ويشاء ما لا يفعلون سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي أبعد من هذه قدرته وعظمته عن إشراكهم أو عما يشركونه من الشركاء- فسبحان- للتعجب وتتعلق به (عن) بالتأويل بما ذكر وما تحتمل المصدرية والموصولية وَنُفِخَ فِي الصُّورِ المشهور أن النافخ فيه ملك واحد وأنه إسرافيل عليه السلام بل حكى القرطبي الإجماع عليه. وفي حديث أخرجه ابن ماجة والبزار وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري مرفوعا أن النافخ اثنان، ويدل عليه أيضا أخبار أخر، منها ما
أخرجه أحمد. والحاكم عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «النافخان في السماء الثانية رأس أحدهما بالمشرق ورجلاه بالمغرب ينتظران متى يؤمران أن ينفخا في الصور فينفخا»
وفي بعض الآثار ما يدل على أنه واحد وأنه شاخص ببصره أي إسرافيل عليه السلام ما طرف منذ خلقه الله تعالى ينتظر حتى يشير إليه فينفخ في الصور. والصور قرن عظيم فيه ثقب بعدد كل روح مخلوقة ونفس منفوسة. وأخرج أبو الشيخ عن وهب أنه من لؤلؤة بيضاء في صفاء الزجاجة به ثقب دقيقة بعدد الأرواح وفي وسطه كوة كاستدارة السماء والأرض ونحن نؤمن به ونفوض كيفيته إلى علام الغيوب جل شأنه. وأنكر بعضهم ذلك وقال: هو جمع صورة كما في قراءة قتادة وزيد بن علي «في الصور» بفتح الواو وقد مر الكلام في ذلك، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع، وبني الفعل للمفعول لعدم تعلق الغرض بالفاعل بل الغرض إفادة هذا الفعل من أي فاعل كان فكأنه قيل: ووقع النفخ في الصور فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ أي ماتوا بسبب ذلك، ويحتمل أنهم يغشى عليهم أولا ثم يموتون، ففي الأساس صعق الرجل إذا غشي عليه من هدة أو صوت شديد يسمعه وصعق إذا مات.
وفي صحيح مسلم من حديث طويل فيه ذكر الدجال «ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا فأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله فيصعق ويصعق الناس»
وقرىء «فصعق» بضم الصاد إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ قال السدي: جبريل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت عليهم السلام، وقيل: هم وحملة العرش فإنهم يموتون بعد، وفي ترتيب موتهم اضطراب مذكور في الدر المنثور، وقيل: رضوان والحور ومالك والزبانية وروي ذلك عن الضحاك، وقيل: من مات قبل ذلك أي يموت من في السماوات والأرض إلا من سبق موته لأنهم كانوا قد ماتوا قال في البحر: وهذا نظير لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان: 56] ومن الغريب ما حكي فيه أن المستثنى هو الله عزّ وجلّ، ولا يخفى عليك حاله متصلا كان الاستثناء أم منقطعا، وقيل: هو موسى عليه السلام وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى في تحقيق ذلك، وقيل غير ذلك.
ويراد بالسماوات على أكثر الأقوال جهة العلو وإلا لم يتصل الاستثناء فإن حملة العرش مثلا ليسوا في السماوات بالمعنى المعروف، وقيل: إنه لم يرد في التعيين خبر صحيح ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أي في الصور وهو ظاهر في أنه ليس بجمع وإلا لقيل فيها أُخْرى أي نفخة أخرى، وهو يدل على أن المراد بالأول ونفخ في الصور نفخة واحدة كما صرح به في مواضع لأن العطف يقتضي المغايرة فلو أريد المطلق الشامل للأخرى لم يكن لذكرها هاهنا وجه، وأُخْرى تحتمل النصب على أنها صفة مصدر مقدر أي نفخة أخرى، والرفع على أنها صفة لنائب الفاعل، وعلى الأول كان النائب عنه الظرف. وصح في صحيحي البخاري ومسلم أن الله تعالى ينزل بين النفختين ماء من السماء.
جاء في بعض الروايات أنه كالطل بالمهملة وفي بعضها كمني الرجال فتلبث منه أجساد الناس وإن بين النفختين أربعين وهذا عن أبي هريرة مرفوعا ولم يبين فيه ما هذه الأربعون.
وفي حديث أخرجه أبو داود أنها أربعون عاما، وأخرج عبد بن حميد عن عبد الله بن العاص (1) قال: ينفخ في
__________
(1) قوله عبد الله بن العاص هكذا في خط المؤلف وفي الدر المنثور «عبد الله بن العاصي» ولعله عبد الله بن عمرو بن العاص.(12/282)
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
الصور النفخة الأولى من باب إيلياء الشرقي أو قال الغربي والنفخة الثانية من باب آخر فَإِذا هُمْ قِيامٌ قائمون من قبورهم يَنْظُرُونَ أي ينتظرون ما يؤمرون أو ينتظرون ماذا يفعل بهم، وقيل: يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب عظيم. وتعقب بأن قولهم عند قيامهم مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا يأباه ظاهرا نوع إباء.
وجوز أن يكون قيام من القيام مقابل الحركة أي فإذا هم متوقفون جامدون في أمكنتهم لتحيرهم. واعترض بأن قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [يس: 51] ظاهر في خلافه لأن النسل الإسراع في المشي، وكذا قوله تعالى: يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [المعارج: 43] وقرأ زيد بن علي «قياما» بالنصب على أن جملة يَنْظُرُونَ خبرهم «وقياما» حال من ضمير يَنْظُرُونَ قدم للفاصلة، أو من المبتدأ عند من يجوز ذلك. وفي البحر النصب على الحال وخبر المبتدأ الظرف الذي هو (إذا) الفجائية وهي حال لا بد منها إذ هي محط الفائدة إلا أن يقدر الخبر محذوفا أي فإذا هم مبعوثون أو موجودون قياما، وإذا نصب «قياما» على الحال فالعامل فيها ذلك الخبر المحذوف إن قلنا به وإلا فالعامل هو العامل في الظرف فإن كان (إذا) ظرف مكان على ما يقتضيه ظاهر كلام سيبويه فتقديره فبالحضرة هم قياما، وإن كان ظرف زمان كما ذهب إليه الرياشي فتقديره ففي ذلك الزمان الذي نفخ فيه هم أي وجودهم، واحتيج إلى تقديره هذا المضاف لأن ظرف الزمان لا يكون خبرا عن الجثة، وإن كانت (إذا) حرفا كما زعم الكوفيون فلا بد من تقدير الخبر إلا أن اعتقدنا أن يَنْظُرُونَ هو الخبر ويكون عاملا في الحال انتهى. ولعمري إنّ مذهب الكوفيين أقل تكلفا، هذا وهاهنا إشكال بناء على أنهم فسروا نفخة الصعق بالنفخة الأولى التي يموت بها من بقي على وجه الأرض. فانه
قد أخرج البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه والإمام أحمد وغيرهم عن أبي هريرة قال: «قال رجل من اليهود بسوق المدينة:
والذي اصطفى موسى على البشر فرفع رجل من الأنصار يده فلطمه قال: أتقول هذا وفينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فذكرت ذلك لرسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: قال الله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ فأكون أول من يرفع رأسه فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أرفع رأسه قبلي أو كان ممن استثنى الله تعالى»
وهو يأبى تفسير النفخة بذلك ضرورة أن موسى عليه السلام قد مات قبل تلك النفخة بألوف سنين، واحتمال أنه عليه السلام لم يمت كما قيل في الخضر وإلياس مما لا ينبغي أن يتفوه به حي، ويدل كما قال بعض الأجلة: على أنها نفخة البعث.
وقال القاضي عياض: يحتمل أن تكون هذه صعقة فزع بعد النشر حين تنشق السماوات فتتوافق الآيات والأحاديث وتكون النفخات ثلاثا وهو اختيار ابن العربي. ورده القرطبي بأن أخذ موسى عليه السلام بقائمة العرش إنما هو عند نفخة البعث وادعى أن الصحيح أن ليس إلا نفختان لا ثلاث ولا أربع كما قيل.
ثم قال: والذي يزيح الإشكال ما قال بعض مشايخنا: إن الموت ليس بعدم محض بالنسبة للأنبياء عليهم السلام والشهداء فإنهم موجودون أحياء وإن لم نرهم فإذا نفخت نفخة الصعق صعق كل من في السماء والأرض وصعقة غير الأنبياء موت وصعقتهم غشي فإذا كانت نفخة البعث عاش من مات وأفاق من غشى عليه، ولذا وقع في الصحيحين فأكون أول من يفيق انتهى، ولا يخفى أنه يحتاج إلى القول بجواز استعمال المشترك في معنييه معا أو إلى ارتكاب عموم المجاز أو التزام إرادة غشي عليهم وأن موت من يموت بعد الغشي مفاد من أمر آخر فتدبر.(12/283)
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ أي أرض المحشر وهي الأرض المبدلة من الأرض المعروفة. وفي الصحيح يحشر الناس على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها علم لأحد وهي أوسع بكثير من الأرض المعروفة. وفي بعض الروايات أنها يومئذ من فضة ولا يصح، أي أضاءت بِنُورِ رَبِّها هو على ما روي عن ابن عباس نور يخلقه الله تعالى بلا واسطة أجسام مضيئة كشمس وقمر، واختاره الإمام وجعل الإضافة من باب ناقَةُ اللَّهِ [الأعراف: 73، هود: 64، الشمس: 13] وعن محيي السنة تفسيره بتجلي الرب لفصل القضاء، وعن الحسن والسدي تفسيره بالعدل وهو من باب الاستعارة وقد استعير لذلك وللقرآن والبرهان في مواضع من التنزيل أي وأشرقت الأرض بما يقيمه فيها من الحق والعدل ويبسطه سبحانه من القسط في الحساب ووزن الحسنات والسيئات، واختار هذا الزمخشري وصحح أولا تلك الاستعارة بتكررها في القرآن العظيم، وحققها ثانيا بقوله: وينادي على ذلك إضافته إلى اسمه تعالى لأنه عزّ وجلّ هو الحق العدل إشارة إلى الصارف إلى التأويل، وعينها ثالثها بإضافة اسمه تعالى الرب إلى الأرض لأن العدل هو الذي يتزين به الأرض لا البرهان مثلا، ورابعا بما عطف على إشراق الأرض من وضع الكتاب والمجيء بالنبيين والشهداء والقضاء بالحق لأنه كله تفصيل العدل بالحقيقة، وأيدها خامسا بالعرف العام فإن الناس يقولون للملك العادل:
أشرقت الآفاق بعد لك وأضاءت الدنيا بقسطك، وسادسا
بقوله صلّى الله عليه وسلم: «الظلم ظلمات يوم القيامة»
فإنه يقتضي أن يكون العدل نورا فيه، وسابعا بأن فتح الآية وختمها بنفي الظلم يدل عليه ليكون من باب رد العجز على الصدر على طريقة الطرد والعكس. ورجح ما اختاره الإمام بأن الأصل الحقيقة ولا صارف لأن الإضافة تصح بأدنى ملابسة، وأيد ما حكي عن محيي السنة ببعض الأحاديث.
وتعقب ذلك صاحب الكشف فقال: إن إضافة الملابسة مجاز (1) والترجيح لما اختاره جار الله لما ذكر من الفوائد ولأنه الشائع في استعمال القرآن، ألا ترى إلى قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النور: 35] وأما تجلي الرب سبحانه فسواء حمل على تجلي الجلال أو تجلي الجمال لا يقتضي إشراق الأرض بنور إلا بأحد المعنيين أعني العدل أو عرضا يخلقه الله تعالى عند التجلي في الأرض فلو توهم من تجليه تعالى أنه ينعكس نور منه على الأرض لاستحال إلا بالتفسير المذكور فليس قولا ثالثا لينصر ويؤيد بالحديث الذي لا يدل على أنه تفسير الآية
__________
(1) هو اختيار لأحد قولين في المسألة اه منه.(12/284)
المشتمل على حديث الرؤية وإلقاء ستره تعالى على العبد يذكر ما فعل به وما جنى انتهى، ولعل الأوفق بما يشعر به كثير من الأخبار أن قوله سبحانه: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها إشارة إلى تجليه عزّ وجلّ لفصل القضاء وقد يعبر عنه بالإتيان، وقد صرح به في قوله تعالى: يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة: 210] ولم يتأول ذلك السلف بل أثبتوه له سبحانه كالنزول على الوجه الذي أثبته عزّ وجلّ لنفسه.
ولا يبعد أن يكون هذا النور هو النور الوارد
في الحديث الصحيح «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور»
ويقال فيه كالحجاب نحو ما قال السلف في سائر المتشابهات أو هو نور آخر يظهر عند ذلك التجلي، ولا أقول: هو نور منعكس من الذات المقدس انعكاس نور الشمس مثلا من الشمس بل الأمر فوق ما تنتهي إليه العقول، وأنى وهيهات وكيف ومتى يتصور إلى حقيقة ذلك الوصول، ويومىء إلى أن ذلك التجلي مقرون بالعدل التعبير بعنوان الربوبية مضافا إلى ضمير الأرض والله تعالى أعلم بمراده. وقرأ ابن عباس وعبيد بن عمير وأبو الجوزاء أَشْرَقَتِ بالبناء للمفعول قال الزمخشري: من شرقت بالضوء تشرق إذا امتلأت به واغتصت وأشرقها الله تعالى كما تقول: ملأ الأرض عدلا وطبقها عدلا، وقال ابن عطية: هذا إنما يترتب من فعل يتعدى فهذا على أن يقال: أشرق البيت وأشرقه السراج فيكون الفعل مجاوزا وغير مجاوز، وقال صاحب اللوامح وجب أن يكون الإشراق على هذه القراءة منقولا من شرقت الشمس إذا طلعت فيصير متعديا والمعنى أذهبت ظلمة الأرض، ولا يجوز أن يكون من أشرقت إذا أضاءت فإن ذلك لازم وهذا قد يتعدى إلى المفعول وَوُضِعَ الْكِتابُ قال السدي الحساب، فالكتاب مجاز عن الحساب ووضعه ترشيح له، والمراد به الشروع فيه ويجوز جعل الكلام تمثيلا.
وقال بعضهم: صحائف الأعمال وضعت بأيدي العمال فالتعريف للجنس أو الاستغراق، وقيل: اللوح المحفوظ وضع ليقابل به الصحائف فالتعريف للعهد، وروي هذا القول عن ابن عباس، واستبعده أبو حيان وقال: لعله لا يصح عن ابن عباس وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ قيل ليسألوا هل بلغوا أممهم؟ وقيل: ليحضروا حسابهم وَالشُّهَداءِ قال عطاء ومقاتل وابن زيد: الحفظة، وكأنهم أرادوا أنهم يشهدون على كل من الأمم أنهم بلغوا أو يشهدون على كل بعمله كما قال سبحانه: وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق: 21]
وفي بعض الآثار أنه يؤتى باللوح المحفوظ وهو يرتعد فيقال له: هل بلغت إسرافيل؟ فيقول: نعم يا رب بلغته فيؤتى بإسرافيل وهو يرتعد فيقال له: هل بلغك اللوح؟
فيقول: نعم يا رب فعند ذلك يسكن روع اللوح ثم يقال لإسرافيل فأنت هل بلغت جبرائيل؟ فيقول: نعم يا رب فيؤتى بجبرائيل وهو يرتعد فيقال له: هل بلغك إسرافيل؟ فيقول: نعم يا رب فعند ذلك يسكن روع إسرافيل ثم يقال لجبرائيل: فأنت هل بلغت؟ فيقول: نعم يا رب فيؤتى بالمرسلين وهم يرتعدون فيقال لهم: هل بلغكم جبرائيل؟
فيقولون: نعم فيسكن عند ذلك روع جبرائيل ثم يقال لهم: فأنتم هل بلغتم؟ فيقولون: نعم فيقال للأمم: هل بلغكم الرسل؟ فيقول كفرتهم: ما جاءنا من بشير ولا نذير فيعظم على الرسل الحال ويشتد البلبال فيقال لهم: من يشهد لكم؟
فيقولون: النبي الأمي وأمته فيؤتى بالأمة المحمدية فيشهدون لهم أنهم بلغوا فيقال لهم: من أين علمتم ذلك؟ فيقولون:
من كتاب أنزله الله تعالى علينا ذكر سبحانه فيه أن الرسل بلغوا أممهم ويزكيهم النبي عليه الصلاة والسلام
وذلك قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة: 143] ومن هنا قيل: المراد بالشهداء في الآية أمة نبينا صلّى الله عليه وسلم، وقال الجبائي وأبو مسلم هم عدول الآخرة يشهدون للأمم وعليهم، وقيل: جميع الشهداء من الملائكة وأمة محمد عليه الصلاة والسلام والجوارح والمكان، وأيا ما كان فالشهداء جمع(12/285)
شاهد، وقال قتادة والسدي: المراد بهم المستشهدون في سبيل الله تعالى فهو جمع شهيد وليس بذاك وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي بين العباد المفهوم من السياق بِالْحَقِّ بالعدل وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ بنقص ثواب أو زيادة عقاب على ما جرى به الوعد بناء على أن الظلم حقيقة لا يتصور في حقه تعالى فإن الأمر كله له عزّ وجلّ.
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ أي أعطيت جزاء ذلك كاملا وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ فلا يفوته سبحانه شيء من أعمالهم، وقوله تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً إلخ تفصيل للتوفية وبيان لكيفيتها، والفاء ليس بلازم، والسوق يقتضي الحث على المسير بعنف وإزعاج وهو الغالب ويشعر بالإهانة وهو المراد هنا أي سيقوا إليها بالعنف والإهانة أفواجا متفرقة بعضها في أثر بعض مترتبة حسب ترتب طبقاتهم في الضلالة والشرارة، والزمر جمع زمرة قال الراغب: هي الجماعة القليلة: ومنه قيل شاة زمرة قليلة الشعر ورجل زمر قليل المروءة، ومنه اشتق الزمر، والزمارة كناية عن الفاجرة، وقال بعضهم: اشتقاق الزمرة من الزمر وهو الصوت إذ الجماعة لا تخلو عنه حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها ليدخلوها وكانت قبل مجيئهم غير مفتوحة فهي كسائر أبواب السجون لا تزال مغلقة حتى يأتي أصحاب الجرائم الذين يسجنون فيها فتفتح ليدخلوها فإذا دخلوها أغلقت عليهم، وحَتَّى هي التي تحكى بعدها الجملة، والكلام على إذا الواقعة بعدها قد مر في الأنعام. وقرأ غير واحد «فتحت» بالتشديد وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها على سبيل التقريع والتوبيخ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ أي من جنسكم تفهمون ما ينبؤونكم به ويسهل عليكم مراجعتهم.
وقرأ ابن هرمز «تأتكم» بتاء التأنيث، وقرىء «نذر منكم» يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ المنزلة لمصلحتكم وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي وقتكم هذا وهو وقت دخولكم النار لأن المنذر به في الحقيقة العذاب ووقته، وجوز أن يراد به يوم القيامة والآخرة لاشتماله على هذا الوقت أو على ما يختص بهم من عذابه وأهواله، ولا ينافيه كونه في ذاته غير مختص بهم والإضافة لامية تفيد الاختصاص لأنه يكفي للاختصاص ما ذكر، نعم الأول أظهر فيه.
واستدل بالآية على أنه لا تكليف قبل الشرع لأنهم وبخوهم بكفرهم بعد تبليغ الرسل للشرائع وإنذارهم ولو كان قبح الكفر معلوما بالعقل دون الشرع لقيل. ألم تعلموا بما أودع الله تعالى فيكم من العقل قبح كفركم، ولا وجه لتفسير الرسل بالعقول لإباء الأفعال المستندة إليها عن ذلك، نعم هو دليل إقناعي لأنه إنما يتم على اعتبار المفهوم وعموم الذين كفروا وكلاهما محل نزاع، وقيل في وجه الاستدلال: إن الخطاب للداخلين عموما يقتضي أنهم جميعا أنذرهم الرسل ولو تحقق تكليف قبل الشرع لم يكن الأمر كذلك. وتعقب بأن للخصم أن لا يسلم العموم، ولمن قال بوجوب الإيمان عقلا أن يقول: إنما وبخوهم بالكفر بعد التبليغ لأنه أبعد عن الاعتذار وأحق بالتوبيخ والإنكار قالُوا بَلى قد أتانا رسل منا تلوا علينا آيات ربنا وأنذرونا لقاء يومنا هذا وَلكِنْ حَقَّتْ أي وجبت كَلِمَةُ الْعَذابِ أي كلمة الله تعالى المقتضية له عَلَى الْكافِرِينَ والمراد بها الحكم عليهم بالشقاوة وأنهم من أهل النار لسوء اختيارهم أو قوله تعالى لإبليس: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 85] ووضعوا الكافرين موضع ضميرهم للإيماء إلى عليّة الكفر، والكلام اعتراف لا اعتذار قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أي مقدرا خلودكم فيها، والقائل يحتمل أن يكون الخزنة وترك ذكرهم للعلم به مما قبل، ويحتمل أن يكون غيرهم ولم يذكر لأن المقصود ذكر هذا المقول المهول من غير نظر إلى قائله وقال بعض الأجلة: أبهم القائم لتهويل المقول.
فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ أل فيه سواء كانت حرف تعريف أم اسم موصول للجنس وفاء بحق فاعل باب نعم وبئس والمخصوص بالذم محذوف ثقة بذكره آنفا أي فبئس مثواهم جهنم والتعبير بالمثوى لمكان خالِدِينَ وفي(12/286)
التعبير بالمتكبرين إيماء إلى أن دخولهم النار لتكبرهم عن قبول الحق والانقياد للرسل المنذرين عليهم الصلاة والسلام وهو في معنى التعليل بالكفر، ولا ينافي تعليل ذلك بسبق كلمة العذاب عليهم لأن حكمه تعالى وقضاءه سبحانه عليهم بدخول النار ليس إلا بسبب تكبرهم وكفرهم لسوء اختيارهم المعلوم له سبحانه في الأزل، وكذا قوله عزّ وجلّ لأملأن فهناك سببان قريب وبعيد والتعليل بأحدهما لا ينافي التعليل بآخر فتذكر وتدبر.
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً جماعات مرتبة حسب ترتب طبقاتهم في الفضل،
وفي صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أول زمرة تدخل الجنة من أمتي على صورة القمر ليلة البدر ثم الذين يلونهم على أشد نجم في السماء إضاءة ثم هم بعد ذلك منازل»
والمراد بالسوق هنا الحث على المسير للإسراع إلى الإكرام بخلافه فيما تقدم فإنه لإهانة الكفرة وتعجيلهم إلى العقاب والآلام واختير للمشاكلة، وقوله سبحانه: إِلَى الْجَنَّةِ يدفع إيهام الإهانة مع أنه قد يقال: إنهم لما أحبوا لقاء الله تعالى أحب الله تعالى لقاءهم فلذا حثوا على دخول دار كرامته جل شأنه قاله بعض الأجلة، واختار الزمخشري أن المراد هنا بسوقهم سوق مراكبهم لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين، وهذا السوق والحث أيضا للإسراع بهم إلى دار الكرامة.
وتعقب بأنه لا قرينة على إرادة ذلك وكون جميع المتقين لا يذهب بهم إلا راكبين يحتاج إلى دليل، والاستدلال بقوله تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً [مريم: 85] لا يتم إلا على القول بأن الوفد لا يكونون إلا ركبانا وأن الركوب يستمر لهم إلى أن يدخلوا الجنة، وفي الكشف أنه تفسير ظاهر يؤيده الأحاديث الكثيرة ويناسب المقام لأن السوقين بعد فصل القضاء واللطف الخالص في شأن البعض والقهر الخالص في شأن البعض ولا ينافي مقام عظمة مالك الملوك على ما توهم انتهى، وأقول: إن حمل الذين اتقوا على المخلصين فالقول بركوبهم قول قوي وإن حمل على المحترز عن الشرك خاصة ليشمل المخلصين فالقول بذلك قول ضعيف إذ منهم من لا يدخل الجنة إلا بعد أن يدخل النار ويعذب فيها، وظاهر كثير من الأخبار أن من هذا الصنف من يذهب إلى الجنة مشيا.
ففي صحيح مسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «آخر من يدخل الجنة رجل فهو يمشي مرة ويكبو أخرى وتسفعه النار مرة فإذا ما جاوزها التفت إليها فقال تبارك الذي نجاني منك لقد أعطاني الله تعالى شيئا ما أعطاه أحدا من الأولين والآخرين فترفع له شجرة فيقول: أي رب أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها فأشرب من مائها فيقول الله تعالى: يا ابن آدم لعلي أن أعطيتكها سألتني غيرها فيقول: لا يا رب ويعاهده أن لا يسأله غيرها وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه فيدنيه» الحديث
، وقال بعض العارفين: إن المتقين يساقون إلى الجنة لأنهم قد رأوا الله تعالى في المحشر فلرغبتهم في رؤيته عزّ وجلّ ثانيا لا يحبون فراق ذلك الموطن الذي رأوه فيه ولشدة حبهم وشغفهم لا يكاد يخطر لهم أنهم سيرونه سبحانه إذا دخلوا الجنة، والمحبة إذا عظمت فعلت بصاحبها أعظم من ذلك وأعظم فكأنها غلبتهم حتى خيلت إليهم أن ذلك الموطن هو الموطن الذي يرى فيه عزّ وجلّ وهو محل تجليه على محبيه جل جلاله وعظم نواله فأحجموا عن المسير ووقفوا منتظرين رؤية اللطيف الخبير وغدا لسان حال كل منهم يقول:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم
ويدل على رؤيتهم إياه عزّ وجلّ هناك ما
في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: «إن أناسا قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تضارون في القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا يا رسول الله قال: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا قال: فإنكم ترونه كذلك يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه فيتبع من يعبد الشمس الشمس ويتبع من يعبد القمر القمر ويتبع من يعبد الطواغيت(12/287)
الطواغيت وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله تبارك وتعالى في صورة غير الصورة التي يعرفون فيقول: أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول: أنا ربكم فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم فأكون أنا وأمتي أول من يجيز ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ودعوى الرسل يومئذ اللهم سلم سلم» الحديث
، ومع هذا فسوقهم ليس كسوق الذين كفروا كما لا يخفى.
وقيل: السائق للكفرة ملائكة الغضب والسائق للمتقين شوقهم إلى مولاهم فهو سبحانه لهم غاية الإرب، وليست الجنة عندهم هي المقصودة بالذات ولا مجرد الحلول بها أقصى اللذات وإنما هي وسيلة للقاء محبوبهم الذي هو نهاية مطلوبهم حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وقرىء بالتشديد، والواو وللحال والجملة حالية بتقدير قد على المشهور أي جاؤوها وقد فتحت لهم أبوابها كقوله تعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ [ص: 50] ويشعر ذلك بتقدم الفتح كأن خزنة الجنات فتحوا أبوابها ووقفوا منتظرين لهم، وهذا كما تفتح الخدم باب المنزل للمدعو للضيافة قبل قدومه وتقف منتظرة له، وفي ذلك من الاحترام والإكرام ما فيه، والظاهر أن قوله تعالى: وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها إلخ عطف على فُتِحَتْ أَبْوابُها وجواب إِذا محذوف مقدر بعد خالِدِينَ للإيذان بأن لهم حينئذ من فنون الكرامات ما لا يحيط به نطاق العبارات كأنه قيل: إذا جاؤوها مفتحة لهم أبوابها وقال لهم خزنتها سَلامٌ عَلَيْكُمْ أي من جميع المكاره والآلام وهو يحتمل الإخبار والإنشاء.
طِبْتُمْ أي من دنس المعاصي، وقيل: طبتم نفسا بما أتيح لكم من النعيم المقيم، والأول مروي عن مجاهد وهو الأظهر، والجملة في موضع التعليل فَادْخُلُوها خالِدِينَ أي مقدرين الخلود كان ما كان مما يقصر عنه البيان أو فازوا بما لا يعد ولا يحصى من التكريم والتعظيم، وقدره المبرد سعدوا بعد خالِدِينَ أيضا، ومنهم من قدره قبل وَفُتِحَتْ أي حتى إذا جاؤوها جاؤوها وقد فتحت وليس بشيء، ومنهم من قدره نحو ما قلنا قبل وَقالَ وجعل جملة «قال» إلخ معطوفة عليه، وما تقدم أقوى معنى وأظهر.
وقال الكوفيون: واو وَفُتِحَتْ زائدة والجواب جملة فُتِحَتْ وقيل: الجواب قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها والواو زائدة، والمعول عليه ما ذكرنا أولا وبه يعلم وجه اختلاف الجملتين أعني قوله تعالى في أهل النار: حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وقوله جل شأنه في أهل الجنة: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها حيث جيء بواو في الجملة الثانية وحذف الجواب ولم يفعل كذلك في الجملة الأولى، فما قيل: إن الواو في الثانية واو الثمانية لأن المفتح ثمانية أبواب ولما كانت أبواب النار سبعة لا ثمانية لم يؤت بها وجه ضعيف لا يعول عليه.
واستدل المعتزلة بقوله: طِبْتُمْ فَادْخُلُوها حيث رتب فيه الأمر بالدخول على الطيب والطهارة من دنس المعاصي على أن أحدا لا يدخل الجنة إلا وهو طيب طاهر من المعاصي إما لأنه لم يفعل شيئا منها أو لأنه تاب عما فعل توبة مقبولة في الدنيا. ورد بأنه وإن دل على أن أحدا لا يدخلها إلا وهو طيب لكن قد يحصل ذلك بالتوبة المقبولة وقد يكون بالعفو عنه أو الشفاعة له أو بعد تمحيصه بالعذاب فلا متمسك فيها للمعتزلة.
وقيل: المراد بالذين اتقوا المحترزون عن الشرك خاصة فطبتم على معنى طبتم عن دنس الشرك ولا خلاف في أن دخول الجنة مسبب عن الطيب والطهارة عنه. وتعقب بأن ذاك خلاف الظاهر لأن التقوى في العرف الغالب تقع على أخص من ذلك لا سيما في معرض الإطلاق والمدح بما عقبه من قوله تعالى: فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ فتدبر وَقالُوا عطف على قالَ أو على الجواب المقدر بعد خالِدِينَ أو على مقدر غيره أي فدخلوها وقالوا:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ بالبعث والثواب وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ يريدون المكان الذي استقروا فيه فإن كانت(12/288)
أرض الآخرة التي يمشي عليها تسمى أرضا حقيقة فذاك وإلا فإطلاقهم الأرض على ذلك من باب الاستعارة تشبيها له بأرض الدنيا، والظاهر الأول، وحكي عن قتادة وابن زيد والسدي أن المراد أرض الدنيا وليس بشيء، وإيراثها تمليكها مخلفة عليهم من أعمالهم أو تمكينهم من التصرف فيها تمكين الوارث فيما يرثه بناء على أنه لا ملك في الآخرة لغيره عزّ وجلّ وإنما هو إباحة التصرف والتمكين مما هو ملكه جل شأنه، وقيل: ورثوها من أهل النار فإن لكل منهم مكانا في الجنة كتب له بشرط الإيمان.
نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ أي يتبوأ كل منا في أي مكان أراده من جنته الواسعة لا أن كلا منهم يتبوأ في أي مكان من مطلق الجنة أو من جنات غيره المعينة لذلك الغير، فلا يقال: إنه يلزم جواز تبوء الجميع في مكان واحد وحدة حقيقة وهو محال أو أن يأخذ أحدهم جنة غيره وهو غير مراد، وقيل: الكلام على ظاهره ولكل منهم أن يتبوأ في أي مكان شاء من مطلق الجنة ومن جنات غيره إلا أنه لا يشاء غير مكانه لسلامة نفسه وعصمة الله تعالى له عن تلك المشيئة، وقال الإمام: قالت حكماء الإسلام: إن لكلّ جنتين جسمانية وروحانية ومقامات الثانية لا تمانع فيها فيجوز أن يكون في مقام واحد منها ما لا يتناهى من أربابها، وهذه الجملة حالية فالمعنى أورثنا مقامات الجنة حالة كوننا نسرح في منازل الأرواح كما نشاء.
وقد قال بعض متألهي الحكماء: الدار الضيقة تسع ألف ألف من الأرواح والصور المثالية التي هي أبدان المتجردين عن الأبدان العنصرية لعدم تمانعها كما قيل:
سم الخياط مع الأحباب ميدان وفسر المقام الروحاني بما تدركه الروح من المعارف الإلهية وتشاهده من رضوان الله تعالى وعنايته القدسية مما لا عين رأت ولا أذن سمعت.
وتعقب بأن هذا إن عد من بطون القرآن العظيم فلا كلام وإلا فحمل الجنة على مثل ذلك مما لا تعرفه العرب ولا ينبغي أن يفسر به، على أنه ربما يقال: يرد عليه أنه يقتضي أن لكل أحد أن يصل إلى مقام روحاني من مقاماتها مع أن منها ما يخص الأنبياء المكرمين والملائكة المقربين، والظاهر أنه لا يصل إلى مقاماتهم كل أحد من العارفين فافهم ولا تغفل فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ من كلام الداخلين عند الأكثر والمخصوص بالمدح محذوف أي هذا الأجر أو الجنة، ولعل التعبير- بأجر العاملين- دون أجرنا للتعريض بأهل النار أنهم غير عاملين، وقال مقاتل: هو من كلام الله تعالى وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ أي محدقين من الحفاف بمعنى الجانب جمع حاف كما قال الأخفش، وقال الفراء: لا يفرد فقيل: أراد أن المفرد لا يكون حافا إذ الإحداق والإحاطة لا يتصور بفرد وإنما يتحقق بالجمع، وقيل: أراد أنه لم يرد استعمال مفرده. وأورد على الأول أن الإحاطة بالشيء بمعنى محاذاة جميع جوانبه فتصور في الواحد بدورانه حول الشيء فإنه حينئذ يحاذي جميع جوانبه تدريجا فيكون الحفوف بمعنى الدوران حوله أو يراد بكونه حافا أنه جزء من الحاف وله مدخل في الحفوف، ولو صح ما ذكر لم يصح أن يقال: طائف أو محدق أو محيط أو نحوه مما يدل على الإحاطة. وأورد على الثاني أنا لم نجد ورود جمع سالم لم يرد استعمال مفرده فبعد ورود حافين الظاهر ورود حاف كما لا يخفى، والخطاب لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم، وجوز أن يكون لكل من تصح منه الرؤية كأنه قيل: وترى أيها الرائي الملائكة حافين مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ أي حول العرش على أن مِنَ مزيدة على رأي الأخفش وهو الأظهر، وقيل: هي للابتداء- فحول العرش- مبتدأ الحفوف وكأن الحفوف حينئذ للخلق، وفي بعض الآثار ما هو ناطق بذلك، وفيها ما يدل على أن العرش يوم فصل القضاء يكون في الأرض حيث يشاء الله تعالى والأرض يومئذ غير هذه الأرض،(12/289)
على أن أحوال يوم القيامة وشؤون الله تعالى وراء عقولنا وسبحان من لا يعجزه شيء، والظاهر أن الرؤية بصرية- فحافين- حال أولى وقوله تعالى: يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ حال ثانية، ويجوز أن يكون حالا من ضمير حَافِّينَ المستتر، وجوز كون الرؤية علمية- فحافين- مفعول ثاني وجملة يُسَبِّحُونَ حال من الْمَلائِكَةَ أو من ضميرهم في حَافِّينَ والباء في بِحَمْدِ للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال أي ينزهونه تعالى عما لا يليق به ملتبسين بحمده، وحاصله يذكرون الله تعالى بوصفي جلاله وإكرامه تبارك وتعالى، وهذا الذكر إما من باب التلذذ فإن ذكر المحبوب من أعظم لذائذ المحب كما قيل:
أجد الملامة في هواك لذيذة ... حبا لذكرك فليلمني اللوّم
أو من باب الامتثال ويدعي أنهم مكلفون، ولا يسلم أنهم خارجون عن خطة التكليف أو يخرجون عنها يوم القيامة، نعم لا يرون ذلك كلفة وإن أمروا به.
وفي حديث طويل جدا أخرجه عبد بن حميد وعلي بن سعيد في كتاب الطاعة والعصيان. وأبو يعلى وأبو الحسن القطان في المطولات. وأبو الشيخ في العظمة. والبيهقي في البعث والنشور عن أبي هريرة «فبينما نحن وقوف- أي في المحشر- إذ سمعنا حسا من السماء شديدا فينزل أهل سماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم وأخذوا مصافهم ثم تنزل أهل السماء الثالثة بمثلي من نزل من الملائكة ومثلي من فيها من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم وأخذوا مصافهم ثم ينزلون على قدر ذلك من التضعيف إلى السماوات السبع ثم ينزل الجبار في ظلل من الغمام والملائكة تحمل عرشه يومئذ ثمانية وهم اليوم أربعة أقدامهم على تخوم الأرض السفلى والأرضون والسماوات إلى حجزهم والعرش على مناكبهم لهم زجل بالتسبيح فيقولون: سبحان ذي العزة والجبروت سبحان ذي الملك والملكوت سبحان الحي الذي لا يموت سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت سبوح قدوس رب الملائكة والروح سبحان ربنا الأعلى الذي يميت الخلائق ولا يموت فيضع عرشه حيث يشاء من الأرض ثم يهتف سبحانه بصوته فيقول عزّ وجلّ: «يا معشر الجن والإنس إني قد أنصتّ لكم منذ يوم خلقتكم إلى يومكم هذا أسمع قولكم وأبصر أعمالكم فانصتوا إلي فإنما هي أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم فمن وجد خيرا فليحمد الله تعالى ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» الحديث
. وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ أي بين العباد كلهم بإدخال بعضهم الجنة وبعضهم النار فإن القضاء المعروف يكون بينهم، ولوضوح ذلك لا يضر كون الضمير لغير الملائكة مع أن ضمير يُسَبِّحُونَ لهم إذ التفكيك لا يمتنع مطلقا كما توهم، وقيل: ضمير بَيْنَهُمْ للملائكة واستظهره أبو حيان، وثوابهم وإن كانوا كلهم معصومين يكون على حسب تفاضل أعمالهم فيختلف تفاضل مراتبهم فإقامة كل في منزلته حسب عمله هو القضاء بينهم بالحق.
وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي على ما قضى بيننا بالحق، والقائل قيل: هم المؤمنون المقضي لهم لا ما يعمهم والمقضي عليهم، وحمدهم الأول على إنجاز وعده سبحانه وإيراثهم الأرض يتبوؤن من الجنة ما شاؤوا، وحمدهم هذا على القضاء بالحق بينهم فلا تكرار.
وقال الطيبي: إن الأول للتفصلة بين الفريقين بحسب الوعد والوعيد والسخط والرضوان، والثاني للتفرقة بينهما بحسب الأبدان ففريق في الجنة وفريق في السعير والأول أحسن، وقيل: هم الملائكة يحمدونه تعالى على قضائه سبحانه بينهم بالحق وإنزال كل منهم منزلته، وعليه ليس في الحمدين شائبة تكرار لتغاير الحامدين.
وقيل: قِيلَ دون قالوا لتعينهم وتعظيمهم، وجوز كون القائل جميع العباد منعمهم ومعذبهم وكأنه أريد أن(12/290)
الحمد من عموم الخلق المقضي بينهم هنا إشارة إلى التمام وفصل الخصام كما يقوله المنصرفون من مجلس حكومة ونحوها، فيحمده المؤمنون لظهور حقهم وغيرهم لعدله واستراحتهم من انتظار الفصل، ففي بعض الآثار أنه يطول الوقوف في المحشر على العباد حتى إن أحدهم ليقول: رب أرحني ولو إلى النار، وقيل: إنهم يحمدونه إظهارا للرضا والتسليم.
وقال ابن عطية: هذا الحمد ختم للأمر يقال عند انتهاء فصل القضاء أي إن هذا الحاكم العدل ينبغي أن يحمد عند نفوذ حكمه وإكمال قضائه، ومن هذه الآية جعلت الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ خاتمة المجالس في العلم، هذا والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على رسوله محمد خاتم النبيين وعلى آل وصحبه أجمعين.
«ومن باب الإشارة في بعض الآيات» فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أي اعبده تعالى بنفسك وقلبك وروحك مخلصا، وإخلاص العبادة بالنفس التباعد عن الانتقاص، وإخلاص العبادة بالقلب العمى عن رؤية الأشخاص، وإخلاص العبادة بالروح نفي طلب الاختصاص. وذكر أن المخلص من خلص بالجود عن حبس الوجود إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ فيه إشارة إلى تهديد من يدعي رتبة من الولاية ليس بصادق فيها وعقوبته حرمان تلك الرتبة يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ فيه إشارة إلى أحوال السائرين إلى الله سبحانه من القبض والبسط والصحو والسكر والجمع والفرق والستر والتجلي وغير ذلك فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ قيل: يشير إلى ظلمة الإمكان وظلمة الهيولى وظلمة الصورة أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يشير إلى القيام بآداب العبودية ظاهرا وباطنا من غير فتور ولا تقصير يَحْذَرُ الْآخِرَةَ ونعيمها كما يحذر الدنيا وزينتها وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ رضاه سبحانه عنه وقربه عزّ وجلّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ قدر معبودهم جل شأنه فيطلبونه وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ذلك فيطلبون ما سواه إِنَّما يَتَذَكَّرُ حقيقة الأمر أُولُوا الْأَلْبابِ وهم الذين انسلخوا من جلد وجودهم وصفوا عن شوائب أنانيتهم قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا بي شوقا إلى اتَّقُوا رَبَّكُمْ فلا تطلبوا غيره سبحانه لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا في طلب في هذه الدنيا بأن لم يطلبوا مني غيري حَسَنَةٌ عظيمة وهي حسنة وجداني وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ وهي حضرة جلاله وجماله فإنها لا نهاية لها فليسر فيها ليرى ما يرى ولا يظن بما فتح عليه انتهاء السير وانقطاع الفيض إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ على صدق الطلب أَجْرَهُمْ من التجليات بغير حساب إذ لا نهاية لتجلياته تعالى وكُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن: 29] قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بطلب ما سواه عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وهو عذاب القطيعة والحرمان قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فلا أطلب دنيا ولا أخرى كما قيل:
وكل له سؤل ودين ومذهب ... ولي أنتم سؤل وديني هواكم
قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أي الذين تبين خسران أنفسهم بإفساد استعدادها للوصول والوصال وَأَهْلِيهِمْ من القلوب والأسرار والأرواح بالإعراض عن طلب المولى يَوْمَ الْقِيامَةِ الذي تتبين فيه الحقائق ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ الذي لا خفاء فيه لفوات رأس المال وعدم إمكان التلافي، وقال بعض الأجلة: إن للإنسان قوتين يستكمل بإحداهما علما وبالأخرى عملا، والآلة الواسطة في القسم الأول هي العلوم المسماة بالمقدمات وترتيبها على الوجه المؤدي إلى النتائج التي هي بمنزلة الربح يشبه تصرف التاجر في رأس المال بالبيع والشراء، والآلة في القسم العملي هو القوى البدنية وغيرها من الأسباب الخارجية المعينة عليها، واستعمال تلك القوى في وجوه أعمال البر التي هي بمنزلة الربح يشبه التجارة، فكل من أعطاه الله تعالى العقل والصحة والتمكين ثم إنه(12/291)
لم يستفد منها معرفة الحق ولا عمل الخير فإذا مات ربحه وضاع رأس ماله ووقع في عذاب الجهل وألم البعد عن عالمه والقرب مما يضاده أبد الآباد، فلا خسران فوق هذا ولا حرمان أبين منه، وقد أشار سبحانه إلى هذا بقوله تعالى:
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ وهذا على الأول إشارة إلى إحاطة نار الحسرة بهم لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ قيل الغرف المبنية بعضها فوق بعض إشارة إلى العلوم المكتسبة المبنية على النظريات وأنها تكون في المتانة واليقين كالعلوم الغريزية البديهية أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ من سماء حضرته سبحانه أو من سماء القلب ماءً ماء المعارف والعلوم فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ مدارك وقوى فِي الْأَرْضِ أرض البشرية ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً من الأعمال البدنية والأقوال اللسانية ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إشارة إلى أفعال المرائين وأقوالهم ترى مخضرة وفق الشرع ثم تصفر من آفة الرياء ثم تكون حطاما لا حاصل لها إلا الحسرة أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ للانقياد إليه سبحانه فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ يستضيء به في طلبه سبحانه، ومن علامات هذا النور محو ظلمات الصفات الذميمة النفسانية والتحلية بالأخلاق الكريمة القدسية.
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ إذا قرعت صفات الجلال أبواب قلوبهم ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ بالشوق والطلب ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ يتجاذبونه وهم شغل الدنيا وشغل العيال وغير ذلك من الأشغال وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ إشارة إلى المؤمن الخالص الذي لم يشغله شيء عن مولاه عزّ شأنه فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ يشير إلى حال الكاذبين في دعوى الولاية وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ يشير إلى حال أقوام نبذوا الشريعة وراء ظهورهم وقالوا: هي قشر والعياذ بالله تعالى وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ قيل: هو سواد قلوبهم ينعكس على وجوههم وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً قيل المتقون قد عبدوا الله تعالى لله جل شأنه لا للجنة فتصير شدة استغراقهم في مشاهدة مطالع الجمال والجلال مانعة لهم عن الرغبة في الجنة فلا جرم يفتقرون إلى السوق، وقيل: كل خصلة ذميمة أو شريفة في الإنسان فإنها تجره من غير اختيار شاء أم أبى إلى ما يضاهي حاله فذاك معنى السوق في الفريقين، وقيل: القوم أهل وفاء فهم يقولون: لا ندخل الجنة حتى يدخلها أحبابنا فلذا يساقون إليها ولكن لا كسوق الكفرة وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم في مقعد صدق عند مليك مقتدر بناء على أن العرش لا يتحول يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ إشارة إلى نعيمهم وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ أعطى كل ما يستحقه وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على انقضاء الأمر وفصل القضاء بالعدل الذي لا شبهة فيه ولا امتراء، هذا والحمد لله تعالى على أفضاله والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله.(12/292)
سورة غافر
وتسمى سورة غافر وسورة الطول، وهي كما روي عن ابن عباس وابن الزبير ومسروق وسمرة بن جندب مكية، وحكى أبو حيان الإجماع على ذلك، وعن الحسن أنها مكية إلا قوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [غافر: 55] لأن الصلوات نزلت بالمدينة وكانت الصلاة بمكة ركعتين من غير توقيت. وأنت تعلم أن الحق قول الأكثرين: إن الخمس نزلت بمكة على أنه لا يتعين إرادة الصلاة بالتسبيح في الآية، وقيل: هي مكية إلا قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ [غافر: 35] الآية فإنها مدنية، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية وغيره أنها نزلت في اليهود لما ذكروا الدجال، وهذا ليس بنص على أنها نزلت بالمدينة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: قولهم نزلت الآية في كذا يراد به تارة سبب النزول ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية وإن لم يكن السبب كما تقول: عني بهذه الآية كذا، وقال الزركشي في البرهان: قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال: نزلت الآية في كذا فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم لا أن هذا كان السبب في نزولها فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية لا من جنس النقل لما وقع. نعم سيأتي إن شاء الله تعالى عن أبي العالية ما هو كالنص على ذلك.
وآيها خمس وثمانون في الكوفي والشامي، وأربع في الحجازي، واثنتان في البصري، وقيل: ست وثمانون، وقيل: ثمان وثمانون، ووجه مناسبة أولها لآخر الزمر أنه تعالى لما ذكر سبحانه هناك ما يؤول إليه حال الكافر وحال المؤمن ذكر جل وعلا هنا أنه تعالى غافر الذنب وقابل التوب ليكون ذلك استدعاء للكافر إلى الإيمان والإقلاع عما هو فيه، وبين السورتين أنفسهما أوجه من المناسبة، ويكفي فيها أنه ذكر في كل من أحوال يوم القيامة وأحوال الكفرة فيه وهم في المحشر وفي النار ما ذكر، وقد فصل في هذه من ذلك ما لم يفصل منه في تلك.
وفي تناسق الدرر وجه إيلاء الحواميم السبع لسورة الزمر تواخي المطالع في الافتتاح بتنزيل الكتاب. وفي مصحف ابن مسعود أول الزمر حم وتلك مناسبة جليلة، ثم إن الحواميم ترتبت لاشتراكها في الافتتاح- بحم- وبذكر الكتاب وأنها مكية بل ورد عن ابن عباس وجابر بن زيد أنها نزلت عقب الزمر متتاليات كترتيبها في المصحف، وورد في فضلها أخبار كثيرة، أخرج أبو عبيد في فضائله عن ابن عباس قال: إن لكل شيء لبابا وإن لباب القرآن الحواميم.
وأخرج هو وابن الضريس وابن المنذر والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال: الحواميم ديباج القرآن. وأخرجه أبو الشيخ وأبو نعيم والديلمي عن أنس رضي الله تعالى عنه مرفوعا، وأخرج الديلمي وابن مردويه عن سمرة بن جندب مرفوعا «الحواميم روضة من رياض الجنة» .
وأخرج محمد بن نصر والدارمي عن سعد بن إبراهيم قال: كن الحواميم يسمين العرائس. وأخرج ابن نصر وابن(12/293)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)
مردويه عن أنس بن مالك قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله تعالى أعطاني السبع الطوال مكان التوراة وأعطاني الراءات إلى الطواسين مكان الإنجيل وأعطاني ما بين الطواسين إلى الحواميم مكان الزبور وفضلني بالحواميم والمفصل ما قرأهن نبي قبلي» .
وأخرج البيهقي في الشعب عن الخليل بن مرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الحواميم سبع وأبواب جهنم سبع تجيء كل حم منها فتقف على باب من هذه الأبواب تقول: اللهم لا تدخل من هذا الباب من كان يؤمن بي ويقرؤني»
وجاء في خصوص بعض آيات هذه السورة ما يدل على فضله.
أخرج الترمذي والبزار ومحمد بن نصر وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله من قرأ حم إلى إِلَيْهِ الْمَصِيرُ وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح» .(12/294)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم بتفخيم الألف وتسكين الميم، وقرأ ابن عامر برواية ذكوان، وحمزة والكسائي وأبو بكر بالإمالة الصريحة، ونافع برواية ورش. وأبو عمرو بالإمالة بين بين، وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بفتح الميم على التحريم لالتقاء الساكنين بالفتحة للخفة كما في أين وكيف، وجوز أن يكون ذلك نصبا بإضمار اقرأ ومنع من الصرف للعلمية والتأنيث لأنه بمعنى السورة أو للعلمية وشبه العجمة لأن فاعيل ليس من أوزان أبنية العرب وإنما وجد ذلك في لغة العجم كقابيل وهابيل، ونقل هذا عن سيبويه. وفي الكشف أن الأولى أن يعلل بالتعريف والتركيب.
وقرأ أبو السمال بكسر الميم على أصل التقاء الساكنين كما في جير: والزهري برفعها والظاهر أنه إعراب فهو إما مبتدأ أو خبر مبتدأ محذوف، والكلام في المراد به كالكلام في نظائره، ويجمع على حواميم وحاميمات أما الثاني فقد أنشد فيه ابن عساكر في تاريخه:
هذا رسول الله في الخيرات ... جاء بياسين وحاميمات
وأما الأول فقد تقدم عدة أخبار فيه ولا أظن أن أحدا ينكر صحة جميعها أو يزعم أن لفظ حواميم فيها من تحريف الرواة الأعاجم وأيضا أنشد أبو عبيدة:
حلفت بالسبع الألى تطولت ... وبمئين بعدها قد أمئيت
وبثمان ثنيت وكررت ... وبالطواسين اللواتي تليت
وبالحواميم اللواتي سبعت ... وبالمفصل التي قد فصلت
وذهب الجواليقي والحريري وابن الجوزي إلى أنه لا يقال حواميم، وفي الصحاح عن الفراء أن قول العامة الحواميم ليس من كلام العرب، وحكى صاحب زاد المسير عن شيخه أبي منصور اللغوي أن من الخطأ أن تقول:
قرأت الحواميم والصواب أن تقول قرأت آل حم، وفي حديث ابن مسعود إذا وقعت في آل حم فقد وقعت في روضات دمثات أتأنق فيهن، وعلى هذا قول الكميت بن زيد في الهاشميات:
وجدنا لكم في آل حم آية ... تأولها منا تقي ومعرب
والطواسين والطواسيم بالميم بدل النون كذلك عندهم، وما سمعت يكفي في ردهم. نعم ما قالوه مسموع مقبول كالذي قلناه لكن ينبغي أن يعلم أن آل في قولهم آل حم كما قال الخفاجي ليس بمعنى الآل المشهور وهو الأهل بل هو لفظ يذكر قبل ما لا يصح تثنيته وجمعه من الأسماء المركبة ونحوها كتأبط شرا فإذا أرادوا تثنيته أو جمعه وهو جملة لا يتأتى فيها ذلك إذ لم يعهد مثله في كلام العرب زادوا قبله لفظة آل أو ذوا فيقال: جاءني آل تأبط شرا أو ذوا تأبط شراف أي الرجلان أو الرجال المسمون بهذا الاسم، فآل حم بمعنى الحواميم وآل بمعنى ذو، والمراد به ما يطلق عليه ويستعمل فيه هذا اللفظ وهو مجاز عن الصحبة المعنوية، وفي كلام الرضي وغيره إشارة إلى هذا إلا أنهم لم يصرحوا بتفسيره فعليك بحفظه، وحكي في الكشف أن الأولى أن يجمع بذوات حم أي دون حواميم أو حاميمات ومعناه السور المصحوبات بهذا اللفظ أعني حم.
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ الكلام فيه أعرابا كالكلام في مطلع سورة الزمر بيد أنه يجوز هنا أن يكون تَنْزِيلُ خبرا عن حم ولعل تخصيص الوصفين لما في القرآن الجليل من الإعجاز وأنواع العلوم التي يضيق عن الإحاطة بها نطاق الإفهام أو هو على نحو تخصيص الوصفين فيما سبق فإن شاء البليغ علمه بالأشياء أن يكون حكيما إلا أنه قيل الْعَلِيمِ دون الحكيم تفننا، وقوله تعالى: غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ(12/295)
صفات للاسم الجليل كالعزيز العليم، وذكر غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ وذِي الطَّوْلِ للترغيب وذكر شَدِيدِ الْعِقابِ للترهيب والمجموع للحث على المقصود من تَنْزِيلُ الْكِتابِ وهو المذكور بعد من التوحيد والإيمان بالبعث المستلزم للإيمان بما سواهما والإقبال على الله تعالى، والأولان منها وإن كانا اسمي فاعل إلا أنهما لم يرد بهما التجدد ولا التقييد بزمان بل أريد بهما الثبوت والاستمرار فإضافتهما للمعرفة بعدهما محضة اكسبتهما تعريفا فصح أن يوصف بهما أعرف المعارف، والأمر في ذِي الطَّوْلِ ظاهر جدا. نعم الأمر في شَدِيدِ الْعِقابِ مشكل فإن شديدا صفة مشبهة وقد نص سيبويه على أن كل ما أضافته غير محضة إذا أضيف إلى معرفة جاز أن ينوي بإضافته التمحض فيتعرف وينعت به المعرفة إلا ما كان من باب الصفة المشبهة فإنه لا يتعرف ومن هنا ذهب الزجاج إلى أن شَدِيدِ الْعِقابِ بدل، ويرد عليه أن في توسيط البدل بين الصفات تنافرا بينا لأن الوصف يؤذن بأن الموصوف مقصود والبدل بخلافه فيكون بمنزلة استئناف القصد بعد ما جعل غير مقصود، والجواب أنه إنما يشكل ظاهرا على مذهب سيبويه وسائر البصريين القائلين بأن الصفة المشبهة لا تتعرف أصلا بالإضافة إلى المعرفة، وأما على مذهب الكوفيين القائلين بأنها كغيرها من الصفات قد تتعرف بالإضافة ويجوز وصف المعرفة بها نحو مررت بزيد حسن الوجه فلا، ويقال فيما ذكر على المذهب الأول: إن «شديدا» مؤول بمشدد اسم فاعل من أشده جعله شديدا كأذين بمعنى مؤذن فيعطي حكمه، أو يقال: إنه معرف بأل والأصل الشديد عقابه لكن حذفت لأمن اللبس بغير الصفة لوقوعه بين الصفات واحتمال كونه بدلا وحده لا يلتفت على ما سمعت إليه ورعاية لمشاكلة ما معه من الأوصاف المجردة منها والمقدر في حكم الموجود، وقد غيروا كثيرا من كلامهم عن قوانينه لأجل المشاكلة حتى قالوا: ما يعرف سحادليه من عنادليه أرادوا ما يعرف ذكره من أنثييه فثنوا ما هو وتر لأجل ما هو شفع، وجوز كون جميع التوابع المذكورات أبدالا وتعمد تنكير شَدِيدِ الْعِقابِ وإبهامه للدلالة على فرط الشدة وعلى ما لا شيء أدهى منه وأمر لزيادة الإنذار. وفي الكشف جعل كلها إبدالا فيه تنافر عظيم لا سيما في إبدال الْعَزِيزِ من اللَّهِ الاسم الجامع لسائر الصفات العلم النص وأين هذا من براعة الاستهلال؟ وذهب مكي إلى جواز كون غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ دون ما قبلهما بدلين وأنهما حينئذ نكرتان، وقد علمت ما فيه مما تقدم، وقال أبو حيان: إن بدل البداء عند من أثبته قد يتكرر وأما بدل كل من كل وبدل بعض من كل وبدل اشتمال فلا نص عن أحد من النحويين أعرفه في جواز التكرار فيها أو منعه إلا أن في كلام بعض أصحابنا ما يدل على أن البدل من البدل جائز دون تعدد البدل واتحاد المبدل منه، وظاهر كلام الخفاجي أن النحاة صرحوا بجواز تعدده حيث قال: لا يرد على القول بالإبدال قلة البدل في المشتقات، ولا أن النكرة لا تبدل من المعرفة ما لم توصف، ولا أن تعدد البدل لم يذكره النحاة كما قيل لأن النحاة صرحوا بخلافه في الجميع، وللدماميني فيه كلام طويل الذيل في أول شرح الخزرجية لا يسعه هذا المقام فإن أردته فانظر فيه انتهى.
وعندي أن الإبدال هنا ليس بشيء كلا أو بعضا، والتَّوْبِ يحتمل أن يكون مصدرا كالأوب بمعنى الرجوع ويحتمل أن يكون اسم جمع لتوبة كتمر وتمرة، والطَّوْلِ الفضل بالثواب والإنعام أو بذلك وبترك العقاب المستحق كما قيل وهو أولى من تخصيصه بترك العقاب وإن وقع بعد شَدِيدِ الْعِقابِ وكون الثواب موعودا فصار كالواجب فلا يكون فضلا ليس بشيء فإن الوعد به ليس بواجب، وفسره ابن عباس بالسعة والغنى، وقتادة بالنعم، وابن زيد بالقدرة، وتوسيط الواو بين غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ لإفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين بين أن يقبل سبحانه توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات وأن يجعلها محاءة للذنب كأنه لم يذنب كأنه قيل: جامع المغفرة والقبول(12/296)
قاله الزمخشري، ووجهه كما في الكشف أنها صفات متعاقبة بدون الواو دالة على معنى الجمع المطلق من مجرد الإجراء فإذا خصت بالواو إحدى القرائن دل على أن المراد المعتبر فيها وفيما تقدمها خاصة صونا لكلام البليغ عن الإلغاء، ففي الواو هنا الدلالة على أنه سبحانه جامع بين الغفران وقبول التوب للتائب خاصة، ولا ينافي ذلك أنه عزّ وجلّ قد يغفر لمن لم يتب، وما قيل: إن التوسيط يدل على أن المعنى كما أخرج أبو الشيخ في العظمة عن الحسن غافر الذنب لمن لم يتب وقابل التوب لمن تاب فغير مسلم، والتغاير الذي يذكرونه بين موقع الفعلين وهما غفران الذنب وقبول التوبة عنه المقتضي لكون الغفران بالنسبة إلى قوم والقبول بالنسبة إلى آخرين إذ جعلوا موقع الأول الذنب الباقي في الصحائف من غير مؤاخذة وموقع الثاني الذنب الزائل الممحو عنها حاصل مع الإجراء فلا مدخل للواو، ثم ما ذكر من الوجه السابق حار على أصلي أهل السنة والمعتزلة فلا وجه لرده بما ليس بقادح وإيثار ما هو مرجوح، وتقديم الغافر على القابل من باب تقديم التخلية على التحلية فافهم. وفي القطع بقبول توبة العاصي قولان لأهل السنة. وفي البحر الظاهر من الآية أن توبة العاصي بغير الكفر كتوبة العاصي به مقطوع بقبولها، وفي توحيد صفة العذاب مغمورة بصفاته تعالى الدالة على الرحمة دليل على زيادة الرحمة وسبقها فسبحانه من إله ما أرحمه وأكرمه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فيجب الإقبال الكلي على طاعته في أوامره ونواهيه إِلَيْهِ الْمَصِيرُ فحسب لا إلى غيره تعالى لا استقلالا ولا اشتراكا فيجازي كلا من المطيع والعاصي، وجملة لا إِلهَ إِلَّا هُوَ مستأنفة أو حالية، وقيل: صفة لله تعالى أو لشديد العقاب، وفي الآيات مما يقتضي الاتعاظ ما فيها. أخرج عبد بن حميد عن يزيد بن الأصم أن رجلا كان ذا بأس وكان من أهل الشام وأن عمر رضي الله تعالى عنه فقده فسأل عنه فقيل له: تتابع في الشراب فدعا عمر كاتبه فقال له: اكتب من عمر ابن الخطاب إلى فلان بن فلان سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم- إلى قوله تعالى- إِلَيْهِ الْمَصِيرُ وختم الكتاب، وقال لرسوله: لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول: قد وعدني ربي أن يغفر لي وحذرني عقابه فلم يبرح يرددها على نفسه حتى بكى ثم نزع فأحسن النزوع فلما بلغ عمر توبته قال: هكذا فافعلوا إذا رأيتم أخاكم قد زل زلة فسددوه ووقفوه وادعوا الله تعالى أن يتوب عليه ولا تكونوا أعوانا للشياطين عليه.
ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا نزلت على ما قال أبو العالية في الحارث بن قيس السلمي أحد المستهزئين، والمراد بالجدال الجدال بالباطل من الطعن في الآيات والقصد إلى إدحاض الحق وإطفاء نور الله عزّ وجلّ لقوله تعالى بعد، وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فإنه مذكور تشبيها لحال كفار مكة بكفار الأحزاب من قبل وإلا فالجدال فيها لإيضاح ملتبسها وحل مشكلها ومقادحة أهل العلم في استنباط معانيها ورد أهل الزيغ عنها أعظم جهاد في سبيل الله تعالى وفي قوله صلى الله عليه وسلم
وقد أخرجه عبد بن حميد عن أبي هريرة مرفوعا: «إن جدالا في القرآن كفر»
إيماء إلى ذلك حيث ذكر فيه جدالا منكرا للتنويع فأشعر أن نوعا منه كفر وضلال ونوعا آخر ليس كذلك.
والتحقيق كما في الكشف أن المجادلة في الشيء تقتضي أن يكون ذلك الشيء إما مشكوكا عند المجادلين أو أحدهما أو منكرا كذلك، وأيا ما كان فهو مذموم اللهم إلا إذا كان من موحد لخارج عن الملة أو من محقق لزائغ إلى البدعة فهو محمود بالنسبة إلى أحد الطرفين، وأما ما قيل: إن البحث فيها لإيضاح الملتبس ونحوه جدال عنها لا فيها فإن الجدال يتعدى بعن إذا كان للمنع والذب عن الشيء وبفي لخلافه كما ذكره الإمام وبالباء أيضا كما في قوله تعالى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] ففيه بحث، وفي قوله تعالى: فِي آياتِ اللَّهِ دون- فيه- بالضمير العائد إلى الكتاب دلالة على أن كل آية منه يكفي كفر المجادلة فكيف بمن ينكره كله ويقول فيه ما يقول،(12/297)
وفيه أن كل آية منه آية أنه من الله تعالى الموصوف بتلك الصفات فيدل على شدة شكيمة المجادل في الكفر وأنه جادل في الواضح الذي لا خفاء به، ومما ذكر يظهر اتصال هذه الآية بما قبلها وارتباط قوله تعالى: فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ بها أي إذا علمت أن هؤلاء شديد والشكائم في الكفر قد خسروا الدنيا والآخرة حيث جادلوا في آيات الله العزيز العليم وأصروا على ذلك فلا تلتفت لاستدراجهم بتوسعة الرزق عليهم وإمهالهم فإن عاقبتهم الهلاك كما فعل بمن قبلهم من أمثالهم مما أشير إليه بقوله سبحانه: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ إلخ، والتقلب الخروج من أرض إلى أخرى. والمراد بالبلاد بلاد الشام واليمن فإن الآية في كفار قريش وهم كانوا يتقلبون بالتجارة في هاتيك البلاد ولهم رحلة الشتاء لليمن ورحلة الصيف للشام، ولا بأس في إرادة ما يعم ذلك وغيره. وقرأ زيد بن علي وعبيد بن عمير «فلا يغرك» بالإدغام مفتوح الراء وهي لغة تميم والفلك لغة الحجازيين، وبدأ بقوم نوح لأنه عليه الصلاة والسلام على ما في البحر أول رسول في الأرض أو لأنهم أول قوم كذبوا رسولهم وعتوا عتوا شديدا وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ أي والذين تحزبوا واجتمعوا على معاداة الرسل عليهم السلام من قوم نوح كعاد وثمود وقوم فرعون وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ من تلك الأمم بِرَسُولِهِمْ وقرأ عبد الله «برسولها» رعاية اللفظ الأمة لِيَأْخُذُوهُ ليتمكنوا من إيقاع ما يريدون به من حبس وتعذيب وقتل وغيره، فالأخذ كناية عن التمكن المذكور، وبعضهم فسره بالأسر وهو قريب مما ذكر، وقال قتادة: أي ليقتلوه وَجادَلُوا بِالْباطِلِ بما لا حقيقة له قيل هو قولهم: ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا [إبراهيم: 10] والأولى أن يقال هو كل ما يذكرونه لنفي الرسالة وتحسين ما هم عليه، وتفسيره بالشيطان ليس بشيء لِيُدْحِضُوا ليزيلوا بِهِ أي بالباطل، وقيل: أي بجدالهم بالباطل الْحَقَّ الأمر الثابت الذي لا محيد عنه فَأَخَذْتُهُمْ بالإهلاك المستأصل لهم فَكَيْفَ كانَ عِقابِ فإنكم تمرون على ديارهم وترون أثره، وهذا تقرير فيه تعجيب للسامعين مما وقع بهم، وجوز أن يكون من عدم اعتبار هؤلاء، واكتفى بالكسرة عن ياء الإضافة في عقاب لأنه فاصلة، واختلف في المسبب عنه الأخذ المذكور فقيل: مجموع التكذيب والهم بالأخذ والجدال بالباطل، واختار الزمخشري كونه الهم بالأخذ، قال في الكشف: وذلك لأن قوله تعالى: وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا هو التكذيب بعينه والأخذ يشاكل الأخذ وإنما التكذيب موجب استحقاق العذاب الأخروي المشار إليه بعد، ولا ينكر أن كليهما يقتضي كليهما لكن لما كان ملاءمة الأخذ للأخذ أتم والتكذيب للعذاب الأخروي أظهر أنه متعلق بالأخذ تنبيها على كمال الملاءمة، ثم المجادلة العنادية ليس الغرض منها إلا الإيذاء فهي تؤكد الهم من هذا الوجه بل التكذيب أيضا يؤكده، والغرض من تمهيد قوله تعالى: ما يُجادِلُ وذكر الأحزاب الإلمام بهذا المعنى، ثم التصريح بقوله سبحانه-: وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ يدل على ما اختاره دلالة بينة فلا حاجة إلى أن يعتذر بأنه إنما اعتبر هذا لا ما سيق له الكلام من المجادلة الباطلة للتسلي انتهى، والإنصاف إن فيما صنعه جار الله رعاية جانب المعنى ومناسبة لفظية إلا أن الظاهر هو التفريع على المجموع كما لا يخفى وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أي كما وجب حكمه تعالى بالإهلاك على هؤلاء المتحزبين على الأنبياء وجب حكمه سبحانه بالإهلاك على هؤلاء المتحزبين عليك أيضا وهم كفار قريش أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ أي لأنهم أصحاب النار أي لأن
العلة متحدة وهي أنهم كفار معاندون مهتمون بقتل النبي مثلهم، فوضع أَصْحابُ النَّارِ موضع ما ذكر لأنه آخر أوصافهم وشرها والدال على الباقي، وأَنَّهُمْ إلخ في حيز النصب بحذف لام التعليل كما أشرنا إليه، وجوز أن يكون في محل رفع على أنه بدل من كَلِمَةُ رَبِّكَ بدل كل من كل أن أريد بالكلمة قوله تعالى أو حكمه سبحانه بأنهم من أصحاب النار، وبدل اشتمال أن أريد بها الأعم، ويراد بالذين كفروا أولئك المتحزبون، والمعنى كما وجب إهلاكهم بالعذاب المستأصل في الدنيا وجب إهلاكهم بعذاب النار في الآخرة أيضا لكفرهم، والوجه الأول أظهر بالمساق.(12/298)
والتعبير بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم، وفسرت كَلِمَةُ رَبِّكَ عليه بقوله سبحانه: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
[الروم: 47] ونحوه. وفي مصحف عبد الله «وكذلك سبقت» وهو على ما قيل تفسير معنى لا قراءة. وقرأ ابن هرمز وشيبة وابن القعقاع ونافع وابن عامر «كلمات» على الجمع.
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وهو جسم عظيم له قوائم الكرسي وما تحته بالنسبة إليه كحلقة في فلاة.
وفي بعض الآثار خلق الله تعالى العرش من جوهرة خضراء وبين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام. وذكر بعضهم في سعته أنه لو مسح مقعره بجميع مياه الدنيا مسحا خفيفا لقصرت عن استيعابه ويزعم أهل الهيئة ومن وافقهم أنه كري وأنه المحدد وفلك الأفلاك وأنه كسائر الأفلاك لا يوصف بثقل ولا خفة وليس لهم في ذلك خبر يعول عليه بل الأخبار ظاهرة في خلافه.
والظاهر أن الحمل على حقيقته وحملته ملائكة عظام.
أخرج أبو يعلى وابن مردويه بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أذن لي أن أحدث عن ملك قد مرقت رجلاه الأرض السابعة السفلى والعرش على منكبيه وهو يقول: سبحانك أين كنت وأين تكون.
وأخرج أبو داود وجماعة بسند صحيح عن جابر بلفظ «أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش ما بين شحمة إذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام»
وهم على ما في بعض الآثار ثمانية.
أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ والبيهقي في شعب الإيمان عن هارون بن رباب قال: حملة العرش ثمانية يتجاوبون بصوت رخيم يقول أربعة منهم سبحانك وبحمدك على حلمك بعد عفوك وأربعة منهم سبحانك وبحمدك على عفوك بعد قدرتك
.
وأخرج أبو الشيخ وابن أبي حاتم من طريق أبي قبيل أنه سمع ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول: حملة العرش ثمانية ما بين موق أحدهم إلى مؤخر عينيه مسيرة خمسمائة عام
، وفي بعض الآثار أنهم اليوم أربعة ويوم القيامة ثمانية.
أخرج أبو الشيخ عن وهب قال: حملة العرش أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدوا بأربعة آخرين، ملك منهم في صورة إنسان يشفع لبني آدم في أرزاقهم، وملك منهم في صورة نسر يشفع للطير في أرزاقهم، وملك منهم في صورة ثور يشفع للبهائم في أرزاقهم، وملك منهم في صورة أسد يشفع للسباع في أرزاقهم فلما حملوا العرش وقعوا على ركبهم من عظمة الله تعالى فلقنوا لا حول ولا قوة إلا بالله فاستووا قياما على أرجلهم.
وجاء رواية عن وهب أيضا أنهم يحملون العرش على أكتافهم وهو الذي يشعر به ظاهر خبر أبي هريرة السابق.
وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن حبان بن عطية قال: حملة العرش ثمانية أقدامهم مثبتة في الأرض السابعة ورؤوسهم قد جاوزت السماء السابعة وقرونهم مثل طولهم عليها العرش.
وفي بعض الآثار أنهم خشوع لا يرفعون طرفهم، وفي بعضها لا يستطيعون أن يرفعوا أبصارهم من شعاع النور، وهم على ما أخرج ابن أبي شيبة عن أبي أمامة يتكلمون بالفارسية أي إذا تكلموا بغير التسبيح وإلا فالظاهر أنهم يسبحون بالعربية، على أن الخبر الله تعالى أعلم بصحته. وفي بعض الآثار عن وهب أنهم ليس لهم كلام إلا أن يقولوا قدوس الله القوي ملأت عظمته السماوات والأرض، وما سيأتي إن شاء الله تعالى بعيد هذا في الآية يأبى ظاهره الحصر وَمَنْ حَوْلَهُ أي والذين من حول العرش وهم ملائكة في غاية الكثرة لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى.
وقيل: حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون به مهللين مكبرين ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام قد وضعوا أيديهم على عواتقهم رافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير ومن ورائهم مائة ألف صف قد وضعوا الأيمان(12/299)
على الشمائل ما منهم أحد إلا وهو يسبح بما لا يسبح به الآخر. وذكر في كثرتهم أن مخلوقات البر عشر مخلوقات البحر والمجموع عشر مخلوقات الجو والمجموع عشر ملائكة السماء الدنيا والمجموع عشر ملائكة السماء الثانية وهكذا إلى السماء السابعة والمجموع عشر ملائكة الكرسي والمجموع عشر الملائكة الحافين بالعرش، ولا نسبة بين مجموع المذكور وما يعلمه الله تعالى من جنوده سبحانه وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر: 31] ويقال لحملة العرش والحافين به الكروبيون جمع كروبي بفتح الكاف وضم الراء المهملة المخففة وتشديدها خطأ ثم واو بعدها ياء موحدة ثم ياء مشددة من كرب بمعنى قرب، وقد توقف بعضهم في سماعه من العرب وأثبته أبو علي الفارسي واستشهد له بقوله:
كروبية منهم ركوع وسجد وفيه دلالة على المبالغة في القرب لصيغة فعول والياء التي تزاد للمبالغة، وقيل: من الكرب بمعنى الشدة والحزن وكأن وصفهم بذلك لأنهم أشد الملائكة خوفا.
وزعم بعضهم أن الكروبيين حملة العرش وأنهم أول الملائكة وجودا ومثله لا يعرف إلا بسماع. وعن البيهقي أنهم ملائكة العذاب وكأن ذلك إطلاق آخر من الكرب بمعنى الشدة والحزن، وقال ابن سينا في رسالة الملائكة:
الكروبيون هم العامرون لعرصات التيه الأعلى الواقفون في الموقف الأكرم زمرا الناظرون إلى المنظر الأبهى نظرا وهم الملائكة المقربون والأرواح المبرءون، وأما الملائكة العاملون فهم حملة العرش والكرسي وعمار السماوات انتهى.
وذهب بعضهم إلى أن حمل العرش مجاز عن تدبيره وحفظه من أن يعرض له ما يخل به أو بشيء من أحواله التي لا يعلمها إلا الله عزّ وجلّ، وجعلوا القرينة عقلية لأن العرش كريّ في حيزه الطبيعي فلا يحتاج إلى حمل ونسب ذلك إلى الحكماء وأكثر المتكلمين، وكذا ذهبوا إلى أن الخفيف والطواف بالعرش كناية أو مجاز عن القرب من ذي العرش سبحانه ومكانتهم عنده تعالى وتوسطهم في نفاذ أمره عزّ وجلّ، والحق الحقيقة في الموضعين وما ذكر من القرينة العقلية في حيز المنع.
وقرأ ابن عباس وفرقة «العرش» بضم العين فقيل: هو جمع عرش كسقف وسقف أو لغة في العرش، والموصول الأول مبتدأ والثاني عطف عليه والخبر قوله تعالى: يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ والجملة استئناف مسوق لتسلية رسول الله صلّى الله عليه وسلم ببيان أن الملائكة الذين هم في المحل الأعلى مثابرون على ولاية من معه من المؤمنين ونصرتهم واستدعاء ما يسعدهم في الدارين أي ينزهونه تعالى عن كل ما لا يليق بشأنه الجليل كالجسمية وكون العرش حاملا له عزّ وجلّ ملتبسين بحمده جل شأنه على نعمائه التي لا تتناهى.
وَيُؤْمِنُونَ بِهِ إيمانا حقيقيا كاملا، والتصريح بذلك مع الغنى عن ذكره رأسا لإظهار فضيلة الإيمان وإبراز شرف أهله والإشعار بعلة دعائهم للمؤمنين حسبما ينطق به قوله تعالى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فإن المشاركة في الإيمان أقوى المناسبات وأتمها وادعى الدواعي إلى النصح والشفقة وإن تخالفت الأجناس وتباعدت الأماكن، وفيه على ما قيل: إشعار بأن حملة العرش وسكان الفرش سواء في الإيمان بالغيب إذ لو كان هناك مشاهدة للزومها من الحمل بناء على العادة الغالبة أو على أن العرش جسم شفاف لا يمنع الأبصار البتة لم يقل يؤمنون لأن الإيمان هو التصديق القلبي أعني العلم أو ما يقوم مقامه مع اعتراف وإنما يكون يكون في الخبر ومضمونه من معتقد علمي أو ظني ناشىء من البرهان أو قول الصادق كأنه اعترف بصدق المخبر أو البرهان وأما العيان فيغني عن البيان، ففي ذلك رمز إلى الرد على المجسمة، ونظيره في ذلك
قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تفضلوني على ابن متى»
كذا قيل، وينبغي أن يعلم أن كون(12/300)
حملة العرش لا يرونه عزّ وجلّ بالحاسة لا يلزم منه عدم رؤية المؤمنين إياه تعالى في الدار الآخرة رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً على إرادة القول أي يقولون ربنا إلخ، والجملة لا محل لها محل لها من الإعراب على أنها تفسير- ليستغفرون- أو في محل رفع على أنها عطف بيان على تلك الجملة بناء على جوازه في الجمل أو في محل نصب على الحالية من الضمير في يَسْتَغْفِرُونَ.
وفسر استغفارهم على هذا الوجه بشفاعتهم للمؤمنين وحملهم على التوبة بما يفيضون على سرائرهم، وجوز أن يكون الاستغفار في قوله تعالى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ المفسر بترك معاجلة العقاب وإدرار الرزق والارتفاق بما خلق من المنافع الجمة ونحو ذلك وهو وإن لم يخص المؤمنين لكنهم أصل فيه فتخصيصهم هنا بالذكر للإشارة إلى ذلك، والأظهر كون الجملة تفسيرا، ونصب رُحْماً وعِلْماً على التمييز وهو محول عن الفاعل والأصل وسعت رحمتك وعلمك كل شيء وحول إلى ما في النظم الجليل للمبالغة في وصفه عزّ وجلّ بالرحمة والعلم حيث جعلت ذاته سبحانه كأنها عين الرحمة والعلم مع التلويح إلى عمومها لأن نسبة جميع الأشياء إليه تعالى مستوية فتقتضي استواءها في شمولهما، ووصفه تعالى بكمال الرحمة والعلم كالتمهيد لقوله سبحانه: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ إلخ، وتسبب المغفرة عن الرحمة ظاهر، وأما تسببها عن العلم فلأن المعنى فاغفر للذين علمت منهم التوبة أي من الذنوب مطلقا بناء على أنه المتبادر من الإطلاق واتباع سبيلك وهو سبيل الحق التي نهجها الله تعالى لعباده ودعا إليها الإسلام أي علمك الشامل المحيط بما خفي وما علن يقتضي ذلك، وفيه تنبيه على طهارتهم من كدورات الرياء والهوى فإن ذلك لا يعلمه إلا الله تعالى وحده.
ويتضمن التمهيد المذكور الإشارة إلا أن الرحمة الواسعة والعلم الشامل يقتضيان أن ينال هؤلاء الفوز العظيم والقسط الأعلى من الرضوان وفيه إيماء إلى معنى:
إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما
فإن العبد وإن بالغ حق المبالغة في أداء حقوقه تعالى فهو مقصر، وإليه الإشارة
بقوله صلّى الله عليه وسلم: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمته»
وتقديم الرحمة لأنها المقصودة بالذات هاهنا، وفي تصدير الدعاء بربنا من الاستعطاف ما لا يخفى ولذا كثر تصدير الدعاء به، وقوله تعالى: وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ أي واحفظهم عنه تصريح بعد تلويح للتأكيد فإن الدعاء بالمغفرة يستلزم ذلك، وفيه دلالة على شدة العذاب.
رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ أي وعدتهم إياها فالمفعول الآخر مقدر والمراد وعدتهم دخولها، وتكرير النداء لزيادة الاستعطاف، وقرأ زيد بن علي والأعمش «جنّة عدن» بالإفراد وكذا في مصحف عبد الله وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ عطف على الضمير المنصوب في أَدْخِلْهُمْ أي وأدخل معهم هؤلاء ليتم سرورهم ويتضاعف ابتهاجهم، وجوز الفراء والزجاج العطف على الضمير في وَعَدْتَهُمْ أي وعدتهم ووعدت من صلح إلخ فقيل: المراد بذلك الوعد العام. وتعقب بأنه لا يبقى على هذا للعطف وجه فالمراد الوعد الخاص بهم بقوله تعالى: أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور: 21] ، والظاهر العطف على الأول والدعاء بالإدخال فيه صريح، وفي الثاني ضمني والظاهر أن المراد بالصلاح الصلاح المصحح لدخول الجنة وإن كان دون صلاح المتبوعين، وقرأ ابن عبلة «صلح» بضم اللام يقال: صلح فهو صليح وصلح فهو صالح، وقرأ عيسى «ذريتهم» بالإفراد إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ أي الغالب الذي لا يمتنع عليه مقدور الْحَكِيمُ الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة الباهرة من الأمور التي من جملتها إدخال من طلب ادخالهم الجنات فالجملة تعليل لما قبلها.(12/301)
وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ أي العقوبات على ما روي عن قتادة، وإطلاق السيئة على العقوبة لأنها سيئة في نفسها، وجوز أن يراد بها المعنى المشهور وهو المعاصي والكلام على تقدير مضاف أي وقهم جزاء السيئات أو تجوز بالسبب عن المسبب، وأيا ما كان فلا يتكرر هذا مع وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ بل هو تعميم بعد تخصيص لشموله العقوبة الدنيوية والأخروية مطلقا أو الدعاء الأول للمتبوعين وهذا للتابعين، وجوز أن يراد بالسيئات المعنى المشهور بدون تقدير مضاف ولا تجوز أي المعاصي أي وقهم المعاصي في الدنيا ووقايتهم منها حفظهم عن ارتكابها وهو دعاء بالحفظ عن سبب العذاب بعد الدعاء بالحفظ عن المسبب وهو العذاب، وتعقب بأن الأنسب على هذا تقديم هذا الدعاء على ذاك وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ أي يوم المؤاخذة فَقَدْ رَحِمْتَهُ ويقال على الوجه الأخير ومن تق السيئات يوم العمل أي في الدنيا فقد رحمته في الآخرة وأيد هذا الوجه بأن المتبادر من يومئذ الدنيا لأن (إذ) تدل على المضي، وفيه منع ظاهر وَذلِكَ إشارة إلى الرحمة المفهومة من رحمته أو إلى الوقاية المفهومة من فعلها أو إلى مجموعهما، وأمر التذكير على الاحتمالين الأولين وكذا أمر الإفراد على الاحتمال الأخبر ظاهر هُوَ الْفَوْزُ أي الظفر الْعَظِيمُ الذي لا مطمع وراءه لطامع، هذا وإلى كون المراد بالذين تابوا الذين تابوا من الذنوب مطلقا ذهب الزمخشري، وقال في السيئات على تقدير حذف المضاف هي الصغائر أو الكبائر المتوب عنها، وذكر أن الوقاية منها التكفير أو قبول التوبة وأن هؤلاء المستغفر لهم تائبون صالحون مثل الملائكة في الطهارة وأن الاستغفار لهم بمنزلة الشفاعة وفائدته زيادة الكرامة والثواب فلا يضر كونهم موعودين المغفرة والله تعالى لا يخلف الميعاد، وتعقب بأنه لا فائدة في ذكر الرحمة والمبالغة فيها إذا كان المغفور له مثل الملائكة عليهم السلام في الطهارة وأي حاجة إلى الاستغفار فضلا عن المبالغة، وأن ما قاله في السيئات لا يجوز فإن إسقاط عقوبة الكبيرة بعد التوبة واجب في مذهبه وما كان فعله واجبا كان طلبه بالدعاء عبثا قبيحا عند المعتزلة، وكذا إسقاط عقوبة الصغيرة فلا يحسن طلبه بالدعاء ولا يجوز أن يكون ذلك لزيادة منفعة لأن ذلك لا يسمى مغفرة، حكي هذا الطيبي عن الإمام ثم قال: فحينئذ يجب القول بأن المراد بالتوبة التوبة عن الشرك كما قال الواحدي فاغفر للذين تابوا عن الشرك واتبعوا سبيلك أي دينك الإسلام، فإن قلت: لو لم يكن التوبة من المعاصي مرادا لكان يكفي أن يقولوا: فاغفر للذين آمنوا ليطابق السابق، قلت: والله تعالى أعلم هو قريب من وضع المظهر موضع المضمر من غير اللفظ السابق وبيانه أن قوله تعالى: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا الآية جاء مفصولا عن قوله تعالى:
وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فالآية بيان لكيفية الاستغفار لا لحال المستغفر لهم، ووصفهم المميز يعرف بالذوق، وأما فائدة العدول عن المضمر وأنه لم يقل: فاغفر لهم بل قيل: للذين تابوا فهي أن الملائكة كما عللوا الغفران في حق مفيض الخيرات جل شأنه بالعلم الشامل والرحمة الواسعة عللوا قابل الفيض أيضا بالتوبة عن الشرك واتباع سبيل الإسلام، فإن قلت: هذه التوبة إنما تصح في حق من سبق شركه على إسلامه دون من ولد مسلما ودام عليه، قلت: الآية نازلة في زمن الصحابة وجلهم انتقلوا من الشرك إلى الإسلام ولو قيل: فاغفر لمن لم يشرك لخرجوا فغلب الصحابة رضي الله تعالى عنهم على سنن جميع الأحكام انتهى، ولعمري إن للبحث فيه مجالا أي مجال.
وفي الكشف إنما اختار الزمخشري ما اختاره على ما قال الواحدي من أن التوبة عن الشرك لأن التوبة عند الإطلاق تنصرف إلى التوبة من الذنوب مطلقا على أن فيه تكرارا إذ ذاك لأن التائب عن الشرك هو المسلم، وقد فسر متبع السبيل في هذا القول به وإذا شرط حملة العرش ومن حوله عليهم السلام صلاح التابع وهو الذرية مع ما ورد من قوله تعالى: بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور: 21] فما بال المتبوع، وأنت تعلم أن الصلاح من أخص أوصاف المؤمن وكفاك دعاء إبراهيم ويوسف عليهما السلام في الإلحاق بالصالحين شاهدا، وأما أنهم غير محتاجين إلى الدعاء فجوابه أنه لا يجب أن يكون للحاجة، ألا ترى إلى قولنا: اللهم صل على سيدنا محمد وما ورد فيه من الفضائل(12/302)
والمعلوم حصوله منه تعالى يحسن طلبه فإن الدعاء في نفسه عبادة ويوجب للداعي والمدعو له من الشرف ما لا يتقاعد عن حصول أصل الثواب، ثم إن الوقاية عن السيئات إن كانت بمعنى التكفير وقع الكلام في أن السيئات المكفرة ما هي ولا خفاء أن النصوص دالة على تكفير التوبة للسيئات كلها وأن الصغائر مكفرات ما اجتنبت الكبائر فلا بد من تخصيصها به كما ذكر وإن كان معناها أن يعفي عنها ولا يؤاخذ بها كما هو قول الواحدي ومختار الإمام ومن ائتم به فينبغي أن ينظر أن الوقاية في أي المعنيين أظهر وأن قوله تعالى: وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وما يفيده من المبالغة على نحو من أدرك مرعى الصمان فقد أدرك.
وتعقيبه بقوله سبحانه: وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ في شأن المقصرين أظهر أو شأن المكفرين، ومن هذا التقرير قد لاح أن هذا الوجه ظاهر هذا السياق وأنه يوافق أصل الفريقين وليس فيه أنه سبحانه يعفو عن الكبائر بلا توبة أو لا يعفو فلا ينافي جوازه من أدلة أخرى إلى آخر ما قال وهو كلام حسن وإن كان في بعضه كحديث التكرار وكون الصلاح في الآية ما هو من أخص أوصاف المؤمن نوع مناقشة، وقد يرجح كون المراد بالتوبة التوبة من الذنوب مطلقا دون التوبة عن الشرك فقط بأن المتبادر من وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ وق كل واحد منهم ذلك، ومن المعلوم أنه لا بد من نفوذ الوعيد في طائفة من المؤمنين العاصين وتعذيبهم في النار فيكون الدعاء بحفظ كل من المؤمنين من العذاب محرما.
وقد نصوا على حرمة أن يقال: اللهم اغفر لجميع المؤمنين جميع ذنوبهم لذلك، ولا يلزم ذلك على كون الدعاء للتائبين الصالحين، وحمل الإضافة على العهد بأن يراد بعذاب الجحيم ما كان على سبيل الخلود لا يخفى حاله والاعتراض بلزوم الدعاء بمعلوم الحصول على كون المراد بالتوبة ذلك بخلاف ما إذا أريد بها التوبة عن الشرك فإنه لا يلزم ذلك إذ المعنى عليه فاغفر للذين تابوا عن الشرك ذنوبهم التي لم يتوبوا عنها وغفران تلك الذنوب غير معلوم الحصول قد علم جوابه مما في الكشف، على أن في كون الغفران للتائب معلوم الحصول خلافا أشرنا إليه أول السورة. نعم هذا اللزوم ظاهر في قولهم: وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ ونظير ذلك ما ورد في الدعاء أثر الأذان وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، وقد أجيب عن ذلك بغير ما أشير إليه وهو أن سبق الوعد لا يستدعي حصول الموعود بلا توسط دعاء.
وبالجملة لا بأس بحمل التوبة على التوبة من الذنوب مطلقا ولا يلزم من القول به القول بشيء من أصول المعتزلة فتأمل وأنصف، وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا شروع في بيان أحوال الكفار بعد دخول النار يُنادَوْنَ وهم في النار وقد مقتوا أنفسهم الأمّارة بالسوء التي وقعوا فيما وقعوا باتباع هواها حتى أكلوا أناملهم من المقت كما أخرج ذلك عبد بن حميد عن الحسن.
وفي بعض الآثار أنهم يمقتون أنفسهم حين يقول لهم الشيطان: فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إبراهيم: 22] وقيل: يمقتونها حين يعلمون أنهم من أصحاب النار، والمنادى الخزنة أو المؤمنون يقولون لهم إعظاما لحسرتهم:
لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ وهذا معمول للنداء لتضمنه معنى القول كأنه قيل ينادون مقولا لهم لمقت إلخ أو معمول لقول مقدر بفاء التفسير أي ينادون فيقال لهم: لمقت إلخ، وجعله معمولا للنداء على حذف الجار وإيصال الفعل بالجملة ليس بشيء، و (مقت) مصدر مضاف إلى الاسم الجليل إضافة المصدر لفاعله، وكذا إضافة المقت الثاني إلى ضمير الخطاب.
وفي الكلام تنازع أو حذف معمول الأول من غير تنازع أي لمقت الله إياكم أو أنفسكم أكبر من مقتكم(12/303)
أنفسكم، واللام للابتداء أو للقسم، والمقت أشد البغض والخلف يؤولونه مسندا إليه تعالى بأشد الإنكار.
إِذْ تُدْعَوْنَ أي إذ يدعوكم الأنبياء ونوابهم إِلَى الْإِيمانِ فتأبون قبوله فَتَكْفُرُونَ وهذا تعليل للحكم أو للمحكوم به- فإذ- متعلقة- بأكبر- وكان التعبير بالمضارع للإشارة إلى الاستمرار التجددي كأنه قيل: لمقت الله تعالى أنفسكم أكبر من مقتكم إياها لأنكم دعيتم مرة بعد مرة إلى الإيمان فتكرر منكم الكفر، وزمان المقتين واحد على ما هو المتبادر وهو زمان مقتهم أنفسهم الذي حكيناه آنفا» .
ويجوز أن يكون تعليلا لمقتهم أنفسهم وإذ متعلقة- بمقت- الثاني فهم مقتوا أنفسهم لأنهم دعوا مرارا إلى الإيمان فكفروا، والتعبير بالمضارع كما في الوجه السابق، وزمان المقتين كذلك، والعلة في الحقيقة إصرارهم على الكفر مع تكرر دعائهم إلى الإيمان، وجوز أن يكون تعليلا لمقت الله وإِذْ متعلقة به، ويعلم مما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى ما عليه وما له، وظاهر صنيع جماعة من الأجلة اختيار كون إِذْ ظرفية لا تعليلية فقيل: هي ظرف- لمقت- الأول، والمعنى لمقت الله تعالى أنفسكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أشد من مقتكم إياها اليوم وأنتم في النار أو وأنتم متحققون أنكم من أصحابها فزمان المقتين مختلف، وكون زمان الأول الدنيا وزمان الثاني الآخرة مروي عن الحسن، وأخرجه عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد، واعترض عليه غير واحد بلزوم الفصل بين المصدر وما في صلته بأجنبي هو الخبر، وفي أمالي ابن الحاجب لا بأس بذلك لأن الظروف متسع فيها، وقيل: هي ظرف لمصدر آخر يدل عليه الأول أو لفعل يدل عليه ذلك كما في البحر.
وفي الكشف فيه أن المقدر لا بد له من جزاءات إن استقل ويتسع الخرق وإن جعل بدلا فحذفه وأعمال المصدر المحذوف لا يتقاعد عن الفصل بالخبر وليس أجنبيا من كل وجه، وتقدير الفعل أي مقتكم الله إذ تدعون أبعد وأبعد، وقيل: هي ظرف لمقت الثاني. واعترض بأنهم لم يمقتوا أنفسهم وقت الدعوة بل في القيامة.
