أصلا والشعب الثلاث التكذيبان المذكوران وتكذيب العقل الصريح فتأمل. وعن ابن عباس يقال ذلك لعبدة الصليب فالمؤمنون في ظل الله عز وجل وهم في ظل معبودهم وهو الصليب له ثلاث شعب لا ظَلِيلٍ أي لا مظلل وهو صفة ثانية لظل ونفى كونه مظللا عنه والظل لا يكون إلّا مظللا للدلالة على أن جعله ظلا تهكم بهم ولأنه ربما يتوهم أن فيه راحة لهم فنفى هذا الاحتمال بذلك وفيه تعريض بأن ظلهم غير ظل المؤمنين وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ وغير مفيد في وقت من الأوقات من حر اللهب شيئا وعدّي يغني بمن لتضمنه معنى يبعد واشتهر أن هذه الآية تشير إلى قاعدة هندسية وهي أن الشكل المثلث لا ظل له فانظر هل تتعقل ذلك إِنَّها أي النار الدال عليها الكلام وقيل الضمر للشعب تَرْمِي بِشَرَرٍ هو ما تطاير من النار سمّي بذلك لاعتقاد الشر فيه وهو اسم جنس جمعي واحده شررة كَالْقَصْرِ كالدار الكبيرة المشيدة والمراد كل شررة كذلك في العظم ويدل على إرادة ذلك ما بعد ويؤيده قراءة ابن عباس وابن مقسم «بشرار» بكسر الشين وألف بين الراءين فإن الظاهر أنه جمع شررة كرقبة(15/194)