وأجيب بأن الكلام على هذا الوجه من قبيل قول الأمير كرم الله تعالى وجهه: إنما أكلت يوم أكل الثور الأحمر وقول عمرو بن عدس التميمي لمطلقته دختنوس بنت لقيط وقد سألته لبنا وكانت مقفرة من الزاد: الصيف ضيعت اللبن وذلك بأن يكون مجازا بتنزيل وقوع السبب وهو كفرهم وقت الدعوة منزلة وقوع المسبب وهو مقتهم لأنفسهم حين معاينتهم ما حل بهم بسببه، وقيل: إن المراد عليه إذ تبين أنكم دعيتم إلى الإيمان المنحى والحق الحقيق بالقبول فأبيتم أو أن المراد بأنفسهم جنسهم من المؤمنين فإنهم كانوا يمقتون المؤمنين في الدنيا إذ يدعون إلى الإيمان وهو أبعد التأويلات وقال مكي: إِذْ معمولة لا ذكروا مضمرا والمراد التحير والتنديم واستحسنه بعضهم وأراه خلاف المتبادر. وادعى صاحب الكشف أن فيه تنافرا بينا وعلله بما لم يظهر لي وجهه فتأمل.
وتفسير مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ بمقت كل واحد نفسه هو الظاهر، وجوز أن يراد به مقت بعضهم بعضا فقيل: إن الأتباع يمقتون الرؤساء لما ورطوهم فيه من الكفر والرؤساء يمقتون الاتباع لما أنهم اتبعوهم فحملوا أوزارا مثل أوزارهم فلا تغفل قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ صفتان لمصدري الفعلين، والتقدير أمتنا إماتتين اثنتين وأحييتنا إحياءتين اثنتين.
وجوز كون المصدرين موتتين وحياتين وهما إما مصدران للفعلين المذكورين أيضا بحذف الزوائد أو مصدران لفعلين آخرين يدل عليهما المذكوران فإن الإماتة والإحياء ينبئان عن الموت والحياة حتما فكأنه أمتنا فمتنا موتتين اثنتين وأحييتنا فحيينا حياتين اثنتين على طرز قوله:
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحت أو مجلف(12/304)
أي لم يدع فلم يبق إلا مسحت إلخ، واختلف في المراد بذلك فقيل: أرادوا بالإماتة الأولى خلقهم أمواتا وبالثانية إماتتهم عند انقضاء آجالهم وبالإحياءة الأولى إحياؤهم بنفخ الروح فيهم وهم في الأرحام وبالثانية إحياؤهم بإعادة أرواحهم إلى أبدانهم للبعث. وأخرج هذا ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس وجماعة منهم الحاكم وصححه عن ابن مسعود، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة، وروي أيضا عن الضحاك وأبي مالك وجعلوا ذلك نظير آية [البقرة: 28] كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ والإماتة إن كانت حقيقة في جعل الشيء عادم الحياة سبق بحياة أم لا فالأمر ظاهر وإن كانت حقيقة في تصيير الحياة معدومة بعد أن كانت موجودة كما هو ظاهر كلامهم حيث قالوا: إن صيغة الأفعال وصيغة التفعيل موضوعتان للتصيير أي النقل من حال إلى حال ففي إطلاقها على ما عد اماتة أولى خفاء لاقتضاء ذلك سبق الحياة ولا سبق فيما ذكر، ووجه بأن ذلك من باب المجاز كما قرروه في ضيق فم الركية ووسع أسفلها قالوا: إن الصانع إذا اختار أحد الجائزين وهو متمكن منهما على السواء فقد صرف المصنوع الجائز عن الآخر فجعل صرفه عنه كنقله منه يعني أنه تجوز بالأفعال أو التفعيل الدال على التصيير وهو النقل من حال إلى حال أخرى عن لازمه وهو الصرف عما في حيز الإمكان، ويتبعه جعل الممكن الذي تجوز إرادته بمنزلة الواقع، وكذا جعل الأمر في ضيق فم الركية مثلا بإنشائه على الحال الثانية بمنزلة أمره بنقله عن غيرها، ولذا جعله بعض الأجلة بمنزلة الاستعارة بالكناية فيكون مجازا مرسلا مستتبعا للاستعارة بالكناية، فالمراد بالإماتة هناك الصرف لا النقل، وذكر بعضهم أنه لا بد من القول بعموم المجاز لئلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في الآية أو استعمال المشترك في معنييه بناء على زعم أن الصيغة مشتركة بين الصرف والنقل، ومن أجاز ما ذكر لم يحتج للقول بذلك. وفي الكشف آثر جار الله أن إحدى الإماتتين ما ذكر في قوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ وإطلاقها عليه من باب المجاز وهو مجاز مستعمل في القرآن، وقد ذكر وجه التجوز، وتحقيق ذلك يبتني على حرف واحد وهو أن الإحياء معناه جعل الشيء حيا فالمادة الترابية أو النطفية إذا أفيضت عليها الحياة صدق أنها صارت ذات حياة على الحقيقة إذ لا يحتاج إلى سبق موت على الحقيقة بل إلى سبق عدم الحياة فهناك إحياء حقيقة، وأما الإماتة فإن جعل بين الموت والحياة التقابل المشهوري استدعى المسبوقية بالحياة فلا تصح الإماتة قبلها حقيقة، وإن جعل التقابل الحقيقي صحت، لكن الظاهر في الاستعمال بحسب عرفي العرب والعجم أنه مشهوري انتهى، وأراد بالمشهوري والحقيقي ما ذكروه في التقابل بالعدم والملكة فإنهم قالوا: المتقابلان بالعدم والملكة وهما أمران يكون أحدهما وجوديا والآخر عدم ذلك الوجودي في موضوع قابل له إن اعتبر قبوله بحسب شخصه في وقت اتصافه بالأمر العدمي فهو العدم والملكة المشهوران كالكوسجية فإنها عدم اللحية عما من شأنه في ذلك الوقت أن يكون ملتحيا فإن الصبي لا يقال له كوسج، وإن اعتبر قبوله أعم من ذلك بأن لا يقيد بذلك الوقت كعدم اللحية عن الطفل أو يعتبر قبوله بحسب نوعه كالعمى للأكمه أو جنسه القريب كالعمى للعقرب أو البعيد كعدم الحركة الإرادية عن الجبل فإن جنسه البعيد أعني الجسم الذي هو فوق الجماد قابل للحركة الإرادية فهو العدم والملكة الحقيقيان لكن في بناء اقتضاء المسبوقية بالحياة وعدمه على ذلك خفاء، وإن ضم إليه التعبير بصيغة الماضي كما لا يخفى على المتدبر.
ثم وجه تسبب الإماتة مرتين والإحياء كذلك لقوله تعالى: فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا أنهم قد أنكروا البعث فكفروا وتبع ذلك من الذنوب ما لا يحصى لأن من لم يخش العاقبة تخرق في المعاصي فلما رأوا الإماتة والإحياء قد تكرر عليهم علموا بأن الله تعالى قادر على الإعادة قدرته على الإنشاء فاعترفوا بذنوبهم التي اقترفوها من إنكار البعث وما تبعه من معاصيهم.
وقال السدي: أرادوا بالإماتة الأولى إماتتهم عند انقضاء آجالهم وبالإحياءة الأولى إحياؤهم في القبر للسؤال(12/305)
وبالإماتة الثانية إماتتهم بعد هذه الإحياءة إلى قيام الساعة وبالإحياءة الثانية إحياؤهم للبعث، واعترض عليه بأنه يلزم هذا القائل ثلاث إحياءات فكان ينبغي أن يكون المنزل أحييتنا ثلاثا فإن ادعى عدم الاعتداد بالإحياءة المعروفة وهي التي كانت في الدنيا لسرعة انصرامها وانقطاع آثارها وأحكامها لزمه أن لا يعتد بالإماتة بعدها.
وقال بعض المحققين في الانتصار له: إن مراد الكفار من هذا القول اعترافهم بما كانوا ينكرونه في الدنيا ويكذبون الأنبياء حين كانوا يدعونهم إلى الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر لأن قولهم هذا كالجواب عن النداء في قوله تعالى: يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ كأنهم أجابوا أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دعونا وكنا نعتقد أن لا حياة بعد الموت فالآن نعترف بالموتين والحياتين لما قاسينا من شدائدهما وأحوالهما فالذنب المعترف به تكذيب البعث، ولهذا جعل مرتبا على القول وإنما ذكروا الإماتتين ليذكروا الإحياءين إذ كلتا الحياتين كانتا منكرتين عندهم دون الحياة المعروفة ومقام هذه الآية غير مقام قوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ فإن هذه كما سمعت لبيان الإقرار والاعتراف منهم في الآخرة بما أنكروه في الدنيا وتلك لبيان الامتنان الذي يستدعي شكر المنعم أو لبيان الدلائل لتصرفهم عن الكفر.
ويرجح هذا القول إن أمر إطلاق الإماتة على كلتا الإماتتين ظاهر. وتعقبه في الكشف بأنه لا قرينة في اللفظ تدل على خروج الإحياء الأول مع أن الإطلاق عليه أظهر والمقابلة تنادي على دخوله. ويكفي في الاعتراف إثبات احياء واحد منهما غير الأول، وقيل: إنما قالوا: أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ لأنهما نوعان إحياء البعث وإحياء قبله، ثم إحياء البعث قسمان إحياء في القبر وإحياء عند القيام ولم يذكر تقسيمه لأنهم كانوا منكرين لقسميه.
وتعذب أن ذكر الإماتة الثانية التي في القبر دليل على أن التقسيم ملحوظ، والمراد التعدد الشخصي لا النوعي نعم هذا يصلح تأييدا لما اختاره جار الله، وروي عن جمع من السلف من أن الإحياءات وإن كانت ثلاثا إنما سكت عن الثانية لأنها داخلة في إحياءة البعث قاله صاحب الكشف ثم قال: وعلى هذا فالإماتة على مختار جار الله إماتة قبل الحياة وإماتة بعدها وطويت إماتة القبر كما طويت إحياءته ولك أن تقول إن الإماتة نوع واحد بخلاف الإحياء فروعي التعدد فيها شخصا بخلافه، وذكر الإماتة الثانية لأنها منكرة عندهم كالحياتين، ويجب الاعتراف بها لا للدلالة على أن التعدد في الإحياء شخصي والحق أن ذلك وجه لكن قوله تعالى: اثْنَتَيْنِ ظاهر في المرة فلذا آثر من آثر الوجه الأول وإن كانت الإماتة فيه غير ظاهرة ذهابا إلى أن ذلك مجاز مستعمل في القرآن فتأمل.
وقال الإمام: إن أكثر العلماء احتجوا بهذه الآية في إثبات عذاب القبر وذلك أنهم أثبتوا لأنفسهم موتتين فإحدى الموتتين مشاهد في الدنيا فلا بد من إثبات حياة أخرى في القبر حتى يصير الموت الذي عقيبها موتا ثانيا، وذلك يدل على حصول حياة في القبر، وأطال الكلام في تحقيق ذلك والانتصار له، والمنصف يرى أن عذاب القبر ثابت بالأحاديث الصحيحة دون هذه الآية لقيام الوجه المروي عمن سمعت أولا فيها، وقد قيل: إنه الوجه لكني أظن أن اختيار الزمخشري له لدسيسة اعتزالية، وقال ابن زيد في الآية أريد إحياؤهم نسما عند أخذ العهد عليهم من صلب آدم ثم إماتتهم بعد ثم إحياؤهم في الدنيا ثم إماتتهم ثم إحياؤهم وهذا صريح في أن الإحياءات ثلاث، وقد أطلق فيه الإحياء الثالث والأغلب على الظن أنه عنى به إحياء البعث، وقيل: التثنية في كلامهم مثلها في قوله تعالى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الملك: 4] مراد بها التكرير والتكثير فكأنهم قالوا: أمتنا مرة بعد مرة وأحييتنا مرة بعد مرة فعلمنا عظيم قدرتك وأنه لا يتعاصاها الإعادة كما لا يتعاصاها غيرها فاعترفنا بذنوبنا التي اقترفناها من إنكار ذلك، وحينئذ فلا عليك أن تعتبر الموت في صلب آدم ثم الإحياء لأخذ العهد ثم الإماتة ثم الإحياء بنفخ الروح في الأرحام ثم الإماتة عند انقضاء الأجل في الدنيا ثم الإحياء في القبر للسؤال أو لغيره ثم الإماتة فيه ثم الإحياء للبعث ولا يخفى أنه على ما فيه(12/306)
إنما يتم لو كان المقول أمتنا إماتتين أو كرتين وأحييتنا احياءتين أو كرتين مثلا دون ما في المنزل، فإن اثْنَتَيْنِ فيه وصف لإماتتين ولإحياءتين وهو دافع لاحتمال إرادة التكثير كما قيل في إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ [النحل: 51] وبناء الأمر على أن العدد لا مفهوم له لا يخلو عن بحث، ومن غرائب ما قيل في ذلك ما روي عن محمد بن كعب أن الكافر في الدنيا حي الجسد ميت القلب فاعتبرت الحالتان فهناك إماتة وإحياء للقلب والجسد في الدنيا ثم إماتتهم عند انقضاء الآجال ثم إحياؤهم للبعث، ومثل هذا يحكى ليطلع على حاله فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ أي إلى نوع خروج من النار أي فهل إلى خروج سريع أو بطيء أو من مكان منها إلى آخر أو إلى الدنيا أو غيرها مِنْ سَبِيلٍ طريق من الطرق فنسلكه مثل هذا التركيب يستعمل عند اليأس، وليس المقصود به الاستفهام وإنما قالوه من فرط قنوطهم تعللا أو تحيرا ولذلك أجيبوا بذكر ما أوقعهم في الهلاك وهو قوله تعالى: ذلِكُمْ إلخ من غير جواب عن الخروج نفيا أو إثباتا وإن كان الاستفهام على ظاهره، والمراد طلب الخروج نظير فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً [السجدة: 12] ونحوه لقيل:
اخْسَؤُا فِيها [المؤمنون: 108] أو نحو ذلك كذا قيل، وجوز أن يكونوا طلبوا الرجعة ليعملوا بموجب ذلك الاعتراف لكن مع استبعاد لها واستشعار يأس منها والجواب إقناط لهم ببيان أنهم كانوا مستمرين على الشرك فجوزوا باستمرار العقاب والخلود في النار كما يقتضيه حكمه تعالى وذلك جواب بنفي السبيل إلى الخروج على أبلغ وجه، ولا أرى في هذا الوجه بأسا ويوشك أن يكون المتبادر، والمعنى ذلكم الذي أنتم فيه من العذاب بِأَنَّهُ أي بسبب أن الشأن إِذا دُعِيَ اللَّهُ أي عبد سبحانه في الدنيا وَحْدَهُ أي متحدا منفردا فهو نصب على الحال مؤول بمشتق منكر أو يوحد وحده على أنه مفعول مطلق لفعل مقدر على حد أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] والجملة بتمامها حال أيضا حذفت وأقيم المصدر مقامها، وفيه كلام آخر مفصل في الوفدة وقد تقدم بعضه.
كَفَرْتُمْ بتوحيده تعالى أي جحدتم وأنكرتم ذلك وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا بالإشراك أي تذعنوا وتقروا به، وفي إيراد إِذا وصيغة الماضي في الشرطية الأولى وإِنْ وصيغة المضارع في الثانية ما لا يخفى من الدلالة على سوء حالهم وحيث كان كذلك فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الذي لا يحكم إلا بالحق ولا يقضي إلا بما تقتضيه الحكمة الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ المتصف بغاية العلوم نهاية الكبرياء فليس كمثله شيء في ذاته وصفاته وأفعاله، ولذا اشتدت سطوته بمن أشرك به واقتضت حكمته خلوده في النار فلا سبيل لخروجكم منها أبدا إذ كنتم مشركين. واستدلال الحرورية بهذه الآية على زعمهم الفاسد في غاية السقوط، ويكفي في الرد عليهم قوله تعالى: فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها [النساء: 35] الآية وقوله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ [المائدة: 95] هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ الدالة على شؤونه العظيمة الموجبة لتفرده بالألوهية لتستدلوا بها على ذلك وتعملوا بموجبها فإذا دعى سبحانه وحده تؤمنوا وإن يشرك به تكفروا، وهذه الآيات ما يشاهد من آثار قدرته عزّ وجلّ:
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
وَيُنَزِّلُ بالتشديد وقرىء بالتخفيف من الإنزال لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً أي سبب رزق وهو المطر، وإفراده بالذكر مع كونه من جملة تلك الآيات لتفرده بعنوان كونه من آثار رحمته وجلائل نعمته الموجبة للشكر، وصيغة المضارع في الفعلين للدلالة على تجدد الإراءة والتنزيل واستمرارهما، وتقديم الجار والمجرور على المفعول لما مر غير مرة وَما يَتَذَكَّرُ بتلك الآيات التي هي كالمر كوزة في العقول لظهورها المغفول عنها للانهماك في التقليد واتباع الهوى إِلَّا مَنْ يُنِيبُ يرجع عن الإنكار بالإقبال عليها والتفكر فيها، فإن الجازم بشيء لا ينظر فيما ينافيه فمن لا ينيب بمعزل عن التذكر فَادْعُوا اللَّهَ اعبدوه عزّ وجلّ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ من الشرك وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ إخلاصكم وشق عليهم.(12/307)
وظاهر كلام الكشاف أن (ادعوا) إلخ مسبب عن الإنابة وأن فيه التفاتا حيث قال: ثم قال للمنيبين والأصل فليدع ذلك المنيب، على معنى إن صحت الإنابة على نحو فقد جئنا خراسانا، وقد وافق على كونه خطابا لمن ذكر غير واحد. وفي الكشف التحقيق أن قوله تعالى: وَما يَتَذَكَّرُ إلخ اعتراض وقوله سبحانه: فَادْعُوا اللَّهَ مسبب عن قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ على أنه خطاب يعم المؤمن والكافر لسبق ذكرهما لا للكفار وحدهم على نحو مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إذ ليس مما نودوا به يوم القيامة، والمعنى فادعوه فوضع الظاهر موضع المضمر ليتمكن فضل تمكن وليشعر بأن كونه تعالى هو المعبود بحق هو الذي يقتضي أن يعبد وحده. وفائدة الاعتراض أن هذه الآيات ودلالتها على اختصاصه سبحانه وحده بالعبادة بالنسبة إلى من ينيب لا المعاند.
وقوله في الكشاف: ثم قال للمنيبين إشارة أن فائدة تقديم الاعتراض أن الانتفاع بالآيات على هذا التقدير فكأنه مسبب عن الإنابة معنى لما كان تسبب السابق للاحق الإنابة، فهذا هو الوجه ولا يأباه تفسير وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ بقوله: وإن غاظ ذلك أعداءكم فإنه للتنبيه على أن امتثال ذلك الأمر إنما يكون بعد إنابتهم وكأن قد حصل ذلك وحصل التضاد بينهم وبين الكافرين، وهو تحقيق حقيق بالقبول لكن في توجيه كلام الكشاف تكلف ظاهر رَفِيعُ الدَّرَجاتِ صفة مشبهة أضيفت إلى فاعلها من رفع الشيء بالضم إذا علا، وجوز أن يكون صيغة مبالغة من باب أسماء الفاعلين وأضيف إلى المفعول وفيه بعد، والدَّرَجاتِ مصاعد الملائكة عليهم السلام إلى أن يبلغوا العرش أي رفيع درجات ملائكته ومعارجهم إلى عرشه.
وفسرها ابن جبير بالسماوات ولا بأس بذلك فإن الملائكة يعرجون من سماء إلى سماء حتى يبلغوا العرش إلا أنه جعل «رفيعا» اسم فاعل مضافا إلى المفعول فقال: أي رفع سماء فوق سماء والعرش فوقهن، وقد سمعت آنفا أن فيه بعدا، ووصفه عزّ وجلّ بذلك للدلالة على سبيل الإدماج على عزته سبحانه وملكوته جل شأنه.
ويجوز أن يكون كناية عن رفعة شأنة وسلطانه عز شأنه وسلطانه كما أن قوله تعالى: ذُو الْعَرْشِ كناية عن ملكه جل جلاله، ولا نظر في ذلك إلى أن له سبحانه عرشا أو لا، فالكناية وإن لم تناف إرادة الحقيقة لكن لا تقتضي وجوب إرادتها فقد وقد وعن ابن زيد أنه قال: أي عظيم الصفات وكأنه بيان لحاصل المعنى الكنائي، وقيل: هي درجات ثوابه التي ينزلها أولياءه تعالى يوم القيامة، وروي ذلك عن ابن عباس وابن سلام، وهذا أنسب بقوله تعالى:
فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ والمعنى الأول أنسب بقوله تعالى: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ لتضمنه ذكر الملائكة عليهم السلام وهم المنزلون بالروح كما قال سبحانه: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ [النحل: 2] وأيا ما كان- فرفيع الدرجات- وذُو الْعَرْشِ وجملة يُلْقِي أخبار ثلاثة قيل:- لهو- السابق في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ إلخ واستبعده أبو حيان بطول الفصل، وقيل: لهو محذوفا، والجملة كالتعليل لتخصيص العبادة وإخلاص الدين له تعالى، وهي متضمنة بيان إنزال الرزق الروحاني بعد بيان إنزال الرزق الجسماني في يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً فإن المراد بالروح على ما روي عن قتادة الوحي وعلى ما روي عن ابن عباس القرآن وذلك جار من القلوب مجرى الروح من الأجساد، وفسره الضحاك بجبريل عليه السلام وهو عليه السلام حياة القلوب باعتبار ما ينزل به من العلم.
وجوز ابن عطية أن يراد به كل ما ينعم الله تعالى به على عباده المهتدين في تفهيم الإيمان والمعقولات الشريفة وهو كما ترى، وقوله تعالى: مِنْ أَمْرِهِ قيل: بيان للروح، وفسر بما يتناول الأمر والنهي، وأوثر على لفظ الوحي للإشارة إلى أن اختصاص حياة القلوب بالوحي من جهتي التخلي والتحلي الحاصلين بالامتثال والانتهاء. وعن ابن عباس تفسير الأمر بالقضاء فجعلت مِنْ ابتدائية متعلقة بمحذوف وقع حالا من الرُّوحَ أي ناشئا من أمره أو(12/308)
صفة له على رأي من يجوز حذف الموصول مع بعض صلته أي الكائن من أمره، وفسره بعضهم بالملك وجعل مِنْ ابتدائية متعلقة بمحذوف وقع حالا أو صفة على ما ذكر آنفا، وكون الملك مبدأ للوحي لتلقيه عنه، ومن فسر الروح بجبريل عليه الصلاة والسلام قال: مِنْ سببية متعلقة- بيلقي- والمعنى ينزل الروح من أجل تبليغ أمره عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وهو الذي اصطفاه سبحانه لرسالته وتبليغ أحكامه إليهم، والاستمرار التجددي المفهوم من يُلْقِي ظاهر فإن الإلقاء لم يزل من لدن آدم عليه السلام إلى انتهاء زمان نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو في حكم المتصل إلى قيام الساعة بإقامة من يقوم بالدعوة على ما
روى أبو داود عن أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: «إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»
أي بإحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة والأمر بمقتضاهما، وأمر ذلك التجدد على ما جوزه ابن عطية لا يحتاج إلى ما ذكر. وقرىء «رفيع» بالنصب على المدح لِيُنْذِرَ علة للإلقاء، وضميره المستتر لله تعالى أو لمن وهو الملقى إليه أو للروح أو للأمر، وعوده على الملقى إليه وهو الرسول أقرب لفظا ومعنى لقرب المرجع وقوة الإسناد فإنه الذي ينذر الناس حقيقة بلا واسطة، واستظهر أبو حيان رجوعه إليه تعالى لأنه سبحانه المحدث عنه، وقوله تعالى: يَوْمَ التَّلاقِ مفعول- لينذر- أو ظرف والمنذر به محذوف أي لينذر العذاب أو نحوه يوم التلاق، وقوله سبحانه: يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ بدل من يَوْمَ التَّلاقِ وهُمْ مبتدأ وبارِزُونَ خبر والجملة في محل جر بإضافة يَوْمَ إليها، قيل: وهذا تخريج على مذهب أبي الحسن من جواز إضافة الظرف المستقبل كإذا إلى الجملة الاسمية نحو أجيئك إذا زيد ذاهب، وسيبويه لا يجوز ذلك ويوجب تقدير فعل بعد الظرف يكون الاسم مرتفعا به، وجوز أن يكون يَوْمَ ظرفا لقوله تعالى: لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ والظاهر البدلية، وهذه الجملة استئناف لبيان بروزهم وتقرير له وإزاحة لما كان يتوهمه بعض المتوهمين في الدنيا من الاستتار توهما باطلا، وجوز أن تكون خبرا ثانيا- لهم..
وقيل: هي حال من ضمير بارِزُونَ ويَوْمَ التَّلاقِ يوم القيامة سمي بذلك قال ابن عباس: لالتقاء الخلائق فيه، وقال مقاتل: لالتقاء الخالق والمخلوق فيه. وحكاه الطبرسي عن ابن عباس، وقال السدي: لالتقاء أهل السماء وأهل الأرض وقال ميمون بن مهران: لالتقاء الظالم والمظلوم، وحكى الثعلبي أن ذلك لالتقاء كل امرئ وعمله، واختار بعض الآجلة ما قال مقاتل وقال: هو أولى الوجوه لما فيه من حمل المطلق على ما ورد في كثير من المواضع نحو فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ. إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا.
وقال صاحب الكشف: القول الأول وهو ما نقل عن ابن عباس أولا أشبه لجريان الكلام فيه على الحقيقة ونفي ما يتوهم من المساواة بين الخالق والمخلوق واستقلال كل من البدلين بفائدة في التهويل لما في الأول من تصوير تلاقي الخلائق على اختلاف أنواعها، وفي الثاني من البروز لمالك أمرها بروزا لا يبقى لأحد فيه شبهة. وأما نحو قوله تعالى: لِقاءَ رَبِّهِ [الكهف: 110] فمسوق بمعنى آخر، وبارِزُونَ من برز وأصله حصل في براز أي فضاء، والمراد ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء لأن الأرض يومئذ قاع صفصف وليس عليهم ثياب إنما هم عراة مكشوفون كما
جاء في الصحيحين عن ابن عباس «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنكم ملاقو الله حفاة عراة غرلا»
وقيل: المراد خارجون من قبورهم أو ظاهرة أعمالهم وسرائرهم، وقيل: ظاهرة نفوسهم لا تحجب بغواشي الأبدان مع تعلقها بها، ولا يقبل هذا بدون ثبت من المعصوم، والمراد بقوله تعالى: مِنْهُمْ على ما قيل: من أحوالهم وأعمالهم.
وقيل: من أعيانهم، واختير التعميم أي لا يخفى عليه عز شأنه شيء ما من أعيانهم وأعمالهم وأحوالهم الجلية والخفية السابقة واللاحقة.(12/309)
الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47)
وقرأ أبي «لينذر يوم» ببناء ينذر للفاعل ورفع يوم على الفاعلية مجازا. وقرأ اليماني فيما ذكر صاحب اللوامح «لينذر» مبنيا للمفعول «يوم» بالرفع على النيابة عن الفاعل. وقرأ الحسن واليماني فيما ذكر ابن خالويه «لتنذر» بالتاء الفوقية فقيل: الفاعل فيه ضمير الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وقيل: ضمير الروح لأنها تؤنث وقوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ حكاية لما يسأل عنه في ذلك اليوم ولما يجاب به بتقدير قول معطوف على ما قبله من الجملة المنفية المستأنفة أو مستأنف يقع جوابا عن سؤال نشأ من حكاية بروزهم وظهور أحوالهم كأنه قيل: فما يكون حينئذ؟ فقيل: يقال: لِمَنِ الْمُلْكُ إلخ، وقوله تعالى:(12/310)
الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ أي من النفوس البرة والفاجرة بِما كَسَبَتْ أي من خير أو شر لا ظُلْمَ الْيَوْمَ بنقص الثواب وزيادة العقاب إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ أي سريع حسابه إذ لا يشغله سبحانه شأن عن شأن فيصل إلى المحاسب من النفوس ما يستحقه سريعا. روي عن ابن عباس أنه تعالى إذا أخذ في حسابهم لم يقل أهل الجنة إلا فيها ولا أهل النار إلا فيها من تتمة الجواب جيء به لبيان إجمال فيه، والتذييل لتعليل ما قبله.
والمنادي بذلك سؤالا وجوابا واحد.
أخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود قال: «يجمع الله تعالى الخلق يوم القيامة بصعيد واحد بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يعص الله تعالى فيها قط ولم يخطأ فيها فأول ما يتكلم أن ينادي مناد لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ فأول ما يبدؤون به من الخصومات الدماء» الحديث
، وهو عند الحسن الله نفسه عزّ وجلّ، وقيل: ملك، وقيل: السائل هو الله تعالى أو ملك والمجيب الناس.
وذكر الطيبي تقريرا لعبارة الكشاف أن قوله تعالى: الْيَوْمَ تُجْزى إلخ تعليل فيجب أن يكون السائل والمجيب هو الله عزّ وجلّ، فإنه سبحانه لما سأل لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ وأجاب هو سبحانه بنفسه لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ كان المقام موقع السؤال وطلب التعليل فأوقع الْيَوْمَ تُجْزى جوابا عنه يعني إنما اختص الملك به تعالى لأنه وحده يقدر على مجازاة كل نفس بما كسبت وله العدل التام فلا يظلم أحدا وله التصرف فلا يشغله شأن عن شأن(12/311)
فيسرع الحساب، ولو أوقع لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ جوابا عن أهل المحشر لم يحسن هذا الاستئناف انتهى، وفيه ما فيه.
والحق أن قوله تعالى: الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ إلخ إن كان من كلام المجيب كما هو ظاهر حديث ابن مسعود بعد أن يكون من الناس، وجوز فيه أن لا يكون من تتمة الجواب بل هو حكاية لما سيقوله تعالى في ذلك اليوم عقيب السؤال والجواب. وأيا ما كان فتخصيص الملك به تعالى في ذلك اليوم إنما هو بالنظر إلى ظاهر الحال من زوال الأسباب وارتفاع الوسائط وظهور ذلك للكفرة والجهلة. وأما حقيقة الحال فناطقة بذلك دائما. وذهب محمد بن كعب القرظي إلى أن السؤال والجواب منه تعالى ويكونان بين النفختين حين يفني عزّ وجلّ الخلائق. وروي نحوه عن ابن عباس.
أخرج عبد بن حميد في زوائد الزهد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وأبو نعيم في الحلية عنه رضي الله تعالى عنه قال: «ينادي مناد بين يدي الساعة يا أيها الناس أتتكم الساعة فيسمعها الأحياء والأموات وينزل الله سبحانه إلى السماء الدنيا فيقول: لمن الملك اليوم لله الواحد القهار»
والسياق ظاهر في أن ذلك يوم القيامة فلعله على تقدير صحة الحديث يكون مرتين. ومعنى جزاء النفوس بما كسبت أنها تجزى خيرا إن كسبت خيرا وشرا إن كسبت شرا. وقيل:
إن النفوس تكتسب بالعقائد والأعمال هيئات توجب لذتها وألمها لكنها لا تشعر بها في الدنيا فإذا قامت قيامتها وزالت العوائق أدركت ألمها ولذتها. والظاهر أن هذا قول باللذة والألم الروحانيين ونحن لا ننكر حصولهما يومئذ لكن نقول:
إن الجزاء لا ينحصر بهما بل يكون أيضا بلذة وألم جسمانيين. فالاقتصار في تفسير الآية على ذلك قصور.
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ يوم القيامة كما قال مجاهد وقتادة وابن زيد، ومعنى الْآزِفَةِ القريبة يقال: أزف الشخوص إذا قرب وضاق وقته، فهي في الأصل اسم فاعل ثم نقلت منه وجعلت اسما للقيامة لقربها بالإضافة لما مضى من مدة الدنيا أو لما بقي فإن كل آت قريب، ويجوز أن تكون باقية على الأصل فتكون صفة لمحذوف أي الساعة الآزفة، وقدر بعضهم الموصوفة الخطة بضم الخاء المعجمة وتشديد الطاء المهملة وهي القصة والأمر العظيم الذي يستحق أن يخط ويكتب لغرابته، ويراد بذلك ما يقع يوم القيامة من الأمور الصعبة وقربها لأن كل آت قريب، والمراد باليوم الوقت مطلقا أو هو يوم القيامة، وقال أبو مسلم: يَوْمَ الْآزِفَةِ يوم المنية وحضور الأجل.
ورجح بأنه أبعد عن التكرار وأنسب بما بعده ووصف القرب منه أظهر إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ بدل من يَوْمَ الْآزِفَةِ والْحَناجِرِ جمع حنجرة أو حنجور كحلقوم لفظا ومعنى وهي كما قال الراغب: رأس الغلصمة من خارج وهي لحمة بين الرأس والعنق، والكلام كناية عن شدة الخوف أو فرط التألم، وجوز أن يكون على حقيقته وتبلغ قلوب الكفار حناجرهم يوم القيامة ولا يموتون كما لو كان ذلك في الدنيا.
كاظِمِينَ حال من أصحاب القلوب على المعنى فإن ذكر القلوب يدل على ذكر أصحابها فهو من باب وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً [الحجر: 47] فكأنه قيل: إذ قلوبهم لدى الحناجر كاظمين عليها، وهو من كظم القربة إذا ملأها وسد فاها، فالمعنى ممسكين أنفسهم على قلوبهم لئلا تخرج مع النفس فإن كاظم القربة كاظم على الماء ممسكها عليه لئلا يخرج امتلاء. وفيه مبالغة عظيمة، وجوز كونه حالا من ضمير الْقُلُوبُ المستتر في الخبر أعني لَدَى الْحَناجِرِ وعلى رأي من يجوز مجيء الحال من المبتدأ كونه حالا من الْقُلُوبُ نفسها.
وجمع جمع العقلاء لتنزيلها منزلتهم لوصفها بصفتهم كما في قوله تعالى: فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ(12/312)
[الشعراء: 4] والمعنى حال كون القلوب كاظمة على الغم والكرب، ومنه يعلم أنه لا يجوز أن يكون لَدَى الْحَناجِرِ ظرف كاظِمِينَ لفساد المعنى والحاجة إلى تقدير محذوف مع الغنى عنه، وكذلك على قراءة كاظمون للأول فقط فيتعين كون لَدَى الْحَناجِرِ خبرا وكاظمون خبرا آخر وبذلك يترجح كون الحال من القلوب، وقدر الكواشي هم كاظمون ليوافق وجه الحالية من الأصحاب، وجوز كونه حالا من مفعول أَنْذِرْهُمْ أي أنذرهم مقدرا كظمهم أو مشارفين الكظم.
ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ أي قريب مشفق من احتم فلان لفلان احتد فكأنه الذي يحتد حماية لذويه ويقال لخاصة الرجل حامته ومن هنا فسر الحميم بالصديق وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ أي ولا شفيع يشفع فالجملة في محل جر أو رفع صفة شَفِيعٍ والمراد نفي الصفة والموصوف لا الصفة فقط ليدل على أن ثم شفيعا لكن لا يطاع فالكلام من باب:
لا ترى الضب بها ينجحر ولم يقتصر على نفع الشفيع بل ضم إليه ما ضم ليقام انتفاء الموصوف مقام الشاهد على انتفاء الصفة فيكون ذلك الضم إزالة لتوهم وجود الموصوف حيث جعل انتفاؤه أمرا مسلما مشهورا لا نزاع فيه لأن الدليل ينبغي أن يكون أوضح من المدلول، وهذا كما تقول لمن عاتبك على القعود عن الغزو ما لي فرس أركبه وما معي سلاح أحارب به فليفهم، والضمائر المذكورة من قوله تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ إلى هنا إن كانت للكفار كما هو الظاهر فوضع الظالمين موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بالظلم وتعليل الحكم، وإن كانت عامة لهم ولغيرهم فليس هذا من باب وضع الظاهر موضع الضمير وإنما هو بيان حكم للظالمين بخصوصهم، والمراد بهم الكاملون في الظلم وهم الكافرون لقوله تعالى:
إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ أي النظرة الخائنة كالنظرة إلى غير المحرم واستراق النظر إليه وغير ذلك- فخائنة- صفة لموصوف مقدر، وجعل النظرة خائنة إسناد مجازي أو استعارة مصرحة أو مكنية وتخييلية بجعل النظر بمنزلة شيء يسرق من المنظور إليه ولذا عبر فيه بالاستراق، ويجوز أن يكون خائنة مصدرا كالكاذبة والعاقبة والعافية أي يعلم سبحانه خيانة الأعين، وقيل: هو وصف مضاف إلى موصوفه كما في قوله:
وإن سقيت كرام الناس فاسقينا أي يعلم سبحانه الأعين الخائنة ولا يحسن ذلك لقوله تعالى: وَما تُخْفِي الصُّدُورُ أي والذي تخفيه الصدور من الضمائر أو إخفاء الصدور لما تخفيه من ذلك لأن الملاءمة واجبة الرعاية في علم البيان وملائم الأعين الخائنة الصدور المخفية، وما قيل في عدم حسن ذلك من أن مقام المبالغة يقتضي أن يراد استراق العين ضم إليه هذه القرينة أولا فغير قادح في التعليل المذكور إذ لا مانع من أن يكون على مطلوب دلائل ثم لولا القرينة لجاز أن تجعل الأعين تمهيدا للوصف فالقرينة هي المانعة وهذه الجملة على ما في الكشاف متصلة بأول الكلام خبر من أخبار هو في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ على معنى هو الذي يريكم إلخ وهو يعلم خائنة الأعين ولم يجعله تعليلا لنفي الشفاعة على معنى ما لهم من شفيع لأن الله تعالى يعلم منهم الخيانة سرا وعلانية قيل: لأنه لا يصلح تعليلا لنفيها بل لنفي قبولها فإن الله تعالى هو العالم لا الشفيع والمقصود نفي الشفاعة، ووجه تقرير هذا الخبر في هذا الموضع ما فيه من التخلص إلى ذم آلهتهم مع أن تقديمه على الَّذِي يُرِيكُمْ لا وجه له لتعلقه بما قبله أشد التعلق كما أشير إليه وكذلك على رَفِيعُ الدَّرَجاتِ لاتصاله بالسابق وأمر المنيبين بالإخلاص ولما فيه من النبو من توسيط المنكر الفعلي بين المبتدأ وخبره المعرف الأسمى، وأما توسيطه بين القرائن الثلاث فبين العصا ولحائها فلا موضع له أحق من(12/313)
هذا ولا يضر البعد اللفظي في مثل ذلك كما لا يخفى، وظن بعضهم ضرره فمنهم من قال: الجملة متصلة بمجموع قوله عزّ وجل: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إلى آخره، وذلك أنه سبحانه لما أمر بإنذار ذلك اليوم وما يعرض فيه من شدة الكرب والغم وذكر تعالى أن الظالم لا يجد من يحميه من ذلك ولا من يشفع له ذكر جل وعلا اطلاعه على جميع ما يصدر من العبد وأنه مجازي بما عمل ليكون على حذر من ذلك اليوم إذا علم أن الله تعالى مطلع على أعماله وإلى هذا ذهب أبو حيان.
وقال ابن عطية: هي متصلة بقوله تعالى: سَرِيعُ الْحِسابِ لأن سرعة حسابه تعالى للخلق إنما هي لعلمه تعالى الذي لا يحتاج معه إلى روية وفكر ولا لشيء مما يحتاجه المحاسبون، وحكى رحمه الله تعالى عن فرقة أنها متصلة بقوله تعالى: لا يخفى على الله منهم شيء ثم قال: وهذا قول حسن يقويه تناسب المعنيين ويضعفه البعد وكثرة الحائل، وجعلها بعض متصلة بنفي قبول الشفاعة الذي تضمنه قوله تعالى: وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ فإن يُطاعُ المنفي بمعنى تقبل شفاعته على أنها تعليل لذلك أي لا تقبل شفاعة شفيع لهم لأن الله تعالى يعلم منه الخيانة سرا وعلانية وليست تعليلا لنفي الشفاعة ليرد ما قيل، ولا يخفى ما فيه، ولعمري إن جار الله في مثل هذا المقام لا يجارى.
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ أي والذي هذه صفاته يقضي قضاء ملتبسا بالحق لا بالباطل لاستغنائه سبحانه عن الظلم، وتقديم المسند إليه للتقوى، وجوز أن يكون للحصر وفائدة العدول عن المضمر إلى المظهر والإتيان بالاسم الجامع عقيب ذكر الأوصاف ما أشير إليه من إرادة الموصوف بتلك الصفات.
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ تهكم بآلهتهم لأن الجماد لا يقال فيه يقضي أو لا يقضي، وجعله بعضهم من باب المشاكلة وأصله لا يقدرون على شيء، واختير الأول قيل لأن التهكم أبلغ لأنه ليس المقصود الاستدلال على عدم صلاحيتهم للإلهية.
وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع بخلاف عنه. وهشام «تدعون» بتاء الخطاب على الالتفات، وجوز أن يكون على إضمار قل فلا يكون التفاتا وإن عبر عنه بالغيبة قبله لأنه ليس على خلاف مقتضى الظاهر إذ هو ابتداء كلام مبني على خطابهم إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ تقرير لعلمه تعالى بخائنة الأعين وما تخفي الصدور وقضاؤه سبحانه بالحق ووعيد لهم على ما يقولون ويفعلون وتعريض بحال ما يدعون من دونه عزّ وجلّ، وفيه إشارة إلى أن القاضي ينبغي أن يكون سميعا بصيرا أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ أي ما حال الذين كذبوا الرسل عليهم السلام قبلهم كعاد. وثمود، و (ينظروا) مجزوم على أنه معطوف على يَسِيرُوا، وجوز أبو حيان كونه منصوبا في جواب النفي كما في قوله:
ألم تسأل فتخبرك الرسوم وتعقب بأنه لا يصح تقديره بأن لم يسيروا ينظروا. وأجيب بأن الاستفهام إنكاري وهو في معنى النفي فيكون جواب نفي النفي كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً قدرة وتمكنا من التصرفات، والضمير المنفصل تأكيد للضمير المتصل قبله، وجوز كونه ضمير فصل ولا يتعين وقوعه بين معرفتين فقد أجاز الجرجاني وقوع المضارع بعده كما في قوله تعالى:
إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ [البروج: 13] نعم الأصل الأكثر فيه ذلك، على أن أفعل التفضيل الواقع بعده من الداخلة على المفضل عليه مضارع للمعرفة لفظا في عدم دخول أل عليه ومعنى لأن المراد به الأفضل باعتبار أفضلية معينة.
وجملة كانُوا إلخ مستأنفة في جواب كيف صارت أمورهم. وقرأ ابن عامر «منكم» بضمير الخطاب على(12/314)
الالتفات. وَآثاراً فِي الْأَرْضِ عطف على قوة أي وأشد آثارا في الأرض مثل القلاع المحكمة والمدائن الحصينة، وقد حكى الله تعالى عن قوم منهم أنهم كانوا ينحتون من الجبال بيوتا.
وجوز كونه عطفا على أَشَدَّ بتقدير محذوف أي وأكثر آثارا فتشمل الآثار القوية وغيرها، وهو ارتكاب خلاف المتبادر من غير حاجة يعتد بها، وقيل: المراد بهذه الآثار آثار أقدامهم في الأرض لعظم أجرامهم وليس بشيء أصلا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ أي وليس لهم واق من الله تعالى يقيهم ويمنع عنهم عذابه تعالى أبدا، فكان للاستمرار والمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار، ومن الثانية زائدة ومن الأولى متعلقة بواق، وقدم الجار والمجرور للاهتمام والفاصلة لأن اسم الله تعالى قيل: لم يقع مقطعا للفواصل. وجوز أن تكون من الأولى للبدلية أي ما كان لهم بدلا من المتصف بصفات الكمال واق وأريد بذلك شركاؤهم، وأن تكون ابتدائية تنبيها على أن الأخذ في غاية العنف لأنه إذا لم يبتدىء من جهته سبحانه واقية لم يكن لهم باقية ذلِكَ الأخذ بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات والأحكام الواضحة فَكَفَرُوا ريثما أتتهم رسلهم بذلك فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ متمكن مما يريده عزّ وجلّ غاية التمكن شَدِيدُ الْعِقابِ لا يعتد بعقاب عند عقابه سبحانه، وهذا بيان للإجمال في قوله تعالى: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إن كانت الباء هناك سببية وبيان لسبب الأخذ إن كانت للملابسة أي أخذهم ملابسين لذنوبهم غير تائبين عنها فتأمل وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وهي معجزاته عليه السلام وَسُلْطانٍ مُبِينٍ حجة قاهرة ظاهرة، والمراد بذلك قيل ما أريد بالآيات ونزل تغاير الوصفين منزلة تغاير الذاتين فعطف الثاني على الأول، وقيل: المراد به بعض من آياته له شأن كالعصا، وعطف عليها تفخيما لشأنه كما عطف جبريل وميكال عليهما السلام على الملائكة.
وتعقب بأن مثله إنما يكون إذا غير الثاني بعلم أو نحوه أما مع إبهامه ففيه نظر، وحكى الطبرسي أن المراد بالآيات حجج التوحيد وبالسلطان المعجزات الدالة على نبوته عليه السلام، وقيل الآيات المعجزات والسلطان ما أوتيه عليه السلام من القوة القدسية وظهورها باعتبار ظهور آثارها من الإقدام على الدعوة من غير اكتراث. وقرأ عيسى «سلطان» بضم اللام إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وزير فرعون، وزعم اليهود أنه لم يكن لفرعون وزير يدعى هامان وإنما هامان ظالم جاء بعد فرعون بزمان مديد ودهر داهر نفي جاءهم من اختلال أمر كتبهم وتواريخ فرعون لطول العهد وكثرة المحن التي ابتلوا بها فاضمحلت منها أنفسهم وكتبهم.
وَقارُونَ قيل هو الذي كان من قوم موسى عليه السلام، وقيل: هو غيره وكان مقدم جنود فرعون، وذكرهما من بين أتباع فرعون لمكانتهما في الكفر وكونهما أشهر الأتباع.
وفي ذكر قصة الإرسال إلى فرعون ومن معه وتفصيل ما جرى تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان لعاقبة من هو أشد الذين كانوا من قبل وأقربهم زمانا ولذا خص ذلك بالذكر، ولا بعد في كون فرعون وجنوده أشد من عاد فَقالُوا ساحِرٌ أي هو يعنون موسى عليه السلام ساحر فيما أظهر من المعجزات كَذَّابٌ في دعواه أنه رسول من رب العالمين فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا وبلغهم أمر الله تعالى غير مكترث بقولهم ساحر كذاب قالُوا غيظا وحنقا وعجزا عن المعارضة اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ أي أعيدوا عليهم ما كنتم تفعلونه بهم أولا كي تصدوهم عن مظاهرة موسى عليه السلام، فالأمر بالقتل والاستحياء وقع مرتين. المرة الأولى حين أخبرت الكهنة والمنجمون في قول فرعون بمولود من بني إسرائيل يسلبه ملكه، والمرة الثانية هذه، وضمير قالُوا لفرعون ومن معه.(12/315)
وقيل: إن قارون لم يصدر منه هذه المقالة لكنهم غلبوا عليه وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ في ضياع من ضلت الدابة إذا ضاعت، والمراد أنه لا يفيدهم شيئا فالعاقبة للمتقين، واللام إما للعهد والإظهار في موقع الإضمار لذمهم بالكفر والإشعار بعلة الحكم أو للجنس والمذكورون داخلون فيه دخولا أوليا، والجملة اعتراض جيء به في تضاعيف ما حكي عنهم من الأباطيل للمسارعة إلى بيان بطلان ما أظهروه من الإبراق والإرعاد واضمحلاله بالمرة.
وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى كان إذا هم بقتله كفّوه بقولهم: ليس بالذي تخافه وهو أقل من ذلك وأضعف وما هو إلا ساحر يقاومه ساحر مثله وأنك إذا قتلته أدخلت الشبهة على الناس واعتقدوا أنك عجزت عن مظاهرته بالحجة، والظاهر أنه لعنه الله تعالى استيقن أنه عليه السلام نبي ولكن كان فيه خب وجربزة وكان قتالا سفاكا للدماء في أهون شيء فكيف لا يقتل من أحسن منه بأنه الذي يثل عرشه ويهدم ملكه ولكنه يخاف إن هم بقتله أن يعاجل بالهلاك فقوله: ذَرُونِي إلخ كان تمويها على قومه وإيهاما أنهم هم الذين يكفونه وما كان يكفه إلا ما في نفسه من هو الفزع ويرشد إلى ذلك قوله: وَلْيَدْعُ رَبَّهُ لأن ظاهره الاستهانة بموسى عليه السلام بدعائه ربه سبحانه كما يقال: ادع ناصرك فإني منتقم منك، وباطنه أنه كان يرعد فرائصه من دعاء ربه فلهذا تكلم به أول ما تكلم وأظهر أنه لا يبالي بدعاء ربه وما هو إلا كمن قال: ذروني أفعل كذا وما كان فليكن وإلا فما لمن يدعى أنه ربهم إلا على أن يجعل لما يدعيه موسى عليه السلام وزنا فيتفوه به تهكما أو حقيقة إِنِّي أَخافُ إن لم أقتله أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أن يغير حالكم الذي أنتم عليه من عبادتي وعبادة الأصنام وكان عليه اللعنة قد أمرهم بنحتها وأن تجعل شفعاء لهم عنده كما كان كفار مكة يقولون: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: 18] ولهذا المعنى أضافوا الآلهة إليه في قولهم: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الأعراف: 127] فهي إضافة تشريف واختصاص وهذا ما ذهب إليه بعض المفسرين، وقال ابن عطية: الدين السلطان ومنه قول زهير:
لئن حللت بحي من بني أسد ... في دين عمرو وحالت بيننا فدك
أي إني أخاف أن يغير سلطانكم ويستذلكم أَوْ أَنْ يُظْهِرَ إن لم يقدر على تغيير دينكم بالكلية فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ وذلك بالتهارج الذي يذهب معه الأمن وتتعطل المزارع والمكاسب ويهلك الناس قتلا وضياعا فالفساد الذي عناه فساد دنياهم، فيكون حاصل المعنى على ما قرر أولا أني أخاف أن يفسد عليكم أمر دينكم بالتبديل أو يفسد عليكم أمر دنياكم بالتعطيل وهما أمران كل منهما مر، ونحو هذا يقال على المعنى الثاني للدين، وعن قتادة أن اللعين عنى بالفساد طاعة الله تعالى: وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو و «وأن» الواو الواصلة.
وقرأ الأعرج والأعمش وابن وثاب وعيسى وابن كثير وابن عامر والكوفيون غير حفص يُظْهِرَ بفتح الياء والهاء «الفساد» بالرفع. وقرأ مجاهد «يظّهّر» بتشديد الظاء والهاء «الفساد» بالرفع. وقرأ زيد بن علي «يظهر» بضم الياء وفتح الهاء مبنيا للمفعول «الفساد» بالرفع.
وَقالَ مُوسى لما سمع بما أجراه اللعين من حديث قتله إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ قاله عليه السلام مخاطبا به قومه على ما ذهب إليه غير واحد، وذلك أنه لما كان القول السابق من فرعون خطابا لقومه على سبيل الاستشارة وإجالة الرأي لا بمحضر منه عليه السلام كان الظاهر أن موسى عليه السلام أيضا خاطب قومه لا فرعون وحاضريه بذلك، ويؤيده قوله تعالى: وفي [الأعراف: 128] قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا في هذه القصة بعينها، وقوله تعالى هنا: وَرَبِّكُمْ فإن فرعون ومن معه لا يعتقدون ربوبيته تعالى واردة أنه تعالى كذلك في نفس الأمر لا يضر في كونه مؤيدا لأن التأييد مداره الظاهر، وصدر الكلام بأن تأكيدا وتنبيها على أن(12/316)
السبب المؤكد في دفع الشر هو العياذ بالله تعالى، وخص اسم الرب لأن المطلوب هو الحفظ، والتربية وأضافه إليه وإليهم حثا لهم على موافقته في العياذ به سبحانه والتوجه التام بالروح إليه جل شأنه لما في تظاهر الأرواح من استجلاب الإجابة، وهذا هو الحكمة في مشروعية الجماعة في العبادات، ومِنْ كُلِّ على معنى من شر كل واردا بالتكبير الاستكبار عن الإذعان للحق وهو أقبح استكبار وأدله على دناءة ومهانة نفسه وعلى فرط ظلمه وعسفه، وضم إليه عدم الإيمان بيوم الجزاء ليكون أدل وأدل، فمن اجتمع فيه التكبر والتكذيب بالجزاء وقلة المبالاة بالعاقبة فقد استكمل أسباب القسوة والجراءة على الله تعالى وعباده ولم يترك عظيمة إلا ارتكبها، واختير المنزل دون منه سلوكا لطريق التعريض لأنه كلام وارد في عرضهم فلا يلبسون جلد النمر إذا عرض عليهم مع ما في ذلك من الدلالة على علة الاستعاذة ورعاية حتى تربية اللعين له عليه السلام في الجملة. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي «عت» بإدغام الذال المعجمة في التاء بعد قلبها تاء وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ قيل كان قبطيا ابن عم فرعون وكان يجري مجرى ولي العهد ومجرى صاحب الشرطة، وقيل: كان إسرائيليا، وقيل: كان غريبا ليس من الفئتين، ووصفه على هذين القولين بكونه من آل فرعون باعتبار دخوله في زمرتهم وإظهار أنه على دينهم وملتهم تقية وخوفا، ويقال نحو هذا في الإضافة في مؤمن آل فرعون الواقع في عدة أخبار، وقيل: مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ على القولين متعلق بقوله تعالى:
يَكْتُمُ إِيمانَهُ والتقديم للتخصيص أي رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون دون موسى عليه السلام ومن اتبعه، ولا بأس على هذا في الوقت على مؤمن. واعترض بأن كتم يتعدى بنفسه دون من فيقال: كتمت فلانا كذا دون كتمت من فلان قال الله تعالى: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء: 42] وقال الشاعر:
كتمتك ليلا بالجمومين ساهرا ... وهمين هما مستكنا وظاهرا
أحاديث نفس تشتكي ما يريبها ... وورد هموم لن يجدن مصادرا
وأراد على ما في البحر كتمتك أحاديث نفس وهمين، وفيه أنه صرح بعض اللغويين بتعديه بمن أيضا قال في المصباح كتم من باب قتل يتعدى إلى مفعولين ويجوز زيادة من في المفعول الأول فيقال: كتمت من زيد الحديث كما يقال: بعته الدار وبعتها منه. نعم تعلقه بذلك خلاف الظاهر بل الظاهر تعلقه بمحذوف وقع صفة ثانية لرجل، والظاهر على هذا كونه من آل فرعون حقيقة وفي كلامه المحكي عنه بعد ما هو ظاهر في ذلك واسمه قيل: شمعان بشين معجمة، وقيل: خربيل بخاء معجمة مكسورة وراء مهملة ساكنة، وقيل: حزبيل بحاء مهملة وزاي معجمة، وقيل: حبيب.
وقرأ عيسى وعبد الوارث وعبيد بن عقيل وحمزة بن القاسم عن أبي عمروة «رجل» بسكون الجيم وهي لغة تميم ونجد أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أي أتقصدون قتله فهو مجاز ذكر فيه المسبب وأريد السبب، وكون الإنكار لا يقتضي الوقوع لا يصححه من غير تجوز أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ أي لأن يقول ذلك وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ الشاهدة على صدقه من المعجزات، والاستدلالات الكثيرة وجمع المؤنث السالم وإن شاع أنه للقلة لكنه إذا دخلت عليه أل يفيد الكثرة بمعونة المقام. والجملة حالية من الفاعل أو المفعول، وهذا إنكار من ذلك الرجل عظيم وتبكيت لهم شديد كأنه قال: أترتكبون الفعلة الشنعاء التي هي قتل نفس محرمة وما لكم عليه في ارتكابها إلا كلمة الحق التي نطق بها وهي قوله: رَبِّيَ اللَّهُ مع أنه قد جاءكم بالبينات مِنْ رَبِّكُمْ أي من عند من نسب إليه الربوبية وهو ربكم لا ربه وحده، وهذا استدراج إلى الاعتراف وفي أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ- إلى- مِنْ رَبِّكُمْ نكتة جليلة وهي أن من يقول ربي الله أو فلان لا يقتضي أن يقابل بالقتل كما لا تقابلون بالقتل إذا قلتم: ربنا فرعون كيف وقد جعل ربه من هو ربكم فكان عليكم بأن تعزروه وتوقروه لا أن تخذلوه وتقتلوه، وجوز الزمخشري كون أَنْ يَقُولَ على تقدير مضاف أي(12/317)
وقت أن يقول فحذف الظرف فانتصب المضاف إليه على الظرفية لقيامه مقامه، والمعنى أتقتلونه ساعة سمعتم منه هذا القول من غير روية ولا فكر في أمره، ورده أبو حيان بأن القائم مقام الظرف لا يكون إلا المصدر الصريح كجئت صياح الديك أو ما كان بما الدوامية دون الغير الصريح كجئت أن صاح أو أن يصيح الديك، وفيه إن ابن جني كالزمخشري صرح بالجواز وكل إمام. ثم إن الرجل احتاط لنفسه خشية أن يعرف اللعين حقيقة أمره فيبطش به فتلطف به الاحتجاج فقال: وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ لا يتخطاه وبال كذبه فيحتاج في دفعه إلى قتله وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ فلا أقل من أن يصيبكم بعض الذي يعدكم به أو يعدكموه، وفيه مبالغة في التحذير فإنه إذا حذرهم من إصابة البعض أفاد أنه مهلك مخوف فما بال الكل وإظهار للإنصاف وعدم التعصب ولذا قدم احتمال كونه كاذبا، وقيل: المراد يصبكم ما يعدكم من عذاب الدنيا وهو بعض مواعيده كأنه خوفهم بما هو أظهر احتمالا عندهم، وقيل:
بعض بمعنى كل وانشدوا لذلك قول عمرو القطامي:
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
وذهب الزجاج إلى أن بَعْضُ فيه على ظاهره، والمراد إلزام الحجة وإبانة فضل المتأني على المستعجل بما لا يقدر الخصم أن يدفعه فالبيت كالآية على الوجه الأول، وأنشدوا لمجيء بعض بمعنى كل قول الشاعر:
إن الأمور إذا الأحداث دبرها ... دون الشيوخ قرى في بعضها خللا
ولا يتعين فيه ذلك كما لا يخفى، وعن أبي عبيدة أنه فسر البعض بالكل أيضا وأنشد قول لبيد:
تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها
حمل البيت على معنى لا أزال أنتقل في البلاد إلى أن لا يبقى أحد أقصده من العباد، والمحققون على أن البعض فيه على ظاهره والمراد به نفسه، والمعنى لا أزال أترك ما لم أرضه من الأمكنة إلا أن أموت، وقال الزمخشري:
إن صحت الرواية عن أبي عبيدة في ذلك فقد حق فيه قول المازني في مسألة العلقي كان أجفى من أن يفقه ما أقول له، وفيه مبالغة في الرد إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ احتجاج آخر ذو وجهين. أحدهما أنه لو كان مسرفا كذابا لما هداه الله تعالى إلى البينات ولما عضده بتلك المعجزات. وثانيهما إن كان كذلك خذله الله تعالى وأهلكه فلا حاجة لكم إلى قتله، ولعله أراد به المعنى الأول وأوهمهم أنه أراد الثاني لتلين شكيمتهم وعرض لفرعون بأنه مسرف أي في القتل والفساد كذاب في ادعاء الربوبية لا يهديه الله تعالى سبيل الصواب ومنهاج النجاة، فالجملة مستأنفة متعلقة معنى بالشرطية الأولى أو بالثانية أو بهما يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ غالبين عالين على بني إسرائيل فِي الْأَرْضِ أي في أرض مصر لا يقاومكم أحد في هذا الوقت فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ من أخذه وعذابه سبحانه إِنْ جاءَنا أي فلا تفسدوا أمركم ولا تتعرضوا لبأس الله تعالى بقتله فإنه إن جاءنا لم يمنعنا منه أحد، فالفاء في- فمن- إلخ فصيحة والاستفهام إنكاري، وإنما نسب ما يسرهم من الملك والظهور في الأرض إليهم خاصة ونظم نفسه في سلكهم فيما يسؤهم من مجيء بأس الله تعالى تطييبا لقلوبهم وإيذانا بأنه مناصح لهم ساع في تحصيل ما يجديهم ودفع ما يرديهم سعيه في حق نفسه ليتأثروا بنصحه.
قالَ فِرْعَوْنُ بعد ما سمع ذلك ما أُرِيكُمْ أي ما أشير عليكم إِلَّا ما أَرى إلا الذي أراه وأستصوبه من قتله يعني لا أستصوب إلا قتله وهو الذي تقولونه غير صواب وَما أَهْدِيكُمْ بهذا الرأي إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ طريق الصواب والصلاح أو ما أعلمكم إلا ما أعلم من الصواب ولا أدخر منه شيئا ولا أسر عنكم خلاف ما أظهر يعني(12/318)
أن لسانه وقلبه متواطئان على ما يقول، وقد كذب عدو الله فقد كان مستشعرا للخوف الشديد من جهة موسى عليه السلام لكنه كان يتجلد ولولا استشعاره لم يستشر أحدا، وعن معاذ بن جبل والحسن أنهما قرءا «الرشّاد» بشد الشين على أنه فعال للمبالغة من رشد بالكسر كعلام من علم أو من رشد بالفتح كعباد من عبد.
وقيل: هو من أرشد المزيد كجبار من أجبر، وتعقب بأن فعالا لم يجىء من المزيد إلا في عدة أحرف نحو جبار ودراك وقصار وسار ولا يحسن القياس على القليل مع أنه ثبت في بعضه كجبار سماع الثلاثي فلا يتعين كونه من المزيد فقد جاء جبره على كذا كأجبره وقصار كجبار عند بعض لا يتعين كونه من أقصر لمجيء قصر عن الشيء كأقصر عنه، وحكي عن الجوهري أن الإقصار كف مع قدرة والقصر كف مع عجز فلا يتم هذا عليه، وأما دراك وسآر فقد خرجا على حذف الزيادة تقديرا لا استعمالا كما قالوا: أبقل المكان فهو باقل وأورس الرمث فهو وارس، قال ابن جني: وعلى هذا خرج الرشاد فيكون من رشد بمعنى أرشد تقديرا لا استعمالا فإن المعنى على ذلك، ثم قال: فإن قيل إذا كان المعنى على أرشد فكيف أجزت أن يكون من رشد المكسور أو من رشد المفتوح؟ قيل: المعنى راجع إلى أنه مرشد لأنه إذا رشد أرشد لأن الإرشاد من الرشد فهو من باب الاكتفاء بذكر السبب عن المسبب انتهى، وقيل: أجيز ذلك لأن المبالغة في الرشد تكون بالإرشاد كما قرروا في قيوم وطهور.
وقال بعض المحققين: إن رشد بمعنى اهتدى فالمعنى ما أهديكم إلا سبيل من اهتدى وعظم رشده فلا حاجة إلى ما سمعت، وإنما يحتاج إليه لو وجب كون المعنى ما أهديكم إلا سبيل من كثر إرشاده ومن أين وجب ذلك؟ وجوز كون فعال في هذه القراءة للنسبة كما قالوا: عواج لبياع العاج وبتات لبياع البت وهو كساء غليظ، وقيل: طيلسان من خز أو صوف، وأنكر بعضهم كون القراءة على صيغة فعال في كلام فرعون وإنما هي في قول الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد، فإن معاذ بن جبل كان كما قال أبو الفضل الرازي وأبو حاتم يفسر سَبِيلَ الرَّشادِ على قراءته بسبيل الله تعالى وهو لا يتسنى في كلام فرعون كما لا يخفى، وستعلم إن شاء الله تعالى أن معاذا قرأ كذلك في قول المؤمن فلعل التفسير بسبيل الله عزّ وجلّ كان فيه دون كلام فرعون والله تعالى أعلم.
وَقالَ الَّذِي آمَنَ الجمهور على أنه الرجل المؤمن الكاتم إيمانه القائل: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ قوى الله تعالى نفسه وثبت قلبه فلم يهب فرعون ولم يعبأ به فأتى بنوع آخر من التهديد والتخويف فقال: يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ إلى آخره، وقالت فرقة: كلام ذلك المؤمن قد تم، والمراد بالذي آمن هنا هو موسى نفسه عليه السلام، واحتجت بقوة كلامه، وعلى الأول المعول أي قال ناصحا لقومه: يا قوم إني أخاف عليكم في تكذيب موسى عليه السلام والتعرض له بالسوء أن يحل بكم مثل ما حل بالذين تحزبوا على أنبيائهم من الأمم الماضية، واليوم واحد الأيام بمعنى الوقائع وقد كثر استعمالها بذلك حتى صار حقيقة عرفية أو بمعناها المعروف لغة، والكلام عليه على حذف مضاف أي مثل حادث يوم الأحزاب.
وأيا ما كان فالظاهر جمع اليوم لكن جمع الأحزاب المضاف هو إليه مع التفسير بما بعد أغنى عن جمعه، والمعنى عليه ورجح الأفراد بالخفة والاختصار، وقال الزجاج: المراد يوم حزب حزب بمعنى أن جمع حزب مراد به شمول أفراده على طريق البدل وهو تأويل في الثاني وما تقدم أظهر.
مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ أي مثل جزاء دأبهم أي عادتهم الدائمة من الكفر وإيذاء الرسل، وقدر المضاف لأن المخوف في الحقيقة جزاء العمل لا هو، وجاء هذا من نصب مِثْلَ الثاني على أنه عطف بيان لمثل الأول لأن آخر ما تناولته الإضافة قوم نوح، ولو قلت: أهلك الله الأحزاب قوم نوح وعاد وثمود لم يكن إلا عطف بيان(12/319)
لإضافة قوم إلى أعلام فسرى ذلك الحكم إلى أول ما تناولته الإضافة.
وقال ابن عطية: هو بدل من مِثْلَ الأول، والاحتياج إلى تقدير المضاف على حاله وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ كقوم لوط وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ أي فما فعل سبحانه بهؤلاء الأحزاب لم يكن ظلما بل كان عدلا وقسطا لأنه عزّ وجلّ أرسل إليهم رسلهم بالبينات فكذبوهم وتحزبوا عليهم فاقتضى ذلك إهلاكهم، وهذا أبلغ من قوله تعالى:
وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] من حيث جعل المنفي فيه إرادة الظلم لأن من كان عن إرادة الظلم بعيدا كان عن الظلم نفسه أبعد، وحيث نكر الظلم كأنه نفي أن يريد ظلما ما لعباده، ويجوز الزمخشري أن يكون معناه كمعنى قوله تعالى: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ [الزمر: 7] أي لا يريد سبحانه لهم أن يظلموا يعني أنه عزّ وجلّ دمرهم لأنهم كانوا ظالمين، ولا يخفى أن هذا المعنى مرجوح لفظا ومعنى، ثم لا حجة فيه للمعتزلة لثبوت الفرق بين أراده منه وأراده له فلو سلم أنه سبحانه لا يريد لهم أن يظلموا لم يلزم أن لا يريده منهم والممتنع عند أهل السنة هو هذا فلا احتياج إلى صرف الآية عن الظاهر عندهم أيضا.
وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ خوفهم بالعذاب الأخروي بعد تخويفهم بالعذاب الدنيوي، والتناد مصدر تنادى القوم أي نادى بعضهم بعضا، ويوم التناد يوم القيامة سمي بذلك لأنه ينادي فيه بعضهم بعضا للاستغاثة أو يتصايحون فيه بالويل والثبور أو لتنادي أهل الجنة وأهل النار كما حكي في سورة الأعراف أو لأن الخلق ينادون إلى المحشر أو لنداء المؤمن هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ [الحاقة: 19] والكافر لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ [الحاقة: 25] .
وعن ابن عباس أن هذا التنادي هو التنادي الذي يكون بين الناس عند النفخ في الصور ونفخة الفزع في الدنيا وأنهم يفرون على وجوههم للفزع الذي نالهم وينادي بعضهم بعضا، وروي هذا عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم
، وقال ابن عطية: يحتمل أن يراد التذكير بكل نداء في القيامة فيه مشقة على الكفار والعصاة.
وقرأت فرقة «التناد» بسكون الدال في الوصل اجراء له مجرى الوقف. وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو صالح والكلبي والزعفراني وابن مقسم «التنادّ» بتشديد الدال من ند البعير إذا هرب أي يوم الهرب والفرار لقوله تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ [عبس: 34] الآية،
وفي الحديث أن الناس جولة يوم القيامة يندون يظنون أنهم يجدون مهربا.
وقيل: المراد به يوم الاجتماع من ندا إذا اجتمع ومنه النادي يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ بدل من يوم التناد أي يوم تولون عن الموقف منصرفين عنه إلى النار، وقيل: فارين من النار، فقد روي أنهم إذا سمعوا زفير النار هربوا فلا يأتون قطرا من الأقطار إلا وجدوا ملائكة صفوفا فلا ينفعهم الهرب، ورجح هذا القول بأنه أتم فائدة وأظهر ارتباطا بقوله تعالى:
ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ أي يعصمكم في فراركم حتى لا تعذبوا في النار قاله السدي، وقال قتادة: أي ما لكم في الانطلاق إلى النار من مانع يمنعكم منها أو ناصر، وهذا ما يقال على المعنى الأول- ليوم تولون مدبرين- وأيا ما كان فالجملة حال أخرى من ضمير تُوَلُّونَ.
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ يهديه إلى طريق النجاة أصلا، وكأن الرجل يئس من قبولهم نصحه فقال ذلك ثم وبخهم على تكذيب الرسل السالفين فقال: وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ بن يعقوب عليهما السلام مِنْ قَبْلُ أي من قبل موسى بِالْبَيِّناتِ الأمور الظاهرة الدالة على صدقه فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ من الدين حَتَّى إِذا هَلَكَ بالموت قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا غاية لقوله. فَما زِلْتُمْ وأرادوا بقولهم لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا تكذيب رسالته ورسالة غيره أي لا رسول فيبعث فهم بعد الشك بتوا بهذا التكذيب فيكون ذلك ترقيا.(12/320)
ويجوز أن يكون الشك في رسالته على حاله وبتهم إنما هو بتكذيب رسالة غيره من بعده، وقيل: يحتمل أن يكونوا أظهروا الشك في حياته حسدا وعنادا فلما مات عليه السلام أقروا بها وأنكروا أن يبعث الله تعالى من بعده رسولا وهو خلاف الظاهر، ومجيء يوسف بن يعقوب عليهما السلام المخاطبين بالبينات قيل: من باب نسبة أحوال الآباء إلى الأولاد وكذلك نسبة الأفعال الباقية إليهم، وجوز كون بعض الذين جاءهم يوسف عليه السلام حقيقة حيا ففي بعض التواريخ أن وفاة يوسف عليه السلام قبل مولد موسى عليه السلام بأربع وستين سنة فيكون من نسبة حال البعض إلى الكل، واستظهر في البحر أن فرعون يوسف عليه السلام هو فرعون موسى عليه السلام، وذكر عن أشهب عن مالك أنه بلغه أنه عمر أربعمائة وأربعين سنة، والذي ذكره أغلب المؤرخين أن فرعون موسى اسمه الريان وفرعون يوسف اسمه الوليد.
وذكر القرطبي أن فرعون الأول من العمالقة وهذا قبطي، وفرعون يوسف عليه السلام مات في زمنه، واختار القول بتغايرهما، وأمر المجيء وما معه من الأفعال على ما سمعت، وقيل: المراد بيوسف المذكور هو يوسف بن إبراهيم بن يوسف الصديق أرسله الله تعالى نبيا فأقام فيهم عشرين سنة وكان من أمرهم ما قص الله عزّ وجلّ. ومن الغريب جدا ما حكاه النقاش والماوردي أن يوسف المذكور في هذه السورة من الجن بعثه الله تعالى رسولا إليهم، نقله الجلال السيوطي في الإتقان ولا يقبله من له أدنى إتقان. نعم القول بأن للجن نبيا منهم اسمه يوسف أيضا مما عسى أن يقبل كما لا يخفى.
وقرىء «ألن يبعث» بإدخال همزة الاستفهام على حرف النفي كأن بعضهم يقرر بعضا على نفي البعثة.
كَذلِكَ أي مثل ذلك الإضلال الفظيع يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ في العصيان مُرْتابٌ في دينه شاك فيما تشهد به البينات لغلبة الوهم والانهماك في التقليد الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ من الموصول الأول- أعني من- أو بيان أو صفة له باعتبار معناه كأنه قيل: كل مسرف مرتاب أو المسرفين المرتابين، وجوز نصبه بأعني مقدرا، وقوله تعالى شأنه: بِغَيْرِ سُلْطانٍ على الأوجه المذكورة متعلق- بيجادلون- وقوله سبحانه: أَتاهُمْ صفة سُلْطانٍ والمراد بإتيانه إتيانه من جهته سبحانه وتعالى إما على أيدي الرسل عليهم السلام فيكون ذاك إشارة إلى الدليل النقلي، وإما بطريق الإفاضة على عقولهم فيكون ذاك إشارة إلى الدليل العقلي، وقد يعمم فيكون المعنى يجادلون بغير حجة صالحة للتمسك بها أصلا لا عقلية ولا نقلية.
وقوله سبحانه: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا تقرير لما أشعر به الكلام من ذمهم وفيه ضرب من التعجب والاستعظام، وفاعل كَبُرَ ضمير راجع إلى الجدال الدال عليه يُجادِلُونَ على نحو من كذب كان شرا له أي كبر الجدال في آيات الله بغير حجة مقتا عند الله إلخ، أو إلى الموصول الأول وأفرد رعاية للفظه، واعترض عليه بأنه حمل على اللفظ من بعد الحمل على المعنى، وأهل العربية يجتنبونه.
وقال صاحب الكشف: هذا شيء نقله ابن الحاجب ولم يساعده غيره وهو غير مسلم أي كبر المسرف المرتاب المجادل في آيات الله بغير حجة مقتا أي كبر مقته وعظم عند الله تعالى وعند المؤمنين كَذلِكَ أي مثل ذلك الطبع الفظيع يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ فيصدر عنه أمثال ما ذكر من الإسراف والارتياب والمجادلة بغير حق وجوز أن يكون الَّذِينَ مبتدأ وجملة كَبُرَ خبره لكن على حذف مضاف هو المخبر عنه حقيقة أي جدال الذين يجادلون كبر مقتا، وأن يكون الَّذِينَ مبتدأ على حذف المضاف وبِغَيْرِ سُلْطانٍ خبر المضاف المقدر أي جدال الذين يجادلون في آيات الله تعالى كائن بغير سلطان، وظاهر كلام البعض أن الَّذِينَ(12/321)
مبتدأ من غير حذف مضاف وبِغَيْرِ سُلْطانٍ خبره، وفيه الأخبار عن الذات والجثة بالظرف وفاعل كَبُرَ كذلك على مذهب من يرى اسمية الكاف كالأخفش أي كبر مقتا مثل ذلك الجدال فيكون قوله تعالى: يَطْبَعُ إلخ استئنافا للدلالة على الموجب لجدالهم، ولا يخفى ما في ذلك من العدول عن الظاهر، وفي البحر الأولى في إعراب هذا الكلام أن يكون الَّذِينَ مبتدأ وخبره كَبُرَ والفاعل ضمير المصدر المفهوم من يُجادِلُونَ أي الذين يجادلون كبر جدالهم مقتا فتأمل.
وقرأ أبو عمرو وابن ذكوان والأعرج بخلاف عنه «قلب» بالتنوين فما بعده صفته، ووصفه بالكبر والتجبر لأنه منبعهما كقولهم: رأت عيني وسمعت أذني، وجوز أن يكون ذاك على حذف مضاف أي كل ذي قلب متكبر جبار، وجعل الصفتين لصاحب القلب لتتوافق القراءتان هذه وقراءة باقي السبعة بلا تنوين، وعن مقاتل المتكبر المعاند في تعظيم أمر الله تعالى، والجبار المتسلط على خلق الله تعالى، والظاهر أن عموم كل منسحب على المتكبر والجبار أيضا فكأنه اعتبر أولا إضافة «قلب» إلى ما بعده ثم اعتبرت إضافته إلى المجموع.
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً بناء مكشوفا عاليا من صرح الشيء إذا ظهر لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أي الطرق كما روي عن السدي، وقال قتادة: الأبواب وهي جمع سبب ويطلق على كل ما يتوصل به إلى شيء أَسْبابَ السَّماواتِ بيان لها، وفي إبهامها ثم إيضاحها تفخيم لشأنها وتشويق للسامع إلى معرفتها.
فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى بالنصب على جواب الترجي عند الكوفيين فإنهم يجوزون النصب بعد الفاء في جواب الترجي كالتمني، ومنع ذلك البصريون وخرجوا النصب هنا على أنه في جواب الأمر وهو ابْنِ كما في قوله:
يا ناق سيري عنقا فسيحا ... إلى سليمان فنستريحا
وجوز أن يكون بالعطف على خبر لعلى بتوهم أن فيه لأنه كثيرا ما جاءنا مقرورنا بها أو على الْأَسْبابَ على حد:
ولبس عباءة وتقر عيني وقال بعض: إن هذا الترجي تمن في الحقيقة لكن أخرجه اللعين هذا المخرج تمويها على سامعيه فكان النصب في جواب التمني، والظاهر أن البصريين لا يفرقون بين ترج وترج. وقرأ الجمهور بالرفع عطفا على أَبْلُغُ قيل: ولعله أراد أن يبني له رصدا في موضع عال يرصد منه أحوال الكواكب التي هي أسباب سماوية تدل على الحوادث الأرضية فيرى هل فيها ما يدل على إرسال الله تعالى إياه، وهذا يدل على أنه مقر بالله عزّ وجلّ وإنما طلب ما يزيل شكه في الرسالة، وكان للعين وأهل عصره اعتناء بالنجوم وأحكامها على ما قيل.
وهذا الاحتمال في غاية البعد عندي، وقيل: أراد أن يعلم الناس بفساد قول موسى عليه السلام: إني رسول من رب السماوات بأنه إن كان رسولا منه فهو ممن يصل إليه وذلك بالصعود للسماء وهو محال فما بنى عليه مثله، ومنشأ ذلك جهله بالله تعالى وظنه أنه سبحانه مستقر في السماء وأن رسله كرسل الملوك يلاقونه ويصلون إلى مقره، وهو عزّ وجلّ منزه عن صفات المحدثات والأجسام ولا تحتاج إلى ما تحتاج إليه رسل الملوك رسله الكرام عليهم الصلاة والسلام، وهذا نفي لرسالته من الله تعالى ولا تعرض فيه لنفي الصانع المرسل له، وقال الإمام: الذي عندي في تفسير الآية أن فرعون كان من الدهرية وغرضه من هذا الكلام إيراد شبهة في نفي الصانع وتقريره أنه قال: إنّا لا نرى شيئا(12/322)
نحكم عليه بأنه إله العالم فلا يجز إثبات هذا الإله، أما أنا لا نراه فلأنه لو كان موجودا لكان في السماء ونحن لا سبيل لنا إلى صعود السماوات فكيف يمكننا أن نراه، وللمبالغة في بيان عدم الإمكان قال: يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً فما هو إلا لإظهار عدم إمكان ما ذكر لكل أحد، ولعل لا تأبى ذلك لأنها للتهكم على هذا وهي شبهة في غاية الفساد إذ لا يلزم من انتفاء أحد طرق العلم بالشيء انتفاء ذلك الشيء، ورأيت لبعض السلفيين أن اللعين ما قال ذلك إلا لأنه سمع من موسى عليه السلام أو من أحد من المؤمنين وصف الله تعالى بالعلو أو بأنه سبحانه في السماء فحمله على معنى مستحيل في حقه تعالى لم يرده موسى عليه السلام ولا أحد من المؤمنين فقال ما قال تهكما وتمويها على قومه، وللإمام في هذا المقام كلام رد به على القائلين بأن الله تعالى في السماء ورد احتجاجهم بما أشعرت به الآية على ذلك وسماهم المشبهة، والبحث في ذلك طويل المجال والحق مع السلف عليهم رحمة الملك المتعال وحاشاهم ثم حاشاهم من التشبيه، وقوله: وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً يحتمل أن يكون عني به كاذبا في دعوى الرسالة وأن يكون عني به كاذبا في دعوى أن له الها غيري لقوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص: 38] .
وَكَذلِكَ أي ومثل ذلك التزيين البليغ المفرط زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ فانهمك فيه انهماكا الا يرعوي عنه بحال وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ أي عن سبيل الرشاد، فالتعريف للعهد والفعلان مبنيان للمفعول والفاعل في الحقيقة هو الله تعالى، ولم يفعل سبحانه كلا من التزيين والصدر إلا لأن فرعون طلبه بلسان استعداده واقتضى ذلك سوء اختياره ويدل على هذا أنه قرئ «زيّن» مبنيا للفاعل ولم يسبق سوى ذكره تعالى دون الشيطان.
وجوز أن يكون الفاعل الشيطان ونسبة الفعل إليه بواسطة الوسوسة، وقرأ الحجازيان والشامي وأبو عمرو «وصدّ» بالبناء للفاعل وهو ضمير فرعون على أن المعنى وصد فرعون الناس عن سبيل الرشاد بأمثال هذه التمويهات والشبهات، ويؤيده وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ أي في خسار لأنه يشعر بتقدم ذكر للكيد وهو في هذه القراءة أظهر، وقرأ ابن وثاب «وصدّ» بكسر الصاد أصله صدد نقلت الحركة إلى الصاد بعد توهم حذفها، وابن أبي إسحاق وعبد الرحمن ابن أبي بكرة «وصدّ» بفتح الصاد وضم الدال منونة عطفا على سُوءُ عَمَلِهِ، وقرىء «وصدوا» بواو الجمع أي هو وقومه وَقالَ الَّذِي آمَنَ هو مؤمن آل فرعون، وقيل: فيه نظير ما قيل في سابقه أنه موسى عليه السلام وهو ضعيف كما لا يخفى يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ فيما دللتكم عليه أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ سبيلا يصل به سالكه إلى المقصود، وفيه تعريض بأن ما عليه فرعون وقومه سبيل الغي. وقرأ معاذ بن جبل كما في البحر الرَّشادِ بتشديد الشين وتقدم الكلام في ذلك فلا تغفل يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ أي تمتع أو متمتع به يسير لسرعة زواله وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ لخلودها ودوام ما فيها مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً في الدنيا فَلا يُجْزى في الآخرة إِلَّا مِثْلَها عدلا من الله عزّ وجلّ، واستدل به على أن الجنايات تغرم بمثلها أي بوزانها من غير مضاعفة وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ الذين عملوا ذلك يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ بغير تقدير وموازنة بالعمل بل أضعافا مضاعفة فضلا منه تعالى ورحمة، وقسم العمال إلى ذكر وأنثى للاهتمام والاحتياط في الشمول لاحتمال نقص الإناث، وجعل الجزاء في جزاء أعمالهم جملة اسمية مصدرة باسم الإشارة مع تفضيل الثواب وتفصيله تغليبا للرحمة وترغيبا فما عند الله عزّ وجلّ، وجعل العمل عمدة وركنا من القضية الشرطية والإيمان حالا للدلالة على أن الإيمان شرط في اعتبار العمل والاعتداد به والثواب عليه لأن الأحوال قيود وشروط للحكم التي وقعت فيه، ويتضمن ذلك الإشارة إلى عظيم شرفه ومزيد ثوابه، وقرأ الأعرج. والحسن. وأبو جعفر. وعيسى. وغير واحد من السبعة «يدخلون» مبنيا للمفعول وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ كرر نداءهم ايقاظا لهم عن(12/323)
سنة الغفلة واهتماما بالمنادي له ومبالغة في توبيخهم على ما يقابلون به دعوته، وترك العطف في النداء الثاني وهو يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إلخ لأنه تفسير لما أجمل في النداء قبله من الهداية إلى سبيل الرشاد فإنها التحذير من الإخلاد إلى الدنيا والترغيب في إيثار الآخرة على الأولى وقد أدى ذلك فيه على أتم وجه وأحسنه ولم يترك في هذا النداء لأنه ليس بتلك المثابة وذلك لأنه للموازنة بين الدعوتين دعوته إلى دين الله الذي ثمرته النجاة ودعوتهم إلى اتخاذ الأنداد الذي عاقبته النار، وليس ذلك من تفسير الهداية في شيء بل ذلك لتحقيق أنه هادوا أنهم مضلون وأن ما عليه هو الهدى وما هم عليه هو الضلال فهو عطف على النداء الأول أو المجموع، وقيل: هو عطف على النداء الثاني داخل معه في التفسير لما أجمل في النداء الأول تصريحا وتعريضا، ولكل وجه وفي الترجيح كلام.
تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ بدل من تدعونني إلى النار أو عطف بيان له بناء على أنه يجري في الجمل كالمفردات أو جملة مستأنفة مفسرة لذلك، والدعاء كالهداية في التعدية بإلى واللام وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ أي بكونه شريكا له تعالى في المعبود أو بربوبيته وألوهيته عِلْمٌ ونفي العلم هنا كناية عن نفي المعلوم، وفي إنكاره للدعوة إلى ما لا يعلمه إشعار بأن الألوهية لا بد لها من برهان موجب للعلم بها.
وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ المستجمع لصفات الألوهية من كمال القدرة والغلبة وما يتوقف عليه من العلم والإرادة والتمكن من المجازاة والقدرة على التعذيب والغفران وخص هذان الوصفان بالذكر وإن كانا كناية عن جميع الصفات لاستلزامهما ذلك كما أشير إليه لما فيهما من الدلالة على الخوف والرجاء المناسب لحاله وحالهم لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ سياقه على مذهب البصريين أن لا رد لكلام سابق وهو ما يدعونه إليه هاهنا من الكفر بالله سبحانه وشرك الآلهة الباطلة عزّ وجلّ به وجَرَمَ فعل ماضي بمعنى ثبت وحق كما في قوله:
ولقد طعنت أبا عبيدة طعنة ... جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
وأن مع ما في حيزها فاعلة أي ثبت وحق عدم دعوة للذي تدعونني إليه من الأصنام إلى نفسه أصلا يعني أن من حق المعبود بالحق أن يدعو العباد المكرمين كالأنبياء والملائكة إلى نفسه ويأمرهم بعبادته ثم يدعو العباد بعضهم بعضا إليه تعالى وإلى طاعته سبحانه إظهارا لدعوة ربهم عزّ وجلّ وما تدعون إليه وإلى عبادته من الأصنام لا يدعو هو إلى ذلك ولا يدعي الربوبية أصلا لا في الدنيا لأنه جماد فيها لا يستطيع شيئا من دعاء وغيره ولا في الآخرة لأنه إذا أنشأه الله تعالى فيها حيوانا تبرأ من الدعاة إليه ومن عبدته وحاصله حق أن ليس لآلهتكم دعوة أصلا فليست بآلهة حقة أو بمعنى كسب وفاعله ضمير الدعاء السابق الذي دعاه قومه وإن مع ما في حيزها مفعوله أي كسب دعاؤكم إياي إلى آلهتكم أن لا دعوة لها أي ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوتها وذهابها ضياعا، وقيل: جَرَمَ اسم لا وهو مصدر مبني على الفتح بمعنى القطع والخبر أن مع ما في حيزها على معنى لا قطع لبطلان دعوة ألوهية الأصنام أي لا ينقطع ذلك البطلان في وقت من الأوقات فينقلب حقا، وهذا البطلان هو معنى النفي الذي يفهم من قوله تعالى:
لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ إلخ، ولا جَرَمَ على هذا مثل لا بد فإنه من التبديد وهو التفريق وانقطاع بعض الشيء من بعض، ومن ثم قيل: المعنى لا بد من بطلان دعوة الأصنام أي بطلانها أمر ظاهر مقرر، ونقل هذا القول عن الفراء، وعنه أن ذلك هو أصل لا جَرَمَ لكنه كثر استعماله حتى صار بمعنى حقا فلهذا يجاب بما يجاب به القسم في مثل لا جرم لآتينك. وفي الكشاف وروي عن العرب لا جرم أنه يفعل بضم الجيم وسكون الراء أي لا بد وفعل وفعل إخوان كرشد ورشد وعدم وعدم، وهذه اللغة تؤيد القول بالاسمية في اللغة الأخرى ولا تعينها كما لا يخفى، وقد تقدم شيء من الكلام في لا جرم أيضا فليتذكر.(12/324)
ولام له في جميع هذه الأوجه لنسبة الدعوة إلى الفاعل على ما سمعت من المعنى، وجوز أن يكون لنسبتها إلى المفعول فإن الكفار كانوا يدعون آلهتهم في الآية دعاءهم إياها في معنى نفي الاستجابة منها لدعائهم إياها، فالمعنى أن ما تدعونني إليه من الأصنام ليس له استجابة دعوة لمن يدعوه أصلا أو ليس له دعوة مستجابة أي لا يدعي دعاء يستجيبه لداعيه. فالكلام إما على حذف المضاف أو على حذف الموصوف، وجوز التجوز فيه بالدعوة فعن استجابتها التي تترتب عليها، وهذا كما سمي الفعل المجازي عليه باسم الجزاء في قولهم: كما تدين تدان وهو من باب المشاكلة عند بعض وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ أي مرجعنا إليه تعالى بالموت، وهذا عطف على أن ما تدعونني داخل في حكمه، وكذا قوله تعالى: وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ وفسر ابن مسعود ومجاهد الْمُسْرِفِينَ هنا بالسفاكين للدماء بغير حلها فيكون المؤمن قد ختم تعريضا بما افتتح به تصريحا في قوله: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا.
وعن قتادة أنهم المشركون فإن الإشراك إسراف في الضلالة، وعن عكرمة أنهم الجبارون المتكبرون، وقيل: كل من غلب شره خيره فهو مسرف والمراد بأصحاب النار ملازموها، فإن أريد بالمسرفين ما يدخل فيه المؤمن العاصي أريد بالملازمة العرفية الشاملة للمكث الطويل، وإن أريد بهم ما يخص الكفرة فهي بمعنى الخلود.
فَسَتَذْكُرُونَ وقرئ فَسَتَذْكُرُونَ بالتشديد أي فسيذكر بعضكم بعضا عند معاينة العذاب ما أَقُولُ لَكُمْ من النصائح وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ليعصمني من كل سوء إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ فيحرس من يلوذ به سبحانه منهم من المكاره، وهذا يحتمل أن يكون جواب توعدهم المفهوم من قوله تعالى: وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ [غافر: 37] أو من قوله سبحانه: فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا ويحتمل أن يكون متاركة والتفريع في فَسَتَذْكُرُونَ على قوله الأخير: يا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إلخ، وجعله من جعل ذلك معطوفا على يا قَوْمِ الثاني تفريعا على جملة الكلام، وما في ما مَكَرُوا مصدرية و (السيئات) الشدائد أي فوقاه الله تعالى شدائد مكرهم وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ أي بفرعون وقومه، فاستغنى بذكرهم عن ذكره ضرورة أنه أولى منهم بذلك، ويجوز أن يكون آل فرعون شاملا له عليه اللعنة بأن يراد بهم مطلق كفرة القبط كما قيل في قوله تعالى: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً [سبأ: 13] أنه شامل لداود عليه السلام، وكانوا على ما حكى الأوزاعي ولا أعتقد صحته ألفي ألف وستمائة ألف.
وعن ابن عباس أن هذا المؤمن لما أظهر إيمانه قصد فرعون قتله فهرب إلى جبل فبعث في طلبه ألف رجل فمنهم من أدركه يصلي والسباع حوله فلما هموا ليأخذوه ذبت عنه فأكلتهم، ومنهم من مات في الجبل عطشا، ومنهم من رجع إلى فرعون خائبا فاتهمه وقتله وصلبه، فالمراد بآل فرعون هؤلاء الألف الذين بعثهم إلى قتله أي فنزل بهم وأصابهم سُوءُ الْعَذابِ الغرق على الأول وأكل السباع والموت عطشا والقتل والصلب على ما روي عن ابن عباس والنار عليهما ولعله الأولى، وإضافة سُوءُ إلى الْعَذابِ لأمية أو من إضافة الصفة للموصوف، وقوله تعالى: النَّارُ مبتدأ وجملة قوله تعالى: يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا خبره والجملة تفسير لقوله تعالى: وَحاقَ إلخ.
وجوز أن تكون النَّارُ بدلا من سُوءُ الْعَذابِ ويُعْرَضُونَ في موضع الحال منها أو من الآل، وأن تكون النار خبر مبتدأ محذوف هو ضمير سُوءُ الْعَذابِ كأنه قيل: ما سوء العذاب؟ فقيل: هو النار، وجملة يُعْرَضُونَ تفسير على ما مر، وفي الوجه الأول من تعظيم أمر النار وتهويل عذابها ما ليس في هذا الوجه كما ذكره صاحب الكشاف، ومنشأ التعظيم على ما في الكشف الإجمال والتفسير في كيفية تعذيبهم وإفادة كل من الجملتين نوعا من التهويل. الأولى الإحاطة بعذاب يستحق أن يسمى سوء العذاب. والثانية النار المعروض عليها غدوا وعشيا.(12/325)
والسر في إفادة تعظيم النار في هذا الوجه دون ما تضمن تفسير سُوءُ الْعَذابِ وبيان كيفية التعذيب أنك إذا فسرت سُوءُ الْعَذابِ بالنار فقد بالغت في تعظيم سوء العذاب. ثم استأنفت بيعرضون عليها تتميما لقوله تعالى:
وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ من غير مدخل للنار فيما سيق له الكلام، وإذا جئت بالجملتين من غير نظر إلى المفردين وإن أحدهما تفسير للآخر فقد قصدت بالنار قصد الاستقلال حيث جعلتها معتمد الكلام وجئت بالجملة بيانا وإيضاحا للأولى كأنك قد آذنت بأنها أوضح لاشتمالها على ما لا أسوأ منه أعني النار على أن من موجبات تقديم المسند إليه إنباؤه عن التعظيم مع اقتضاء المقام له وهاهنا كذلك على ما لا يخفى، والتركيب أيضا يفيد التقوى على نحو زيد ضربته.
ومن هنا قال صاحب الكشف: هذا هو الوجه، وأيد بقراءة من نصب النَّارُ بناء على أنها ليست منصوبة بأخص أو أعني بل بإضمار فعل يفسره يُعْرَضُونَ مثل يصلون فإن عرضهم على النار إحراقهم بها من قولهم: عرض الأسارى على السيف قتلوا به، وهو من باب الاستعارة التمثيلية بتشبيه حالهم بحال متاع يبرز لمن يريد أخذه، وفي ذلك جعل النار كالطالب الراغب فيهم لشدة استحقاقهم الهلاك، وهذا العرض لأرواحهم.
أخرج ابن أبي شيبة وهناد وعبد بن حميد عن هزيل بن شرحبيل أن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود تغدو وتروح على النار فذلك عرضها.
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن ابن مسعود نحو ذلك، وهذه الطير صور تخلق لهم من صور أعمالهم، وقيل: ذاك من باب التمثيل وليس بذاك، وذكر الوقتين ظاهر في التخصيص بمعنى أنهم يعرضون على النار صباحا مرة ومساء مرة أي فيما هو صباح ومساء بالنسبة إلينا، ويشهد له ما أخرجه ابن المنذر والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهما عن أبي هريرة أنه كان له صرختان في كل يوم غدوة وعشية كان يقول أول النهار: ذهب الليل وجاء النهار وعرض آل فرعون على النار، ويقول أول الليل: ذهب النهار وجاء الليل وعرض آل فرعون على النار فلا يسمع أحد صوته إلا استعاذ بالله تعالى من النار، والفصل بين الوقتين إما بترك العذاب أو بتعذيبهم بنوع آخر غير النار.
وجوز أن يكون المراد التأبيد اكتفاء بالطرفين المحيطين عن الجميع، وأيا ما كان ففي الآية دليل ظاهر على بقاء النفس وعذاب البرزخ لأنه تعالى بعد أن ذكر ذلك العرض قال جل شأنه:
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ وهو ظاهر في المغايرة فيتعين كون ذلك في البرزخ، ولا قائل بالفرق بينهم وبين غيرهم فيتم الاستدلال على العموم،
وفي الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله تعالى»
ويَوْمَ على ما استظهره أبو حيان معمول لقول مضمر، والجملة عطف على ما قبلها أي ويوم تقوم الساعة يقال للملائكة: أدخلوا آل فرعون أشد العذاب أي عذاب جهنم فإنه أشد مما كانوا فيه أو أشد عذاب جهنم فإن عذابها ألوان بعضها أشدّ من بعض، وعن بعض أشد العذاب هو عذاب الهاوية، وقيل: هو معمول أَدْخِلُوا.
وقيل: هو عطف على عَشِيًّا فالعامل فيه يُعْرَضُونَ وأَدْخِلُوا على إضمار القول وهو كما ترى، وقرأ علي كرم الله وجهه والحسن وقتادة وابن كثير، والعربيان وأبو بكر «أدخلوا» على أنه أمر لآل فرعون بالدخول أي ادخلوا يا آل فرعون، وقوله تعالى: وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ معمول لا ذكر محذوفا أي واذكر وقت تخاصمهم في النار، والجملة معطوفة على ما قبلها عطف القصة على القصة لا على مقدر تقديره اذكر ما تلى عليك من قصة موسى(12/326)
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72)
عليه السلام وفرعون ومؤمن آل فرعون ولا على قوله تعالى: فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ [غافر: 4] أو على قوله سبحانه: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ [غافر: 18] لعدم الحاجة إلى التقدير في الأول وبعد المعطوف عليه في الأخيرين.
وزعم الطبري أن إِذْ معطوفة على إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ [غافر: 18] وهو مع بعده فيه ما فيه، وجوز أن تكون معطوفة على غُدُوًّا وجملة يَوْمَ تَقُومُ اعتراض بينهما وهو مع كونه خلاف الظاهر قليل الفائدة، وضمير يتحاجون على ما اختاره ابن عطية وغيره لجميع كفار الأمم، ويتراءى من كلام بعضهم أنه لكفار قريش، وقيل: هو لآل فرعون، وقوله تعالى: فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا تفصيل للمحاجّة والتخاصم في النار أي يقول المرءوسون لرؤسائهم: إِنَّا كُنَّا في الدنيا لَكُمْ تَبَعاً تباعا فهو كخدم في جمع خادم.
وذهب جمع لقلة هذا الجمع إلى أن تَبَعاً مصدر إما بتقدير مضاف أي إنا كنا لكم ذوي أي أتباعا أو على التجوز في الظرف أو الإسناد للمبالغة بجعلهم لشدة تبعيتهم كأنهم عين التبعية فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ بدفع بعض عذابها أو بتحمله عنا، ومُغْنُونَ من الغناء بالفتح بمعنى الفائدة، ونَصِيباً بمعنى حصة مفعول لما دل عليه من الدفع أو الحمل أوله بتضمين أحدهما أي دافعين أو حاملين عنا نصيبا، ويجوز أن يكون نصيبا قائما مقام المصدر كشيئا في قوله تعالى: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [آل عمران: 116] . ومِنَ النَّارِ على هذا متعلق- بمغنون- وعلى ما قبله ظرف مستقر بيان- لنصيبا..(12/327)
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا للضعفاء إِنَّا كُلٌّ فِيها نحن وأنتم فكيف نغني عنكم ولو قدرنا لدفعنا عن أنفسنا شيئا من العذاب ورفع كُلٌّ على الابتداء وهو مضاف تقديرا لأن المراد كلنا وفِيها خبره والجملة خبر إن.
وقرأ ابن السميفع وعيسى بن عمر «كلا» بالنصب، وأخرجه ابن عطية والزمخشري على أنه توكيد لاسم إن، وكون كل المقطوع عن الإضافة يقع تأكيدا اكتفاء بأن المعنى عليها مذهب الفراء ونقله أبو حيان عن الكوفيين ورده ابن مالك في شرحه للتسهيل، وقيل: هو حال من المستكن في الظرف. وتعقب بأنه في معنى المضاف ولذا جاز الابتداء به فكيف يكون حالا، وإذا سلم كفاية هذا المقدار من التنكير في الحالية فالظرف لا يعمل في الحال المتقدمة كما يعمل في الظرف المتقدم نحو كل يوم لك ثوب.
وأجيب عن أمر العمل بأن الأخفش أجاز عمل الظرف في الحال إذا توسطت بينه وبين المبتدأ نحو زيد قائما في الدار عندك وما في الآية الكريمة كذلك، على أن بعضهم أجاز ذلك ولو تقدمت الحال على المبتدأ والظرف نعم منعه بعضهم مطلقا لكن المخرج لم يقلده، وابن الحاجب جوزه في بعض كتبه ومنعه في بعض، قيل: وقد يوفق بينهما بأن المنع على تقدير عمل الظرف لنيابته عن متعلقه، والجواز على جعل العامل متعلقه المقدر فيكون لفظيا لا معنويا، وإلى هذا التخريج ذهب ابن مالك وأنشد له قول بعض الطائيين:
دعا فأجبنا وهو بادي ذلة ... لديكم فكان النصر غير قريب
وحمل قوله تعالى: وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67] في قراءة النصب على ذلك، وقال أبو حيان:
الذي أختاره في تخريج هذه القراءة أن كلا بدل من اسم إن لأن كلا يتصرف فيها بالابتداء ونواسخه وغير ذلك فكأنه قيل: إن كلا فيها. وإذا كانوا قد تأولوا حولا أكتعا ويوما أجمعا على البدل مع أنهما لا يليان العوامل فإن يدعي في كل البدل أولى، وأيضا فتنكير كُلٌّ ونصبه حالا في غاية الشذوذ نحو مررت بهم كلا أي جميعا. ثم قال: فإن قلت:
كيف تجعله بدلا وهو بدل كل من كل من ضمير المتكلم وهو لا يجوز على مذهب جمهور النحويين؟ قلت: مذهب(12/328)
الأخفش. والكوفيين جوازه وهو الصحيح، على أن هذا ليس مما وقع فيه الخلاف بل إذا كان البدل يفيد الإحاطة جاز أن يبدل من ضمير المتكلم وضمير المخاطب لا نعلم خلافا في ذلك كقوله تعالى: تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا [المائدة: 114] وكقولك: مررت بكم صفيركم وكبيركم معناه مررت بكم كلكم وتكون لنا عيدا كلنا، فإذا جاز ذلك فيما هو بمعنى الإحاطة فجوازه فيما دل على الإحاطة وهو كُلٌّ أولى ولا التفات لمنع المبرد البدل فيه لأنه بدل من ضمير المتكلم لأنه لم يحقق مناط الخلاف انتهى، ولعل القول بالتوكيد أحسن من هذا وأقرب، ورد ابن مالك له لا يعول عليه إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ فأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، وقدر لكل منا ومنكم عذابا لا يدفع عنه ولا يتحمله عنه غيره وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ من الضعفاء والمستكبرين جميعا لما ضاقت بهم الحيل وعيت بهم العلل لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ أي للقوام بتعذيب أهل النار، وكان الظاهر- لخزنتها- بضمير النار لكن وضع الظاهر موضعه للتهويل، فإن جهنم أخص من النار بحسب الظاهر لإطلاقها على ما في الدنيا أو لأنها محل لأشد العذاب الشامل للنار وغيرها، وجوز أن يكون ذلك لبيان محل الكفرة في النار بأن تكون جهنم أبعد دركاتها من قولهم:
بئر جهنام بعيدة القعر وفيها أعتى الكفرة وأطغاهم، فلعل الملائكة الموكلين بعذاب أولئك أجوب دعوة لزيادة قربهم من الله عزّ وجلّ فلهذا تعمدهم أهل النار بطلب الدعوة منهم وقالوا لهم: ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً أي مقدار يوم من أيام الدنيا مِنَ الْعَذابِ أي شيئا من العذاب، فمفعول يُخَفِّفْ محذوف، ومِنَ تحتمل البيان والتبعيض، ويجوز أن يكون المفعول يَوْماً بحذف المضاف نحو ألم يوم ومِنَ الْعَذابِ بيانه، والمراد يدفع عنا يوما من أيام العذاب: قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ أي لم تنبهوا على هذا ولم تك تأتيكم رسلكم في الدنيا على الاستمرار بالحجج الواضحة الدالة على سوء مغبة ما كنتم عليه من الكفر والمعاصي كما في قوله تعالى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا
وأرادوا بذلك إلزامهم وتوبيخهم على إضاعة أوقات الدعاء وتعطيل أسباب الإجابة قالُوا بَلى أي أتونا بها فكذبناهم كما نطق به قوله تعالى: بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ [الملك: 9] والفاء في قوله تعالى: قالُوا فَادْعُوا فصيحة أي إذا كان الأمر كذلك فادعوا أنتم فإن الدعاء لمن يفعل فعلكم ذلك مستحيل صدوره عنا، وقيل: في تعليل امتناع الخزنة عن الدعاء: لأنا لم نؤذن في الدعاء لأمثالكم، وتعقب بأنه مع عرائه عن بيان أن سببه من قبل الكفرة كما يفصح عنه الفاء ربما يوهم أن الإذن في حيز الإمكان وأنهم لو أذن لهم لفعلوا فالتعليل الأول أولى، ولم يريدوا بأمرهم بالدعاء إطماعهم في الإجابة بل إقناطهم منها وإظهار خيبتهم حيثما صرحوا به في قولهم: وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أي في ضياع وبطلان أي لا يجاب، فهذه الجملة من كلام الخزنة، وقيل: هي من كلامه تعالى اخبارا منه سبحانه لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم. واستدل بها مطلقا من قال: إن دعاء الكافر لا يستجاب وإنه لا يمكن من الخروج في الاستسقاء، والحق أن الآية في دعاء الكفار يوم القيامة وأن الكافر قد يقع في الدنيا ما يدعو به ويطلبه من الله تعالى إثر دعائه كما يشهد بذلك آيات كثيرة، وأما أنه هل يقال لذلك إجابة أم لا فبحث لا جدوى له، وقوله تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا إلخ كلام مستأنف مسوق من جهته تعالى لبيان أن ما أصاب الكفرة من العذاب المحكي من فروع حكم كلي تقتضيه الحكمة هو أن شأننا المستمر أننا ننصر رسلنا وأتباعهم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بالحجة والظفر والانتقام لهم من الكفرة بالاستئصال والقتل والسبي وغير ذلك من العقوبات، ولا يقدح في ذلك ما قد يتفق للكفرة من صورة الغلبة امتحانا إذا العبرة إنما هي بالعواقب وغالب الأمر، وقد تقدم تمام الكلام في ذلك فتذكر وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ أي ويوم القيامة عبر عنه بذلك للإشعار بكيفية النصرة وأنها تكون عند جمع الأولين والآخرين وشهادة الإشهاد للرسل بالتبليغ وعلى الكفرة بالتكذيب، فالإشهاد جمع شهيد بمعنى(12/329)
شاهد كأشراف جمع شريف، وقيل: جمع شاهد بناء على أن فاعلا قد يجمع على أفعال، وبعض من لم يجوز يقول:
هو جمع شهد بالسكون اسم جمع لشاهد كما قالوا في صحب بالسكون اسم جمع لصاحب، وفسر بعضهم الْأَشْهادُ بالجوارح وليس بذاك، وهو عليهما من الشهادة، وقيل: هو من المشاهدة بمعنى الحضور.
وفي الحواشي الخفاجية أن النصرة في الآخرة لا تتخلف أصلا بخلافها في الدنيا فإن الحرب فيها سجال وإن كانت العاقبة للمتقين ولذا دخلت فِي على الْحَياةِ الدُّنْيا دون قرينه لأن الظرف المجرور بفي لا يستوعب كالمنصوب على الظرفية كما ذكره الأصوليون انتهى، وفيه بحث.
وقرأ ابن هرمز وإسماعيل وهي رواية عن أبي عمرو «تقوم» بتاء التأنيث على معنى جماعة الإشهاد. يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ بدل من يَوْمَ يَقُومُ ولا قيل: تحتمل أن تكون لنفي النفع فقط على معنى أنهم يعتذرون ولا ينفعهم معذرتهم لبطلانها وتحتمل أن تكون لنفي النفع والمعذرة على معنى لا تقع معذرة لتنفع، وفي الكشاف يحتمل أنهم يعتذرون بمعذرة ولكنها لا تنفع لأنها باطلة وأنهم لو جاؤوا بمعذرة لم تكن مقبولة لقوله تعالى:
وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات: 36] وأراد على ما في الكشف أن عدم النفع إما لأمر راجع إلى المعذرة الكائنة وهو بطلانها، وإما لأمر راجع إلى من يقبل العذر ولا نظر فيه إلى وقوع العذر والحاصل أن المقصود بالنفي الصفة ولا نظر فيه إلى الموصوف نفيا أو إثباتا، وليس في كلامه إشارة إلى إرادة نفيهما جميعا فتدبر، وقرأ غير الكوفيين ونافع «لا تنفع» بالتاء الفوقية، ووجهها ظاهر، وأما قراءة الياء فلأن المعذرة مصدر وتأنيثه غير حقيقي مع أنه فصل عن الفعل بالمفعول وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ أي البعد من الرحمة.
وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ هي جهنم وسوءها ما يسوء فيها من العذاب فإضافته لأمية أو هي من إضافة الصفة للموصوف أي الدار السوأى، ولا يخفى ما في الجملتين من إهانتهم والتهكم بهم وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى ما يهتدى به من المعجزات والصحف والشرائع فهو مصدر تجوز به عما ذكر أو جعل عين الهدى مبالغة فيه.
وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ تركنا عليهم بعد وفاته عليه السلام من ذلك التوراة فالإيراث مجاز مرسل عن الترك أو هو استعارة تبعية له، ويجوز أن يكون المعنى جعلنا بني إسرائيل آخذين الكتاب عنه عليه السلام بلا كسب فيشمل من في حياته عليه السلام كما يقال: العلماء ورثة الأنبياء، وهو وجه إلا أن اعتبار بعد الموت أوفق في الإيراث والعلاقة عليه أتم، وإرادة التوراة من الكتاب هو الظاهر، وجوز أن يكون المراد به جنس ما أنزل على أنبيائهم فيشمل التوراة والزبور والإنجيل هُدىً وَذِكْرى هداية وتذكرة أي لأجلهما أو هاديا ومذكرا فهما مصدران في موضع الحال لِأُولِي الْأَلْبابِ لذوي العقول السليمة الخالصة من شوائب الوهم، وخصوا لأنهم المنتفعون به فَاصْبِرْ أي إذا عرفت ما قصصناه عليك للتأسي فاصبر على ما نالك من أذية المشركين إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ إياك والمؤمنين بالنصر المشار إليه بقوله سبحانه: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا أو جميع مواعيده تعالى ويدخل فيه وعده سبحانه بالنصر دخولا أوليا حَقٌّ لا يخلفه سبحانه أصلا فلا بد من وقوع نصره جل شأنه لك وللمؤمنين، واستشهد بحال موسى ومن معه وفرعون ومن تبعه وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ أقبل على أمر الدين وتلاف ما ربما يفرط مما يعد بالنسبة إليك ذنبا وإن لم يكنه، ولعل ذلك هو الاهتمام بأمر العدا بالاستغفار فإن الله تعالى كافيك في النصر وإظهار الأمر، وقيل: لِذَنْبِكَ لذنب أمتك في حقك، قيل: فإضافة المصدر للمفعول وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ أي ودم على التسبيح والتحميد لربك على أنه عبر بالطرفين وأريد جميع الأوقات، وجوز أن يراد خصوص الوقتين، والمراد بالتسبيح معناه الحقيقي كما في الوجه الأول أو الصلاة، قال قتادة: أريد صلاة الغداة وصلاة العصر، وعن الحسن أريد ركعتان بكرة(12/330)
وركعتان عشيا، قيل: لأن الواجب بمكة كان ذلك، وقد قدمنا أن الحس لا يقول بفرضية الصلوات الخمس بمكة فقيل:
كان يقول بفرضية ركعتين بكرة وركعتين عشيا.
وقيل: إنه يقول كان الواجب ركعتين في أي وقت اتفق، والكل مخالف للصريح المشهور، وجوز على إرادة الدوام أن يراد بالتسبيح الصلاة ويراد بذلك الصلوات الخمس، وحكي ذلك في البحر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ دلائله سبحانه التي نصبها على توحيده وكتبه المنزلة وما أظهر على أيدي رسله من المعجزات بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ أي بغير حجة في ذلك أتتهم من جهته تعالى، والجار متعلق- بيجادلون- وتقييد المجادلة بذلك مع استحالة إتيان الحجة للإيذان بأن المتكلم في أمر الدين لا بدّ من استناده إلى حجة واضحة وبرهان مبين، وهذا عام في كل مجادل مبطل وإن نزل في قوم مخصوصين وهم على الأصح مشركو مكة.
وقوله تعالى: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ خبر لأن وإِنَّ نافية، والمراد بالصدور القلوب أطلقت عليها للمجاورة والملابسة، والكبر التكبر والتعاظم أي ما في قلوبهم إلا تكبر عن الحق وتعاظم عن التفكر والتعلم أو هو مجاز عن إرادة الرياسة والتقدم على الإطلاق أو إرادة أن تكون النبوة لهم أي ما في قلوبهم إلا إرادة الرياسة أو أن تكون النبوة لهم دونك حسدا وبغيا حسبما قالوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] وقالوا: لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [الأحقاف: 11] ولذلك يجادلون في آياته تعالى لا أن فيها موقع جدال ما أو أن لهم شيئا يتوهم صلاحيته لأن يكون مدار لمجادلتهم في الجملة، وقوله تعالى: ما هُمْ بِبالِغِيهِ صفة- لكبر- أي ما هم ببالغي موجب الكبر ومقتضيه وهو متعلق إرادتهم من دفع الآيات أو من الرياسة أو النبوة، وقال الزجاج: المعنى ما يحملهم على تكذيبك إلا ما في صدورهم من الكبر عليك وما هم ببالغي مقتضى ذلك الكبر لأن الله تعالى أذلهم، وقيل: الجملة مستأنفة وضمير بِبالِغِيهِ لدفع الآيات المفهوم من المجادلة، وما تقدم أظهر، وقال مقاتل: المجادلون الذين نزلت فيهم الآية اليهود عظموا أمر الدجال فنزلت، وإلى هذا ذهب أبو العالية أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم بسند صحيح عنه قال: إن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الدجال يكون منا في آخر الزمان ويكون من أمره ما يكون فعظموا أمره وقالوا: يصنع كذا وكذا فأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ إلخ، وهذا كالنص في أن أمر اليهود كان السبب في نزولها، وعليه تكون الآية مدنية وقد مر الكلام في ذلك فتذكر. وفي رواية أن اليهود كانوا يقولون: يخرج صاحبنا المسيح بن داود يريدون الدجال ويبلغ سلطانه البر والبحر وتسير معه الأنهار وهو آية من آيات الله فيرجع إلينا الملك، حكاها في الكشاف ثم قال: فسمى الله تعالى تمنيهم ذلك كبرا ونفى سبحانه أن يبلغوا متمناهم، ويخطر لي على هذا القول إن اليهود لم يريدوا من تعظيم أمر الدجال سوى نفي أن يكون نبينا صلى الله عليه وسلم النبي المبعوث في آخر الزمان الذي بشر به أنبياؤهم وزعم أن المبشر به هو ذلك اللعين، ففي بعض الروايات أنهم قالوا للنبي عليه الصلاة والسلام:
لست صاحبنا- يعنون النبي المبشر به أنبياؤهم، فالإضافة لأدنى ملابسة بل هو المسيح بن داود يبلغ سلطانه البر والبحر ويسير معه الأنهار، وفي ذلك بزعمهم دفع الآيات الدالة على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم والداعي لهم إلى ذلك الكبر والحسد وحب أن لا تخرج النبوة من بني إسرائيل، فمعنى الآية عليه نحو معناها على القول بكون المجادلين مشركي مكة. ثم إن اليهود عليهم اللعنة كذبوا أولا بقولهم للنبي عليه الصلاة والسلام: لست صاحبنا، وثانيا بقولهم: بل هو المسيح بن داود يعنون الدجال، أما الكذب الأول فظاهر، وأما الثاني فلأنه لم يبعث نبي إلا وقد حذر أمته الدجال وأنذرهم إياه كما نطقت بذلك الأخبار، وهم قالوا: هو صاحبنا يعنون المبشر ببعثته آخر الزمان، وكل ذلك من الجدال في آيات الله تعالى بغير سلطان فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أي فالتجىء إليه تعالى من كيد من يحسدك ويبغي عليك، وفيه رمز إلى أنه من(12/331)
همزات الشياطين، وقال أبو العالية: هذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ من فتنة الدجال بالله عزّ وجلّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أي لأقوالكم وأفعالكم، والجملة لتعليل الأمر قبلها.
وقوله تعالى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ تحقيق للحق وتبيين لأشهر ما يجادلون فيه من أمر البعث الذي هو كالتوحيد في وجوب الإيمان به على منهاج قوله تعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس: 81] وإضافة (خلق) إلى ما بعده من إضافة المصدر إلى مفعوله أي لخلق الله تعالى السماوات والأرض أعظم من خلقه سبحانه الناس لأن الناس بالنسبة إلى تلك الأجرام العظيمة كلا شيء، والمراد أن من قدر على خلق ذلك فهو سبحانه على خلق ما لا يعد شيئا بالنسبة إليه بدأ وإعادة أقدر وأقدر.
وقال أبو العالية: الناس الدجال وهو بناء على ما روي عنه في المجادلين، ولعمري إن تطبيق هذا ونحوه على ذلك في غاية البعد وأنا لا أقول به وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ وهم الكفرة، ولما كان ما قبل لإثبات البعث الذي يشهد له العقل وتقتضيه الحكمة اقتضاء ظاهرا ناسب نفي العلم عمن كفر به لأنهم لو كانوا من العقلاء الذين من شأنهم التدبر والتفكر فيما يدل عليه لم يصدر عنهم إنكاره، ولم يذكر للعلم مفعولا لأن المناسب للمقام تنزيله منزلة اللازم، وقيل: المراد لا يعلمون أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس أي لا يجرون على موجب العلم بذلك من الإقرار بالبعث ومن لا يجري على موجب علمه هو والجاهل سواء.
وفي البحر أنه تعالى نبه على أنه لا ينبغي أن يجادل في آيات الله ولا يتكبر الإنسان بقوله سبحانه: لَخَلْقُ إلخ أي إن مخلوقاته تعالى أكبر وأجل من خلق البشر فما لأحدهم يجادل ويتكبر على خالقه سبحانه وتعالى ولكن أكثر الناس لا يعلمون لا يتأملون لغلبة الغفلة عليهم ولذلك جادلوا وتكبروا، ولا يخفى أنه تفسير قليل الجدوى.
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أي الغافل عن معرفة الحق في مبدئه ومعاده ومن كانت له بصيرة في معرفتهما، وتفسير الْبَصِيرُ بالله تعالى والْأَعْمى بالصنم غير مناسب هنا وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي المحسن ولذا قوبل بقوله تعالى: وَلَا الْمُسِيءُ وعدل عن التقابل الظاهر كما في الأعمى والبصير إلى ما في النظم الجليل إشارة إلى أن المؤمنين علم في الإحسان، وقدم الْأَعْمى لمناسبة العمى ما قبله من نفي العلم، وقدم الذين آمنوا بعد لمجاورة البصير ولشرفهم، وفي مثله طرق أن يجاور كل ما يناسبه كما هنا، وأن يقدم ما يقابل الأول ويؤخر ما يقابل الآخر كقوله تعالى: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ [فاطر: 19- 22] وأن يؤخر المتقابلان كالأعمى والأصم والسميع والبصير وكل ذلك من باب التفنن في البلاغة وأساليب الكلام، والمقصود من نفي استواء من ذكر بيان أن هذا التفاوت مما يرشد إلى البعث كأنه قيل: ما يستوي الغافل والمستبصر والمحسن والمسيء فلا بد أن يكون لهم حال أخرى يظهر فيها ما بين الفريقين من التفاوت وهي فيما بعد البعث.
وأعيدت لَا في المسيء تذكيرا للنفي السابق لما بينهما من الفصل بطول الصلة، ولأن المقصود بالنفي أن الكافر المسيء لا يساوي المؤمن المحسن، وذكر عدم مساواة الأعمى للبصير توطئة له، ولو لم يعد النفي فيه فربما ذهل عنه وظن أنه ابتداء كلام، ولو قيل: ولا الذين آمنوا والمسيء لم يكن نصا فيه أيضا لاحتمال أنه مبتدأ وقَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ خبره وجمع على المعنى قاله الخفاجي، وهو أن تم فعلي القراءة بياء الغيبة، وقيل: لم يقل ولا الذين آمنوا والمسيء لأن المقصود نفي مساواة المسيء للمحسن لا نفي مساواة المحسن له إذا المراد بيان خسارته ولا يصفو عن كدر فتدبر، والموصول مع ما عطف عليه معطوف على الْأَعْمى مع ما عطف عليه عطف المجموع على(12/332)
المجموع كما في قوله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ [الحديد: 3] ولم يترك العطف بينهما بناء على أن الأول مشبه به والثاني مشبه وهما متحدان مآلا لأن كلا من الوصفين الأولين مغاير لكل من الوصفين الأخيرين وتغاير الصفات كتغاير الذوات في صحة التعاطف، ووجه التغاير أن الغافل والمستبصر والمحسن والمسيء صفات متغايرة المفهوم بقطع النظر عن اتحاد ما صدقهما وعدمه، وقيل: التغاير بين الوصفين الأولين والوصفين الأخيرين من جهة أن القصد في الأولين إلى العلم، وفي الأخيرين إلى العمل، وهو وجه لا بأس به، وقيل: هما وإن اتحدا ذاتا متغايران اعتبارا من حيث إن الثاني صريح والأول مذكور على طريق التمثيل، ونظر فيه بأنه لو اكتفى بمجرد هذه المغايرة لزم جواز عطف المشبه على المشبه به وعكسه.
قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ أي تذكرا قليلا تتذكرون. وقرأ الجمهور والأعرج والحسن وأبو جعفر وشيبة بياء الغيبة والضمير للناس أو الكفار، قال الزمخشري: والتاء أعم، وعلله صاحب التقريب بأن فيه تغليب الخطاب على الغيبة، وقال القاضي: إن التاء للتغيب أو الالتفات أو أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالمخاطبة أي بتقدير قل قبله، وآثر العلامة الطيبي الالتفات لأن العدول من الغية إلى الخطاب في مقام التوبيخ يدل على العنف الشديد والإنكار البليغ، فهذه الآية متصلة بخلق السماوات وهو كلام مع المجادلين. وتعقبه صاحب الكشف بأنه يجوز أن يجعل ما ذكر نكتة التغليب فيكون أولى لفائدة التعميم أيضا فليفهم، والظاهر أن التغليب جار على احتمال كون الضمير للناس واحتمال كونه للكفار لأن بعض الناس أو الكفار مخاطب هنا والتقليل أيضا يصح اجراؤه على ظاهره لأن منهم من يتذكر ويهتدي، وقال الجلبي: الضمير إذا كان للناس فالتقليل على معناه الحقيقي والمستثنى هم المؤمنون وإذا كان للكفار فهو بمعنى النفي، ثم الظاهر أن المخاطب من خاطبه صلى الله عليه وسلم من قريش فمن قال: المخاطب هو النبي عليه الصلاة والسلام لقوله تعالى: فَاصْبِرْ ولا يناسب إدخاله فيمن لم يتذكر فقدسها ولم يتذكر.
إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها أي في مجيئها أي لا بد من مجيئها ولا محالة لوضوح الدلالة على جوازها وإجماع الأنبياء على الوعد الصادق بوقوعها. ويجوز أن يكون المعنى أنها آتية وأنها ليست محلا للريب أي لوضوح الدلالة إلى آخر ما مر، والفرق أن متعلق الريب على الأول المجيء وعلى هذا الساعة والحمل عليه أولى.
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ لا يصدقون بها لقصور نظرهم على ما يدركونه بالحواس الظاهرة واستيلاء الأوهام على عقولهم وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ أي اعبدوني أثبكم على ما روي عن ابن عباس والضحاك ومجاهد وجماعة. وعن الثوري أنه قيل له: ادع الله تعالى فقال: إن ترك الذنوب هو الدعاء يعني أن الدعاء باللسان ترجمة عن طلب الباطن وأنه إنما يصح لصحة التوجه وترك المخالفة فمن ترك الذنوب فقد سأل الحق بلسان الاستعداد وهو الدعاء الذي يلزمه الإجابة ومن لا يتركها فليس بسائل وإن دعاه سبحانه ألف مرة وما ذكر مؤيد لتفسير الدعاء بالعبادة ومحقق له فإن ترك الذنوب من أجل العبادات وينطبق على ذلك كمال الانطباق قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ أي صاغرين أذلاء.
وجوز أن يكون المعنى اسألوني أعطكم وهو المروي عن السدي فمعنى قوله تعالى: يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي يستكبرون عن دعائي لأن الدعاء نوع من العبادة ومن أفضل أنواعها، بل روى ابن المنذر والحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال: أفضل العبادة الدعاء وقرأ الآية، والتوعد على الاستكبار عنه لأن ذلك عادة المترفين المسرفين وإنما المؤمن يتضرع إلى الله تعالى في كل تقلباته، وفي إيقاع العبادة صلة الاستكبار ما يؤذن بأن الدعاء باب من أبواب الخضوع لأن العبادة خضوع ولأن المراد بالعبادة الدعاء والاستكبار إنما يكون عن شيء إذا أتى به لم يكن مستكبرا.(12/333)
قال في الكشف: وهذا الوجه أظهر بحسب اللفظ وأنسب إلى السياق لأنه لما جعل المجادلة في آيات الله تعالى من الكبر جعل الدعاء وتسليم آياته من الخضوع لأن الداعي له تعالى الملتجئ إليه عزّ وجلّ لا يجادل في آياته بغير سلطان منه البتة، والعطف في قوله تعالى: وَقالَ من عطف مجموع قصة على مجموع أخرى لاستوائهما في الغرض، ولهذا لما تمم هذه القصة أعني قوله سبحانه: وَقالَ رَبُّكُمُ إلى قوله عزّ وجلّ: كُنْ فَيَكُونُ [البقرة:
117 وغيرها] صرح بالغرض في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ كما بنى القصة أولا على ذلك في قوله تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ [غافر: 35] ولو تؤمل في هذه السورة الكريمة حق التأمل وجد جل الكلام فيها مبنيا على رد المجادلين في آيات الله المشتملة على التوحيد والبعث وتبيين وجه الرد في ذلك بفنون مختلفة، ثم انظر إلى ما ختم به السورة كيف يطابق ما بدئت من قوله سبحانه: فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ [غافر: 4] وكيف صرح آخرا بما رمز إليه أولا لتقضي منه العجب فهذا وجه العطف انتهى.
وما ذكره من أظهرية هذا الوجه بحسب اللفظ ظاهر جدا لما في الأولى من ارتكاب خلاف الظاهر قبل الحاجة إليه في موضعين في الدعاء حيث تجوز به عن العبادة لتضمنها له أو لأنه عبادة خاصة أريد به المطلق، وفي الاستجابة حيث جعلت الإثابة على العبادة لترتبها عليها استجابة مجازا أو مشاكلة بخلاف الثاني فإن فيه ارتكاب خلاف الظاهر وهو التجوز في موضع واحد وهو عَنْ عِبادَتِي ومع هذا هو بعد الحاجة فلم يكن كنزع الخف قبل الوصول إلى الماء بل قيل: لا حاجة إلى التجوز فيه لأن الإضافة مراد بها العهد هنا فتفيد ما تقدم، لكن كونه أنسب بالسياق أيضا مما لا يتم في نظري، وأيا ما كان ف أَسْتَجِبْ جزم في جواب الأمر أي إن تدعوني أستجب لكم والاستجابة على الوجهين مشروطة بالمشيئة حسبما تقتضيه أصولنا، وقد صرح بذلك في استجابة الدعاء قال سبحانه: فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ [الأنعام: 41] والاستكبار عن عبادة الله تعالى دعاء كانت أو غيره كفر يترتب عليه ما ذكر في الآية الكريمة.
وأما ترك ذلك لا عن استكبار فتفصيل الكلام فيه لا يخفى، والمقامات في ترك الدعاء فقيل: متفاوتة فقد لا يحسن كما يدل عليه
قوله صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع الله تعالى يغضب عليه» أخرجه أحمد وابن أبي شيبة والحاكم عن أبي هريرة مرفوعا
، وقد يحسن كما يدل عليه ما روي من ترك الخليل عليه السلام الدعاء يوم ألقي في النار وقوله علمه بحالي يغني عن سؤالي، وربما يقال: ترك الدعاء اكتفاء بعلم الله عزّ وجلّ دعاء والله تعالى أعلم.
وقرأ ابن كثير وأبو بكر وزيد بن علي وأبو جعفر «سيدخلون» مبنيا للمفعول من الإدخال واختلفت الرواية عن عاصم وأبي عمرو اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ لتستريحوا فيه بأن أغاب سبحانه فيه الشمس فجعله جل شأنه باردا مظلما وجعل عزّ وجلّ برده سببا لضعف القوى المحركة وظلمته سببا لهدو الحواس الظاهرة إلى أشياء أخرى جعلها أسبابا للسكون والراحة وَالنَّهارَ مُبْصِراً يبصر فيه أو به فالنهار إما ظرف زمان للإبصار أو سبب له.
وأيا ما كان فإسناد الإبصار له بجعله مبصرا إسناد مجازي لما بينهما من الملابسة، وفيه مبالغة وأنه بلغ الإبصار إلى حد سرى في نهار المبصر، ولذا لم يقل: لتبصروا فيه على طرز ما وقع في قرينه، فإن قيل: لم لم يقل جعل لكم الليل ساكنا ليكون فيه المبالغة المذكورة وتخرج القرينتان مخرجا واحدا في المبالغة، قلت: أجيب عن ذلك بأن نعمة النهار أتم وأعظم من نعمة الليل فسلك مسلك المبالغة فيها، وتركت الأخرى على الظاهر تنبيها على ذلك، وقيل: إن النعمتين فرسا رهان فدل على فضل الأولى بالتقديم وعلى فضل الأخرى بالمبالغة وهو كما ترى، وقيل: لم يقل ذلك(12/334)
لأن الليل يوصف على الحقيقة بالسكون فيقال: ليل ساكن أي لا ريح فيه ولا يبعد أن يكون السكون بهذا المعنى حقيقة عرفية. فلو قيل: ساكنا لم يتميز المراد نظرا إلى الإطلاق وإن تميز نظرا إلى قرينة التقابل.
وكان رجحان هذا الأسلوب لأن الكلام المحكم الواضح بنفسه من أول الأمر هو الأصل لا سيما في خطاب ورد في معرض الامتنان للخاصة والعامة، وهم متفاوتون في الفهم والدراية الناقصة والتامة، وفي الكشف لما لم يكن الأبصار علة غائية في نفسه بل العلة ابتغاء الفضل كما ورد مصرحا به في سورة القصص بخلاف السكون والدعة في الليل صرح بذلك في الأول ورمز في الثاني مع إفادة نكتة سرية في الإسناد المجازي.
وقال الجلبي: إذا حملت الآية على الاحتباك، وقيل: المراد جعل لكم الليل مظلما لتسكنوا فيه والنهار مبصرا لتنتشروا فيه ولتبتغوا من فضل الله تعالى فحذف من الأول بقرينة الثانية ومن الثاني بقرينة الأول لم يحتج إلى ما ذكر في تعليل ترك المبالغة في القرينة الأولى، وهذا هو المشهور في الآية والله سبحانه وتعالى أعلم.
إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ لا يوازيه فضل ولقصد الإشعار به لم يقل المفضل عَلَى النَّاسِ برهم وفاجرهم وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ لجهلهم بالمنعم وإغفالهم مواقع النعم، وتكرير الناس لتخصيص الكفران بهم، وذلك من إيقاعه على صريح اسمهم الظاهر الموضوع موضع الضمير الدال على أنه من شأنهم وخاصتهم في الغالب.
ذلِكُمُ المتصف بالصفات المذكورة المقتضية للألوهية والربوبية اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أخبار مترادفة تخصص اللاحقة السابقة وتقلل اشتراكها في المفهوم نظرا إلى أصل الوضع وتقررها، وجوز في بعضها الوصفية والبدلية، وأخر خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ عن لا إِلهَ إِلَّا هُوَ في آية [106 من سورة الأنعام] ، وقدم هنا لما أن المقصود هاهنا على ما قيل الرد على منكري البعث فناسب تقديم ما يدل عليه، وهو أنه منه سبحانه وتعالى مبدأ كل شيء فكذا إعادته.
وقرأ زيد بن علي «خالق» بالنصب على الاختصاص أي أعني أو أخص خالق كل شيء فيكون لا إِلهَ إِلَّا هُوَ استئنافا مما هو كالنتيجة للأوصاف المذكورة فكأنه قيل: الله تعالى متصف بما ذكر من الصفات ولا إله إلا من اتصف بها فلا إله إلا هو فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فكيف ومن أي جهة تصرفون من عبادته سبحانه إلى عبادة غيره عزّ وجلّ. وقرأ طلحة في رواية «يؤفكون» بياء الغيبة.
كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أي مثل ذلك الإفك العجيب الذي لا وجه له ولا مصحح أصلا يؤفك كل من جحد بآياته تعالى أي آية كانت لا إفكا آخر له وجه ومصحح في الجملة.
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً أي مستقرا وَالسَّماءَ بِناءً أي قبة ومنه أبنية العرب لقبابهم التي تضرب وإطلاق ذلك على السماء على سبيل التشبيه، وهو تشبيه بليغ وفيه إشارة لكريتها. وهذا بيان لفضله تعالى المتعلق بالمكان بعد بيان فضله المتعلق بالزمان، وقوله سبحانه: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ بيان لفضله تعالى المتعلق بأنفسهم، والفاء في فَأَحْسَنَ تفسيرية فالمراد صوركم أحسن تصوير حيث خلق كلا منكم منتصب القامة بادي البشرة متناسب الأعضاء والتخطيطات متهيء لمزاولة الصنائع واكتساب الكمالات. وقرأ الأعمش وأبو رزين «صوركم» بكسر الصاد فرارا من الضمة قبل الواو، وجمع فعلة بضم الفاء على فعل بكسرها شاذ ومنه قوة وقوى بكسر القاف في الجمع. وقرأت فرقة «صوركم» بضم الصاد وإسكان الواو على نحو بسرة وبسر وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي المستلذات طعما ولباسا وغيرهما وقيل الحلال ذلِكُمُ الذي نعت بما ذكر من النعوت الجليلة اللَّهُ رَبُّكُمْ(12/335)
خبران لذلكم فَتَبارَكَ اللَّهُ تعالى بذاته رَبُّ الْعالَمِينَ أي مالكهم ومربيهم والكل تحت ملكوته مفتقر إليه تعالى في ذاته ووجوده وسائر أحواله جميعها بحيث لو انقطع فيضه جل شأنه عنه آنا لعدم بالكلية هُوَ الْحَيُّ المنفرد بالحياة الذاتية الحقيقية لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إذ لا موجود يدانيه في ذاته وصفاته وأفعاله عزّ وجلّ فَادْعُوهُ فاعبدوه خاصة لاختصاص ما يوجب ذلك به تعالى.
وتفسير الدعاء بالعبادة هو الذي يقتضيه قوله تعالى: مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي الطاعة من الشرك الخفي والجلي وأنه الأليق بالترتب على ما ذكر من أوصاف الربوبية والألوهية، وإنما ذكرت بعنوان الدعاء لأن اللائق هو العبادة على وجه التضرع والانكسار والخضوع الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي قائلين ذلك.
أخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال: من قال لا إله إلا الله فليقل على أثرها الحمد لله رب العالمين وذلك قوله تعالى: فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ إلخ. وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير نحو ذلك، وعلى هذا ف الْحَمْدُ لِلَّهِ إلخ من كلام المأمورين بالعبادة قبله، وجوز كونه من كلام الله تعالى على أنه إنشاء حمد ذاته سبحانه بذاته جل شأنه.
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي من الحجج والآيات أو من الآيات لكونها مؤيدة لأدلة العقل منبهة عليها فإن الآيات التنزيلية مفسرات للآيات التكوينية الآفاقية والأنفسية وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي بأن أنقاد له تعالى وأخلص له عزّ وجلّ ديني.
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ في ضمن خلق آدم عليه السلام منه حسبما مر تحقيقه ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ أي ثم خلقكم خلقا تفصيليا من نطفة أي من مني ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ قطعة دم جامد ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا أي أطفالا وهو اسم جنس صادق على القليل والكثير.
وفي المصباح، قال ابن الأنباري: يكون الطفل بلفظ واحد للمذكر والمؤنث والجمع ويجوز فيه المطابقة أيضا، وقيل: إنه أفراد بتأويل خلق كل فرد من هذا النوع ثم يخرج كل فرد منه طفلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ للام فيه متعلقة بمحذوف تقديره ثم يبقيكم لتبلغوا وذلك المحذوف عطف على يُخْرِجُكُمْ وجوز أن يكون لِتَبْلُغُوا عطفا على علة مقدرة ليخرجكم كأنه قيل: ثم يخرجكم لتكبروا شيئا فشيئا ثم لتبلغوا أشدكم وكمالكم في القوة والعقل، وكذا الكلام في قوله تعالى: ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً ويجوز عطفه على لِتَبْلُغُوا.
وقرأ ابن كثير وابن ذكوان وأبو بكر وحمزة والكسائي «شيوخا» بكسر الشين. وقرئ «شيخا» كقوله تعالى:
طِفْلًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ أي من قبل الشيخوخة بعد بلوغ الأشد أو قبله أيضا وَلِتَبْلُغُوا متعلق بفعل مقدر بعده أي ولتبلغوا أَجَلًا مُسَمًّى هو يوم القيامة بفعل ذلك الخلق من تراب وما بعده من الأطوار، وهو عطف على خَلَقَكُمْ والمراد من يوم القيامة ما فيه من الجزاء فإن الخلق ما خلقوا إلا ليعبدوا ثم يبلغوا الجزاء، وتفسير الأجل المسمى بذلك مروي عن الحسن، وقال بعض: هو يوم الموت. وتعقب بأن وقت الموت فهم من ذكر التوفي قبله فالأولى تفسيره بما تقدم، وظاهر صنيع الزمخشري ترجيح هذا على ما بين في الكشف وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ولكي تعقلوا ما في ذلك التنقل في الأطوار من فنون الحكم والعبر.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال: أي ولعلكم تعقلون عن ربكم أنه يحييكم كما أماتكم هُوَ الَّذِي يُحْيِي الأموات وَيُمِيتُ الأحياء أو الذي يفعل الإحياء والإماتة فَإِذا قَضى أَمْراً أراد بروز أمر من الأمور إلى(12/336)
الوجود الخارجي فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ من غير توقف على شيء من الأشياء أصلا.
وهذا عند الخلف تمثيل لتأثير قدرته تعالى في المقدورات عند تعلق إرادته سبحانه بها وتصوير لسرعة ترتب المكونات على تكوينه من غير أن يكون هناك آمر ومأمور وقد تقدم الكلام في ذلك، والفاء الأولى للدلالة على أن ما بعدها من نتائج ما قبلها من حيث إنه يقتضي قدرة ذاتية غير متوقفة على العدد والمواد، وجوز فيها كونها تفصيلية وتعليلية أيضا فتدبر أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ تعجيب من أحوالهم الشنيعة وآرائهم الركيكة وتمهيد لما يعقبه من بيان تكذيبهم بكل القرآن وبسائر الكتب والشرائع وترتيب الوعيد على ذلك، كما أن ما سبق من قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ إلخ بيان لابتناء جدالهم على مبنى فاسد لا يكاد يدخل تحت الوجود فلا تكرير فيه كذا في إرشاد العقل السليم.
وقال القاضي: تكرير ذكر المجادلة لتعدد المجادل بأن يكون هناك قوما وهنا قوما آخرين أو المجادلة فيه بأن يحمل في كل على معنى مناسب ففيما مر في البعث وهنا في التوحيد أو هو للتأكيد اهتماما بشأن ذلك. واختار ما في الإرشاد، أي انظر إلى هؤلاء المكابرين المجادلين في آياته تعالى الواضحة الموجبة للإيمان بها الزاجرة عن الجدال فيها كيف يصرفون عنها مع تعاضد الدواعي إلى الإقبال عليها وانتفاء الصوارف عنها بالكلية.
وقوله تعالى: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ أي بكل القرآن أو بجنس الكتب السماوية فإن تكذيبه تكذيب لها في محل الجر على أنه بدل من الموصول الأول أو بيان أو صفة له أو في محل النصب على الذم أو في محل الرفع على أنه خبر محذوف أو مبتدأ خبره فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وإنما وصل الموصول الثاني بالتكذيب دون المجادلة لأن المعتاد وقوع المجادلة في بعض المواد لا في الكل. وصيغة الماضي للدلالة على التحقيق كما أن صيغة المضارع في الصلة الأولى للدلالة على تجدد المجادلة وتكررها وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا من سائر الكتب على الوجه الأول في تفسير الكتاب أو مطلق الوحي والشرائع على الوجه الثاني فيه.
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ كنه ما فعلوا من الجدال والتكذيب عند مشاهدتهم لعقوباته إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ ظرف ليعلمون، والمعنى على الاستقبال، والتعبير بلفظ المضي للدلالة على تحققه حتى كأنه ماض حقيقة فلا تنافر بين سوف وإذ وَالسَّلاسِلُ عطف على الْأَغْلالُ والجار والمجرور في نية التأخير كأنه قيل: إذ الأغلال والسلاسل في أعناقهم، وقوله تعالى: يُسْحَبُونَ أي يجرون فِي الْحَمِيمِ حال من ضمير يَعْلَمُونَ أو ضمير فِي أَعْناقِهِمْ أو جملة مستأنفة لبيان حالهم بعد ذلك، وجوز كون السَّلاسِلُ مبتدأ أو جملة يُسْحَبُونَ خبره والعائد محذوف أي يسحبون بها.
وجوز كون الْأَغْلالُ مبتدأ وَالسَّلاسِلُ عطف عليه والجملة خبر المبتدأ وفِي أَعْناقِهِمْ في موضع الحال، ولا يخفى حاله، وقرأ ابن مسعود وابن عباس وزيد بن علي وابن وثاب «والسلاسل يسحبون» بنصب السلاسل وبناء يسحبون للفاعل فيكون السلاسل مفعولا مقدما ليسحبون، والجملة معطوفة على ما قبلها، ولا بأس بالتفاوت اسمية وفعلية.
وقرأت فرقة منهم ابن عباس في رواية «والسلاسل» بالجر، وخرج ذلك الزجاج على الجر بخافض محذوف كما في قوله:
أشارت كليب بالأكف الأصابع(12/337)
ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
أي وبالسلاسل كما قرئ به أو في السلاسل كما في مصحف أبي، والفراء على العطف بحسب المعنى إذ الأغلال في أعناقهم بمعنى أعناقهم في الأغلال، ونظيره قوله:
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعب إلا ببين غرابها
ويسمى في غير القرآن عطف التوهم، وذهب إلى هذا التخريج الزمخشري وابن عطية، وابن الأنباري بعد أن ضعف تخريج الزجاج خرج القراءة على ما قال الفراء قال: وهذا كما تقول: خاصم عبد الله زيد العاقلين بنصب العاقلين ورفعه لأن أحدهما إذا خاصم صاحبه فقد خاصم الآخر، وهذه المسألة لا تجوز عند البصريين ونقل جوازها عن محمد ابن سعدان الكوفي قال: لأن كل واحد منهما فاعل مفعول ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ يحرقون ظاهرا وباطنا من سجر التنور إذا ملأه إيقادا ويكون بمعنى ملأه بالحطب ليحميه، ومنه السجير للصديق الخليل كأنه سجر بالحب أي ملئ، ويفهم من القاموس أن السجر من الأضداد، وكلا الاشتقاقين مناسب في السجير أي ملئ من حبك أو فرغ من غيرك إليك والأول أظهر.
والمراد بهذا وما قبله أنهم معذبوهم بأنواع العذاب سحبهم على وجوههم في النار الموقدة ثم تسليط النار على باطنهم وأنهم يعذبون ظاهرا وباطنا فلا استدراك في ذكر هذا بعد ما تقدم.
ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا أي يقال لهم ويقولون، وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع، والسؤال للتوبيخ، وضلالهم عنهم بمعنى غيبتهم من ضلت دابته إذا لم يعرف مكانها، وهذا لا ينافي ما يشعر بآن آلهتهم مقرونون بهم في النار لأن للنار طبقات ولهم فيها مواقف فيجوز غيبتهم عنهم في بعضها(12/338)
واقترانهم بهم في بعض آخر، ويجوز أن يكون ضلالهم استعارة لعدم النفع فحضورهم كالعدم فذكر على حقيقته في موضع وعلى مجازه في آخر بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً أي بل تبين لنا اليوم أنّا لم نكن نعبد في الدنيا شيئا يعتد به، وهو إضراب عن كون الآلهة الباطلة ليست بموجودة عندهم أو ليست بنافعة إلى أنها ليست شيئا يعتد به.
وفي ذلك اعتراف بخطئهم وندم على قبيح فعلهم حيث لا ينفع ذلك، وجعل الجلبي هذه الآية كقوله تعالى:
وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] يفزعون إلى الكذب لحيرتهم واضطرابهم، ومعنى قوله تعالى: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ أنه تعالى يحيرهم في أمرهم حتى يفزعون إلى الكذب مع علمهم بأنه لا ينفعهم، ولعل ما تقدم هو المناسب للسياق.
ومعنى هذا مثل ذلك الإضلال يضل الله تعالى في الدنيا الكافرين حتى أنهم يدعون فيها ما يتبين لهم أنه ليس بشيء أو مثل ضلال آلهتهم عنهم في الآخرة نضلهم عن آلهتهم فيها حتى لو طلبوا الآلهة وطلبتهم لم يلق بعضهم بعضا أو مثل ذلك الضلال وعدم النفع يضل الله تعالى الكافرين حتى لا يهتدوا في الدنيا إلى ما ينفعهم في الآخرة، وفي المجمع كما أضل الله تعالى أعمال هؤلاء وأبطل ما كانوا يؤملونه كذلك يفعل بأعمال جميع من يتدين بالكفر فلا ينتفعون بشيء منها، فإضلال الكافرين على معنى إضلال أعمالهم أي إبطالها، ونقل ذلك عن الحسن، وقيل في معناه غير ذلك.
وقوله تعالى: ذلِكُمْ إشارة إلى المذكور من سحبهم في السلاسل والأغلال وتسجيرهم في النار وتوبيخهم بالسؤال، وجوز على بعض الأوجه أن يكون إشارة إلى إضلال الله تعالى الكافرين، وإلى الأول ذهب ابن عطية أي ذلكم العذاب الذي أنتم فيه بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ تبطرون وتأشرون كما قال مجاهد بِغَيْرِ الْحَقِّ وهو الشرك والمعاصي أو بغير استحقاق لذلك، وفي ذلك الْأَرْضِ زيادة تفظيع للبطر وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ تتوسعون في الفرح، وقيل: المعنى بما كنتم تفرحون بما يصيب أنبياء الله تعالى أولياءه من المكاره وبما كنتم تتوسعون في الفرح بما أوتيتم حتى نسيتم لذلك الآخرة واشتغلتم بالنعمة عن المنعم،
وفي الحديث «الله تعالى يبغض البذخين الفرحين ويحب كل قلب حزين»
وبين الفرح والمرح تجنيس حسن، والعدول إلى الخطاب للمبالغة في التوبيخ لأن ذم المرء في وجهه تشهير له، ولذا قيل: النصح بين الملأ تقريع ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ أي الأبواب المقسومة لكم خالِدِينَ فِيها مقدرين الخلود فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ عن الحق جهنم، وكان مقتضى النظم الجليل حيث صدر بادخلوا أن يقال: فبئس مدخل المتكبرين ليتجاوب الصدر والعجز لكن لما كان الدخول المقيد بالخلود سبب الثواء عبر بالمثوى وصح التجاوب معنى، وهذا الأمر على ما استظهره في البحر مقول لهم بعد المحاورة السابقة وهم في النار، ومطمح النظر فيه الخلود فهو أمر بقيد الخلود لا بمطلق الدخول، ويجوز أن يقال: هم بعد الدخول فيها أمروا أن يدخلوا الأبواب المقسومة لهم فكان أمرا بالدخول بقيد التجزئة لكل باب، وقال ابن عطية: يقال لهم قبل هذه المحاورة في أول الأمر ادخلوا.
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بتعذيب أعدائك الكفرة حَقٌّ كائن لا محالة فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ أصله فإن نرك فزيدت (ما) لتوكيد (إن) الشرطية ولذلك جاز أن يلحق الفعل نون التوكيد على ما قيل: وإلى التلازم بين ما ونون التوكيد بعد أن الشرطية ذهب المبرد. والزجاج فلا يجوز عندهما زيادة ما بدون إلحاق نون ولا إلحاق نون بدون زيادة ما ورد بقوله:
فأما تريني ولي لمة ... فإن الحوادث أودى بها(12/339)
ونسب أبو حيان على كلام فيه جواز الأمرين إلى سيبويه والغالب أن إن إذا أكدت- بما- يلحق الفعل بعدها نون التوكيد على ما نص عليه غير واحد بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ وهو القتل والأسر أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل ذلك فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ يوم القيامة فنجازيهم بأعمالهم، وهو جواب نَتَوَفَّيَنَّكَ وجواب نُرِيَنَّكَ محذوف مثل فذاك، وجوز أن يكون جوابا لهما على معنى أن نعذبهم في حياتك أو لم نعذبهم فإنا نعذبهم في الآخرة أشد العذاب ويدل على شدته الاقتصار على ذكر الرجوع في هذا المعرض. والزمخشري آثر في الآية هنا ما ذكر أولا وذكر في [الرعد: 40] في نظيرها أعني قوله تعالى: وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ ما يدل على أن الجملة المقرونة بالفاء جواب على التقديرين، قال في الكشف: والفرق أن قوله تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [الروم:
60، غافر: 55، 77] عدة للإنجاز والنصر وهو الذي همه عليه الصلاة والسلام وهم المؤمنين معقود به لمقتضى هذا السياق فينبغي أن يقدر فذاك هناك ثم جيء بالتقدير الثاني ردا لشماتتهم وأنه منصور على كل حال وإتماما للتسلي، وأما مساق التي في الرعد فلا يجاب التبليغ وأنه ليس عليه غير ذلك كيفما دارت القضية، فمن ذهب إلى إلحاق ما هنا بما في الرعد ذهب عنه مغزى الزمخشري انتهى فتأمل ولا تغفل.
وقرأ أبو عبد الرحمن ويعقوب «يرجعون» بفتح الياء، وطلحة بن مصرف ويعقوب في رواية الوليد بن حسان بفتح تاء الخطاب وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا ذوي خطر وكثرة مِنْ قَبْلِكَ من قبل إرسالك.
مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا أوردنا أخبارهم وآثارهم عَلَيْكَ كنوح وإبراهيم وموسى عليهم السلام.
وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وهم أكثر الرسل عليهم الصلاة والسلام،
أخرج الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: «قلت يا رسول الله كم عدة الأنبياء؟ قال مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا»
والظاهر أن المراد بالرسول في الآية ما هو أخص من النبي، وربما يوهم صنيع القاضي أن المراد به ما هو مساو للنبي.
وأيا ما كان لا دلالة في الآية على عدم علمه صلى الله عليه وسلم بعدد الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام كما توهم بعض الناس، ورد لذلك خبر الإمام أحمد وجرى بيننا وبينه من النزاع ما جرى، وذلك لأن المنفي القص وقد علمت معناه فلا يلزم من نفي ذلك نفي ذكر أسمائهم، ولو سلم فلا يلزم من نفى ذكر الأسماء نفي ذكر أن عدتهم كذا من غير تعرض لذكر أسمائهم، على أن النفي بلم وهي على الصحيح تقلب المضارع ما ضيافا لمنفي القص في الماضي ولا يلزم من ذلك استمرار النفي فيجوز أن يكون قد قصوا عليه عليه الصلاة والسلام جميعا بعد ذلك ولم ينزل ذلك قرآنا، وأظهر من ذلك في الدلالة على عدم استمرار النفي قوله تعالى: رُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [النساء: 164] لتبادر الذهن فيه إلى أن المراد لم نقصصهم عليك من قبل لمكان قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وبالجملة الاستدلال بالآية على أنه صلى الله عليه وسلم لم يعلم عدة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام ولا علمها بعد جهل عظيم بل خذلان جسيم نعوذ بالله تعالى من ذلك،
وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه في قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ قال: بعث الله تعالى عبدا حبشيا نبيا فهو ممن لم يقصص على محمد صلى الله عليه وسلم،
وعن ابن عباس بلفظ «إن الله تعالى بعث نبيا أسود في الحبش فهو ممن لم يقصص عليه عليه الصلاة والسلام»
والمراد بذلك على نحو ما مر أنه لم تذكر له صلى الله عليه وسلم قصصه وآثاره ولا أوردت عليه أحواله وأخباره كما كان في شأن موسى وعيسى وغيرهما من المرسلين عليهم الصلاة والسلام، ولا يمكن أن يقال: المراد أنه لم يذكر له صلى الله عليه وسلم بعثة شخص موصوف بذلك إذ لا يساعد عليه اللفظ، وأيضا لو أريد ما ذكر فمن أين علم علي كرم الله تعالى وجهه أو ابن عباس ذلك(12/340)
وهل يقول باب مدينة العلم على علم لم يفض عليك من تلك المدينة حاشاه ثم حاشاه وكذا ابن عمه العباس عبد الله.
واستشكل هذا الخبر بأن فيه رسالة العبد وقد قالوا العبد لا يكون رسولا، وأجيب بأن العبد فيه ليس بمعنى المملوك وهو الذي لا يكون رسولا لنقصان تصرفه ونفرة النفوس عن اتباعه بل هو أحد العبيد بمعنى السودان عرفا ولو قيل: إن العبد بهذا المعنى لا يكون رسولا أيضا لنفرة النفوس عن اتباعه كنفرتها عن اتباع المملوك قلنا: على تقدير تسليم النفرة إنما هي فيما إذا كان الإرسال لغير السودان وأما إذا كان الإرسال للسودان فليست هناك نفرة أصلا، وظاهر لفظ ابن عباس أن ذلك الأسود إنما بعث في الحبش والتزام أنه لا يكون رسول من السودان أولاد حام مما لا يساعد عليه الدليل لأنه إن كانت النفرة مانعة من الإرسال فهي لا تتحقق فيما إذا كان الإرسال إلى بني صنفه وإن كان المانع أنه لا يوجد متأهل للإرسال في بني حام لنقصان عقولهم وقلة كمالهم فدعوى ذلك جهل والله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته وكم رأينا في أبناء حام من هو أعقل وأكمل من كثير من أبناء سام ويافث، وإن كان قد ورد قاطع من نبينا صلى الله عليه وسلم أنه لا يكون من أولئك رسول فليذكر وأني به ثم إن أمر النبوة فيمن ذكر أهون من أمر الرسالة كما لا يخفى، وكأنه لمجموع ما ذكرنا قال الخفاجي عليه الرحمة: في صحة الخبر نظر وَما كانَ لِرَسُولٍ أي وما صح وما استقام لرسول من أولئك الرسل أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ بمعجزة إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فالمعجزات على تشعب فنونها عطايا من الله تعالى قسمها بينهم حسبما اقتضته مشيئته المبنية على الحكم البالغة كسائر القسم ليس لهم اختيار في إيثار بعضها والاستبداد بإتيان المقترح بها فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ بالعذاب في الدنيا والآخرة قُضِيَ بِالْحَقِّ بإنجاء المحق وإثابته وإهلاك المبطل وتعذيبه وَخَسِرَ هُنالِكَ أي وقت مجيء أمر الله تعالى اسم مكان استعير للزمان الْمُبْطِلُونَ المتمسكون بالباطل على الإطلاق فيدخل فيهم المعاندون المقترحون دخولا أوليا ومن المفسرين من فسر المبطلين بهم وفسر أمر الله بالقيامة، ومنهم من فسره بالقتل يوم بدر وما ذكرنا أولى.
وأبعد ما رأينا في الآية أن المعنى فإذا أراد الله تعالى إرسال رسول وبعثة نبي قضى ذلك وأنفذه بالحق وخسر كل مبطل وحصل على فساد آخرته.
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ المراد بها الإبل خاصة كما حكي عن الزجاج واختاره صاحب الكشاف، واللام للتعليل لا للاختصاص فإن ذلك هو المعروف في نظير الآية أي خلقها لأجلكم ولمصلحتكم، وقوله تعالى:
لِتَرْكَبُوا مِنْها إلخ تفصيل لما دل عليه الكلام إجمالا، ومن هنا جعل ذلك بعضهم بدلا مما قبله بدل مفصل من مجمل بإعادة حرف الجر، و (من) لابتداء الغاية أي ابتداء تعلق الركوب بها أو تبعيضية وكذا (من) في قوله تعالى: وَمِنْها تَأْكُلُونَ وليس المراد على إرادة التبعيض إن كلا من الركوب والأكل مختص ببعض معين منها بحيث لا يجوز تعلقه بما تعلق به الآخر بل على أن كل بعض منها صالح لكل منهما. نعم كثيرا ما يعدون النجائب من الإبل للركوب، والجملة على ما ذهب إليه الجلبي عطف على المعنى فإن قوله تعالى: لِتَرْكَبُوا مِنْها في معنى منها تركبون أو إن منها تأكلون في معنى لتأكلوا منها لكن لم يؤت به كذلك لنكتة.
وقال العلامة التفتازاني: إن هذه الجملة حالية لكن يرد على ظاهره أن فيه عطف الحال على المفعول له ولا محيص عنه سوى تقدير معطوف أي خلق لكم الأنعام منها تأكلون ليكون من عطف جملة على جملة.
وتعقبه الخفاجي بقوله: لم يلح لي وجه جعل هذه الواو عاطفة محتاجة إلى التقدير المذكور مع أن الظاهر أنها واو حالية سواء قلنا إنها حال من الفاعل أو المفعول والمنساق إلى ذهني العطف بحسب المعنى، ولعل اعتباره في جانب المعطوف أيسر فيعتبر أيضا في قوله تعالى: وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ أي غير الركوب والأكل كالألبان والأوبار(12/341)
والجلود ويقال: إنه في معنى ولتنتفعوا بمنافع فيها أو نحو ذلك وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ أي أمرا ذا بال تهتمون به وذلك كحمل الأثقال من بلد إلى بلد، وهذا عطف على لتركبوا منها جاء على نمطه، وكان الظاهر المزاوجة بين الفوائد المحصلة من الأنعام بأن يؤتى باللام في الجميع أو تترك فيه لكن عدل إلى ما في النظم الجليل لنكتة.
قال صاحب الكشف: إن الأنعام هاهنا لما أريد بها الإبل خاصة جعل الركوب وبلوغ الحاجة من أتم الغرض منها لأن من منافعها الركوب والحمل عليها، وأما الأكل منها والانتفاع بأوبارها وألبانها بالنسبة إلى ذينك الأمرين فنزر قليل، فأدخل اللام عليهما وجعلا مكتنفين لما بينهما تنبيها على أنه أيضا مما يصلح للتعليل ولكن قاصرا عنهما، وأما الاختصاص المستفاد من قوله تعالى: وَمِنْها تَأْكُلُونَ فلأنها من بين ما يقصد للركوب ويعد للأكل فلا ينتقض بالخيل على مذهب من أباح لحمها ولا بالبقر، وقال صاحب الفرائد: إنما قيل وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ ولم يقل: لتأكلوا منها ولتصلوا إلى المنافع لأنهم في الحال آكلون وآخذون المنافع وأما الركوب وبلوغ الحاجة فأمران منتظران فجيء فيهما بما يدل على الاستقبال. وتعقب بأن الكل مستقبل بالنسبة إلى زمن الخلق.
وقال القاضي: تغيير النظم في الأكل لأنه في حيز الضرورة، وقيل في توجيهه: يعني أن مدخول الغرض لا يلزم أن يترتب على الفعل، فالتغيير إلى صورة الجملة الحالية مع الإتيان بصيغة الاستمرار لتنبيه على امتيازه عن الركوب في كونه من ضروريات الإنسان. ويطرد هذا الوجه في قوله تعالى: وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ لأن المراد منفعة الشرب واللبس وهذا مما يلحق بالضروريات وهو لا يضر نعم فيه دغدغة لا تخفى. وقال الزمخشري: إن الركوب وبلوغ الحاجة يصح أن يكونا غرض الحكيم جل شأنه لما فيهما من المنافع الدينية كإقامة دين وطلب علم واجب أو مندوب فلذا جيء فيهما باللام بخلاف الأكل وإصابة المنافع فإنهما من جنس المباحات التي لا تكون غرض الحكيم. وهو مبني على مذهبه من الربط بين الأمر والإرادة ولا يصح أيضا لأن المباحات التي هي نعمة تصح أن تكون غرض الحكيم جل جلاله عندهم، ويا ليت شعري ماذا يقول في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ [يونس: 67] نعم لو ذكر أنه لاشتماله على الغرض الديني كان أنسب بدخول اللام لكان وجها إن تم.
وقيل: تغيير النظم الجليل في الأكل لمراعاة الفواصل كما أن تقديم الجار والمجرور لذلك. وأما قوله تعالى:
وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ فكالتابع للأكل فأجري مجراه وهو كما ترى، وقوله تعالى: وَعَلَيْها توطئة لقوله سبحانه:
وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ليجمع بين سفائن البر وسفائن البحر فكأنه قيل: وعليها في البر وعلى الفلك في البحر تحملون فلا تكرار. وفي إرشاد العقل السليم لعل المراد بهذا الحمل حمل النساء والولدان عليها بالهودج وهو السر في فصله عن الركوب، وتقديم الجار قيل: لمراعاة الفواصل كتقديمه قبل.
وقيل التقديم هنا وفيما تقدم للاهتمام وقيل: عَلَى الْفُلْكِ دون في الفلك كما في قوله تعالى: احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [هود: 40] لأن معنى الظرفية والاستعلاء موجود فيها فيصح كل من العبارتين، والمرجح لعلى هنا المشاكلة.
وذهب غير واحد إلى أن المراد بالأنعام الأزواج الثمانية فمعنى الركوب والأكل منها تعلقهما بالكل لكي لا على أن كلا منهما مختص ببعض معين منها بحيث لا يجوز تعلقه بما تعلق به الآخر بل على أن بعضها يتعلق به الأكل فقط كالغنم وبعضها يتعلق به كلاهما كالإبل ومنهم من عد البقر أيضا وركوبه معتاد عند بعض أهل الأخبية، وأدرج بعضهم الخيل والبغال وسائر ما ينتفع به من البهائم في الأنعام وهو ضعيف.
ورجح القول بأن المراد الأزواج الثمانية على القول المحكي عن الزجاج من أن المراد الإبل خاصة بأن المقام(12/342)
مقام امتنان وهو مقتض للتعميم، والظاهر ذاك، وكون المقام مقام امتنان غير مسلم بل هو مقام استدلال كقوله تعالى:
أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية: 17] كما يشعر به السياق، ولا يأباه ذكر المنافع فإنه استطرادي يُرِيكُمْ آياتِهِ
أي دلائله الدالة على كمال شؤونه جل جلاله أَيَّ آياتِ اللَّهِ
أي فأي آية من تلك الآيات الباهرةنْكِرُونَ
فإن كلا منها من الظهور بحيث لا يكاد يجترئ على إنكارها من له عقل في الجملة. فأين للاستفهام التوبيخي وهي منصوبة بتنكرون، وإضافة الآيات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وتهويل إنكارها وتنكير أي في مثل ما ذكر هو الشائع المستفيض والتأنيث قليل ومنه قوله:
بأي كتاب أم بأية سنة ... ترى حبهم عارا علي وتحسب
قال الزمخشري: لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو حمار وحمارة غريب وهي في أي أغرب لإبهامه لأنه اسم استفهام عما هو مبهم مجهول عند السائل والتفرقة مخالفة لما ذكر لأنها تقتضي التمييز بين ما هو مؤنث ومذكر فيكون معلوما له أَفَلَمْ يَسِيرُوا أي أقعدوا فلم يسيروا على أحد الرؤيين: فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم المهلكة، وقوله تعالى: كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ إلخ استئناف نظير ما مر في نظيره أول السورة بل أكثر الكلام هناك جار هاهنا فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ما الأولى نافية أو استفهامية في معنى النفي في محل نصب بأغنى، والثانية موصولة في موضع رفع به أو مصدرية والمصدر الحاصل بالتأويل مرفوع به أيضا أي لم يغن عنهم أو أي شيء أغنى عنهم الذي كسبوه أو كسبهم فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ المعجزات أو الآيات الواضحات الشاملة لذلك فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ذكر فيه ستة أوجه. الأول أن المراد بالعلم عقائدهم الزائغة وشبههم الداحضة فيما يتعلق بالمبدأ والمعاد وغيرهما أو عقائدهم المتعلقة بأحوال الآخرة كما هو ظاهر كلام الكشاف، والتعبير عن ذلك بالعلم على زعمهم للتهكم كما في قوله تعالى: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ [النمل: 66] . والمعنى أنهم كانوا يفرحون بذلك ويستحقرون له علم الرسل عليهم السلام ويدفعون به البينات. الثاني أن المراد به علم الفلاسفة والدهريين من بني يونان على اختلاف أنواعه فكانوا إذا سمعوا بوحي الله تعالى دفعوه وصغروا علم الأنبياء عليهم السلام إلى ما عندهم من ذلك. وعن سقراط أنه سمع بموسى عليه الصلاة والسلام، وقيل له: لو هاجرت إليه فقال: نحن قوم مهذبون فلا حاجة لنا إلى من يهذبنا. والزمان متشابه فقد رأينا من ترك متابعة خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم واستنكف عن الانتساب إلى شريعة أحد منهم فرحا بما لحس من فضلات الفلاسفة وقال: إن العلم هو ذاك دون ما جاء به الرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين. الثالث أن أصل المعنى فلما جاءتهم رسلهم بالبينات لم يفرحوا بما جاءهم من العلم فوضعوا موضعه فرحوا بما عندهم من الجهل ثم سمي ذلك الجهل علما لاغتباطهم به ووضعهم إياه مكان ما ينبغي لهم من الاغتباط بما جاءهم من العلم، وفيه التهكم بفرط جهلهم والمبالغة في خلوهم من العلم، وضمير فَرِحُوا وعِنْدَهُمْ على هذه الأوجه للكفرة المحدث عنهم.
الرابع أن يجعل ضمير فَرِحُوا للكفرة وضمير عِنْدَهُمْ للرسل عليهم السلام، والمراد بالعلم الحق الذي جاء المرسلون به أي فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك منه واستهزاء به، وخلاصته أنهم استهزؤوا بالبينات وبما جاء به الرسل من علم الوحي، ويؤيد هذا قوله تعالى: وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ.
الخامس أن يجعل الضمير أن للرسل عليهم السلام، والمعنى أن الرسل لما رأوا جهل الكفرة المتمادي واستهزاءهم بالحق وعلموا سوء عاقبتهم وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم واستهزائهم فرحوا بما أوتوا من العلم(12/343)
وشكروا الله تعالى وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم، وحكي هذا عن الجبائي.
السادس أن يجعل الضمير أن للكفار، والمراد بما عندهم من العلم علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها كما قال تعالى: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ [الروم: 7] ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [النجم: 30] فلما جاءهم الرسل بعلم الديانات وهي أبعد شيء من علمهم لبعثها على رفض الدنيا والظلف عن الملاذ والشهوات لم يلتفتوا إليها وصغروها واستهزؤوا بها واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم ففرحوا به، قال صاحب الكشف: والأرجح من بين هذه الأوجه الستة الثالث ففيه التهكم والمبالغة في خلوهم من العلم ومشتمل على ما يشتمل عليه الأول وزيادة سالم عن عدم الطباق للواقع كما في الثاني وعن قصور العبارة عن الأداء كالرابع وعن فك الضمائر كما في الخامس، والسادس قريب لكنه قاصر عن فوائد الثالث انتهى فتأمله جدا. وأبو حيان استحسن الوجه السادس وتعقب الوجه الثالث بأنه لا يعبر بالجملة الظاهر كونها مثبتة عن الجملة المنفية إلا في قليل من الكلام نحو شر أهر ذا ناب على خلاف فيه، ولما آل أمره إلى الإثبات المحصور جاز، وأما الآية فينبغي أن لا تحمل على القليل لأن في ذلك تخليطا لمعاني الجمل المتباينة فلا يوثق بشيء منها، وأنت تعلم أنه لا تباين معنى بين لم يفرحوا بما جاءهم من العلم وفَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ على ما قرر. نعم هذا الوجه عندي مع ما فيه من حسن لا يخلو عن بعد، وكلام صاحب الكشف لا يخلو عن دغدغة فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا شدة عذابنا ومنه قوله تعالى:
بِعَذابٍ بَئِيسٍ [الأعراف: 165] قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ يعنون الأصنام أو سائر آلهتهم الباطلة: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا أي عند رؤية عذابنا لأن الحكمة الإلهية قضت أن لا يقبل مثل ذلك الإيمان، وإِيمانُهُمْ رفع بيك اسما لها أو فاعل يَنْفَعُهُمْ وفي يَكُ ضمير الشأن على الخلاف الذي في كان يقوم زيد، ودخل حرف النفي على الكون لا على النفع لإفادة معنى نفي الصحة فكأنه لم يصح ولم يستقم حكمة نفع إيمانهم إياهم عند رؤية العذاب، وهاهنا أربعة فاءات فاء فَما أَغْنى وفاء فَلَمَّا جاءَتْهُمْ وفاء فَلَمَّا رَأَوْا وفاء فَلَمْ يَكُ فالفاء الأولى مثلها في نحو قولك: رزق المال فمنع المعروف فما بعدها نتيجة مالية لما كانوا فيه من التكاثر بالأموال والأولاد والتمتع بالحصون ونحوها، والثانية تفسيرية مثلها في قولك: فلم يحسن إلى الفقراء بعد فمنع المعروف في المثال فما بعدها إلى قوله تعالى: وَحاقَ بِهِمْ إيضاح لذلك المجمل وأنه كيف انتهى بهم الأمر إلى عكس ما أملوه وأنهم كيف جمعوا واحتشدوا وأوسعوا في إطفاء نور الله وكيف حاق المكر السيء بأهله إذ كان في قوله سبحانه: فَما أَغْنى عَنْهُمْ إيماء بأنهم زاولوا أن يجعلوها مغنية، والثالث للتعقيب، وجعل ما بعدها تابعا لما قبلها واقعا عقيبه فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا مترتب على قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ إلخ تابع له لأنه بمنزلة فكفروا إلا أن فَلَمَّا جاءَتْهُمْ الآية بيان كفر مفصل مشتمل على سوء معاملتهم وكفرانهم بنعمة الله تعالى العظمى من الكتاب والرسول فكأنه قيل: فكفروا فلما رأوا بأسنا آمنوا، ومثلها الفاء الرابعة فما بعدها عطف على آمنوا دلالة على أن عدم نفع إيمانهم ورده عليهم تابع للإيمان عند رؤية العذاب كأنه قيل: فلما رأوا بأسنا آمنوا فلم ينفعهم إيمانهم إذ النافع إيمان الاختيار سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ أي سن الله تعالى ذلك أعني عدم نفع الإيمان عند رؤية البأس سنة ماضية في البعاد، وهي من المصادر المؤكدة كوعد الله وصبغة الله، وجوز انتصابها على التحذير أي احذروا يا أهل مكة سنة الله تعالى في أعداء الرسل.
وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ أي وقت رؤيتهم البأس على أنه اسم مكان قد استعير للزمان كما سلف آنفا، وهذا الحكم خاص بإيمان البأس وأما توبة البأس فهي مقبولة نافعة بفضل الله تعالى وكرمه، والفرق ظاهر.(12/344)
وعنه بعض الأكابر أن إيمان البأس مقبول أيضا ومعنى فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا أن نمس إيمانهم لم ينفعهم وإنما نفعهم الله تعالى حقيقة به، ولا يخفى عليك حال هذا التأويل وما كان من ذلك القبيل والله تعالى أعلم.
«ومن باب الإشارة في بعض الآيات» على ما أشار إليه بعض السادات حم إشارة إلى ما أفيض على قلب محمد صلى الله عليه وسلم من الرحمن فإن الحاء والميم من وسط الاسمين الكريمين، وفي ذلك أيضا سر لا يجوز كشفه ولما صدرت السورة بما أشار إلى الرحمة وأنها وصف المدعو إليه والداعي ذكر بعد من صفات المدعو إليه وهو الله عزّ وجلّ ما يدل على عظيم الرحمة وسبقها، وفي ذلك من بشارة المدعو ما فيه.
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا إلخ فيه إشارة إلى شرف الإيمان وجلالة قدر المؤمنين وإلى أنه ينبغي للمؤمنين من بني آدم أن يستغفر بعضهم لبعض وفي ذلك أيضا من تأكيد الدلالة على عظم رحمة الله عزّ وجلّ ما لا يخفى فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ بأن يكون غير مشوب بشيء من مقاصد الدنيا والآخرة يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ قيل: في إطلاق الروح إشارة إلى روح النبوة وهو يلقى على الأنبياء، وروح الولاية ويلقى على العارفين، وروح الدراية ويلقى على المؤمنين الناسكين لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ قيل التلاقي مع الله تعالى ولا وجود لغيره تعالى وهو مقام الفناء المشار إليه بقوله سبحانه: يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ من قبول وجودهم لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ إذ ليس في الدار غيره ديار الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ من التجلي بِما كَسَبَتْ في بذل الوجود للمعبود لا ظُلْمَ الْيَوْمَ فتنال كل نفس من التجلي بقدر بذلها من الوجود لا أقل من ذلك.
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ هذه قيامة العوام المؤجلة ويشير إلى قيامة الخواص المعجلة لهم، فقد قيل: إن لهم في كل نفس قيامة من العتاب والعقاب والثواب والبعاد والاقتراب وما لم يكن لهم في حساب، وخفقان القلب ينطق والنحول يخبر واللون يفصح والمشوق يستر ولكن البلاء يظهر، وإذا أزف فناء الصفات بلغت القلوب الحناجر وشهدت العيون بما تخفي الضمائر يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ خائنة أعين المحبين استحسانهم تعمد النظر إلى غير المحبوب باستحسان واستلذاذ وما تخفيه الصدور من متمنيات النفوس ومستحسنات القلوب ومرغوبات الأرواح وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ قيل أي اطلبوني مني أجبكم فتجدوني ومن وجدني وجد كل شيء فالدعاء الذي لا يرد هو هذا الدعاء، ففي بعض الأخبار من طلبني وجدني إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي دعائي وطلبي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ الحرمان والبعد مني داخِرِينَ ذليلين مهينين اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً فيه إشارة إلى ليل البشرية ونهار الروحانية، وذكر أن سكون الناس في الليل المعروف على أقسام فأهل الغفلة يسكنون إلى استراحة النفوس والأبدان، وأهل الشهوة يسكنون إلى أمثالهم وأشكالهم من الرجال والنسوان، وأهل الطاعة يسكنون إلى حلاوة أعمالهم وقوة آمالهم. وأهل المحبة يسكنون إلى أنين النفوس وحنين القلوب وضراعة الأسرار واشتعال الأرواح بالأشواق التي هي أحر من النار اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً يشير إلى أنه تعالى جعل أرض البشرية مقرا للروح وَالسَّماءَ بناء أي سماء الروحانية مبنية عليها وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ بأن جعلكم مرايا جماله وجلاله،
وفي الخبر «خلق الله تعالى آدم على صورته»
وفي ذلك إشارة إلى رد أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة: 30] ولله تعالى من قال:(12/345)
ما حطك الواشون عن رتبة ... عندي ولا ضرك مغتاب
كأنهم أثنوا ولم يعلموا ... عليك عندي بالذي عابوا
والكافر لسوء اختياره التحق بالشياطين وصار مظهرا لصفات القهر من رب العالمين وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين، تم الكلام على سورة المؤمن والحمد لله أولا وآخرا وباطنا وظاهرا.(12/346)
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)
سورة فصّلت
وتسمى سورة السجدة وسورة حم السجدة وسورة المصابيح وسورة الأقوات، وهي مكية بلا خلاف ولم أقف فيها على استثناء، وعدد آياتها كما قال الداني خمسون وآيتان بصري وشامي وثلاث مكي ومدني وأربع كوفي، ومناسبتها لما قبلها أنه سبحانه ذكر قبل أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ [غافر: 82] إلخ وكان ذلك متضمنا تهديدا وتقريعا لقريش وذكر جل شأنه هنا نوعا آخر من التهديد والتقريع لهم وخصهم بالخطاب في قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت: 13] ثم بين سبحانه كيفية إهلاكهم وفيه نوع بيان لما في قوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا الآية، وبينهما أوجه من المناسبة غير ما ذكر. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن الخليل بن مرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ تبارك وحم السجدة.(12/347)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم أن جعل اسما للسورة أو القرآن فهو إما خبر لمحذوف أو مبتدأ خبره تَنْزِيلٌ على المبالغة أو التأويل المشهور، وهو على الأول خبر بعد خبر، وخبر مبتدأ محذوف أن جعل حم مسرودا على نمط التعديد عند الفراء، وقوله تعالى: مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ من تتمته مؤكد لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أو خبر آخر للمبتدأ المحذوف أو تنزيل مبتدأ لتخصصه بما بعده خبره كِتابٌ وحكي ذلك عن الزجاج والحوفي، وهو على الأوجه الأول بدل منه أو خبر آخر أو خبر لمحذوف، وجملة فُصِّلَتْ آياتُهُ على جميع الأوجه في موضع الصفة لكتاب، وإضافة التنزيل إلى الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ من بين أسمائه تعالى للإيذان بأنه مدار للمصالح الدينية والدنيوية واقع بمقتضى الرحمة الربانية حسبما ينبىء عنه قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] وتفصيل آياته تمييزها لفظا بفواصلها ومقاطعها ومبادئ السور وخواتمها، ومعنى بكونها وعدا ووعيدا وقصصا وأحكاما إلى غير ذلك بل من أنصف علم أنه ليس في بدء الخلق كتاب اجتمع فيه من العلوم والمباحث المتباينة عبارة وإشارة مثل ما في القرآن. وعن السدي فُصِّلَتْ آياتُهُ أي بينت ففصل بين حرامه وحلاله وزجره وأمره ووعده ووعيده، وقال الحسن: فصلت بالوعد والوعيد، وقال سفيان: بالثواب والعقاب، وما ذكرنا أولا أعم ولعل ما ذكروه من باب التمثيل لا الحصر، وقيل: المراد فصلت آياته في التنزيل أي لم تنزل جملة واحدة وليس بذاك. وقرىء «فصلّت» بفتح الفاء والصاد مخففة أي فرقت بين الحق والباطل، وقال ابن زيد: بين النبي صلى الله عليه وسلم ومن خالفه على أن فصل متعد أو فصل متعد أو فصل بعضها من بعض باختلاف الفواصل والمعاني على أن فصل لازم بمعنى انفصل كما في قوله تعالى: فَصَلَتِ الْعِيرُ [يوسف: 94] .
وقرىء «فصلت» بضم الفاء وكسر الصاد مخففة على أنه مبني للمفعول والمعنى على ما مر قُرْآناً عَرَبِيًّا نصب على المدح بتقدير أعني أو أمدح أو نحوه أو على الحال فقيل: من كِتابٌ لتخصصه بالصفة، وقيل: من آياتُهُ وجوز في هذه الحال أن تكون مؤكدة لنفسها وأن تكون موطئة للحال بعدها، وقيل: نصب على المصدر أي يقرؤوه قرآنا، وقال الأخفش: هو مفعول ثان لفصلت، وهو كما ترى إن لم تكن أخفش، وأيا ما كان ففي قُرْآناً عَرَبِيًّا امتنان بسهولة قراءته وفهمه لنزوله بلسان من نزل بين أظهرهم لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي معانيه لكونه على لسانهم على أن المفعول محذوف أو لأهل العلم والنظر على أن الفعل منزل منزلة اللازم ولام لِقَوْمٍ تعليلية أو اختصاصية وخصهم بذلك لأنهم هم المنتفعون به والجار والمجرور إما في موضع صفة أخرى- لقرآنا- أو صلة- لتنزيل- أو- لفصلت- قال الزمخشري: ولا يجوز أن يكون صفة مثل ما قبله وما بعده أي قرآنا عربيا كائنا لقوم عرب لئلا يفرق بين الصلات والصفات، ولعله أراد لئلا يلزم التفريق بين الصفة وهي قوله تعالى: بَشِيراً وَنَذِيراً وموصوفها وهو قُرْآناً بناء على أنه صفة له بالصلة وهي لِقَوْمٍ على تقدير تعلقه- بتنزيل- أو- بفصلت- وبين الصلة- وموصولها بالصفة أي تَنْزِيلٌ أو فُصِّلَتْ ولِقَوْمٍ والجمع للمبالغة على حد قولك لمن يفرق بين آخرين:
لا تفعل فإن التفريق بين الأخوان مذموم أو أراد لئلا يفرق بين الصلتين في الحكم مع عدم الموجب للتفريق وهو أن يتصل مِنَ الرَّحْمنِ بموصوله ولا يتصل لِقَوْمٍ وكذلك بين الصفتين وهو عَرَبِيًّا بموصوفه ولا يتصل بَشِيراً والجمع لذلك أيضا. واختار أبو حيان كون الجار والمجرور صلة فُصِّلَتْ وقال: يبعد تعلقه- بتنزيل- لكونه وصف قبل أخذ متعلقه إن كان مِنَ الرَّحْمنِ في موضع الصفة أو أبدل منه كِتابٌ أو كان خبرا- لتنزيل(12/348)
- فيكون في ذلك البدل من الموصول أو الإخبار عنه قبل أخذه متعلقه وهو لا يجوز ولعل ذلك غير مجمع عليه، وكون بَشِيراً صفة قُرْآناً هو المشهور، وجوز أن يكون مع ما عطف عليه حال من كِتابٌ أو من آياتُهُ وقرأ زيد بن علي «بشير» و «نذير» برفعهما وهي رواية شاذة عن نافع على الوصفية لكتاب أو الخبرية لمحذوف أي هو بشير لأهل الطاعة ونذير لأهل المعصية فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ عن تدبره وقبوله، والضمير للقوم على المعنى الأول ليعلمون وللكفار المذكورين حكما على المعنى الثاني، ويجوز أن يكون للقوم عليه أيضا بأن يراد به ما من شأنهم العلم والنظر فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ أي لا يقبلون ولا يطيعون من قولك: تشفعت إلى فلان فلم يسمع قولي ولقد سمعه ولكنه لما لم يقبله ولم يعمل بمقتضاه فكأنه لم يسمعه وهو مجاز مشهور.
وفي الكشف أن قوله تعالى: فَأَعْرَضَ مقابل قوله تعالى: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وقوله سبحانه: فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ مقابل قوله جل شأنه: بَشِيراً وَنَذِيراً أي أنكروا إعجازه والإذعان له مع العلم ولم يقبلوا بشائره ونذره لعدم التدبر.
وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ أي أغطية متكاثفة مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ من الإيمان بالله تعالى وحده وترك ما ألفينا عليه آباءنا ومِنْ على ما في البحر لابتداء الغاية وَفِي آذانِنا وَقْرٌ أي صمم وأصله الثقل.
وقرأ طلحة بكسر الواو وقرىء بفتح القاف وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ غليط يمنعنا عن التواصل ومن للدلالة على أن الحجاب مبتدأ من الجانبين بحيث استوعب ما بينهما من المسافة المتوسطة ولم يبق ثمت فراغ أصلا.
وتوضيحه أن البين بمعنى الوسط بالسكون وإذا قيل: بيننا وبينك حجاب صدق على حجاب كائن بينهما استوعب أولا، وأما إذا قيل: من بيننا فيدل على أن مبتدأ الحجاب من الوسط أعني طرفه الذي يلي المتكلم فسواء أعيد مِنْ أو لم يعد يكون الطرف الآخر منتهي باعتبار ومبتدأ باعتبار فيكون الظاهر الاستيعاب لأن جميع الجهة أعني البين جعل مبتدأ الحجاب فالمنتهي غيره البتة، وهذا كاف في الفرق بين الصورتين كيف وقد أعيد البين لاستئناف الابتداء من تلك الجهة أيضا إذ لو قيل: ومن بيننا بتغليب المتكلم لكفى، ثم ضرورة العطف على نحو بيني وبينك إن سلمت لا تنافي إرادة الإعادة له فتدبر، وما ذكروه من الجمل الثلاث تمثيلات لنبو قلوبهم عن إدراك الحق وقبوله ومج أسماعهم له وامتناع مواصلتهم وموافقتهم للرسول صلى الله عليه وسلم وأرادوا بذلك إقناطه عليه الصلاة والسلام عن اتباعهم إياه عليه الصلاة والسلام حتى لا يدعوهم إلى الصراط المستقيم.
وذكر أبو حيان أنه لما كان القلب محل المعرفة والسمع والبصر معينان على تحصيل المعارف ذكروا أن هذه الثلاثة محجوبة عن أن يصل إليها مما يلقيه الرسول صلى الله عليه وسلم شيء ولم يقولوا على قلوبنا أكنة كما قالوا: وفي آذاننا وقر ليكون الكلام على نمط واحد في جعل القلوب والآذان مستقر الأكنة والوقر وإن كان أحدهما استقرار استعلاء والثاني استقرار احتواء إذ لا فرق في المعنى بين قلوبنا في أكنة وعلى قلوبنا أكنة والدليل عليه قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ [الكهف: 57] ولو قيل إنا جعلنا قلوبهم في أكنة لم يختلف المعنى فالمطابقة حاصلة من حيث المعنى والمطابيع من العرب لا يراعون الطباق والملاحظة إلا في المعاني، واختصاص كل من العبارتين بموضعه للتفنن على أنه لما كان منسوبا إلى الله تعالى في سورة بني إسرائيل والكهف كان معنى الاستعلاء والقهر أنسب، وهاهنا لما كان حكاية عن مقالهم كان معنى الاحتواء أقرب، كذا حققه بعض الأجلة ودغدغ فيه، وتفسير الأكنة بالأغطية هو الذي عليه جمهور المفسرين فهي جمع كنان كغطاء لفظا ومعنى، وقيل: هي ما يجعل فيها السهام. أخرج عبد بن حميد. وابن المنذر عن مجاهد أنه قال في قوله تعالى: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ قالوا كالجعبة للنبل(12/349)
فَاعْمَلْ على دينك وقيل في إبطال أمرنا إِنَّنا عامِلُونَ على ديننا وقيل: في ابطال أمرك والكلام على الأول متاركة وتقنيط عن اتباعه عليه الصلاة والسلام، ومقصودهم أننا عاملون، والأول توطئة له، وحاصل المعنى أنا لا نترك ديننا بل نثبت عليه كما نثبت على دينك، وعلى الثاني هو مبارزة بالخلاف والجدال، وقائل ما ذكر أبو جهل ومعه جماعة من قريش.
ففي خبر أخرجه أبو سهل السري من طريق عبد القدوس عن نافع بن الأزرق عن ابن عمر عن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: أقبلت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: ما يمنعكم من الإسلام فتسودوا العرب؟
فقالوا: يا محمد ما نفقة ما تقول ولا نسمعه وأن على قلوبنا لغلفا وأخذ أبو جهل ثوبا فمده فما بينه وبين رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: يا محمد قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب، وفيه فلما كان من الغد أقبل منهم سبعون رجلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد اعرض علينا الإسلام فلما عرض عليهم السلام أسلموا عن آخرهم فتبسم النبي عليه الصلاة والسلام وقال: الحمد لله بالأمس تزعمون أن على قلوبكم غلفا وقلوبكم في أكنة مما أدعوكم إليه وفي آذانكم وقرا وأصبحتم اليوم مسلمين فقالوا: يا رسول الله كذبنا والله بالأمس لو كذلك ما اهتدينا أبدا ولكن الله تعالى الصادق والعباد الكاذبون عليه وهو الغني ونحن الفقراء إليه قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ لست ملكا ولا جنيا لا يمكنكم التلقي منه
ض. وهو رد لقولهم: بيننا وبينك حجاب يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أي ولا أدعوكم إلى ما تنبو عنه العقول وإنما أدعوكم إلى التوحيد الذي دلت عليه دلائل العقل وشهدت له شواهد السمع، وهذا جواب عن قولهم: قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ فاستتووا إليه تعالى بالتوحيد وإخلاص العبادة ولا تتمسكوا بعرا الشرك وتقولوا لمن يدعوكم إلى التوحيد: قلوبنا في أكنة إلخ وَاسْتَغْفِرُوهُ مما سلف منكم من القول والعمل وهذا وجه لا يخلو عن حسن في ربط الأمر بما قبله، وفي ارشاد العقل السليم أي لست من جنس مغاير لكم حتى يكون بيني وبينكم حجاب وتباين مصحح لتباين الأعمال والأديان كما ينبىء عنه قولكم: فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ بل إنما أنا بشر مثلكم مأمور بما آمركم به حيث أخبرنا جميعا بالتوحيد بخطاب جامع بيني وبينكم، فإن الخطاب في إِلهُكُمْ محكي منتظم للكل لا أنه خطاب منه عليه الصلاة والسلام للكفرة كما في مثلكم وهو مبني على اختيار الوجه الأول في فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ ولا بأس به من هذه الجهة نعم فيه قصور من جهة أخرى، وقال صاحب الفرائد: ليس هذا جوابا لقولهم إذ لا يقتضي أن يكون له جواب، وحاصله لا تتركهم وما يدينون لقولهم ذلك المقصود منه أن تتركهم، سلمنا أنه جواب لكن المراد منه أني بشر فلا أقدر أن أخرج قلوبكم من الأكنة وأرفع الحجاب من البين والوقر من الآذان ولكني أوحى إلي وأمرت بتبليغ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ وللإمام كلام قريب مما ذكر في حيز التسليم، وكلا الكلامين غير واف بجزالة النظم الكريم، وجعله الزمخشري جوابا من أن المشركين طالما يتمسكون في رد النبوة بأن مدعيها بشر ويجب أن يكون ملكا ولا يجوز أن يكون بشرا ولذا لا يصغون إلى قول الرسول ولا يتفكرون فيه
فقوله عليه الصلاة والسلام: إني لست بملك وإنما أنا بشر
من باب القلب عليهم لا القول بالموجب ولا من الأسلوب الحكيم في شيء كما قيل كأنه صلى الله عليه وسلم قال: ما تمسكتم به في رد نبوتي من أني بشر هو الذي يصحح نبوتي إذ لا يحسن في الحكمة أن يرسل إليكم الملك فهذا يوجب قبولكم لا الرد والغلو في الإعراض.
وقوله: يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ تمهيد للمقصود من البعثة بعد إثبات النبوة أولا مفصلا بقوله تعالى: حم الآيات ومجملا ثانيا بقوله: يُوحى إِلَيَّ ثم قيل: أَنَّما إِلهُكُمْ بيانا للمقصود فقوله يُوحى إِلَيَّ مسوق(12/350)
للتمهيد، وفيه رمز إلى إثبات النبوة، وهذا المعنى على القول بأن المراد من فَاعْمَلْ إلخ فاعمل في ابطال أمرنا إننا عاملون في إبطال أمرك ظاهر، وأما على القول الأول فوجهه أن الدين هو جملة ما يلتزمه المبعوث إليه من طاعة الباعث تعالى بوساطة تبليغ المبعوث فهو مسبب عن نبوته المسببة عن دليلها فأظهروا بذلك أنهم منقادون لما قرر لديهم آباؤهم من منافاة النبوة للبشرية وأنه دينهم فقيل لهم ما قيل، وهو على هذا الوجه أكثر طباقا وأبلغ، وهذا حسن دقيق وما ذكر أولا أسرع تبادرا، وفي الكشف أن قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ في مقابلة إنكارهم الإعجاز والنبوة وقوله: فَاسْتَقِيمُوا يقابل عدم القبول وفيه رمز إلى شيء مما سمعت فتأمل، وقرأ ابن وثاب والأعمش قال إنما فعلا ماضيا، وقرأ النخعي والأعمش «يوحي» بكسر الحاء على أنه مبني للفاعل أي يوحي الله إلي أنما إلهكم إله واحد.
وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ من شركهم بربهم عزّ وجلّ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ لبخلهم وعدم إشفاقهم على الخلق وذلك من أعظم الرذائل وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ مبتدأ وخبر- وهم- الثاني ضمير فصل وبِالْآخِرَةِ متعلق بكافرون، والتقديم للاهتمام ورعاية الفاصلة، والجملة حال مشعرة بأن امتناعهم عن الزكاة لاستغراقهم في الدنيا وإنكارهم للآخرة، وحمل الزكاة على معناها الشرعي مما قاله ابن السائب، وروي عن قتادة والحسن والضحاك ومقاتل، وقيل: الزكاة بالمعنى اللغوي أي لا يفعلون ما يزكي أنفسهم وهو الإيمان والطاعة.
وعن مجاهد والربيع لا يزكون أعمالهم، وأخرج ابن جرير وجماعة عن ابن عباس أنه قال: في ذلك أي لا يقولون لا إله إلا الله، وكذا الحكيم الترمذي. وغيره عن عكرمة فالمعنى حينئذ لا يطهرون أنفسهم من الشرك، واختار ذلك الطيبي قال: والمعنى عليه فاستقيموا إليه بالتوحيد وإخلاص العبادة له تعالى وتوبوا إليه سبحانه مما سبق لكم من الشرك وويل لكم إن لم تفعلوا ذلك كله فوضع موضعه منع إيتاء الزكاة ليؤذن بأن الاستقامة على التوحيد وإخلاص العمل لله تعالى والتبري عن الشرك هو تزكية النفس، وهو أوفق لتأليف النظم، وما ذهب إليه حبر الأمة إلا لمراعاة النظم، وجعل قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أي غير مقطوع مذكورا على جهة الاستطراد تعريضا بالمشركين وأن نصيبهم مقطوع حيث لم يزكّوا أنفسهم كما زكوا، واستدل على الاستطراد بالآية بعد، وفي الكشف القول الأول أظهر والمشركون باق على عمومه لا من باب إقامة الظاهر مقام المضمر كهذا القول وأن الجملة معترضة كالتعليل لما أمرهم به وكذلك إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا الآية لأنه بمنزلة وويل للمشركين وطوبى للمؤمنين، وفيهما من التحذير والترغيب ما يؤكد أن الأمر بالإيمان والاستقامة تأكيد لا يخفى حاله على ذي لب، وكذلك الزكاة فيه على الظاهر، وخص من بين أوصاف الكفرة منعها لما أنها معيار على الإيمان المستكن في القلب كيف، وقد قيل: المال شقيق الروح بل قال بعض الأدباء:
وقالوا شقيق الروح مالك فاحتفظ ... به فأجبت المال خير من الروح
أرى حفظه يقضي بتحسين حالتي ... وتضييعه يفضي لتسآل مقبوح
والصرف عن الحقيقة الشرعية الشائعة من غير موجب لا يجوز كيف ومعنى الإيتاء لا يقر قراره، نعم لو كان بدله يأتون كما في قوله تعالى: وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى [التوبة: 54] لحسن لا يقال: إن الزكاة فرضت بالمدينة والسورة مكية لأنا نقول: إطلاق الاسم على طائفة مخرجة من المال على وجه من القربة مخصوص كان شائعا قبل فرضيتها بدليل شعر أمية بن أبي الصلت الفاعلون للزكوات، على أن هذا الحق على هذا الوجه المعروف فرض بالمدينة، وقد كان في مكة فرض شيء من المال يخرج إلى المستحق لا على هذا الوجه وكان يسمى زكاة أيضا ثم نسخ انتهى.(12/351)
ومنه يعلم سقوط ما قاله الطيبي. بقي مخالفة الحبر وهي لا تتحقق إلا إذا تحققت الرواية عنه وبعده الأمر أيضا سهل، ولعله رضي الله تعالى عنه كان يقرأ لا يأتون من الإتيان إذ القراءة المشهورة تأبى ذلك إلا بتأويل بعيد، والعجب نسبة ما ذكر عن الحبر في البحر إلى الجمهور أيضا، وحمل الآية على ذلك مخلص بعض ممن لا يقول بتكليف الكفار بالفروع لكن لا يخفى حال الحمل وهي على المعنى المتبادر دليل عليه وممن لا يقول به قال: هم مكلفون باعتقاد حقيتها دون إيقاعها والتكليف به بعد الإيمان فمعنى الآية لا يؤتون الزكاة بعد الإيمان، وقيل: المعنى لا يقرون بفرضيتها، والقول بتكليف المجنون أقرب من هذا التأويل، وقيل كلمة وَيْلٌ تدل على الذم لا التكليف وهو مذموم عقلا، وفيه بحث لا يخفى، هذا وقيل: في مَمْنُونٍ لا يمن به عليهم من المن بمعنى تعداد النعم، وأصل معناه الثقل فأطلق على ذلك لثقله على الممنون عليه، وعن ابن عباس تفسيره بالمنقوص، وأنشدوا لذي الأصبع العدواني:
إني لعمرك ما بابي بذي غلق ... عن الصديق ولا زادي بممنون
والآية على ما روي عن السدي نزلت في المرضى والهرمى إذا عجزوا عن كمال الطاعات كتب لهم من الأجر في المرض والهرم مثل الذي كان يكتب لهم وهم أصحاء وشبان ولا تنقص أجورهم وذلك من عظيم كرم الله تعالى ورحمته عزّ وجلّ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ إلى آخر الآيات والكلام فيها كثير ومنه ما ليس بالمشهور ولنبدأ بما هو المشهور وبعد التمام نذكر الآخر فنقول: هذا إنكار وتشنيع لكفرهم، وأن اللام إما لتأكيد الإنكار وتقديم الهمزة لاقتضائها الصدارة لا لإنكار التأكيد وإما للإشعار بأن كفرهم من البعد بحيث ينكر العقلاء وقوعه فيحتاج إلى التأكيد، وعلق سبحانه كفرهم بالموصول لتفخيم شأنه تعالى واستعظام كفرهم به عزّ وجلّ، والظاهر أن المراد بالأرض الجسم المعروف، وقيل: لعل المراد منها ما في جهة السفل من الأجرام الكثيفة واللطيفة من التراب والماء والهواء تجوزا باستعمالها في لازم المعنى على ما قيل بقرينة المقابلة وحملت على ذلك لئلا يخلو الكلام عن التعرض لمدة خلق ما عدا التراب، ومن خلقها في يومين أنه سبحانه خلق لها أصلا مشتركا ثم خلق لها صورا بها تنوعت إلى أنواع، واليوم في المشهور عبارة عن زمان كون الشمس فوق الأفق وأريد منه هاهنا الوقت مطلقا لأنه لا يتصور ذلك قبل خلق السماء والكواكب والأرض نفسها ثم إن ذلك الوقت يحتمل أن يكون بمقدار اليوم المعروف ويحتمل أن يكون أقل منه أو أكثر والأقل أنسب بالمقام، وأيا ما كان فالظاهر أن اليومين ظرفان لخلق الأرض مطلقا من غير توزيع.
وقال بعض الأجلة: إنه تعالى خلق أصلها ومادتها في يوم وصورها وطبقاتها في آخر، وقال في إرشاد العقل السليم المراد بخلق الأرض تقدير وجودها أي حكم بأنها ستوجد في يومين مثله في قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 59] والمراد بكفرهم به تعالى إلحادهم في ذاته سبحانه وصفاته عزّ وجلّ وخروجهم عن الحق اللازم له جل شأنه على عباده من توحيده واعتقاد ما يليق بذاته وصفاته جل جلاله فلا ينزهونه تعالى عن صفات الأجسام ولا يثبتون له القدرة التامة والنعوت اللائقة به سبحانه وتعالى ولا يعترفون بإرساله تعالى الرسل وبعثه سبحانه الأموات حتى كأنهم يزعمون أنه سبحانه خلق العباد عبثا وتركهم سدى، وقوله تعالى: وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً عطف على تكفرون داخل معه في حكم الإنكار والتوبيخ، وجعله حالا من الضمير في خَلَقَ لا يخفى حاله، وجمع الأنداد باعتبار ما هو الواقع لا بأن يكون مدار الإنكار هو التعدد أي وتجعلون له أندادا وأكفاء من الملائكة والجن وغيرهم والحال أنه لا يمكن أن يكون له سبحانه ند واحد ذلِكَ(12/352)
إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان ببعد منزلته في العظمة، وإفراد الكاف لما أن المراد ليس تعيين المخاطبين، وهو مبتدأ خبره ما بعده أي ذلك العظيم الشأن الذي فعل ما ذكر في مدة يسيرة رَبُّ الْعالَمِينَ أي خالق جميع الموجودات ومربيها دون الأرض خاصة فكيف يتصور أن يكون شيء من مخلوقاته ندا له عزّ وجلّ، وقوله تعالى: وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ على ما اختاره غير واحد عطف على خَلَقَ الْأَرْضَ داخل في حكم الصلة، ولا ضير في الفصل بينهما بالجملتين المذكورتين لأن الأولى متحدة بقوله تعالى:- تكفرون- بمنزلة إعادتها والثانية معترضة مؤكدة لمضمون الكلام فالفصل بهما كلا فصل، وفيه بلاغة من حيث المعنى لدلالته على أن المعطوف عليه أن خَلَقَ الْأَرْضَ كاف في كونه تعالى رب العالمين وأن لا يجعل له ند فكيف إذا انضمت إليه هذه المعطوفات.
وتعقب بأن الاتحاد لا يخرجه عن كونه فاصلا مشوشا للذهن مورثا للتعقيد فالحق والأقرب أن تجعل الواو اعتراضية وكل من الجملتين معترض ليندفع بالاعتراض الاعتراض أو يجعل ابتداء كلام بناء على أنه يصدر بالواو أو يقال:
هو معطوف على مقدر كخلق، واختار هذا الأخير صاحب الكشف فقال: أوجه ما ذكر فيه أنه عطف على مقدر بعد رَبُّ الْعالَمِينَ أي خلقها وجعل فيها رواسي فكأنه ساق قوله تعالى: خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ أولا ردا عليهم في كفرهم ثم ذكره ثانيا تتميما للقصة وتأكيدا للإنكار، وليس سبيل قوله سبحانه: ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ سبيل الاعتراض حتى تجعل الجملة عطفا على الصلة ويعتذر عن تخلل تَجْعَلُونَ عطفا على (تكفرون) باتحاده بما قبله على أسلوب وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة: 217] وذلك لأنه مقصود لذاته في هذا المساق وهو ركن للإنكار مثل قوله تعالى: بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ وأكد على ما لا يخفى على ذي بصيرة.
والرواسي الجبال من رسا إذا ثبت، والمراد بجعلها إبداعها بالفعل، وفي الإرشاد المراد تقدير الجعل لا الجعل بالفعل، وقوله تعالى: مِنْ فَوْقِها متعلق بجعل أو بمحذوف صفة لراوسي أي كائنة من فوقها والضمير للأرض وفي ذلك استخدام على ما قيل في المراد منها لأن الجبال فوق الأرض المعروفة لا فوق جميع الأجسام السفلية والبسائط العنصرية، وفائدة مِنْ فَوْقِها الإشارة إلى أنها جعلت مرتفعة عليها لا تحتها كالأساطين ولا مغروزة فيها كالمسامير لتكون منافعها معرضة لأهلها ويظهر للنظار ما فيها من مراصد الاعتبار ومطارح الأفكار ولعمري إنّ في ارتفاعها من الحكم التكوينية ما تدهش منه العقول، والآية لا تأبى أن يكون في المغمور من الأرض في الماء جبالا كما لا يخفى والله تعالى أعلم.
وَبارَكَ فِيها أي كثر خيرها، وفي الإرشاد قدر سبحانه أن يكثر خيرها بأن يكثر فيها أنواع النباتات وأنواع الحيوانات التي من جملتها الإنسان وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها أي بين كميتها وأقدارها، وقال في الإرشاد: أي حكم بالفعل بأن يوجد فيما سيأتي لأهلها من الأنواع المختلفة أقواتها المناسبة لها على مقدار معين تقتضيه الحكمة والكلام على تقدير مضاف، وقيل: لا يحتاج إلى ذلك والإضافة لأدنى ملابسة، وإليه يشير كلام السدي حيث قال: أضاف الأقوات إليها من حيث هي فيها وعنها برزت، وفسر مجاهد الأقوات بالمطر والمياه.
وفي رواية أخرى عنه وإليه ذهب عكرمة والضحاك أنها ما خص به كل إقليم من الملابس والمطاعم والنباتات ليكون الناس محتاجين بعضهم لبعض وهو مقتض لعمارة الأرض وانتظام أمور العالم، ويؤيد هذا قراءة بعضهم «وقسم فيها أقواتها» فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ متعلق بحصول الأمور المذكورة لا بتقديرها على ما في إرشاد العقل السليم، والكلام على تقدير مضاف أي قدر حصولها في تتمة أربعة أيام وكان الزجاج يعلقه- بقدر- كما هو رأي الإمام أبي حنيفة في(12/353)
القيد إذا وقع بعد متعاطفات نحو أكرمت زيدا وضربت عمرا ورأيت خالدا في الدار، والشافعي يقول: المتعقب للجمل يعود إليها جميعا لأن الأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في المتعلقات فيكون القيد هنا عائدا إلى جعل الرواسي وما بعده وهو الذي يتبادر إلى فهمي ولا بد من تقدير المضاف الذي سمعت وقد صرح الزجاج بتقديره ولم يقدره الزمخشري وجعل الجار متعلقا بمحذوف وقع خبرا لمبتدأ محذوف أي كل ذلك من خلق الأرض وما بعده كائن في أربعة أيام على أنه فذلكة أي كلام منقطع أتى به لمجمل ما ذكر مفصلا مأخوذة من فذلكة الحساب وقولهم:
فذلك كذا بعد استقرار الجمع فما نحن فيه ألحق فيه أيضا جملة من العدد بجملة أخرى وجعله كذلك لا يمنع عطف جَعَلَ فِيها رَواسِيَ على مقدر لأن الربط المعنوي كاف. والقول بأن الفذلكة تقتضي التصريح بذكر الجملتين مثل أن يقال: سرت من البصرة إلى واسط في يومين ومن واسط إلى الكوفة في يومين فذلك أربعة أيام وهاهنا لم ينص إلا على أحد المبلغين غير سديد لأن العلم بالمبلغين في تحقيق الفذلكة كاف على أن المراد أنه جار مجراها وإنما لم يجز الحمل على أن جعل الرواسي وما ذكر عقيبه أو تقدير الأقوات في أربعة أيام لأنه يلزم أن يكون خلق الأرض وما فيها في ستة أيام وقد ذكر بعده أن خلق السماوات في يومين فيكون المجموع ثمانية أيام.
وقد تكرر في كتاب الله تعالى أن خلقهما أعني السماوات والأرض في ستة أيام، وقيدت الأيام الأربعة بقوله تعالى: سَواءً فإنه مصدر مؤكد لمضمر هو صفة لأيام أي استوت سواء أي استواء كما يدل عليه قراءة زيد بن علي، والحسن وابن أبي إسحاق وعمرو بن عبيد وعيسى ويعقوب «سواء» بالجر فإنه صريح في الوصفية وبذلك يضعف القول بكونه حالا من الضمير في أَقْواتَها مع قلة الحال من المضاف إليه في غير الصور الثلاث ولزوم تخالف القراءتين في المعنى.
ويعلم من ذلك أنه على قراءة أبي جعفر بالرفع يجعل خبر المبتدأ محذوف أي هو سواء وتجعل الجملة صفة لأيام أيضا لا حالا من الضمير لدفع التجوز فإنه شائع في مثل ذلك مطرد في عرفي العرب والعجم فتراهم يقولون: فعلته في يومين ويريدون في يوم ونصف مثلا وسرت أربعة أيام ويريدون ثلاثة ونصفا مثلا، ومنه قوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [البقرة: 197] فإن المراد بالأشهر فيه شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة وليلة النحر وذلك لأن الزائد جعل فردا مجازا.
ثم أطلق على المجموع اسم العدد الكامل فالمعنى هاهنا في أربعة أيام لا نقصان فيها ولا زيادة وكأنه لذلك أوثر ما في التنزيل على أن يقال: وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في يومين كما قيل أولا خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وحاصله أنه لو قيل ذلك لكان يجوز أن يراد باليومين الأولين والأخيرين أكثرهما وإنما لم يقل خلق الأرض في يومين كاملين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في يومين كاملين أو خلق الأرض في يومين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في يومين تلك أربعة سواء لأن ما أورده سبحانه أخصر وأفصح وأحسن طباقا لما عليه التنزيل من مغاصات القرائح ومصاك الركب ليتميز الفاضل من الناقص والمتقدم من الناكص وترتفع الدرجات وتتضاعف المثوبات.
وقال بعض الأجلة: إن في النظم الجليل دلالة أي مع الاختصار على أن اليومين الأخيرين متصلان باليومين الأولين لتبادره من جعلهما جملة واحدة واتصالهما في الذكر، وقوله تعالى: لِلسَّائِلِينَ متعلق بمحذوف وقع خبرا لمبتدأ محذوف أي هذا الحصر في أربعة كائن للسائلين عن مدة خلق الأرض وما فيها، ولا ضير في توالي حذف مبتدأين بناء على ما آثره الزمخشري في الجار والمجرور قبل، وقيل هو متعلق- بقدر- السابق أي وقدر فيها أقواتها(12/354)
لأجل الطالبين لها المحتاجين إليها من المقتاتين، وقيل: متعلق بمقدر هو حال من الأقوات، والكل لا يستقيم إلا على ما آثره الزجاج دون ما آثره الزمخشري لأن الفذلكة كما يعلم مما سبق لا تكون إلا بعد تمام الجملتين فلا يجوز أن تتوسط بين الجملة الثانية وبعض متعلقاتها وقيل متعلق بسواء على أنه حال من الضمير والمعنى مستوية مهيأة للمحتاجين أو به على قراءة الرفع وجعله خبر مبتدأ محذوف أي هو أي أمر هذه المخلوقات ونفعها مستو مهيأ للمحتاجين إليه من البشر وهو كما ترى ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ أي قصد إليها وتوجه دون إرادة تأثير في غيرها من قولهم: استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه لا يلوي على غيره.
وذكر الراغب أن الاستواء متى عدي بعلى فبمعنى الاستيلاء كقوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] وإذا عدي بإلى فبمعنى الانتهاء إلى الشيء إما بالذات أو بالتدبير، وعلى الثاني قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ الآية، وكلام السلف في الاستواء مشهور.
وقد ذكرنا فيما سلف طرفا منه ويشعر ظاهر كلام البعض أن في الكلام مضافا محذوفا أي ثم استوى إلى خلق السماء وَهِيَ دُخانٌ أمر ظلماني ولعله أريد به مادتها التي منها تركبت وأنا لا أقول بالجواهر الفردة لقوة الأدلة على نفيها ولا يلزم من ذلك محذور أصلا كما لا يخفى على الذكي المنصف، وقيل: إن عرشه تعالى كان قبل خلق السماوات والأرض على الماء فأحدث الله تعالى في الماء سخونة فارتفع زبد ودخان فأما الزبد فبقي على وجه الماء فخلق الله تعالى فيه اليبوسة وأحدث سبحانه منه الأرض وأما الدخان فارتفع وعلا فخلق الله تعالى منه السماوات.
وقيل: كان هناك ياقوتة حمراء فنظر سبحانه إليها بعين الجلال فذابت وصارت ماء فأزبد وارتفع منه دخان فكان ما كان، وأيا ما كان فليس الدخان كائنا من النار التي هي إحدى العناصر لأنها من توابع الأرض ولم تكن موجودة إذ ذاك على قول كما ستعرف إن شاء الله تعالى، وعلى القول بالوجود لم يذهب أحد إلى تكون ذلك من تلك النار والحق الذي ينبغي أن لا يلتفت إلى ما سواه أن كره النار التي يزعمها الفلاسفة المتقدمون ووافقهم كثير من الناس عليها ليست بموجودة ولا توقف لحدوث الشهب على وجودها كما يظهر لذي ذهن ثاقب.
فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا بما خلقت فيكما من المنافع فليس المعنى على إتيان ذاتهما وإيجادهما بل إتيان ما فيهما مما ذكر بمعنى إظهاره والأمر للتسخير قيل ولا بد على هذا أن يكون المترتب بعد جعل السماوات سبعا أو مضمون مجموع الجمل المذكورة بعد الفاء وإلا فالأمر بالإتيان بهذا المعنى مترتب على خلق الأرض والسماء.
وقال بعض: الكلام على التقديم والتأخير والأصل ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقضاهن سبع سماوات إلخ فقال لها وللأرض ائتيا إلخ وهو أبعد عن القيل والقال إلا أنه خلاف الظاهر أو كونا وأحدثا على وجه معين وفي وقت مقدر لكل منكما فالمراد إتيان ذاتهما وإيجادهما فالأمر للتكوين على أن خلق وجعل وبارك وقدر بالمعنى الذي حكيناه عن إرشاد العقل السليم ويكون هذا شروعا في بيان كيفية التكوين أثر بيان كيفية التقدير، ولعل تخصيص البيان بما يتعلق بالأرض وما فيها لما أن بيان اعتنائه تعالى بأمر المخاطبين وترتيب مبادئ معايشهم قبل خلقهم مما يحملهم على الإيمان ويزجرهم عن الكفر والطغيان، وخص الاستواء بالسماء مع أن الخطاب المترتب عليه متوجه إليهما معا اكتفاء بذكر تقدير الأرض وتقدير ما فيها كأنه قيل: فقيل لها وللأرض التي قدر وجودها ووجود ما فيها كونا وأحدثا وهذا الوجه هو الذي قدمه صاحب الإرشاد وذكره غيره احتمالا وجعل الأمر عبارة عن تعلق إرادته تعالى بوجودهما تعلقا فعليا بطريق التمثيل من غير أن يكون هناك آمر ومأمور كما قيل في قوله تعالى: كُنْ وقوله تعالى: طَوْعاً أَوْ كَرْهاً تمثيلا لتحتم تأثير قدرته تعالى فيهما واستحالة امتناعهما من ذلك لا إثبات الطوع والكره لهما، وهما مصدران(12/355)
وقعا موقع الحال أي طائعتين أو كارهتين، وقوله تعالى: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ أي منقادين تمثيلا لكمال تأثرهما عن القدرة الربانية وحصولهما كما أمرا به وتصوير لكون وجودهما كما هما عليه جاريا على مقتضى الحكمة البالغة فإن الطوع منبىء عن ذلك والكره موهم لخلافه، وقيل: طائِعِينَ بجمع المذكر السالم مع اختصاصه بالعقلاء باعتبار كونهما في معرض الخطاب والجواب ولا وجه للتأنيث عند أخبارهم عن أنفسهم لكون التأنيث بحسب اللفظ فقط، وقوله تعالى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ تفسيرا وتفصيلا لتكوين السماء المجمل المعبر عنه بالأمر وجوابه لا أنه فعل مترتب على تكوينهما أي خلقهن خلقا إبداعيا وأتقن أمرهن حسبما تقتضيه الحكمة في وقتين وضمير (هن) إما للسماء على المعنى لأنه بمعنى السماوات ولذا قيل: هو اسم جمع- فسبع- حال من الضمير وإما مبهم يفسره ما بعده على أنه تمييز فهو له وإن تأخر لفظا ورتبة لجوازه في التمييز نحو ربه رجلا وهو وجه عربي.
وقال أبو حيان: انتصب سَبْعَ على الحال وهو حال مقدرة، وقال بعضهم: بدل من الضمير، وقيل: مفعول به والتقدير قضى منهن سبع سماوات، وقال الحوفي: على أنه مفعول ثان على تضمين القضاء معنى التصيير ولم يذكر مقدار زمن خلق الأرض وخلق ما فيها اكتفاء بذكره في بيان تقديرهما، وقوله تعالى: وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها عطفا على (قضاهن) أي خلق في كل منها ما استعدت له واقتضت الحكمة أن يكون فيها من الملائكة والنيرات وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى كما يقتضيه كلام السدي. وقتادة فالوحي عبارة عن التكوين كالأمر مقيد بما قيد به المعطوف عليه من الوقت أو أوحى إلى أهل كل منها أو امره وكلفهم ما يليق بهم من التكاليف كمل قيل: فالوحي بمعناه المشهور من بين معانيه ومطلق عن القيد المذكور أو مقيد به فيما أرى، واحتمال التقييد والإطلاق جار في قوله تعالى: وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ أي من الكواكب وهي فيها وإن تفاوتت في الارتفاع والانخفاض على ما يقتضيه الظاهر أو بعضها فيها وبعضها فيما فوقها لكنها لكونها كلها ترى متلألئة عليها صح كون تزيينها بها، والالتفات إلى نون العظمة لإبراز مزيد العناية، وأما قوله تعالى: وَحِفْظاً فهو مفعول مطلق لفعل مقدر معطوف على قوله تعالى:
زَيَّنَّا أي وحفظناها حفظا، والضمير للسماء وحفظها إما من الآفات أو من الشياطين المسترقة للسمع وتقدم الكلام في ذلك وقيل الضمير للمصابيح وهو خلاف الظاهر، وجوز كونه مفعولا لأجله على المعنى أي معطوفا على مفعول له يتضمنه الكلام السابق أي زينة وحفظا، ولا يخفى أنه تكلف بعيد لا ينبغي القول به مع ظهور الأول وسهولته كما أشار إليه في البحر.
وجعل قوله تعالى: ذلِكَ إشارة إلى جميع الذي ذكر بتفاصيله أي ذلك المذكور تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ أي البالغ في القدرة والبالغ في العلم، ثم قال صاحب الإرشاد بعد ما سمعت مما حكي عنه: فعلى هذا لا دلالة في الآية الكريمة على الترتيب بين إيجاد الأرض وإيجاد السماء وإنما الترتيب بين التقدير أي تقدير إيجاد الأرض وما فيها وإيجاد السماء وأما على تقدير كون الخلق وما عطف عليه من الأفعال الثلاثة على معانيها الظاهرة فهي تدل على تقدم خلق الأرض وما فيها وعليه إطباق أكثر أهل التفسير، ولا يخفى عليك أن حمل تلك الأفعال على ما حملها عليه خلاف الظاهر كما هو مقربه، وعدم التعرض لخلق الأرض وما فيها بالفعل كما تعرض لخلق السماوات كذلك لا يلائم دعوى الاعتناء التي أشار إليها في بيان وجه تخصيص البيان بما يتعلق بالأرض وما فيها على أن خلق ما فيها بالفعل غير ظاهر من قوله تعالى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ لا سيما وقد ذكرت الأرض قبل مستقلة وذكر ما فيها مستقلا فلا يتبادر من الأرض هنا إلا تلك الأرض المستقلة لا هي مع ما فيها، وأمر تقدم خلق الأرض وتأخره سيأتي إن شاء الله تعالى الكلام فيه.(12/356)
وقيل: إن إتيان السماء حدوثها وإتيان الأرض أن تصير مدحوة وفيه جمع بين معنيين مجازيين حيث شبه البروز من العدم وبسط الأرض وتمهيدها بالإتيان من مكان آخر وفي صحة الجمع بينهما كلام على أن في كون الدحو مؤخرا عن جعل الرواسي كلاما أيضا ستعرفه إن شاء الله تعالى، وقيل: المراد لتأت كل منكما الأخرى في حدوث ما أريد توليده منكما وأيد بقراءة ابن عباس وابن جبير ومجاهد «آتيا» و «قالتا أتينا» على أن ذلك من المواتاة بمعنى الموافقة، قال الجوهري: تقول آتيته على ذلك الأمر مواتاة إذا وافقته وطاوعته لأن المتوافقين يأتي كل منهما صاحبه وجعل ذلك من المجاز المرسل وعلاقته اللزوم، وقال ابن جني: هي المسارعة وهو حسن أيضا ولم يجعله أكثر الأجلة من الإيتاء لأنه غير لائح وجعله ابن عطية منه وقدر المفعول أي أعطيا من أنفسكما من الطاعة ما أردته منكما وما تقدم أحسن وما أسلفناه في أول الأوجه من الكلام يأتي نحوه هنا كما لا يخفى.
واختلف الناس في أمر التقدم والتأخر في خلق كل من السماوات وما فيها والأرض وما فيها وذلك للآيات والأحاديث التي ظاهرها التعارض فذهب بعض إلى تقدم خلق الأرض لظاهر هذه الآية حيث ذكر فيها أولا خلق الأرض وجعل الرواسي فيها وتقدير الأقوات ثم قال سبحانه: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ إلخ وأبى أن يكون الأمر بالإتيان للأرض أمر تكوين، ولظاهر قوله تعالى: في آية [البقرة: 29] خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وأول آية النازعات أعني قوله تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها وَالْجِبالَ أَرْساها مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ [النازعات: 27- 33] لما أن ظاهره يدل على تأخر خلق الأرض وما فيها من الماء والمرعى والجبال لأن ذلك إشارة إلى السابق وهو رفع السمك والتسوية، والأرض منصوب بمضمر على شريطة التفسير أي ودحا الأرض بعد رفع السماء وتسويتها دحاها إلخ بأن الأرض منصوب بمضمر نحو تذكر وتدبر أو اذكر الأرض بعد ذلك لا بمضمر على شريطة التفسير أو به وبعد ذلك إشارة إلى المذكور سابقا من ذكر خلق السماء لا خلق السماء نفسه ليدل على أنه متأخر في الذكر عن خلق السماء تنبيها على أنه قاصر في الأول لكنه تتميم كما تقول جملا ثم تقول بعد ذلك كيت وكيت وهذا كثير في استعمال العرب والعجم، وكأن بعد ذلك بهذا المعنى عكسه إذا استعمل لتراخي الرتبة والتعظيم وقد تستعمل ثم أيضا بهذا المعنى وكذا الفاء، وبعضهم يذهب في الجواب إلى ما قاله ابن عباس.
فقد روى الحاكم والبيهقي بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال: رأيت أشياء تختلف علي في القرآن قال: هات ما اختلف عليك من ذلك فقال: اسمع الله تعالى يقول:
أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ- حتى بلغ- طائِعِينَ فبدأ بخلق الأرض في هذه الآية قبل خلق السماء ثم قال سبحانه في الآية الأخرى أَمِ السَّماءُ بَناها- ثم قال- وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها فبدأ جل شأنه بخلق السماء قبل خلق الأرض. فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أما خلق الأرض في يومين فإن الأرض خلقت قبل السماء وكانت السماء دخانا فسواهن سبع سماوات في يومين بعد خلق الأرض، وأما قوله تعالى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها يقول جعل فيها جبلا وجعل فيها نهرا وجعل فيها شجرا وجعل فيها بحورا انتهى، قال الخفاجي: يعني أن قوله تعالى: أَخْرَجَ مِنْها ماءَها بدل أو عطف بيان لدحاها بمعنى بسطها مبين للمراد منه فيكون تأخرها في هذه الآية ليس بمعنى تأخر ذاتها بل بمعنى تأخر خلق ما فيها وتكميله وترتيبه بل خلق التمتع والانتفاع به فإن البعيدة كما تكون باعتبار نفس الشيء تكون باعتبار جزئه الأخير وقيده المذكور كما لو قلت: بعثت إليك رسولا ثم كنت بعثت فلانا لينظر ما يبلغه فبعث الثاني وإن تقدم لكن ما بعث لأجله متأخر عنه فجعل نفسه متأخرا. فإن قلت: كيف هذا مع(12/357)
ما
رواه ابن جرير وغيره وصححوه عن ابن عباس أيضا أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن خلق السماوات والأرض فقال عليه الصلاة والسلام: «خلق الله تعالى الأرض يوم الأحد والاثنين وخلق الجبال وما فيهن من المنافع يوم الثلاثاء وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب فهذه أربعة فقال تعالى: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ وخلق يوم الخميس السماء وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة»
فإنه يخالف الأول لاقتضائه خلق ما في الأرض من الأشجار والأنهار ونحوها قبل خلق السماء قلت:
الظاهر حمله على أنه خلق فيما ذكر مادة ذلك وأصوله إذ لا يتصور العمران والخراب قبل خلق السماء فعطفه عليه قرينة لذلك فلا تعارض بين الحديثين كما أنه ليس بين الآيات اختلاف انتهى كلام الخفاجي، ولا يخفى أن قول ابن عباس السابق نص في أن جعل الجبال في الأرض بعد خلق السماء وهو ظاهر آية النازعات إذا كان بعد ذلك معتبرا في قوله تعالى: وَالْجِبالَ أَرْساها [النازعات: 32] وآية حم السجدة ظاهرة في أن جعل الجبال قبل خلق السماوات، ثم إن رواية ابن جرير المذكورة عنه مخالفة
لخبر مسلم عن أبي هريرة قال: «أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: خلق الله تعالى التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من النهار فيما بين العصر إلى الليل»
واستدل في شرح المهذب بهذا الخبر على أن السبت أول أيام الأسبوع دون الأحد ونقله عن أصحابه الشافعية وصححه الأسنوي وابن عساكر، وقال العلامة ابن حجر: هو الذي عليه الأكثرون وهو مذهبنا يعني الشافعية كما في الروضة وأصلها بل قال السهيلي في روضه لم يقل بأن أوله الأحد إلا ابن جرير، وجرى النووي في موضع على ما يقتضي أن أوله الأحد فقال: في يوم الاثنين سمي به لأنه ثاني الأيام. وأجيب بأنه جرى في توجيه التسمية المكتفي فيه بأدنى مناسبة على القول الضعيف.
وانتصر القفال من الشافعية لكون أوله الأحد بأن الخبر المذكور تفرد به مسلم وقد تكلم عليه الحفاظ على ابن المدائني والبخاري وغيرهما وجعلوه من كلام كعب وأن أبا هريرة إنما سمعه منه ولكن اشتبه على بعض الرواة فجعله مرفوعا. وأجيب بأن من حفظ الرفع حجة على من لم يحفظه والثقة لا يرد حديثه بمجرد الظن ولأجل ذلك أعرض مسلم عما قاله أولئك واعتمد الرفع وخرج طريقه في صحيحه فوجب قبولها.
وذكر أحمد بن أحمد المقرئ المالكي أن الإمام أحمد رواه أيضا في مسنده عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ شبك بيدي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم وقال: «خلق الله تعالى الأرض يوم السبت» الحديث
، وفي الدر المنثور عدة أخبار عن ابن عباس ناطقة بأن مبدأ خلق الأرض كان يوم الأحد، وفيه أيضا
أخرج ابن جرير عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه قال: «جاء اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد أخبرنا ما خلق الله تعالى من الخلق في هذه الأيام الستة فقال: خلق الله تعالى الأرض يوم الأحد والاثنين وخلق الجبال يوم الثلاثاء وخلق المدائن والأقوات والأنهار وعمرانها وخرابها يوم الأربعاء وخلق السماوات والملائكة يوم الخميس إلى ثلاث ساعات يعني من يوم الجمعة وخلق في أول ساعة الآجال وفي الثانية الآفة وفي الثالثة آدم قالوا: صدقت إن تممت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يريدون فغضب فأنزل الله تعالى وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ
. واليهود قاطبة على أن أول الأسبوع يوم الأحد احتجاجا بما يسمونه التوراة وظاهره الاشتقاق يقتضي ذلك.
ومن ذهب إلى أن الأول السبت قال: لا حجة في ذلك لأن التسمية لم تثبت بأمر من الله تعالى ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم فلعل اليهود وضعوا أسماء الأسبوع على ما يعتقدون فأخذتها العرب عنهم ولم يرد في القرآن إلا الجمعة والسبت(12/358)
وليسا من أسماء العدد على أن هذه التسمية لو ثبتت عن العرب لم يكن فيها دليل لأن العرب تسمي خامس الورد ربعا وتاسعه عشرا وهذا هو الذي أخذ منه ابن عباس قوله الذي كاد ينفرد به أن يوم عاشوراء هو يوم تاسع المحرم وتاسوعاء هو يوم ثامنه، ولا يخفى أن الجواب الأول خارج عن الإنصاف فلأيام الأسبوع عند العرب أسماء أخر فيها ما يدل على ذلك أيضا، وهي أول وأهون وجبار ودبار ومؤنس وعروبة وشيار، ولا يسوغ لمنصف أن يظن أن العرب تبعوا في ذلك اليهود وجاء الإسلام وأقرهم على ذلك، وليت شعري إذا كانت تلك الأسماء وقعت متابعة لليهود فما الأسماء الصحيحة التي وضعها واضع لغة العرب غير تابع فيها لليهود، والجواب الثاني خلاف الظاهر جدا.
ونقل الواحدي في البسيط عن مقاتل أن خلق السماء مقدم على إيجاد الأرض فضلا عن دحوها واختاره الإمام ونسبه بعضهم إلى المحققين من المفسرين وأوّلوا الآية بأن الخلق ليس عبارة عن التكوين والإيجاد بل هو عبارة عن التقدير، والمراد به في حقه تعالى حكمه تعالى أن سيوجد وقضاؤه عزّ وجلّ بذلك مثله في قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 59] ولا بد على هذا من تأويل جَعَلَ وبارَكَ بنحو ما سمعت عن الإرشاد، وجوز أن يبقى خلق وكذا ما بعده على ما يتبادر منه ويكون الكلام على إرادة الإرادة كما في قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة: 6] أي بالذي أراد خلق الأرض في يومين وأراد أن يجعل فيها رواسي وقالوا: إن ثم للتفاوت في الرتبة المنزلة منزلة التراخي الزماني كما في قوله تعالى:
ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البلد: 17] فإن اسم كان ضمير يرجع إلى فاعل فَلَا اقْتَحَمَ [البلد: 11] وهو الإنسان الكافر وقوله سبحانه: فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ [البلد: 13- 16] تفسير للعقبة، والترتيب الظاهري يوجب تقديم الإيمان عليه لكن ثم هنا للتراخي في الرتبة مجازا، وفي الكشف أن ما نقله الواحدي لا إشكال فيه ويتعين ثُمَّ في هذه السورة والسجدة على تراخي الرتبة وهو أوفق لمشهور قواعد الحكماء لكن لا يوافق ما جاء من أن الابتداء من يوم الأحد كان، وخلق السماوات وما فيها من يوم الخميس والجمعة وفي آخر يوم الجمعة تم خلق آدم عليه السلام، وفي البخر الذي نقوله: إن الكفار وبخوا وقرعوا بكفرهم بمن صدرت عنه هذه الأشياء جميعها من غير ترتيب زماني وإن ثُمَّ لترتيب الأخبار لا لترتيب الزمان والمهلة كأنه قال سبحانه بالذي أخبركم أنه خلق الأرض وجعل فيها رواسي وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ثم أخبركم أنه استوى إلى السماء فلا تعرض في الآية لترتيب الوقوع الترتيب الزماني، ولما كان خلق السماء أبدع في القدرة من خلق الأرض استؤنف الإخبار فيه بثم فهي لترتيب الأخبار كما في قوله تعالى: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا بعد قوله سبحانه: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وقوله تعالى: ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ [الأنعام: 154] بعد قوله عزّ وجلّ: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ [الأنعام:
151] ويكون قوله جل شأنه فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ بعد إخباره تعالى أخبر به تصويرا لخلقهما على وفق إرادته تعالى كقولك أرأيت الذي أثنيت عليه فقلت له إنك عالم صالح فهذا تصوير لما أثنيت به وتفسير له فكذلك أخبر سبحانه بأنه خلق كيت وكيت فأوجد ذلك إيجادا لم يتخلف عن إرادته انتهى، وظاهر ما ذكره في قوله تعالى: فَقالَ لَها إلخ أن القول بعد الإيجاد، وقال بعض الأجلة يجوز أن يكون ذلك للتمثيل أو التخييل للدلالة على أن السماء والأرض محلا قدرته تعالى يتصرف فيهما كيف يشاء إيجادا وإكمالا ذاتا وصفة ويكون تمهيدا لقوله سبحانه: فَقَضاهُنَّ أي لما كان الخلق بهذه السهولة قضى السماوات وأحكم خلقها في يومين فيصح هذا القول قبل كونهما وبعده، وفي أثنائه إذ ليس الغرض دلالة على وقوع.
وذكر في نكتة تقديم خلق الأرض وما فيها في الذكر هاهنا وفي سورة البقرة على خلق السماوات والعكس في(12/359)
سورة النازعات أنها يجوز أن يكون أن المقام في الأوليين مقام الامتنان وتعداد النعم فمقتضاه تقديم ما هو أقرب النعم إلى المخاطبين والمقام في الثالثة مقام بيان كمال القدرة فمقتضاه تقديم ما هو أدل على كمالها، وروي عن الحسن أنه تعالى خلق الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان ملتزق بها ثم أصعد الدخان وخلق منه السماوات وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض، وذلك قوله تعالى: كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما [الأنبياء: 30] الآية.
وجعله بعضهم دليلا على تأخر دحو الأرض عن خلق السماء، وفي الإرشاد أنه ليس نصا في ذلك فإن بسط الأرض معطوف على إصعاد الدخان وخلق السماء بالواو فلا دلالة في ذلك على الترتيب قطعا، وفي الكشف أنه يدل على أن كون السماء دخانا سابق على دحو الأرض وتسويتها بل ظاهر قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ يدل على ذلك، وإيجاد الجوهرة النورية والنظر إليها بعين الجلال المبطن بالرحمة والجمال ذويها وامتياز لطيفها عن كثيفها وصعود المادة الدخانية اللطيفة وبقاء الكثيف هذا كله سابق على الأيام الستة وثبت في الخبر الصحيح ولا ينافي الآيات. واختار بعضهم أن خلق المادة البعيدة للسماء والأرض كان في زمان واحد وهي الجوهرة النورية أو غيرها وكذا فصل مادة كل عن الأخرى وتمييزها عنها أعني الفتق وإخراج الأجزاء اللطيفة وهي المادة القريبة للسماوات وإبقاء الكثيفة وهي المادة القريبة للأرض فإن فصل اللطيف عن الكثيف يستلزم فصل الكثيف عنه وبالعكس، وأما خلق كل على الهيئة التي يشاهد بها فليس في زمان واحد بل خلق السماوات سابق في الزمان على خلق الأرض، ولا ينبغي لأحد أن يرتاب في تأخر خلق الأرض بجميع ما فيها عن خلق السماوات كذلك، ومتى ساغ حمل ثُمَّ للترتيب في الأخبار هان أمر ما يظن من التعارض في الآيات والأخبار هذا والله تعالى أعلم. ولبعض المتأخرين في الآية كلام غريب دفع به ما يظن من المنافاة بين الآيات الدالة على أن خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام كقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ [الفرقان: 59، السجدة: 4] وقوله سبحانه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ [ق: 38] وهذه الآية التي يخيل منها أن خلق ذلك في ثمانية أيام وهو أن للشيء حكما من حيث ذاته ونفسه وحكما من حيث صفاته وإضافاته ونسبه وروابطه واقتضاءاته ومتمماته وسائر ما يضاف إليه ولكل من ذلك أجل معدود وحد محدود يظهره سبحانه في ذلك بالأزمان الخاصة به والأوقات المؤجلة له وهي متفاوتة مختلفة، والله تعالى خلق السماوات والأرض وما بينهما في حد ذاتها في ستة أيام، وذلك عند نشئها في ذاتها من خلقه سبحانه إياها من البحر الحاصل من ذوبان الياقوتة الحمراء لما نظر إليها جل شأنه بنظر الهيبة فتموج إلى أن حصل منه الزبد وثار الدخان فخلق السماء من الدخان والأرض والزبد والنجوم من الشعلات المستجنة في زبد البحر والنار والهواء والماء من جسم أكثف من الدخان وألطف من الزبد، والسماء حقيقة وحدانية في ذاتها ولها صلاحية التعدد والكثرة على حسب بدو شأنها في علم الغيب فتعينها بالسبعة على الجهة الخاصة ووقوع كل سماء في محلها الخاص مترتبا عليها حكم خاص يحتاج إلى جعل غير جعلها في نفسها وهو المسمى بالقدر وتعيين الحدود التي هي الهندسة الإيجادية، وهذا الجعل متفرع على الخلق ونحوه غير نحوه قطعا كما يشعر به قوله تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان: 2] وقد يسمى بالتسوية وبالقضاء أيضا كما في قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [البقرة: 29] وقوله تعالى هنا ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ- إلى قوله سبحانه- فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وأما تقدير أقوات الأرض وإعطاء البركة وتوليد المتولدات فلها أيام معدودات وحدود محدودات لا تدخل في أيام خلق السماوات والأرض لأنها لإيجاد أنفسها، فالأيام الأربعة المذكورة في الآية إنما هي(12/360)
لجعل الرواسي وتقدير الأقوات وإحداث البركة وليست من تلك الستة وكذلك اليومان اللذان لتسوية السماء وقضائها سبع سماوات خارجان عنها فليس في الآية التي الكلام فيها سوى أن خلق الأرض كان في يومين وأما خلق السماوات وما بينها وبين الأرض فلم يذكر في الآية مدة له وإنما ذكر مدة قضاء السماوات وهو غير خلقها ومدة جعل الرواسي وتقدير الأقوات وإحداث البركة وذلك غير خلق الأرض وما بينها وبين السماء فلا تنافي بينها وبين الآيات الدالة على أن خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ولا يعكر
على ذلك ما روي عن الصادق أن الله سبحانه خلق في يوم الأحد والاثنين الأرضين وخلق أقواتها في يوم الثلاثاء وخلق السماوات في يوم الأربعاء ويوم الخميس وخلق أقواتها يوم الجمعة وذلك قول الله سبحانه: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ لأنه بعد تسليم صحته المذكور فيه أن الأقوات قد خلقت في يومين لا أنها قدرت وبين الخلق والتقدير بون بعيد، فخلق الأقوات عبارة عن إيجاد ذاتياتها وموادها وعللها وأسبابها فإذا وجدت قدرت وفصلت على الأطوار المعلومة فلا إشكال.
والعجب ممن استشكل هذا المقام كيف لم ينظر في مدلولات الألفاظ الإلهية بحسب القواعد القرآنية واللغوية فاحتاج في حله إلى تكلفات أمور خفيّة وارتكاب توجيهات غير مرضية، ثم إن هذا البعض ذكر لليوم ما يزيد على ستين إطلاقا منها المرتبة ونقل هذا عن شيخه ورأيته في بعض الكتب لغيره، وجوز إرادته في الآية وكذا جوز إرادة غيره من الإطلاقات، وذكر سر كون خلق السماوات والأرض في ستة أيام وأطال الكلام في هذا المقام، وكان ذلك ضمن رسالة ألفها حين طلبت منه جوابا عما يظن من المنافاة غير ما ذكروه من الجواب عن ذلك، ومن وقف على تلك الرسالة سمع منها قعقعة بلا سلاح وأحس بطيران في جو ما يزعمه تحقيقا بلا جناح فكم فيها من قول لا سند له ومدعي لم يورد دليله، فعليك بالتأمل التام فيما ذكره المفسرون وما ذكره هذا الرجل من الكلام ولا تك للإنصاف مجانبا وللتعصب مصاحبا والله تعالى الموفق.
وما تقدم من حمل قوله تعالى: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ على التمثيل هو ما ذهب إليه جماعة من المفسرين، وقالت طائفة: إنهما نطقتا نطقا حقيقيا وجعل الله تعالى لهما حياة وإدراكا، قال ابن عطية: وهذا أحسن لأنه لا شيء يدفعه وأن العبرة فيه أتم والقدرة فيه أظهر، ولا يخفى أن المعنى الأول أبلغ، ومن ذهب إلى أن للجمادات إدراكا لائقا بها قال بظاهر الآية ولعلها إحدى أدلته على ذلك. وذكر بعضهم في قوله سبحانه: وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها أنه سبحانه خص كل سماء بما ميزها عن السماء الأخرى من الذاتيات وجعل ذلك وجها في جمع السماوات وإفراد الأرض. وقرأ الأعمش «أو كرها» بضم الكاف، قال أبو حيان: والأصح أنها لغة في الإكراه على الشيء، والأكثر على أن الكره بالضم معناه المشقة فَإِنْ أَعْرَضُوا متصل بقوله تعالى: قُلْ أَإِنَّكُمْ إلخ أي فإن أعرضوا عن التدبر فيما ذكر من عظائم الأمور الداعية إلى الإيمان أو عن الإيمان بعد هذا البيان فَقُلْ لهم: أَنْذَرْتُكُمْ أي أنذركم، وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الإنذار المنبئ عن تحقق المنذر صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ أي عذابا مثل عذابهم قاله قتادة، وهو ظاهر على القول بأن الصاعقة تأتي في اللغة بمعنى العذاب، ومنع ذلك بعضهم وجعل ما ذكر مجازا، والمراد عذابا شديد الوقع كأنه صاعقة مثل صاعقتهم، وأيا ما كان فالمراد أعلمتكم حلول صاعقة.
وقرأ ابن الزبير والسلمي وابن محيصن «صعقة مثل صعقة» بغير ألف فيهما وسكون العين وهي المرة من الصعق أو الصعق ويقال: صعقته الصاعقة صعقا فصعق صعقا بالفتح أي هلك بالصاعقة المصيبة به إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ أي جاءت عادا وثمود ففيه إطلاق الجمع على الاثنين وهو شائع وكذا الرُّسُلُ وقيل: يحتمل أن يراد ما يعم رسول(12/361)
الرسول، وجوز في الأول أن يكون باعتبار أفراد القبيلتين، وذكروا في إِذْ أوجها من الإعراب. الأول أنه ظرف لأنذرتكم. الثاني أنه صفة لصاعقة الأولى، وأورد عليهما لزوم كون إنذاره عليه الصلاة والسلام والصاعقة التي أنذر بها واقعين في وقت مجيء الرسل عادا وثمود وليس كذلك. الثالث أنه صفة لصاعقة الثانية، وتعقب بأنه يلزم عليه حذف الموصول مع بعض صلته وهو غير جائز عند البصريين أو وصف المعرفة بالنكرة. الرابع واختاره أبو حيان أنه معمول لصاعقة عاد وثمود بناء على أن المراد بها العذاب وإلا فهي بالمعنى المعروف جثة لا يتعلق بها الظرف وفيه شيء لا يخفى. الخامس واختاره غير واحد أنه حال منها لأنها معرفة بالإضافة، وبعضهم يجوز كونه حالا من الأولى أيضا لتخصصها بالوصف بالمتخصص بالإضافة فتكون الأوجه ستة، وقوله تعالى: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ متعلق بجاءتهم، والضمير المضاف إليه لعاد وثمود، والجهتان كناية عن جميع الجهات على ما عرف في مثله أي أتتهم الرسل من جميع جهاتهم، والمراد بإتيانهم من جميع الجهات بذل الوسع في دعوتهم على طريق الكناية ويجوز أن يراد بما بين أيديهم الزمن الماضي وبما خلفهم المستقبل وبالعكس واستعير فيه ظرف المكان للزمان والمراد جاؤوهم بالإنذار عما جرى على أمثالهم الكفرة في الماضي وبالتحذير عما سيحيق بهم في الآخرة.
وروي هذا عن الحسن، وجوز كون الضمير المضاف إليه للرسل والمراد جاءتهم الرسل المتقدمون والمتأخرون على تنزيل مجيء كلامهم ودعوتهم إلى الحق منزلة مجيء أنفسهم فإن هودا وصالحا كانا داعيين لهم إلى الإيمان بهما وبجميع الرسل ممن جاء من بين أيديهم وممن يجيء من خلفهم فكأن الرسل قد جاؤوهم وخاطبوهم بقوله تعالى:
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ وروي هذا الوجه عن ابن عباس والضحاك، وإليه ذهب الفراء. ونص بعض الأجلة على أن مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ عليه حال من الرسل لا متعلق بجاءتهم، وجمع الرسل عليه ظاهر، وقيل: يحتمل أن يكون كون الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم كناية عن الكثرة كقوله تعالى: يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ [النحل: 112] وقال الطبري: الضمير في قوله تعالى: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ لعاد وثمود وفي قوله تعالى: وَمِنْ خَلْفِهِمْ للرسل وتعقبه في البحر بأن فيه خروجا عن الظاهر في تفريق الضمائر وتعمية المعنى إذ يصير التقدير جاءتهم الرسل من بين أيديهم وجاءتهم من خلف الرسل أي من خلف أنفسهم، وهذا معنى لا يتعقل إلا أن كان الضمير عائدا في مِنْ خَلْفِهِمْ على الرسل لفظا وهو عائد على رسل آخرين معنى فكأنه قيل: جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلف رسل آخرين فيكون كقولهم: عندي درهم ونصفه أي ونصف درهم آخر، وبعده لا يخفى.
وخص بالذكر من الأمم المهلكة عاد وثمود لعلم قريش بحالهما ولوقوفهم على بلادهم في اليمن والحجر، و (أن) يصح أن تكون مفسرة لمجيء الرسل لأنه بالوحي وبالشرائع فيتضمن معنى القول و (لا) ناهية وأن تكون مصدرية ولا ناهية أيضا، والمصدرية قد توصل بالنهي كما توصل بالأمر على كلام فيه، وجعل الحوفي (لا) نافية و (أن) ناصبة للفعل، وقيل: إنها المخففة من الثقيلة ومعها ضمير شأن محذوف، وأورد عليه أنها إنما تقع بعد أفعال اليقين وأن خبر باب أن لا يكون طلبا إلا بتأويل، وقد يدفع بأنه بتقدير القول وأن مجيء الرسل كالوحي معنى فيكون مثله في وقوع أن بعده لتضمنه ما يفيد اليقين كما أشار إليه الرضى وغيره، ولا يخفى ما فيه من التكلف المستغنى عنه وعلى احتمال كونها مصدرية وكونها مخففة يكون الكلام بتقدير حرف الجر أي بأن لا تعبدوا إلا الله قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا مفعول المشيئة محذوف وقدره الزمخشري إرسال الرسل أي لو شاء ربنا إرسال الرسل لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً أي لأرسلهم لكن لما كان إرسالهم بطريق الإنذار قيل: لأنزل، قيل: ولم يقدر إنزال الملائكة بناء على أن الشائع تقدير مفعول المشيئة بعد لو الشرطية من مضمون الشرط لأنه عار عن إفادة ما أرادوه من نفي إرساله تعالى البشر والشائع غير(12/362)
مطرد، وقال أبو حيان: إنما التقدير لو شاء ربنا إنزال ملائكة بالرسالة منه إلى الإنس لأنزلهم بها إليهم، وهذا أبلغ في الامتناع من إرسال البشر إذ علقوا ذلك بإنزال الملائكة وهو سبحانه لم يشأ ذلك فكيف يشاؤوه في البشر وهو وجه حسن.
فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ أي بالذي أرسلتم به على زعمكم، وفيه ضرب تهكم بهم كافِرُونَ لما أنكم بشر مثلنا لا فضل لكم علينا، والفاء فاء النتيجة السببية فيكون في الكلام إيماء إلى قياس استثنائي أي لكنه لم ينزل، ويجوز أن تكون تعليلية لشرطيتهم أي إنما قلنا ذلك لأنا منكرون لما أرسلتم به كما ننكر رسالتكم، و (ما) كما أشرنا إليه موصولة، وكونها مصدرية وضمير بِهِ لقولهم: أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ خلاف الظاهر،
أخرج البيهقي في الدلائل.
وابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: قال أبو جهل والملأ من قريش قد التبس علينا أمر محمد صلى الله عليه وسلم فلو التمستم رجلا عالما بالسحر والكهانة والشعر فكلمه ثم أتانا ببيان من أمره، فقال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر وعلمت من ذلك علما وما يخفى عليّ إن كان كذلك فأتاه فقال له يا محمد أنت خير أم هاشم أنت خير أم عبد المطلب؟ فلم يجبه قال: فبم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا فإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا ألويتنا لك، وإن كان المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك، وإن كان بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختار من أي بنات قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم فلما فرغ قال عليه الصلاة والسلام: «بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا- فقرأ حتى بلغ- فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود» فأمسك عتبة علي فيه عليه الصلاة والسلام فأنشده الرحم أن يكف عنه ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش فلما احتبس عنهم قال أبو جهل: يا معشر قريش ما أرى عقبة إلا قد صبا إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأعجبه طعامه وما ذاك إلا من حاجة أصابته انتقلوا بنا إليه فأتوه فقال أبو جهل: والله يا عتبة ما حسبنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك أمره فإن كنت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن محمد صلى الله عليه وسلم فغضب وأقسم بالله تعالى لا يكلم محمدا عليه الصلاة والسلام أبدا وقال: لقد علمتم أني أكثر قريش مالا ولكني أتيته فقص عليهم القصة فأجابني بشيء والله ما هو بسحر ولا شعر ولا كهانة قرأ بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا حتى أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فأمسكت بفيه وناشدته الرحم فكف وقد علمتم أن محمدا صلى الله عليه وسلم إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب»
فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ شروع في تفصيل ما لكل واحدة من الطائفتين من الجناية والعذاب، ولتفرع التفصيل على الإجمال قرن بفاء السببية، وبدىء بقصة عاد لأنها أقدم زمانا أي فأما عاد فتعظموا في الأرض التي لا ينبغي التعظم فيها على أهلها بِغَيْرِ الْحَقِّ أي بغير استحقاق للتعظم.
وقيل: تعظموا عن امتثال أمر الله عزّ وجلّ وقبول ما جاءتهم به الرسل وَقالُوا اغترارا بقوتهم: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أي لا أشد منا قوة فالاستفهام إنكاري، وهذا بيان لاستحقاقهم العظمة وجواب الرسل عما خوفوهم به من العذاب، وكانوا ذوي أجسام طوال وخلق عظيم وقد بلغ من قوتهم أن الرجل كان ينزع الصخرة من الجبل ويرفعها بيده أَوَلَمْ يَرَوْا أي أغفلوا ولم ينظروا أو ولم يعلموا علما جليا شبيها بالمشاهدة والعيان أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً قدرة فإنه تعالى قادر بالذات مقتدر على ما لا يتناهى قوي على ما لا يقدر عليه غيره عزّ وجلّ مفيض للقوة والقدر على كل قوي وقادر، وفي هذا إيماء إلى أن ما خوفهم به الرسل ليس من عند أنفسهم بناء على قوة منهم وإنما هو من الله تعالى خالق القوى والقدر وهم يعلمون أنه عزّ وجلّ أشد قوة منهم، وتفسير القوة بالقدرة لأنه أحد معانيها كما يشير إليه كلام الراغب.(12/363)
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)
وزعم بعضهم أن القوة عرض ينزه الله تعالى عنه لكنها مستلزمة للقدرة فلذا عبر عنها بها مشاكلة.
وأورد في حيز الصلة خَلَقَهُمْ دون خلق السماوات والأرض لادعائهم الشدة في القوة، وفيه ضرب من التهكم بهم وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ أي ينكرونها وهم يعرفون حقيتها وهو عطف على فَاسْتَكْبَرُوا أو قالُوا فجملة أَوَلَمْ يَرَوْا إلخ مع ما عطف هو عليه اعتراض، وجوز أن يكون هو وحده اعتراضا والواو اعتراضية لا عاطفة.
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً قال مجاهد: شديدة السموم فهو من الصر بفتح الصاد بمعنى الحر، وقال ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي: باردة تهلك بشدة بردها من الصر بكسر الصاد وهو البرد الذي يصر أي يجمع ظاهر(12/364)
جلد الإنسان ويقبضه والأول أنسب لديار العرب، وقال السدي أيضا وأبو عبيدة وابن قتيبة والطبري وجماعة: مصوتة من صريصر إذا صوت، وقال ابن السكيت: صرصر يجوز أن يكون من الصرة وهي الصيحة ومنه فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ [الذاريات: 29] وفي الحديث أنه تعالى أمر خزنة الريح ففتحوا عليهم قدر حلقة الخاتم ولو فتحوا قدر منخر الثور لهلكت الدنيا، وروي أنها كانت تحمل العير بأوقارها فترميهم في البحر فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ جمع نحسة بكسر الحاء صفة مشبهة من نحس نحسا كعلم علما نقيض سعد سعدا.
وقرأ الحرميان وأبو عمرو والنخعي وعيسى والأعرج «نحسات» بسكون الحاء فاحتمل أن يكون مصدرا وصف به مبالغة، واحتمل أن يكون صفة مخففا من فعل كصعب. وفي البحر تتبعت ما ذكره التصريفيون مما جاء صفة من فعل اللازم فلم يذكروا فيه فعلا بسكون العين وإنما ذكروا فعلا بالكسر كفرح وأفعل كأحور وفعلان كشبعان وفاعلا كسالم، وهو صفة أَيَّامٍ وجمع بالألف والتاء لأنه صفة لما لا يعقل، والمراد بها مشائيم عليهم لما أنهم عذبوا فيها، فاليوم الواحد يوصف بالنحس والسعد بالنسبة إلى شخصين فيقال له سعد بالنسبة إلى من ينعم فيه، ويقال له نحس بالنسبة إلى من يعذب، وليس هذا مما يزعمه الناس من خصوصيات الأوقات، لكن ذكر الكرماني في مناسكه عن ابن عباس أنه قال: الأيام كلها لله تعالى لكنه سبحانه خلق بعضها نحوسا وبعضها سعودا، وتفسير نَحِساتٍ بمشائيم مروي عن مجاهد وقتادة والسدي، وقال الضحاك: أي شديدة البرد حتى كأن البرد عذاب لهم، وأنشد الأصمعي في النحس بمعنى البرد:
كأن سلافه مزجت بنحس وقيل: نحسات ذوات غبار، وإليه ذهب الجبائي ومنه قول الراجز:
قد اغتدي قبل طلوع الشمس ... للصيد في يوم قليل النحس
يريد قليل الغبار، وكانت هذه الأيام من آخر شباط وتسمى أيام العجوز، وكانت فيما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء، وروي ما عذب قوم إلا في يوم الأربعاء، وقال السدي: أولها غداة يوم الأحد، وقال الربيع بن أنس: يوم الجمعة لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أضيف العذاب إلى الخزي وهو الذل على قصد وصفه به لقوله تعالى: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وهو في الأصل صفة المعذب وإنما وصف به العذاب على الإسناد المجازي للمبالغة، فإنه يدل على أن ذل الكافر زاد حتى اتصف به عذابه كما قرر في قولهم: شعر شاعر، وهذا في مقابلة استكبارهم وتعظمهم. وقرىء «لتذيقهم» بالتاء على أن الفاعل ضمير الريح أو الأيام النحسات وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ بدفع العذاب عنهم بوجه من الوجوه.
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ قال ابن عباس وقتادة والسدي: أي بينا لهم، وأرادوا بذلك على ما قيل بيان طريقي الضلالة والرشد كما في قوله تعالى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 10] وهو أنسب بقوله تعالى: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى أي فاختاروا الضلالة على الهدى فالظاهر في أنه بين لهم الطريقان فاختاروا أحدهما، وصرح ابن زيد بذلك فقد حكي عنه أنه قال: أي أعلمناهم الهدى من الضلال، وفسر غير واحد الهداية هنا بالدلالة أي فدللناهم على الحق بنصب الحجج وإرسال الرسل فاختاروا الضلال ولم يفسروها بالدلالة الموصلة لإباء ظاهر فَاسْتَحَبُّوا إلخ عنه.
واستدل المعتزلة بهذه الآية على أن الإيمان باختيار العبد على الاستقلال بناء على أن قوله تعالى: (هديناهم) دل على نصب الأدلة وإزاحة العلة، وقوله تعالى: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى إلخ دل على أنهم بأنفسهم آثروا العمى.(12/365)
والجواب كما في الكشف أن في لفظ الاستحباب ما يشعر بأن قدرة الله تعالى هي المؤثرة وأن لقدرة العبد مدخلا ما فإن المحبة ليست اختيارية بالاتفاق وإيثار العمى حبا وهو الاستحباب من الاختيارية، فانظر إلى هذه الدقيقة تر العجب العجاب، وإلى نحوه أشار الإمام الداعي إلى الله تعالى قدس سره، ومعنى كون المحبة ليست اختيارية إنها بعد حصول ما تتوقف عليه من أمور اختيارية تكون بجذب الطبيعة من غير اختيار للشخص في ميل قلبه وارتباط هواه بمن يحبه، فهي نفسها غير اختيارية لكنها باعتبار مقدماتها اختيارية، ولذلك كلفنا بمحبة الله تعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي طوق الحمامة لابن سعيد أن المحبة ميل روحاني طبيعي، وإليه يشير قوله عزّ وجلّ: وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها [الأعراف: 189] أي يميل فجعل علة ميلها كونها منها، وهو المراد
بقوله عليه الصلاة والسلام: «الأرواح جنود مجندة»
وتكون المحبة لأمور أخر كالحسن والإحسان والكمال، ولها آثار يطلق عليها محبة كالطاعة والتعظيم، وهذه هي التي يكلف بها لأنها اختيارية فاعرفه. وقرأ ابن وثاب والأعمش وبكر بن حبيب «وأما ثمود» بالرفع مصروفا.
وقد قرأ الأعمش وابن وثاب بصرفه في جميع القرآن إلا في قوله تعالى: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ [الإسراء: 59] لأنه في المصحف بغير ألف. وقرأ ابن أبي إسحاق وابن هرمز بخلاف عنه والمفضل، قال ابن عطية: والأعمش وعاصم وروي عن ابن عباس «ثمودا» بالنصب والتنوين، وروى المفضل عن عاصم الوجهين والمنع عن الصرف للعلمية والتأنيث على إرادة القبيلة، ومن صرفه جعله اسم رجل، والنصب على جعله من باب الإضمار على شريطة التفسير، ويقدر الفعل الناصب بعده لأن أما لا يليها في الغالب إلا اسم. وقرىء بضم الثاء على أنه جمع ثمد وهو قلة الماء فكأنهم سموا بذلك لأنهم كانوا يسكنون في الرمال بين حضرموت وصنعاء وكانوا قليلي الماء فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ أي الذل وهو صفة للعذاب أو بدل منه، ووصفه به مصدرا للمبالغة وكذا إضافة صاعقة إلى العذاب فيفيد ذلك أن عذابهم عين الهون وأن له صاعقة، والمراد بالصاعقة النار الخارجة من السحاب كما هو المعروف، وسبب حدوثها العادي مشهور في كتب الفلسفة القديمة وقد تكلم في ذلك أهل الفلسفة الجديدة المتداولة اليوم في بلاد الروم وما قرب منها فقالوا في كيفية انفجار الصاعقة: من المعلوم أن انطلاق الكهربائية التي في السحاب وهي قوة مخصوصة في الأجسام نحو قوة الكهرباء التي بها تجذب التبنة ونحوها إليها إنما يحصل باتحاد كهربائية الأجسام مع بعضها فإذا قرب السحاب من الأجسام الأرضية طلبت الكهربائية السحابية أن تتحد بالكهربائية الأرضية فتتبجس بينهما شرارة كهربائية فتصعق الأجسام الأرضية، وتتفاوت قوة الصاعقة باختلاف الاستحالة البخارية فليست في جميع البلاد والفصول واحدة، وأوضحوا ذلك بكلام طويل من أراده فليرجع إليه في كتبهم، وقيل: المراد بالصاعقة هنا الصيحة كما وردت في آيات أخر، ولا مانع من الجمع بينهما.
وقرأ ابن مقسم «الهوان» بفتح الهاء وألف بعد الواو بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من اختيار الضلالة على الهدى، وهذا تصريح بما تشعر به الفاء وَنَجَّيْنَا من تلك الصاعقة الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ بسبب إيمانهم واستمرارهم على التقوى، والمراد بها تقوى الله عز وجل، وقيل: تقوى الصاعقة والمتقي عذاب الله تعالى متق لله سبحانه وليس بذاك وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ شروع في بيان عقوباتهم الآجلة بعد ذكر عقوباتهم العاجلة، والتعبير عنهم بأعداء الله تعالى لذمهم والإيذان بعلة ما يحيق بهم من ألوان العذاب وقيل: المراد بهم الكفار من الأولين والآخرين.
وتعقب بأن قوله تعالى الآتي: فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [فصلت: 25] كالصريح في إرادة الكفرة المعهودين، والمراد من قوله تعالى: إِلَى النَّارِ قيل: إلى موقف الحساب، والتعبير عنه بالنار للإيذان بأن النار عاقبة حشرهم وأنهم على شرف دخولها، ولا مانع من إبقائه على ظاهره والقول بتعدد الشهادة فتشهد(12/366)
عليهم جوارحهم في الموقف مرة وعلى شفير جهنم أخرى، ويَوْمَ إما منصوب باذكر مقدر معطوف على قوله تعالى: فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً [فصلت: 12] أو ظرف لمضمر مؤخر قد حذف إيهاما لقصور العبارة عن تفصيله، وقيل: ظرف لما يدل عليه قوله تعالى: فَهُمْ يُوزَعُونَ أي يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا وهو كناية عن كثرتهم، وقيل: يساقون ويدفعون إلى النار، والفاء تفصيلية. وقرأ زيد بن علي ونافع والأعرج وأهل المدينة «نحشر» بالنون «أعداء» بالنصب وكسر الأعرج الشين. وقرىء «يحشر» على البناء للفاعل وهو الله تعالى ونصب «أعداء الله» وقوله تعالى: حَتَّى إِذا ما جاؤُها أي النار جميعا غاية ليحشر أو ليوزعون أي حتى إذا حضروها، وما مزيدة لتأكيد اتصال الشهادة بالحضور لأنها تؤكد ما زيدت بعده فهي تؤكد معنى إذا، وإِذا دالة على اتصال الجواب بالشرط لوقوعهما فى زمان واحد، وهذا مما لا تعلق له بالنحو حتى يضر فيه أن النحاة لم يذكروه كما شنع به أبو حيان وأكد لأنهم ينكرونه، وفي الكلام حذف والتقدير حتى إذا ما جاؤوها وسألوا عما أجرموا فأنكروا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ واكتفى عن المحذوف بذكر الشهادة لاستلزامها إياه، ولا يأبى التقدير تأكيد الاتصال إذ يكفي للاتصال وقوع ذلك في مجلس واحد، والظاهر أن الجلود هي المعروفة، وقيل: هي الجوارح كني بها عنها، وقيل: كني بها عن الفروج، قيل: وعليه أكثر المفسرين منهم ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وفي الإرشاد أنه الأنسب بتخصيص السؤال في قوله تعالى: وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا فإن ما تشهد به من الزنا أعظم جناية وقبحا واجلب للخزي والعقوبة مما يشهد به السمع والأبصار من الجنايات المكتسبة بتوسطهما وفيه نظر ولعل إرادة الظاهر أولى، ولعل تخصيص السؤال بالجلود لأنها بمرأى منهم بخلاف السمع والبصر أو لأنها هي مدركة العذاب بالقوة المودعة فيها كما يشعر به قوله تعالى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ [النساء: 56] قال الجلبي، ثم نقل عن العلامة الثاني في ذلك أن الشهادة من الجلود أعجب وأبعد إذ ليس شأنها الإدراك بخلاف السمع والبصر، وتعقبه بقوله: فيه نظر فإن الجلد محل القوة اللامسة التي هي أهم الحواس للحيوان كما أن السمع والبصر محل السامعة والباصرة والذي ينطق الأعيان دون الأعراض ثم إن اللامسة تشتمل على الذائقة التي هي الأهم بعد اللامسة، ثم قال: ويلوح بما قررناه وجه آخر للتخصيص فإن الأهمية للإنسان والاشتمال على أهم من غيرها يصلح أن يكون مخصصا، فانقلاب ما يرجون منه أكمل النفع أعجب ومثله أحق بالتوبيخ من غيره. واعترض عليه بأن رده على العلامة لم يصادف محزه إذ ليس المراد مما ذكره من أنها ليس من شأنها الإدراك إلا إدراك أنواع المعاصي التي يشهد عليها كالكفر والكذب والقتل والزنا مثلا وإدراك مثلها منحصر في السمع والبصر.
وأنت تعلم بعد طي كشح البحث في هذا الجواب أن ما ذكره العلامة لا يناسب ظاهر السؤال أعني لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا وأولى ما قيل من أوجه التخصيص: إن المدافعة عن الجلود أزيد من المدافعة عن السمع والبصر فإن جلد الإنسان الواحد لو جزىء لزاد على ألف سمع وبصر وهو يدافع عن كل جزء ويحذر أن يصيبه ما يشينه فكانت الشهادة من الجلود عليهم أعجب وأبعد عن الوقوع.
وفي الحديث- إن أول ما ينطق من الإنسان فخذه اليسرى ثم تنطق الجوارح فيقول: تبا لك فعنك كنت أدافع، ووجه إفراد السمع قد مر أول التفسير، ووجه الاقتصار على السمع والبصر والجلد أشار إليه أبو حيان قال: لما كانت الحواس خمسة السمع والبصر والشم والذوق واللمس وكان الذوق مندرجا في اللمس إذ بمماسة جلد اللسان الرطب للمذوق يحصل إدراك طعم المذوق وكان حس الشم ليس فيه تكليف لا أمر ولا نهي وهو ضعيف اقتصر من الحواس(12/367)
على السمع والبصر واللمس، وللبحث فيه مجال. وكأني بك تختار أن المراد بالجلود ما سوى السمع والأبصار وأن ذكر السمع لما أنه وسيلة إدراك أكثر الآيات التنزيلية وذكر الأبصار لما أنها وسيلة إدراك أكثر الآيات التكوينية.
وقد أشير إلى كل في قوله تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ على وجه، وأن شهادتهما فيما يتعلق بالكفر، فيشهد السمع عليهم أنهم كذبوا بالآيات التنزيلية التي جاء بها الرسل وسمعوها منهم، والأبصار أنهم لم يعبئوا بالآيات التكوينية التي أبصروها وكفروا بما تدل عليه، ولعل شهادة الجلود فيما يتعلق بما سوى الكفر من المعاصي التي نهى عنها الرسل عليهم السلام كالزنا مثلا، وجوز أن تكون شهادة السمع بإدراك الآيات التنزيلية والأبصار بإدراك الآيات التكوينية والجلود بالكفر بما يقتضيه كل وبالمعاصي الآخر، ولا بعد في شمول ما كانُوا يَعْمَلُونَ لإدراك الآيات والاحساس بها بقسميها فتدبر.
ولعل قوله تعالى: لِمَ شَهِدْتُمْ سؤال عن العلة الموجبة، وصيغة جمع العقلاء في شَهِدْتُمْ وما بعد مع أن المراد منه ليس من ذوي العقول لوقوع ذلك في موقع السؤال والجواب المختصين بالعقلاء. وقرأ زيد بن عليّ «لم شهدتن» بضمير المؤنثات قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ أي أنطقنا الله تعالى وأقدرنا على بيان الواقع فشهدنا عليكم بما عملتم من القبائح وما كتمنا، وحيث كان معنى السؤال لأي علة موجبة شهدتم؟ صلح ما ذكر جوابا له، وقيل: لا قصد هنا للسؤال أصلا وإنما القصد إلى التعجب ابتداء لأن التعجب يكون فيما لا يعلم سببه وعلته فالسؤال عن العلة المستلزم لعدم معرفتها جعل مجازا أو كناية عن التعجب، فقد قيل: إذا ظهر السبب بطل العجب فكأنه قيل:
ليس نطقنا بعجب من قدرة الله تعالى الذي أنطق كل شيء وأيا ما كان فالنطق على معناه الحقيقي كما هو الظاهر وكذا الشهادة، ولا يقال: الشاهد أنفسهم والسمع والأبصار والجلود آلات كاللسان فما معنى شَهِدْتُمْ عَلَيْنا لأنه يقال: ليس المراد هذا النوع من النطق الذي يسند حقيقة إلى جملة الشخص ويكون غيره آلة بلا قدرة وإرادة له في نفسه حتى لو أسند إليه كان مجازا كإسناد الكتابة إلى القلم بل هو نطق يسند إلى العضو حقيقة فيكون نفسه ناطقا بقدرة وإرادة خلقهما الله تعالى فيه كما ينطق الشخص بالآلة، وكيف لا وأنفسهم كارهة لذلك منكرة له، وقيل: الناطق هم بتلك الأعضاء إلا أنهم لا يقدرون على دفع كونها آلات ولذا نسبت الشهادة عليهم إليها وليس بشيء، وجوز بعضهم أن يكون النطق مجازا عن الدلالة فالمراد بالشهادة ظهور علامات على الأعضاء دالة على ما كانت ملتبسة به في الدنيا بتغيير أشكالها ونحوه مما يلهم الله تعالى من رآه أنها تلبست به في الدنيا لارتفاع الغطاء في الآخرة، وهو خلاف ظاهر الآيات والأحاديث ولا داعي إليه، وعلى الظاهر لا بد من تخصيص كُلَّ شَيْءٍ بكل حي نطق إذ ليس كل شيء ولا كل حي ينطق بالنطق الحقيقي ومثل هذا التخصيص شائع، ومنه ما قيل في وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 284، آل عمران: 29، المائدة: 19، 40، التوبة: 39] وتُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ [الأحقاف: 25] ، وجوز أن يكون النطق في أَنْطَقَنَا بمعناه الحقيقي ويحمل النطق في أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ على الدلالة فيبقى العام على عمومه ولا يحتاج إلى التخصيص المذكور ويكون التعبير بالنطق للمشاكلة وهو خلاف الظاهر، والموصول المشعر بالعلية يأباه إباء ظاهرا، وقوله تعالى: وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يحتمل أن يكون من تمام كلام الجلود ومقول القول ويحتمل أن يكون مستأنفا من كلامه عزّ وجلّ والأول أظهر، والمراد على كل حال تقرير ما قبله بأن القادر على الخلق أول مرة قادر على الانطاق، وصيغة المضارع إذا كان الخطاب يوم القيامة مع أن الرجع فيه متحقق لا مستقبل لما أن المراد بالرجع ليس مجرد الرد إلى الحياة بالبعث بل ما يعمه وما يترتب عليه من العذاب الخالد المرتقب عند التخاطب على تغليب المتوقع على الواقع، وجوز أن تكون لاستحضار الصورة مع ما في ذلك(12/368)
من مراعاة الفواصل، وقوله تعالى: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ حكاية لما سيقال لهم يومئذ من جهته تعالى بطريق التوبيخ والتقريع تقريرا لجواب الجلود، واستظهر أبو حيان أنه من كلام الجوارح وأَنْ يَشْهَدَ مفعول له بتقدير مضاف أي ما كنتم تستترون في الدنيا عند مباشرتكم الفواحش مخافة أو كراهة أن تشهد عليكم جوارحكم بذلك أي ليس استتاركم للخوف مما ذكر أو لكراهته وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ أي ولكن لأجل ظنكم أن الله تعالى لا يعلم كثيرا مما تعملون وهو ما عملتم خفية فلا يظهره سبحانه يوم القيامة وينطق الجوارح به فلذا سعيتم في الاستتار عن الخلق دون الخالق عزّ وجلّ أو هو بتقدير حرف جر متعلق بتستترون فقيل: هو الباء والمستتر عنه الجوارح، والمعنى ما استترتم عنها بملابسة أن تشهد عليكم أي تتحمل الشهادة إذ ما ظننتم أنها تشهد عليكم بل ظننتم أن الله سبحانه لا يعلم فلذا لم يكن استتاركم بهذا السبب، وقيل: هو عن والمعنى لم يمكنكم الاستتار عن الجوارح لئلا تتحمل الشهادة عليكم حين ترتكبون ما ترتكبون لكن ظننتم ما ظننتم.
وقيل: أَنْ تَشْهَدَ مفعول له والمستتر عنه الجوارح أي ما تستترون عن جوارحكم مخافة أن تشهد عليكم لكن ظننتم إلخ، وقيل: إن تَسْتَتِرُونَ ضمن معنى الظن فعدي تعديته أي ما كنتم تستترون ظانين شهادة الجوارح عليكم، ويؤيده قول قتادة: أي ما كنتم تظنون أن تشهد عليكم إلخ، والحق أن هذا بيان لحاصل المعنى.
أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وجماعة عن ابن مسعود قال: كنت مستترا بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر قرشي وثقفيان أو ثقفي وقرشيان كثير لحم بطونهم قليل عفة قلوبهم فتكلموا بكلام لم أسمعه فقال أحدهم:
أترون الله يسمع كلامنا هذا؟ فقال الآخر: إنا إذا رفعنا أصواتنا يسمعه وإذا لم نرفع لم يسمع فقال الآخر: إن سمع منه شيئا سمعه كله قال: فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ- إلى قوله سبحانه- مِنَ الْخاسِرِينَ
فالحكم المحكي حينئذ يكون خاصا بمن كان على ذلك الاعتقاد من الكفر لكنه قليل في الكفرة. وفي الإرشاد لعل الأنسب أن يراد بالظن معنى مجازي يعم معناه الحقيقي وما يجري مجراه من الأعمال المنبئة عنه كما في قوله تعالى: يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ [الهمزة: 3] ليعم ما حكي من الحال جميع أصناف الكفرة فتدبر. وفي الآية تنبيه على أن المؤمن ينبغي أن لا يمر عليه حال إلا بملاحظة أن عليه رقيبا كما قال أبو نواس:
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل ... خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبنّ الله يغفل ساعة ... ولا أن ما يخفى عليه يغيب
وَذلِكُمْ إشارة إلى ظنهم المذكور في ضمن قوله سبحانه: ظَنَنْتُمْ وما فيه من معنى البعد للإيذان بغاية بعد منزلته في الشر والسوء، وهو مبتدأ وقوله تعالى: ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ بدل منه، وقوله سبحانه:
أَرْداكُمْ أي أهلككم خبره، وجوز أن يكون ظَنُّكُمُ خبر أو أَرْداكُمْ خبرا بعد خبر. ورده أبو حيان بأن ذلِكُمْ إشارة إلى ظنهم السابق فيصير التقدير وظنكم بربكم أنه لا يعلم ظنكم بربكم فما استفيد من الخبر هو ما استفيد من المبتدأ وهو لا يجوز كقولهم: سيد الجارية مالكها وقد منعه النحاة. وأجيب بأنه لا يلزم ما ذكر لجواز جعل الإشارة إلى الأمر العظيم في القباحة فيختلف المفهوم باختلاف العنوان ويصح الحمل كما في هذا زيد، ولو سلم فالاتحاد مثله في قوله: أنا أبو النجم وشعري شعري مما يدل على الكمال في الحسن كما في هذا المثال أو في القبح كما في الجملة المذكورة، وقيل: المراد منه التعجب والتهكم، وقد يراد من الخبر غير فائدة الخبر ولازمها. واختار(12/369)
بعضهم في الجواب ما أشار إليه ابن هشام في شرح- بانت سعاد- وبسط الكلام فيه من أن الفائدة كما تحصل من الخبر تحصل من صفته وقيده كالحال، وجوز في جملة أَرْداكُمْ أن تكون حالا بتقدير قد أو بدونه، والموصول في جميع الأوجه صفة ظَنُّكُمُ وقيل: الثلاثة أخبار فلا تغفل فَأَصْبَحْتُمْ بسبب ذلك الظن السوء الذي أهلككم مِنَ الْخاسِرِينَ إذ صار ما أعطوا من الجوارح لنيل السعادة في الدنيا والآخرة لأن بها تعيشهم في الدنيا وإدراكهم ما يهتدون به إلى اليقين ومعرفة رب العالمين الموصل للسعادة الأخروية سببا للشقاء في الدارين حيث أداهم إلى كفران نعم الرازق والكفر بالخالق والانهماك في الغفلات وارتكاب المعاصي واتباع الشهوات فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ أي محل ثواء وإقامة أبدية لهم بحيث لا براح لهم منها، وترتيب الجزاء على الشرط لأن التقدير أن يصبروا والظن أن الصبر ينفعهم لأنه مفتاح الفرج لا ينفعهم صبرهم إذا لم يصادف محله فإن النار محلهم لا محالة، وقيل: في الكلام حذف والتقدير أو لا يصبروا كقوله تعالى: فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ [الطور: 16] وقيل: المراد فإن يصبروا على ترك دينك واتباع هواهم فالنار مثوى لهم وليس بذاك، والالتفات للإيذان باقتضاء حالهم أن يعرض عنهم ويحكي سوء حالهم للغير أو للإشعار بإبعادهم عن حيز الخطاب والقائهم في غيابة دركات النار وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا أي يسألوا العتبى وهي الرجوع إلى ما يحبونه جزعا مما هم فيه فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ أي المجابين إليها.
وقال الضحاك: المراد إن يعتذروا فما هم من المعذورين: وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وموسى الأسواري «وإن يستعتبوا» مبنيا للمفعول «فما هم من المعتبين» اسم فاعل أي إن طلب منهم أن يرضوا ربهم فما هم فاعلون ولا يكون ذلك لأنهم قد فارقوا الدنيا دار الأعمال كما
قال صلى الله عليه وسلم: «ليس بعد الموت مستعتب»
ويحتمل أن تكون هذه القراءة بمعنى قوله عزّ وجلّ: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الأنعام: 28] .
وَقَيَّضْنا لَهُمْ أي قدرنا، وفي البحر أي سببنا لهم من حيث لم يحتسبوا وقيل: سلطنا وكلنا عليهم قُرَناءَ جمع قرين أي أخدانا وأصحابا من غواة الجن، وقيل: منهم ومن الإنس يستولون عليهم استيلاء القيض وهو القشر على البيض، وقيل: أصل القيض البدل ومنه المقايضة للمعاوضة فتقييض القرين للشخص إما لاستيلائه عليه أو لأخذه بدلا عن غيره من قرنائه فَزَيَّنُوا لَهُمْ حسنوا وقرروا في أنفسهم ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ قال ابن عباس: من أمر الآخرة حيث ألقوا إليهم أنه لا جنة ولا نار ولا بعث وَما خَلْفَهُمْ من أمر الدنيا من الضلالة والكفر واتباع الشهوات، وقال الحسن: ما بين أيديهم من أمر الدنيا وما خلفهم من أمر الآخرة، وقال الكلبي: ما بين أيديهم أعمالهم التي يشاهدونها وما خلفهم ما هم عاملوه في المستقبل ولكل وجهة، ولعل الأحسن ما حكي عن الحسن وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي ثبت وتقرر عليهم كلمة العذاب وتحقق موجبها ومصداقها وهي قوله تعالى لإبليس فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 85] .
فِي أُمَمٍ حال من الضمير المجرور أي كائنين في جملة أمم، وقيل: فِي بمعنى مع ويحتمل المعنيين قوله:
إن تك عن أحسن الصنيعة مأ ... فوكا ففي آخرين قد أفكوا
وفي البحر لا حاجة للتضمين مع صحة معنى في، وتنكير أُمَمٍ للتكثير أي في أمم كثيرة قَدْ خَلَتْ أي مضت مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ على الكفر والعصيان كدأب هؤلاء إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ تعليل لاستحقاقهم العذاب والضمير لهم وللأمم، وجوز كونه لهم بقرينة السياق وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا من رؤساء المشركين لأعقابهم أو قال بعضهم لبعض: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ أي لا تنصتوا له.(12/370)
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة إذا قرأ القرآن يرفع صوته فكان المشركون يطردون الناس عنه ويقولون: لا تسمعوا لهذا القرآن
وَالْغَوْا فِيهِ وأتوا باللغو عند قراءته ليتشوش على القارئ، والمراد باللغو ما لا أصل له وما لا معنى له، وكان المشركون عند قراءته عليه الصلاة والسلام يأتون بالمكاء والصفير والصياح وإنشاد الشعر والأراجيز، وقال أبو العالية أي قعوا فيه وعيبوه، وفي كتاب ابن خالويه قرأ عبد الله بن بكر السهمي وقتادة وأبو حيوة وأبو السمال والزعفراني وابن أبي إسحاق وعيسى بخلاف عنهما «وألغوا» بضم الغين مضارع لغا بفتحها وهما لغتان يقال لغى يلغي كرضى يرضي ولغا يلغو كعدا يعدو إذا هذى، وقال صاحب اللوامح: يجوز أن يكون الفتح من لغى بالشيء يلغي به إذا رمى به فيكون فِيهِ بمعنى به أي ارموا به وانبذوه لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ أي تغلبونه على قراءته أو تطمون أمره وتميتون ذكره فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي فو الله لنذيقن هؤلاء القائلين، والإظهار في مقام الإضمار للإشعار بالعلية أو جميع الكفار وهم يدخلون فيه دخولا أوليا.
عَذاباً شَدِيداً لا يقادر قدره وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أي جزاء سيئات أعمالهم التي هي في أنفسها أسوأ- فأفعل- للزيادة المطلقة، وقيل: إنه سبحانه لا يجازيهم بمحاسن أعمالهم كإغاثة الملهوفين وصلة الأرحام وقرى الأضياف لأنها محبطة بالكفر، والعذاب إما في الدارين أو في إحداهما، وعن ابن عباس عذابا شديدا يوم بدر وأسوأ الذي كانوا يعملون في الآخرة.
ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من الجزاء وهو مبتدأ وقوله تعالى: جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ خبره أي ما ذكر من الجزاء جزاء معد لأعدائه تعالى، وقوله سبحانه: النَّارُ عطف بيان لجزاء أو بدل أو خبر لمبتدأ محذوف.
وجوز أن يكون ذلك خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك وجَزاءُ مبتدأ والنَّارُ خبره، والإشارة حينئذ إلى مضمون الجملة السابقة، وقوله تعالى: لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جملة مستقلة مقررة لما قبلها، وجوز أن يكون النَّارُ مبتدأ وهذه الجملة خبره أي هي بعينها دار إقامتهم على أن في للتجريد كما قيل: في قوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21] وقول الشاعر:
وفي الله إن لم ينصفوا حكم عدل وهو أن ينتزع من أمر ذي صفة آخر مثله مبالغة فيها، وجوز أن يقال: المقصود ذكر الصفة والدار إنما ذكرت توطئة فكأنه قيل: لهم فيها الخلود، وقيل: الكلام على ظاهره والظرفية حقيقية، والمراد أن لهم في النار المشتملة على الدركات دار مخصوصة هم فيها خالدون والأول أبلغ.
جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ منصوب بفعل مقدر أي يجزون جزاء أو بالمصدر السابق فإن المصدر ينتصب بمثله كما في قوله تعالى: فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً [الإسراء: 63] والباء الأولى متعلقة بجزاء والثانية بيجحدون قدمت عليه لقصد الحصر الإضافي مع ما فيه من مراعاة الفواصل أي بسبب ما كانوا يجحدون بآياتنا الحقة دون الأمور التي ينبغي جحودها، وجعل بعضهم الجحود مجازا عن اللغو المسبب عنه أي جزاء بما كانوا بآياتنا يلغون وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا وهم متقلبون فيما ذكر من العذاب.
رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يعنون فريقي شياطين النوعين المقيضين لهم الحاملين لهم على الكفر والمعاصي بالتسويل والتزيين،
وعن علي كرم الله وجهه وقتادة أنهما إبليس وقابيل فإنهما سببا الكفر والقتل بغير حق.
وتعقب بأنه لا يصح عن علي كرم الله تعالى وجهه فإن قابيل مؤمن عاص، والظاهر أن الكفار إنما طلبوا إراءة(12/371)
المضلين بالكفر المؤدي إلى الخلود وكونهم رئيس الكفرة ورئيس أهل الكبائر خلاف الظاهر، وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب وأبو بكر «أرنا» بالتخفيف كفخذ بالسكون في فخذ، وفي الكشاف «أرنا» بالكسر للاستبصار وبالسكون للاستعطاء ونقله عن الخليل، فمعنى القراءة عليه أعطنا اللذين أضلانا نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا ندوسهما بها انتقاما منهما، وقيل: نجعلهما في الدرك الأسفل من النار ليشتد عذابهما فالمراد نجعلهما في الجهة التي تحت أقدامنا، وقرىء في السبعة «اللذين» بتشديد النون وهي حجة على البصريين الذين لا يجوزون التشديد فيها في حال كونها بالياء وكذا في اللتين وهذين وهاتين لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ذلا ومهانة أو مكانا.
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ شروع في بيان حسن أحوال المؤمنين في الدنيا والآخرة بعد بيان سوء حال الكفرة فيهما أي قالوه اعترافا بربوبيته تعالى وإقرارا بوحدانيته كما يشعر به الحصر الذي يفيده تعريف الطرفين كما في صديقي زيد ثُمَّ اسْتَقامُوا ثم ثبتوا على الإقرار ولم يرجعوا إلى الشرك، فقد روي عن الصديق رضي الله تعالى عنه أنه تلا الآية وهي قد نزلت على ما روي عن ابن عباس ثم قال: ما تقولون فيها؟ قالوا: لم يذنبوا قال: قد حملتم الأمر على أشده قالوا: فما تقول؟ قال: لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان. وعن عمر رضي الله تعالى عنه استقاموا الله تعالى بطاعته لم يروغوا روغان الثعالب، وعن عثمان رضي الله تعالى عنه أخلصوا العمل،
وعن الأمير علي كرم الله وجهه أدوا الفرائض
، وقال الثوري: عملوا على وفاق ما قالوا، وقال الفضيل: زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية، وقال الربيع:
أعرضوا عما سوى الله تعالى، وفي الكشاف أي ثم ثبتوا على الإقرار ومقتضياته وأراد أن من قال: ربي الله تعالى فقد اعترف أنه عزّ وجلّ مالكه ومدبر أمره ومربيه وأنه عبد مربوب بين يدي مولاه فالثبات على مقتضاه أن لا تزل قدمه عن طريق العبودية قلبا وقالبا ولا يتخطاه وفيه يندرج كل العبادات والاعتقادات ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم لمن طلب أمرا يعتصم به:
«قل ربي الله تعالى ثم استقم»
وذكر أن ما ورد عن الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم جزئيات لهذا المعنى ذكر كل منها على سبيل التمثيل ولا يخفى أن كلام الصديق رضي الله تعالى عنه يبعد كون ما ذكره على سبيل التمثيل، ولعل ثُمَّ على هذا للتراخي الرتبي فإن الاستقامة عليه أعظم وأصعب من الإقرار وكذا يقال على أغلب التفاسير السابقة وجوز أن تكون للتراخي الزماني لأنها تحصل بعد مدة من وقت الإقرار، وجعلت على تفسير الاستقامة بأداء الفرائض أو بالعمل للتراخي الرتبي أيضا بناء على أن الإقرار مبدأ الاستقامة على ذلك ومنشؤها، وهذا على عكس التراخي الرتبي الذي سمعته أولا لأن المعطوف عليه فيه أعلى مرتبة من المعطوف إذ هو العمدة والأساس، وعلى ما تقدم المعطوف أعلى مرتبة من المعطوف عليه كما لا يخفى تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ من الله ربهم عزّ وجلّ الْمَلائِكَةُ قال مجاهد والسدي: عند الموت، وقال مقاتل: عند البعث، وعن زيد بن أسلم عند الموت وفي القبر وعند البعث، وقيل: تتنزل عليهم يمدونهم فيما يعن ويطرأ لهم من الأمور الدينية والدنيوية بما يشرح صدورهم ويدفع عنهم الخوف والحزن بطريق الإلهام كما أن الكفرة يغويهم ما قيض لهم من قرناء السوء بتزيين القبائح، قيل: وهذا هو الأظهر لما فيه من الإطلاق والعموم الشامل لتنزلهم في المواطن الثلاث السابقة وغيرها، وقد قمنا لك أن جميعا من الناس يقولون:
بتنزل الملائكة على المتقين في كثير من الأحايين وأنهم يأخذون منهم ما يأخذون فتذكر.
أَلَّا تَخافُوا ما تقدمون عليه فإن الخوف غم يلحق لتوقع المكروه وَلا تَحْزَنُوا على ما خلفتم فإنه غم يلحق لوقوعه من فوات نافع أو حصول ضار وروي هذا عن مجاهد، وقال عطاء بن أبي رباح: لا تخافوا رد حسناتكم فإنها مقبولة ولا تحزنوا على ذنوبكم فإنها مغفورة، وقيل: المراد نهيهم عن الغموم على الإطلاق.
والمعنى أن الله تعالى كتب لكم الأمن من كل غم فلن تذوقوه أبدا و (أن) إما مصدرية و (لا) ناهية أو(12/372)
نافية وسقوط النون للنصب والخبر في موضع الإنشاء مبالغة، وإما مخففة من الثقيلة وتَتَنَزَّلُ مضمن معنى العلم ولا ناهية وأن في الوجهين مقدرة بالباء أي بأن لا تخافوا أو بأنه لا تخافوا والهاء ضمير الشأن. وإما مفسرة وتَتَنَزَّلُ مضمن معنى القول ولا ناهية أيضا.
وفي قراءة عبد الله «لا تخافوا» بدون (أن) أي يقولون لا تخافوا على أنه حال من الملائكة أو استئناف.
وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ أي التي كنتم توعدونها في الدنيا على ألسنة الرسل عليهم السلام، هذا من بشاراتهم في أحد المواطن الثلاثة، وقوله تعالى: نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
إلى آخره من بشاراتهم في الدنيا أي أعوانكم في أموركم نلهمكم الحق ونرشدكم إلى ما فيه خيركم وصلاحكم، ولعل ذلك عبارة عما يخطر ببال المؤمنين المستمرين على الطاعات من أن ذلك بتوفيق الله تعالى وتأييده لهم بواسطة الملائكة عليهم السلام، ويجوز على قول بعض الناس أن تقول الملائكة لبعض المتقين شفاها في غير تلك المواطن: نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
وَفِي الْآخِرَةِ
نمدكم بالشفاعة ونتلقاكم بالكرامة حين يقع بين الكفرة وقرنائهم ما يقع من الدعاوى والخصام.
وذهب بعض المفسرين على أن هذا من بشاراتهم في أحد المواطن الثلاثة أيضا على معنى كنا نحن أولياؤكم في الدنيا ونحن أولياؤكم في الآخرة، وقيل: هذا من كلام الله تعالى دون الملائكة أي نحن أولياؤكم بالهداية والكفاية في الدنيا والآخرة وَلَكُمْ فِيها
أي في الآخرة ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ
من فنون الملاذ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ
ما تتمنون وهو افتعال من الدعاء بمعنى الطلب أي تدعون لأنفسكم وهو عند بعض أعم من الأول لأنه قد يقع الطلب في أمور معنوية وفضائل عقلية روحانية، وقيل: بينهما عموم وخصوص من وجه إذ قد يشتهي المرء ما لا يطلبه كالمريض يشتهي ما يضره ولا يريده، وكون التمني أعم من الإرادة غير مسلم، نعم قيل: إذا أريد بالمتمنى ما يصح تمنيه لا ما يتمنى بالفعل فذاك.
وقال ابن عيسى: المراد ما تدعون أنه لكم فهو لكم بحكم ربكم وَلَكُمْ
في الموضعين خبر وما
مبتدأ وفِيها
حال من ضميره في الخبر وعدم الاكتفاء بعطف ما تَدَّعُونَ
على ما تَشْتَهِي
للإيذان باستقلال كل منهما نُزُلًا قال الحسن: منّا وقال بعضهم: ثوابا، وتنوينه للتعظيم وكذا وصفه بقوله تعالى: مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ والمشهور أن النزل ما يهيأ للنزيل أي الضيف ليأكله حين نزوله وتحسن إرادته هنا على التشبيه لما في ذلك من الإشارة إلى عظم ما بعد من الكرامة، وانتصابه على الحال من الضمير في الظرف الراجع إلى ما تَدَّعُونَ
لا من الضمير المحذوف الراجع إلى ما
لفساد المعنى لأن التمني والادعاء ليس في حال كونه نزلا بل ثبت لهم ذلك المدعي واستقر حال كونه نزلا، وجعله حالا من المبدأ نفسه لا يخفى حاله على ذي تمييز.
وقال ابن عطية: نُزُلًا نصب على المصدر، والمحفوظ أن مصدر نزل نزول لا نزل، وجعله بعضهم مصدرا لأنزل، وقيل: هو جمع نازل كشارف وشرف فينتصب على الحال أيضا أي نازلين، وذو الحال على ما قال أبو حيان:
الضمير المرفوع في تَدَّعُونَ
ولا يحسن تعلق مِنْ غَفُورٍ به على هذا القول فقيل: هو في موضع الحال من الضمير في الظرف فلا تغفل.
وقرأ أبو حيوة «نزلا» بإسكان الزاي وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ أي إلى توحيده تعالى وطاعته والظاهر العموم في كل داع إليه تعالى، وإلى ذلك ذهب الحسن ومقاتل وجماعة، وقيل: بالخصوص فقال ابن عباس:
هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنه أيضا هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقالت عائشة وقيس بن أبي حازم وعكرمة ومجاهد: نزلت(12/373)
في المؤذنين، وينبغي أن يتأول قولهم على أنهم داخلون في الآية وإلا فالسورة بكمالها مكية بلا خلاف ولم يكن الأذان بمكة إنما شرع بالمدينة، والتزام القول بتأخر حكمها عن نزولها كما ترى، والظاهر أن المراد الدعاء باللسان، وقيل: به وباليد كأن يدعو إلى الإسلام ويجاهد، وقال زيد بن علي: دعا إلى الله بالسيف، ولعل هذا والله تعالى أعلم هو الذي حمله على الخروج بالسيف على بعض الظلمة من ملوك بني أمية، وكان زيد هذا رضي الله تعالى عنه عالما بكتاب الله تعالى وله تفسير ألقاه على بعض النقلة عنه وهو في حبس هشام بن عبد الملك وفيه من العلم والاستشهاد بكلام العرب حظ وافر.
ويقال: إنه كان إذا تناظر هو وأخوه محمد الباقر اجتمع الناس بالمحابر يكتبون ما يصدر عنهما من العلم رحمهما الله تعالى ورضي عنهما، والاستفهام في معنى النفي أي لا أحد أحسن قولا ممن دعا إلى الله وَعَمِلَ صالِحاً أي عملا صالحا أي عمل صالح كان.
وقال أبو أمامة: صلى بين الأذان والإقامة، ولا يخفى ما فيه، وقال عكرمة: صلى وصام، وقال الكلبي: أدى العرائض والحق العموم وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي تلفظ بذلك ابتهاجا بأنه منهم وتفاخرا به مع قصد الثواب إذ هو لا ينافيه أو جعل واتخذ الإسلام دينا له من قولهم: هذا قول فلان أي مذهبه ومعتقده، وبعضهم يرجع الوجهين إلى وجه واحد، والمعنى على القول بكون الآية خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم اختار النسبة إلى الإسلام دون عز الدنيا وشرفها وهو قولهم رد لا تسمعوا لهذا القرآن وتعجب منه، وقرأ ابن أبي عبلة وإبراهيم بن نوح عن قتيبة الميال «وقال إنّي» بنون مشددة دون نون الوقاية.
واستدل أبو بكر بن العربي بالآية على عدم اشتراط الاستثناء في قول القائل: أنا مسلم أو أنا مؤمن. وفي الآية إشارة إلى أنه ينبغي للداعي إلى الله تعالى أن يكون عاملا عملا صالحا ليكون الناس إلى قبول دعائه أقرب وإليه أسكن.
وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ جملة مستأنفة سيقت لبيان محاسن الأعمال الجارية بين العباد إثر بيان محاسن الأعمال الجارية بين العبد والرب عزّ وجلّ ترغيبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الصبر على أذية المشركين ومقابلة إساءتهم بالإحسان، والحكم عام أي لا تستوي الخصلة الحسنة والسيئة في الآثار والأحكام، ولا الثانية مزيدة لتأكيد النفي مثلها في قوله تعالى: وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ [فاطر: 21] لأن استوى لا يكتفي بمفرد وقوله تعالى:
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ استئناف مبين لحسن عاقبة الحسنة أي ادفع السيئة حيث اعترضتك من بعض أعاديك بالتي هي أحسن منها وهي الحسنة على أن المراد بالأحسن الزائد مطلقا أو بأحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات كالإحسان إلى من أساء فإنه أحسن من مجرد العفو فأحسن على ظاهره والمفضل عليه عام ولذا حذف كما في الله تعالى أكبر، وإخراجه مخرج الجواب عن سؤال من قال: كيف أصنع؟ للمبالغة والإشارة إلى أنه مهم ينبغي الاعتناء به والسؤال عنه، وللمبالغة أيضا وضع أَحْسَنُ موضع الحسنة لأن من دفع بالأحسن هان عليه الدفع بما دونه، ومما ذكرنا يعلم أن ليس المراد بالحسنة والسيئة أمرين معينين.
وعن علي كرم الله تعالى وجهه الحسنة حب الرسول وآله عليهم الصلاة والسلام والسيئة بغضهم
، وعن ابن عباس الحسنة لا إله إلا الله والسيئة الشرك، وقال الكلبي: الدعوتان إليهما، وقال الضحاك: الحلم والفحش، وقيل: الصبر، وقيل: المدارة والغلظة، وقيل غير ذلك، ولا يخفى أن بعض المروي يكاد لا تصح إرادته هنا فلعله لم يثبت عمن روي عنه، وجوز أن يكون المراد بيان تفاوت الحسنات والسيئات في أنفسهما بمعنى أن الحسنات تتفاوت إلى حسن وأحسن والسيئات كذلك فتعريف الحسنة والسيئة للجنس ولا الثانية ليست مزيدة وأفعل على ظاهره، والكلام في ادْفَعْ إلخ على معنى الفاء أي إذا كان كل من الجنسين(12/374)
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)
متفاوت الإفراد في نفسه فادفع بأحسن الحسنتين السيء والأسوأ، وترك الفاء للاستئناف الذي ذكرنا وهو أقوى الوصلين ولعل الأول أقرب فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ بيان لنتيجة الدفع المأمور به أي فإذا فعلت ذلك صار عدوك المشاق مثل الولي الشفيق. قال ابن عطية: دخلت (كأن) المفيدة للتشبيه لأن العدو لا يعود وليا حميما بالدفع بالتي هي أحسن وإنما يحسن ظاهره فيشبه بذلك الولي الحميم ولعل ذلك من باب الاكتفاء بأقل اللازم وهذا بالنظر إلى الغالب وإلا فقد تزول العداوة بالكلية بذلك كما قيل:
إن العداوة تستحيل مودة ... بتدارك الهفوات بالحسنات
والَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ أبلغ من عدوك ولذا اختير عليه مع اختصاره، والآية قيل: نزلت في أبي سفيان ابن حرب كان عدوا مبينا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فصار عند أهل السنة وليا مصافيا وكأن ما عنده انتقل إلى ولد ولده يزيد عليه من الله عزّ وجلّ ما يستحق وَما يُلَقَّاها أي ما يلقى ويؤتى هذه الفعلة والخصلة الشريفة التي هي الدفع بالتي هي أحسن فالضمير راجع لما يفهم من السياق، وجوز رجوعه للتي هي أحسن، وحكى مكي أن الضمير لشهادة أن لا إله إلا الله فكأنه أرجع للتي هي أحسن وفسرت بالشهادة المذكورة ومع هذا هو كما ترى، وقيل: الضمير للجنة وليس بشيء.
وقرأ طلحة وابن كثير في رواية «وما يلاقاها» من الملاقاة إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا أي الذين فيهم طبيعة الصبر وشأنهم ذلك وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ذو نصيب عظيم من خصال الخير وكمال النفس كما روي عن ابن عباس، وقال قتادة: ذو حظ عظيم من الثواب، وقيل: الحظ العظيم الجنة، وعليهما فهو وعد وعلى الأول هو مدح، وكرر وَما يُلَقَّاها تأكيدا لمدح تلك الفعلة الجميلة الجليلة ولأوحد أهل عصره الذي بخل الزمان أن يأتي بمثله صالح أفندي كاتب ديوان الإنشاء في الحدباء في هذه الآية عبارة مختصرة التزم الدقة فيها رحمة الله تعالى عليه وهي قوله تعالى: وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا الآية يمكن أن يؤخذ من الأول ما هو من أول الأول لا الثاني للاتفاق فيتحقق الأشرف بعد إعطاء المقام حقه فيتحقق الحابس أنه مجدود فيقف عند الحد المحدود انتهت.
وأراد والله تعالى أعلم أنه يمكن أن يؤخذ من الأول أي قوله تعالى: وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا ومن الثاني وهو قوله سبحانه: وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ما أي شكل هو من أول ضروب الشكل الأول الأربعة وهو قياس منه مركب من موجبتين كليتين ينتج موجبة كلية بأن يقال: كل صابر هو الذي يلقاها وكل من يلقاها فهو ذو حظ عظيم ينتج كل صابر هو ذو حظ عظيم، ولا يمكن أن يؤخذ قياس من الشكل الثاني للاتفاق في الكيف وشرط الشكل الثاني اختلاف المقدمتين فيه كما هو مقرر في محله فيتحقق بعد الأخذ وتركيب المقدمتين الأمر الأشرف أي النتيجة التي هي موجبة كلية وهي أشرف المحصورات الأربع لاشتمالها على الإيجاب الأشرف من السلب والكلية الأشرف من الجزئية بعد إعطاء المقام حقه من جعل الموصول للاستغراق كما أشير إليه ليفيد الكلية فعند ذلك يتحقق ويعلم الحابس أي الصابر أنه مجدود أي ذو جد وحظ فيقف عند الحد المحدود ولا يتجاوز من الصبر إلى غيره فافهم.(12/375)
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ النزع النخس وهو المس بطرف قضيب أو أصبع بعنف مؤلم استعير هنا للوسوسة الباعثة على الشر وجعل نازغا للمبالغة على طريقة جد جده- فمن- على هذا ابتدائية، ويجوز أن يراد به نازغ على أن المصدر بمعنى اسم الفاعل وصفا للشيطان- فمن- بيانية والجار والمجرور في موضع الحال أو هي ابتدائية أيضا لكن على سبيل التجريد، وجوز أن يكون المراد بالنازغ وسوسة الشيطان و «إن» شرطية و «ما» مزيدة أي وإن ينزغنك ويصرفنك الشيطان عما وصيت به من الدفع بالتي هي أحسن فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ من شره ولا تطعه إِنَّهُ عزّ وجلّ هُوَ السَّمِيعُ فيسمع سبحانه استعاذتك الْعَلِيمُ فيعلم جل شأنه نيتك وصلاحك، وقيل: السميع لقول من أذاك العليم بفعله فينتقم منه مغنيا عن انتقامك، وقيل: العليم بنزغ الشيطان، وفي جعل ترك الدفع من آثار نزغات الشيطان مزيد تحذير وتنفير عنه، ولعل الخطاب من باب إياك أعني واسمعي يا جارة.
وجوز أن يراد بالشيطان ما يعم شيطان الإنس فإن منهم من يصرف عن الدفع بالتي هي أحسن ويقول: إنه عدوك الذي فعل بك كيت وكيت فانتهز الفرصة فيه وخذ ثأرك منه لتعظم في عينه وأعين الناس ولا يظن فيك العجز وقلة الهمة وعدم المبالاة إلى غير ذلك من الكلمات التي ربما لا تخطر أبدا ببال شيطان الجن نعوذ بالله تعالى السميع العليم من كل شيطان، وفسر عبد الرحمن بن زيد النزغ بالغضب واستدل بالآية على استحباب الاستعاذة عنده.
وقد روى الحاكم عن سليمان بن صرد قال: استبّ رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فاشتد غضب أحدهما فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الغضب. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فقال الرجل:
أمجنونا تراني؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله» .
ولعل الغضب من آثار الوسوسة وَمِنْ آياتِهِ الدالة على شؤونه الجليلة جل شأنه: اللَّيْلُ وَالنَّهارُ في حدوثهما وتعاقبهما وإيلاج كل منهما في الآخر وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ في استنارتهما واختلافهما في قوة النور والعظم والآثار والحركات مثلا، وقدم ذكر الليل قيل: تنبيها على تقدمه مع كون الظلمة عدما، وناسب ذكر الشمس بعد النهار لأنها آيته وسبب تنويره ولأنها أصل لنور القمر بناء على ما قالوا من أنه مستفاد من ضياء الشمس، وأما ضياؤها فالمشهور أنه غير طارئ عليها من جرم آخر، وقيل: هو من العرش، والفلاسفة اليوم يظنون أنه من جرم آخر وادعوا أنهم يرون في طرف من جرم الشمس ظلمة قليلة لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ لأنها من جملة مخلوقاته سبحانه(12/376)
وتعالى المسخّرة على وفق إرادته تعالى مثلكم وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ الضمير قيل للأربعة المذكورة والمقصود تعليق الفعل بالشمس والقمر لكن نظم معهما الليل والنهار إشعارا بأنهما من عداد ما لا يعلم ولا يختار ضرورة أن الليل والنهار كذلك ولو ثني الضمير لم يكن فيه إشعار بذلك.
وحكم جماعة ما لا يعقل- على ما قال الزمخشري- حكم الأنثى فيقال: الأقلام بريتها وبريتهن فلا يتوهم أن الضمير لما كان لليل والنهار والشمس والقمر كان المناسب تغليب الذكور، والجواب بأنه لما كن من الآيات عدت كالإناث تكلف عنه غنى بالقاعدة المذكورة. نعم قال أبو حيان: ينبغي أن يفرق بين جمع القلة من ذلك وجمع الكثرة فإن الأفصح والأفصح في الأول أن يكون بضمير الواحد تقول الأجذاع انكسرت على الأفصح في الثاني أن يكون بضمير الإناث تقول الجذوع انكسرن وما في الآية ليس بجمع قلة بلفظ واحد لكنه منزل منزلة المعبر عنه به، وقيل:
الضمير للشمس والقمر والاثنان جمع وجمع ما لا يعقل يؤنث، ومن حيث يقال شموس وأقمار لاختلافهما بالأيام والليالي ساغ أن يعود الضمير إليهما جمعا، وقيل: الضمير للآيات المتقدم ذكرها في قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ فإن السجود أقصى مراتب العبادة فلا بد من تخصيصه به عزّ وجلّ، وكان علي كرم الله تعالى وجهه. وابن مسعود يسجدان عند تَعْبُدُونَ ونسب القول بأنه موضع السجدة للشافعي، وسجد عند لا يَسْأَمُونَ ابن عباس وابن عمر وأبو وائل وبكر بن عبد الله، وكذلك روي عن ابن وهب ومسروق والسلمي والنخعي وأبي صالح وابن وثاب والحسن وابن سيرين وأبي حنيفة رضي الله تعالى عنهم، ونقله في التحرير عن الشافعي رضي الله تعالى عنه وفي الكشف أصح الوجهين عند أصحابنا- يعني الشافعية- أن موضع السجدة لا يَسْأَمُونَ كما هو مذهب الإمام أبي حنيفة، ووجهه أنها تمام المعنى على أسلوب اسجد فإن الاستكبار عند مذموم، وعلله بعضهم بالاحتياط لأنها إن كانت عند تَعْبُدُونَ جاز التأخير لقصر الفصل، وإن كانت عند يَسْأَمُونَ لم يجز تعجيلها فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا تعاظموا عن اجتناب ما نهوا عنه من السجود لتلك المخلوقات وامتثال ما أمروا به من السجود لخالقهن فلا يعبأ بهم أو فلا يخل ذلك بعظمة ربك فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ أي في حضرة قدسه عزّ وجلّ من الملائكة عليهم السلام الذين هم خير منهم يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي دائما وإن لم يكن عندهم ليل ونهار وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ لا يملون ذلك، وجواب الشرط في الحقيقة ما أشرنا إليه أو نحوه وما ذكر قائم مقامه، ويجوز أن يكون الكلام على معنى الإخبار كما قيل في نحو إن أكرمتني اليوم فقد أكرمتك أمس أنه على معنى فأخبرك إني قد أكرمتك أمس.
وقرئ «لا يسأمون» بكسر الياء، والظاهر أن الآية في أناس من الكفرة كانوا يسجدون للشمس والقمر كالصابئين في عبادتهم الكواكب ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود لله تعالى فنهوا عن هذه الواسطة وأمروا أن يقصدوا بسجودهم وجه الله تعالى خالصا. واستدل الشيخ أبو إسحاق في المهذب بالآية على صلاتي الكسوف والخسوف قال: لأنه لا صلاة تتعلق بالشمس والقمر غيرهما وأخذ من ذلك تفضيلهما على صلاة الاستسقاء لكونهما في القرآن بخلافها وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى يا من تصح منه الرؤية: الْأَرْضَ خاشِعَةً يابسة متطامنة مستعار من الخشوع بمعنى التذلل فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ أي المطر اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ أي تحركت بالنبات وانتفخت لأن النبت إذا دنا أن يظهر ارتفعت له الأرض وانتفخت ثم تصدعت عن النبات، ويجوز أن يكون في الكلام استعارة تمثيلية شبه حال جدوبة الأرض وخلوها عن النبات ثم إحياء الله تعالى إياها بالمطر وانقلابها من الجدوبة إلى الخصب وإنبات كل زوج بهيج بحال شخص كئيب كاسف البال رث الهيئة لا يؤبه به ثم إذا أصابه شيء من متاع الدنيا وزينتها تكلف بأنواع الزينة والزخارف فيختال في مشيه زهوا فيهتز بالأعطاف خيلاء وكبرا فحذف المشبه واستعمل الخشوع(12/377)
والاهتزاز دلالة على مكانه ورجح اعتبار التمثيل. وقرئ «ربأت» أي زادت، وقال الزجاج: معنى ربت عظمت وربأت بالهمز ارتفعت ومنه الربيئة وهي طليعة على الموضع المرتفع إِنَّ الَّذِي أَحْياها بما ذكر بعد موتها لَمُحْيِ الْمَوْتى بالبعث إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الأشياء التي من جملتها الأحياء قَدِيرٌ مبالغة في القدرة.
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا ينحرفون في تأويل آيات القرآن عن جهة الصحة والاستقامة فيحملونها على المحامل الباطلة، وهو مراد ابن عباس بقوله: يضعون الكلام في غير موضعه، وأصله من ألحد إذا مال عن الاستقامة فحفر في شق ويقال لحد. وقرئ «يلحدون» و «يلحدون» باللغتين، وقال قتادة: هنا الإلحاد التكذيب، وقال مجاهد:
المكاء والصفير واللغو فالمعنى يميلون عما ينبغي ويليق في شأن آياتنا فيكذبون القرآن أو فيلغون ويصفرون عند قراءته، وجوز أن يراد بالآيات ما يشمل جميع الكتب المنزلة وبالإلحاد ما يشمل تغيير اللفظ وتبديله لكن ذلك بالنسبة إلى غير القرآن لأنه لم يقع فيه كما وقع في غيره من الكتب على ما هو الشائع. وعن أبي مالك تفسير الآيات بالأدلة فالإلحاد في شأنها الطعن في دلالتها والاعراض عنها، وهذا أوفق بقوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً إلخ، وما تقدم أوفق بقوله سبحانه: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت: 26] وبما بعد، والآية على تفسير مجاهد أوفق وأوفق.
والمراد بقوله تعالى: لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا مجازاتهم على الإلحاد فالآية وعيد لهم وتهديد، وقوله تعالى:
أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ تنبيه على كيفية الجزاء، وكان الظاهر أن يقابل الإلقاء في النار بدخول الجنة لكنه عدل عنه إلى ما في النظم الجليل اعتناء بشأن المؤمنين لأن الأمن من العذاب أعم وأهم ولذا عبر في الأول بالإلقاء الدال على القسر والقهر وفيه بالإتيان الدال على أنه بالاختيار والرضا مع الأمن ودخول الجنة لا ينفي أن يبدل حالهم من بعد خوفهم أمنا، وجوز أن تكون الآية من الاحتباك بتقدير من يأتي خائفا ويلقى في النار ومن يأتي آمنا ويدخل الجنة فحذف من الأول مقابل الثاني ومن الثاني مقابل الأول وفيه بعد. والآية كما قال ابن بحر عامة في كل كافر ومؤمن.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ أبو جهل أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وأخرج عبد الرزاق وغيره عن بشير بن تميم من يلقى في النار أبو جهل ومن يأتي آمنا عمار، والآية نزلت فيهما، وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل وعثمان بن عفان، وقيل: فيه وفي عمر، وقيل: فيه وفي حمزة، وقال الكلبي: فيه وفي الرسول صلى الله عليه وسلم اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ تهديد شديد للكفرة الملحدين الذين يلقون في النار وليس المقصود حقيقة الأمر إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيكم بحسب أعمالكم.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ وهو القرآن لَمَّا جاءَهُمْ من غير أن يمضي عليهم زمان يتأملون فيه ويتكفرون وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يوجد نظيره أو منيع لا تتأتى معارضته، وأصل العز حالة مانعة للإنسان عن أن يغلب، وإطلاقه على عدم النظير مجاز مشهور وكذا كونه منيعا، وقيل: غالب للكتب لنسخه إياها. وعن ابن عباس أي كريم على الله تعالى والجملة حالية مفيدة لغاية شناعة الكفر به، وقوله تعالى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ صفة أخرى لكتاب، وما بين يديه وما خلفه كناية عن جميع الجهات كالصباح والمساء كناية عن الزمان كله أي لا يتطرق إليه الباطل من جميع جهاته، وفيه تمثيل لتشبيهه بشخص حمي من جميع جهاته فلا يمكن أعداءه الوصول إليه لأنه في حصن حصين من حماية الحق المبين، وجوز أن يكون المعنى لا يأتيه الباطل من جهة ما أخبر به من الأخبار الماضية والأمور الآتية.(12/378)
وقيل: الباطل بمعنى المبطل كوارس بمعنى مورس أو هو مصدر كالعافية بمعنى مبطل أيضا وقوله تعالى: تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ أي محمود على ما أسدى من النعم التي منها تنزيل الكتاب، وحمده سبحانه: بلسان الحال متحقق من كل منعم عليه وبلسان القال متحقق ممن وفق لذلك خبر مبتدأ محذوف أو صفة أخرى لكتاب مفيدة لفخامته الإضافية كما أن الصفتين السابقتين مفيدتان لفخامته الذاتية.
وقوله تعالى: لا يَأْتِيهِ إلخ اعتراض عند من لا يجوز تقديم غير الصريح من الصفات على الصريح كل ذلك لتأكيد بطلان الكفر بالقرآن، واختلفوا في خبر إِنَّ أمذكور هو أو محذوف فقيل: مذكور وهو قوله تعالى: أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ وهو قول أبي عمرو بن العلاء في حكاية جرت بينه وبين بلال بن أبي بردة سئل بلال في مجلسه عن هذا فقال: لم أجد لها نفاذا فقال له أبو عمرو: إنه منك لقريب أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ وذهب إليه الحوفي وهو في مكان بعيد، وذهب أبو حيان إلى أنه قوله تعالى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ بحذف العائد أي الكافرون وحاله أنه كتاب عزيز لا يأتيه الباطل منهم أي متى راموا إبطالا له لم يصلوا إليه أو بجعل أل في الباطل عوضا من الضمير به على قول الكوفين أي لا يأتيه باطلهم أو قوله سبحانه: ما يُقالُ لَكَ إلخ والعائد أيضا محذوف أي ما يقال لك في شأنهم أو فيهم إلا ما قد قيل للرسل من قبلك أي أوحى إليك في شأن هؤلاء المكذبين لك ولما جئت به مثل ما أوحى إلي من قبلك من الرسل وهو أنهم عاقبتهم سيئة في الدنيا بالهلاك وفي الآخرة بالعذاب الدائم ثم قال:
وغاية ما في هذين التوجيهين حذف الضمير العائد وهو موجود نحن السمن منوان بدرهم والبر كر بدرهم أي منه.
ونقل عن بعض نحاة الكوفة أن الخبر في قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ وتعقبه بأنه لا يتعقل، وقيل: هو محذوف وخبر إِنَّ يحذف لفهم المعنى، وسأل عيسى بن عمر عمرو بن عبيد عن ذلك فقال عمرو: معناه في التفسير أن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم كفروا به وأنه لكتاب عزيز فقال عيسى: أجدت يا أبا عثمان. وقال قوم:
تقديره معاندون أو هالكون، وقال الكسائي: قد سد مسده ما تقدم من الكلام قبل وهو قوله تعالى: أَفَمَنْ يُلْقى وكأنه يريد أنه محذوف دل عليه ما قبله فيمكن أن يقدر يخلدون في النار، ويقدر الخبر على ما استحسنه ابن عطية بعد حَمِيدٍ وفي الكشاف أنه قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ بدل من قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا قال في البحر: ولم يتعرض بصريح الكلام إلى خبر إِنَّ أمذكور هو أو محذوف لكنه قد يدعي أنه أشار إلى ذلك فإن المحكوم به على المبدل منه هو المحكوم به على البدل فيكون التقدير إن الذين يلحدون في آياتنا إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم لا يخفون علينا. وفي الكشف فائدة هذا الإبدال التنبيه على أنه ما يحملهم على الإلحاد إلا مجرد الكفر، وفيه إمداد التحذير من وجوه ما ذكر من التنبيه ووضع الذكر موضع الضمير الراجع إلى الآيات زيادة تحسير لهم، وما في لَمَّا من معنى مفاجأتهم بالكفر أول ما جاء، وما فيه من التعظيم لشأن الآيات والتمهيد للحديث عن كمال الكتاب الدال على سوء مغبة الملحد فيه، ثم الأشبه أن يحمل كلام الكشاف على أن الخبر محذوف لدلالة السابق عليه ولزيادة التهويل لذهاب الوهم كل مذهب وتكون الجملة بدلا عن الجملة لأن البدل بتكرير العامل إنما جوز في المجرور لشدة الاتصال انتهى فتأمل والله تعالى الموفق ما يُقالُ لَكَ إلى آخره تسلية له صلى الله عليه وسلم عما يصيبه من أذية الكفار من طعنهم في كتابه وغير ذلك فالقائل الكفار أي ما يقول كفار قومك في شأنك وشأن ما أنزل إليك من القرآن إِلَّا ما قَدْ قِيلَ أي مثل ما قد قال الكفرة السابقون لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ من الكلام المؤذي المتضمن للطعن فيما أنزل إليهم، وهذا نظير قوله تعالى: كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات: 52] .(12/379)
وقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ قيل: تعليل لما يستفاد من السياق من الأمر بالصبر كأنه قيل: ما يقال لك إلا نحو ما قيل لأمثالك من الرسل فاصبر كما صبروا إن ربك لذو مغفرة عظيمة لأوليائه وذو عقاب أليم لأعدائهم فينصر أولياءه وينتقم من أعدائهم، أو جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ثم ماذا؟ فقيل: إن ربك لذو مغفرة لأوليائه وذو عقاب أليم لأعدائهم وقد نصر لذلك من قبلك من الرسل عليهم السلام وانتقم من أعدائهم وسيفعل ذلك بك وبأعدائك أيضا، وجوز أن يكون القائل هو الله تعالى والمعنى على ما سمعت عن أبي حيان وقد جعل هذه الجملة خبر إِنَّ أي ما يوحي الله تعالى إليك في شأن الكفار المؤذين لك إلا مثل ما أوحى للرسل من قبلك في شأن الكفار المؤذين لهم من أن عاقبتم سيئة في الدنيا بالهلاك وفي الآخرة بالعذاب الأليم فاصبر إن ربك إلخ، وقد يجعل إِنَّ رَبَّكَ إلخ باعتبار مضمونه تفسيرا للمقول فحاصل المعنى ما أوحى إليك وإلى الرسل إلا وعد المؤمنين بالمغفرة والكافرين بالعقوبة دون العكس الذي يزعمه الكفرة بلسان حالهم فاصبر فسينجز الله تعالى وعده، وقيل:
المقول هو الشرائع أي ما يوحى إليك إلا مثل ما أوحى إلى الرسل من الشرائع دون أمور الدنيا وقد جرت عادة الكفار بتكذيب ذلك فما عليك إذا كذب كفار قومك واصبر على ذلك، وجعل إِنَّ رَبَّكَ إلخ تعليلا لما يستفاد من السياق أيضا، وجعله بعضهم تفسيرا لذلك المقول أعني الشرائع لأنها الأوامر والنواهي الإلهية وهي مجملة فيه، وفيه من البعد ما فيه، وإلى نحو ما ذكرناه أولا ذهب قتادة.
أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال في الآية: ما يُقالُ لَكَ من التكذيب إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ فكما كذبوا كذبت وكما صبروا على أذى قومهم لهم فاصبر على أذى قومك لك، واختيار أَلِيمٍ على شديد مع أنه أنسب بالفواصل للإيماء إلى أن نظم القرآن ليس كالأسجاع والخطب وأن حسنه ذاتي والنظر فيه إلى المعاني دون الألفاظ، ويحسن وصف العقاب به هنا كون العقاب جزاء التكذيب المؤلم وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا جواب لقولهم: هلا أنزل القرآن بلغة العجم، والضمير الذكر لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ أي بينت لنا وأوضحت بلسان نفقهه، وقوله تعالى: ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ بهمزتين الأولى للاستفهام والثاني همزة أعجمي والجمهور يقرؤون بهمزة استفهام بعدها مدة هي همزة أعجمي إنكار مقرر للتحضيض أي كلام أعجمي ورسول أو مرسل إليه عربي، وحاصله أنه لو نزل كما يريدون لأنكروا أيضا وقالوا ما لك وللعجمة أو ما لنا وللعجمة، والأعجمي أصله أعجم بلا ياء ومعناه من لا يفهم كلامه للكنته أو لغرابة لغته وزيدت الياء للمبالغة كما في أحمري ودواري وأطلق على كلامه مجازا لكنه اشتهر حتى التحق بالحقيقة، وزعم صاحب اللوامح أن الياء فيه بمنزلة ياء كرسي وهو وهم، وقيل: عَرَبِيٌّ على احتمال أن يكون المراد ومرسل إليه عربي مع أن المرسل إليهم جمع فحقه أن يقال: عربية أو عربيون لأن المراد بيان التنافي والتنافر بين الكلام وبين المخاطب به لا بيان كون المخاطب به واحدا أو جمعا، ومن حق البليغ أن يجرد الكلام للدلالة على ما ساقه له ولا يأتي بزائد عليه إلا ما يشد من عضده فإذا رأى لباسا طويلا على امرأة قصيرة قال: اللباس طويل واللابس قصير دون واللابسة قصيرة لأن الكلام لم يقع في ذكورة اللابس وأنوثته فلو قال لخيل إن لذلك مدخلا فيما سيق له الكلام، وهذا أصل من الأصول يجب أن يكون على ذكر، ويبنى عليه الحذف والإثبات والتقييد والإطلاق إلى غير ذلك في كلام الله تعالى وكل كلام بليغ. وقرأ عمرو بن ميمون «أعجميّ» بهمزة استفهام بفتح العين أي أكلام منسوب إلى العجم وهم من عدا العرب وقد يخص بأهل فارس ولغتهم العجمية أيضا فبين الأعجمي والعجمي عموم وخصوص من وجه، والظاهر أن المراد بالعربي مقابل الأعجمي في القراءة المشهورة ومقابله العجمي في القراءة الأخرى.(12/380)
وقرأ الحسن وأبو الأسود والجحدري وسلام والضحاك وابن عباس وابن عامر بخلاف عنهما «أعجميّ» بلا استفهام وبسكون العين على أن الكلام اخبار بأن القرآن أعجمي والمتكلم به أو المخاطب عربي.
وجوز أن يكون المراد هلا فصلت آياته فجعل بعضها أعجميا لإفهام العجم وبعضها عربيا لإفهام العرب وروي هذا عن ابن جبير فالكلام بتقدير مبتدأ هو بعض أي بعضها أعجمي وبعضها عربي، والمقصود من الجملة الشرطية إبطال مقترحهم وهو كونه بلغة العجم باستلزامه المحذور وهو فوات الغرض منه إذ لا معنى لإنزاله أعجميا على من لا يفهمه أو الدلالة على أنهم لا ينفكون عن التعنت فإذا وجدت الأعجمية طلبوا أمرا آخر وهكذا.
قُلْ ردا عليهم هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً يهدي إلى الحق وَشِفاءٌ لما في الصدور من شك وشبهة وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ مبتدأ خبره فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ على أن فِي آذانِهِمْ خبر مقدم ووَقْرٌ مبتدأ أي مستقر في آذانهم وقر أي صمم منه فلا يسمعونه، وقيل: خبر الموصول فِي آذانِهِمْ ووَقْرٌ فاعل الظرف، وقيل:
وَقْرٌ خبر مبتدأ محذوف تقديره هو أي القرآن وفِي آذانِهِمْ متعلق بمحذوف وقع حالا من وَقْرٌ.
ورجح بأنه أوفق بقوله تعالى: وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ومن جوز العطف على معمولي عاملين عطف الموصول على الموصول الأول ووَقْرٌ على هُدىً على معنى هو للذين آمنوا هدى وللذين لا يؤمنون وقر، وقوله تعالى:
فِي آذانِهِمْ ذكر بيانا لمحل الوقر أو حال من الضمير في الظرف الراجع إلى وَقْرٌ والأول أبلغ ويرد عليه بعد الإغماض عما في جواز العطف المذكور من الخلاف أن فيه تنافرا بجعل القرآن نفس الوقر لا سيما وقد ذكر محله وليس كجعله نفس العمى لأنه يقابل جعله نفس الهدى فروعي الطباق ولذا لم يبين محله، وأما الوقر إذا جعل نفس الكتاب فهو كالدخيل ولم يطابق ما ورد في سائر المواضع من التنزيل، وهذا يرد على الوجه الذي قبله أيضا، وجوز ابن الحاجب في الأمالي أن يكون وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى مرتبطا بقوله سبحانه: هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ والتقدير هو للذين آمنوا هدى وعلى الذين لا يؤمنون عمى، وقوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ جملة معترضة على الدعاء، وتعقب بأن هذا وإن جاز من جهة الإعراب لكنه من جهة المعاني مردود لفك النظم، وزعم بعضهم أو ضمير هُوَ عائد على الوقر وهو من العمى كما ترى.
وأولى الأوجه ما تقدم وجيء بعلى في عَلَيْهِمْ عَمًى للدلالة على استيلاء العمى عليهم، ولم يذكر حال القلب لما علم من التعريض في قوله سبحانه: لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ بأنه لغيرهم مرض فظيع أُولئِكَ إشارة إلى الموصول الثاني باعتبار اتصافه بما في حيز صلته وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته في الشر مع ما فيه من كمال المناسبة للنداء من مكان بعيد أي أولئك البعداء الموصوفون بما ذكر من التصامّ عن الحق الذي يسمعونه والتعامي عن الآيات التي يشاهدونها يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ تمثيل لهم في عدم فهمهم وانتفاعهم بما دعوا له بمن ينادى من مسافة نائية فهو يسمع الصوت ولا يفهم تفاصيله ولا معانيه أو لا يسمع ولا يفهم، فقد حكى أهل اللغة أنه يقال للذي لا يفهم:
أنت تنادي من بعيد، وإرادة هذا المعنى مروية عن علي كرم الله تعالى وجهه
. ومجاهد، وعن الضحاك أن الكلام على حقيقته وأنهم يوم القيامة ينادون بكفرهم وقبيح أعمالهم بأقبح أسمائهم من بعد حتى يسمع ذلك أهل الموقف فتعظم السمعة عليهم وتحل المصائب بهم، وحاصل الرد أنه هاد للمؤمنين شاف لما في صدورهم كاف في دفع الشبه فلذا ورد بلسانهم معجزا بيّنا في نفسه مبينا لغيره والذين لا يؤمنون بمعزل عن الانتفاع به على أي حال جاءهم، وقرأ ابن عمر وابن عباس وابن الزبير ومعاوية وعمرو بن العاص وابن هرمز «عم» بكسر الميم وتنوينه، وقال يعقوب القاري وأبو حاتم: لا ندري نوّنوا أم فتحوا الياء على أنه فعل ماض، وبغير تنوين رواها عمرو بن دينار وسليمان(12/381)
بن قتيبة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ كلام مستأنف مسوق لبيان أن الاختلاف في شأن الكتب عادة قديمة للأمم غير مختص بقومك على منهاج قوله تعالى: ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ على ما سمعت أولا أي وبالله لقد آتينا موسى التوراة فاختلف فيها فمن مصدق لها ومكذب وهكذا حال قومك في شأن ما آتيناك من القرآن فمن مؤمن به وكافر وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ في حق أمتك المكذبة وهي العدة بتأخير عذابهم وفصل ما بينهم وبين المؤمنين من الخصومة إلى يوم القيامة بنحو قوله تعالى: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ [القمر: 46] وقوله سبحانه: وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [فاطر: 45] لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ باستئصال المكذبين كما فعل بمكذبي الأمم السالفة وَإِنَّهُمْ أي كفار قومك لَفِي شَكٍّ مِنْهُ أي من القرآن مُرِيبٍ موجب للقلق والاضطراب، وقيل: الضمير الثاني للتوراة والأول لليهود بقرينة السياق لأنهم الذين اختلفوا في كتاب موسى عليه السلام وليس بشيء مَنْ عَمِلَ صالِحاً بأن آمن بالكتب وعمل بموجبها فَلِنَفْسِهِ أي فلنفسه يعمله أو فلنفسه نفعه لا لغيره، ومَنْ يصح فيها الشرطية والموصولية وكذا في قوله تعالى: وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ضره لا على الغير وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله مبني على تنزيل ترك إثابة المحسن بعمله أو إثابة الغير بعمله وتنزيل التعذيب بغير إساءة أو بإساءة غيره منزلة الظلم الذي يستحيل صدوره عنه تعالى ولم يحتج بعضهم إلى التنزيل، وقد مر الكلام في ذلك وفي توجيه النفي والمبالغة فتذكر.(12/382)
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ أي إذا سئل عنها قيل الله تعالى يعلم أو لا يعلمها إلا الله عزّ وجلّ فالمقصود من هذا الكلام إرشاد المؤمنين في التفصي عن هذا السؤال وكلا الجوابين يلزمه اختصاص علمها به تعالى.
أما الثاني فظاهر، وأما فلأنك إذا سئلت عن مسألة وقلت. فلان يعلمه كان فيه نفي عنك كناية وتنبيه على أن فلانا أهل أن يسأل عنه دونك وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها أي من أوعيتها جمع كم بالكسر وهو وعاء كجف الطلعة من كمه إذا ستره وقد يضم وكم القميص بالضم وقرأ الحسن في رواية والأعمش وطلحة وغير واحد من السبعة «من ثمرة» على إرادة الجنس والجمع لاختلاف الأنواع. وقرىء «من ثمرات من أكمامهن» بجميع الضمير أيضا وما نافية ومن الأولى مزيدة لتأكيد الاستغراق والنص عليه ومن الثانية ابتدائية وكذا ما في قوله تعالى: وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ أي حملها، وقوله تعالى: إِلَّا بِعِلْمِهِ في موضع الحال والباء للملابسة أو المصاحبة والاستثناء من أعم الأحوال أي ما يحدث شيء من خروج ثمرة ولا حمل حامل ولا وضع واضع ملابسا أو مصاحبا بشيء من(13/3)
الأشياء إلا مصاحبا أو ملابسا بعلمه المحيط سبحانه واقعا حسب تعلقه به، وجوز في الأولى أن تكون موصولة معطوفة على الساعة أي إليه يرد علم الساعة وعلم ما يخرج ومن الأولى بيانية والجار والمجرور في موضع الحال ومن الثانية على حالها، وتأنيث تَخْرُجُ باعتبار المعنى لأن ما بمعنى ثمرة قيل: ولا يجوز في الثانية ذلك لمكان الاستثناء المفرغ وأجازه بعضهم، ويكفي لصحة التفريغ النفي في قوله تعالى: وَلا تَضَعُ وجملة لا تضع إما حال أو معطوفة على جملة إِلَيْهِ يُرَدُّ إلخ، ولا يخفى عليك أن المتبادر في الموضعين النفي ثم إن الاستثناء متعلق بالكل وتبيين القدر المشترك بين الأفعال الثلاثة وجعله الأصل في تعلق المفرغ كما سمعت لإظهار المعنى والإيماء إلى أنه لا يحتاج في مثله إلى حذف من الأولين أعني ما تخرج وما تحمل وهو قريب من أسلوب. وقد حيل بين العير والنزوان. لأن خرج زيد معناه حدث خروجه كما أن معنى ذلك فعل الحيلولة وليس ذاك من باب الاستثناء المتعقب لجمل والخلاف في متعلقه في شيء لأن ذلك في غير المفرغ فقد ذكر النحويون في باب التنازع وإن كان منفيا بإلا فالحذف ليس إلا ولو كان منه لم يكن من المختلف فيه لاتحاد الجمل في المقصود وظهور قرينة الرجوع إلى الكل، والكلام على ما في شرح التأويلات متصل بأمر الساعة والبعث فإنه لا يعلم هذا كله إلا الله تعالى فذكر هذه الأمور لمناسبتها لعلم الساعة وإن الكل إيجاد بعد العدم بقدرته عزّ وجلّ فيكون كالبرهان على الحشر، وجوز أن يكون متصلا بقوله تعالى:
وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ [فصلت: 37] إلخ وبقوله سبحانه: وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً [فصلت: 39] إلخ فالمعنى من آيات ألوهيته تعالى وقدرته أن تخرج الثمرات وتحمل الحوامل وتضع حسب علمه جل وعلا، والأول وأقرب.
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي أي بزعمكم كما نص عليه بقوله سبحانه: أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [القصص: 62، 74] وفيه تهكم بهم وتقريع لهم. ويَوْمَ منصوب باذكر أو ظرف بمضمر مؤخر قد ترك إيذانا بقصور البيان عنه كما في قوله تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ [المائدة: 109] وضمير يُنادِيهِمْ عام في كل من عبد غير الله تعالى فيندرج فيه عبدة الأوثان. قالُوا أي أولئك المنادون آذَنَّاكَ أي أعلمناك والمراد بالإعلام هنا الإخبار لأنه تعالى عالم فلا يصح إعلامه بما هو سبحانه عالم به بخلاف الأخبار فإنه يكون للعالم فكأنه قيل أخبرناك ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ أي بأنه ليس منا أحد يشهد لهم بالشركة فالجملة في محل نصب مفعول آذَنَّاكَ وقد علق عنها وفي تعليق باب أعلم وأنبأ خلاف والصحيح أنه مسموع في الفصيح، وشَهِيدٍ فعيل من الشهادة ونفي الشهادة كناية عن التبرؤ منهم لأن الكفرة يوم القيامة أنكروا عبادة غيره تعالى مرة وأقروا بها وتبرءوا عنها مرة أخرى وفسره السمرقندي بالإنكار لعبادتهم غير الله تعالى وشركهم كذبا منهم وافتراء كقوله تعالى حكاية عنهم: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] وظاهر «آذناك» يقتضي سبق الإيذان في جواب أين شركائي وإنما سئلوا ثانيا حتى أجابوا بأنه قد سبق الجواب لأنه توبيخ وفي إعادة التوبيخ من تأكيد أمر الجناية وتقبيح حال من يرتكبها ما لا يخفى، واستظهر أبو حيان أن المراد إحداث إيذان لا إخبار عن إيذان سابق على نحو طلقت وأمثاله، وجوز أن يقال: إنه إخبار بإعلام سابق وذلك الاعلام السابق ما علمه تعالى من بواطنهم يوم القيامة إنهم لم يبقوا على الشرك وعلى تلك الشهادة وكأنه اعلام منهم بلسان الحال وهذا لا يقتضي سبق سؤال ولا جواب وفيه حسن أدب كأنهم يقولون أنت أعلم به ثم يأخذون في الجواب.
قال في الكشف: وهذا الوجه هو المختار لاشتماله على النكتة المذكورة وما في الآخرين من سوء الأدب، ويحتمل أن يكون المعنى آذناك بأنه ليس منا أحد يشاهدهم فشهيد من الشهود بمعنى الحضور والمشاهدة ونفي(13/4)
مشاهدتهم الظاهر أنه على الحقيقة وذلك في موقف وجعل بعض العبدة مقرين بمعبوداتهم في آخر فلا تنافي بينهما، وقيل: هو كناية عن نفي أن يكون له تعالى شريك نحو قولك: لا نرى لك مثلا تريد لا مثل لك لنراه، والكلام في آذَنَّاكَ على ما آذناك، وقيل: ضمير قالُوا للشركاء أي قال الشركاء: ليس منا أحد يشهد لهم بأنهم كانوا محقين فشهيد من الشهادة لا غير، والمراد التبرؤ منهم وفيه تفكيك الضمائر، ومعنى قوله تعالى: وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ على ما قيل: إن شركاءهم الذين كانوا يدعونهم من قبل ويرجون نفعهم غابوا عنهم على أن الضلال على معناه الحقيقي وهو الذي يقابل الوجدان أو أن شركاءهم لم ينفعوهم بشيء على أن الضلال مجاز عن عدم النفع وما اسم موصول عبارة عن الشركاء، ويحسن جمع من يعقل ومن لا يعقل في التعبير بما في مثل هذا المقام، وجوز أن تكون ما عبارة عن القول الذي كانوا يقولونه في شأن الشركاء من أنهم آلهة وشركاء لله سبحانه وتعالى، والمعنى نسوا ما كانوا يقولونه في شأن شركائهم من نسبة الألوهية إليهم. ولك أن تجعلها مصدرية والجملة يحتمل أن تكون حالا وأن تكون اعتراضا، وذكر بعض الأجلة أنه يتعين الأخير على القول بأن ضمير قالُوا للشركاء وكون الضلال مجازا عن عدم النفع فتدبر وَظَنُّوا أي أيقنوا كما قال السدي وغيره لأنه لا احتمال لغيره هنا والظن يكون بمعنى العالم كثيرا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ أي مهرب، والظاهر أن الجملة في محل نصب سادة مسد مفعولي ظن وهي معلقة عنها بحرف النفي، وقيل: تم الكلام عند قوله تعالى: وَظَنُّوا والظن على ظاهره أي وترجح عندهم أن قولهم: ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ منجاة لهم أو أمر يموهون به، والجملة بعد مستأنفة أي لا يكون لهم منجى أو موضع روغان لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ لا يمل ولا يفتر مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ من طلب السعة في النعمة وأسباب المعيشة، ودُعاءِ مصدر مضاف للمفعول وفاعله محذوف أي من دعاء الخير هو.
وقرأ عبد الله «من دعاء بالخير» بباء داخلة على الخير وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ الضيقة والعسر فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ أي فهو يؤوس قنوط من فضل الله تعالى ورحمته، وهذا صفة الكافر، والآية نزلت في الوليد بن المغيرة، وقيل: في عتبة بن ربيعة وقد بولغ في يأسه من جهة الصيغة لأن فعولا من صيغ المبالغة ومن جهة التكرار المعنوي فإن القنوط أن يظهر عليه أثر اليأس فيتضاءل وينكسر، ولما كان أثره الدال عليه لا يفارقه كان في ذكره ذكره ثانيا بطريق أبلغ، وقدم اليأس لأنه صفة القلب وهو أن يقطع رجاءه من الخير وهي المؤثرة فيما يظهر على الصورة من التضاؤل والانكسار وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ أي لئن فرجنا عنه بصحة بعد مرض أو سعة بعد ضيق أو غير ذلك لَيَقُولَنَّ هذا لِي أي حقي أستحقه لما لي من الفضل والعمل لا تفضل من الله عن وجل فاللام للاستحقاق أو هو لي دائما لا يزول فاللام للملك وهو يشعر بالدوام ولعل الأول أقرب.
وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً أي تقوم فيما سيأتي وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي على تقدير قيامها إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى أي للحالة الحسنى من الكرامة، والتأكيد بالقسم هنا ليس لقيام الساعة بل لكونه مجزيا بالحسنى باستحقاقه للكرامة لاعتقاده أن ما أصابه من نعم الدنيا لاستحقاقه له وإن نعم الآخرة كذلك فلا تنافي بين إن التي الأصل فيها أن تستعمل لغير المتقين وبين التأكيد بالقسم وإن واللام وتقديم الظرفين وصيغة التفضيل فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا لنعلمنهم بحقيقة أعمالهم ولنبصرنهم بعكس ما اعتقدوا فيها فيظهر لهم أنهم مستحقون للإهانة لا الكرامة كما توهموا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ لا يمكنهم التفصي عنه لشدته فهو كوثاق غليظ لا يمكن قطعه وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ عن الشكر وَنَأى بِجانِبِهِ تكبر واختال على أن الجانب بمعنى الناحية والمكان ثم نزل مكان الشيء وجهته كناية منزلة الشيء نفسه، ومنه قوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ [الرحمن: 46] وقول الشاعر:(13/5)
ذعرت به القطا ونفيت عنه ... مقام الذئب كالرجل اللعين
وقول الكتاب حضرة فلان ومجلسه العالي وكتبت إلى جهته وإلى جانبه العزيز يريدون نفسه وذاته فكأنه قيل:
نأى بنفسه ثم كنى بنفسه عن التكبر والخيلاء، وجوز أن يراد بِجانِبِهِ عطفه ويكون عبارة عن الانحراف والازورار كما قالوا: ثنى عطفه وتولى بركنه والأول مشتمل على كنايتين، وضع الجانب موضع النفس والتعبير عن التكبير البالغ بنحو ذهب بنفسه وهذا على واحدة على ما في الكشف، وجعل بعضهم الجانب والجنب حقيقة كالعطف في الجارحة وأحد شقي البدن مجازا في الجهة فلا تغفل، وعن أبي عبيدة نأى بجانبه إن نهض به وهو عبارة عن التكبر كشمخ بأنفه، والباء للتعدية ثم إن التعبير عن ذات الشخص بنحو المقام والمجلس كثيرا ما يكون لقصد التعظيم والاحتشام عن الصريح بالاسم وهو يتركون التصريح به عند إرادة تعظيمه قال زهير:
فعرض إذا ما جئت بالبان والحمى ... وإياك أن تنسى فتذكر زينبا
سيكفيك من ذاك المسمى إشارة ... فدعه مصونا بالجلال محجبا
ومن هنا قال الطيبي: إن ما هنا وارد على التهكم. وقرىء «ونآ» بإمالة الألف وكسر النون للاتباع «وناء» على القلب كما قالوا راء في رأى وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ أي كثير مستمر مستعار مما له عرض متسع وأصله مما يوصف به الأجسام وهو أقصر الامتدادين وأطولهما هو الطول، ويفهم في العرف من العريض الاتساع وصيغة المبالغة وتنوين التكثير يقويان ذلك، ووصف الدعاء بما ذكر يستلزم عظم الطول أيضا لأنه لا بد أن يكون أزيد من العرض وإلا لم يكن طولا، والاستعارة في كل من الدعاء والعريض جائزة ولا يخفى كيفية إجرائها.
وذكر بعض الأجلة أن الآيات قد تضمنت ضربين من طغيان جنس الإنسان فالأول في بيان شدة حرصه على الجمع وشدة جزعه على الفقد والتعريض بتظليم ربه سبحانه في قوله هذا لِي مدمجا فيه سوء اعتقاده في المعاد المستجلب لتلك المساوي كلها، والثاني في بيان طيشه المتولد عنه إعجابه واستكباره عند وجود النعمة واستكانته عند فقدها وقد ضمن في ذلك ذمه بشغله عن المنعم في الحالتين، أما في الأول فظاهر، وأما في الثاني فلأن التضرع جزعا على الفقد ليس رجوعا إلى المنعم بل تأسف على الفقد المشغل عن المنعم كل الأشغال، وذكر أن في ذكر الوصفين ما يدل على أنه عديم النهية أي العقل ضعيف المنة أن القوة فإن اليأس والقنوط ينافيان الدعاء العريض وأنه عند ذلك كالغريق المتمسك بكل شيء انتهى، ومنه يعلم جواب ما قيل: كونه يدعو دعاء عريضا متكررا ينافي وصفه بأنه يؤوس قنوط لأن الدعاء فرع الطعم والرجاء وقد اعتبر في القنوط ظهور أثر اليأس فظهور ما يدل على الرجاء يأباه، وأجاب آخرون بأنه يجوز أن يقال: الحال الثاني شأن بعض غير البعض الذي حكى عنه اليأس والقنوط أو شأن الكل في بعض الأوقات، واستدل بعضهم بقوله تعالى: فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ على أن الإيجاز غير الاختصار وفسره لهذه الآية بحذف تكرير الكلام مع اتحاد المعنى والإيجاز بحذف طوله وهو الإطناب وهو استدلال بما لا يدل إذ ليس فيها حذف ذلك العرض فضلا عن تسميته قُلْ أَرَأَيْتُمْ إلخ رجوع لإلزام الطاعنين والملحدين وختم للسورة بما يلتفت لفت بدنها وهو من الكلام المنصف وفيه حث على التأمل واستدراج للاقرار مع ما فيه من سحر البيان وحديث الساعة وقع في البين تتميما للوعيد وتنبيها على ما هم فيه من الضلال البعيد كذا قيل، وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط الكلام في ذلك، ومعنى أَرَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كانَ أي القرآن مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مع تعاضد موجبات الإيمان به، وثُمَّ كما قال النيسابوري للتراخي الرتبي مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ أي خلاف بَعِيدٍ غاية البعد عن(13/6)
الحق، والمراد ممن هو في شقاق المخاطبون، ووضع الظاهر موضع ضميرهم شرحا لحالهم بالصلة وتعليلا لمزيد ضلالهم، وجملة مَنْ أَضَلُّ على ما قال ابن الشيخ سادّة مسد مفعولي رَأَيْتُمْ وفي البحر المفعول الأول محذوف تقديره أرأيتم أنفسكم والثاني هو جملة الاستفهام، وأيا ما كان فجواب الشرط محذوف، قال النيسابوري:
تقديره مثلا فمن أضل منكم، وقيل: إن كان من عند الله ثم كفرتم به فأخبروني من أضل منكم، ولعله الأظهر. وقوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ إلخ مرتبط على ما اختاره صاحب الكشاف بقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إلخ على وجه التتميم والإرشاد إلى ما ضمن من الحث على النظر ليؤدي إلى المقصود فيهدوا إلى إعجازه ويؤمنوا بما جاء به ويعملوا بمقتضاه ويفوزوا كل الفوز، وفسر الآيات بما أجرى الله تعالى على يدي نبيه صلّى الله عليه وسلّم وعلى أيدي خلفائه وأصحابهم رضي الله تعالى عنهم من الفتوحات الدالة على قوة الإسلام وأهله ووهن الباطل وحزبه، والآفاق النواحي أفق بضمتين وأفق بفتحتين أي سنريهم آياتنا في النواحي عموما من مشارق الأرض ومغاربها وشمالها وجنوبها، وفيه أن هذه الإرادة كائنة لا محالة حق لا يحوم حولها ريبة وَفِي أَنْفُسِهِمْ في بلاد العرب خصوصا وهو من عطف جبريل على ملائكته، وفي العدول عنها إلى المنزل ما لا يخفى من تمكين ذلك النصر وتحقيق دلالته على حقية المطلوب إثباته وإظهار أن كونه آية بالنسبة إلى الأنفس وإن كان كونه فتحا بالنسبة إلى الأرض والبلدة حَتَّى يَتَبَيَّنَ يظهر لَهُمْ أَنَّهُ أي القرآن هو الْحَقُّ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فهو الحق كله من عند الله تعالى المطلع على كل غيب وشهادة فلهذا نصر حاملوه وكانوا محقين، وفي التعريف من الفخامة ما لا يخفى جلالة وقدرا، وفيما ذكر إشارة إلى أنه تعالى لا يزال ينشىء فتحا بعد فتح وآية غب آية إلى أن يظهره على الدين كله ولو كره المشركون فانظر إلى هذه الآية الجامعة كيف دلت على حقية القرآن على وجه تضمن حقية أهله ونصرتهم على المخالفين وأعظم بذاك تسليا عما أشعرت به الآية السابقة من انهماكهم في الباطل إلى حد يقرب من اليأس، وقيل: الضمير للرسول عليه الصلاة والسلام أو الدين أو التوحيد ولعل الأول أولى أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ استئناف وارد لتوبيخهم على إنكارهم تحقق الإرادة.
والهمزة للإنكار والواو على أحد الرأيين للعطف على مقدر دخلت عليه الهمزة يقتضيه المقام والباء مزيدة للتأكيد و (ربك) فاعل كفى وزيادة الباء في فاعلها هو القول المشهور المرضي للنحاة وتزاد في فاعل فعل التعجب أيضا نحو أحسن بزيد فإن أحسن فعل ماض جيء به على صيغة الأمر والباء زائدة وزيد فاعل عند جماعة من النحويين ولا تكاد تزاد في غيرهما، وقوله:
ألم يأتيك والأنباء تنمى ... بما لاقت لبون بني زياد
شاذ قبيح على ما قال الشهاب، وقوله تعالى: أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ بدل من الفاعل بدل اشتمال، وقيل:
هو بتقدير حرف الجر أي أو لم يكفهم ربك بأنه إلخ، وما للنحويين في مثل هذا التركيب من الكلام شهير، أي أنكروا إراءة ذلك الدالة على حقيقة القرآن ولم يكفهم دليلا أنه عزّ وجلّ مطلع على كل شيء عالم به ومن ذلك حالهم وحالك الموجبان حكمة نصرك عليهم وخذلانهم، وكأن ذلك لظهوره نزل منزلة المعلوم لهم.
وفي الكشف أي أو لم يكفهم أن ربك سبحانه مطلع على كل شيء يستوي عنده غيب الأشياء وشهادتها على معنى أو لم يكفهم هذه الإراءة دليلا قاطعا ولما كان ما وعده غيبا عنهم كيف وقد نزل وهم في حال ضعف وقلة يقاسون ما يقاسون من مشركي مكة قيل: أو لم يكفهم اطلاع من هذا الكتاب الحق من عنده على كل غيب وشهادة دليلا على كينونة الإراءة وإحضار ذلك الغيب عندهم إذ لا غيب بالنسبة إليه تعالى، وفي العدول إلى هذه العبارة(13/7)
فائدتان: إحداهما تحقيق إنجاز ذلك الموعد كأنه مشاهد بذكر الدليل القاطع على الوقوع. والثانية الدلالة على أن هذه الإراءة الآن وهم في ضعف وقلة قد تمت بالنسبة إلى إثبات حقية القرآن لأن من علم أنه تعالى على كل شيء شهيد وعلم أن القرآن معجز من عنده علم أن جميع ما فيه حق وصدق فعلم أن تلك النصرة كائنة.
والحاصل أنه كما يستدل من تلك الآيات على حقية القرآن وحقية أهله تارة يستدل من إعجاز القرآن على حقية تلك الآيات وقوعا وحقية أهل الإسلام أخرى فأدى المعنيان في عبارة جامعة تؤدي الغرضين على وجه لا يمكن أتم منه انتهى. ولا يخفى أن في الآية عليه نوعا من الالغاز، وقيل: أي ألم يغنهم عن إراءة الآيات الموعودة المبينة لحقية القرآن ولم يكفهم في ذلك أنه تعالى شهيد على جميع الأشياء وقد أخبر بأنه من عنده عزّ وجلّ، وهو كما ترى، وقيل: المعنى ولم يكفك أنه تعالى على كل شيء محقق له فيحقق أمرك بإظهار الآيات الموعودة كما حقق سائر الأشياء الموعودة. وتعقب بأنه مع إيهامه ما لا يليق بجلالة منصبه صلّى الله عليه وسلّم من التردد فيما ذكر من تحقق الموعود لا يلائم قوله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أي في شك عظيم من ذلك بالبعث لاستبعادهم إعادة الموتى بعد تبدد أجزائهم وتفرق أعضائهم فلا يلتفتون إلى أدلة ما ينفعهم عند لقائه تعالى كحقية القرآن لأنه صريح في أن عدم الكفاية معتبر بالنسبة إليهم.
وقوله تعالى أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ لبيان ما يترتب على تلك المرية بناء على أن المعنى أنه تعالى عالم بجميع الأشياء على أكمل وجه فلا يخفى عليه جلّ وعلا خافية منهم فيجازيهم جل جلاله على كفرهم ومريتهم لا محالة.
وقيل: دفع لمريتهم وشكهم في البعث وإعادة ما تفرق واختلط مما يتوهمون عدم إمكان تمييزه أي إنه تعالى عالم بجمل الأشياء وتفاصيلها مقتدر عليها لا يفوته شيء منها فهو سبحانه يعلم الأجزاء ويقدر على البعث.
هذا وما ذكر في تفسير سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ في معنى ما روي عن الحسن ومجاهد والسدي وأبي المنهال وجماعة قالوا: إن قوله سبحانه: سَنُرِيهِمْ إلخ وعيد للكفار بما يفتحه الله تعالى على رسوله صلّى الله عليه وسلّم من الأقطار حول مكة وفي غير ذلك من الأرض كخيبر وأراد بقوله تعالى: فِي أَنْفُسِهِمْ فتح مكة، وقال الضحاك وقتادة: في الآفاق ما أصاب الأمم المكذبة في أقطار الأرض قديما وفي أنفسهم ما كان يوم بدر فإن في ذلك دلالة على نصرة من جاء بالحق وكذب من الأنبياء عليهم السلام فيدل على حقية النبي صلّى الله عليه وسلّم وما جاء به من القرآن. وأورد عليه أن سَنُرِيهِمْ يأبى كون ما في الآفاق ما أصاب الأمم المكذبة لكونه مرئيا لهم قبل. وقال عطاء وابن زيد: إن معنى سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ أي أقطار السماء والأرض من الشمس والقمر وسائر الكواكب والرياح والجبال الشامخة وغير ذلك وفي أنفسهم من لطيف الصنعة وبديع الحكمة، وضعف ذلك الإمام بنحو ما سمعت آنفا. وأجيب بأن القوم وإن كانوا قد رأوا تلك الآيات إلا أن العجائب التي أودعها الله تعالى فيها مما لا نهاية لها فهو سبحانه يطلعهم عليها زمانا قريبا حالا فحالا فإن كل أحد يشاهد بنية الإنسان إلا أن العجائب المودعة في تركيبها لا تحصى وأكثر الناس غافلون عنها فمن حمل على التفكير فيها بالقوارع التنزيلية والتنبيهات الإلهية كلما ازداد تفكرا ازداد وقوفا فصح معنى الاستقبال.
واختار ذلك صاحب الكشف تبعا لغيره وبين وجه مناسبة الآيات لما قبلها عليه، وجعل ضمير أَنَّهُ الْحَقُّ لله عزّ وجلّ فقال: إن قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إشعارا بأن كونه من عنده سبحانه ينافي الكفر به وإنهم مسلمون ذلك لكن يطعنون في كونه من عنده عزّ وجلّ ولذا جعل نحو أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [النحل: 24] في جواب قولهم ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ [النحل: 24] أنه إعراض عن كونه منزلا وجواب بأنه أساطير لا منزل فأريد أن يبين(13/8)
إثبات كونه حقا من عنده تعالى على سبيل الكناية ليكون أوصل إلى الغرض ويناسب ما بني عليه الكلام من سلوك طريق الإنصاف فقيل: سَنُرِيهِمْ أي سيرى الله تعالى، والالتفات للدلالة على زيادة الاختصاص وتحقيق ثبوت الإراءة ثم قيل: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أي إن الله جلّ جلاله هو الحق من كل وجه ذاتا وصفة وقولا وفعلا وما سواه باطل من كل وجه لا حق إلا هو سبحانه وإذا تبين لهم حقيته عز شأنه من كل وجه يلزم ثبوت القرآن وكونه من عنده تعالى بالضرورة، ثم قيل: أو لم يكف بربك أي أو لم يكفك شهوده تعالى على كل شيء فمنه سبحانه تشهد كل شيء لا من آيات الآفاق والأنفس تشهده تعالى فالأول استدلال بالأثر على المؤثر والثاني من المؤثر على الأثر وهذا هو اللمي العيني، وفي قوله تعالى: بِرَبِّكَ مضافا إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم وإيثاره على أولم يكف به إشعار بأنه عليه الصلاة والسلام وأتباعه من كل العارفين هم الذين يكفيهم شهوده على كل شيء دليلا وأن ذلك لهم نفس عنايته تعالى وتربيته من دون مدخل لتعلمهم فيه بخلاف الأول، ثم قيل: أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ فلهذا لا يكفيهم أنه تعالى على كل شيء شهيد لأنه لا شهود لهم ليشهدوا شهوده تعالى فهو شامل لفريقي الأبرار والكفار، أما الكفار فلأنهم في شك في الأصل، وأما الأبرار فلأنهم في شك من الشهود أي لا علم لهم به إلا إيمانا متمحضا عن التقليد.
وإطلاق المرية للتغلب ولا يخفى حسن موقعه، ثم قيل: أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ تتميما لقوله تعالى:
أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ لأن من أحاط بكل شيء علما وقدرة لم يتخلف شيء عن شهوده فمن شهده شهد كل شيء فهذا هو الوجه في تعميم الآيات من غير تخصيص لها بالفتوح وهو أنسب من قول الحسن ومجاهد وأجري على قواعد الصوفية وعلماء الأصول رحمة الله تعالى عليهم أجمعين انتهى، وقد أبعد عليه الرحمة المغزى وتكلف ما تكلف، ونقل العارف الجامي قدس سره في نفحاته عن القاشاني أن قوله تعالى: سَنُرِيهِمْ إلخ يدل على وحدة الوجود، وقد رأيت في بعض كتب القوم الاستدلال به على ذلك وجعل ضمير أَنَّهُ الْحَقُّ إلى المرئي وتفسير الْحَقُّ بالله عزّ وجلّ، ومن هذا ونحوه قال الشيخ الأكبر قدس سره: سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها وهذه الوحدة هي التي حارت فيها الأفهام وخرجت لعدم تحقيق أمرها رقاب من ربقة الإسلام، وللشيخ إبراهيم الكوراني قدس سره النوراني عدة رسائل في تحقيق الحق فيها وتشييد مبانيها نسأل الله تعالى أن يمن علينا بصحيح الشهود ويحفظنا بجوده عما علق بأذهان الملاحدة من وحدة الوجود، وقرىء «إنه على كل شيء شهيد» بكسر همزة إن على إضمار القول، وقرأ السلمي. والحسن «في مرية» بضم الميم وهي لغة فيها كالكسر ونحوها خفية يضم الخاء وكسرها والكسر أشهر لمناسبة الياء.
ومن كلمات القوم في الآيات: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ فيه إشارة إلى أن أجر المؤمن الغير العامل ممنون أي منقوص بالنسبة إلى أجر المؤمن العامل وأجر هذا العامل على الأعمال البدنية كالصلاة والحج الجنة، وعلى الأعمال القلبية كالرضا والتوكل الشوق والمحبة وصدق الطلب، وعلى الأعمال الروحانية كالتوجه إلى الله تعالى كشف الأسرار وشهود المعاني والاستئناس بالله تعالى والاستيحاش من الخلق والكرامات، وعلى أعمال الأسرار كالإعراض عن السوي بالكلية دوام التجلي قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ أي أرض البشرية فِي يَوْمَيْنِ يومي الهوى والطبيعة وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً من الهوى والطبيعة وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ العقول الإنسانية وَبارَكَ فِيها بالحواس الخمس وَقَدَّرَ فِيها أقواتها من القوى البشرية ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ سماء القلب وَهِيَ دُخانٌ هيولى إلهية فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ هي الأطوار السبعة للقلب فالأول محل الوسوسة والثاني مظهر الهواجس والثالث معدن الرؤية ويسمى الفؤاد والرابع منبع الحكمة ويسمى القلب(13/9)
والخامس مرآة الغيب ويسمى السويداء والسادس مثوى المحبة ويسمى الشغاف والسابع مورد التجلي ومركز الأسرار ومهبط الأنوار ويسمى الحبة فِي يَوْمَيْنِ يومي الروح الإنساني والإلهام وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وهي أنوار الاذكار والطاعات إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ يوم خوطبوا بأ لست بربكم؟ ثُمَّ اسْتَقامُوا على إقرارهم لما خرجوا إلى عالم الصور ولم ينحرفوا عن ذلك كالمنافقين والكافرين، وذلك أن الاستقامة متفاوتة فاستقامة العوام في الظاهر بالأوامر والنواهي وفي الباطن بالإيمان واستقامة الخواص في الظاهر بالرغبة عن الدنيا وفي الباطن بالرغبة عن الجنان شوقا إلى الرحمن واستقامة خواص الخواص في الظاهر برعاية حقوق المبايعة بتسليم النفس والمال وفي الباطن بالفناء والبقاء تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ تنزلا متفاوتا حسب تفاوت مراتبهم، وعن بعض أئمة أهل البيت أن الملائكة لتزاحمنا بالركب أو ما هذا معناه وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ هي أيضا متفاوتة فمنهم من يبشر بالجنة المعروفة ومنهم من يبشر بجنة الوصال ورؤية الملك المتعال وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ بترك ما سواه وَعَمِلَ صالِحاً لئلا يخالف حاله قاله وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ المنقادين لحكمه تعالى الراضين بقضائه وقدره، وفيه إشارة إلى صفات الشيخ المرشد وما ينبغي أن يكون عليه ويحق أن يقال في كثير من المتصدين للإرشاد في هذا الزمان المتلاطمة أمواجه بالفساد:
خلت الرقاع من الرخاخ ... وتفرزنت فيها البيادق
وتصاهلت عرج الحمير ... وذاك من عدم السوابق
وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وهي التوجه إلى الله تعالى بصدق الطلب وخلوص المحبة وَلَا السَّيِّئَةُ وهي طلب السوي والرضا بالدون ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وهي طلب الله تعالى ما سواه سبحانه فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ وهو النفس الأمارة بالسوء كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ لتزكي النفس عن صفاتها الذميمة وانفطامها عن المخالفات القبيحة وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ
لتميل إلى ما يهوى فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ وارجع إليه سبحانه لئلا يؤثر فيك نزغه، وفيه إشارة إلى أنه لا ينبغي الأمن من المكر والغفلة عن الله عزّ وجلّ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا فيه إشارة إلى سوء المنكرين على الأولياء فإنهم من آيات الله تعالى والإنكار من الإلحاد نسأل الله تعالى العفو والعافية قُلْ هُوَ أي القرآن لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ على حسب مراتبهم فمنهم من يهديه إلى شهود الملك العلام فعن الصادق على آبائه وعليه السلام لقد تجلى الله تعالى في كتابه لعباده ولكن لا يبصرون سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ فيه إشارة إلى أن الخلق لا يرون الآيات إلا بإراءته عزّ وجلّ وهي كشف الحجب ليظهر أن الإيمان ما شمت رائحة الوجود ولا تشمه أبدا وأنه عزّ وجلّ هو الأول والآخر والظاهر والباطن كان الله ولا شيء معه وهو سبحانه الآن على ما عليه كان وإليه الإشارة عندهم بقوله تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ومن هنا قال الشيخ الأكبر قدس سره:
ما آدم في الكون ما إبليس ... ما ملك سليمان وما بلقيس
الكل إشارة وأنت المعنى ... يا من هو للقلوب مغناطيس
وأكثر كلامه قدس سره من هذا القبيل بل هو أم وحدة الوجود وأبوها وابنها وأخوها، وإياك أن تقول كما قال ذلك الأجل حتى تصل بتوفيق الله تعالى إلى ما إليه وصل والله عزّ وجلّ الهادي إلى سواء السبيل، تم الكلام على السورة والحمد لله على جزيل نعمائه والصلاة والسلام على رسوله محمد مظهر أسمائه وعلى آله وأصحابه وسائر أتباعه وأحبائه وصلاة وسلاما باقيين إلى يوم لقائه.(13/10)
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)
سورة الشّورى
وتسمى سورة حم عسق وعسق نزلت على ما روي عن ابن عباس وابن الزبير بمكة وأطلق غير واحد القول بمكيتها من غير استثناء، وفي البحر هي مكية إلا أربع آيات من قوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: 23] إلى آخر أربع آيات وقال مقاتل: فيها مدني قوله تعالى: ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ إلى الصُّدُورِ [الشورى: 23. 24] واستثنى بعضهم قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى [الشورى: 24] إلخ، قال الجلال السيوطي: ويدل له ما أخرجه الطبراني والحاكم في سبب نزولها فإنها نزلت في الأنصار، وقوله سبحانه: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ [الشورى: 27] إلخ فإنها نزلت في أصحاب الصفة رضي الله تعالى عنهم، واستثنى أيضا الَّذِينَ إِذا(13/11)
أَصابَهُمُ الْبَغْيُ
إلى قوله تعالى: مِنْ سَبِيلٍ [الشورى: 39. 41] حكاه ابن الفرس، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يدل على استثناء غير ذلك على بعض الروايات، وجوز أن يكون الإطلاق باعتبار الأغلب وعدد آياتها ثلاث وخمسون في الكوفي وخمسون فيما عداه والخلاف في حم عسق وقوله تعالى: كَالْأَعْلامِ [الشورى: 32] كما فصله الداني وغيره، ومناسبة أولها لآخر السورة قبلها اشتمال كل على ذكر القرآن وذب طعن الكفرة فيه وتسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم عسق لعلهما اسمان للسورة وأيد بعدهما آيتين والفصل بينهما في الخط وبورود تسميتها عسق من غير ذكر حم، وقيل: هما اسم واحد وآية واحدة وحقه أن يرسم متصلا كما في كهيعص [مريم: 1] لكنه فصل ليكون مفتتح السورة على طرز مفتتح أخواتها حيث رسم في كل مستقلا وعلى الأول هما خبران لمبتدأ محذوف. وقيل: حم مبتدأ وعسق خبره وعلى الثاني الكل خبر واحد، وقيل: إن حم عسق إشارة إلى هلاك مدينتين تبنيان على نهر من أنهار المشرق يشق النهر بينهما يجتمع فيهما كل جبار عنيد يبعث الله تعالى على إحداهما نارا ليلا فتصبح سوداء مظلمة قد احترقت كأنها لم تكن مكانها ويخسف بالأخرى في الليلة الأخرى، وروي ذلك عن حذيفة، وقيل: إن حم اسم من أسماء الله تعالى و «عين» إشارة إلى عذاب يوم بدر و «سنين» إشارة إلى قوله تعالى: سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [الشعراء: 227] و «قاف» إلى قارعة من السماء تصيب الناس، وروي ذلك بسند ضعيف عن أبي ذر، والذي يغلب على الظن عدم ثبوت شيء من الروايتين.
وفي البحر ذكر المفسرون في حم عسق أقوالا مضطربة لا يصلح منها شيء ضربنا عن ذكرها صفحا، وما ذكرناه أولا قد اختاره غير واحد، ومنهم من اختار أنها مقطعات جيء بها للايقاظ، وقرأ ابن عباس وابن مسعود «حم سق» بلا عين.
وقوله تعالى: كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ كلام مستأنف وارد لتحقيق أن مضمون السورة موافق لما في تضاعف الكتب المنزلة على سائر الرسل المتقدمين في الدعوة إلى التوحيد والإرشاد إلى الحق أو أن إيحاءها بعد تنويهها بذكر اسمها والتنبيه على فخامة شأنها، والكاف مفعول «يوحي» على الأول أن يوحي مثل ما في هذه السورة من المعاني أو نعت لمصدر مؤكد على الثاني أي يوحي إيحاء مثل إيحائها إليك وإلى الرسل أي بواسطة الملك، وهي في الوجهين اسم كما هو مذهب الأخفش وإن شئت فاعتبرها حرفا واعتبر الجار والمجرور مفعولا أو متعلقا بمحذوف وقع نعتا، وقول العلامة الثاني في التلويح إن جار الله لا يجوز الابتداء بالفعل ويقدر المبتدأ في جميع ما يقع فيه الفعل ابتداء كلام غير مسلم وقد ترددوا فيه حتى قيل: إنه لم يظهر له وجه.
وجوز أبو البقاء كون كَذلِكَ مبتدأ ويُوحِي الخبر والعائد محذوف أي مثل ذلك يوحيه إليك إلخ وحذف مثله شائع في الفصيح، نعم هذا الوجه خلاف الظاهر، والإشارة كما أشرنا إليه إلى ما في السورة أو إلى إيحائها، والدلالة على البعد لبعد منزلة المشار إليه في الفضل، وصيغة المضارع على حكاية الحال الماضية للدلالة على استمراره في الأزمنة الماضية وإن إيحاء مثله عادته عزّ وجلّ، وقيل: إنها على التغلب فإن الوحي إلى من مضى مضى إليه عليه الصلاة والسلام بعضه ماض وبعضه مستقبل، وجوز أن تكون على ظاهرها ويضمر عامل يتعلق به إِلَى الَّذِينَ أي وأوحى إلى الذين وهو كما ترى، وفي جعل مضمون السورة أو إيحائها مشبها به من تفخيمها ما لا يخفى.
وقرأ مجاهد وابن كثير وعياش ومحبوب كلاهما عن أبي عمرو «يوحى» مبنيا للمفعول على أن كَذلِكَ مبتدأ ويُوحِي خبره المسند إلى ضميره أو مصدر ويُوحِي مسند إلى إِلَيْكَ واللَّهُ مرتفع عند السكاكي على الفاعلية ليوحي الواقع في جواب من يوحي؟ نحو ما قرروه في قوله تعالى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ(13/12)
وَالْآصالِ رِجالٌ
[النور: 36. 37] على قراءة «يسبّح» بالبناء للمفعول، وقوله:
ليبك يزيد ضارع لخصومة ... ومختبط مما تطيح الطوائح
وقال الزمخشري: رافعه ما دل عليه يُوحِي كأن قائلا قال: من الموحي؟ فقيل: الله وإنما قدر كذلك على ما قاله صاحب الكشف ليدل على أن الإيحاء مسلم معلوم وإنما الغرض من الإخبار إثبات اتصافه بأنه تعالى من شأنه الوحي لا إثبات أنه موح، ولم يرتض القول بعدم الفرق بين هذا وقوله تعالى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ بل أوجب الفرق لأن الفعل المضارع هنالك على ظاهره لم يؤت به للدلالة على الاستمرار ولهم فيه مقال.
والْعَزِيزُ الْحَكِيمُ صفتان له تعالى عند الشيخين، وجوز أبو حيان كون الاسم الجليل مبتدأ وما بعده خبر له وقيل: اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إلى آخر السورة قائم مقام فاعل يُوحِي أي هذه الكلمات.
وقرأ أبو حيوة والأعشى عن أبي بكر وأبان «نوحي» بنون العظمة فالله مبتدأ وما بعده خبر أو الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ صفتان، وقوله تعالى: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ خبر له، وعلى الأوجه السابقة استئناف مقرر لعزته تعالى وحكمته عزّ وجلّ تَكادُ السَّماواتُ وقرىء «يكاد» بالياء يَتَفَطَّرْنَ يتشققن من عظمة الله تعالى وجلاله جل شأنه وروي ذلك عن قتادة: وأخرج جماعة منهم الحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال: تكاد السموات يتفطرن من الثقل، وقيل: من دعاء الشريك والولد له سبحانه كما في سورة مريم، وأيد هذا بقوله تعالى بعد:
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فإيراد الغفور الرحيم بعد لأنهم استوجبوا بهذه المقالة صب العذاب عليهم لكنه صرف عنهم لسبق رحمته عزّ وجلّ، والآية عليه واردة للتنزيه بعد إثبات المالكية والعظمة، والأول أولى في هذا المقام لأن الكلام مسوق لبيان عظمته تعالى وعلوه جل جلاله ويؤيده ترك العاطف، ويليه ما روي عن الحبر فإن الآية وإن تضمنت عليه الغرض المسوق له الكلام لكن دلالتها عليه بناء على القول الأول أظهر.
وقرأ البصريان وأبو بكر «ينفطرن» بالنون، والأول أبلغ لأن المطاوع والمطاوع من التفعيل والتفعل الموضوع للمبالغة بخلاف الثاني فإنه انفعال مطاوع للثلاثي، وروى يونس عن أبي عمرو أنه قرأ «تتفطرن» بتاءين ونون في آخره على ما في الكشاف، و «تنفطرن» بتاء واحدة ونون على ما في البحر عن ابن خالويه وهو على الروايتين شاذ عن القياس والاستعمال لأن العرب لا تجمع بين علامتي التأنيث فلا تقول النساء تقمن ولا الوالدات ترضعن، والوجه فيه تأكيد التأنيث كتأكيد الخطاب في أرأيتك ومثله ما رواه أبو عمر الزاهد في نوادر ابن الأعرابي الإبل تتشممن. مِنْ فَوْقِهِنَّ أي يبتدأ التفطر من جهتهن الفوقانية، وتخصيصها على الأول في سبب التفطر لما أن أعظم الآيات وأدلها على العظمة والجلال كالعرش والكرسي والملائكة من تلك الجهة ولذا كانت قبلة الدعاء، وعلى الثالث للدلالة على التفطر من تحتهن بالطريق الأولى لأن تلك الكلمة الشنعاء الواقعة في الأرض حين أثرت من جهة الفوق فلأن تؤثر من جهة التحت أولى، وكذا على الثاني لأن العادة تفطر سطح البيت مثلا من جهة التحتانية بحصول ثقل عليه، وقيل:
الضمير للأرض أي لجنسها فيشمل السبع ولذا جمع الضمير وهو خلاف الظاهر، وقال علي بن سليمان الأخفش:
الضمير للكفار والمراد من فوق الفرق والجماعات الملحدة، وبهذا الاعتبار أنث الضمير، وفي ذلك إشارة إلى أن التفطر من أجل أقوال هاتيك الجماعات، وفيه ما فيه.
وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ينزهونه سبحانه عما لا يليق به جلّ جلاله ملتبسين بحمده عزّ وجلّ، وقيل: يصلون والظاهر العموم في الملائكة، وقال مقاتل المراد بهم حملة العرش وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ(13/13)
بالسعي فيما يستدعي مغفرتهم من الشفاعة والإلهام وترتيب الأمور المقربة إلى الطاعة كالمعاونة في بعض أمور المعاش ودفع العوائق واستدعاء تأخير العقوبة طمعا في إيمان الكافر وتوبة الفاسق وهذا يعم المؤمن والكافر بل لو فسر الاستغفار بالسعي فيما يدفع الخلل المتوقع عم الحيوان بل الجماد، وهو فيما ذكر مجاز مرسل واستعارة.
وقال السدي وقتادة: المراد بمن في الأرض المؤمنون لقوله تعالى في آية أخرى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر: 7] والمراد بالاستغفار عليه حقيقته، وقيل: الشفاعة.
أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ إذ ما من مخلوق إلا وله حظ عظيم من رحمته تعالى وإنه سبحانه لذو مغفرة للناس على ظلمهم، وفيه إشارة إلى قبول استغفار الملائكة عليهم السلام وأنه سبحانه يزيدهم على ما طلبوه من المغفرة رحمة، والآية على كون قوله تعالى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ لبيان عظمته جلّ شأنه مقررة لما دل عليه ذلك ومؤكدة لأن تسبيح الملائكة وتنزيههم له تعالى لمزيد عظمته تبارك وتعالى وعظيم جلاله جل وعلا والاستغفار لغيرهم للخوف عليهم من سطوة جبروته عزّ وجلّ والتذييل بقوله تعالى: أَلا إِنَّ اللَّهَ إلخ على هذا ظاهر، وعلى كون تفطر السموات لنسبة الولد والشريك بيان لكمال قدسه تعالى عما نسب إليه عزّ وجلّ فيكون تسبيحهم عما يقوله الكفرة واستغفارهم للمؤمنين الذين تبرأوا عما صدر من هؤلاء والتذييل للإشارة إلى سبب ترك معاجلة العذاب مع استحقاقهم له وعمم بعض المستغفر لهم وأدخل استغفار الملائكة في سبب ترك المعاجلة وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ شركاء وأندادا اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ رقيب على أحوالهم وأعمالهم فيجازيهم بها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أي بموكل بهم أو بموكول إليك أمرهم وإنما وظيفتك البلاغ والإنذار فوكيل فعيل بمعنى مفعول من المزيد أو الثلاثي، وما في هذه الآية من الموادعة على ما في البحر منسوخ بآية السيف وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا ذلك إشارة إلى مصدر أَوْحَيْنا ومحل الكاف على ما ذهب إليه الأخفش من ورودها اسما النصب على المصدرية وقُرْآناً مفعول لأوحينا أي ومثل ذلك الإيحاء البديع البين المفهم أوحينا إليك قرآنا عربيا لا لبس فيه عليك ولا على قومك، وقيل: إشارة إلى ما تقدم من اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ فالكاف مفعول لأوحينا وقُرْآناً عَرَبِيًّا حال من المفعول به أي أوحيناه إليك وهو قرآن عربي، وجوز نصبه على المدح أو البدلية من كذلك، وقيل: أولى من هذا أن يكون إشارة إلى معنى الآية المتقدمة من أنه تعالى هو الحفيظ عليهم وأنه عليه الصلاة والسلام نذير فحسب لأنه أتم فائدة وأشمل عائدة ولا بد عليه من التجوز في قرآنا عربيا إذ لا يصح أن يقال أوحينا ذلك المعنى وهو قرآن عربي لأن القرآنية والعربية صفة اللفظ لا المعنى لكن أمره سهل لقربه من الحقيقة لما بين اللفظ والمعنى من الملابسة القوية حتى يوصف أحدهما بما يوصف به الآخر مع ما في المجاز في البلاغة لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى أي أهل أم القرى على التجوز في النسبة أو بتقدير المضاف والمراد بأم القرى مكة، وسميت بذلك على ما قال الراغب لما روي أنه دحيت الدنيا من تحتها فهي كالأصل لها والأم تقال لكل ما كان أصلا لشيء، وقد يقال هي أم لما حولها من القرى لأنها حدثت قبلها لا كل قرى الدنيا، وقد يقال لبلد: هي أم البلاد باعتبار احتياج أهالي البلاد إليها وَمَنْ حَوْلَها من العرب على ما ذهب إليه كثير وخص المذكورون بالذكر لأن السورة مكية وهم أقرب إليه عليه الصلاة والسلام وأول من أنذر أو لدفع ما يتوهم من أن أهل مكة ومن حولها لهم طمع في شفاعته صلّى الله عليه وسلّم وإن لم يؤمنوا لحق القرابة والمساكنة والجوار فخصهم بالإنذار لإزالة ذلك الطمع الفارغ، وقيل: مَنْ حَوْلَها جميع أهل الأرض واختاره البغوي وكذا القشيري وقال: لأن الكعبة سرة الأرض والدنيا محدقة بما هي فيه أعني مكة. وهذا عندي لا يكاد يصح مع قولهم: إن عرضها كام وطولها عز وإن المعمور في جانب الشمال أكثر منه في جانب الجنوب وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ أي يوم(13/14)
القيامة لأنه يجمع فيه الخلائق قال الله تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ [التغابن: 9] وقيل: تجمع فيه الأرواح والأشباح، وقيل: الأعمال والعمال، والإنذار يتعدى إلى مفعولين وقد يستعمل ثانيهما بالباء وقد حذف هاهنا ثاني مفعول الأول وهو يَوْمَ الْجَمْعِ والمراد به عذابه وأول مفعول الثاني وهو أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها فقد حذف من الأول ما أثبت في الثاني ومن الثاني ما أثبت في الأول وذلك من الاحتباك. وقال جار الله: الأول عام في الإنذار بأمور الدنيا والآخرة ثم خص بقوله تعالى: وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ يوم القيامة زيادة في الإنذار
وبيانا لعظمة أهواله لأن الإفراد بالذكر يدل عليه وكذلك إيقاع الإنذار عليه ثانيا والظاهر عليه أن حذف المفعول الثاني من الأول لإفادة العموم وإن كان حذف الأول من الثاني لذلك أيضا وتنذر كل أحد يوم الجمع، وقيل: يوم الجمع ظرف فيكون المفعولان محذوفين وقرىء «لينذر» بياء الغيبة على أن الفاعل ضمير القرآن لعدم حسن الالتفات هاهنا لا رَيْبَ فِيهِ اعتراض في آخر الكلام مقرر لما قبله ويحتمل الحالية من يَوْمَ الْجَمْعِ أو الاستئناف فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ أي بعد جمعهم في الموقف فإنهم يجمعون فيه أولا ثم يفرقون بعد الحساب، وَفَرِيقٌ مبتدأ وفِي الْجَنَّةِ صفته والخبر محذوف وكذا فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ أي منهم فريق كائن في الجنة ومنهم فريق كائن في النار، وضمير منهم للمجموعين لدلالة الجمع عليه، وجملة المبتدأ والخبر استئناف في جواب سؤال تقديره ثم كيف يكون حالهم؟ أو حال ولا ركاكة فيه واشتراط الواو فيه غير مسلم، وجوز كون فَرِيقٌ فاعلا للظرف المقدر، وفيه ضعف، وكونه مبتدأ والظرف المقدر في موضع الصفة له وفي الجنة خبره أي فَرِيقٌ كائن منهم مستقر في الجنة، وكونه مبتدأ خبره ما بعده من غير أن يكون هناك ظرف مقدر واقع صفة، وساغ الابتداء بالنكرة لأنها في سياق التفصيل والتقسيم كما في قوله: فثوب لبست وثوب أجر. وكونه خبره مبتدأ محذوف أي المجموعون فريق إلخ.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «فريقا وفريقا» بنصبهما فقيل: هو على الحال من مقدر أي افترقوا أي المجموعون فريقا وفريقا أو من ضمير جمعهم المقدر لأن أل قامت مقامه أي وتنذر يوم جمعهم متفرقين وهو من مجاز المشارفة أي مشارفين للتفرق أو الحال مقدرة فلا يلزم كون افتراقهم في حال اجتماعهم أو يقال إن اجتماعهم في زمان واحد لا ينافي افتراق أمكنتهم كما تقول: صلوا في وقت واحد في مساجد متفرقة فالمراد متفرقين في داري الثواب والعقاب، وإذا أريد بالجمع جمع الأرواح بالأشباح أو الأعمال بالعمال لا يحتاج إلى توفيق أصلا، وجوز كون النصب بتنذر المقدر أو المذكور والمعنى تنذر فريقا من أهل الجنة وفريقا من أهل السعير لأن الإنذار ليس في الجنة والسعير ولا يخفى تكلفه وَلَوْ شاءَ اللَّهُ جعلهم أمة واحدة لَجَعَلَهُمْ أي في الدنيا أُمَّةً واحِدَةً مهتدين أو ضالين وهو تفصيل لما أجمله ابن عباس في قوله: على دين واحد، فمعنى قوله تعالى: وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ أنه تعالى يدخل في رحمته من يشاء أن يدخله فيها ويدخل من يشاء في عذابه أن يدخله فيه ولا ريب في أن مشيئته تعالى لكل من الإدخالين تابعة لاستحقاق كل من الفريقين لدخول ما أدخله ومن ضرورة اختلاف الرحمة والعذاب اختلاف حال الداخلين فيهما قطعا فلم يشأ جعل الكل أمة واحدة بل جعلهم فريقين وإنما قيل وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ وكان الظاهر أن يقال ويدخل من يشاء في عذابه ونقمته للإيذان بأن الإدخال في العذاب من جهة الداخلين بموجب سوء اختيارهم لا من جهته عزّ وجلّ كما في الإدخال في الرحمة، واختار الزمخشري كون المراد أمة واحدة مؤمنين وهو ما قاله مقاتل على دين الإسلام كما في قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى [الأنعام:
35] وقوله سبحانه: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها [السجدة: 13] والمعنى ولو شاء الله تعالى مشيئة قدرة لقسرهم على الإيمان ولكنه سبحانه شاء مشيئة حكمة وكلفهم وبنى أمرهم على ما يختارون ليدخل المؤمنين في(13/15)
رحمته وهم المرادون بقوله تعالى مَنْ يَشاءُ وترك الظالمين بغير ولي ولا نصير، والكلام متعلق بقوله تعالى:
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ كالتعليل للنهي عن شدة حرصه صلّى الله عليه وسلّم على إيمانهم، فالظالمون مظهر أقيم مقام ضمير المتخذين ليفيد أن ظلمهم علة لما بعده أو هو للجنس ويتناولهم تناولا أوليا، وعدل عن الظاهر إلى ما في النظم الجليل إذ الكلام في الإنذار وهو أبلغ في تخويفهم لإشعاره بأن كونهم في العذاب أمر مفروغ منه وإنما الكلام في أنه بعد تحتمه هل لهم من يخلصهم بالدفع أو الرفع فإذا نفي ذلك علم أنهم في عذاب لا خلاص منه.
وتعقب بأن فرض جعل الكل مؤمنين يأباه تصدير الاستدراك بإدخال بعضهم في رحمته تعالى إذ الكل حينئذ داخلون فيها فكان المناسب حينئذ تصديره بإخراج بعضهم من بينهم وإدخالهم في عذابه، وربما يقال: حيث إن الآية متعلقة بما سمعت كان المراد ولو شاء الله تعالى لجعل الجميع مؤمنين كما تريد وتحرص عليه ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك بل جعل بعضهم مؤمنا كما أردت وجعل بعضهم الآخر وهم أولئك المتخذون من دونه أولياء كفارا لا خلاص لهم من العذاب حسبما تقتضيه الحكمة وكان التصدير بما صدر به مناسبا كما لا يخفى على من له ذوق بأساليب الكلام إلا أن الظاهر على هذا أدخل من شاء دون يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ لكن عدل عنه إليه حكاية للحال الماضية، وقال شيخ الإسلام: الذي يقتضيه سياق النظم الكريم وسياقه أن يراد الاتحاد في الكفر كما في قوله تعالى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ [البقرة: 213] الآية على أحد الوجهين، فالمعنى ولو شاء الله تعالى لجعلهم أمة واحدة متفقة على الكفر بأن لا يرسل إليه رسولا لينذرهم ما ذكر من يوم الجمع وما فيه من ألوان الأهوال فيبقوا على ما هم عليه من الكفر ولكن يدخل من يشاء في رحمته سبحانه أي شأنه عز شأنه ذلك فيرسل إلى الكل من ينذرهم ما ذكر فيتأثر بعضهم بالإنذار فيصرفون اختيارهم إلى الحق فيوفقهم الله تعالى للإيمان والطاعات ويدخلهم في رحمته عزّ وجلّ ولا يتأثر به الآخرون ويتمادون في غيبهم وهم الظالمون فيبقون في الدنيا على ما هم عليه من الكفر ويصيرون في الآخرة إلى السعير من غير ولي يلي أمرهم ولا نصير يخلصهم من العذاب انتهى.
ولا يخفى أن بين قوله تعالى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً الآية، وقوله سبحانه: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً بالمعنى الذي اختاره هنا فيهما نوع تناف فتدبر جميع ذلك والله تعالى الموفق أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ جملة مستأنفة مقررة لما قبلها من انتفاء أن يكون للظالمين ولي أو نصير وكلام الكشاف يومي إلى أنه متصل بقوله تعالى: «والذين اتخذوا» إلخ على معنى دع الاهتمام بشأنهم واقطع الطعم في إيمانهم وكيت وكيت أليسوا الذين اتخذوا من دون الله تعالى أولياء وهو سبحانه الولي الحقيقي القادر على كل شيء وعدلوا عنه عزّ وجلّ إلا ما لا نسبة بينه تعالى وبينه أصلا وإن قوله سبحانه وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا الآية اعتراض مؤكد لمضمون الآيتين، وأَمِ على القولين منقطعة وهي تقدر في الأغلب ببل والهمزة، وقدرها جماعة هاهنا بهما إلا أن بل على القول الثاني للإضراب وعلى القول الأول للانتقال من بيان ما قبلها إلى بيان ما بعدها، والهمزة قيل: لإنكار الواقع واستقباحه، وقيل: لا بل لإنكار الوقوع ونفيه على أبلغ وجه وآكده إذ المراد بيان أن ما فعلوا ليس اتخاذ الأولياء في شيء لأن ذلك فرع كون الأصنام أولياء وهو أظهر الممتنعات أي بل اتخذوا متجاوزين الله تعالى أولياء من الأصنام وغيرها فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ قيل: هو جواب شرط مقدر أي إن أرادوا وليا بحق فالله تعالى هو الولي بحق لا ولي بحق سواه عزّ وجلّ، وكونه جواب الشرط على معنى الإخبار ونحوه.
وقال في البحر: لا حاجة إلى اعتبار شرط محذوف والكلام يتم بدونه، ولعله يريد ما قيل: إنه عطف على ما(13/16)
قبله وأنه تعليل للإنكار المأخوذ من الاستفهام كقولك أتضرب زيدا فهو أخوك أي لا ينبغي لك ضربه فإنه أخوك.
وتعقب بأن المعروف في مثله استعماله بالواو وإنما يحسن التعليل في صريح الإنكار، ولا يناسب معنى المضي أيضا وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى أي شأنه ذلك نحو فلان يقري الضيف ويحمي الحريم وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فهو سبحانه الحقيق بأن يتخذ وليا فليخصوه بالاتخاذ دون من لا يقدر على شيء ما أصلا.
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ إلى آخره حكاية لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للمؤمنين أي ما خالفكم الكفار فيه من أمور الدين كاتخاذ الله تعالى وحده وليا فاختلفتم أنتم وهو فَحُكْمُهُ راجع إِلَى اللَّهِ وهو إثابة المحقين وعقاب المبطلين، ويجوز أن يكون كلاما من جهته تعالى متضمنا التسلية ويكون قوله تعالى: ذلِكُمُ إلخ بتقدير قل، والإمام اعتبره من أول الكلام، وأيّا ما كان فالإشارة إليه تعالى من حيث اتصافه بما تقدم من الصفات على ما قاله الطيبي من كونه تعالى هو يحيي الموتى وكونه سبحانه على كل شيء قدير وكونه عزّ وجلّ ما اختلفوا فيه فحكمه إليه، وقال في الإرشاد: أي ذلكم الحاكم العظيم الشأن اللَّهُ رَبِّي مالكي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في مجامع أموري خاصة لا على غيره وَإِلَيْهِ أُنِيبُ أرجع في كل ما يعن لي من معضلات الأمور لا إلى أحد سواه وحيث كان التوكل أمرا واحدا مستمرا والإنابة متعددة متجددة حسب تحدد موادها أوثر في الأول صيغة الماضي وفي الثاني صيغة المضارع، وقيل: وما اختلفتم فيه وتنازعتم من شيء من الخصومات فتحاكموا فيه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا تؤثروا على حكومته حكومة غيره كقوله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء: 59] .
وقيل: وما اختلفتم فيه من شيء من تأويل آيه واشتبه عليكم فارجعوا في بيانه إلى المحكم من كتاب الله تعالى والظاهر من سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: وما وقع بينكم الخلاف فيه من العلوم التي لا تتعلق بتكليفكم ولا طريق لكم إلى علمه فقولوا الله تعالى أعلم كمعرفة الروح وأورد على الكل أنه مخالف للسياق لأن الكلام مسوق للمشركين وهو على ذلك مخصوص بالمؤمنين، وظاهر كلام الإمام اختيار الاختصاص فإنه قال في وجه النظم الكريم: إنه تعالى كما منع رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يحمل الكفار على الإيمان كذلك منع المؤمنين أن يشرعوا معه في الخصومات والمنازعات، وذكر أنه احتج نفاة القياس به فقالوا إما أن يكون المراد منه وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه مستفاد من نص الله تعالى أو من القياس على ما نص سبحانه عليه والثاني باطل لأنه يقتضي أن تكون كل الأحكام مبنية على القياس فتعين الأول، ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون المراد فحكمه معروف من بيان الله تعالى سواء كان ذلك البيان بالنص أو بالقياس، وأجيب عنه بأن المقصود من التحاكم إلى الله تعالى قطع الاختلاف لقوله تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ والرجوع إلى القياس مما يقوي الاختلاف فوجب الرجوع إلى النصوص اهـ وأنت تعلم أن النصوص غير كافية في جميع الأحكام وأن الآية على ما سمعت أولا ما لا يكاد يصح الاستدلال بها على هذا المطلب من أول الأمر. وفي الكشاف لا يجوز حمل الاختلاف فيها على اختلاف المجتهدين في أحكام الشريعة لأن الاجتهاد لا يجوز بحضرة الرسول الله ولا يخفى عليك أن هذه المسألة مختلف فيها فقال الأكثرون بجواز الاجتهاد المذكور عقلا ومنهم من أحاله، ثم المجوزون منه من منع وقوع التعبد به وهو مذهب أبي علي. وابنه أبي هاشم، وإليه صاحب الكشاف وذكر ما يخالفه نقل لمذهب الغير وإن لم يعقبه برد كما هو عادته في الأكثر ومنهم من ادعى الوقوع ظنا ومنهم من جزم بالوقوع، وقيل: إنه الأصح عند الأصوليين ومنهم من توقف، والبحث فيها مستوفى في أصول الفقه، والذي نقوله هنا: إن الاستدلال بالآية على منعه لا يكاد يتم وأقل ما يقال فيه: إنه استدلال بما فيه احتمال، وقوله تعالى: فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خبر آخر لذلكم أو خبر لمبتدأ محذوف أي هو فاطر أو صفة لربي أو بدل منه أو مبتدأ خبره جَعَلَ لَكُمْ(13/17)
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما بالجر على أنه بدل من ضمير إِلَيْهِ أو عَلَيْهِ أو وصف للاسم الجليل في قوله تعالى: إِلَى اللَّهِ وما بينهما جملة معترضة بين الصفة والموصوف وقد تقدم معنى فاطِرُ وجعل أي خلق مِنْ أَنْفُسِكُمْ من جنسكم أَزْواجاً نساء.
وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر غير مرة وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً أي وخلق للأنعام من جنسها أزواجا كما خلق لكم من أنفسكم أزواجا ففيه جملة مقدرة لدلالة القرينة أو وخلق لكم من الأنعام أصنافا أو ذكورا وإناثا يَذْرَؤُكُمْ يكثركم يقال ذرأ الله تعالى الخلق بثهم وكثرهم والذر والذر اخوان فِيهِ أي فيما ذكر من التدبير وهو أن جعل سبحانه للناس والأنعام أزواجا يكون بينهم توالد وجعل التكثر في هذا الجعل لوقوعه في خلاله وأثنائه فهو كالمنبع له، ويجوز أن تكون في للسببية وغلب في يَذْرَؤُكُمْ المخاطبون العقلاء على الغيب مما لا يعقل فهناك تغليب واحد اشتمل على جهتي تغليب وذلك لأن الأنعام غائب غير عاقل فإذا أدخلت في خطاب العقلاء كان فيه تغليب العقل والخطاب معا، وهذا التغليب. أعني التغليب لأجل الخطاب والعقل. من الأحكام ذات العلتين وهما هنا الخطاب والعقل وهذا هو الذي عناه جار الله وهو مما لا بأس فيه لأن العلة ليست حقيقة، وزعم ابن المنير أن الصحيح أنهما حكمان متباينان غير متداخلين أحدهما. مجيئه على نعت ضمير العقلاء أعم من كونه مخاطبا أو غائبا. والثاني مجيئه بعد ذلك على نعت الخطاب فالأول لتغليب العقل والثاني لتغليب العقل والثاني لتغليب الخطاب ليس بشيء ولا يحتاج إليه، وكلام صاحب المفتح يحتمل اعتبار تغليبين. أحدهما تغليب المخاطبين على الغيب. وثانيهما تغليب العقلاء على ما لا يعقل، وقال الطيبي. إن المقام يأبى ذلك لأنه يؤدي إلى أن الأصل يذرؤكم ويذرؤها ويذرؤكن ويذرؤها لكن الأصل يذرؤكم ويذرؤها لا غير لأن- كم- في يَذْرَؤُكُمْ هو كم في جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً بعينه لكن غلب هاهنا على الغيب فليس في يذرؤكم إلا تغليب واحد انتهى، ثم إنه لا ينبغي أن يقال: إن التذرئة حكم علل في الآية بعلتين. إحداهما جعل الناس أزواجا. والثانية جعل الأنعام أزواجا ويجوز أن يكون هو الذي عناه جار الله لأن الحكم هو البث المطلق وعلته المجموع وإن جعل كل جزء منه علة فكل بث حكم أيضا فأين الحكم الواحد المتعدد علته فافهم، وعن ابن عباس أن معنى يَذْرَؤُكُمْ فيه يجعل لكم فيه معيشة تعيشون بها، وقريب منه قول ابن زيد يرزقكم فيه، والظاهر عليه أن الضمير لجعل الأزواج من الأنعام.
وقال مجاهد أي يخلقكم نسلا بعد نسل وقرنا بعد قرن، ويتبادر منه أن الضمير للجعل المفهوم من جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً ويجوز أن يكون كما في الوجه الأول ويفهم منه أن الذرء أخص من الخلق وبه صرح ابن عطية قال: ولفظة ذرأ على تزيد على لفظة خلق معنى آخر ليس في خلق وهو توالي الطبقات على مر الزمان، وقال العتبي:
ضمير فِيهِ للبطن لأنه في حكم المذكور والمراد يخلقكم في بطون الإناث، وفي رواية عن ابن زيد أنه لما خلق من السموات والأرض، وهو كما ترى ما قبله والله تعالى أعلم لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ نفي للمشابهة من كل وجه ويدخل في ذلك نفي أن يكون مثله سبحانه شيء يزاوجه عزّ وجلّ وهو وجه ارتباط هذه الآية بما قبلها أو المراد ليس مثله تعالى شيء في الشؤون التي من جملتها التدبير البديع السابق فترتبط بما قبلها أيضا، والمراد من مثله ذاته تعالى فلا فرق بين ليس كذاته شيء وليس كمثله شيء في المعنى إلا أن الثاني كناية مشتملة على مبالغة وهي أن المماثلة منفية عمن يكون مثله وعلى صفته فكيف عن نفسه وهذا لا يستلزم وجود المثل إذ الفرض كاف في المبالغة ومثل هذا شائع في كلام العرب نحو قول أوس بن حجر:
ليس كمثل الفتى زهير ... خلق يوازيه في الفضائل(13/18)
وقول الآخر:
وقتلى كمثل جذوع النخيل ... تغشاهم مسبل منهمر
وقول الآخر:
سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهم ... ما أن كمثلهم في الناس من أحد
وقد ذكر ابن قتيبة وغيره أن العرب تقيم المثل مقام النفس فتقول مثلك لا يبخل وهي تريد أنت لا تبخل أي على سبيل الكناية وقد سمعت فائدتها. وفي الكشف أنها الدلالة على فضل إثبات لذلك الحكم المطلوب وتمكينه وذلك لوجهين: أحدهما أنه فرض جامع يقتضي ذلك فإذا قلت مثلك لا يبخل دل على أن موجب عدم البخل موجود بخلافه إذا قلت أنت لا تبخل. والثاني أنه إذا جعل من جماعة لا يبخلون يكون أدل على عدم البخل لأنه جعل معدودا من جملتهم، ومن ذلك قولهم قد أيفعت لداته أي أترابه وأمثاله في السن، وقول رقيقة بنت أبي صيفي بن هشام في سقيا عبد المطلب: ألا وفيهم الطيب الطاهر لذاته تعني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى غير ذلك، وقيل: إن مثلا بمعنى الصفة وشيئا عبارة عنها أيضا حكاه الراغب ثم قال: والمعنى كصفته تعالى صفة تنبيها على أنه تعالى وإن وصف بكثير مما يوصف البشر فليس تلك الصفات له عزّ وجلّ حسب ما يستعمل في البشر.
وذهب الطبري وغيره إلى أن مثلا زائدة للتأكيد كالكاف في قوله:
بالأمس كانوا في رخاء مأمول ... فأصبحت مثل كعصف مأكول
وقول الآخر:
أهل عرفت الدار بالغريين ... وصاليات ككما يؤثفين
وتعقبه أبو حيان بأنه ليس يجيد لأن مثلا اسم والأسماء لا تزاد بخلاف الكاف فإنها حرف فتصلح للزيادة، ونسب الزجاج وابن جني والأكثرين القول بأن الكاف زائدة للتأكيد، ورده ابن المنير بأن الكاف تفيد تأكيد التشبيه لا تأكيد النفي ونفي الماثلة المهملة أبلغ من نفي المماثلة المؤكدة فليس الآية نظير شطري البيتين، ويقال نحوه فيما نقل عن الطبري ومن معه، وأجيب بأنه يفيد تأكيد التشبيه إن سلبا فسلب وإن إثباتا فإثبات فيندفع ما أورد، نعم الأول هو الوجه، والمثل قال الراغب: أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة وذاك أن الند يقال لما يشارك في الجوهر فقط والشبه لما يشارك في الكيفية فقط والمساوي لما يشارك في الكيفية فقط والشكل لما يشارك في القدر والمساحة فقط والمثل عام في جميع ذلك، ولهذا لما أراد الله تعالى نفي الشبه من كل وجه خصه سبحانه بالذكر، وذكر الإمام الرازي أن المثلين عند المتكلمين هما اللذان يقوم كل منهما مقام الآخر في حقيته وماهيته وحمل المثل في الآية على ذلك أن لا يساوي الله تعالى في حقيقة الذات شيء، وقال لا يصح أن يكون المعنى ليس كمثله تعالى في الصفات شيء لأن العباد يوصفون بكونهم عالمين قادرين كما أن الله تعالى يوصف بذلك وكذا يوصفون بكونهم معلومين مذكورين مع أن الله تعالى يوصف بذلك، وأطال الكلام في هذا المقام وفي القلب منه شيء.
وفي شرح جوهره التوحيد أعلم أن قدماء المعتزلة كالجبائي وابنه أبي هاشم ذهبوا إلى أن المماثلة هي المشاركة في أخص صفات النفس فمماثلة زيد لعمر ومثلا عندهم مشاركته إياه في الناطقية فقط، وذهب المحققون من الماتريدية إلى أن المماثلة هي الاشتراك في الصفات النفسية كالحيوانية والناطقية لزيد وعمرو.(13/19)
ومن لازم الاشتراك في الصفة النفسية أمران: أحدهما الاشتراك فيما يجب ويجوز ويمتنع. وثانيهما أن يسد كل منهما مسد الآخر والمتماثلان وإن اشتركا في الصفات النفسية لكن لا بد من اختلافهما بجهة أخرى ليتحقق التعدد والتمايز فيصح التماثل، ونسب إلى الأشعري أنه يشترط في التماثل التساوي من كل وجه.
واعترض. بأنه لا تعدد حينئذ فلا تماثل، وبأن أهل اللغة مطبقون على صحة قولنا: زيد مثل عمرو في الفقه إذا كان يساويه فيه ويسد مسده وإن اختلف في كثير من الأوصاف،
وفي الحديث «الحنطة بالحنطة مثلا بمثل»
وأريد به الاستواء في الكيل دون الوزن وعدد الحبات وأوصافها، ويمكن أن يجلب بأن مراده التساوي في الوجه الذي به التماثل حتى أن زيدا وعمرا لو اشتركا في الفقه وكان بينهما مساواة فيه بحيث ينوب أحدهما مناب الآخر صح القول بأنهما مثلان فيه وإلا فلا يخالف مذهب الماتريدية، وفيه أيضا أنه عزّ وجلّ ليس له سبحانه مماثل في ذاته وصفاته فلا يسد مسد ذاته تعالى ذات ولا مسد صفته جلت صفته صفة، والمراد بالصفة الصفة الحقيقية الوجودية، ومن هنا تعلم ما في قول الإمام لا يصح أن يكون المعنى ليس كمثله تعالى في الصفات شيء لأن العباد يوصفون بكونهم عالمين قادرين كما أن الله سبحانه يوصف بذلك فإن معنى ذلك أنه تعالى ليس مثل صفته سبحانه صفة، ومن المعلوم البين أن علم العباد وقدرتهم ليسا مثل علم الله عزّ وجلّ وقدرته جل وعلا أي ليسا سادّين مسدهما. وأما كونه تعالى مذكورا ونحوه فهو ليس من الصفات المعتبرة القائمة بذاته تعالى كما لا يخفى، وزعم جهم بن صفوان أن المقصود من هذه الآية بيان أنه تعالى ليس مسمى باسم الشيء لأن كل شيء فإنه يكون مثلا لمثل نفسه فقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ معناه ليس مثل مثله شيء وذلك يقتضي أن لا يكون هو سبحانه مسمى باسم الشيء فلم يجعل المثل كناية عن الذات على ما سمعت ولا حكم بزيادته ولا بزيادة الكاف ومع هذا وإغماض العين عما في كلامه لا يتم له مقصود إذ لنا أن نجعل ليس مثل مثله شيء نفيا للمثل على سبيل الكناية أيضا لكن بوجه آخر وهو أنه نفي للشيء بنفي لازمه لأن نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم كما يقال: ليس لأخي زيد أخ فأخو زيد ملزوم والأخ لازمه لا بد لأخي زيد من أخ هو زيد فنفيت هذا اللازم والمراد نفي ملزومه أي ليس لزيد أخ إذ لو كان له أخ لكان لذلك الأخ أخ هو زيد فكذا نفيت أن يكون لمثل الله تعالى مثل، والمراد نفي مثله سبحانه وتعالى إذ لو كان له مثل لكان هو مثل إذ التقدير أنه موجود، ومغايرته لما تقدم أن مبناه إثبات اللزوم بين وجود المثل ووجود مثل ليكون نفي اللازم كناية عن نفي الملزوم من غير ملاحظة والتفات إلى أن حكم الأمثال واحد وأنه يجري في النفي دون الإثبات فإن نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم دون العكس بخلاف ما تقدم فإن مبناه ابن حكم المتماثلين واحد وإلا لم يكونا متماثلين ولا يحتاج إلى إثبات اللزوم بين وجود المثل ومثل المثل وإنه يجري في النفي والإثبات كما سمعت من الأمثلة وليس ذاك من المذهب الكلامي في شيء، أما أولا فلأنه إيراد الحجة وليس في الآية اشعار بها فضلا عن الإيراد، وأما ثانيا فلأنه حينئذ تكون الحجة قياسا استثنائيا استثني فيه نقيض التالي هكذا لو كان له سبحانه مثل لكان هو جل شأنه مثل مثله لكنه ليس مثلا لمثله فلا بد من بيان بطلان التالي حتى تتم الحجة إذ ليس بينا بنفسه بل وجود المثل ووجود مثل المثل في مرتبة واحدة في العلم والجهل لا يجوز جعل أحدهما دليلا على الآخر، لكن قيل: إن المفهوم من ليس مثل مثله شيء على ذلك التقدير نفي أن يكون مثل لمثله سواه تعالى بقرينة الإضافة كما أن المفهوم من قول المتكلم: إن دخل داري أحد فكذا غير المتكلم، وأيضا لا نسلم أنه لو وجد له سبحانه مثل لكان هو جلّ وعلا مثل مثله لأن وجود مثله سبحانه محال والمحال جاز أن يستلزم المحال.
وأجيب عن الأول أن اسم ليس شَيْءٌ وهو نكرة في سياق النفي فتعم الآية نفي شيء يكون مثلا لمثله، ولا(13/20)
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
شك أنه على تقدير وجود المثل يصدق عليه أنه شيء مثل لمثله، والإضافة لا تقتضي خروجه عن عموم شيء بخلاف المثال المذكور فإن القرينة العقلية دلت على تخصيص أحد بغير المتكلم لأن مقصوده المنع عن دخول الغير، وعن الثاني أن وجود المثل لشيء مطلقا يستلزم المثل مع قطع النظر عن خصوصية ذلك الشيء وذلك بين فالمنع بتجويز أن يكون لذاته تعالى مثل ولا يكون هو سبحانه مثلا لمثله مكابرة، ثم إن هذا الوجه لكثرة ما فيه من القيل والقال بالنسبة إلى غيره من الأوجه السابقة لم نذكره عند ذكرها وهو على علاته أحسن من القول بالزيادة كما لا يخفى على من وفقه الله عزّ وجلّ وَهُوَ السَّمِيعُ المدرك إدراكا تاما لا على طريق التخيل والتوهم لجميع المسموعات ولا على طريق تأثر حاسة ولا وصول هواء الْبَصِيرُ المدرك إدراكا تاما لجميع المبصرات أو الموجودات لا على سبيل التخيل والتوهم ولا على طريق تأثر حاسة ولا وصول شعاع فالسمع والبصر صفتان غير العلم على ما هو الظاهر وأرجعهما بعضهم إلى صفة العلم، وتمام الكلام على ذلك في الكلام، وقدم سبحانه نفي المثل على إثبات السمع والبصر لأنه أهم في نفسه وبالنظر إلى المقام.
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تقدم تفسيره في سورة الزمر وكذا قوله تعالى: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ.
وقرىء «يقدّر» بالتشديد إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ مبالغ في الإحاطة به فيفعل كل ما يفعل جلّ شأنه على ما ينبغي أن يفعل عليه، والجملة تعليل لما قبلها وتمهيد لما بعدها من قوله تعالى:(13/21)
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى وإيذان بأن ما شرع سبحانه لهم صادر عن كمال العلم والحكمة كما أن بيان نسبته إلى المذكورين عليهم الصلاة والسلام تنبيه على كونه دينا قديما أجمع عليه الرسل، والخطاب لأمته عليه الصلاة والسلام أي شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ومن بعده من أرباب الشرائع وأولي العزم من مشاهير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأمرهم به أمرا مؤكدا، وتخصيص المذكورين بالذكر لما أشير إليه من علو شأنهم وعظم شهرتهم ولاستمالة قلوب الكفرة إلى الاتباع لاتفاق كل على نبوة بعضهم واختصاص اليهود بموسى عليه السلام والنصارى بعيسى عليه السلام وإلا فما من نبي إلا وهو مأمور بما أمروا به من إقامة دين الإسلام وهو التوحيد وما لا يختلف باختلاف الأمم وتبدل الأعصار من أصول الشرائع والأحكام كما ينبىء عنه التوصية فإنها معربة عن تأكيد الأمر والاعتناء بشأن المأمور به، والمراد بايحائه إليه صلّى الله عليه وسلّم إما ما ذكر في صدر السورة الكريمة وفي قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الشورى: 7] الآية وإما ما يعمهما وغيرهما ما وقع في سائر المواقع التي من جملتها قوله تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النحل: 123] وقوله سبحانه: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الكهف: 110] وغير ذلك، وإيثار الإيحاء على ما قبله وما بعده من التوصية لمراعاة ما وقع في الآية المذكورة ولما في الإيحاء من التصريح برسالته عليه الصلاة والسلام القامع لإنكار الكفرة، والالتفات إلى نون العظمة لإظهار كمال الاعتناء بايحائه، وفي ذلك إشعار بأن شريعته صلّى الله عليه وسلّم هي الشريعة المعتنى بها غاية الاعتناء ولذا عبر فيها بالذي التي هي أصل الموصولات وذلك هو السر في تقديم الذي أوحى إليه عليه الصلاة والسلام على ما بعده مع تقدمه عليه زمانا، وتقديم توصية نوع عليه السلام للمسارعة إلى بيان كون المشروع لهم دينا قديما، وقد قيل إنه عليه الصلاة والسلام أول الرسل، وتوجيه الخطاب إليه عليه الصلاة والسلام بطريق التلوين للتشريف والتنبيه على أنه تعالى شرعه لهم على لسانه صلّى الله عليه وسلّم أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ أي دين الإسلام الذي هو توحيد الله تعالى وطاعته والإيمان بكتبه ورسله وبيوم الجزاء وسائر ما يكون العبد به مؤمنا، والمراد بإقامته تعديل أركانه وحفظه من أن يقع فيه زيغ والمواظبة عليه، وأَنْ مصدرية وتقدم الكلام في وصلها بالأمر والنهي أو مخففة من الثقيلة لما في شَرَعَ من معنى العلم، والمصدر إما منصوب على أنه بدل من مفعول شَرَعَ والمعطوفين عليه أو مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف والحملة جواب عن سؤال نشأ من إبهام المشروع كأنه قيل: وما ذاك؟ فقيل: هو أن أقيموا الدين، وقيل: هو مجرور على أنه بدل من ضمير بِهِ ولا يلزمه بقاء الموصول بلا عائد لأن المبدل منه ليس في نية الطرح حقيقة، نعم قال شيخ الإسلام: إنه ليس بذاك لما أنه مع إفضائه إلى خروجه عن حيز الإيحاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم مستلزم لكون الخطاب في النهي الآتي عن التفرق للأنبياء المذكورين عليهم السلام وتوجيه النهي إلى أممهم تمحل ظاهر مع أن الأظهر أنه متوجه إلى أمته صلّى الله عليه وسلّم وأنهم المتفرقون، ثم بين ما استظهره وسنشير إليه إن شاء الله تعالى.
وجوز كونه بدلا من الدِّينِ ويجوز كون أَنْ مفسرة فقد تقدمها ما يتضمن معنى القول دون حروفه والخطاب في أَقِيمُوا وقوله تعالى: وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ على ما اختاره غير واحد من الأجلة شامل للنبي صلّى الله عليه وسلّم(13/22)
وأتباعه وللأنبياء والأمم قبلهم وضمير فِيهِ للدين أن ولا تتفرقوا في الدين الذي هو عبارة عما تقدم من الأصول بأن يأتي به بعض ولا يأتي بعض ويأتي بعض ببعض منه دون بعض وهو مراد مقاتل أي لا تختلفوا فيه، ولا يشمل هذا النهي عن الاختلاف في الفروع فإنها ليست من الأصول المرادة هنا ولم يتحد بها النبيون كما يؤذن بذلك قوله تعالى:
لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة: 48] وبعضهم أدخل بعض الفروع في أصول الدين المرادة هنا من الدين.
قال مجاهد: لم يبعث نبي إلا أمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإقرار بالله تعالى وطاعته سبحانه وذلك إقامة الدين، وقال الحافظ أبو بكر بن العربي: لم يكن مع آدم عليه السلام إلا بنوه ولم يفرض له الفرائض ولا شرعت له المحارم وإنما كان منبها على بعض الأمور مقتصرا على بعض ضروريات المعاش واستمر الأمر إلى نوح عليه السلام فبعثه الله تعالى بتحريم الأمهات والبنات ووظف عليه الواجبات وأوضح له الأدب في الديانات ولم يزل ذلك يتأكد بالرسل ويتناصر بالأنبياء واحدا بعد واحد شريعة إثر شريعة حتى ختمه سبحانه بخير الملل على لسان أكرم الرسل، فمعنى الآية شرعنا لكم مما شرعنا للأنبياء دينا واحدا في الأصول وهي التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج والتقرب بصالح الأعمال والصدق والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وصلة الرحم وتحريم الكبر والزنا والإيذاء للخلق والاعتداء على الحيوان واقتحام الدناءات وما يعود بخرم المروءات فهذا كله مشروع دينا واحدا وملة متحدة لم يختلف على ألسنة الأنبياء وإن اختلفت أعدادهم، ومعنى أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ اجعلوه قائما أي دائما مستمرا من غير خلاف فيه ولا اضطراب انتهى، ولعله أراد بالصلاة والزكاة والصيام والحج مطلقها لا ما نعرفه في شرعنا منها فإن الصلوات الخمس والزكاة المخصوصة وصيام شهر رمضان من خواص هذه الأمة على الصحيح، والظاهر أن حج البيت لم يشرع لأمة موسى وأمة عيسى عليهما السلام ولا لأكثر الأمم قبلهما على أن الآية مكية ولم تشرع الزكاة المعروفة وصيام رمضان إلا في المدينة، وبالجملة لا شك في اختلاف الأديان في الفروع، نعم لا يبعد اتفاقها فيما هو من مكارم الأخلاق واجتناب الرذائل كَبُرَ أي عظم وشق عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ على سبيل الاستمرار التجددي من التوحيد ورفض عبادة الأصنام ويشعر بإرادته التعبير بالمشركين وهو أصل الأصول وأعظم ما شق عليهم كما تنبىء بذلك الآيات أو ما تدعوهم إليه من إقامة الدين وعدم التفرق فيه اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ تسلية له صلّى الله عليه وسلّم بأن منهم من يجيب، ويَجْتَبِي من الاجتباء بمعنى الاصطفاء والضمير في إِلَيْهِ لله تعالى كما ذكر محيي السنة وغيره وكذا الضمير في قوله تعالى: وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ أي يصطفي إليه سبحانه من يشاء اصطفاءه ويخصصه سبحانه بفيض إلهي يتحصل له منه أنواع النعم ويهدي عزّ وجلّ بالإرشاد والتوفيق من يقبل إليه تعالى شأنه، وعدي الاجتباء بإلى لما فيه من الجمع على ما يفهم من كلام الراغب، وجعله جمع من الجباية بمعنى الجمع يقال: جبيت الماء في الحوض جمعته فيه فمنهم من اختار جعل ضمير إِلَيْهِ في الموضعين- لما- لما فيه من اتساق الضمائر أي يجتلب ويجمع من يشاء اجتلابه وجمعه إلى ما تدعوهم إليه، ومنهم من اختار جعله للدين لمناسبة معنوية هي اتحاد المتفرق فيه والمجتمع عليه والزمخشري اختار كونه من الجباية بمعنى الجمع وعود الضمير على الدين، وما ذكره محيي السنة وغيره. قال في الكشف: أظهر وأملأ بالفائدة، أما الثاني فللدلالة على أنه أهل الاجتباء غير أهل الاهتداء وكلتا الطائفتين هم أهل الدين والتوحيد الذين لم يتفرقوا فيه وعلى مختار طائفة واحدة.
وأما الأول فلأن الاجتباء بمعنى الاصطفاء أكثر استعمالا ولأنه يدل على أن أهل الدين هم صفوة الله تعالى اجتباهم إليه واصطفاهم لنفسه سبحانه، وأما الذي آثره الزمخشري فكلام ظاهري بناه على أن الكلام في عدم التفرق(13/23)
في الدين فناسب الجمع والانتهاء إليه، وقيل: ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ على معنى ما تدعوهم إلى الإيمان به والمراد به الرسالة أي ثقلت عليهم رسالتك وعظم لديهم تخصيصنا إياك بالرسالة والوحي دونهم وقوله تعالى: اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ رد عليهم على نحو اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: 124] وما قدمنا أظهر وَما تَفَرَّقُوا أي أمم الأنبياء بعد وفاة أنبيائهم كما في الكشف منذ بعث نوح عليه السلام في الدين الذي دعوا إليه واختلفوا فيه في وقت من الأوقات إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ من أنبيائهم بأن الفرقة ضلال وفساد وأمر متوعد عليه وهذا يؤيد ما دل عليه سابقا من أن الأمم القديمة والحديثة أمروا باتفاق الكلمة وإقامة الدين، والمراد بالعلم سببه مجازا مرسلا، ويجوز أن يكون التجوز في الإسناد، وأن يكون يكون الكلام بتقدير مضاف أي جاءهم سبب العلم، وقد يقال جاء مجاز عن حصل، والاستثناء على ما أشرنا إليه مفرغ من أعم الأوقات، وجوز أن يكون من أعم الأحوال أي ما تفرقوا في حال من الأحوال إلا حال من الأحوال إلا حال مجيء العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ أي عداوة على أن البغي الظلم والتجاوز والعداوة سبب له وهي الداعي للتفرق أو طلبا للدنيا والرياسة على أن البغي مصدر بغي بمعنى طلب وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ هي عدته تعالى بترك معاجلتهم بالعذاب إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى معلوم له سبحانه وهو يوم القيامة أو آخر أعمارهم القدرة لهم لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ باستئصال المبطلين حين افترقوا لعظم ما اقترفوا وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ هم أهل الكتاب الذين كانوا في عهده صلّى الله عليه وسلّم وقرأ زيد بن علي «ورّثوا» مبنيا للمفعول مشدد الواو لَفِي شَكٍّ مِنْهُ أي من كتابهم فلم يؤمنوا به حق الإيمان مُرِيبٍ مقلق أو مدخل في الريبة، والجملة اعتراض يؤكد أن تفرقهم ذلك باق في أعقابهم منضما إليه الشك في كتابهم مع انتسابهم إليه فهم تفرقوا بعد العلم الحاصل لهم من النبي المبعوث إليهم المصدق لكتابهم وتفرقوا قبله شكا في كتابهم فلم يؤمنوا به ولم يصدقوا حقه.
فَلِذلِكَ أي إذا كان الأمر كما ذكر فلأجل ذلك التفرق ولما حدث بسببه من تشعب الكفر في الأمم السالفة شعبا فَادْعُ إلى الائتلاف والاتفاق على الملة الحنيفية القديمة وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ أي اثبت على الدعاء كما أوحي إليك، وقيل: الإشارة إلى قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ وما يتصل به ونقل عن الواحدي أي ولأجل ذلك من التوصية التي شوركت فيها مع نوح ومن بعده ولأجل ذلك الأمر بالإقامة والنهي عن التفرق فادع، وما ذكر أولا أولى لأن قوله تعالى: أَنْ أَقِيمُوا شمل النبي عليه الصلاة والسلام وأتباعه كما سمعت، ويدل عليه كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ فقوله تعالى: فَلِذلِكَ فَادْعُ إلخ لا يتسبب عنه لما يظهر من التكرار وهو تفرع الأمر عن الأمر، وأما تسببه عن تفرقهم فظاهر على معنى فلما أحدثوا من التفرق وأبدعوا فاثبت أنت على الدعاء الذي أمرت به واستقم وهذا ظاهر للمتأمل.
ومن الناس من جعل المشار إليه الشرع السابق ولم يدخل فيه الأمر بالإقامة لئلا يلزم التكرار أي فلأجل أنه شرع لهم الدين القويم القديم الحقيق بأن يتنافس فيه المتنافسون فادع، وقيل: هو الكتاب، وقيل: هو العلم المذكور في قوله تعالى: جاءَهُمُ الْعِلْمُ وقيل: هو الشك ورجح بالقرب وليس بذاك، واللام على جميع الأقوال المذكورة للتعليل، وقيل: على بعضها هي بمعنى إلى صلة الدعاء فما بعدها هو المدعو إليه، وأنت تعلم أنه لا حاجة في إرادة ذلك إلى جعلها بمعنى إلى فإن الدعاء يتعدى بها أيضا كما في قوله:
دعوت لما نابني مسورا ونقل ذلك عن الفراء والزجاج، وأيا ما كان فالفاء الأولى واقعة في جواب شرط مقدر كما أشرنا إليه والفاء الثانية مؤكدة للأولى، وقيل: كان الناس بعد الطوفان أمة واحدة موحدين فاختلف أبناؤهم بعد موتهم حين بعث الله تعالى النبيين مبشرين(13/24)
ومنذرين، وجعل ضمير «تفرقوا» لإخلاف أولئك الموحدين والذين أورثوا الكتاب باق على ما تقدم والأول أظهر.
وقيل: ضمير تفرقوا لأهل الكتاب تفرقوا من بعد ما جاءهم العلم بمبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم فهذا كقوله تعالى: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة: 4] وإنما تفرقوا حسدا له عليه الصلاة والسلام لا لشبهة، والمراد بالذين أورثوا الكتاب من بعدهم مشركو مكة وأحزابهم لأنهم أورثوا القرآن فالكتاب القرآن وضمير منه له وقيل للرسول وهو خلاف الظاهر، واختار كون المتفرقين أهل الكتاب اليهود والنصارى والمورثين الشاكين مشركي مكة وأحزابهم شيخ الإسلام واستظهر الخطاب في أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ لأمته صلّى الله عليه وسلّم. وتعقب القول بكون المتفرق كل أمة بعد نبيها والقول بكونه اخلاف الموحدين الذين كانوا بعد الطوفان فقال: يرد ذلك قوله تعالى:
وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فإن مشاهير الأمم المذكورة قد أصابهم عذاب الاستئصال من غير إنظار وإمهال على أن مساق النظم الكريم لبيان أحوال هذه الأمة وإنما ذكر من ذكر من الأنبياء عليهم السلام لتحقيق أن ما شرع لهؤلاء دين قديم أجمع عليه أولئك الأعلام عليهم الصلاة والسلام تأكيد الوجوب إقامته وتشديدا للزجر عن التفرق والاختلاف فيه فالتعرض لبيان تفرق أممهم عنه ربما يوهم الإخلال بذلك المرام انتهى.
وأجيب عن الأول بأن ضمير بَيْنَهُمْ لأولئك الذين تفرقوا وقد علمت أن المراد بهم المتفرقون بعد وفاة أنبيائهم وهم لم يصبهم عذاب الاستئصال وإنما أصاب الذين لم يؤمنوا غي عهد أنبيائهم وإطلاق المتفرقين ليس بذاك الظهور، وقيل: المراد لقضي بينهم ريثما افترقوا ولم يمهلوا أعواما، وقيل: المراد لقضي بينهم بإهلاك المبطلين وإثابة المحقين إثابتهم في العقبى وهو كما ترى، وعن الثاني بأنا لا نسلم إيهام التعرض لبيان تفرق الأمم الإخلال بالمرام بعد بيان أنه لم يكن إلا بعد أن جاءهم العلم بأنه ضلال وفساد وأمر متوعد عليه وأنه كان بغيا بينهم ولم يكن لشبهة في صحة الدين، وقيل: ضمير تَفَرَّقُوا للمشركين في قوله تعالى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ.
حكي في البحر عن ابن عباس أنه قال: وما تفرقوا يعني قريشا والعلم محمد صلّى الله عليه وسلّم وكانوا يتمنون أن يبعث إليهم نبي قال سبحانه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ [الأنعام: 109، النحل: 38، النور: 53، فاطر: 42] لئن جاءهم نذير الآية، وقد يقال عليه: المراد بالذين أورثوا الكتاب أهل الكتاب الذين عاصروا النبي صلّى الله عليه وسلّم. ومعنى من بعدهم على ما قال أبو حيان من بعد أسلافهم.
ونقل الطبرسي عن السدي ما يدل على أن المراد من بعد أحبارهم وفسر الموصول بعوام أهل الكتاب، وقيل:
ضمير بعدهم للمشركين أيضا والبعدية رتبية كما قيل في قوله تعالى: «والأرض بعد ذلك دحاها» ولا يخفى عليك أنه لا بأس بعود ضمير تَفَرَّقُوا للمشركين لو وجد للذين أورثوا الكتاب توجيه يقع في حيز القبول والله تعالى الموفق، وجعل متعلق اسْتَقِمْ الدعاء لا تخفى مناسبته. وجوز جعله عاما فيكون استقم أمرا بالاستقامة في جميع أموره عليه الصلاة والسلام، والاستقامة أن يكون على خط مستقيم، وفسرها الراغب بلزوم المنهج المستقيم فلا حاجة إلى التأويل بالدوام على الاستقامة أي دم على الاستقامة وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ أي شيئا من أهوائهم الباطلة على أن الإضافة للجنس وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ أي بجميع الكتب المنزلة لأن ما من أدوات العموم، وتنكير كِتابٍ المبين مؤيد لذلك، وفي هذا القول تحقيق للحق وبيان لاتفاق الكتب في الأصول وتأليف لقلوب أهل الكتابين وتعريض بهم حيث لم يؤمنوا بجميعها وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ أي أمرني الله تعالى بما أمرني به لأعدل بينكم في تبليغ الشرائع والأحكام فلا أخص بشيء منها شخصا دون شخص وقيل: لأعدل بينكم في الحكم إذا تخاصمتم، وقيل: بتبليغ الشرائع وفصل الخصومة واختاره غير واحد، وقيل: لأسوّي بيني وبينكم ولا آمركم بما لا أعمله ولا أخالفكم إلى ما(13/25)
أنهاكم عنه ولا أفرق بين أصاغركم وأكابركم في إجراء حكم الله عزّ وجلّ، فاللام للتعليل والمأمور به محذوف، وقيل:
اللام مزيدة أي أمرت أن أعدل ويحتاج لتقدير الباء أي بأن أعدل، ولا يخلو عن بعد اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ أي خالق الكل ومتولي أمره فليس المراد خصوص المتكلم والمخاطب لَنا أَعْمالُنا لا يتخطانا جزاؤها ثوابا كان أو عقابا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا يجاوزكم آثارها لننتفع بحسناتكم ونتضرر بسيئاتكم لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ أي لا احتجاج ولا خصومة لأن الحق قد ظهر فلم يبق للاحتجاج حاجة ولا للمخالفة محمل سوى المكابرة والعناد، وجاءت الحجة هنا على أصلها فإنها في الأصل مصدر بمعنى الاحتجاج كما ذكره الراغب وشاعت بمعنى الدليل وليس بمراد اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا يوم القيامة وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ فيفصل سبحانه بيننا وبينكم، وليس في الآية ما يدل على متاركة الكفار رأسا حتى تكون منسوخة بآية السيف، وادعى أبو حيان أن ما يظهر منها الموادعة المنسوخة بتلك الآية.
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ أي يخاصمون في دينه، قال ابن عباس ومجاهد نزلت في طائفة من بني إسرائيل همت برد الناس عن الإسلام وإضلالهم فقالوا: كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم فديننا أفضل من دينكم، وفي رواية بدل فديننا إلخ فنحن أولى بالله تعالى منكم، وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: لما نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [الفتح: 1] قال المشركون بمكة لمن بين أظهرهم من المؤمنين: قد دخل الناس في دين الله أفواجا فاخرجوا من بين أظهرنا أو اتركوا الإسلام، والمحاجة فيه غير ظاهرة ولعلهم مع هذا يذكرون ما فيه ذلك مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ أي من بعد ما استجاب الناس الله عزّ وجلّ أو لدينه ودخلوا فيه وأذعنوا له لظهور الحجة ووضوح المحجة، والتعبير عن ذلك بالاستجابة باعتبار دعوتهم إليه حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ زائلة باطلة لا تقبل عنده عزّ وجلّ بل لا حجة لهم أصلا، وإنما عبر عن أباطيلهم بالحجة وهي الدليل هاهنا مجاراة معهم على زعمهم الباطل.
وجوز كون ضمير لَهُ للرسول عليه الصلاة والسلام لكونه في حكم المذكور والمستجيب أهل الكتب واستجابتهم له صلّى الله عليه وسلّم إقرارهم بنعوته واستفتاهم به قبل مبعثه عليه الصلاة والسلام فإذا كانوا هم المحاجين كان الكلام في قوة والذين يحاجون في دين الله من بعد ما استجابوا لرسوله وأقروا بنعوته حجتهم في تكذيبه باطلة لما فيها من نفي ما أقروا به قبل وصدقة العيان، وقيل: المستجيب هو الله عزّ وجلّ وضمير لَهُ لرسوله عليه الصلاة والسلام، واستجابته تعالى له صلّى الله عليه وسلّم بإظهار المعجزات الدالة على صدقة، وإلى نحوه ذهب الجبائي حيث قال: أي من بعد ما استجاب الله تعالى دعاءه في كفار بدر حتى قتلهم بأيدي المؤمنين ودعائه على أهل مكة حتى قحطوا ودعاءه للمستضعفين حتى خلصهم الله تعالى من أيدي قريش وغير ذلك مما يطول تعداده، وبطلان حجتهم لظهور خلاف ما تقتضيه بزعمهم بذلك، وهذا ظاهر في أن هذه الآية مدنية لأن وقعة بدر بعد الهجرة وحمل اسْتُجِيبَ على الوعد خلاف الظاهر جدا، وكذا ما روي عن عكرمة، وقيل: إن حمل الاستجابة على استجابة أهل الكتاب يقتضي ذلك أيضا إذ لم يكن بمكة أحد منهم، وقيل: لا يقتضيه لأن خبر استجابتهم وإقرارهم بنعوته صلّى الله عليه وسلّم وهو عليه الصلاة والسلام بمكة بلغ أهل مكة والمجادلون محمول عليهم فلا مانع من كونها مكية وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ عظيم لمكابرتهم الحق بعد ظهوره وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ لا يقادر قدره.
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ جنس الكتاب أو الكتاب المعهود أو جميع الكتب بِالْحَقِّ ملتبسا بالحق بعيدا من الباطل في أحكامه وأخباره أو ملتبسا بما يحق ويجب من العقائد والأحكام وَالْمِيزانَ أي العدل كما قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم أو الشرع الذي يوزن به الحقوق ويسوي بين الناس، وعلى الوجهين فيه استعارة ونسبة الإنزال إليه مجز لأنه من صفات الأجسام والمنزل حقيقة من بلغه، واعتبر بعضهم الأمر أي أنزل الأمر بالميزان، وتعقب(13/26)
بأنه أيضا محتاج إلى التأويل، وقد يقال: نسبة الإنزال وكذا النزول إلى الأمر مشهورة جدا فالتحقت بالحقيقة، ويجوز أن يتجوز في الإنزال ويقال نحو ذلك في أَنْزَلَ الْكِتابَ وعن مجاهد أن الميزان الآلة المعروفة فعلى هذا إنزاله على حقيقته، وجوز أن يكون على سبيل الأمر به، واستظهر الأول لما نقل الزمخشري في الحديد أنه نزل إلى نوح وأمر أن يوزن به، وكون المراد به ميزان الأعمال بعيد هنا.
وَما يُدْرِيكَ أي: أي شيء يجعلك داريا أي عالما لَعَلَّ السَّاعَةَ أي إتيان الساعة الذي أخبر به الكتاب الناطق بالحق فالكلام بتقدير مضاف مذكر، وقوله تعالى: قَرِيبٌ خبر عنه في الحقيقة لأن المحذوف بقرينة كالملفوظ وهو وجه في تذكيره وجوز أن يكون لتأويل الساعة بالبعث وأن يكون قَرِيبٌ من باب تامر ولابن أي ذات قرب إلى أوجه أخر تقدمت في الكلام على قوله تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ [الأعراف: 56] وأيا ما كان فالمعنى إن الساعة على جناح الإتيان فاتبع الكتاب وواظب على العدل واعمل بالشرع قبل أن يفاجئك اليوم الذي توزن فيه الأعمال ويوفى جزاؤها يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها استعجال إنكار واستهزاء كانوا يقولون: متى هي ليتها قامت حتى يظهر لنا أهو الذي نحن عليه أم كالذي عليه محمد عليه الصلاة والسلام وأصحابه.
وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها أي خائفون منها مع اعتناء بها فإن الإشفاق عناية مختلطة بخوف فإذا عدي بمن كما هنا فمعنى الخوف فيه أظهر وإذا عدي بعلى فمعني العناية أظهر، وعنايتهم بها لتوقع الثواب، وزعم الجلبي أن الآية من الاحتباك والأصل يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها فلا يشفقون منها والذين آمنوا مشفقون منها فلا يستعجلون بها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ الأمر المتحقق الكائن لا محالة أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ أي يجادلون فيها، وأصله من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها للحلب، وإطلاق المماراة على المجادلة لأن كلا من المتجادلين يستخرج ما عند صاحبه، ويجوز أن يكون من المرية التردد في الأمر وهو أخص من الشك ومعنى المفاعلة غير مقصود فالمعنى أن الذين يترددون في أمر الساعة ويشكون فيه لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ عن الحق فإن البعث أقرب الغائبات بالمحسوسات لأنه يعلم من تجويزه من إحياء الأرض بعد موتها وغير ذلك فمن لم يهتد إليه فهو عن الاهتداء إلى ما وراءه أبعد وأبعد.
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ بر بليغ البر بهم يفيض جل شأنه على جميعهم من صنوفه ما لا يبلغه الأفهام ويؤذن بذلك مادة اللطف وصيغة المبالغة فيها وتنكيرها الدال على المبالغة بحسب الكمية الكيفية، قال حجة الإسلام عليه الرحمة:
إنما يستحق هذا الاسم من يعلم دقائق المصالح وغوامضها وما دق منها ولطف ثم يسلك في إيصالها إلى المستصلح سبيل الرفق دون العنف فإذا اجتمع الرفق في الفعل واللطف في الإدراك تم معنى اللطيف ولا يتصور كمال ذلك إلا في الله تعالى شأنه، فصنوف البر من المبالغة في الكم، وكونها لا تبلغها الأفهام من المادة والمبالغة في الكيفية لأنه إذا دق جدا كان أخفى وأخفى، وإرادة الجميع من إضافة العباد وهو جمع إلى ضميره تعالى فيفيد الشمول والاستغراق، وبالعموم قال مقاتل إلا أنه قال: لطيف بالبر والفاجر حيث لم يقتلهم جوعا.
وقال أبو حيان: لطيف بعباده أي بر بعباده المؤمنين ومن سبق له الخلود في الجنة وما يرى من النعم على الكافر فليس بلطف إنما هو إملاء إلا ما آل إلى رحمة ووفاة على الإسلام، وحكى الطيبي هذا التخصيص عن الواحدي ومال إلى ترجيحه وذلك أنه ادعى أن الإضافة في (عباده) إضافة تشريف إذ أكثر استعمال التنزيل الجليل في مثل ذلك فيختص العباد بأوليائه تعالى المؤمنين، وحمل اللطف على منح الهداية وتوفيق الطاعة وعلى الكمالات الأخروية والكرامات السنية، وحمل الرزق في قوله تعالى: يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ عليه أيضا وقال: إن استعماله فيما ذكر كاستعماله في قوله تعالى: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ [النور: 38] .(13/27)
وجعل قوله سبحانه: وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ مؤذنا بالتعليل كأنه قيل: إنما تلطف جل شأنه في حق عباده المؤمنين دون من غضب عليهم بمحض مشيئته سبحانه لأنه تعالى قوي قادر على أن يختص برحمته وكرامته من يشاء من عباده عزيز غالب لا يمنعه سبحانه عما يريده أحد، وادعى أنه يكون وزان الآية على هذا مع قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ الآية وزان قوله عزّ وجلّ وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس: 7، 10] وينتظم الكلام أتم انتظام وتلتئم أطرافه أشد التئام، ولا يقال حينئذ: إن قوله تعالى: يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ حكم مترتب على السابق فكان ينبغي أن يعم عمومه والعموم أظهر، وحديث التخصيص في يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ فقد أجاب عنه صاحب التقريب فقال: إنما خصص الرزق بمن يشاء مع أنهم كلهم بر سبحانه بهم لأنه تعالى قد يخص أحدا بنعمة وغيره بأخرى فالعموم لجنس البر والخصوص لنوعه. وأشار جار الله إلى أنه لا تخصيص بالحقيق فإن الله تعالى بليغ البر بجميع عباده يرزق من يشاء ما يشاء سبحانه منه. فيرزق من يشاء.
بيان لتوزيعه على جميعهم فليس الرزق إلا النصيب الخاص لكل واحد، ولما شمل الدارين لاءم قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ إلخ كل الملاءمة، ولا يتوقف هذا على ما قاله الطيبي، ولعل أمر التذييل بالاسمين الجليلين على القول بالعموم أظهر والتعليل أنسب فكأنه قيل: لطيف بعباده عام الإحسان بهم لأنه تعالى القوي الباهر القدرة الذي غلب وغلبت قدرته سبحانه جميع القدر يرزق من يشاء لأنه العزيز الذي لا يغلب على ما يريد فكل من الاسمين الجليلين ناظر إلى حكم فافهم وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: 114] .
فكم لله من لطف خفي ... يدق خفاه عن فهم الذكي
والحرث في الأصل إلقاء البذر في الأرض يطلق على الزرع الحاصل منه، ويستعمل في ثمرات الأعمال ونتائجها بطريق الاستعارة المبنية على تشبيهها بالغلال الحاصلة من البذور المتضمن لتشبيه الأعمال بالبذور أي من كان يريد بأعماله ثواب الآخرة نضاعف له ثوابه بالواحد عشرة إلى سبعمائة فما فوقها وَمَنْ كانَ يُرِيدُ بأعماله حَرْثَ الدُّنْيا وهو متاعها وطيباتها نُؤْتِهِ مِنْها أي شيئا منها حسبما قدرناه له بطلبه وإرادته وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ إذ كانت همته مقصورة على الدنيا وقرأ ابن مقسم والزعفراني ومحبوب والمنقري كلاهما عن أبي عمرو «يزد» و «يؤته» بالياء فيهما، وقرأ سلام «نؤته» بضم الهاء وهي لغة أهل الحجاز وقد جاء في الآية فعل الشرط ماضيا والجواب مضارعا مجزوما قال أبو حيان: ولا نعلم خلافا في جواز الجزم في مثل ذلك وانه فصيح مختار مطلقا إلا ما ذكره صاحب كتاب الاعراب أبو الحكم بن عذرة عن بعض النحويين أنه لا يجيء في الفصيح إلا إذا كان فعل الشرط كان، وإنما يجيء معها لأنها أصل الأفعال ونص كلام سيبويه والجماعة أنه لا يختص بكان بل سائر الأفعال مثلها في ذلك وأنشد سيبويه للفرزدق:
دست رسولا بأن القوم إن قدروا ... عليك يشفوا صدورا ذات توغير
وقال أيضا:
تعش فإن عاهدتني لا تخونني ... نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ في الكفر وهم الشياطين شَرَعُوا لَهُمْ أي لهؤلاء الكفرة المعاصرين لك بالتسويل والتزيين مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ كالشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا. وأَمْ منقطعة فيها معنى بل الاضرابية والهمزة التي للتقرير والتقريع والاضراب عما سبق من قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ إلخ فالعطف عليه وما اعترض به بين الآيتين من تتمة الأولى، وتأخير الاضراب ليدل على أنهم في شرع يخالف ما شرعه الله تعالى من كل(13/28)
وجه فالشرك في مقابلة إقامة الدين والاستقامة عليه وإنكار البعث في مقابلة قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ والعمل للدنيا لقوله سبحانه: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ وهذا أظهر من جعل الاضراب عما تقدم من قوله تعالى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ كما لا يخفى، وقيل: شركاؤهم أصنامهم، وإضافتها إليهم لأنهم الذين جعلوها شركاء لله سبحانه، وإسناد الشرع إليها لأنها سبب ضلالتهم وافتتانهم كقوله تعالى: إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً [إبراهيم: 46] وجوز أن يكون الاستفهام المقدر على هذا للإنكار أي ليس لهم شرع ولا شارع كما في قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا [الأنبياء: 43] وأيا ما كان فضمير شَرَعُوا للشركاء وضمير لَهُمْ للكفار.
وجوز على تفسير الشركاء بالأصنام أن يكون الأول للكفار والثاني للشركاء أي شرع الكفار لأصنامهم ورسموا من المعتقدات والأحكام ما لم يأذن به الله تعالى كاعتقاد أنهم آلهة وأن عبادتهم تقربهم إلى الله سبحانه، وكجعل البحيرة والسائبة والوصيلة وغير ذلك، وهو كما ترى وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ أي القضاء والحكم السابق منه تعالى بتأخير العذاب إلى يوم القيامة أو إلى آخر أعمارهم لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي بين الكافرين والمؤمنين في الدنيا أو حين افترقوا بالعقاب والثواب، وجوز أن يكون المعنى لولا ما وعدهم الله تعالى به من الفصل في الآخرة لقضي بينهم فالفصل بمعنى البيان كما في قوله تعالى: هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ [المرسلات: 38] وقيل: ضمير بينهم للكفار وشركائهم بأي معنى كان وَإِنَّ الظَّالِمِينَ وهم المحدث عنهم أو الأعم منهم ويدخلون دخولا أوليا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة. وفي البحر أي في الدنيا بالقتل والأسر والنهب وفي الآخرة بالنار.
وقرأ الأعرج ومسلم بن جندب «وأن» بفتح الهمزة عطفا على كَلِمَةُ الْفَصْلِ أي لولا القضاء السابق بتأخير العذاب وتقدير أن الظالمين لهم عذاب أليم في الآخرة أو لولا العدة بأن الفصل يكون يوم القيامة وتقدير أن الظالمين لهم إلخ لقضي بينهم، والعطف على التقديرين تتميم للإيضاح لا تفسيري محض تَرَى الظَّالِمِينَ جملة مستأنفة لبيان ما قبل، والخطاب لكل أحد يصلح له للقصد إلى المبالغة في سوء حالهم أن ترى يا من يصح منه الرؤيا الظالمين يوم القيامة مُشْفِقِينَ خائفين الخوف الشديد مِمَّا كَسَبُوا في الدنيا من السيئات، والكلام قيل على تقدير مضاف.
و (من) صلة الإشفاق أي مشفقين من وبال ما كسبوا وَهُوَ أي الوبال واقِعٌ بِهِمْ أي حاصل لهم لا حق بهم، واختار بعضهم أن لا تقدير ومن تعليلية لأنه أدخل في الوعيد، والجملة اعتراض للإشارة إلى أن إشفاقهم لا ينفعهم، وإيثار واقِعٌ على يقع من أن المعنى على الاستقبال لأن الخوف إنما يكون من التوقع بخلاف الحزن للدلالة على تحققه وأنه لا بد منه، وجوز أن تكون حالا من ضمير مُشْفِقِينَ وظاهر ما سمعت أنه حال مقدرة.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ أي مستقرون في أطيب بقاعها وأنزهها.
وقال الراغب: هي محاسنها وملاذها، وأصل الروضة مستنقع الماء والخضرة واللغة الكثيرة في واوها جمعا التسكين كما في المنزل ولغة هذيل بن مدركة فتحها فيقولون روضات إجراء للمعتل مجرى الصحيح نحو جفنات ولم يقرأ فيما علمنا بغتهم لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي ما يشتهونه من فنون المستلذات حاصل لهم عند ربهم فالظرف متعلق بمتعلق الجار والمجرور الواقع خبرا لما أو به واختاره جار الله ونفى أن يكون متعلقا بيشاؤون مع أنه الظاهر نحوا، وبين صاحب الكشف ذلك بأنه كلام في معرض المبالغة في وصف ما يكون أهل الجنة فيه من النعيم الدائم فأفيد أنهم في أنزه موضع من الجنة وأطيب مقعد منها بقوله تعالى: فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لأن روضة الجنة(13/29)
أنزه موضع منها لا سيما والإضافة في هذا المقام تنبىء عن تميزها بالشرف والطيب، والتعقيب بقوله تعالى: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ أيضا ثم أفيد أن لهم ما يشتهون من ربهم ولا خفاء أنك إذا قلت: لي عند فلان ما شئت كان أبلغ في حصول كل مطالبك منه مما إذا قلت: لي ما شئت عند فلان بالنسبة إلى الطالب والمطلوب منه.
أما الأول فلأنه يفيد أن جميع ما تشاؤوه موجود مبذول لك منه، والثاني يفيد أن ما شئت عنده مبذول لا جميع ما تشاؤوه، وأما الثاني فلأنك وصفته بأنه يبذل جميع المرادات، وفي الثاني وصفته بأن ما شئت عنده مبذول لك إما منه وإما من غيره ثم في الأول مبالغة في تحقيق ذلك وثبوته كما تقول: لي عندك وقبلك كذا، فالله تعالى شأنه أخبر بأن ذلك حق لهم ثابت حق لهم ثابت مقتضى في ذمة فضله سبحانه ولا كذلك في الثاني، ثم قال: ولعل الأوجه أن يجعل عِنْدَ رَبِّهِمْ خبرا آخر أي الذين آمنوا وعملوا الصالحات عند ربهم في روضات الجنات لهم فيها ما يشاؤون، وإنما أخر توخيا لسلوك طريق المبالغة في الترقي من الترقي من الأدنى إلى الأعلى ومراعاة لترتيب الوجود أيضا فإن الوافد والضيف ينزل في أنزه موضع ثم يحضر بين يديه الذي يشتهيه وملاك ذلك كله أن يختص رب المنزل بالقرب والكرامة، وأن جعله حالا من فاعل يشاؤون أو من المجرور في لَهُمْ أفاد هذا المعنى أيضا لكنه يقصر عما آثرناه لأنه قد أتى به إتيان الفضلة وهو مقصود بذاته عمدة، ولعمري إن ما آثره حسن معنى إلا أنه أبعد لفظا مما أثره جار الله، ولا يخفى عليك ما هو الأنسب بالتنزيل.
وفي الخبر عن أبي ظبية قال: إن السرب من أهل الجنة لتظلهم السحابة فتقول: ما أمطركم؟ فما يدعو داع من القوم إلا امطرته حتى أن القائل منهم ليقول: أمطرينا كواعب أترابا
ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من حال المؤمنين، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلة المشار إليه هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ الذي لا يقدر قدره ولا تبلغ غايته ويصغر دونه ما لغيرهم في الدنيا ذلِكَ الفضل الكبير أو الثواب المفهوم من السياق هو الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي يبشر به فحذف الجار ثم العائد إلى الموصول كما هو عادتهم في التدريج في الحذف، ولا مانع كما قال الشهاب من حذفهما دفعة، وجوز كون ذلك إشارة إلى التبشير المفهوم من يُبَشِّرُ بعد والإشارة قد تكون لما يفهم بعد كما قرروه في قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] ونحوه، والعائد إلى الموصول ضمير منصوب بيبشر على أنه مفعول مطلق له لأنه ضمير المصدر أي ذلك التبشير يبشره الله عباده وزعم أبو حيان أنه لا يظهر جعل الإشارة إلى التبشير لعدم تقدم لفظ البشرى ولا ما يدل عليها وهو ناشىء عن الغفلة عما سمعت فلا حاجة في الجواب عنه أن كون ما تقدم تبشيرا للمؤمنين كاف في صحة ذلك، ثم قال: ومن النحويين من جعل الذي مصدرية حكاه ابن مالك عن يونس وتأول عليه هذه الآية أي ذلك تبشير الله تعالى عباده، وليس بشيء لأنه إثبات للاشتراك بين مختلفي الحد بغير دليل وقد ثبتت اسمية الذي فلا يعدل عن ذلك بشيء لا يقوم به دليل ولا شبهة.
وقرأ عبد الله بن يعمر وابن أبي إسحاق والجحدري والأعمش وطلحة في رواية والكسائي وحمزة «يبشر» ثلاثيا ومجاهد وحميد بن قيس بضم الياء وتخفيف الشين من أبشر وهو معدى بالهمزة من بشر اللازم المكسور الشين وإما بشر بفتحها فمتعد وبشر بالتشديد للتكثير لا للتعدية لأن المعدى إلى واحد وهو مخفف لا يعدى بالتضعيف إليه فالتضعيف فيه للتكثير لا للتعدية قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على ما أتعاطاه لكم من التبليغ والبشارة وغيرهما أَجْراً أي نفعا ما، ويختص في العرف بالمال إِلَّا الْمَوَدَّةَ أي إلا مودتكم إياي فِي الْقُرْبى أي لقرابتي منكم ففي للسببية مثلها في «إن امرأة دخلت النار في هرة» فهي بمعنى اللام لتقارب السبب والعلة، وإلى هذا المعنى مجاهد وقتادة وجماعة والخطاب إما لقريش على ما قيل: إنهم جمعوا له مالا وأرادوا أن يرشوه على أن يمسك عن سب آلهتهم(13/30)
فلم يفعل ونزلت. وله عليه الصلاة والسلام في جميعهم قرابة. أخرج أحمد والشيخان. والترمذي. وغيرهم عن ابن عباس أنه سئل عن قوله تعالى: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى فقال سعيد بن جبير: قربى آل محمد صلّى الله عليه وسلّم فقال ابن عباس:
عجلت أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة أو للأنصار بناء على ما قيل: إنهم أتوه بمال ليستعين به على ما ينوبه فنزلت فرده، وله عليه الصلاة والسلام قرابة منهم لأنهم أخواله فإن أم عبد المطلب وهي سلمى بنت زيد النجارية منهم وكذا أخوال آمنة أمه عليه الصلاة والسلام كانوا على ما في بعض التواريخ من الأنصار أيضا أو لجميع العرب لقرابته عليه الصلاة والسلام منهم جميعا في الجملة كيف لا وهم إما عدنانيون وقريش منهم وإما قحطانيون والأنصار منهم، وقرابته عليه الصلاة والسلام من كل قد علمت وذلك يستلزم قرابته من جميع العرب، وقضاعة من قحطان لا قسم برأسه على ما عليه معظم النسابين، والمعنى إن لم تعرفوا حقي لنبوتي وكوني رحمة عامة ونعمة تامة فلا أقل من مودتي لأجل حق القرابة وصلة الرحم التي تعتنون بحفظها ورعايتها.
وحاصله لا أطلب منكم إلا مودتي ورعاية حقوقي لقرابتي منكم وذلك أمر لازم عليكم، وروي نحو هذا في الصحيحين عن ابن عباس بل جاء ذلك عنه رضي الله تعالى عنه في روايات كثيرة وظاهرها أن الخطاب لقريش منها ما أخرجه سعيد بن منصور وابن مسعود وعبد بن حميد والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن الشعبي قال: أكثر الناس علينا في هذه الآية قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ إلخ فكتبنا إلى ابن عباس نسأله فكتب رضي الله تعالى عنه إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان وسط النسب في قريش ليس بطن من بطونهم إلا وقد ولدوه قال الله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً على ما أدعوكم عليه إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى تودوني لقرابتي منكم وتحفظوني بها ومنها ما
أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. والطبراني عنه قال: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرابة من جميع قريش فلما كذبوه وأبوا أن يتابعوه قال: يا قوم إذا أبيتم أن تتابعوني فاحفظوا قرابتي فيكم ولا يكون غيركم من العرب أولى بحفظي ونصرتي منكم
، والظاهر من هذه الأخبار أن الآية مكية والقول بأنها في الأنصار يقتضي كونها مدنية، والاستثناء متصل بناء على ما سمعت من تعميم الأجر.
وقيل: لا حاجة إلى التعميم وكون المودة المذكورة من أفراد الأجر ادعاء كاف لاتصال الاستثناء، وقيل: هو منقطع إما بناء على أن المودة له عليه الصلاة والسلام ليست أجرا أصلا بالنسبة إليه صلّى الله عليه وسلّم أو لأنها لازمة لهم ليمدحوا بصلة الرحم فنفعها عائد عليهم والانقطاع اقطع لتوهم المنافاة بين هذه الآية والآيات المتضمنة لنفي سؤال الأجر مطلقا وذهب جماعة إلى أن المعنى لا أطلب منكم أجرا إلا محبتكم أهل بيتي وقرابتي. وفي البحر أنه قول ابن جبير والسدي وعمرو بن شعيب، وفِي عليه للظرفية المجازية.
والْقُرْبى بمعنى الأقرباء، والجار والمجرور في موضع الحال أي إلا المودة ثابتة في أقربائي متمكنة فيهم، ولمكانة هذا المعنى لم يقل: إلا مودة القربى، وذكر أنه على الأول كذلك وأمر اتصال الاستثناء وانقطاعه على ما سبق، والمراد بقرابته عليه الصلاة والسلام في هذا القول قيل: ولد عبد المطلب، وقيل
علي وفاطمة وولدها رضي الله تعالى عنهم وروي ذلك مرفوعا
، أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من طريق ابن جبير عن ابن عباس قال: «لما نزلت هذه الآية قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ إلخ قالوا: يا رسول الله من قرابتك الذين وجبت مودتهم؟ قال علي وفاطمة وولدها صلّى الله عليه وسلّم على النبي وعليهم» .
وسند هذا الخبر على ما قال السيوطي في الدر المنثور ضعيف، ونص على ضعفه في تخريج أحاديث الكشاف ابن حجر، وأيضا لو صح لم يقل ابن عباس ما حكي عنه في الصحيحين وغيرهما وقد تقدم إلا أنه روي عن جماعة من(13/31)
أهل البيت ما يؤيد ذلك،
أخرج ابن جرير عن أبي الديلم قال: لما جيء بعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أسيرا فأقيم على درج دمشق قام رجل من أهل الشام فقال: الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم فقال له علي رضي الله تعالى عنه: أقرأت القرآن؟ قال: نعم قال: أقرأت آل حم؟ قال: نعم قال: ما قرأت: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى قال: فإنكم لأنتم هم؟ قال: نعم
.
وروى ذاذان عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: فينا في آل حم آية لا يحفظ مودتنا إلا مؤمن ثم قرأ هذه الآية
، وإلى هذا أشار الكميت في قوله:
وجدنا لكم في آل حم آية ... تأولها منا تقيّ ومعرب
ولله تعالى در السيد عمر الهيتي أحد الأقارب المعاصرين حيث يقول:
بأية آية يأتي يزيد ... غداة صحائف الأعمال تتلى
وقام رسول رب العرش يتلو ... وقد صمت جميع الخلق قل لا
والخطاب على هذا القول لجميع الأمة لا للأنصار فقط وإن ورد ما يوهم ذلك فإنهم كلهم مكلفون بمودة أهل البيت،
فقد أخرج مسلم والترمذي والنسائي عن زيد بن أرقم «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: أذكركم الله تعالى في أهل بيتي.
وأخرج الترمذي وحسنه والطبراني والحاكم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: قال عليه الصلاة والسلام «أحبوا الله تعالى لما يغذوكم به من نعمة وأحبوني لحب الله تعالى وأحبوا أهل بيتي لحبي»
وأخرج ابن حبان والحاكم عن أبي سعيد قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت رجل إلا أدخله الله تعالى النار»
إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة من الأخبار، وفي بعضها ما يدل على عموم القربى وشمولها لبني عبد المطلب.
أخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي عن المطلب بن ربيعة قال: دخل العباس على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إنا لنخرج فنرى قريشا تحدث فإذا رأونا سكتوا فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودر عرق بين عينيه ثم قال: والله لا يدخل قلب امرئ مسلم إيمان حتى يحبكم لله تعالى ولقرابتي
، وهذا ظاهر إن خص القربى بالمؤمنين منهم وإلا فقيل: إن الحكم منسوخ، وفيه نظر، والحق وجوب محبة قرابته عليه الصلاة والسلام من حيث إنهم قرابته صلّى الله عليه وسلّم كيف كانوا، وما أحسن ما قيل:
داريت أهلك في هواك وهم عدا ... ولأجل عين ألف عين تكرم
وكلما كانت جهة القرابة أقوى كان طلب المودة أشد، فمودة العلويين الفاطميين ألزم من محبة العباسيين على القول بعموم الْقُرْبى وهي على القول بالخصوص قد تتفاوت أيضا باعتبار تفاوت الجهات والاعتبارات وآثار تلك المودة التعظيم والاحترام والقيام بأداء الحقوق أتم قيام، وقد تهاون كثير من الناس بذلك حتى عدوا من الرفض السلوك في هاتيك المسالك. وأنا أقول قول الشافعي الشافي العي:
يا راكبا قف بالمحصب من منى ... واهتف بساكن خيفها والناهض
سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى ... فيضا كملتطم الفرات الفائض
إن كان رفضا حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي
ومع هذا لا أعد الخروج عما يعتقده أكابر أهل السنة في الصحابة رضي الله تعالى عنهم دينا وأرى حبهم فرضا علي مبينا فقد أوجبه أيضا الشارع وقامت على ذلك البراهين السواطع. ومن الظرائف ما حكاه الإمام عن بعض المذكرين قال:
إنه عليه الصلاة والسلام قال: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم»
ونحن الآن في بحر التكليف وتضربنا أمواج الشبهات والشهوات وراكب البحر يحتاج إلى أمرين: أحدهما السفينة الخالية عن العيوب، والثاني الكواكب الطالعة النيرة، فإذا ركب تلك السفينة ووضع بصره على تلك الكواكب كان رجاء السلامة غالبا، فلذلك(13/32)
ركب أصحابنا أهل السنة سفينة حب آل محمد صلّى الله عليه وسلّم ووضعوا أبصارهم على نجوم الصحابة يرجون أن يفوزوا بالسلامة والسعادة في الدنيا والآخرة انتهى، والكثير من الناس في حق كل من الآل والأصحاب في طرفي التفريط والإفراط وما بينهما هو الصراط المستقيم، ثبتنا الله تعالى على ذلك الصراط.
وقال عبد الله بن القاسم: المعنى لا أسألكم عليه أجرا إلا أن يود بعضكم بعضا وتصلوا قراباتكم، وأمر فِي والاستثناء لا يخفى.
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن أن المعنى لا أسألكم عليه أجرا إلا التقرب إلى الله تعالى بالعمل الصالح فالقربى بمعنى القرابة وليس المراد قرابة النسب قيل: ويجري في الاستثناء الاتصال والانقطاع، واستظهر الخفاجي أنه منقطع وأنه على نهج قوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم البيت، وأراه على القول قبله كذلك.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «إلا مودة في القربى» هذا ومن الشيعة من أورد الآية في مقام الاستدلال على إمامة علي كرم الله تعالى وجهه
قال علي كرم الله تعالى وجهه: واجب المحبة وكل واجب المحبة واجب الطاعة وكل واجب الطاعة صاحب الإمامة
ينتج علي رضي الله تعالى عنه صاحب الإمامة وجعلوا الآية دليل الصغرى، ولا يخفى ما في كلامهم هذا من البحث، أما أولا فلأن الاستدلال بالآية على الصغرى لا يتم إلا على القول بأن معناها لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوا قرابتي وتحبوا أهل بيتي وقد ذهب الجمهور إلى المعنى الأول، وقيل في هذا المعنى: إنه لا يناسب شأن النبوة لما فيه من التهمة فإن أكثر طلبة الدنيا يفعلون شيئا ويسألون عليه ما يكون فيه نفع لأولادهم وقراباتهم، وأيضا فيه منافاة ما لقوله تعالى: وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [يوسف: 104] وأما ثانيا فلأنا لا نسلم أن كل واجب المحبة واجب الطاعة فقد ذكر ابن بابويه في كتاب الاعتقادات أن الإمامية أجمعوا على وجوب محبة العلوية مع أنه لا يجب طاعة كل منهم، وأما ثالثا فلأنا لا نسلم أن كل واجب الطاعة صاحب الإمامة أي الزعامة الكبرى وإلا لكان كل نبي في زمنه صاحب ذلك ونص إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً [البقرة: 247] يأبى ذلك، وأما رابعا فلأن الآية تقتضي أن تكون الصغرى أهل البيت واجبو الطاعة ومتى كانت هذه صغرى قياسهم لا ينتج النتيجة التي ذكروها ولو سلمت جميع مقدماته بل ينتج أهل البيت صاحبو الإمامة وهم لا يقولون بعمومه إلى غير ذلك من الأبحاث فتأمل ولا تغفل.
وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً أي يكتسب أي حسنة كانت، والكلام تذييل، وقيل المراد بالحسنة المودة في قربى الرسول صلّى الله عليه وسلّم وروي ذلك عن ابن والسدي، وأن الآية نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه لشدة محبته لأهل البيت، وقصة فدك. والعوالي لا تأبى ذلك عند من له قلب سليم، والكلام عليه تتميم، ولعل الأول أولى، وحب آل الرسول عليه الصلاة والسلام من أعظم الحسنات وتدخل في الحسنة هنا دخولا أوليا نَزِدْ لَهُ فِيها أي في الحسنة حُسْناً بمضاعفة الثواب عليها فإنها يزاد بها حسن الحسنة، ففي للظرفية وحُسْناً مفعول به أو تمييز، وقرأ زيد بن علي وعبد الوارث عن أبي عمرو وأحمد بن جبير عن الكسائي «يزد» بالياء أي يزد الله تعالى. وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو «حسنى» بغير تنوين وهو مصدر كبشرى أو صفة لموصوف مقدر أي صفة أو خصلة حسنى إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ساتر ذنوب عباده شَكُورٌ مجاز من أطاع منهم بتوفية الثواب والتفضل عليه بالزيادة، وقال السدي: غفور لذنوب آل محمد صلّى الله عليه وسلّم شكور لحسناتهم.(13/33)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34)
أَمْ يَقُولُونَ بل أيقولون افْتَرى محمد عليه الصلاة والسلام عَلَى اللَّهِ كَذِباً بدعوى النبوة أو القرآن، والهمزة للإنكار التوبيخي وبل للإضراب من غير إبطال وهو إضراب أطم من الأول فأطم فإن إثبات ما هم عليه من الشرع وإن كان شرا وشركا أقرب من جعل الحق الأبلج المعتضد بالبرهان النير من أوسطهم فضلا ودعة وعقلا افتراء ثم افتراء على الله عز وجل فكأنه قيل: أيتمالكون التفوه بنسبة مثله عليه الصلاة والسلام إلى الافتراء ثم إلى الافتراء على الله عز وجل الذي هو أعظم الفري وأفحشها ولا تحترق ألسنتهم.
وفي ذلك أتم دلالة على بعده صلّى الله عليه وسلّم من الافتراء كيف وقد أردف بقوله تعالى: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ فإن هذا الأسلوب مؤداه استبعاد الافتراء من مثله عليه الصلاة والسلام وأنه في البعد مثل الشرك بالله سبحانه والدخول في جملة المختوم على قلوبهم فكأنه قيل: فإن يشأ الله سبحانه يجعلك من المختوم على قلوبهم حتى تفتري عليه الكذب فإنه لا يجترىء على افتراء الكذب على الله تعالى إلا من كان في مثل حالهم وهو في معنى فإن يشأ يجعلك منهم لأنهم هم المفترون الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله تعالى، وما أحسن هذا التعريض بأنهم المفترون وأنهم في نفس هذه المقالة عن افترائهم مفترون، ونظير الآية فيما ذكر قول أمين نسب إلى الخيانة: لعل الله تعالى خذلني لعل الله تعالى أعمى قلبي وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب وإنما يريد استبعاد أن يخون مثله والتنبيه على أنه ركب من تخوينه أمر عظيم، فالكلام تعليل لإنكار قولهم، وأتى بإن مع أن عدم مشيئته تعالى مقطوع به قيل إرخاء للعنان، وقيل: إشعار بعظمته تعالى وأنه سبحانه غني عن العالمين، ثم ذيل بقوله تعالى: وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ تأكيدا للمفهوم من السابق من أنه ليس من الافتراء في شيء أي كيف يكون افتراء ومن عادته تعالى محو الباطل ومحقه وإثبات الحق بوحيه أو بقضائه وما أتى به عليه الصلاة والسلام يزداد كل يوم قوة ودحوا فلو كان مفتريا كما يزعمون لكشف الله تعالى افتراءه ومحقه وقذف بالحق على باطله فدمغه.
والفعل المضارع للاستمرار. والكلام ابتدائي فيمح مرفوع لا مجزوم بالعطف على يَخْتِمْ وأسقطت الواو في الرسم في أغلب المصاحف تبعا لإسقاطها في اللفظ لالتقاء الساكنين كما في سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [العلق: 18] .
ويَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ [الإسراء: 11] وكان القياس إثباتها رسما لكن رسم المصحف لا يلزم جريه على القياس، ويؤيد الاستئناف دون العطف على يَخْتِمْ إعادة الاسم الجليل ورفع يُحِقُّ وهذا ما ذكره جار الله في الجملتين(13/34)
وبيان ارتباطهما بما قبلهما، وقد دقق النظر في ذلك وأتى بما استحسنه النظار حتى قال العلامة الطيبي: لو لم يكن في كتابه إلا هذا لكفاه مزية وفضلا، وجوز هو أيضا في قوله تعالى: وَيَمْحُ إلخ أن يكون عدة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالنصر أي يمحو الله تعالى باطلهم وما بهتوك به ويثبت الحق الذي أنت عليه بالقرآن وبقضائه الذي لا مرد له، وحينئذ يكون اعتراضا يؤكد ما سبق له الكلام من كونهم مبطلين في هذه النسبة إلى من هو أصدق الناس لهجة بأصدق حديث من أصدق متكلم، وقال في إرشاد العقل السليم في الجملة الأولى: إنها استشهاد على بطلان ما قالوه ببيان أنه عليه الصلاة والسلام لو افترى على الله تعالى كذبا لمنعه من ذلك قطعا، وتحقيقه أن دعوى كون القرآن افتراء عليه تعالى قول منهم أنه سبحانه لا يشاء صدوره عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بل يشاء عدم صدوره عنه ومن ضرورياته منعه عنه قطعا فكأنه قيل:
لو كان افتراء عليه تعالى لشاء عدم صدوره عنك وإن يشأ ذلك يختم على قلبك بحيث لم يخطر ببالك معنى من معانيه ولم تنطق بحرف من حروفه وحيث لم يكن الأمر كذلك بل تواتر الوحي حينا فحينا تبين أنه من عند الله عز وجل، وذكر في الجملة الثانية ما ذكره جار الله من الوجهين، ولا يخفى عليك ما يرد على كلامه من المنع مع أن فيه جعل مفعول المشيئة غير ما يدل عليه الجواب وهو ذلك المشار به إلى عدم الصدور، والمتبادر كون المفعول الختم على ما هو المعروف في نظائر هذا التركيب أي فإن يشأ الله تعالى الختم على قلبك يختم، وإيهام كون القرآن ناشئا منه صلّى الله عليه وسلّم لا منزلا عليه عليه الصلاة والسلام، وقال السمرقندي: المعنى إن يشأ يختم على قلبك كما فعل بهم فهو تسلية له عليه الصلاة والسلام وتذكير لإحسانه إليه وإكرامه له صلّى الله عليه وسلّم ليشكر ربه سبحانه ويترحم على من ختم على قلبه فاستحق غضب ربه ولولا ذلك ما اجترأ على نسبته لما ذكر، فالتفريع بالنظر إلى المعنى المكنى عنه، وحاصله أنهم اجترءوا على هذا لأنهم مطبوعون على الضلال انتهى، وفيه شمة مما ذكره الزمخشري.
وعن قتادة وجماعة يختم على قلبك ينسك القرآن، والمراد على ما قال ابن عطية الرد على مقالة الكفار وبيان بطلانها كأنه قيل: وكيف يصح أن تكون مفتريا وأنت من الله تعالى بمرأى ومسمع وهو سبحانه قادر ولو شاء لختم على قلبك فلا تعقل ولا تنطق ولا يستمر افتراؤك، وفيه أن اللفظ ضيق عن أداء هذا المعنى، وذكر القشيري أن المعنى فإن يشأ الله تعالى يختم على قلوب الكفار وعلى ألسنتهم ويعاجلهم بالعذاب، وعدل عن الغيبة إلى الخطاب ومن الجمع إلى الإفراد، وحاصله يختم على قلبك أيها القائل إنه عليه الصلاة والسلام افترى على الله تعالى كذبا، وفيه من البعد ما فيه مع أن الكفار مختوم على قلوبهم، وقال مجاهد ومقاتل: المعنى فإن يشأ يربط على قلبك بالصبر على أذاهم حتى لا يشق عليك قولهم إنك مفتر، ولا مانع عليه من عطف يَمْحُ على جواب الشرط بل هو الظاهر فيكون سقوط الواو للجازم، ويُحِقُّ حينئذ مستأنف أي وإن يشأ يمح باطلهم عاجلا لكنه سبحانه لم يفعل لحكمة أو مطلقا وقد فعل جل وعلا بالآخرة وأظهر دينه، وقيل: لا مانع من العطف على بعض الأقوال السابقة أيضا أي إن يشأ يمح افتراءك لو افتريت وهو كما ترى، وكذا جوز كون الجملة حالية وإن أحوج ذلك إلى تقدير المبتدأ وفيه تكلف مستغنى عنه وربما يقال: إن جملة فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ من تتمة قولهم مفرعا على افْتَرى كأنه قيل: افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبه بسبب افترائه فلا يعقل شيئا أو كأنه قيل: افتريت على الله فإن يشأ يختم على قلبك جزاء ذلك إلا أن نكتة اختيار الغيبة في إحدى الجملتين والخطاب في الأخرى غير ظاهرة، وكونها الإشارة إلى أن من افترى يحق أن يواجه بالجزاء ليس مما يهش له السامع فيما أرى، ولعل الأولى أن يكون فَإِنْ يَشَإِ إلخ مفرعا على كلامهم خارجا مخرج التهكم بهم، ولا بأس حينئذ بعطف يمح على جواب الشرط ويراد بالباطل ما هو باطل بزعمهم كأنه قيل:
أم يقولون افترى على الله فإذن إن يشأ الله يختم على قلبك ويمح ما يزعمون أنه باطل، وهذا كما تقول لمن أخبرك أن(13/35)
زيدا افترى عليك وأنت تعلم أنه لم يفتر وإنما أدى عنك ما أمرته به فإذن نؤدبه وننتقم منه ونمحو افتراءه تقصد بذلك التهكم بالقائل فتأمل، فهذه الآية كما قال الخفاجي من أصعب ما مر في كلامه تعالى العظيم وفقنا الله تعالى وإياكم لفهم معانيه والوقوف على سره وخافيه إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فيعلم سبحانه ما في صدرك وصدورهم فيجري جلّ وعلا الأمر على حسب ذلك.
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ بالتجاوز عما تابوا عنه والقبول يعدى بعن لتضمنه معنى الإبانة وبمن لتضمنه معنى الأخذ كما في قوله تعالى: وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ [التوبة: 54] أي تؤخذ، وقيل: القبول مضمن هنا معنى التجاوز والكلام على تقدير مضاف أي يقبل التوبة متجاوزا عن ذنوب عباده وهو تكلف.
والتوبة أن يرجع عن القبيح والإخلال بالواجب في الحال ويندم على ما مضى ويعزم على تركه في المستقبل وزادوا التقصي منه بأي وجه أمكن إن كان الذنب لعبد فيه حق وذلك بالرد إليه أو إلى وكيله أو الاستحلال منه إن كان حيا وبالرد إلى ورثته إن كان ميتا ووجدوا ثم القاضي لو كان أمينا وهو كالإكسير ومن رأى الإكسير؟ فإن لم يقدر على شيء من ذلك يتصدق عنه والا يدع له ويستغفر.
وفي الكشف التقصي داخل في الرجوع إذ لا يصح الرجوع عنه وهو ملتبس به بعد، واختير أن حقيقتها الرجوع وإنما الندم والعزم ليكون الرجوع إقلاعا ويتحقق أنه التوبة التي ندبنا إليها وهو موافق لما في الاحياء من أنها اسم لتلك الحالة بالحقيقة والباقي شروط التحقق ويشترط أيضا أن يكون الباعث على الرجوع مع الندم والعزم دينيا فلو رجع لمانع آخر من ضعف بدن أو غرم لذلك لم يكن من التوبة في شيء، وأشار الزمخشري إلى ذلك بكون الرجوع لأن المرجوع عنه قبيح وإخلال بالواجب وخرج عنه ما لو رجع طلبا للثناء أو رياء أو سمعة لأن قبح القبيح معناه كونه مقتضيا للعقاب آجلا وللذم عاجلا فلو رجع لما سبق لم يكن رجوعا لذلك.
وروى جابر أن أعرابيا دخل مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك وكبر فلما فرغ من صلاته قال له علي كرم الله وجهه: إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين وتوبتك تحتاج إلى التوبة فقال يا أمير المؤمنين: ما التوبة؟ قال: اسم يقع على ستة معان على الماضي من الذنوب الندامة ولتضيع الفرائض الإعادة ورد المظالم وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية والبكاء بدل كل ضحك ضحكته
، وهذا يحتمل أن تكون التوبة مجموع هذه الأمور فالمراد أكمل أفرادها، ويحتمل أنها اسم لكل واحد منها والأول أظهر. واختلف في التوبة عن بعض المعاصي مع الإصرار على البعض هل هي صحيحة أم لا والذي عليه الأصحاب أنها صحيحة لظواهر الآيات والأحاديث وصدق التعريف عليها، وأكثر المعتزلة على أنها غير صحيحة قال أبو هاشم منهم: لو تاب عن القبيح لكونه قبيحا وجب أن يتوب عن كل القبائح وإن تاب عنه لا لمجرد قبحه بل لغرض آخر لم تصح توبته. وتعقب بأنه يجوز أن يكون الباعث شدة القبح أو أمرا دينيا آخر وأيضا يجري نظير هذا في فعل الحسن بل يقال: لو فعل الحسن لكونه حسنا وجب عليه أن يفعل كل حسن وإن فعله لغرض آخر لم يقبل وفيه بحث.
واستدل المعتزلة بالآية على أنه يجب عليه تعالى قبول التوبة واستدل أهل السنة بها على عدم الوجوب لمكان التمدح ولا تمدح بالواجب، وفيه أيضا بحث والأنفع في هذا المقام أدلة نفي الوجوب مطلقا عليه عز وجل. وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ صغائرها وكبائرها لمن يشاء من غير اشتراط شيء كالتوبة للكبائر واجتنابها للصغائر.
وقال الطيبي: المعنى من شأنه تعالى شأنه قبول التوبة عن عباده إذا تابوا والعفو عن سيئاتهم بمحض رحمته أو(13/36)
بشفاعة شافع، وقال المعتزلة: أي يعفو عن الكبائر إذا تيب عنها وعن الصغائر إذا اجتنبت الكبائر فالعفو عن السيئات عليه أعم من قبول التوبة لشموله الصغائر إذا اجتنبت الكبائر وهو تعميم بعد تخصيص، والظاهر مع أهل السنة إذ لا دلالة في النظم الجليل على تخصيص السيئات نعم المراد بها غير الشرك بالإجماع.
وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ بتاء الخطاب عند حفص والأخوين وعلقمة وعبد الله وبياء الغيبة عند الجمهور وعلى الأول ففيه التفات وما موصولة والعائد محذوف أي يعلم الذي تفعلونه كائنا ما كان من خير وشر فيجازى بالثواب والعقاب أو يتجاوز سبحانه بالعفو حسبما تقتضيه مشيئته جل وعلا المبنية على الحكم والمصالح.
وقيل: يعلم ذلك فيجازي التائب ويتجاوز عن غيره إذا شاء سبحانه والأول أظهر. وفي الكشاف يعلم سبحانه ذلك فيثيب على الحسنات ويعاقب على السيئات. وفي الكشف بعد نقله هو أي قوله تعالى. وَيَعْلَمُ إلخ تذييل للكلام السابق يؤكد ما ذكره من القبول والعفو لأنه تعالى إذا علم العملين والعاملين جازى كلا بما فعل فأولى أن يجازي هؤلاء المحسنين بأفعالهم، ثم فيه لطف وحث على لزوم الحذر منه تعالى والإخلاص له سبحانه في إمحاض التوبة، ونحن أيضا لا ننكر أنه تذييل فيه تأكيد كما لا يخفى وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ عطف على يَقْبَلُ التَّوْبَةَ فالفاعل ضميره تعالى والَّذِينَ مفعول بدون تقدير شيء بناء على أن يَسْتَجِيبُ يتعدى بنفسه كما يتعدى باللام نحو شكرته وشكرت له أو بتقدير اللام على أنه من باب الحذف والإيصال والأصل يستجيب للذين آمنوا بناء على أنه يتعدى للداعي باللام وللدعاء بنفسه ونحو هذا قوله:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وأجاب واستجاب بمعنى أي ويجيب الله تعالى الذين آمنوا إذا دعوا وحاصله يجيب دعاءهم، وجوز بعضهم أن يكون الكلام بتقدير هذا المضاف قيل: وهو أولى من القول بإيصال الفعل بحذف الصلة لأن حذف المضاف إذا لم يلبس منقاس وذاك مسموع، ويجوز أن يكون المراد يثيبهم على طاعتهم فإن الطاعة لكونها طلب ما يترتب عليها من الثواب شابهت الدعاء وشابهت الإثابة عليها الإجابة، ومن هذا يسمى الثناء دعاء لأنه يترتب عليه ما يترتب عليه، وسئل سفيان عن
قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث: «أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير»
فقال: هذا كقوله تعالى
في الحديث القدسي: «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين»
ألا ترى قول أمية بن الصلت لابن جدعان حين أتاه يبغي نائلة:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... ثناؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه عن تعرضك الثناء
وجعلوا من ذلك
قوله صلّى الله عليه وسلّم «أفضل الدعاء الحمد لله»
على معنى أن الحمد يدل على الدعاء والسؤال بطريق الكناية والتعريض، وقيل: هو على إطلاق الدعاء على الحمد لشبهه به في طلب ما يترتب عليه، وجوز أن يراد بالإجابة معناها الحقيقي والإثابة بناء على القول بصحة الجمع بين الحقيقة والمجاز أي يجيب دعاءهم ويثيبهم على الطاعة وَيَزِيدُهُمْ على ما سألوا واستحقوا مِنْ فَضْلِهِ الواسع جل شأنه، وقيل: إن فاعل وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا واستظهره أبو حيان، والجملة عطف على مجموع قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ إلخ أي ينقادون لله تعالى ويجيبونه سبحانه إذا دعاهم، وهو المروي عن ابن جبير، وعن إبراهيم بن أدهم أنه قيل له: ما لنا ندعو فلا نجاب؟
فقال: لأنه سبحانه دعاكم فلم تجيبوه ثم قرأ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ [يونس: 25] وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وهذا يؤكد هذا الوجه لأنه قدس سره ذكر أن الله تعالى دعاكم بقوله عز وجل: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وذكر(13/37)
أن المؤمن من استجاب دعوة ربه تعالى بقوله: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا فمن لا يجيب دعاءه تعالى لا يجيب تعالى أيضا دعاءه، وكون الفاعل ضميره تعالى قد روى ما يقتضيه عن ابن عباس. ومعاذ بن جبل وَيَزِيدُهُمْ عليه عطف على ما قبله وعلى الوجه الآخر عطف على مقدر أي فيوفيهم أجورهم ويزيدهم عليها على أسلوب وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا [النمل: 15] وقوله سبحانه: مِنْ فَضْلِهِ متعلق بيزيدهم مطلقا، وجوز تعليقه بالفعلين على التنازع فإن الإجابة والثواب فضل منه تعالى كالزيادة.
وأيا ما كان فالظاهر عموم الذين آمنوا
وروي عن سعيد بن جبير أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قدم المدينة واستحكم الإسلام قالت الأنصار فيما بينها: نأتي رسول الله عليه الصلاة والسلام ونقول له: إن تعرك أمور فهذه أموالنا تحكم فيها فنزلت قل لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى فقرأها عليهم، وقال تودون قرابتي من بعدي فخرجوا مسلمين فقال المنافقون: إن هذا لشيء افتراه في مجلسه أراد بذل عز قرابته من بعده فنزلت أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [سبأ: 8] فأرسل إليهم فتلاها عليهم فبكوا وندموا فأنزل الله تعالى وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ فأرسل صلّى الله عليه وسلّم إليهم فبشرهم وقال: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وهم الذين سلموا لقوله ذكر ذلك الطبرسي، وذكر قريبا منه في الدر المنثور لكن قال: أخرجه الطبراني في الأوسط. وابن مردويه عن ابن جبير
بسند ضعيف، والذي يغلب على الظن الوضع وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بدل ما للمؤمنين من الإجابة والتفضل.
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ أي لتكبروا فيها بطرا وتجاوزوا الحد الذي يليق بالعبيد أو لظلم بعضهم بعضا فإن الغني مبطرة مأشرة، وكفى بحال قارون عبرة،
وفي الحديث «أخوف ما أخاف على أمتي زهرة الدنيا وكثرتها»
ولبعض العرب:
وقد جعل الوسمي ينبت بيننا ... وبين بني رومان نبعا وشوحطا
وأصل البغي طلب أكثر مما يجب بأن يتجاوز في القدر والكمية أو في الوصف والكيفية وَلكِنْ يُنَزِّلُ بالتشديد، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف من الإنزال بِقَدَرٍ بتقدير ما يَشاءُ وهو ما اقتضته حكمته جل شأنه إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ محيط بخفيات أمورهم وجلاياها فيقدر لكل واحد منهم في كل وقت من أوقاتهم ما يليق بشأنه فيفقر ويغني ويمنع ويعطي ويقبض ويبسط حسبما تقتضيه الحكمة الربانية ولو أغناهم جميعا لبغوا ولو أفقرهم لهلكوا. واستشكلت الآية بأن الغنى كما يكون سبب البغي فكذلك الفقر قد يكون فلا يظهر الشرطية، وأجاب جار الله بأنه لا شبهة أن البغي مع الفقر أقل ومع البسط أكثر وأغلب وكلاهما سبب ظاهر للإقدام على البغي والإحجام عنه فلو عم البسط لغلب البغي حتى ينقلب الأمر إلى عكس ما عليه الآن وأراد والله تعالى أعلم أن نظام العالم على ما هو عليه يستمر وإن كان قد يصدر من الغنى في بعض الأحيان بغي ومن الفقير كذلك لكن في أحدهما ما يدفع الآخر أما لو أفقرهم كلهم لكان الضعف والهلك لازما ولو بسط عليهم كلهم مع أن الحاجة طبيعية لكان من البغي ما لا يقادر قدره لأن نظام العالم بالفقر أكثر منه بالغنى، وهذا أمر ظاهر مكشوف ثم إن الفقر الكلي لا يتصور معه البغي للضعف العام ولأنه لا يجد حاجته عند غيره ليظلمه، وأما الغنى الكلي فعنده البغي التام، وأما الذي عليه سنة الله عز وجل فهو الذي جمع الأمرين مشتملا على خوف للغني من الفقراء يزعه عن الظلم وخوف للفقير من الأغنياء أكثر منه يدعوه إلى التعاون ليفوز بمبتغاه ويزعه عن البغي، ثم قد يتفق بغي من هذا أو ذاك كذا قرره صاحب الكشف ثم قال: وهذا جواب حسن لا تكلف فيه وهو إشارة إلى رد العلامة الطيبي فإنه زعم أنه جواب متكلف وإن السؤال قوي، وذهب هو إلى أن المراد بِعِبادِهِ من خصهم الله تعالى بالكرامة وجعلهم من أوليائه ثم قال: وينصره التذييل بقوله تعالى: إِنَّهُ بِعِبادِهِ(13/38)
خَبِيرٌ بَصِيرٌ
ووضع المظهر موضع المضمر أي إنه تعالى خبير بأحوال عباده المكرمين بصير بما يصلحهم وما يرديهم، وإليه ينظر ما
ورد عنه صلّى الله عليه وسلّم إذا أحب الله تعالى عبدا حماه الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء
، ويشد من عضده قول خباب بن الأرت نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع فتمنيناها فنزلت وَلَوْ بَسَطَ الآية وقول عمرو بن حريث طلب قوم من أهل الصفة من الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يغنيهم الله تعالى ويبسط لهم الأموال والأرزاق فنزلت وعليه تفسير محيي السنة انتهى. ولا يخفى أن الأنسب بحال المكرمين المصطفين من عباده تعالى أن لا يبطرهم الغنى لصفاء بواطنهم وقوة توجههم إلى حظائر القدس ومزيد تعلق قلوبهم بمحبوبهم ووقوفهم على حقائق الأشياء وكمال علمهم بمنتهى زخارف الحياة الدنيا، وأبناء الدنيا لو فكروا في ذلك حق التفكر لهان أمرهم وقل شغفهم كما قيل:
لو فكر العاشق في منتهى ... حسن الذي يسبيه لم يسبه
فلعل الأولى ما تقدم أو يقال إن هذا في بعض العباد المؤمنين فتأمل وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ أي المطر الذي يغيثهم من الجدب ولذلك خص بالنافع منه فلا يقال غيث لكل مطر، وقرأ الجمهور «ينزل» مخففا.
مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا بكسر النون وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ أي منافع الغيث وآثاره في كل شيء من السهل والجبل والنبات والحيوان أو رحمته الواسعة المنتظمة لما ذكر انتظاما أوليا، وقيل: الرحمة هنا ظهور الشمس لأنه إذا دام المطر سئم فتجيء الشمس بعده عظيمة الموقع ذكره المهدوي وليس بشيء، ومن البعيد جدا ما قاله السدي من أن الرحمة هنا الغيث نفسه عدد النعمة نفسها بلفظين، وأيا ما كان فضمير رَحْمَتَهُ لله عز وجل، وجوز على الأول كونه للغيث.
وَهُوَ الْوَلِيُّ الذي يتولى عباده بالإحسان ونشر الرحمة الْحَمِيدُ المستحق للحمد على ذلك لا غيره سبحانه.
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ على ما هما عليه من تعاجيب الصنائع فإنها بذاتها وصفاتها تدل على شؤونه تعالى العظيمة، ومن له أدنى إنصاف وشعور يجزم باستحالة صدورها من الطبيعة العديمة الشعور.
وَما بَثَّ فِيهِما عطف على السَّماواتِ أي ومن آياته خلق ما بث أو عطف على خَلْقُ أي ومن آياته ما بث. وما تحتمل الموصولية والمصدرية والموصولية أظهر ولا حاجة عليه إلى تقدير مضاف أي خلق الذي بث خلافا لأبي حيان مِنْ دابَّةٍ أي حيوان له دبيب وحركة، وظاهر الآية وجود ذلك في السموات وفي الأرض وبه قال مجاهد وفسر الدابة بالناس والملائكة، ويجوز أن يكون للملائكة مشي مع الطيران، واعترض ذلك ابن المنير بأن إطلاق الدابة على الاناسي بعيد في عرف اللغة فكيف بالملائكة وادعى أن الأصح كون الدواب في الأرض لا غير وما في أحد الشيئين يصدق أنه فيهما في الجملة، فالآية على أسلوب يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن: 22] وذلك لقوله تعالى في [البقرة: 164] وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ فإنه يدل على اختصاص الدواب بالأرض لأن مقام الإطناب يقتضي ذكره لو كان لا للعمل بمفهوم اللقب الذي لا يقول به الجمهور والجواب أن التي في البقرة لما كانت كلاما مع الغبي والفهم والمسترشد والمعاند جيء فيه بما هو معروف عند الكل وهو بث الدواب في الأرض وأما هاهنا فجيء به مدمجا مختصرا لما تكرر في القرآن ولا سيما في هذه السورة من كمال قدرته على كل ممكن فقيل: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مؤثرا على لفظ الخلق ليدل على التكثير الدال على كمال القدرة وبين بقوله تعالى: مِنْ دابَّةٍ تعميما وتغليبا لغير ذوي العلم في السماوي والأرضي تحقيقا للمخلوقية فقد ثبت في صحاح الأحاديث ما يدل على وجود الدواب في السماء من مراكب أهل الجنة وغيرها، وكذلك ما يدل على وجود ملائكة كالأوعال بل لا يبعد أن يكون في كل سماء حيوانات ومخلوقات على صور شتى وأحوال مختلفة لا نعلمها(13/39)
ولم يذكر في الأخبار شيء منها فقد قال تعالى: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ [النحل: 8] وأهل الأرصاد اليوم يتراءى لهم بواسطة نظاراتهم مخلوقات في جرم القمر لكنهم لم يحققوا أمرها لنقص ما في الآلات على ما يدعون، ويحتمل أن يكون فيما عدا القمر ونفي ذلك ليس من المعلوم من الدين بالضرورة ليضر القول به، وقيل: المراد بالسماوات جهات العلو المسامتة للأقاليم مثلا وفي جو كل قليم بل كل بلدة بل كل قطعة من الأرض حيوانات لا يحصي كثرتها إلا الله تعالى بعضها يحس بها بلا واسطة آلة وبعضها بواسطتها، وقيل: المراد بها السحب وفيها من الحيوانات ما فيها وكل ذلك على ما فيه لا يحتاج إليه، وكذا لا يحتاج إلى ما ذهب إليه كثير من أن المراد بالدابة الحي مجازا إما من استعمال المقيد في المطلق أو إطلاق الشيء على لازمه أو المسبب على سببه لأن الحياة سبب للدبيب وإن لم تكن الدابة سببا للحي فيكون مجازا مرسلا تبعيا لأن الاحتياج إلى ذلك عدول عن الظاهر ولا يعدل عنه إلا إذا دل دليل على خلافه وأين ذلك الدليل؟ بل هو قائم على وجود الدواب في السماء كما هي موجودة في الأرض.
وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ أي حشرهم بعد البعث للمحاسبة إِذا يَشاءُ ذلك قَدِيرٌ تام القدرة كاملها، وإِذا متعلقة بما قبلها لا بقدر لأن المقيد بالمشيئة جمعه تعالى لا قدرته سبحانه وهي كما تدخل على الماضي تدخل على المضارع، ومنه قوله:
وإذا ما أشاء أبعث منها ... آخر الليل ناشطا مذعورا
وقول صاحب الكشف: لقائل أن يفرق بين إذا وإذا ما الظاهر أنه ليس في محله وقد نص الخفاجي على عدم الفرق وجعل القول به توهما، وكذا نص على أنها تدخل على الفعلين ظرفية كانت أو شرطية، وقيد ذلك الطيبي بما إذا كانت بمعنى الوقت كما هنا، وضمير جَمْعِهِمْ قيل للسموات والأرض وما فيهما على التغليب وهو كما ترى، وقيل: للدواب المفهوم مما تقدم وضمير العقلاء للتغليب المناسب لكون الجمع للمحاسبة، وقيل: للناس المعلوم من ذلك ولعله الأولى وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ أي مصيبة كانت من مصائب الدنيا كالمرض وسائر النكبات فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ أي فبسبب معاصيكم التي اكتسبتموها، وما اسم موصوف مبتدأ والمبتدأ إذا كان موصولا صلته جملة فعلية تدخل على خبره الفاء كثيرا لما فيه من معنى الشرط لإشعاره بابتناء الخبر عليه فلذا جيء بالفاء هنا.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر في رواية وشيبة «بما» بغير فاء لأنها ليست بلازمة وإيقاع المبتدأ موصولا يكفي في الإشعار المذكور، وحكي عن ابن مالك أنه قال: اختلاف القراءتين دل على أن ما موصولة فجيء تارة بالفاء في خبرها وأخرى لم يؤت بها حطا للمشبه عن المشبه به، وجوز كون ما شرطية واستظهره أبو حيان في القراءة بالفاء وجعلها موصولة في القراءة الأخرى بناء على أن حذف الفاء من جواب الشرط مخصوص بالشعر عند سيبويه نحو:
من يفعل الحسنات الله يشكرها والأخفش وبعض نحاة بغداد أجازوا ذلك مطلقا، ومنه قوله تعالى: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:
121] .
وقال أبو البقاء: حذف الفاء من الجواب حسن إذا كان الشرط بلفظ الماضي ويعلم منه مزيد حسن حذفها هنا على جعل ما موصولة وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ أي من الذنوب فلا يعاقب عليها بمصيبة عاجلا قيل وآجلا.
وجوز كون المراد بالكثير الكثير من الناس والظاهر الأول وهو الذي تشهد له الأخبار.
روى الترمذي عن أبي موسى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يصيب عبدا نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب وما يعفو الله تعالى عنه أكثر وقرأ وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ»
.(13/40)
وأخرج ابن المنذر وجماعة عن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية وَما أَصابَكُمْ إلخ، قال عليه الصلاة والسلام والذي نفسي بيده ما من خدش عود ولا اختلاج عرق ولا نكبة حجر ولا عثرة قدم إلا بذنب وما يعفو الله عزّ وجلّ عنه أكثر
، وأخرج ابن سعد عن أبي مليكة أن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما كانت تصدع فتضع يدها على رأسها وتقول بذنبي وما يغفره الله تعالى أكثر، ورؤي على كف شريح قرحة فقيل: بم هذا؟ فقال: بما كسبت يدي، وسئل عمران بن حصين عن مرضه فقال: إن أحبه إلى الله تعالى وهذا بما كسبت يدي، والآية مخصوصة بأصحاب الذنوب من المسلمين وغيرهم فإن من لا ذنب له كالأنبياء عليهم السلام قد تصيبهم مصائب،
ففي الحديث «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل»
ويكون ذلك لرفع درجاتهم أو لحكم أخرى خفيت علينا، وأما الأطفال والمجانين فقيل غير داخلين في الخطاب لأنه للمكلفين وبفرض دخولهم أخرجهم التخصيص بأصحاب الذنوب فما يصيبهم من المصائب فهو لحكم خفية، وقيل: في مصائب الطفل رفع درجته ودرجة أبويه أو من يشفق عليه بحسن الصبر ثم إن المصائب قد تكون عقوبة على الذنب وجزاء عليه بحيث لا يعاقب عليه يوم القيامة، ويدل على ذلك ما
رواه أحمد في مسنده والحكيم الترمذي وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله تعالى حدثنا بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ وسأفسرها لك يا علي ما أصابك من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم والله تعالى أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة وما عفا الله تعالى عنه في الدنيا فالله سبحانه أكرم من أن يعود بعد عفوه
، وزعم بعضهم أنها لا تكون جزاء لأن الدنيا دار تكليف فلو حصل الجزاء فيها لكانت دار جزاء وتكليف معا وهو محال فما هي إلا امتحانات، وخبر علي كرم الله وجهه يرده وكذا ما صح من أن الحدود أي غير حد قاطع الطريق مكفرات وأي محالية في كون الدنيا دار تكليف ويقع فيها لبعض الأشخاص ما يكون جزاء له على ذنبه أي مكفرا له.
وعن الحسن تفسير المصيبة بالحد قال: المعنى ما أصابكم من حد من حدود الله تعالى فإنما هو بكسب أيديكم وارتكابكم ما يوجبه ويعفو الله تعالى عن كثير فيستره على العبد حتى لا يحد عليه، وهو مما تأباه الأخبار ومع هذا ليس بشيء ولعله لم يصح عن الحسن.
وفي الانتصاف أن هذه الآية تبلس عندها القدرية ولا يمكنهم ترويج حيلة في صرفها عن مقتضى نصها فإنها حملوا قوله تعالى: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48، 116] على التائب وهو غير ممكن لهم هاهنا فإنه قد أثبت التبعيض في العفو ومحال عندهم أن يكون العفو هنا مقيدا بالتوبة فإنه يلزم تبعيضا أيضا وهي عندهم لا تتبعض كما نقل الإمام عن أبي هاشم وهو رأس الاعتزال والذي تولى كبره منهم فلا محل لها إلا الحق الذي لا مرية فيه وهو رد العفو إلى مشيئة الله تعالى غير موقوف على التوبة. وأجيب عنهم بأن لهم أن يقولوا: المراد ويعفو عن كثير فلا يعاقب عليه في الدنيا بل يؤخر عقوبته في الآخرة لمن لم يتب. وأنت تعلم ما دل خبر على كلام الله تعالى وجهه.
وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي بجاعلين الله سبحانه وتعالى عاجزا عن أن يصيبكم بالمصائب بما كسبت أيديكم وإن هربتم في أقطار الأرض كل مهرب، وقيل: المراد أنكم لا تعجزون من في الأرض من جنوده تعالى فكيف من في السماء وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ من متول بالرحمة يرحمكم إذا أصابتكم المصائب وقيل يحميكم عنها وَلا نَصِيرٍ يدفعها عنكم، والجملة كالتقرير لقوله تعالى: وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ أي إن الله تعالى يعفو عن كثير من المصائب إذ لا قدرة لكم أن تعجزوه سبحانه فتفوتوا ما قضى عليكم منها ولا لكم أيضا من متول بالرحمة غيره عزّ وجلّ ليرحمكم إذا أصابتكم ولا ناصر سواه لينصركم منها ولهذا جاء عن علي كرم الله تعالى وجهه أن هذه أرجى آية(13/41)
في القرآن للمؤمنين، ويقوي أمر الرجاء على ما قيل: أن معنى ما أَنْتُمْ إلخ ما أنتم بمعجزين الله في دفع مصائبكم أي إنه سبحانه قادر على ذلك وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ أي السفن الجواري أي الجارية فهي صفة لموصوف محذوف لقرينة قوله تعالى: فِي الْبَحْرِ وبذلك حسن الحذف وإلا فهي صفة غير مختصة والقياس فيها أن لا يحذف الموصوف وتقوم مقامه، وجوز أبو حيان أن يقال: إنها صفة غالبة كالأبطح وهي يجوز فيها أن تلي العوامل بغير ذكر الموصوف، وفِي الْبَحْرِ متعلق بالجواري وقوله تعالى: كَالْأَعْلامِ في موضع الحال.
وجوز أن يكون الأول أيضا كذلك، والأعلام جمع علم وهو الجبل وأصله الأثر الذي يعلم به الشيء كعلم الطريق وعلم الجيش وسمي الجبل علما لذلك ولا اختصاص له بالجبل الذي عليه النار للاهتداء بل إذا أريد ذلك قيد كما في قول الخنساء:
وإن صخرا لتأتّم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
وفيه مبالغة لطيفة،
وحكي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لما سمعه: قاتلها الله تعالى ما رضيت بتشبيهه بالجبل حتى جعلت على رأسه نارا
وقرأ نافع وأبو عمرو «الجواري» بياء في الوصل دون الوقف.
وقرأ ابن كثير بها فيهما والباقون بالحذف فيهما والإثبات على الأصل والحذف للتخفيف، وعلى كل فالإعراب تقديري وسمع من بعض العرب الاعراب على الراء إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ التي تجري بها ويعدم سبب تموجها وهو تكاثف الهواء الذي كان في المحل الذي جرت إليه وتراكم بعضه على بعض وسبب ذلك التكاثف إما انخفاض درجة حرارة الهواء فيقل تمدده ويتكاثف ويترك أكثر المحل الذي كان مشغولا به خليا وإما تجمع فجائي يحصل في الأبخرة المنتشرة في الهواء فيخلو محلها، وهذا على ما قيل أقوى الأسباب فإذا وجد الهواء أمامه فراغا بسبب ذلك جرى بقوة ليشغله فتحدث الريح وتستمر حتى تملأ المحل وما ذكر في سبب التموج هو الذي ذكره فلاسفة العصر. وأما المتقدمون فذكروا أشياء أخرى، ولعل هناك أسبابا غير ذلك كله لا يعلمها إلا الله عزّ وجلّ، والقول بالأسباب تحريكا وإسكانا لا ينافي إسناد الحوادث إلى الفاعل المختار جلّ جلاله وعم نواله.
وقرأ نافع «الرياح» جمعا فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ فيصرن ثوابت على ظهر البحر أي غير جاريات لا غير متحركات أصلا، وفسر بعضهم (يظللن) بيبقين فيكون رَواكِدَ حالا والأول أولى.
وقرأ قتادة «فيظللن» بكسر اللام والقياس الفتح لأن الماضي مكسور العين فالكسر في المضارع شاذ، وقال الزمخشري: هو من ظل يظل ويظل بالفتح والكسر نحو ضل بالضاد يضل ويضل، وتعقبه أبو حيان بأنه ليس كما ذكر لأن يضل بالفتح من ضللت بالكسر ويضل بالكسر من ضللت بالفتح وكلاهما مقيس إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكر من السفن المسخرة في البحر تحت أمره سبحانه وحسب مشيئته تعالى: لَآياتٍ عظيمة كثيرة على عظمة شؤونه عزّ وجلّ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ لكل من حبس نفسه عن التوجه إلى ما لا ينبغي ووكل همته بالنظر في آيات الله تعالى والتفكر في آلائه سبحانه فالصبر هنا حبس مخصوص والتفكر في نعمه تعالى شكر.
ويجوز أن يكون قد كنى بهذين الوصفين عن المؤمن الكامل لأن الإيمان نصفه صبر ونصفه شكر.
وذكر الإمام أن المؤمن لا يخلو من أن يكون في السراء والضراء فإن كان في الضراء كان من الصابرين وإن كان في السراء كان من الشاكرين أَوْ يُوبِقْهُنَّ عطف على يُسْكِنِ أي أو يهلكهن بإرسال الريح العاصفة المغرقة، والمراد على ما قال غير واحد إهلاك أهلها إما بتقدير مضاف أو بالتجوز بإطلاق المحل على حاله أو بطريق(13/42)
وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
الكناية لأنه يلزم من إهلاكها إهلاك من فيها والقرينة على إرادة ذلك قوله تعالى: بِما كَسَبُوا وأصله أو يرسلها أي الريح فيوبقهن لأنه قسيم يسكن فاقتصر فيه على المقصود من إرسالها عاصفة وهو إما إهلاكهم أو إنجاؤهم المراد من قوله تعالى: وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ إذ المعنى أو يرسلها فيوبق ناسا بذنوبهم وينج ناسا على طريق العفو عنهم وبهذا ظهر وجه جزم يَعْفُ لأنه بمعنى ينج معطوف على يوبق، ويعلم وجه عطفه بالواو لأنه مندرج في القسيم وهو إرسالها عاصفة، وعلى هذا التفسير تكون الآية متضمنة لإسكانها ولإرسالها عاصفة مع الإهلاك والإنجاء وإرسالها باعتدال معلوم من قوله سبحانه الجواري فإنها المطلوب الأصلي منها.
وقال بعض الأجلة: التحقيق أن يَعْفُ عطف على قوله تعالى: يُسْكِنِ الرِّيحَ إلى قوله سبحانه: بِما كَسَبُوا ولذا عطف بالواو لا بأو والمعنى إن يشأ يعاقبهم بالإسكان أو الإعصاف وإن يشأ يعف عن كثير.
وجوز بعضهم حمل يُوبِقْهُنَّ على ظاهره لأن السفن من جملة أموالهم التي هلاكها والخسارة فيها بذنوبهم أيضا وجعل الآية مثل قوله تعالى وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ. إلخ.
وقرأ الأعمش «يعفو» بالواو الساكنة آخره على عطفه على مجموع الشرط والجواب دون الجواب وحده كما في قراءة الجزم، وعن أهل المدينة أنهم قرؤوا «يعفو» بالواو المفتوحة على أنه منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد الواو والعطف على هذه القراءة على مصدر متصيد من الكلام السابق كأنه قيل: يقع وهو من العطف على المعنى وهذا مذهب البصريين في مثل ذلك وتسمى هذه الواو واو الصرف لصرفها عن عطف الفعل المجزوم قبلها إلى عطف مصدر على مصدر، ومذهب الكوفيين أن الواو بمعنى أن المصدرية ناصبة للمضارع بنفسها.
واختار الرضي أن الواو إما واو الحال والمصدر بعدها مبتدأ خبره مقدر والجملة حالية أو واو المعية وينصب بعدها الفعل لقصد الدلالة على معية الأفعال كما أن الواو في المفعول معه دالة على مصاحبة الأسماء فعدل به عن الظاهر ليكون نصا في معنى الجمعية، والمشهور اليوم على ألسنة المعربين مذهب البصريين وعليه خرج أبو حيان النصب في هذه القراءة وكذا خرج غير واحد ومنهم الزجاج النصب في قوله تعالى:(13/43)
وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ أي من مهرب ومخلص من العذاب على ذلك، وجعلوا الجزاء بمنزلة الإنشاء كالاستفهام فكأنه تقدم أحد الأمور الستة ولم يرتض ذلك الزمخشري وقال: فيه نظر لما أورده سيبويه في الكتاب قال: واعلم أن النصب بالفاء والواو في قوله: إن تأتني آتك وأعطيك ضعيف وهو نحو من قوله:
وألحق بالحجاز فأستريحا فهذا تجوز ولا بحد الكلام ولا وجهه إلا أنه في الجزاء صار أقوى قليلا لأنه ليس بواجب أنه يفعل إلا أن يكون من الأول فعل فلما ضارع الذي لا يوجبه كالاستفهام ونحوه أجازوا فيه هذا على ضعف، ولا يجوز أن تحمل القراءة المستفيضة على وجه ضعيف ليس بحد الكلام ولا وجهه ولو كانت من هذا الباب لما أخلى سيبويه منها كتابه وقد ذكر نظائرها من الآيات المشكلة انتهى، وخرج هو النصب في يَعْلَمَ على العطف على علة مقدرة قال: أي لينتقم منهم ويعلم الذين إلخ، وكم من نظير له في القرآن العظيم إلا أن ذلك من وجود حرف التعليل كقوله تعالى: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ [مريم: 21] وقوله سبحانه: خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [الجاثية:
22] .
وقال أبو حيان: يبعد هذا التقدير أنه ترتب على الشرط إهلاك قوم ونجاة قوم فلا يحسن لينتقم منهم.
وأجيب بأن الآية مخصوصة بالمجرمين فالمقصود الهلاك ويجوز أن يقدر ليظهر عظيم قدرته تعالى ويعلم الذين يجادلون فلا يرد عليه ما ذكر ويحسن ذلك التقدير في توجيه النصب في «يعفو» على ما روي عن أهل المدينة إذا خدش التوجيه السابق بما نقل عن سيبويه فيقال: إنه عطف على تعليل مقدر أي لينتقم منهم ويعفو عن كثير، وقراءة النصب في يَعْلَمَ هي التي قرأ بها أكثر السبعة.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر والأعرج وشيبة وزيد بن علي بالرفع، وقرر في الكشف وجهه بأنه على عطف يعلم على مجموع الجملة الشرطية على معنى ومن آياته الدالة على كمال القدرة السفن في البحر ثم ذكر وجه الدلالة وأنها مسخرة تحت أمره سبحانه تارة بتضمن نفع من فيها وتارة بالعكس ثم قال جل وعلا ويعلم الذين يعاندون ولا(13/44)
يعترفون بآيات الله تعالى الباهرة بدل قوله سبحانه فيها بالضمير الراجع إلى الآية المبحوث عنها شهادة بأنها من آيات الله تعالى وزيادة للتحذير وذم الجدال فيها وليكون على أسلوب الكناية على نحو العرب لا تخفر الذمم فكأنه لما قيل: إن يشأ يسكن الريح وذكر سبب الدلالة صار في معنى يعلمها ويعترف بها المتدبرون في آياتنا المسترشدون ويعلم المجادلون فيها المنكرون ما لهم من محيص، وجاز أن يجعل عطفا على قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ وتجعل هذه وحدها آيات لتضمنها وجودها من الدلالة أقيمت مقام المضمر، والمعنى ومن آياته الجوار ويعلم المجادلون فيها، واعترض بين المعطوف والمعطوف عليه ببيان وجه الدلالة ليدل على موجب وعيد المجادل وعلى كونها آية بل آيات، ونقل عن أن الحاجب أنه يجوز أن يكون الرفع بالعطف على موضع الجزاء المتقدم باعتبار كونه جملة لا باعتبار عطف مجرد الفعل ليجب الجزم فتكون الجملتان مشتركتين في المسببية، وفيه بحث يعلم مما سيأتي إن شاء الله تعالى، وقرىء «ويعلم» بالجزم.
وخرج على العطف علي يَعْفُ وتسببه عن الشرط باعتبار تضمن الأخبار عن علم المجادلين بما يحل بهم في المستقبل الوعيد والتحذير كما قيل:
سوف ترى إذا انجلى الغبار ... أفرس تحتك أم حمار
ومرجع المعنى علي ذلك أنه تعالى إن يشأ يعصف الريح فيغرق بعضا وينج آخرين عفوا ويجذر جماعة أخرى.
واعترض بأن التخصيص بالمجادلين في هذا التحذير غير لائح، وأيضا علمهم بأن لا محيص من عذاب الله تعالى على تقدير عصف الريح بأهل السفن على سبيل العبرة ولا اختصاص لها بهم ولا بهذا المقدور خاصة.
وأجيب عن الأول بأن التخصيص بالمجادلين لأنهم أولى بالتحذير، وعن الأخير بأنه أريد أن البر والبحر لا ينجيان من بأسه عزّ وجلّ فهو تعميم، واختار في الكشف كون التخريج على أن الآية في الكافرين بمعنى إن يعصف الريح فيغرق بعضهم وينج آخرين منهم عفوا ويعلموا ما لهم من محيص فلا يغتروا بالنجاة والعفو في هذه المرة، فالمجادلون هم الكثير الناجون أو بعضهم وهو على منوال قوله تعالى أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى [الإسراء:
69] ، ومن مجموع ما سمعت يلوح لك ضعف هذه القراءة ولهذا لم يقرأ بها في السبعة، والظاهر على القراءات الثلاث أن فاعل يَعْلَمَ الَّذِينَ وجملة ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ سادة مسد المفعولين. وفي الدر المصون أن الجملة في قراءة الرفع تحتمل الفعلية وتحتمل الاسمية أي وهو يعلم الذين، ولا يخفى أن الظاهر على الاحتمال الثاني كون الَّذِينَ مفعولا أولا والجملة مفعولا ثانيا والفاعل ضميره تعالى المستتر، وأوجب بعضهم هذا على قراءة الجزم وعطف يَعْلَمَ على يَعْفُ لئلا يخرج الكلام عن الانتظام ويظهر قصد التحذير لشيوع أن علم الله تعالى يكون كناية عن المجازاة وهو كما ترى فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ أي شيء كان من أسباب الدنيا، والظاهر أن الخطاب للناس مطلقا، وقيل: للمشركين، وما موصوله مبتدأ والعائد محذوف أي أوتيتموه والخبر ما بعد، ودخلت الفاء لتضمنها معنى الشرط، وقال أبو حيان: هي شرطية مفعول ثان لأوتيتم ومِنْ شَيْءٍ بيان لها وقوله تعالى: فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي فهو متاعها تتمتعون به مدة حياتكم فيها جواب الشرط، والأول أوفق بقوله تعالى: وَما عِنْدَ اللَّهِ من ثواب الآخرة خَيْرٌ ذاتا لخلوص نفعه وَأَبْقى زمانا حيث لا يزول ولا يفنى لأن الظاهر أن ما فيه موصولة وإنما لم يؤت بالفاء في خبرها مع أن الموصول المبتدأ إذا وصل بالطرف يتضمن معنى الشرط أيضا لأن مسببية كون الشيء عند الله تعالى لخيريته أمر معلوم مقرر غني عن الدلالة عليه بحرف موضوع له بخلاف ما عند غيره سبحانه(13/45)
والتعبير عنه بأنه عند الله تعالى دون ما ادخر لذلك، وقوله تعالى: لِلَّذِينَ آمَنُوا إما متعلق بأبقى أو اللام لبيان من له هذه النعمة فهو خبر مبتدأ محذوف أي ذلك للذين آمنوا.
وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ لا على غيره تعالى أصلا،
وعن علي كرم الله تعالى وجهه اجتمع لأبي بكر رضي الله تعالى عنه مال فتصدق به كله في سبيل الله تعالى فلامه المسلمون وخطأه الكافرون فنزلت
والموصول في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ مع ما بعد إما عطف على الموصول الأول أو هو مدح مرفوع على الخبرية لمبتدأ محذوف أو منصوب بمقدر كأعني أو أمدح، والواو اعتراضية كما ذكره الرضي، وغفل أبو البقاء عن الواو فلم يذكر العطف وذكر بدله البدل، وكبائر الإثم ما رتب عليه الوعيد أو ما يوجب الحد أو كل ما نهى الله تعالى عنه والفواحش ما فحش وعظم قبحه منها، وقيل: المراد بالكبائر ما يتعلق بالبدع واستخرج الشبهات وبالفواحش ما يتعلق بالقوة الشهوانية وبقوله تعالى: وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ما يتعلق بالقوة الغضبية وهو كما ترى، والمراد بالإثم الجنس وإلا لقيل الآثام، وإِذا ظرف ليغفرون وهُمْ مبتدأ لا تأكيد لضمير غضبوا وجوزه في البحر وجملة يغفرون خبره وتقديمه لافادة الاختصاص لأنه فاعل معنوي، واختصاصهم باعتبار أنهم أحقاء بذلك دون غيرهم فإن المغفرة حال الغضب عزيزة المثال، وفي الآية إيماء إلى أنهم يغفرون قبل الاستغفار، وقيل هُمْ مرفوع بفعل يفسره يَغْفِرُونَ ولما حذف انفصل الضمير وليس بشيء، وجعل أبو البقاء إِذا شرطية وجملة هُمْ يَغْفِرُونَ جوابا لها، وتعقبه أبو حيان بأنه يلزم الفاء حينئذ ولا يجوز حذفها إلا في الشعر، وتقدم لك آنفا ما ينفعك تذكره فتذكر، وقرأ حمزة والكسائي «كبير الإثم» بالإفراد لإرادة الجنس أو الفرد الكامل منه وهو الشرك، وروي تفسيره به عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ولا يلزم التكرار لأن المراد الاستمرار والدوام وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ قيل: نزلت في الأنصار دعاهم الله تعالى على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلّم للإيمان به وطاعته سبحانه فاستجابوا له فأثنى عليهم جلّ وعلا بما أثنى، وعليه فهو من ذكر الخاص بعد العام لبيان شرفه لايمانهم دون تردد وتلعثم، والآية إن كانت مدنية فالأمر ظاهر وإذا كانت مكية فالمراد بالأنصار من آمن بالمدينة قبل الهجرة أو المراد بهم أصحاب العقبة وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ أي ذو شورى ومراجعة في الآراء بينهم بناء على أن الشورى مصدر كالبشرى فلا يصح الإخبار لأن الأمر متشاور فيه لا مشاورة إلا إذا قصد المبالغة، وأورد أنه يقال من غير تأويل شأني الكرم والأمر هنا بمعنى الشأن. نعم إذا حمل على القضايا المتشاور فيها احتاج إلى التأويل أو قصد المبالغة، وقيل: إن إضافة المصدر للعموم فلا يصح الإخبار إلا بالتأويل ورد بأن المراد أمرهم فيما يتشاور فيه لا جميع أمورهم وفيه نظر، وقال الراغب: المشورة استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض من قولهم: شرت العسل وأشرته استخرجته والشورى الأمر الذي يتشاور فيه انتهى، والمشهور كونه مصدرا، وجيء بالجملة اسمية مع أن المعطوف عليه جملة فعلية للدلالة على أن التشاور كان حالهم المستمرة قبل الإسلام وبعده، وفي الآية مدح للتشاور لا سيما على القول بأن فيها الإخبار بالمصدر،
وقد أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: من أراد أمرا فشاور فيه وقضى هدي لأرشد الأمور
، وأخرج عبد بن حميد. والبخاري في الأدب. وابن المنذر عن الحسن قال: ما تشاور قوم قط إلا هدوا وأرشد أمرهم ثم تلا وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ، وقد كانت الشورى بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه فيما يتعلق بمصالح الحروب، وكذا بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم بعده عليه الصلاة والسلام، وكانت بينهم أيضا في الأحكام كقتال أهل الردة وميراث الجد وعدد حد الخمر وغير ذلك، والمراد ما لم يكن لهم فيه نص شرعي وإلا فالشورى لا معنى لها وكيف يليق بالمسلم العدول عن حكم الله عزّ وجلّ إلى آراء(13/46)
الرجال والله سبحانه هو الحكيم الخبير، ويؤيد ما قلنا ما
أخرجه الخطيب عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: قلت يا رسول الله الأمر ينزل بنا بعدك لم ينزل فيه قرآن ولم يسمع منك فيه شيء قال: اجمعوا له العابد من أمتي واجعلوه بينكم شورى ولا تقضوه برأي واحد
، وينبغي أن يكون المستشار عاقلا كما ينبغي أن يكون عابدا،
فقد أخرج الخطيب أيضا عن أبي هريرة مرفوعا «استرشدوا العاقل ترشدوا ولا تعصوه فتندموا»
والشورى على الوجه الذي ذكرناه من جملة أسباب صلاح الأرض
ففي الحديث «إذا كان أمراؤكم خياركم وأمركم شورى فظهر الأرض خير لكم من بطنها وإذا كان أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاء كم وأمركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها»
وإذا لم تكن على ذلك الوجه كان إفسادها للدين والدنيا أكثر من إصلاحها وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي في سبيل الخير لأنه مسوق للمدح بمجرد الإنفاق، ولعل فصله عن قرينه بذكر المشاورة لأن الاستجابة لله تعالى وإقام الصلاة كانا من آثارها، وقيل: لوقوعها عند اجتماعهم للصلوات.
وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ أي ينتقمون ممن بغى عليهم على ما جعله الله تعالى لهم ولا يعتدون، ومعنى الاختصاص أنهم الأخصاء بالانتصار وغيرهم يعدو ويتجاوز، ولا يراد أنهم ينتصرون ولا يغفرون ليتناقض هو والسابق، فكأنه وصفهم سبحانه بأنهم الأخصاء بالغفران لا يغول الغضب أحلامهم كما يغول في غيرهم وإنهم الأخصاء بالانتصار على ما جوز لهم إن كافؤوا ولا يعتدون كغيرهم فهم محمودون في الحالتين بين حسن وأحسن مخصوصون بذلك من بين الناس، وقال غير واحد: إن كلّا من الوصفين في محل وهو فيه محمود فالعفو عن العاجز المعترف بجرمه محمود ولفظ المغفرة مشعر به والانتصار من المخاصم المصر محمود، ولفظ الانتصار مشعر به ولو أوقعا على عكس ذلك كانا مذمومين وعلى هذا جاء قوله:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
فوضع الندى في موضع السيف بالعلا ... مضرّ كوضع السيف في موضع الندى
وقد يحمد كل ويذم باعتبارات أخر فلا تناقض أيضا سواء اتحد الموصوفان في الجملتين أولا، وقال بعض المحققين: الأوجه أن لا يحمل الكلام على التخصيص بل على التقوى أي يفعلون المغفرة تارة والانتصار أخرى لا دائما للتناقض وليس بذاك، وعن النخعي أنه كان إذا قرأ هذه الآية قال: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترىء عليهم الفساق، وفيه إيماء إلى أن الانتصار من المخاصم المصرّ وإلا فلا إذلال للنفس بالعفو عن العاجز المعترف، ثم إن جملة هُمْ يَنْتَصِرُونَ من المبتدأ والخبر صلة الموصول وإِذا ظرف يَنْتَصِرُونَ وجوز كونها شرطية والجملة جواب الشرط وجملة الجواب والشرط هي الصلة. وتعقبه أبو حيان بما مر آنفا، وجوز أيضا كون هُمْ فاعلا لمحذوف وهو كما سمعت في وَإِذا ما غَضِبُوا إلخ. وقال الحوفي: يجوز جعل هُمْ توكيدا لضمير أَصابَهُمُ وفيه الفصل بين المؤكد والمؤكد بالفاعل ولعله لا يمتنع، ومع هذا فالوجه في الإعراب ما أشرنا إليه أولا وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها بيان لما جعل للمنتصر وتسمية الفعلة الثانية وهي الجزاء سيئة قيل للمشاكلة، وقال جار الله: تسمية كلتا الفعلتين سيئة لأنها تسوء من تنزل به، وفيه رعاية لحقيقة اللفظ وإشارة إلى أن الانتصار مع كونه محمودا إنما يحمد بشرط رعاية المماثلة وهي عسرة ففي مساقها حث على العفو من طريق الاحتياط، وقوله تعالى: فَمَنْ عَفا أي عن المسيء إليه وَأَصْلَحَ ما بينه وبين من يعاد به بالعفو والإغضاء عما صدر منه فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فيجزيه جلّ وعلا أعظم الجزاء، تصريح بما لوح إليه ذلك من الحث وتنبيه على أنه وإن كان سلوكا لطريق الاحتياط يتضمن مع ذلك إصلاح ذات البين المحمود حالا ومالا ليكون زيادة تحريض عليه، وإبهام الأجر وجعله حقا على العظيم الكريم جل شأنه الدال(13/47)
على عظمه زيادة في الترغيب، وجيء بالفاء ليرفعه عن السابق أي إذا كان سلوك الانتصار غير مأمون العثار فمن عفا وأصلح فهو سالك الطريق المأمون العثار المحمود في الدارين، وقوله تعالى: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ المتجاوزين الحد في الانتقام، تتميم لذلك المعنى وتصريح بما ضمن من عسر رعاية طريق المماثلة وأنه قلما تخلو عن الاعتداء والتجاوز لا سيما في حال الحرد والتهاب الحمية فيكون دخولا في زمرة من لا يحبه الله تعالى، ولا حاجة على هذا المعنى إلى جعل فَمَنْ عَفا إلخ اعتراضا، ثم لو كان كذلك بأن يكون هذا متعلقا بجزاء سيئة سيئة مثلها على أنه تعليل لما يفهم منه فالفاء غير مانعة عنه كما توهم، وأدخل غير واحد المبتدئين بالسيئة في الظالمين وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ بعد ما ظلم بالبناء للمجهول، وقرىء به فالمصدر مضاف لمفعوله أو هو مصدر المبني للمفعول واللام للقسم، وجوز أن تكون لام الابتداء جيء بها للتوكيد و (من) شرطية أو موصولة وحمل انتصر على لفظها وحمل فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ أي للمعاقب ولا للعاتب والعائب على معناها، والجملة عطف على فَمَنْ عَفا وجيء بها للتصريح بأن ما حض عليه إنما حض عليه إرشاد إلى الأصلح في الأغلب لا أن المنتصر عليه سبيل بوجه حالا أو مالا، ولإيهام الحض خلاف ما تضمنته من نفس السبيل على العموم صدرت باللام، وقوله تعالى: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ تعيين لمن عليه السبيل بعد نفي ذلك عن المنتصرين، والمراد بالذين يظلمون الناس من يبتدؤونهم بالظلم أو يزيدون في الانتقام ويتجاوزون ما حد لهم، وفسر ذلك بعضهم بالذين يفعلون بهم ما لا يستحقونه وهو أعم.
وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي يتكبرون فيها تجبرا وفسادا أُولئِكَ الموصوفون بالظلم والبغي بغير الحق لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بسبب ظلمهم وبغيهم، والمراد بهؤلاء الظالمين الباغين الكفرة.
وقيل: من يعمهم وغيرهم، وقوله تعالى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ تحذير عن الظلم والبغي وما يؤدي إلى العذاب الأليم بوجه، وفيه حض على ما حض عليه أولا اهتماما به وزيادة ترغيب فيه، فالصبر هنا هو الإصلاح المؤخر فيما تقدم قدم هاهنا، وعبر عنه بالصبر لأنه من شأن أولي العزم وإشارة إلى أن الإصلاح بالعفو والإغضاء إنما يحمد إذا كان عن قدرة لا عن عجز، وذلِكَ إشارة إلى المذكور من الصبر والمغفرة، وعَزْمِ الْأُمُورِ الأمور المعزومة المقطوعة أو العازمة الصادقة، وجوز في (من) أن تكون موصولة وأن تكون شرطية، وفي اللام أن تكون ابتدائية وأن تكون قسمية واكتفى بجواب القسم عن جواب الشرط، وإذا جعلت اللام للابتداء و (من) شرطية فجملة إِنَّ ذلِكَ جواب الشرط وحذفت الفاء منها، ومن يخص الحذف بالشعر لا يجوز هذا الوجه، وذكر جماعة أن في الكلام حذفا أي إن ذلك منه لمن عزم الأمور، وعلل ذلك بأن الجملة خبر فلا بد فيها من رابط وذلِكَ لا يصلح له لأنه إشارة إلى الصبر والمغفرة، وكونه مغنيا عنه لأن المراد صبره أو «ذلك» رابط والإشارة لمن بتقدير من ذوي عزم الأمور تكلف.
هذا واختار العلامة الطيبي أن تسمية الفعلة الثانية التي هي الجزاء سيئة من باب التهجين دون المشاكلة.
وزعم أن المجازى مسيء وبني على ذلك ربط جملة إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ بما قبل فقال: يمكن أن يقال لما نسب المجازي إلى المساءة في قوله سبحانه: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها والمسيء في هذا المقام مفسدا لما في البين بدليل فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ علل مفهوم ذلك بقوله سبحانه: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ كأنه قيل: من أخرج نفسه بالعفو والإصلاح من الانتساب إلى السيئة والإفساد كان مقسطا إن الله يحب المقسطين فوضع موضعه فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ومن اشتغل بالمجازاة وانتسب إلى السيئة وأفسد ما في البين وحرم نفسه ذلك الأجر الجزيل كان ظالما(13/48)
نفسه إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ فالآية واردة إرشادا للمظلوم إلى مكارم الأخلاق وإيثار طريق المرسلين.
وقال: إن قوله تعالى: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ إلخ خطاب للولاة والحكام وتعليم فعل ما ينبغي فعله بدليل قوله سبحانه: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ حيث أعاد السبيل المنكر بالتعريف وعلق به يَظْلِمُونَ النَّاسَ وفسره بقوله تعالى: عَذابٌ أَلِيمٌ وكذا قوله سبحانه: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إلخ تعليم لهم أيضا طريق الحكم يعني أن صاحب الحق إذا عدل من الأولى وانتصر من الظالم فلا سبيل لكم عليه لما قد رخص له ذلك وإذا اختار الأفضل فلا سبيل لكم على الظالم لأن عفو المظلوم من عزم الأمور فتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان انتهى، ولا يخفى ما فيه.
وفي الكشف أن جعل ما ذكر خطابا للولاة والحاكم يوجب التعقيد في الكلام فالمعول عليه ما قدمناه، وقد جاءت أخبار كثيرة في فضل العافين عمن ظلمهم،
أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قال موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام يا رب من أعز عبادك عندك؟ قال: من إذا قدر غفر»
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا وقف العباد للحساب نادى مناد ليقم من أجره على الله تعالى فليدخل الجنة ثم نادى الثانية ليقم من أجره على الله تعالى قالوا: ومن ذا الذي أجره على الله تعالى؟ قال: العافون عن الناس فقام كذا وكذا ألفا فدخلوا الجنة بغير حساب» .
وأخرج أحمد وأبو داود عن أبي هريرة أن رجلا شتم أبا بكر رضي الله تعالى عنه والنبي صلّى الله عليه وسلّم جالس فجعل عليه الصلاة والسلام يعجب ويتبسم فلما أكثر رد عليه بعض قوله: فغضب النبي صلّى الله عليه وسلّم وقام فلحقه أبو بكر رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله كان يشتمني وأنت جالس فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت قال: إنه كان معك ملك يرد عنك فلما رددت عليه بعض قوله: وقع الشيطان فلم أكن لأقعد مع الشيطان ثم قال عليه الصلاة والسلام: «ثلاث من الحق ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها لله تعالى ألا أعز الله عز وجل بها نصره وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله تعالى بها كثرة وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله تعالى بها قلة»
واستشكل هذا الخبر بأنه يشعر بعتب أبي بكر رضي الله تعالى عنه وهو نوع من السبيل المنفي في قوله تعالى: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ وأجيب بأنا لا نسلم ذلك وليس فيه أكثر من تنبيهه رضي الله تعالى عنه على ترك الأولى وهو شيء والعتب شيء آخر، وكذا لا يعد لو ما كما لا يخفى.
ومن الناس من خص السبيل في الآية بالإثم والعقاب فلا إشكال عليه أصلا، وقيل: هو باق على العموم إلا أن الآية في عوام المؤمنين ومن لم يبلغ مبلغ أبي بكر رضي الله تعالى عنه فإن مثله يلام بالشتم وإن كان بحق بحضرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يأذن له به قالا أو حالا بل لاح عليه صلّى الله عليه وسلّم ما يشعر باستحسان السكوت عنه وحسنات الأبرار سيئات المقربين.
وقد أمر صلّى الله عليه وسلّم بعض الأشخاص برد الشتم على الشاتم،
أخرج النسائي، وابن ماجه وابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: دخلت علي زينب رضي الله تعالى عنها وعندي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأقبلت علي تسبني فوزعها النبي عليه الصلاة والسلام فلم تنته فقال لي: سبيها فسببتها حتى جف ريقها في فمها ووجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتهلل سرورا
، ولعله كان هذا منه عليه الصلاة والسلام تعزيرا لزينب رضي الله تعالى عنها بلسان عائشة رضي الله تعالى عنها لما أن لها حقا في الردود أي المصلحة في ذلك وقد ذكر فقهاؤنا أن للقاضي أن يعزر من استحق التعزير بشتم غير القذف وكذا للزوج أن يعزر زوجته على شتمها غير محرم إلى أمور أخر فتأمل.(13/49)
وظاهر قوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها يقتضي رعاية المماثلة مطلقا، وفي تفسير الإمام أن الآية تقتضي وجوب رعاية المماثلة في كل الأمور إلا فيما خصه الدليل لأنه لو حملت المماثلة في أمر معين فهو غير مذكور فيها فيلزم الإجمال وعلى ما قلنا يلزم تحمل التخصيص ومعلوم أن دفع الإجمال أولى من دفع التخصيص.
والفقهاء أدخلوا التخصيص فيها في صور كثيرة تارة بناء على نص آخر أخص وأخرى بناء على القياس، ولا شك أن من ادعى التخصيص فعليه البيان والمكلف يكفيه أن يتمسك بها في جميع المطالب.
وعن مجاهد والسدي إذا قال له: أخزاه الله تعالى فليقل أخزاه الله تعالى وإذا قذفه قذفا يوجب الحد فليس له ذلك بل الحد الذي أمر الله تعالى به، ونقل أبو حيان عن الجمهور أنهم قالوا إذا بغى مؤمن على مؤمن فلا يجوز له أن ينتصر منه بنفسه بل يرفع ذلك إلى الإمام أو نائبه، وفي مجمع الفتاوى جاز المجازاة بمثله في غير موجب حد للإذن به وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ والعفو أفضل فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وقال ابن الهمام: الأولى أن الإنسان إذا قيل له ما يوجب التعزير أن لا يجيبه قالوا: لو قال له: يا خبيث الأحسن أن يكف عنه ويرفعه إلى القاضي ليؤدبه بحضوره ولو أجاب مع هذا فقال: بل أنت لا بأس.
وفي التنوير وشرحه ضرب غيره بغير حق وضربه المضروب أيضا يعزران كما لو تشاتما بين يدي القاضي ولم يتكافآ، وأنت تعلم ما يقتضيه ظاهر الآية ولا يعدل عنه إلا لنص، وظاهر كلام العلامة الطيبي أن المظلوم إذا عفا لا يلزم الظالم التعزير بضرب أو حبس أو نحوه، وذكر فقهاؤنا أن التعزير يغلب فيه حق العبد فيجوز فيه الإبراء العفو واليمين والشهادة على الشهادة وشهادة رجل وامرأتين ويكون أيضا حقا لله تعالى فلا عفو فيه إلا إذا علم الإمام انزجار الفاعل إلى آخر ما قالوا، ويترجح عندي إن الإمام متى رأى بعد التأمل والتجرد عن حظوظ النفس ترك التعزير للعفو سببا للفساد والتجاسر على التعدي وتجاوز الحدود عزر بما تقتضيه المصلحة العامة وليبذل وسعه فيما فيه إصلاح الدين وانتظام أمور المسلمين وإياه أن يتبع الهوى فيضل عن الصراط المستقيم.
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ أي ما له من ناصر يتولاه من بعد خذلان الله تعالى إياه فضمير بَعْدِهِ لله تعالى بتقدير مضاف فيه، وقيل للخذلان المفهوم من يُضْلِلِ والجملة عطف على قوله تعالى:
أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وكني بمن عن الظالم الباغي تسجيلا بأنه ضال مخذول أو أتي به مبهما ليشمله شمولا أوليا فقوله سبحانه: وَلَمَنْ صَبَرَ إلخ اعتراض لما أشرنا إليه وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ أي حين يرونه، وصيغة الماضي للدلالة على التحقق يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ أي رجعة إلى الدنيا مِنْ سَبِيلٍ حتى نؤمن ونعمل صالحا، وجوز أن يكون المعنى هل إلى رد للعذاب ومنع من سبيل، وتنكير مَرَدٍّ وكذا سَبِيلٍ للمبالغة والجملة حال وقيل مفعول ثان لترى.
وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها أي على النار المدلول عليها بالعذاب، والجملة كالسابقة خاشِعِينَ متضائلين متقاصرين مِنَ الذُّلِّ أي بسبب الذل لعظم ما لحقهم فمن سببية متعلقة بخاشعين وهو وكذا ما بعده حال.
وجوز أن يعلق الجار بقوله تعالى: يَنْظُرُونَ ويوقف على خاشِعِينَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ والأول أظهر، والطرف مصدر طرف إذا حرك عينه ومنه طرفة العين، والمراد بالخفي الضعيف، ومن ابتدائية أي يبتدىء نظرهم من تحريك لأجفانهم ضعيف بمسارقة كما ترى المصبور ينظر إلى السيف وهكذا نظر الناظر إلى المكاره لا يقدر أن يفتح أجفانه عليها ويملأ عينيه منها كما يفعل في نظره إلى المحاب، ويجوز أن تكون من بمعنى الباء.
وعن ابن عباس خَفِيٍّ ذليل فالطرف عليه جفن العين، وقيل: يحشرون عميا فلا ينظرون إلا بقلوبهم وذاك(13/50)
نظر من طرف خفي، وهو تأويل متكلف، والجملتان السابقتان أعني تَرَى الظَّالِمِينَ وتَراهُمْ يُعْرَضُونَ معطوفان على وَمَنْ يُضْلِلِ وأصل الكلام والظالمون لما رأوا العذاب يقولون وهم يعرضون عليها خاشعين، ثم قيل وَتَرَى وَتَراهُمْ خطابا لكل من يتأتّى منه الرؤية ويعتبر بحالهم زيادة للتهويل كأنه يعجبهم مما هم فيه ليعتبروا ويبتهجوا، ومنه يظهر أنه خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأتباعه وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ أي إنهم الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ بالتعريض للعذاب الخالد أو على ما مر في الزمر، وعدل عن أنهم إلى الذين تسجيلا عليهم بأكمل الخسران إذ المراد أن الكاملين في صفة الخسران المتصفين بحقيقته يَوْمَ الْقِيامَةِ متعلق بخسروا والقول في الدنيا، وجوز أن يكون متعلقا بقال، والماضي لتحقق الوقوع أي ويقولون إذا رأوهم على تلك الصفة. وفي الكشف الظاهر أنه قول يوم القيامة كالخسران من باب التنازع بين الفعلين، وآثر صاحب الكشاف على ما يؤذن به صنيعه أن يتعلق بالخسران وحده لأن الأصل في قالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ إلخ هم الخاسرون كما أن الأصل في وَتَرَى الظَّالِمِينَ والظالمون لما رأوا ثم قيل وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا على نحو ما قيل وَتَرَى إلخ وكما أن الرؤية رؤية الدنيا استحضارا لعذابهم الكائن في الآخرة تهويلا كذلك القول كأنهم جعلهم حضورا يعاين عذابهم ويسمع ما يقول المؤمنون فيهم ورد على الخطاب في الرؤية والغيبة في القول لأن معاينة العذاب لما كانت أدخل في التهويل جعل العذاب قريبا مشاهدا وخصوا بالخطاب على سبيل استحضار الحال لمزيد الابتهاج ولم يكن في الخسران ذلك المعنى لأنه أمر معقول والمحسوسات أقوى لا سيما إذا كن موجبات الخسران فجيء به على الأصل من الغيبة، وعدله من المضارع إلى الماضي لأنه قول صادر عن مقتضى الحال قد حق ووقع تفوهوا به أو لا وأسند إلى المؤمنين دلالة على الابتهاج المذكور واعتباطهم بنجاتهم عما هم فيه وإلا فالقول والرؤية لكل من يتأتى منه القول والرؤية، وجعله حالا كما فعل الطيبي على معنى وتراهم وقد صدق فيهم قول المؤمنين في الدنيا إن الخاسرين إلخ من أسلوب قوله:
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة وفيه أنه إنما يرتكب عند تعذر الحقيقة وقد أمكن الحمل على التنازع فلا تعذر.
ثم إنه على التقدير لا يظهر أنه قول فيها إلا بدليل خارج، وهذا بخلاف ما ذكره جار الله في قوله تعالى: وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ [ق: 28] من تقدير وقد صح عندكم أني قدمت لأن في اللفظ إشعارا به بينا انتهى، ولعمري لقد أبعد قدس سره المغزى في هذه الآيات العظام وأتى بما تستحسنه النظار من ذي الإفهام فليفهم، وقوله تعالى: أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ إما من تمام كلام المؤمنين ويجري فيه ما سمعت من الأصل ونكتة العدول أو استئناف إخبار منه تعالى تصديقا لذلك وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ برفع العذاب عنهم مِنْ دُونِ اللَّهِ حسبما يزعمون وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ إلى الهدى أو النجاة، وقيل: المراد ما له من حجة اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ إذا دعاكم لما به النجاة على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلّم مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ الجار والمجرور إما متعلق بمرد ويعامل اسم لا الشبيه بالمضاف معاملته فيترك تنوينه كما نص عليه ابن مالك في التسهيل ومنه
قوله عليه الصلاة والسلام «لا مانع لما أعطيت»
وقوله تعالى: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ [يوسف: 92] أي لا يرده الله تعالى بعد ما حكم به.
ومن لم يرض بذلك قال: هو خبر لمبتدأ محذوف أي ذلك من الله تعالى، والجملة استئناف في جواب سؤال مقدر تقديره ممن ذلك؟ أو حال من الضمير المستتر في الظرف الواقع خبر لا أو متعلق بالنفي أو بما دل عليه كما قيل في قوله تعالى: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم: 2] وقيل: هو متعلق بيأتي، وتعقب بأنه خلاف المتبادر من(13/51)
اللفظ والمعنى، وقيل: هو مع ذلك قليل الفائدة، وجوز كونه صفة ليوم، وتعقب بأنه ركيك معنى، والظاهر أن المراد بذلك اليوم يوم القيامة لا يوم ورود الموت كما قيل ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ أي ملاذ تلتجئون إليه فتخلصون من العذاب على أن مَلْجَإٍ اسم مكان، ويجوز أن يكون مصدرا ميميا وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ إنكار على أنه مصدر أنكر على غير القياس ونفي ذلك مع قوله تعالى حكاية عنهم: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] تنزيلا لما يقع من إنكارهم منزلة العدم لعدم نفعه وقيام الحجة وشهادة الجوارح عليهم أو يقال إن الأمرين باعتبار تعدد الأحوال والمواقف، وجوز أن يكون نَكِيرٍ اسم فاعل للمبالغة أي ما لكم منكر لأحوالكم غير مميز لها ليرحمكم وهو كما ترى فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً تلوين للكلام وصرف له عن خطاب الناس بعد أمرهم بالاستجابة وتوجيه له إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم أي فإن لم يستجيبوا وأعرضوا عما تدعوهم إليه فلا تهتم بهم فما أرسلناك رقيبا ومحاسبا عليهم إِنْ عَلَيْكَ أي ما عليك إِلَّا الْبَلاغُ لا الحفظ وقد فعلت.
وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً أي نعمة من الصحة والغنى والأمن ونحوها فَرِحَ بِها أريد بالإنسان الجنس الشامل للجميع وهو حينئذ بمعنى الأناسي أو الناس ولذا جمع ضميره في قوله سبحانه: وَإِنْ تُصِبْهُمْ وليست للاستغراق والجمعية لا تتوقف عليه فكأنه قيل: وإن تصب الناس أو الأناسي سَيِّئَةٌ بلاء من مرض وفقر وخوف وغيرها بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ بسبب ما صدر منهم من السيئات فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ بليغ الكفر ينسى النعمة رأسا ويذكر البلية ويستعظمها ولا يتأمل سببها بل يزعم أنها أصابته من غير استحقاق لها.
وأل فيه أيضا للجنس، وقيل: هي فيهما للعهد على أن المراد المجرمون، وقيل: هي في الأول للجنس وفي الثاني للعهد، وقال الزمخشري: أراد بالإنسان الجمع لا الواحد لمكان ضمير الجمع ولم يرد إلا المجرمين لأن إصابة السيئة بما قدمت أيديهم إنما يستقيم فيهم، ثم قال: ولم يقل فإنه لكفور ليسجل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعم كما قال سبحانه: إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34] . إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات: 6] ففهم منه العلامة الطيبي أنها في الأول للعهد وأن المراد الكفار المخاطبون في قوله تعالى: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ لترتيب فَإِنْ أَعْرَضُوا عليه، ووضع المظهر موضع المضمر للإشعار بتصميمهم على الكفران والإيذان بأنهم لا يرعوون مما هم فيه وأنها في الثاني للجنس ليكون المعنى ليس ببدع من هذا الإنسان المعهود الإصرار لأن هذا الجنس موسوم بكفران النعم فيكون ذم المطلق دليلا على ذم المقيد، وفي الكشف أنه أراد أن الإنسان أي الأول للجنس الصالح للكل وللبعض وإذا قام دليل على إرادة البعض تعين وقد قام لما سلف أن الإصابة في غير المجرمين للعوض الموفى ولم يذهب إلى أن اللام للعهد وجعل قوله تعالى: فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ للجنس ليكون تعليلا للمقيد بطريق الأولى ومطابقا لما جاء في مواضع عديدة من الكتاب العزيز ولا بأس بأن يجعل إشارة إلى السالف فإنه للجنس أيضا، ويكون في وضع المظهر موضع المضمر الفائدة المذكورة مرارا بل هو أدل على القانون الممهد في الأصول وبكون كليهما للجنس أقول وإسناد الكفران مع أنه صفة الكفرة إلى الجنس لغلبتهم فهو مجاز عقلي حيث أسند إلى الجنس حال أغلب أفراده لملابسته الأغلبية، ويجوز أن يعتبر أغلب الأفراد عين الجنس لغلبتهم على غيرهم فيكون المجاز لغويا، وكذا يقال في إسناد الفرح إذا كان بمعنى البطر فإنه أيضا من صفات الكفرة بل إن كان أيضا بمعناه المعروف وهو انشراح الصدر بلذة عاجلة وأكثر ما يكون ذلك في اللذات البدنية الدنيوية فإنه وإن لم يكن من خواص الكفار بل يكون في المؤمنين أيضا اضطرارا أو شكرا إلا أنه لا يعم جميع أفراد الجنس وإن قلت بعمومه لم تحتج إلى ذلك كما إذا فسرته بالبطر على إرادة العهد في الإنسان، وإصابة السيئة بالذنوب غير عامة للأفراد أيضا فحال إسنادها يعلم مما(13/52)
ذكرنا وتصدير الشرطية الأولى بإذا مع إسناد الإذاقة بلفظ الماضي إلى نون العظمة للتنبيه على أن إيصال النعمة محقق الوجود كثير الوقوع وأنه مراد بالذات من الجواد المطلق سبحانه وتعالى كما أن تصدير الثانية بإن وإسناد الإصابة بلفظ المضارع إلى السيئة وتعليلها بأعمالهم للإيذان بندرة وقوعها وأنها بمعزل عن الانتظام في سلك الإرادة بالذات والقصد الأولى، وإقامة علة الجزاء مقام الجزاء مبالغة في ذمهم.
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا لغيره سبحانه اشتراكا أو استقلالا يَخْلُقُ ما يَشاءُ من غير وجوب عليه سبحانه يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً استئناف بياني أو بيان ليخلق أو بدل منه بدل البعض على ما اختاره القاضي، ولما ذكر سبحانه إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بضدّها أتبع جل وعلا ذلك أن له سبحانه الملك وأنه تعالى يقسم النعمة والبلاء كما شاء بحكمته تعالى البالغة لا كما شاء الإنسان بهواه، وفيه إشارة إلى أن إذاقة الرحمة ليست للفرح والبطر بل للشكر لموليها وإصابة المحنة ليست للكفران والجزع بل للرجوع إلى مبليها وتأكيد لإنكار كفرانهم من وجهين: الأول أن الملك ملكه سبحانه من غير منازع ومشارك يتصرف فيه كيف يشاء فليس على من هو أحقر جزء من ملكه تعالى أن يعترض ويريد أن يجري التدبير حسب هواه الفاسد. الثاني أن هذا الملك الواسع لذلك العزيز الحكيم جلّ جلاله الذي من شأنه أن يخلق ما يشاء فأنى يجوز أن يكون تصرفه إلا على وجه لا يتصور أكمل منه ولا أوفق لمقتضى الحكمة والصواب، وعند ذلك لا يبقى إلا التسليم والشغل بتعظيم المنعم المبلي عن الكفران والإعجاب، وناسب هذا المساق أن يدل في البيان من أول الأمر على أنه تعالى فعل لمحض مشيئته سبحانه لا مدخل لمشيئة العبد فيه فلذا قدمت الإناث وأخرت الذكور كأنه قيل: يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء من الأناسي ما لا يهواه ويهب لمن يشاء منهم ما يهواه فقد كانت العرب تعد الإناث بلاء وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [النحل: 58] ولو قدم المؤخر لا ختل النظم، وليس التقديم لمجرد رعاية مناسبة القرب من البلاء ليعارض بأن الآية السابقة ذكرت الرحمة فيها مقدمة عليه فناسب ذلك تقديم الذكور على الإناث، وفي تعريف الذكور مع ما فيه من الاستدراك لقضية التأخير التنبيه على أنه المعروف الحاضر في قلوبهم أول كل خاطر وأنه الذي عقدوا عليه مناهم، ولما قضى الوطر من هذا الأسلوب قيل: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ أي الأولاد ذُكْراناً وَإِناثاً أي يخلق ما يهبهم زوجا لأن التزويج جعل الشيء زوجا فذكرانا وإناثا حال من الضمير، والواو قيل للمعية لأن حقه التأخير عن القسمين سياقا ووجودا فلا تتأتى المقارنة إلا بذلك، وقيل ذلك لأن المراد يهب لمن يشاء ما لا يهواه ويهب لمن يشاء ما يهواه أو يهب الأمرين معا لا أنه سبحانه يجعل من كل من الجنسين الذكور والإناث على حياله زوجا ولولا ذلك لتوهم ما ذكر فتأمله، ولتركبه منهما لم يكرر فيه حديث المشيئة، وقدم المقدم على ما هو عليه في الأصل ولم يعرف إذ لا وجه له، ثم قيل: وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً أي لا يولد له فقيد بالمشيئة لأنه قسم آخر، وكأنه جيء بأو في أَوْ يُزَوِّجُهُمْ دون الواو كما في سابقه من حيث إنه قسيم الانفراد المشترك بين الأولين ولم يؤت في الأخير لاتضاحه بأنه قسيم الهبة المشتركة بين الأقسام المتقدمة فتأمل، وقيل: قدم الإناث توصية برعايتهن لضعفهن لا سيما وكانوا قريبي العهد بالوأد، وفي الحديث «من ابتلي بشيء من هذه البنات فأحسن إليهن كن له سترا من النار» وقيل: قدمت لأنها أكثر لتكثير النسل فهي من هذا الوجه أنسب بالخلق المراد بيانه، وقيل: لتطييب قلوب آبائهن لما في تقديمن من التشريف لأنهن سبب لتكثير مخلوقاته تعالى، وقال الثعالبي: إنه إشارة إلى ما في تقدم ولادتهن من اليمن حتى أن أول مولود ذكر يكون مشؤوما فيقولون له بكر بكرين وعن قتادة من يمن المرأة تبكيرها بأنثى، وقيل: قدمت وأخر الذكور معرفا للمحافظة على الفواصل، والمناسب(13/53)
للسياق ما علمت سابقا، وقال مجاهد في أَوْ يُزَوِّجُهُمْ التزويج أن تلد المرأة غلاما ثم تلد جارية، وقال محمد بن الحنفية رضي الله تعالى عنهما: هو أن تلد توأما غلاما وجارية. وزعم بعضهم أن الآية نزلت في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حيث وهب سبحانه لشعيب ولوط عليهم السلام إناثا ولإبراهيم عليه السلام ذكورا ولرسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم ذكورا وإناثا وجعل عيسى ويحيى عليهما السلام عقيمين اهـ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ مبالغ جل شأنه في العلم والقدرة فيفعل ما يفعل بحكمة واختيار وَما كانَ لِبَشَرٍ أي ما
صح لفرد من أفراد البشر.
أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ ظاهره حصر التكليم في ثلاثة أقسام: الأول الوحي وهو المراد بقوله تعالى: إِلَّا وَحْياً وفسره بعضهم بالإلقاء في القلب سواء كان في اليقظة أو في المنام والإلقاء أعم من الإلهام فإن إيحاء أم موسى إلهام وإيحاء إبراهيم عليه السلام إلقاء في المنام وليس إلهاما وإيحاء الزبور إلقاء في اليقظة كما روي عن مجاهد وليس بإلهام والفرق أن الإلهام لا يستدعي صورة كلام نفساني فقد وقد وأما اللفظي فلا، وأما نحو إيحاء الزبور فيستدعيه، وقد جاء إطلاق الوحي على الإلقاء في القلب في قول عبيد بن الأبرص:
وأوحى إليّ الله أن قد تأمروا ... بإبل أبي أوفى فقمت على رجلي
فإنه أراد قذف في قلبي. والثاني إسماع الكلام من غير أن يبصر السامع من يكلمه كما كان لموسى وكذا الملائكة الذين كلمهم الله تعالى في قضية خلق آدم عليه السلام ونحوهم وهو المراد بقوله سبحانه أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ فإنه تمثيل له سبحانه بحال الملك المتحجب الذي يكلم بعض خواصه من وراء حجاب يسمع صوته ولا يرى شخصه. والثالث إرسال الملك كالغالب من حال نبينا صلّى الله عليه وسلّم وهو حال كثير من الأنبياء عليهم السلام، وزعم أنه من خصوصيات أولي العزم من المرسلين غير صحيح وهو المراد بقوله عز وجل: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا أي ملكا فَيُوحِيَ ذلك الرسول إلى المرسل إليه الذي هو الرسول البشري بِإِذْنِهِ أي بأمره تعالى وتيسيره سبحانه ما يَشاءُ أن يوحيه، وهذا يدل على أن المراد من الأول الوحي من الله تعالى بلا واسطة لأن إرسال الرسول جعل فيه إيحاء ذلك الرسول، وبنى المعتزلي على هذا الحصر أن الرؤية غير جائزة لأنها لو صحت لصح التكليم مشافهة فلم يصح الحصر، وقال بعض: المراد حصر التكليم في الوحي بالمعنى المشهور والتكليم من وراء حجاب وتكليم الرسل البشريين مع أممهم، واستبعد بأن العرف لم يطرد في تسمية ذلك إيحاء، وقال القاضي إن قوله تعالى إِلَّا وَحْياً معناه إلا كلاما خفيا يدرك بسرعة وليس في ذاته مركبا من حروف مقطعة وهو ما يعم المشافهة كما روي في حديث المعراج وما وعد به في حديث الرؤية والمهتف به كما اتفق لموسى عليه السلام في الطور لكن عطف قوله تعالى:
أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ عليه يخصه بالأول فالآية دليل على جواز الرؤية لا على امتناعها، وإلى الأول ذهب الزمخشري وانتصر له صاحب الكشف عفا الله تعالى عنه فقال: وأما نحن فنقول والله تعالى أعلم: إن قوله تعالى:
وَما كانَ لِبَشَرٍ على التعميم يقتضي الحصر بوجه لا يخص التكلم بالأنبياء عليهم السلام ويدخل فيه خطاب مريم وما كان لأم موسى وما يقع للمحدثين من هذه الأمة وغيرهم فحمل الوحي على ما ذهب إليه الزمخشري أولى. ثم إنه يلزم القاضي أن لا يكون ما وقع من وراء حجاب وحيا لا أنه يخصصه لأنه نظير قولك: ما كان لك أن تنعم إلا على المساكين وزيد، نعم يحتمل أن يكون زيد داخلا فيهم على نحو مَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ [البقرة: 98] وهذا يضر القاضي لاقتضائه أن يكون هذا القسم أعني ما وقع من وراء حجاب أعلى المراتب فلا يكون الثاني هو المشافهة، وتقدير إلا وحيا من غير حجاب أو من وراء حجاب خلاف الظاهر وفيه فك للنظم لقوله سبحانه: أَوْ يُرْسِلَ وهو(13/54)
عطف على قوله تعالى: إِلَّا وَحْياً مع كونه خلاف الظاهر.
وعلى هذا يفسد ما بني عليه من حديث التنزل من القسم الأعلى إلى ما دونه، ومع ذلك لا يدل على عدم وقوع الرؤية فضلا عن جوازه بل دل على أنها لو وقعت لم يكن معها المكالمة وذلك هو الصحيح لأن الرؤية تستدعي الفناء والبقاء به عز وجل وهو يقتضي رفع حجاب المخاطب المستدعي كونا وجوديا ثم الكامل لتوفيته حق المقامات الكبرى يكون المحتظى منه بالشهود في مقام البقاء المذكور ومع ذلك لا يمنعه عن حظه من سماع الخطاب لأنه حظ القلب المحجوب عن مقام الشهود، والمقصود أن الذي يصح ذوقا ونقلا وعقلا كون الخطاب من وراء حجاب البتة وهو صحيح لكن لا ينفع منكر الرؤية ولا مثبتها، وأما سؤال الترقي في الأقسام فالجواب عنه أن الترقي حاصل بين الأول والثاني الذي له سمي الكليم كليما، وأما الثالث فلما كان تكليما مجازيا أخر عن القسمين ولم ينظر إلى أنه أشرف من القسم الأول فإن ذلك الأمر غير راجع إلى التكليم بل لأنه مخصوص بالأنبياء عليهم السلام انتهى.
وتعقب ما اعترض به على القاضي بأنه لا يرد لأن الوحي بذلك المعنى بالتخصيص المذكور والتقييد المأخوذ من التقابل صار مغايرا لما بعده وليس من شيء من القبيلين حتى يذهب إلى الترقي أو التدلي لأنه لا يعطف بأو بل بالواو كما لا يخفى، ولزوم أن لا يكون الواقع من وراء حجاب وحيا غير مسلم لأنه إن أراد أن لا يكون وحيا مطلقا فغير صحيح لأن قوله تعالى بعده: فيوحي بإذنه قرينة على أن المراد بالوحي السابق وحي مخصوص كالذي بعده وإن أراد أنه لا يكون من الوحي المخصوص السابق فلا يضره لأنه عين ما عناه، نعم الحصر على ما ذهب إليه القاضي غير ظاهر إلا بعد ملاحظة أنه مخصوص بما كان بالكلام فتدبر، والظاهر أن عائشة رضي الله تعالى عنها حملت الآية على نحو ما حملها المعتزلة، أخرج البخاري ومسلم والترمذي عنها أنها قالت: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد كذب ثم قرأت لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 103] وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ وأنت تعلم أن أكثر العلماء على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى ربه سبحانه ليلة الإسراء لكثرة الروايات المصرحة بالرؤية نعم ليس فيها التصريح بأنها بالعين لكن الظاهر من الرؤية كونها بها، والمروي عن الأشعري وجمع من المتكلمين أنه جل شأنه كلمه عليه الصلاة والسلام تلك الليلة بغير واسطة ويعزى ذلك إلى جعفر بن محمد الباقر وابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم وهو الظاهر للأحاديث الصحاح في مرادة الصلاة واستقرار الخمسين على الخمس وغير ذلك، وعائشة رضي الله تعالى عنها لم تنف الرؤية إلا اعتمادا على الاستنباط من الآيات ولو كان معها خبر لذكرته، واحتجاجها بما ذكر من الآيات غير تام، أما عدم تمامية احتجاجها بآية لا تدركه الأبصار فمشهور، وأما عدم تمامية الاحتجاج بالآية الثانية فلما سمعت عن صاحب الكشف قدس سره، وقال الخفاجي بعد تقرير الاحتجاج بأنه تعالى حصر تكليمه سبحانه للبشر في الثلاثة: فإذا لم يره جلّ وعلا من يكلمه سبحانه في وقت الكلام لم يره عز وجل في غيره بالطريق الأولى وإذا لم يره تعالى هو أصلا لم يره سبحانه غيره إذ لا قائل بالفصل، وقد أجيب عنه في الأصول بأنه يحتمل أن يكون المراد حصر التكليم في الدنيا في هذه الثلاثة أو نقول يجوز أن تقع الرؤية حال التكليم وحيا إذ الوحي كلام بسرعة وهو لا ينافي الرؤية انتهى، ولا يخفى عليك أن الجواب الأول لا ينفع فيما نحن بصدده إلا بالتزام أن ما وقع لنبينا عليه الصلاة والسلام تلك الليلة لا يعد تكليما في الدنيا على ما ذكره الشرنبلالي في إكرام أولي الألباب لأنه كان في الملكوت الأعلى وأنه يستفاد من كلام صاحب الكشف منع ظاهر للشرطية في وجه الاستدلال الذي قرره، وبعضهم أجاب بأن العالم مخصص بغير ما دليل
وفي البحر قيل «قالت قريش: ألا تكلم الله تعالى وتنظر إليه إن كنت نبيا صادقا كما كلم جل وعلا موسى ونظر إليه تعالى فقال لهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «لم ينظر(13/55)
موسى عليه السلام إلى الله عز وجل فنزلت وَما كانَ لِبَشَرٍ الآية»
وهذا ظاهر في أن الآية لم تتضمن التكليم الشفاهي مع الرؤية وكذا ما فيه أيضا كان من الكفار خوض في تكليم الله تعالى موسى عليه السلام فذهبت قريش واليهود في ذلك إلى التجسيم فنزلت فإن عدم تضمنها ذلك أدفع لتوهم التجسيم، وبالجملة الذي يترجح عندي ما قاله صاحب الكشف قدس سره أن الآية لا تنفع منكر الرؤية ولا مثبتها وما ذكر من سبب النزول ليس بمتيقن الثبوت، ويفهم من كلام بعضهم أن الوحي كما يكون بالإلقاء في الروع يكون بالخط فقد قال النخعي كان في الأنبياء عليهم السلام من يخط له في الأرض، ومعناه اللغوي يشمل ذلك، فقد قال الإمام أبو عبد الله التيمي الأصبهاني: الوحي أصله التفهيم وكل ما فهم به شيء من الإلهام والإشارة والكتب فهو وحي، وقال الراغب: أصل الوحي الإشارة السريعة ولتضمن السرعة قيل أمر وحي وذلك يكون بالكلام على الزمر والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب وبإشارة ببعض الجوارح وبالكتابة، وقد حمل على ذلك قوله تعالى: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً [مريم: 11] فقد قيل رمز وقيل اعتبار وقيل كتب وجعل التسخير من الوحي أيضا وحمل عليه قوله تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل: 68] وسيأتي إن شاء الله تعالى ما للصوفية قدست أسرارهم من الكلام في هذه الآية، ووَحْياً على ما قال الزمخشري مصدر واقع موقع الحال وكذا أن يرسل لأنه بتأويل إرسالا، ومِنْ وَراءِ حِجابٍ ظرف واقع موقع الحال أيضا كقوله تعالى: وَعَلى جُنُوبِهِمْ [آل عمران: 191] والتقدير وما صح أن يكلم أحدا في حال من الأحوال إلا موحيا أو مسمعا من وراء حجاب أو مرسلا. وتعقبه أبو حيان فقال: وقوع المصدر حالا لا ينقاس فلا يجوز جاء زيد بكاء تريد باكيا، وقاس منه المبرد ما كان نوعا للفعل نحو جاء زيد مشيا أو سرعة ومنع سيبويه من وقوع أن مع الفعل موقع الحال فلا يجوز جاء زيد أن يضحك في معنى ضحكا الواقع موقع ضاحكا.
وأجيب عن الأول بأن القرآن يقاس عليه ولا يلزم أن يقاس على غيره مع أنه قد يقال: يكتفى بقياس المبرد، وعن الثاني بأنه علل المنع بكون الحاصل بالسبك معرفة وهي لا تقع حالا، وفي ذلك نظر لأنه غير مطرد ففي شرح التسهيل أنه قد يكون نكرة أيضا ألا تراهم فسروا أَنْ يُفْتَرى بمفترى، وقد عرض ابن جني ذلك على أبي علي فاستحسنه، وعلى تسليم الاطراد فالمعرفة قد تكون حالا لكونها في معنى النكرة كوحده، والاقتصار على المنع أولى لمكان التعسف في هذا، واختار غير واحد أن وحيا بما عطف عليه منتصب بالمصدر لأنه نوع من الكلام أو بتقدير إلّا كلام وحي ومِنْ وَراءِ حِجابٍ صفة كلام أو سماع محذوف وصفة المصدر تسد مسده والإرسال نوع من الكلام أيضا بحسب المآل والاستثناء عليه مفرغ من أعم المصادر، وقال الزجاج: قال سيبويه سألت الخليل عن قوله تعالى: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا بالنصب فقال: هو محمول على أن سوى هذه التي في قوله تعالى: أن يكلمه الله لما يلزم منه أن يقال:
ما كان لبشر أن يرسل الله رسولا وذلك غير جائز، والمعنى ما كان لبشر أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلا بأن يوحى أو أن يرسل، وعليه أن يقدر في قوله تعالى: أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ نحو أو أن يسمع من وراء حجاب وأي داع إلى ذلك مع ما سمعت؟ واختلف في الاستثناء هل هو متصل أو منقطع وأبو البقاء على الانقطاع. وتعقبه بعضهم بأن المفرغ لا يتصف بذلك والبحث شهير. وقرأ ابن أبي عبلة «أو من وراء حجب» بالجمع. وقرأ نافع وأهل المدينة «أو يرسل رسولا فيوحي» برفع الفعلين ووجهوا ذلك بأنه على إضمار مبتدأ أي هو يرسل أو هو معطوف على وَحْياً أو على ما يتعلق به مِنْ وَراءِ بناء على أن تقديره أو يسمع من وراء حجاب، وقال العلامة الثاني: إن التوجيه الثاني وما بعده ظاهر وهو عطف الجملة الفعلية الحالية على الحال المفردة، وأما إضمار المبتدأ فإن حمل على هذا فتقدير المبتدأ لغو، وإن أريد أنها مستأنفة فلا يظهر ما يعطف عليه سوى ما كانَ لِبَشَرٍ إلخ وليس بحسن الانتظام. وتعقب بأنه يجوز أن يكون تقدير المبتدأ مع اعتبار الحالية بناء على أن الجملة الاسمية التي الخبر فيها جملة فعلية تفيد ما لا تفيده الفعلية الصرفة مما(13/56)
يناسب حال إرسال الرسول، أو يقال: لا نسلم أن العطف على ما كانَ لِبَشَرٍ ليس بحسن الانتظام، وفيه دغدغة لا تخفى، وفي الآية على ما قال ابن عطية دليل على أن من حلف أن لا يكلم فلانا فراسله حنث لاستثنائه تعالى الإرسال من الكلام، ونقله الجلال السيوطي في أحكام القرآن عن مالك وفيه بحث والله تعالى الهادي.
إِنَّهُ عَلِيٌّ متعال عن صفات المخلوقين حَكِيمٌ يجري سبحانه أفعاله على سنن الحكمة فيكلم تارة بواسطة وأخرى بدونها إما إلهاما وإما خطابا أو إما عيانا وإما خطابا من وراء حجاب على ما يقتضيه الاختلاف السابق في تفسير الآية وَكَذلِكَ أي ومثل هذا الإيحاء البديع على أن الإشارة لما بعد أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا وهو ما أوحي إليه عليه الصلاة والسلام أو القرآن الذي هو للقلوب بمنزلة الروح للأبدان حيث يحييها حياة أبدية، وقيل: أي ومثل الإيحاء المشهور لغيرك أوحينا إليك، وقيل: أي ومثل ذلك الإيحاء المفصل أوحينا إليك إذ كان عليه الصلاة والسلام اجتمعت له الطرق الثلاث سواء فسر الوحي بالإلقاء أم فسر بالكلام الشفاهي، وقد ذكر أنه عليه الصلاة والسلام قد ألقي إليه في المنام كما ألقي إلى إبراهيم عليه السلام وألقي إليه عليه الصلاة والسلام في اليقظة على نحو إلقاء الزبور إلى داود عليه السلام.
ففي الكبريت الأحمر للشعراني نقلا عن الباب الثاني من الفتوحات المكية أنه صلّى الله عليه وسلّم أعطي القرآن مجملا قبل جبريل عليه السلام من غير تفصيل الآيات والسور. وعن ابن عباس تفسير الروح بالنبوة.
وقال الربيع: هو جبريل عليه السلام، وعليه فأوحينا مضمن معنى أرسلنا، والمعنى أرسلناه بالوحي إليك لأنه لا يقال: أوحى الملك بل أرسله.
ونقل الطبرسي عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن المراد بهذا الروح ملك أعظم من جبرائيل وميكائيل كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يصعد إلى السماء
، وهذا القول في غاية الغرابة ولعله لا يصح عن هذين الإمامين، وتنوين رُوحاً للتعظيم أي روحا عظيما ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ الظاهر أن ما الأولى نافية والثانية استفهامية في محل رفع على الابتداء والْكِتابُ خبر، والجملة في موضع نصب بتدري وجملة ما كُنْتَ إلخ حالية من ضمير أَوْحَيْنا أو هي مستأنفة والمضي بالنسبة إلى زمان الوحي.
واستشكلت الآية بأن ظاهرها يستدعي عدم الاتصاف بالإيمان قبل الوحي ولا يصح ذلك لأن الأنبياء عليهم السلام جميعا قبل البعثة مؤمنون لعصمتهم عن الكفر بإجماع من يعتد به، وأجيب بعدة أجوبة، الأول أن الإيمان هنا ليس المراد به التصديق المجرد بل مجموع التصديق والإقرار والإعمال فإنه كما يطلق على ذلك يطلق على هذا شرعا، ومنه قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة: 143] والأعمال لا سبيل إلى درايتها من غير سمع فهو مركب والمركب ينتفي بانتفاء بعض أجزائه فلا يلزم من انتفاء الإيمان المركب بانتفاء الأعمال انتفاء الإيمان بالمعنى الآخر أعني التصديق وهو الذي أجمع العلماء على اتصاف الأنبياء عليهم السلام به قبل البعثة، ولذا عبر بتدري دون أن يقال: لم تكن مؤمنا وهو جواب حسن ولا يلزمه نفي الإيمان عمن لا يعمل الطاعات ليكون القول به اعتزالا كما لا يخفى.
الثاني أن الإيمان إنما يعني به التصديق بالله تعالى وبرسوله عليه الصلاة والسلام دون التصديق بالله عز وجل ودون ما يدخل فيه الأعمال والنبي صلّى الله عليه وسلّم مخاطب بالإيمان برسالة نفسه كما أن أمته صلّى الله عليه وسلّم مخاطبون بذلك، ولا شك أنه قبل الوحي لم يكن عليه الصلاة والسلام يعلم أنه رسول الله وما علم ذلك إلا بالوحي فإذا كان الإيمان هو التصديق بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم ولم يكن هذا المجموع ثابتا قبل الوحي بل كان الثابت هو التصديق بالله تعالى خاصة المجمع(13/57)
على اتصاف الأنبياء عليهم السلام به قبل البعثة استقام نفي الإيمان قبل الوحي وإلى هذا ذهب ابن المنير. الثالث أن المراد شرائع الإيمان ومعالمه مما لا طريق إليه إلا السمع وإليه ذهب محيي السنة البغوي وقال: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان قبل الوحي على دين إبراهيم عليه السلام ولم تتبين له عليه الصلاة والسلام شرائع دينه، ولا يخفى أنه إذا لم يعتبر كون الكلام على حذف مضاف يلزمه إطلاق الإيمان على الأعمال وحدها وهو خلاف المعروف. الرابع أن الكلام على تقدير مضاف فقيل التقدير دعوة الإيمان أي ما كنت تدري كيف تدعو الخلق إلى الإيمان وإليه يشير كلام أبي العالية.
وقال الحسين بن الفضل: أي أهل الإيمان أي لا تدري من الذي يؤمن، وأنت تدري أنه لا يرتضي هذا إلا من لا يدري. الخامس المراد نفي دراية المجموع أي ما كنت تدري قبل الوحي مجموع الكتاب والإيمان فلا ينافي كونه صلّى الله عليه وسلّم كان يدري الإيمان وحده ويأباه إعادة لَا السادس أن المراد ما كنت تدري ذلك إذ كنت في المهد وإليه ذهب علي بن عيسى وهو خلاف الظاهر، والظاهر أن المراد استمرار النفي إلى زمن الوحي، وظاهر كلام الكشف يميل إلى اعتبار نحو ذلك القيد قال: لعل الأشبه أن الإيمان على ظاهره والآية واردة في معرض الامتنان والإيحاء يشمل الإلقاء في الروع وإرسال الرسول فالإيمان عرفه بالأول والكتاب بالثاني على أن الآية تدل على أنه صلّى الله عليه وسلّم عرفهما بعد أن لم يكن عارفا وهو كذلك أما أنه عليه الصلاة والسلام عرفهما بعد الوحي فلا فجاز أن يعرفهما به وجاز أن يعرف واحدا منهما معينا به. وقد دل الدليل على أن المعرف به هو الكتاب والإيمان بعد العقل وقبل الوحي، والتمسك به على أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يكن متعبدا بشرع من قبله ضعيف لأن عدم الدراية لا يلزمه عدم التعبد بل يلزمه سقوط الإثم إن لم يكن تقصيرا انتهى.
وأنت تعلم أن المتبادر أنه عليه الصلاة والسلام عرفهما بعد الوحي، وأما قوله قدس سره في تضعيف التمسك بذلك على أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يكن متعبدا بشرع من قبله إن عدم الدراية لا يلزمه عدم التعبد فقد قيل عليه: إنه ساقط لأنه عليه الصلاة والسلام إذا لم يدر شرعا فكيف يتعبد به، وقد يجاب بأن مراد المدقق أن الدراية المنفية الدراية بمعنى العلم الجازم الثابت المطابق للواقع وعدمها لا يلزمه، عدم التعبد إذ يكفي في التعبد بشرع من قبله عليه الصلاة والسلام الظن الراجح ثبوته فلعله كان حاصلا له صلّى الله عليه وسلّم.
ومثل هذا الظن يكفي للمتعبدين اليوم بشرع نبينا عليه الصلاة والسلام فإن أكثر الفروع ظنية، ومن يتتبع الأخبار يعلم أن العرب لم يزالوا على بقايا من دين إبراهيم عليه السلام من الحج والختان وإيقاع الطلاق والغسل من الجنابة وتحريم ذوات المحارم بالقرابة والصهر وغير ذلك وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان أحرص الناس على اتباع دين إبراهيم عليه السلام. وفي الصحيح أنه صلّى الله عليه وسلّم كان أي قبل البعثة يتحنث بغار حراء، وفسر التحنث بالتحنف أي اتباع الحنيفية وهي دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، والفاء تبدل ثاء في كثير من كلامهم وفي رواية ابن هشام في السير يتحنف بالفاء بدل الثاء، نعم فسر أيضا بالتعبد كما في صحيح البخاري وباتقاء الحنث أي الإثم كالتحرج والتأثم وكل ذلك مما ذكره الحافظ القسطلاني في شرح الصحيح.
ثم إن الظاهر أن من قال: إنه صلّى الله عليه وسلّم كان متعبدا بشرع من قبله ليس مراده أنه عليه الصلاة والسلام كان متعبدا بجميع شرع من قبله بل بما ترجح عنده صلّى الله عليه وسلّم ثبوته. والذي ينبغي أن يرجح كون ذلك من شرع إبراهيم عليه السلام لأنه من ذريته عليهما الصلاة والسلام وقد كلفت العرب بدينه.
وقال بعضهم: إن عبادته صلّى الله عليه وسلّم التفكر والاعتبار، ولعله أيضا مما ترجح عنده عليه الصلاة والسلام كونه من شريعته عليه السلام وربما يقال: بما علمه صلّى الله عليه وسلّم لا على ذلك الوجه من شرع من قبله أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يزل موحى إليه وأنه(13/58)
عليه الصلاة والسلام متعبد بما يوحى إليه إلا أن الوحي السابق على البعثة كان إلقاء ونفثا في الروع وما عمل بما كان من شرائع أبيه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام إلا بواسطة ذلك الإلقاء وإذا كان بعض إخوانه من الأنبياء عليهم السلام قد أوتي الحكم صبيا ابن سنتين أو ثلاث فهو عليه الصلاة والسلام أولى بأن يوحى إليه ذلك النوع من الإيحاء صبيا أيضا.
ومن علم مقامه صلّى الله عليه وسلّم وصدق بأنه الحبيب الذي كان نبيا وآدم بين الماء والطين لم يستبعد ذلك فتأمل.
وَلكِنْ جَعَلْناهُ أي الروح الذي أوحيناه إليك، وقال ابن عطية: الضمير للكتاب، وقيل: للإيمان ورجح بالقرب، وقيل: للكتاب والإيمان ووحد لأن مقصدهما واحد فهو نظير وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: 62] .
نُوراً عظيما نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ هدايته مِنْ عِبادِنا وهو الذي يصرف اختياره نحو الاهتداء به والجملة إما مستأنفة أو صفة «نورا» وقوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي تقرير لهدايته، وبيان لكيفيتها، ومفعول لَتَهْدِي محذوف ثقة بغاية الظهور أي وإنك لتهدي بذلك النور من تشاء هدايته إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ هو الإسلام وسائر الشرائع والأحكام وقرأ ابن السميفع «لتهدي» بضم التاء وكسر الدال من أهدى، وقرأ حوشب «لتهدى» مبنيا للمفعول أي ليهديك الله وقرىء لتدعو صِراطِ اللَّهِ بدل من الأول وإضافته إلى الاسم الجليل ثم وصفه بقوله تعالى: الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لتفخيم شأنه وتقرير استقامته وتأكيد وجوب سلوكه فإن كون جميع ما فيهما من الموجودات له تعالى خلقا وملكا وتصرفا مما يوجب ذلك أتم إيجاب. أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ أي أمور من فيهما قاطبة لا إلى غيره تعالى وذلك بارتفاع الوسائط يوم القيامة ففيه من الوعد للمهتدين إلى الصراط المستقيم والوعيد للضالين عنه ما لا يخفى، وصيغة المضارع على ما قررنا على ظاهرها من الاستقبال، وقال في البحر: المراد بها الاستمرار كما في زيد يعطي أي من شأنه ذلك، والأول أظهر والله تعالى أعلم.
ومما قاله أرباب الإشارات في بعض الآيات قال سبحانه: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها قيل يشير ذلك إلى إنذار نفسه الشريفة لأنها أم قرى نفوس آدم وأولاده لأنه صلّى الله عليه وسلّم أول العالمين خلقا ومنه عليه الصلاة والسلام نشأت الأرواح والنفوس ومن هذا كان آدم ومن دونه تحت لوائه صلّى الله عليه وسلّم، وقد أشار إلى ذلك سلطان العاشقين عمر بن الفارض بقوله على لسان الحقيقة المحمدية:
وإني وإن كنت ابن آدم صورة ... فلي منه معنى شاهد بأبوتي
وقوله سبحانه: وَمَنْ حَوْلَهُ يشير إلى نفوس أهل العالم وقد أنذر صلّى الله عليه وسلّم كلا حسب استعداده، وقيل: في قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ إنه يشير إلى التنزيه والتشبيه، وقرر ذلك الشيخ الأكبر قدس سره بما يطول لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مفاتيح سموات القلوب وفيها خزائن لطفه تعالى ورحمته عز وجل وأرض النفوس وفيها خزائن قهره سبحانه وعزته جل جلاله فكل قلب مخزن لنوع من ألطافه كالمعرفة والمحبة والشوق والتوحيد والهيبة والانس والرضا إلى غير ذلك، وقد يجتمع في القلب خزائن وكل نفس مخزن لنوع من آثار قهره كالنكرة والجحود والإنكار والشرك والنفاق والحرص والكبر والبخل والشره وغير ذلك، وقد يجتمع في النفس خزائن، وفائدة الإخبار بأن له سبحانه مقاليد ذلك قطع أفكار العباد عمن سواه سبحانه في جلب ما يريدونه ودفع ما يكرهونه اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ يشير إلى مقامي المجذوب والسالك فالمجذوب من الخواص اجتباه ربه سبحانه في الأزل وسلكه في مسلك من يحبهم واصطنعه سبحانه لنفسه جل شأنه وجذبه تعالى عن الدارين بجذبة توازي عمل الثقلين فهو في مقعد صدق عند مليك مقتدر، والسالك من العوام سلكه في سلك من يحبونه بالتوفيق للهداية والقيام على قدمي الجهد والإنابة إلى سبيل الرشاد من طريق العناد وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ(13/59)
ما اسْتُجِيبَ لَهُ
يشير إلى الذين يجادلون في معرفة الله تعالى بشبه العقل الذي استجاب له تعالى حين دعاه فوصل إلى الحضرة فهو في كشف وعيان وأولئك من وراء ما يزعمون أنه برهان أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ يشير إلى كفار النفوس فإنهم شرعوا عند استيلائهم للأرواح والقلوب ما لم يرض به الله تعالى من مخالفات الشريعة وموافقات الطبيعة اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يشير إلى عموم لطفه تعالى وهو أنواع لا تحصى ومراتب لا تستقصى.
وروى السلمي عن سيد الطائفة قدس سره اللطيف من نور قلبك بالهدى وربى جسمك بالغذاء ويخرجك من الدنيا بالإيمان ويحرسك من نار لظى ويمكنك حتى تنظر وترى هذا لطف اللطيف بالعبد الضعيف وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ استعملوا تكاليف الشرع لقمع الطبع وكسر الهوى وتزكية النفس وتصفية القلب وجلاء الروح فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ في الدنيا جنات الوصلة والمعارف وطيب الأنس في الخلوة والآخرة في روضات الجنة لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ حسب مراتبهم في القربات والوصلات والمكاشفات ونيل الدرجات وعلى قدر هممهم قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وهم أقاربه صلّى الله عليه وسلّم الذين خلقوا من عنصره الشريف وتحلوا بحلاه المنيف كأئمة أهل البيت ومودتهم يعود نفعها إلى من يودهم لأنها سبب للفيض وهم رضي الله تعالى عنهم أبوابه وفي
قوله صلّى الله عليه وسلّم «أنا مدينة العلم وعلي بابها»
رمز إلى ذلك فافهم الإشارة وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ لمزيد كرمه جل شأنه فمتى وفق عبدا للتوبة قبلها جودا وكرما وعن بعضهم أنه قال لبعض المشايخ: إن تبت فهل يقبلني الله تعالى؟
فقال: إن يقبلك الله تعالى تتب إليه سبحانه فقبول الله تعالى سابق على التوبة وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إشارة إلى الرؤية فإن الجنان ونعيمها مخلوقة تقع في مقابلة مخلوق وهو عمل العمال والرؤية مما تتعلق بالقديم فلا تقع إلا فضلا ربانيا، وفي بعض الأخبار أن هذه الزيادة أن يشفعهم في إخوان إخوانهم اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ الاستجابة للعوام بالوفاء بعده تعالى والقيام بحقه سبحانه والرجوع عن مخالفته جل شأنه إلى موافقته عزّ وجلّ وللخواص بالاستسلام للأحكام الأزلية والإعراض عن الدنيا وزينتها وشهواتها، ولأخص الخواص من أهل المحبة بصدق الطلب بالإعراض عن الدارين والتوجه لحضرة الجلال ببذل الوجود في نيل الوصول الوصال يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً قيل فيه إشارة إلى أحوال المشايخ من حيث المريدين فمنهم من يهب الله تعالى له ومنهم من لا تصرف له في غيره بالتخريج والتسليك وهو أشبه شيء بالأنثى من حيث عدم التصرف ومنهم من يهب سبحانه له من له قدرة التصرف بالتخريج والتسليك وهو أشبه شيء بالذكر ومنهم من يهب له تعالى هذا وهذا ومنهم من يجعله جل وعلا عقيما لأمر يدله أصلا وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ قال سيدي الشيخ عبد الوهاب الشعراني في تفسيره الآية المذكورة اعلم أن المانع من سماع كلام الحق إنما هو البشرية فإذا ارتفع العبد عنها كلمه الله تعالى من حيث كلم سبحانه الأرواح المجردة عن المواد، والبشر ما سمي بشرا إلا لمباشرته الأمور التي تعوقه عن اللحوق بدرجة فلما لم يلحق كلمه الله تعالى في الأشياء وتجلى سبحانه له فيها بخلاف من لحق كالأنبياء عليهم السلام فلا يتجلى الحق سبحانه لغيرهم إلا في حجاب الصور ولولا هدايته تعالى للعبد ما عرف أنه سبحانه ربه، واعلم أن الحقيقة تأبى أن يكلم الله تعالى غير نفسه أو يسمع غير نفسه فلا بد إذا خاطب عبدا على قصد إسماعه أن يكون جميع قواه لأنه محال أن يطيق الحادث سماع كلام القديم ولم يكن الحق سبحانه قواه عند النجوى ولذلك خر موسى عليه السلام صعقا إذ لم يكن له استعداد يقبل له التجلي اللائق بمقامه وثبت نبينا صلّى الله عليه وسلّم ولما لم يكن للجبل درجة المحبة التي(13/60)
يكون بها الحق سمع عبده وبصره وجميع قواه لم يقدر على سماع الخطاب فدك، واعلم أن حديث الحق سبحانه للخلق لا يزال أبدا غير أن من الناس من يفهم أنه حديث كعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ومن ورثه من الأولياء ومنهم من لا يعرف ذلك ويقول: ظهر لي كذا وكذا ولا يعرف أن ذلك من حديث الحق سبحانه معه وكان شيخنا يقول: كان عمر من أهل السماع المطلق الذي يحدثهم الله تعالى في كل شيء ولكن له ألقاب وهو أنه إن أجابوه به تعالى فهو حديث وإن أجابوه بهم فهي محادثة وان سمعوا حديثه سبحانه فليس بحديث في حقهم وإنما هو خطاب أو كلام، وقد ورد في المتهجدين انهم أهل المسامرة فقد علمت أن الوحي ما يلقيه الله تعالى في قلوب خواص عباده على جهة الحديث فيحصل لهم من ذلك علم بأمر ما فإن لم يكن كذلك فليس بوحي ولا خطاب فإن بعض الناس يجدون في قلوبهم علما بأمر ما مثل العلوم الضرورية عند الناس فهو علم صحيح لكن ليس صادرا عن خطاب وكلامنا إنما هو في الخطاب الإلهي والمسمى وحيا فإن الله تعالى جعل هذا الصنف من الوحي كلاما يستفيد به العلم من جاء له.
واعلم أنه لا ينزل على قلوب الأولياء من وحي الإلهام إلا دقائق ممتدة من الأرواح الملكية لا نفس الملائكة لأن الملك لا ينزل بوحي على غير نبي أصلا ولا يأمر بأمر إلهي قطعا لأن الشريعة قد استقرت فلم يبق إلا وحي المبشرات وهو الوحي الأعم ويكون من الحق إلا العبد من غير واسطة ويكون أيضا بواسطة والنبوة من شأنها الواسطة فلا بد من واسطة الملك فيها لكن الملك لا يكون حال إلقائه ظاهرا بخلاف الأنبياء عليهم السلام فإنهم يرون الملك حال الكلام والولي لا يشهد الملك إلا في غير حال الإلقاء فإن سمع كلامه لم يره وإن رآه لا يكلمه فالعارفون لا ينالون ما فاتهم من النبوة مع بقاء المبشرات عليهم إلا أن الناس يتفاضلون فمنهم من لا يبرح في بشارة الواسطة ومنهم من يرتفع عنها كالأفراد فإن لهم المبشرات بارتفاع الوسائط وما لهم النبوات ولهذا ينكر عليهم الأحكام لأنهم ضاهوا الأنبياء من حيث كونهم يعلمون بما يرونه من تعريفات الحق لهم كأنه شريعة مستقلة في الظاهر وليس ذلك بشريعة إنما هو بيان لها فالمنقطع إنما هو وحي التشريع لا غير أما التعريف لأمور مجملة في السنة فهو باق لهذه الأمة ليكونوا على بصيرة فيما يدعون الناس إليه لأنه خبر إلهي وأخبار من الله تعالى للعبد على يد ملك مغيب على هذا الملهم، ولا يكون الإلهام إلا في الخير وفَأَلْهَمَها فُجُورَها [الشمس: 8] على معنى إلهامها إياه لتجتنبه كما إلهامها تقواها لتعمل بها، وأكمل الإلهام أن يلهم اتباع الشرع والنظر في الكتب الإلهية ويقف عند حدودها وأوامرها حتى يزول صدى طبيعته وتنتقش فيها صور العالم، وأما قوله تعالى: أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ فهو خطاب إلهي يلقيه على السمع لا على القلب فيدركه من ألقي إليه فيفهم منه ما قصده من يسمعه ذلك وقد يحصل له ذلك في صورة التجلي فتخاطبه تلك الصورة وهي عين الحجاب فيفهم من ذلك الخطاب علم ما يدل عليه ويعلم أن ذلك حجاب وأن المتكلم من وراء ذلك الحجاب وكل من أدرك صورة التجلي الإلهي يعلم أن ذلك هو الله تعالى فما يزيد صاحب هذا الحال على غيره إلا بمعرفته أن المخاطب له من وراء الحجاب.
وأما قوله تعالى: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فهو ما ينزل به الملك أو ما يجيء به الرسول البشري إلينا إذا نقلا كلام الله تعالى خاصة كالتالين فإن نقلا علما وجداه في أنفسهما وأفصحا عنه فذلك ليس بكلام إلهي، ومن الأولياء من يعطي الترجمة عن الله سبحانه في حال الإلقاء والوحي الخاص بكل إنسان فيكون المترجم موجدا لصور الحروف اللفظية أو المرقومة ويكون روح تلك الصور كلام الله عزّ وجلّ لا غير، وقد يقول الولي: حدثني قلبي عن ربي يعني به من الوجه الخاص فاعلم ذلك وتأمل ما قررته لك فإنه نفيس والله تعالى يتولى هداك، وله قدس سره كلام كثير في هذا المقام تركناه خوف الإطالة، ولعل فيما ذكرناه كفاية لذوي الأفهام وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا وهو ما(13/61)
به الحياة الطيبة الأبدية ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ قبل الإيحاء.
قيل: أشير هذا الإيحاء في هذه النشأة وكان له صلّى الله عليه وسلّم في كل حال من أحواله فيها نوع من الوحي والدراية المنفية إذ كان عليه الصلاة والسلام في كينونته وقبل إخراجه منها بتجلي كينونته عزّ وجلّ وإلا فهو صلّى الله عليه وسلّم نبي ولا آدم ولا ماء ولا طين ولا يعقل نبي بدون إيحاء وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو التوحيد السليم من زوايا الأغيار ويشير إلى ذلك قوله تعالى: أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ تمت السورة بتوفيق الله عزّ وجلّ والصلاة والسلام على أول نور أشرق من شمس الأزل وبها والحمد لله تعالى.(13/62)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)
سورة الزخرف
مكية كما روي عن ابن عباس وحكى ابن عطية إجماع أهل العلم على ذلك ولم ينقل استثناء، وقال مقاتل: إلا قوله تعالى: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا [الزخرف: 45] فإنها نزلت ببيت المقدس كذا في مجمع البيان، وفي الإتقان نزلت بالسماء، وقيل: بالمدينة، وعدد آيها ثمان وثمانون في الشامي وتسع وثمانون في غيره، ووجه مناسبة مفتتحها لمختتم ما قبلها ظاهر.(13/63)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم الكلام فيه على نحو ما مر في مفتتح يس وَالْكِتابِ أي القرآن والمراد به جميعه، وجوز إرادة جنسه الصادق ببعضه وكله، وقيل: يجوز أن يراد به جنس الكتب المنزلة أو المكتوب في اللوح أو المعنى المصدري وهو الكتابة والخط، وأقسم سبحانه بها لما فيها من عظيم المنافع ولا يخفى ما في ذلك، والأولى على تقدير اسمية حم كونه اسما للقرآن وإن يراد ذلك أيضا بالكتاب وهو مقسم به إما ابتداء أو عطفا على حم على تقدير كونه مجرورا بإضمار باء القسم على أن مدار العطف المغايرة في العنوان لكن يلزم على هذا حذف حرف الجر وإبقاء عمله كما في:
أشارت كليب بالأكف الأصابع ومنع أن يقسم بشيئين بحرف واحد لا يلتفت إليه ومناط تكرير القسم المبالغة في تأكيد الجملة القسمية الْمُبِينِ أي المبين لمن أنزل عليهم لكونه بلغتهم وعلى أساليب كلامهم على أنه من أبان اللازم أو المبين لطريق الهدى من طريق الضلالة الموضح لأصول ما يحتاج إليه في أبواب الديانة على أنه من أبان المتعدي.
إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا جواب للقسم، والجعل بمعنى التصيير المعدى لمفعولين لا بمعنى الخلق المعدى لواحد لا لأنه ينافي تعظيم القرآن بل لأنه يأباه ذوق المقام المتكلم فيه لأن الكلام لم يسبق لتأكيد كونه مخلوقا وما كان إنكارهم متوجها عليه بل هو مسوق لإثبات كونه قرآنا عربيا مفصلا واردا على أساليبهم لا يعسر عليهم فهم ما فيه ودرك كونه معجزا كما يؤذن به قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي لكي تفهموه وتحيطوا بما فيه من النظر الرائق والمعنى الفائق وتقفوا على ما يتضمنه من الشواهد الناطقة بخروجه عن طوق البشر وتعرفوا حق النعمة في ذلك وتنقطع أعذاركم بالكلية او لقسم بالقرآن على ذلك من الإيمان الحسنة البديعة لما فيه من رعاية المناسبة والتنبيه على أنه لا شيء أعلى منه فيقسم به ولا أهم من وصفه فيقسم عليه كما قال أبو تمام:
وثناياك إنها اغريض ... ولآل قوم وبرق وميض
بناء على أن جواب القسم قوله: إنها اغريض، واستدل بالآية على أن القرآن مخلوق وأطالوا الكلام في ذلك، وأجيب بأنه إن دل على المخلوقية فلا يدل على أكثر من مخلوقية الكلام اللفظي ولا نزاع فيها.
وأنت تعلم أن الحنابلة ينازعون في ذلك ولهم عن الاستدلال أجوبة مذكورة في كتبهم، وأخرج ابن مردويه عن طاوس قال: جاء رجل إلى ابن عباس من حضرموت فقال له: يا ابن عباس أخبرني عن القرآن أكلام من كلام الله تعالى أم خلق من خلق الله سبحانه قال: بل كلام من كلام الله تعالى أو ما سمعت الله سبحانه يقول: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة: 6] فقال له الرجل أفرأيت قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا قال: كتبه الله تعالى في اللوح المحفوظ بالعربية أما سمعت الله تعالى يقول: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ فتأمل فيه وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ أي في اللوح المحفوظ على ما ذهب إليه جمع فإنه أم الكتب السماوية أي أصلها لأنها كلها منقولة منه، وقيل: أُمِّ الْكِتابِ العلم الأزلي، وقيل: الآيات المحكمات والضمير. لحم. أو للكتاب بمعنى السورة أي إنها واقعة في الآيات المحكمات التي هي الأم وهو كما ترى.(13/64)
وقرأ الأخوان «إم» بكسر الهمزة لاتباع الميم أو الْكِتابِ فلا تكسر في عدم الوصل لَدَيْنا أي عندنا لَعَلِيٌّ رفيع الشان بين الكتب لإعجازه واشتماله على عظيم الأسرار حَكِيمٌ ذو حكمة بالغة أو محكم لا ينتسخه غيره أو حاكم على غيره من الكتب وهما خبران لإن، وفي أُمِّ الْكِتابِ قيل متعلق بعلي واللام لما فارقت محلها وتغيرت عن أصلها بطلت صدارتها فجاز تقديم ما في حيزها عليها أو حال منه لأنه صفة نكرة تقدمتها أو من ضميره المستتر ولَدَيْنا بدل من أُمِّ الْكِتابِ وهما وإن كانا متغايرين بالنظر إلى المعنى متوافقان بالنظر إلى الحاصل أو حال منه أو من الكتاب فإن المضاف في حكم الجزء لصحة سقوطه، ولعل المختار كون الظرفين في موضع الخبر لمبتدأ محذوف والجملة مستأنفة لبيان محل الحكم كأنه قيل بعد بيان اتصافه بما ذكر من الوصفين الجليلين هذا في أم الكتاب ولدينا، ولم يجوزوا كونهما في موضع الخبر لإن لدخول اللام في غيرهما.
وأيا ما كان فالجملة المؤكدة إما عطف على الجملة المقسم عليها داخلة في حكمها وإما مستأنفة مقررة لعلو شأن القرآن الذي أنبأ الإقسام به على منهاج الاعتراض في قوله تعالى: «وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ» وبعد ما بين سبحانه علو شأن القرآن العظيم وحقق جل وعلا أن إنزاله على لغتهم ليعقلوه ويؤمنوا به ويعملوا بموجبه عقب سبحانه ذلك بإنكار أن يكون الأمر بخلافه فقال جل شأنه: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ أي أفننحيه ونبعده عنكم على سبيل الاستعارة التمثيلية من قولهم: ضرب الغرائب عن الحوض شبه حال الذكر وتنحيته بحال غرائب الإبل وذودها عن الحوض إذا دخلت مع غيرها عند الورد ثم استعمل ما كان في تلك القصة هاهنا، وفيه إشعار باقتضاء الحكمة توجه الذكر إليهم وملازمته لهم كأنه يتهافت عليهم، ولو جعل استعارة في المفرد بجعل التنحية ضربا جاز ومن ذلك قول طرفة:
اضرب عنك الهموم طارقها ... ضربك بالسيف قونس الفرس
وقول الحجاج في خطبته يهدد أهل العراق: لأضربنكم ضرب غرائب الإبل. والذِّكْرَ قيل المراد به القرآن ويروي ذلك عن الضحاك وأبي صالح والكلام على تقدير مضاف أي إنزال الذكر وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر تفخيما، وقيل: بل هو ذكر العباد بما فيه صلاحهم فهو بمعنى المصدر حقيقة، وعن ابن عباس. ومجاهد ما يقتضيه، والهمزة للإنكار والفاء للعطف على محذوف يقتضيه على أحد الرأيين في مثل هذا التركيب أي أنهملكم فننحي الذكر عنكم، وقال ابن الحاجب: الفاء لبيان ما قبلها وهو جعل القرآن عربيا سبب لما بعدها وهو إنكار أن يضرب سبحانه الذكر عنهم صَفْحاً أي إعراضا، وهو مصدر لنضرب من غير لفظه فإن تنحية الذكر إعراض فنصبه على أنه مفعول مطلق على نهج قعدت جلوسا كأنه قيل: أفنصفح عنكم صفحا أو هو منصوب على أنه مفعول له أو حال مؤول بصافحين بمعنى معرضين، وأصل الصفح أن تولي الشيء صفحة عنقك، وقيل: إنه بمعنى الجانب فينتصب على الظرفية أن أفننحيه عنكم جانبا، ويؤيده قراءة حسان بن عبد الرحمن الضبعي والسميط بن عمير وشبيل بن عذره «صفحا» بضم الصاد وحينئذ يحتمل أن يكون تخفيف صفح كرسل جمع صفوح بمعنى صافحين، وأبو حيان اختيار أن يكون مفردا بمعنى المفتوح كالسد والسد.
وحكي عن ابن عطية أن انتصاب صفحا على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة فيكون العامل فيه محذوفا، ولا يخفى أنه لا يظهر ذلك، وأيا ما كان فالمراد إنكار أن يكون الأمر خلاف ما ذكر من إنزال كتاب على لغتهم ليفهموه أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ أي لأن كنتم منهمكين في الإسراف مصرين عليه على معنى أن الحكمة تقتضي ذكركم وإنزال القرآن عليكم فلا نترك ذلك لأجل أنكم مسرفون لا تلتفتون إليه بل نفعل التفتّم أم لا.(13/65)
وقيل: هو على معنى أن حالكم وإن اقتضى تخليتكم وشأنكم حتى تموتوا على الكفر والضلالة وتبقوا في العذاب الخالد لكننا لسعة رحمتنا لا نفعل ذلك بل نهديكم إلى الحق بإرسال الرسول الأمين وإنزال الكتاب المبين.
وقرأ نافع والاخوان «إن كنتم» بكسر الهمزة على أن الجملة شرطية، وإن وإن كانت تستعمل للمشكوك وإسرافهم أمر محقق لكن جيء بها هنا بناء على جعل المخاطب كأنه متردد في ثبوت الشرط شاك فيه قصدا إلى نسبته إلى الجهل بارتكابه الإسراف لتصويره بصورة ما يفرض لوجوب انتفائه وعدم صدوره ممن يعقل، وقيل: لا حاجة إلى هذا لأن الشرط الإسراف في المستقبل وهو ليس بمتحقق، ورد بأن إن الداخلة على كان لا تقلبه للاستقبال عند الأكثر، ولذا قيل: أَنْ هنا بمعنى إذ. وأيد بأن علي بن زيد قرأ به وأنه يدل على التعليل فتوافق قراءة الفتح معنى، ولو سلم فالظاهر من حال المسرف المصرّ على إسرافه بقاؤه على ما هو عليه فيكون محققا في المستقبل أيضا على القول بأنها تقلب كان كغيرها من الأفعال وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة ما قبل عليه، وجوز أن يكون الشرط في موقع الحال أي مفروضا اسرافكم على أنه من الكلام المنصف فلا يحتاج إلى تقدير جواب.
وتعقب بأنه إنما يتأتى على القول بأن إن الوصلية ترد في كلامهم بدون الواو والمعروف في العربية خلافه.
وقوله عزّ وجلّ وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ تقرير لما قبله ببيان أن إسراف الأمم السالفة لم يمنعه تعالى من إرسال الأنبياء إليهم وتسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن استهزاء قومه به عليه الصلاة والسلام، فقد قيل: البلية إذا عمت طابت، وكَمْ مفعول أَرْسَلْنا وفِي الْأَوَّلِينَ متعلق به أو صفة نَبِيٍّ وما يأتيهم إلخ للاستمرار وضميره للأولين، وقوله تعالى: فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً نوع آخر من التسلية له صلّى الله عليه وسلّم، وضمير مِنْهُمْ يرجع إلى المسرفين المخاطبين لا إلى ما يرجع إليه ضمير ما يَأْتِيهِمْ لقوله تعالى:
وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أي سلف في القرآن غير مرة ذكر قصتهم التي حقها أن تسير مسير المثل، ونصب بَطْشاً على التمييز وجوز كونه على الحال من فاعل فَأَهْلَكْنا أي باطشين، والأول أحسن، ووصف أولئك بالأشدية لإثبات حكمهم لهؤلاء بطريق الأولوية، وقوله تعالى:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ عطف على الخطاب السابق والآيتان أعني قوله تعالى: وَكَمْ أَرْسَلْنا اعتراض لإفادة التقرير والتسلية كما سمعت، والمراد ولئن سألتهم من خلق العالم ليسندن خلقه إلى من هو متصف بهذه الصفات في نفس الأمر لا أنهم يقولون هذه الألفاظ ويصفونه تعالى بما ذكر من الصفات ذكره الزمخشري فيما نسب إليه. وهذا حسن وله نظير عرفا وهو أن واحدا لو أخبرك أن الشيخ قال كذا وعنى بالشيخ شمس الأئمة ثم لقيت شمس الأئمة فقلت: إن فلانا أخبرني أن شمس الأئمة قال: كذا مع أن فلانا لم يجر على لسانه إلا الشيخ ولكنك تذكر ألقابه وأوصافه فكذا هاهنا الكفار يقولون: خلقهن الله لا ينكرون ثم إن الله عزّ وجلّ ذكر صفاته أي إن الله تعالى الذي يحيلون عليه خلق السموات والأرض من صفته سبحانه كيت وكيت، وقال ابن المنير:
إن الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ من كلام المسئولين وما بعد من كلامه سبحانه. وفي الكشف لا فرق بين ذلك الوجه وهذا في الحاصل فإنه حكاية كلام عنهم متصل به كلامه تعالى على أنه من تتمته وإن لم يكن قد تفوهوا به، وهذا كما يقول مخاطبك: أكرمني زيد فنقول: الذي أكرمك وحياك أو لجماعة آخرين حاضرين الذي أكرمكم وحياكم فإنك تصل كلامه على أنه من تتمته ولكن لا تجعله من مقوله، والأظهر من حيث اللفظ ما ذكره ابن المنير وحينئذ يقع الالتفات في فَأَنْشَرْنا بعد موقعه، ونظير ذلك قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى [طه: 52] إلى قوله تعالى: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى [طه: 53] وفي إعادة الفعل في الجواب اعتناء بشأنه ومطابقته للسؤال(13/66)
من حيث المعنى على ما زعم أبو حيان لا من حيث اللفظ قال: لأن من مبتدأ فلو طابق في اللفظ لكان بالاسم مبتدأ دون الفعل بأن يقال: العزيز العليم خلقهن الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً مكانا ممهدا أي موطأ ومآله بسطها لكم تستقرون فيها ولا ينافي ذلك كريتها لمكان العظم، وعن عاصم أنه قرأ «مهدا» بدون ألف وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا طرقا تسلكونها في أسفاركم لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي لكي تهتدوا بسلوكها إلى مقاصدكم أو بالتفكر فيها إلى التوحيد الذي هو المقصد الأصلي وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ أي بمقدار تقتضيه المشيئة المبنية على الحكم والمصالح ولا يعلم مقدار ما ينزل من ذلك في كل سنة على التحقيق إلا الله عزّ وجلّ، والآلة التي صنعها الفلاسفة في هذه الأعصار المسماة بالأودوميتر يزعمون أنه يعرف بها مقدار المطر النازل في كل بلد من البلاد في جميع السنة لا تفيد تحقيقا في البقعة الواحدة الصغيرة فضلا عن غيرها كما لا يخفى على المنصف. وفي البحر بقدر أي بقضاء وحتم في الأزل، والأول أولى فَأَنْشَرْنا بِهِ أي أحيينا بذلك الماء بَلْدَةً مَيْتاً خالية عن النماء والنبات بالكلية.
وقرأ أبو جعفر وعيسى «ميّتا» بالتشديد، وتذكيره لأن البلدة في معنى البلد والمكان، قال الجلبي: لا يبعد والله تعالى أعلم أن يكون تأنيث البلد وتذكير مَيْتاً إشارة إلى بلوغ ضعف حاله الغاية، وفي الكلام استعارة مكنية أو تصريحية.
والالتفات في (أنشرنا) إلى نون العظمة لإظهار كمال العناية بأمر الإحياء والإشعار بعظم خطره كَذلِكَ أي مثل ذلك الانشار الذي هو في الحقيقة إخراج من الأرض وهو صفة مصدر محذوف أي انشارا كذلك تُخْرَجُونَ أي تبعثون من قبوركم أحياء، وفي التعبير عن إخراج النبات بالإنشار الذي هو إحياء الموتى وعن إحيائهم بالإخراج تفخيم لشأن الإنبات وتهوين لأمر البعث، وفي ذلك من الرد على منكريه ما فيه.
وقرأ ابن وثاب وعبد الله بن جبير وعيسى وابن عامر والأخوان «تخرجون» مبينا للفاعل.
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها أي أصناف المخلوقات فالزوج هنا بمعنى الصنف لا بمعناه المشهور، وعن ابن عباس الأزواج الضروب والأنواع كالحلو والحامض والأبيض والأسود والذكر والأنثى، وقيل: كل ما سوى الله سبحانه زوج لأنه لا يخلو من المقابل كفوق وتحت ويمين وشمال وماض ومستقبل إلى غير ذلك والفرد المنزع عن المقابل هو الله عزّ وجلّ، وتعقب بأن دعوى اطراده في الموجودات بأسرها لا تخلو عن النظر.
ولعل من قال: كل ما سوى الله سبحانه زوج لم يبن الأمر على ما ذكر وإنما بناه على أن الواجب جلّ شأنه واحد من جميع الجهات لا تركيب فيه سبحانه بوجه من الوجوه لا عقلا ولا خارجا ولا كذلك شيء من الممكنات مادية كانت أو مجردة وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ أي ما تركبونه، فما موصولة والعائد محذوف، والركوب بالنظر إلى الفلك يتعدى بواسطة الحرف وهو في كما قال تعالى: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ [العنكبوت:
65] بخلافه لا بالنظر إليه فإنه يتعدى بنفسه كما قال سبحانه: لِتَرْكَبُوها [النحل: 8] إلا أنه غلب المتعدي بغير واسطة لقوته على المتعدي بواسطة فالتجوز الذي يقتضيه التغليب بالنسبة إلى المتعلق أو غلب المخلوق للركوب على المصنوع له لكونه مصنوع الخالق القدير أو الغالب على النادر فالتجوز في ما وضميره الذي تعدى الركوب إليه بنفسه دون النسبة إلى المفعول ولتغليب ما ركب من الحيوان على الفلك لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ حيث عبر عن القرار على الجميع بالاستواء على الظهور المخصوص بالدواب والضمير. لما تركبون. وأفرد رعاية للفظ، وجمع ظهور مع إضافته إليه رعاية لمعناه، والظاهر أن لام لِتَسْتَوُوا لام كي، وقال الحوفي: من أثبت لا بالصيرورة جاز له أن(13/67)
يقول به هنا، وقال ابن عطية: هي لام الأمر، وفيه بعد من حيث استعماله أمر المخاطب بتاء الخطاب، وقد اختلف في أمره فقيل: إنه لغة رديئة قليلة لا تكاد تحفظ إلا في قراءة شاذة نحو «فبذلك فلتفرحوا» (1) أو شعر نحو قوله:
لتقم أنت يا بن خير قريش وما ذكره المحدثون من قوله عليه الصلاة والسلام: لتأخذوا مصافكم يحتمل أنه من المروي بالمعنى، وقال الزجاج: إنها لغة جيدة، وأبو حيان على الأول وحكاه عن جمهور النحويين.
ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ أي تذكروها بقلوبكم معترفين بها مستعظمين لها ثم تحمدوا عليها بألسنتكم وهذا هو معنى ذكر نعمة الله تعالى عليهم على ما قال الزمخشري، وحاصله أن الذكر يتضمن شعور القلب والمرور على اللسان فنزل على أكمل أحواله وهو أن يكون ذكرا باللسان مع شعور من القلب، وأما الاعتراف والاستعظام فمن نعمة ربكم لاقتضائه الإحضار في القلب لذلك وهذا عين الحمد الذي هو شكر في هذا المقام لا أنه يوجبه وإن كان ذلك التقرير سديدا أيضا، ومنه يظهر إيثاره على ثم تحمدوا إذا استويتم، ومن جوز استعمال المشترك في معنييه جوز هنا أن يراد بالذكر الذكر القلبي والذكر اللساني وهو كما ترى.
ولما كانت تلك النعمة متضمنة لأمر عجيب قال سبحانه: وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا أي وتقولوا سبحان الذي ذلله وجعله منقادا لنا متعجبين من ذلك، وليس الإشارة للتحقير بل تصوير الحال وفيها مزيد تقرير لمعنى التعجب، والكلام وإن كان إخبارا على ما سمعت أولا يشعر بالطلب.
أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن أبي مجلز قال: رأى الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما وكرم وجههما رجلا ركب دابة فقال: سبحان الذي سخر لنا هذا فقال: أو بذلك أمرت؟ فقال: فكيف أقول؟ قال:
الحمد لله الذي هدانا للإسلام الحمد لله الذي منّ علينا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم الحمد لله الذي جعلني في خير أمة أخرجت للناس ثم تقول: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا- إلى- مُقْرِنِينَ
وهذا يومىء إلى أن ليس المراد من النعمة نعمة التسخير، وأخرج ابن المنذر عن شهر بن حوشب أنه فسرها بنعمة الإسلام.
وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه أتى بدابة فلما وضع رجله في الركاب قال: بسم الله فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله ثلاثا والله أكبر ثلاثا سبحان الذي سخر لنا هذا إلى لمنقلبون سبحانك لا إله إلا أنت قد ظلمت نفسي فاغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ثم ضحك فقيل له: مم ضحكت يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعل كما فعلت ثم ضحك فقلت: يا رسول الله مم ضحكت؟ فقال: يتعجب الرب من عبده إذا قال: رب اغفر لي ويقول: علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري
،
وفي حديث أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود والدارمي عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر حمد الله تعالى وسبح وكبر ثلاثا ثم قال: سبحان الذي سخر لنا هذا إلى لمنقلبون
،
وفي حديث أخرجه أحمد. وغيره عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ما من بعير إلا في ذروته شيطان فاذكروا اسم الله تعالى إذا ركبتموه كما أمركم،
وظاهر النظم الجليل أن تذكر النعمة والقول المذكور لا يخصان ركوب الأنعام بل يعمانها والفلك،
وذكر بعضهم أنه يقال: إذا ركبت السفينة بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها- إلى- رَحِيمٌ [هود: 41] ويقال: عند النزول منها «اللهم أنزلنا
__________
(1) في سورة يونس، الآية: 58 «فبذلك فليفرحوا» .(13/68)
منزلا مباركا وأنت خير المنزلين»
وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ أي مطيقين، وأنشد قطرب لعمرو بن معديكرب:
لقد علم القبائل ما عقيل ... لنا في النائبات بمقرنينا
وهو من أقرن الشيء إذا أطاقه، قال ابن هرمة:
وأقرنت ما حملتني ولقلما ... يطاق احتمال الصد يا دعد والهجر
وحقيقة أقرنه وجده قرينته وما يقرن به لأن الصعب لا يكون قرينة للضعيف ألا ترى إلى قولهم في الضعيف لا تقرن به الصعبة، والقرن الحبل الذي يقرن به، قال الشاعر:
وابن اللبون إذا ما لز في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس
وحاصل المعنى أنه ليس لنا من القوة ما يضبط به الدابة والفلك وإنما الله تعالى هو الذي سخر ذلك وضبطه لنا.
أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن سليمان بن يسار أن قوما كانوا في سفر فكانوا إذا ركبوا قالوا: سبحانه الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وكان فيهم رجل له ناقة رزام فقال: أما أنا فلهذه مقرن فقمصت به فصرعته فاندقت عنقه، وقرىء «مقرّنين» بتشديد الراء مع فتحها وكسرها وهما بمعنى المخفف.
وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ أي راجعون، وفيه إيذان بأن حق الراكب أن يتأمل فيما يلابسه من السير ويتذكر منه المسافرة العظمى التي هي الانقلاب إلى الله تعالى فيبني أموره في مسيره ذلك على تلك الملاحظة ولا يأتي بما ينافيها، ومن ضرورة ذلك أن يكون ركوبه لأمر مشروع، وفيه إشارة إلى أن الركوب مخطرة فلا ينبغي أن يغفل فيه عن تذكر الآخرة.
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً متصل بقوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ إلى آخره فهو حال من فاعل لَيَقُولُنَّ بتقدير قد أو بدونه، والمراد بيان أنهم مناقضون مكابرون حيث اعترفوا بأنه عزّ وجلّ خالق السموات والأرض ثم وصفوه سبحانه بصفات المخلوقين وما يناقض كونه تعالى خالقا لهما فجعلوا له سبحانه جزءا وقالوا: الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، وعبر عن الولد بالجزء لأنه بضعة ممن هو ولد له كما قيل: أولادنا أكبادنا، وفيه دلالة على مزيد استحالته على الحق الواحد الذي لا يضاف إليه انقسام حقيقة ولا فرضا ولا خارجا ولا ذهنا جلّ شأنه وعلا، ولتأكيد أمر المناقضة لم يكتف بقوله تعالى: جُزْءاً وقيل مِنْ عِبادِهِ لأنه يلزمهم على موجب اعترافهم أن يكون ما فيهما مخلوقه تعالى وعبده سبحانه إذ هو حادث بعدهما محتاج إليهما ضرورة.
وقيل: الجزء اسم للإناث يقال: أجزأت المرأة إذ ولدت أنثى، وأنشد قول الشاعر:
إن أجزأت حرة يوما فلا عجب ... قد تجزىء الحرة المذكار أحيانا
وقوله:
زوجتها من بنات الأوس مجزئة ... للعوسج اللدن في أنيابها زجل
وجعل ذلك الزمخشري من بدع التفاسير وذكر أن ادعاء أن الجزء في لغة العرب اسم للإناث كذب عليهم ووضع مستحدث منخول وأن البيتين مصنوعان، وقال الزجاج: في البيت الأول لا أدري قديم أم مصنوع.
ووجه بعضهم ذلك بأن حواء خلقت من جزء آدم عليه السلام فاستعير لكل الإناث.(13/69)
وقرأ أبو بكر عاصم «جزأ» بضمتين، ثم للكلام وإن سيق للفرض المذكور يفهم منه كفرهم لتجسيم الخالق تعالى والاستخفاف به جلّ وعلا حيث جعلوا له سبحانه أخس النوعين بل إثبات ذلك يستدعي الأماكن المؤذن بحدوثه تعالى فلا يكون إلها ولا بارئا ولا خالقا تعالى عما يقولون وسبحانه عما يصفون، وليس الكلام مساقا لتعديد الكفران كما قيل. وقوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ لا يقتضيه فإن المراد المبالغة في كفران النعمة وهي في إنكار الصانع أشد من المبالغة في كفرهم به كما أشير إليه، ومُبِينٌ من أبان اللازم أي ظاهر الكفران، وجوز أن يكون من المتعدي أي مظهر كفرانه أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ أَمِ مقطعة وما فيها من معنى بل للانتقال والهمزة للإنكار والتعجيب من شأنهم، وقوله تعالى: وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ إما عطف على «اتخذ» داخل في حكم الإنكار والتعجب أو حال من فاعله بإضمار قد أو بدونه، والالتفات إلى خطابهم لتشديد الإنكار أي بل اتخذ سبحانه من خلقه أخس الصنفين واختار لكم أفضلهما على معنى هبوا أن إضافة اتخاذ الولد إليه سبحانه جائزة فرضا أما تفطنتم لما ارتكبتم من الشطط في القسمة وقبح ما ادعيتم من أنه سبحانه آثركم على نفسه بخير الجزئين وأعلاهما وترك له جلّ شأنه شرهما وأدناهما فما أنتم إلا في غاية الجهل والحماقة، وتنكير بنات وتعريف البنين لقرينة ما اعتبر فيهما من الحقارة والفخامة، وقوله تعالى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ قيل: حال وارتضاه العلامة الثاني على معنى أنهم نسبوا إليه تعالى ما ذكروا من حالهم أن أحدهم إذا بشر به اغتم، وقيل: استئناف مقرر لما قبله، وجوز عطفه على ما قبله وليس بذاك. والالتفات للإيذان باقتضاء ذكر قبائحهم أن يعرض عنه وتحكي لغيرهم تعجيبا، والجملة الاسمية في موضع الحال أي إذا أخبر أحدهم بجنس ما جعله مثلا للرحمن جل شأنه وهو جنس الإناث لأن الولد لا بد أن يجانس الولد ويماثله صار وجهه أسود في الغاية لسوء ما بشر به عنده والحال هو مملوء من الكرب والكآبة، وعن بعض العرب أن امرأته وضعت أنثى فهجر البيت الذي فيه المرأة فقالت:
ما لأبي حمزة لا يأتينا ... يظل في البيت الذي يلينا
غضبان أن لا نلد البنينا ... وليس لنا من أمرنا ما شينا
وإنما نأخذ ما أعطينا وقرىء «مسودّ» بالرفع و «مسواد» بصيغة المبالغة من اسواد كاحمار مع الرفع أيضا على أن في ظَلَّ ضمير المبشر ووجهه مسود أو مسواد جملة واقعة موقع الخبر، والمعنى صار المبشر مسود الوجه وقيل: الضمير المستتر في ظَلَّ ضمير الشأن والجملة خبرها، وقيل: الفعل تام والجملة حالية والوجه ما تقدم، وقوله تعالى:
أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ تكرير للإنكار ومَنْ منصوبة المحل بمضمر معطوف على جَعَلُوا وهناك مفعول محذوف أيضا أي أو جعلوا له تعالى من شأنه أن يتربى في الزينة وهن البنات كما قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي: ولذا فالهمزة لإنكار الواقع واستقباحه.
وجوز انتصاب مَنْ بمضمر معطوف على اتَّخَذَ فالهمزة حينئذ لإنكار الوقوع واستبعاده، واقحامها بين المعطوفين لتذكير ما في أم المنقطعة من الإنكار، والعطف للتغاير العنواني أي أو اتخذ سبحانه من هذه الصفة الذميمة ولدا وَهُوَ مع ما ذكر من القصور فِي الْخِصامِ أي الجدال الذي لا يكاد يخلو عنه إنسان في العادة غَيْرُ مُبِينٍ غير قادر على تقرير دعواه وإقامته حجته لنقصان عقله وضعف رأيه، والجار متعلق بمبين، وإضافة غَيْرُ لا تمنع عمل ما بعدها فيه لأنه بمعنى النفي فلا حاجة لجعله متعلقا بمقدر، وجوز كون من مبتدأ محذوف الخبر أي أو من حاله كيت وكيت ولده عزّ وجلّ، وجعل بعضهم خبره جعلوه ولدا لله سبحانه وتعالى أو اتخذه جلّ وعلا ولدا، وعن ابن زيد(13/70)
أن المراد بمن ينشأ في الحلية الأصنام قال: وكانوا يتخذون كثيرا منها من الذهب والفضة ويجعلون الحلي على كثير منها، وتعقب بأنه يبعد هذا القول قوله تعالى: وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ إلا إن أريد بنفي الإبانة نفي الخصام أي لا يكون منها خصام فإبانة كقوله:
على لا حب لا يهتدى بمناره وعندي أن هذا القول بعيد في نفسه وأن الكلام أعني قوله سبحانه: أَمِ اتَّخَذَ إلى هنا وارد لمزيد الإنكار في أنهم قوم من عادتهم المناقضة ورمي القول من غير علم، وفي المجيء بأم المنقطعة وما في ضمنها من الإضراب دليل على أن معتمد الكلام إثبات جهلهم ومناقضتهم لا إثبات كفرهم لكنه يفهم منه كما سمعت وتسمع إن شاء الله تعالى، وقرأ الجحدري في رواية «ينشأ» مبنيا للمفعول مخففا، وقرأ الحسن في رواية أيضا «يناشأ» على وزن يفاعل مبنيا للمفعول. والمناشاة بمعنى الإنشاء كالمغالاة بمعنى الإغلاء، وقرأ الجمهور «ينشأ» مبنيا للفاعل، والآية ظاهرة في أن النشوء في الزينة والنعومة من المعايب والمذام وأنه من صفات ربات الحجال فعلى الرجل أن يجتنب ذلك ويأنف منه ويربأ بنفسه عنه ويعيش كما قال عمر رضي الله تعالى عنه: اخشوشنوا في اللباس واخشوشنوا في الطعام وتمعددوا وإن أراد أن يزين نفسه زينها من باطن بلباس التقوى، وقوله تعالى:
وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أي سموا وقالوا: إنهم إناث، قال الزجاج: الجعل في مثله بمعنى القول والحكم على الشيء تقول: جعلت زيدا أعلم الناس أي وصفته بذلك وحكمت به، واختار أبو حيان أن المعنى صيروهم في اعتقادهم إناثا اعتراض وارد لإثبات مناقضتهم أيضا وادعاء ما لا علم لهم به المؤيد لجعله معتمد الكلام على ما سبق آنفا فإنهم أنثوهم في هذا المعتقد من غير استناد إلى علم فارشد إلى أن ما هم عليه من إثبات الولد مثل ما هم عليه من تأنيث الملائكة عليهم السلام في أنهما سخف وجهل كانا كفرين أولا، نعم هما في نفس الأمر كفران، أما الأول فظاهر. وأما الثاني فللاستخفاف برسله سبحانه أعني الملائكة وجعلهم أنقص العباد رأيا وأخسهم صنفا وهم العباد المكرمون المبرءون من الذكورة والأنوثة فإنهما من عوارض الحيوان المتغذي المحتاج إلى بقاء نوعه لعدم جريان حكمة الله تعالى ببقاء شخصه وليس ذلك عطفا على قوله سبحانه: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً لما علمت من أن الجملة في موضع الحال من فاعل لَيَقُولُنَّ ولا يحسن بحسب الظاهر أن يقال. لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ وقد جعلوا الملائكة إناثا، وقرىء «عبيد» جمع عبد وكذا «عباد» وقيل: عباد جمع عابد كصائم وصيام وقائم وقيام، وقرأ عمر بن الخطاب والحسن وأبو رجاء وقتادة وأبو جعفر وشيبة والأعرج والابنان ونافع «عند الرحمن» ظرفا وهو أدل على رفع المنزلة وقرب المكانة، والكلام على الاستعارة في المشهور لاستحالة العندية المكانية في حقه سبحانه، وقرأ أبي عبد الرحمن بالباء مفرد عباد، والمعنى على الجمع بإرادة الجنس.
وقرأ الأعمش «عباد» بالجمع والنصب حكاها ابن خالويه وقال: هي في مصحف ابن مسعود كذلك، وخرج أبو حيان النصب على إضمار فعل أي الذين هم خلقوا عباد الرحمن، وقرأ زيد بن علي «أنثا» بضمتين ككتب جمع إناثا فهو جمع الجمع، وعلى جميع القراءات الحصر إذا سلّم إضافي فلا يتم الاستدلال به على أفضلية الملك على البشر.
أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ أي أحضروا خلق الله تعالى إياهم فشاهدوهم إناثا حتى يحكموه بأنوثتهم فإن ذلك مما يعلم بالمشاهدة، وهذا كقوله تعالى: أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ [الصافات: 150] وفيه تجهيل لهم وتهكم بهم، وإنما لم يتعرض لنفي الدلائل النقلية لأنها في مثل هذا المطلب مفرعة على القول بالنبوة وهم الكفرة الذين لا يقولون بها ولنفي الدلائل العقلية لظهور انتفائها والنفي المذكور أظهر في التهكم فافهم، وقرأ نافع «أأشهدوا» بهمزة(13/71)
داخلة على أشهد الرباعي المبني للمفعول، وفي رواية
أنه سهل هذه الهمزة فجعلها بين الهمزة والواو وهي رواية عن أبي عمرو، وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه
وابن عباس ومجاهد، وفي أخرى أنه سهلها وأدخل بينها وبين الأولى ألفا كراهة اجتماع همزتين ونسبت إلى جماعة، والاكتفاء بالتسهيل أوجه، وقرأ الزهري وناس «أشهدوا» بغير استفهام مبنيا للمفعول رباعيا فقيل المعنى على الاستفهام نحو قوله:
قالوا تحبها قلت بهرا وهو الظاهر، وقيل: على الاخبار، والجملة صفة إِناثاً وهم وإن لم يشهدوا خلقهم لكن نزلوا لجراءتهم على ذلك منزلة من أشهد أو المراد أنهم أطلقوا عليهم الإناث المعروفات لهم اللاتي أشهدوا خلقهن لا صنفا آخر من الإناث ولا يخفى ما في كلا التأويلين من التكلف سَتُكْتَبُ في ديوان أعمالهم شَهادَتُهُمْ التي شهدوا بها على الملائكة عليهم السلام، وقيل: سألهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم ما يدريكم أنهم إناث فقالوا: سمعنا ذلك من آبائنا ونحن نشهد أنهم لم يكذبوا فقال الله تعالى: سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ عنها يوم القيامة، والكلام وعيد لهم بالعقاب والمجازاة على ذلك والسين للتأكيد، وقيل: يجوز أن تحمل على ظاهرها من الاستقبال ويكون ذلك إشارة إلى تأخير كتابة السيئات لرجاء التوبة والرجوع كما
ورد في الحديث إن كاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا أراد أن يكتبها قال له: توقف فيتوقف سبع ساعات فإن استغفر وتاب لم يكتب
فلما كان ذلك من شأن الكتابة قرنت بالسين، وكونهم كفارا مصرين على الكفر لا يأباه. وقرأ الزهري «سيكتب» بالياء التحتية مبنيا للمفعول، وقرأ الحسن كالجمهور إلا أنه قرأ «شهاداتهم» بالجمع وهي قولهم: إن لله سبحانه جزء وإن له بنات وإنها الملائكة، وقيل: المراد ما أريد بالمفرد والجمع باعتبار التكرار، وقرأ ابن عباس وزيد بن علي وأبو جعفر وأبو حيوة وابن أبي عبلة والجحدري والأعرج «سنكتب» بالنون مبنيا للفاعل «شهادتهم» بالنصب والإفراد.
وقرأت فرقة «سيكتب» بالياء التحتية مبنيا للفاعل وبإفراد «شهادتهم» ونصبها أي سيكتب الله تعالى شهادتهم.
وقرىء «يسّاءلون» من المفاعلة للمبالغة وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ عطف على قوله سبحانه:
وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ إلخ إشارة إلى أنه من جنس ادعائهم أنوثة الملائكة في أنهم قالوه من غير علم، ومرادهم بهذا القول على ما قاله بعض الأجلة الاستدلال بنفي مشيئة الله تعالى ترك عبادة الملائكة عليهم السلام على امتناع النهي عنها أو على حسنها فكأنهم قالوا: إن الله تعالى لم يشأ ترك عبادتها الملائكة ولو شاء سبحانه ذلك لتحقق بل شاء جل شأنه العبادة لأنها المتحققة فتكون مأمورا بها أو حسنة ويمتنع كونها منهيا عنها أو قبيحة، وهو استدلال باطل لأن المشيئة لا تستلزم الأمر أو الحسن لأنها ترجيح بعض الممكنات على بعض حسنا كان أو قبيحا فلذلك جهلوا بقوله سبحانه: ما لَهُمْ بِذلِكَ القول على الوجه الذي قصدوه منه، وحاصله يرجع إلى الإشارة إلى زعمهم أن المشيئة تقتضي طباق الأمر لها أو حسن ما تعلقت به مِنْ عِلْمٍ يستند إلى سند ما.
إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أي يكذبون كما فسره به غير واحد، ويطلق الخرص على الحزر وهو شائع بل قيل:
إنه الأصل وعلى كل هو قول عن ظن وتخمين، وقوله تعالى:
أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ إضراب عن نفي أن يكون لهم بذلك علم من طريق العقل إلى إبطال أن يكون لهم سند من جهة النقل فأم منقطعة لا متصلة معادلة لقوله تعالى: أَشَهِدُوا كما قيل لعبده(13/72)
وضمير قَبْلِهِ للقرآن لعلمه من السياق أو الرسول عليه الصلاة والسلام، وسين مستمسكون للتأكيد لا للطلب أي بل آتيناهم كتابا من قبل القرآن أو من قبل الرسول صلّى الله عليه وسلّم ينطق بصحة ما يدعونه فهم بذلك الكتاب متمسكون وعليه معولون، وقوله جلّ وعلا:
بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ إبطال لأن يكون لهم حجة أصلا أي لا حجة لهم على ذلك عقلية ولا نقلية وإنما جنحوا فيه إلى تقليد آبائهم الجهلة مثلهم، والأمة الدين والطريقة التي تؤم أي كالرحلة للرجل العظيم الذي يقصد في المهمات يقال: فلان لا أمة له أي لا دين ولا نحلة، قال الشاعر: وهل يستوي ذو أمة وكفور. وقال قيس بن الحطيم:
كنا على أمة آبائنا ... ويقتدي بالأول الآخر
وقال الجبائي: الأمة الجماعة والمراد وجدنا آباءنا متوافقين على ذلك، والجمهور على الأول وعليه المعول، ويقال فيها إمة بكسر الهمزة أيضا وبها قرأ عمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة والجحدري.
وقرأ ابن عياش «أمّة» بفتح الهمزة، قال في البحر: أي على قصد وحال، وعَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ قيل خبران لأن، وقيل: عَلى آثارِهِمْ صلة مُهْتَدُونَ ومُهْتَدُونَ هو الخبر، هذا وجعل الزمخشري الآية دليلا على أنه تعالى لم يشأ الكفر من الكافر وإنما شاء سبحانه الإيمان، وكفر أهل السنة القائلين بأن المقدورات كلها بمشيئة الله تعالى، ووجه ذلك بأن الكفار لما ادعوا أنه تعالى شاء منهم الكفر حيث قالوا: لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ إلخ أي لو شاء جل جلاله منا أن نترك عبادة الأصنام تركناها رد الله تعالى ذلك عليهم وأبطل اعتقادهم بقوله سبحانه: ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إلخ فلزم حقيقة خلافه وهو عين ما ذهب إليه، والجملة عطف على قوله تعالى: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً أو على جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ إلخ فيكون ما تضمنته كفرا آخر ويلزمه كفر القائلين بأن الكل بمشيئته عز وجل، ومما سمعت يعلم رده، وقيل: في رده أيضا: يجوز أن يكون ذلك إشارة إلى أصل الدعوى وهو جعل الملائكة عليهم السلام بنات الله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا دون ما قصدوه من قولهم: لَوْ شاءَ إلخ وما ذكر بعد أصل الدعوى من تتمتها فإنه حكاية شبهتهم المزيفة لأن العبادة للملائكة وإن كانت بمشيئته تعالى لكن ذلك لا ينافي كونها من أقبح القبائح المنهي عنها وهذا خلاف الظاهر.
وقال بعض الأجلة: إن كفرهم بذلك لأنهم قالوه على جهة الاستهزاء، ورده الزمخشري بأن السياق لا يدل على أنهم قالوه مستهزئين على الله تعالى قد حكى عنهم على سبيل الذم والشهادة بالكفر أنهم جعلوا له سبحانه جزءا وأنه جلّ وعلا اتخذ بنات واصطفاهم بالبنين وأنهم جعلوا الملائكة المكرمين إناثا وأنهم عبدوهم وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم فلو كانوا ناطقين بها على طريق الهزء لكان النطق بالمحكيات قبل هذا المحكي الذي هو إيمان عنده لوجدوا بالنطق به مدحا لهم من قبل أنها كلمات كفر نطقوا بها على طريق الهزء فبقي أن يكونوا جادين ويشترك كلها في أنها كلمات كفر، فإن جعلوا الأخير وحده مقولا على وجه الهزء دون ما قبله فما بهم إلا تعويج كتاب الله تعالى ولو كانت هذه كلمة حق نطقوا بها هزأ لم يكن لقوله سبحانه: ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إلخ معنى لأن الواجب فيمن تكلم بالحق استهزاء أن ينكر عليه استهزاؤه ولا يكذب، ولا يخفى أن رده بأنه لا يدل عليه السياق صحيح، وأما ما ذكر من حكاية الله سبحانه والتعويج فلا لأنه تعالى ما حكى عنهم قولا أولا بل أثبت لهم اعتقادا يتضمن قولا أو فعلا وقد بين أنهم مستخفون في ذلك العقد كما أنهم مستخفون في هذا القول فقوله: لو نطقوا إلخ لا مدخل له في السابق وليس(13/73)
فيه تعويج البتة من هذا الوجه وكذلك قوله: لم يكن لقوله تعالى: ما لَهُمْ إلخ معنى مردود لأن الاستهزاء باب من الجهل كما يدل عليه قول موسى عليه السلام أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ وقد تقدم في [البقرة: 67] ، وأما الكذب فراجع إلى مضمونه والمراد منه كما سمعت فمن قال لا إله إلا الله استهزاء مكذب فيما يلزم من أنه إخبار عن إثبات التعدد لأنه إخبار عن التوحيد فافهم كذا في الكشف.
وفيه أيضا أن قولهم: لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ إلخ فهم منه كونه كفرا من أوجه. أحدها أنه اعتذار عن عبادتهم الملائكة عليهم السلام التي هي كفر وإلزام أنه إذا كان بمشيئته تعالى لم يكن منكرا.
والثاني أن الكفر والإيمان بتصديق ما هو مضطر إلى العلم بثبوته بديهة أو استدلالا متعلقا بالمبدأ والمعاد وتكذيبه لا بإيقاع الفعل على وفق المشيئة وعدمه.
والثالث أنهم دفعوا قول الرسول بدعوتهم إلى عبادته تعالى ونهيهم عن عبادة غيره سبحانه بهذه المقالة ثم إنهم ملزمون على مساق هذا القول لأنه إذا استند الكل إلى مشيئته تعالى شأنه فقد شاء إرسال الرسل وشاء دعوتهم للعباد وشاء سبحانه جحودهم وشاء جلّ وعلا دخولهم النار فالإنكار والدفع بعد هذا القول دليل على أنهم قالوه لا عن اعتقاد بل مجازفة، وإليه الإشارة بقوله تعالى في مثله: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام: 149] وفيه أنهم يعجزون الخالق بإثبات التمانع بين المشيئة وضد المأمور به فيلزم أن لا يريد إلا ما أمر سبحانه وبه ولا ينهى جل شأنه إلا وهو سبحانه لا يريده وهذا تعجيز من وجهين. إخراج بعض المقدورات عن أن يصير محلها وتضييق محل أمره ونهيه وهذا بعينه مذهب إخوانهم من القدرية ولهذه النكتة جعل قولهم: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ معتمد الكلام ولم يقل: وعبدوا الملائكة وقالوا: لو شاء ونظير قولهم في أنه إنما أتى به لدفع ما علم ضرورة قوله تعالى عنهم: لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [المؤمنون: 24] فالدفع كفر والتعجيز كفر في كفر، وقوله تعالى: ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ يحتمل أن يرجع إلى جميع ما سبق من قوله تعالى وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ إلى هذا المقام ويحتمل أن يرجع إلى الأخير فقد ثبت أنهم قالوه من غير علم وهو الأظهر للقرب وتعقيب كل بإنكار مستقل وطباقه لما في الأنعام، وقوله سبحانه: إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ على هذا التكذيب المفهوم منه راجع إلى استنتاج المقصود من هذه اللزومية فقد سبق أنها عليهم لا لهم ولوح إلى طرف منه في سورة الأنعام أو إلى الحكم بامتناع الانفكاك مع تجويز الحاكم الانفكاك حال حكمه فإن ذلك يدل على كذبه وإن كان ذلك الحكم في نفسه حقا صحيحا يحق أن يعلم كما تقول زيد قائم قطعا أو البتة وعندك احتمال نقيضه.
وليس هذا رجوعا إلى مذهب من جعل الصدق بطباقه للمعتقد فافهم، على أنه لما كان اعتذارا على ما مر صح أن يرجع التكذيب إلى أنه لا يصلح اعتذارا أي إنهم كاذبون في أن المشيئة تقتضي طباق الأمر لها، وهذا ما آثره الإمام.
والعلامة. والقاضي، والظاهر ما قدمناه. وتعقيب الخرص على وجه البيان أو الاستئناف عن قوله تعالى: ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ وقوله تعالى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ في سورة الأنعام دليل على ما أشرنا فقد لاح للمسترشد أن الآية تصلح حجة لأهل السنة لا للمعتزلة وقال في آية سورة الأنعام: إن قولهم هذا إما لدعوى المشروعية ردا للرسل أو لتسليم أنهم على الباطل اعتذارا بأنهم مجبورون، والأول باطل لأن المشيئة تتعلق بفعلهم المشروع وغيره فما شاء الله تعالى أن يقع منهم مشروعا وقع كذلك وما شاء الله تعالى أن يقع لا كذلك وقع لا كذلك.
ولا شك أن من توهم أن كون الفعل بمشيئته تعالى ينافي مجيء الرسل عليهم السلام بخلاف ما عليه المباشر من الكفر والضلال فقد كذب التكذيب كله وهو كاذب في استنتاج المقصود من هذه اللزومية، وظاهر الآية مسوق(13/74)
وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)
لهذا المعنى، والثاني على ما فيه من حصول المقصود وهو الاعتراف بالبطلان باطل أيضا إذ لا جبر لأن المشيئة تعلقت بأن يشركوا اختيارا منهم والعلم تعلق كذلك فهو يؤكد دفع القدر لا أنه يحققه وإليه الإشارة بقوله تعالى: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ [الأنعام: 149] ثم إنهم كاذبون في هذا القول لجزمهم حيث لا ظن مطلقا فضلا عن العلم وذلك لأن من المعلوم أن العلم بصفات الله سبحانه فرع العلم بذاته جل وعلا والإيمان بها كذلك والمحتجون به كفرة مشركون مجسمون، ونقل العلامة الطيبي نحوا من الكلام الأخير عن إمام الحرمين عليه الرحمة في الإرشاد اهـ.
وقد أطال العلماء الأعلام الكلام في هذا المقام وأرى الرجل سقى الله تعالى مرقده صيب الرضوان قد مخض كل ذلك وأتى بزبده بل لم يترك من التحقيق شيئا لمن أتى من بعده فتأمل والله عز وجل هو الموفق.
وَكَذلِكَ أي والأمر كما ذكر من عجزهم عن الحجة مطلقا وتشبثهم بذيل التقليد، وقوله سبحانه: ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ استئناف مبين لذلك دال على أن التقليد فيما بينهم ضلال قديم لأسلافهم وأن متقدميهم أيضا لم يكن لهم سند منظور إليه وتخصيص المترفين بتلك المقالة للإيذان بأن التنعم وحب البطالة صرفهم عن النظر إلى التقليد قالَ حكاية لما(13/75)
جرى بين المنذرين وبين أممهم عند تعللهم بتقليد آبائهم أي قال: كل نذير من أولئك المنذرين لأمته أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ أي أتقتدون بآبائكم ولو جئتكم بِأَهْدى بدين أهدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ من الضلالة التي ليست من الهداية في شيء، وإنما عبر عنها بذلك مجاراة معهم على مسلك الإنصاف.
وقرأ الأكثرون «قل» على أنه حكاية أمر ماض أوحي إلى كل نذير أي فقيل أو قلنا للنذير قل إلخ، واستظهر في البحر كونه خطابا لنبينا صلّى الله عليه وسلّم، والظاهر هو ما تقدم لقوله تعالى:
قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ فإنه ظاهر جدا في أنه حكاية عن الأمم السالفة أي قال كل أمة لنذيرها إنا بما أرسلتم به إلخ وقد أجمل عند الحكاية للإيجاز كما قرر في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ [المؤمنون:
51] .
وجعله حكاية عن قومه عليه الصلاة والسلام بحمل صيغة الجمع على تغليبه صلّى الله عليه وسلّم على سائر المنذرين وتوجيه كفرهم إلى ما أرسل به الكل من التوحيد لإجماعهم عليهم السلام عليه كما في نحو قوله تعالى: كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 123] تمحل بعيد، وأيضا يأباه ظاهر قوله سبحانه: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ فإن ظاهره كون الانتقام بعذاب الاستئصال وصاحب البحر يحمله على الانتقام بالقحط والقتل والسبي والجلاء.
وقرأ أبي وأبو جعفر وشيبة وابن مقسم والزعفراني وغيرهم «أو لو جئناكم» بنون المتكلمين وهي تؤيد ما ذهبنا إليه والأمر بالنظر فيما انتهى إليه حال المكذبين تسلية له صلّى الله عليه وسلّم وإرشاد إلى عدم الاكتراث بتكذيب قومه إياه عليه الصلاة والسلام وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ أي واذكر لهم وقت قوله عليه الصلاة والسلام لِأَبِيهِ آزر وَقَوْمِهِ المكبين على التقليد كيف تبرأ مما هم فيه بقوله:
إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ وتمسك بالبرهان، والكلام تمهيد لما أهل مكة فيه من العناد والحسد والإباء عن تدبر الآيات وأنهم لو قلدوا آباءهم لكان الأولى أن يقلدوا أباهم الأفضل الأعلم الذي هم يفتخرون بالانتماء إليه وهو إبراهيم عليه السلام فكأنه بعد تعييرهم على التقليد يعيرهم على أنهم مسيئون في ترك اختياره أيضا. وبراء مصدر كالطلاق نعت به مبالغة ولذلك يستوي فيه الواحد والمتعدد والمذكر والمؤنث.
وقرأ الزعفراني والقورصي عن أبي جعفر وابن المناذري عن نافع «براء» بضم الباء هو اسم مفرد كطوال وكرام بضم الكاف، وقرأ الأعمش «بري» وهو وصف كطويل وكريم وقراءة العامة لغة العالية وهذه لغة نجد.
وقرأ الأعمش أيضا «إنّي» بنون مشددة دون نون الوقاية إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي استثناء متصل إن قلنا إن ما عامة لذوي العلم وغيرهم وأنهم كانوا يعبدون الله تعالى والأصنام وليس هذا من الجمع بين الله تعالى وغيره سبحانه الذي يجب اجتنابه لما فيه من إيهام التسوية بينه سبحانه وبين غيره جل وعلا لظهور ما يدل على خلاف ذلك في الكلام أو منقطع بناء على أن ما مختصة بغير ذوي العلم وأنه لا يناسب التغليب أصلا وأنهم لم يكونوا يعبدونه تعالى أو أنهم كانوا يعبدونه عز وجل إلا أن عبادته سبحانه مع الشرك في حكم العدم، وعلى الوجهين محل الموصول النصب، وأجاز الزمخشري أن يكون في محل جر على أنه بدل من ما المجرور بمن، وفيه بحث لأنه يصير استثناء من الموجب ولم يجوزوا فيه البدل، ووجهه أنه في معنى النفي لأنه معنى إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ لا أعبد ما تعبدون فهو نظير قوله تعالى: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [التوبة: 32] إلا أن ذلك في المفرغ وهذا فيما ذكر فيه المستثنى منه وهم لا يخصونه بالمفرغ ولا بألفاظ مخصوصة أيضا كأبى وقلما، نعم إن أبا حيان يأبى إلا أنه موجب ولا يعتبر النفي معنى،(13/76)
وأجاز أيضا أن تكون إِلَّا صفة بمعنى غير على أن (ما) في ما تَعْبُدُونَ نكرة موصوفة والتقدير إنني براء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني فهو نظير قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] واعتبار ما نكرة موصوفة بناء على أن إلا لا تكون صفة إلا لنكرة وكذا اعتبارها بمعنى الجمع بناء على اشتراط كون النكرة الموصوفة بها كذلك، والمسألة خلافية، فمن النحويين من قال إن ألا يوصف بها المعرفة والنكرة مطلقا وعليه لا يحتاج إلى اعتبار كون ما نكرة بمعنى آلهة، وفي جعل الصلة فَطَرَنِي تنبيه على أنه لا يستحق العبادة إلا الخالق للعابد فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ يثبتني على الهداية فالسين للتأكيد لا للاستقبال لأنه جاء في الشعراء يهدين بدونها والقصة واحدة، والمضارع في الموضعين للاستمرار، وقيل: المراد سَيَهْدِينِ إلى وراء ما هداني إليه أولا فالسين على ظاهرها والتغاير في الحكاية والمحكي بناء على تكرر القصة وَجَعَلَها الضمير المرفوع المستتر لإبراهيم عليه السلام أو لله عز وجل والضمير المنصوب لكلمة التوحيد أعني لا إله إلا الله كما روي عن قتادة ومجاهد والسدي ويشعر بها قوله:
إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إلخ، وجوز أن يعود على هذا القول نفسه وهو أيضا كلمة لغة كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ في ذريته عليه السلام فلا يزال فيهم من يوحد الله تعالى ويدعو إلى توحيده عز وجل.
وقرأ حميد بن قيس «كلمة» بكسر الكاف وسكون اللام وهي لغة فيها، وقرىء «في عقبه» بسكون القاف تخفيفا وعَقِبِهِ أي من عقبه أي خلفه ومنه تسمية النبي صلّى الله عليه وسلّم بالعاقب لأنه آخر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ تعليل للجعل أي جعلها باقية في عقبه كي يرجع من أشرك منهم بدعاء من وحد أو بسبب بقائها فيهم، والضميران للعقب وهو بمعنى الجمع، والأكثرون على أن الكلام بتقدير مضاف أي لعل مشركيهم أو الإسناد من إسناد ما للبعض إلى الكل وأولوا لعل بناء على أن الترجي من الله سبحانه وهو لا يصح في حقه تعالى أو منه عليه السلام لكنه من الأنبياء في حكم المتحقق ويجوز ترك التأويل كما لا يخفى بل هو الأظهر إذا كان ذاك من إبراهيم عليه السلام.
بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ أي أهل مكة المعاصرين للرسول صلّى الله عليه وسلّم وَآباءَهُمْ بالمد في العمر والنعمة حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ دعوة التوحيد أو القرآن وَرَسُولٌ مُبِينٌ ظاهر الرسالة بما له من المعجزات الباهرات أو مبين للتوحيد بالآيات البينات والحجج القاطعات، والمراد بالتمتيع ما هو سبب له من استمتاعهم بما متعوا واشتغالهم بذلك عن شكر المنعم وطاعته والغاية لذلك فكأنه قيل: اشتغلوا حتى جاء الحق وهي غاية له في نفس الأمر لأن مجيء الرسول مما ينبه عن سنة الغفلة ويزجر عن الاشتغال بالملاذ لكنهم عكسوا فجعلوا ما هو سبب للتنصل سببا للتوغل فهو على أسلوب قوله تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى قوله سبحانه: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة: 1- 4] ، وبَلْ مَتَّعْتُ إضراب عن قوله جل شأنه لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ كأنه قيل بل متعت مشركي مكة وأشغلتهم بالملاهي والملاذ فاشتغلوا فلم يرجعوا أو فلم يحصل ما رجاه من رجوعهم عن الشرك، وهو في الحقيقة إضراب عن التمهيد الذي سمعت وشروع في المقصود لكن روعي فيه المناسبة بما قرب من جملة الإضراب أعني لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وفي الحواشي الشهابية أنه إضراب عن قوله تعالى: وَجَعَلَها إلخ أي لم يرجعوا فلم أعاجلهم بالعقوبة بل أعطيتهم نعما أخر غير الكلمة الباقية لأجل أن يشكروا منعمها ويوحدوه فلم يفعلوا بل زاد طغيانهم لاغترارهم أو التقدير ما اكتفيت في هدايتهم بجعل الكلمة باقية فيهم بل متعتهم وأرسلت رسولا. وقرأ قتادة والأعمش بَلْ مَتَّعْتُ بتاء الخطاب ورواها يعقوب عن نافع وهو من كلامه تعالى على سبيل التجريد لا الالتفات وإن قيل به في مثله أيضا كأنه تعالى اعترض بذلك على نفسه جل شأنه في قوله سبحانه: وَجَعَلَها إلخ لا لتقبيح فعله سبحانه بل لقصد زيادة توبيخ(13/77)
المشركين كما إذا قال المحسن على من أساء مخاطبا لنفسه: أنت الداعي لإساءته بالإحسان إليه ورعايته فيبرز كلامه في صورة من يعترض على نفسه ويوبخها حتى كأنه مستحق لذلك وفي ذلك من توبيخ المسيء ما فيه، وقال صاحب اللوامح: هو من كلام إبراهيم عليه السلام ومناجاته ربه عز وجل، وقال في البحر: الظاهر أنه من مناجاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم على معنى قل يا رب متعت، والأول أولى وهو الموافق للأصل المشهور، وقرأ الأعمش «متّعنا» بنون العظمة.
وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ لينبههم عما هم فيه من الغفلة ويرشدهم إلى التوحيد قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ زادوا شرارة فضموا إلى شركهم معاندة الحق والاستخفاف به فسموا القرآن سحرا وكفروا به واستحقروا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ أي من إحدى القريتين مكة والطائف أو من رجالهما فمن ابتدائية أو تبعيضية، وقرىء «رجل» بسكون الجيم عَظِيمٍ بالجاه والمال قال ابن عباس: الذي من مكة الوليد بن المغيرة المخزومي والذي من الطائف حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي، وقال مجاهد: عتبة بن ربيعة وكنانة ابن عبد ياليل، وقال قتادة: الوليد بن المغيرة وعروة بن مسعود الثقفي وكان الوليد بن المغيرة يسمى ريحانة قريش وكان يقول: لو كان ما يقول محمد صلّى الله عليه وسلّم حقا لنزل علي أو على أبي مسعود يعني عروة بن مسعود وكان يكنى بذلك، وهذا باب آخر من إنكارهم للنبوة وذلك أنهم أنكروا أولا أن يكون النبي بشرا ثم لما بكتوا بتكرير الحجج ولم يبق عندهم تصور رواج لذلك جاؤوا بالإنكار من وجه آخر فتحكموا على الله سبحانه أن يكون الرسول أحد هذين وقولهم هذا القرآن ذكر له على وجه الاستهانة لأنهم لم يقولوا هذه المقالة تسليما بل إنكارا كأنه قيل: هذا الكذب الذي يدعيه لو كان حقا لكان الحقيق به رجل من القريتين عظيم وهذا منهم لجهلهم بأن رتبة الرسالة إنما تستدعي عظيم النفس بالتخلي عن الرذائل الدنية والتحلي بالكمالات والفضائل القدسية دون التزخرف بالزخارف الدنيوية، وقوله تعالى:
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ إنكار فيه تجهيل وتعجيب من تحكمهم بنزول القرآن العظيم على من أرادوا، والرحمة يجوز أن يكون المراد بها ظاهرها وهو ظاهر كلام البحر ونزل تعيينهم لمن ينزل عليه الوحي منزلة التقسيم لها وتدخل النبوة فيها، ويجوز أن يكون المراد بها النبوة وهو الأنسب لما قبل وعليه أكثر المفسرين، وفي إضافة الرب إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم من تشريفه عليه الصلاة والسلام ما فيه، وفي إضافة الرحمة إلى الرب إشارة إلى أنها من صفات الربوبية نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ أسباب معيشتهم.
وقرأ عبد الله وابن عباس والأعمش وسفيان «معايشهم» على الجمع فِي الْحَياةِ الدُّنْيا قسمة تقتضيها مشيئتنا المبنية على الحكم والمصالح ولم نفوض أمرها إليهم علما منا بعجزهم عن تدبيرها بالكلية وإطلاق المعيشة يقتضي أن يكون حلالها وحرامها من الله تعالى: وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ في الرزق وسائر مبادئ المعاش دَرَجاتٍ متفاوتة بحسب القرب والبعد حسبما تقتضيه الحكمة فمن ضعيف وقوي وغني وفقير وخادم ومخدوم وحاكم ومحكوم لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ليستعمل بعضهم بعضا في مصالحهم ويستخدموهم في مهنهم ويسخروهم في أشغالهم حتى يتعايشوا ويترافدوا ويصلوا إلى مرافقهم لا لكمال في الموسع عليه ولا لنقص في المقتر عليه ولو فوضنا ذلك إلى تدبيرهم لضاعوا وهلكوا فإذا كانوا في تدبير خويصة أمرهم وما يصلحهم من متاع الدنيا الدنية وهو على طرف التمام بهذه الحالة فما ظنهم بأنفسهم في تدبير أمر الدين وهو أبعد من مناط العيوق ومن أين لهم البحث عن أمر النبوة والتخير لها من يصلح لها ويقوم بأمرها، والسخري على ما سمعت نسبة إلى السخرة وهي التذليل والتكليف، وقال الراغب: السخري هو الذي يقهر أن يتسخر بإرادته، وزعم بعضهم أنه هنا من السخر بمعنى الهزء أي ليهزأ الغني بالفقير واستبعده أبو حيان. وقال السمين: إنه غير مناسب للمقام.(13/78)
وقرأ عمرو بن ميمون وابن محيصن وابن أبي ليلى وأبو رجاء والوليد بن مسلم «سخريا» بكسر السين والمراد به ما ذكرنا أيضا، وفي قوله تعالى: نَحْنُ قَسَمْنا إلخ ما يزهد في الانكباب على طلب الدنيا ويعين على التوكل على الله عز وجل والانقطاع إليه جل جلاله:
فاعتبر نحن قسمنا بينهم ... تلقه حقا وبالحق نزل
وَرَحْمَتُ رَبِّكَ أي النبوة وما يتبعها من سعادة الدارين، وقيل: الهداية والإيمان، وقال قتادة، والسدي: الجنة خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من حطام الدنيا الدنية فالعظيم من رزق تلك الرحمة دون ذلك الحطام الدنيء الفاني.
وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ استئناف مبين لحقارة متاع الدنيا ودناءة قدره عند الله عز وجل، والمعنى أن حقارة شأنه بحيث لولا كراهة أن يجتمع الناس على الكفر ويطبقوا عليه لأعطيناه على أتم وجه من هو شر الخلائق وأدناهم منزلة، فكراهة الاجتماع على الكفر هي المانعة من تمتيع كل كافر والبسط عليه لا أن المانع كون متاع الدنيا له قدر عندنا، والكراهة المذكورة هي وجه الحكمة في ترك تنعيم كل كافر وبسط الرزق عليه فلا محذوف في تقديرها وليس ذلك مبنيا على وجوب رعاية المصلحة وإرادة الإيمان من الخلق ليكون اعتزالا كما ظن، وكأن وجه كون البسط على الكفار سببا للاجتماع على الكفر مزيد حب الناس للدنيا فإذا رأوا ذلك كفروا لينالوها، وهذا على معنى أن الله تعالى شأنه علم أنه لو فعل ذلك لدعا الناس إذ ذاك حبهم للدنيا إلى الكفر، فلا يقال: إن كثيرا من الناس اليوم يتحقق الغنى التام لو كفر ولا يكفر ولو أكره عليه بالقتل، وكون المراد بالأمر الواحد الذي يقتضيه كونهم أمة واحدة فإنه بمعنى اجتماعهم على أمر واحد الكفر بقرينة الجواب، ولِبُيُوتِهِمْ بدل اشتمال من قوله تعالى: لِمَنْ يَكْفُرُ واللام فيهما للاختصاص أو هما متعلقان بالفعل لا على البدلية ولام لمن صلة الفعل لتعديه باللام فهو بمنزلة المفعول به ولام لِبُيُوتِهِمْ للتعليل فهو بمنزلة المفعول له، ويجوز أن تكون الأولى للملك والثانية للاختصاص كما في قولك: وهبت الحبل لزيد لدابته وإليه ذهب ابن عطية، ولا يجوز على تقدير اختلاف اللامين معنى البدلية إذ مقتضى إعادة العامل في البدل الاتحاد في المعنى وإلى هذا ذهب أبو حيان، وقال الخفاجي: لا مانع من أن يبدل المجموع من المجموع بدون اعتبار إعادة، والسقف جمع سقف كرهن جمع رهن، وعن الفراء أنه جمع سقيفة كسفن جمع سفينة، والمعارج جمع معرج وهو عطف على سُقُفاً أي ولجعلنا لهم مصاعد عليها يعلون السطوح والعلالي وكأن المراد معارج من فضة بناء على أن العطف ظاهر في التشريك في القيد وإن تقدم، وقال أبو حيان: لا يتعين ذلك، وقرأ أبو رجاء «سقفا» بضم السين وسكون القاف تخفيفا وفي البحر هي لغة تميم.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح السين والسكون على الإفراد لأنه اسم جنس يطلق على الواحد وما فوقه وهو المراد بقرينة البيوت وقرىء بفتح السين والقاف وهي لغة في سقف وليس ذلك تحريك ساكن لأنه لا وجه له.
وقرىء «سقوفا» وهو جمع سقف كفلوس جمع فلس، وقرأ طلحة «معاريج» جمع معراج وَلِبُيُوتِهِمْ أي ولجعلنا لبيوتهم، وتكرير ذكر بيوتهم لزيادة التقرير ولأنه ابتداء أية أَبْواباً وَسُرُراً أي من فضة على ما سمعت، وقرىء «سررا» بفتح السين والراء وهي لغة لبني تميم وبعض كلب وذلك في جمع فعيل المضعف إذا كان اسما باتفاق وصفه نحو ثوب جديد وثياب جدد باختلاف بين النحاة عَلَيْها أي على السرر يَتَّكِؤُنَ كما هو شأن الملوك لا يهمهم شيء وَزُخْرُفاً قال الحسن: أي نقوشا وتزاويق، وقال ابن زيد: الزخرف أثاث البيت وتحملاته وهو(13/79)
عليهما عطف على سُقُفاً. وقال ابن عباس وقتادة والشعبي والسدي والحسن أيضا في رواية الزخرف الذهب، وأكثر اللغويين ذكروا له معنيين هذا والزينة فقيل الظاهر أنه حقيقة فيهما، وقيل: إنه حقيقة في الزينة ولكون كمالها بالذهب استعمل فيه أيضا، ويشير إليه كلام الراغب قال: الزخرف الزينة المزوقة ومنه قيل للذهب زخرف، وفي البحر جاء في الحديث إياكم والحمرة فإنها من أحب الزينة إلى الشيطان، وقال ابن عطية: الحسن أحمر والشهوات تتبعه ولبعض شعراء المغرب:
وصبغت درعك من دماء كماتهم ... لما رأيت الحسن يلبس أحمرا
وهو على هذا عطف على محل مِنْ فِضَّةٍ كأن الأصل سقفا من فضة وزخرف يعني بعضها من فضة وبعضها من ذهب فنصب عطفا على المحل، وجوز عطفه على سُقُفاً أيضا وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي وما كل ما ذكر من البيوت الموصوفة بالصفات المفصلة الا شيء يتمتع به في الحياة الدنيا وفي معناه ما قرىء «وما كل ذلك إلا متاع لدنيا» وقرأ الجمهور «لما» بفتح اللام والتخفيف على أن إِنْ هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بين المخففة وغيرها وما زائدة أو موصولة بتقدير لما هو متاع كما في قوله تعالى: «تماما على الذي أحسن» في قراءة من رفع النون، وقرأ رجاء وفي التحرير أبو حيوة «لما» بكسر اللام والتخفيف على أن إِنْ هي المخففة واللام حرف جر وما موصولة في محل جر بها والجار والمجرور في موضع الخبر لكل وصدر الصلة محذوف كما سمعت آنفا.
وحق التركيب في مثله الإتيان باللام الفارقة فيقال للما: متاع لكنها حذفت لظهور إرادة الإثبات كما في قوله:
أنا ابن أباة الضيم من آل مالك ... وإن مالك كانت كرام المعادن
بل لا يجوز في البيت إدخال اللام كما لا يخفى على النحوي وَالْآخِرَةُ أي بما فيها من فنون النعيم التي لا يحيط بها نطاق البيان عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ خاصة لهم، والمراد بهم من اتقى الشرك، وقال غير واحد: من اتقى ذلك والمعاصي، وفي الآية من الدلالة على التزهيد في الدنيا وزينتها والتحريض على التقوى ما فيها،
وقد أخرج الترمذي وصححه وابن ماجه عن سهل بن سعدة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لو كانت الدنيا تعدل عند الله تعالى جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء»
وعن علي كرم الله تعالى وجهه: الدنيا أحقر من ذراع خنزير ميت بال عليه كلب في يد مجذوم
، هذا واستدل بعضهم بقوله تعالى: لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً على أن السقف لرب البيت الأسفل لا لصاحب العلو لأنه منسوب إلى البيت وَمَنْ يَعْشُ أي يتعام ويعرض عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ وهو القرآن، وإضافته إلى الرحمن للإيذان بنزوله رحمة للعالمين، وجوز أن يكون مصدرا أضيف إلى المفعول أي من يعش عن أن يذكر الرحمن. وأن يكون مصدرا أضيف إلى الفاعل أي عن تذكير الرحمن عباده سبحانه، وقرأ يحيى بن سلام البصري «يعش» بفتح الشين كيرض أي يعم يقال: عشى كرضي إذا حصلت الآفة في بصره وعشا كغزا إذا نظر نظر العشى لعارض قال الحطيئة:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد
أي تنظر إليها نظر العشى لما يضعف بصرك من عظم الوقود واتساع الضوء ولو لم يكن كذلك لم يكن لكلمة الغاية موقع وأظهر منه في المقصود قول حاتم:
أعشو إذا ما جارتي برزت ... حتى يواري جارتي الخدر(13/80)
لأنه قيد بالوقت وأتى بالغاية وما هو خلقي لا يزول، وقال بعضهم: لم أر أحدا يجيز عشوت عنه إذا أعرضت وإنما يقال تعاشيت وتعاميت عن الشيء إذا تغافلت عنه كأنك لم تره ويقال: عشوت إلى النار إذا استدللت عليها ببصر ضعيف، وهو مما لا يلتفت إليه ومثله عشى وعشا عرج بكسر الراء لمن به الآفة وعرج بفتحها لمن استدللت عليها ببصر ضعيف، وهو مما لا يلتفت إليه ومثله عشى وعشا عرج بكسر الراء لمن به الآفة وعرج بفتحها لمن مشى مشية العرجان من غير عرج على ما في الكشاف، وفيه خلاف لأهل اللغة ففي القاموس يقال: عرج أي بالفتح إذا أصابه شيء في رجله وليس بخلقة فإذا كان خلقة فعرج كفرح أو يثلث في غير الخلقة، وقرأ زيد بن علي «يعشو» بإثبات الواو وخرج ذلك الزمخشري على أن من موصولة لا شرطية جازمة، وجوز أن تكون شرطية والمدة إما للإشباع أو على لغة من يجزم المعتل الآخر بحذف الحركة على ما حكاه الأخفش، وجوز كون الفعل مجزوما بحذف النون والواو ضمير الجمع، وقد روعي فيه معنى من، وتخريج الزمخشري مبني على الفصيح المطرد المتبادر.
نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً أي نتح له شيطانا ليستولي عليه استيلاء القيض على البيض وهو القشر الأعلى.
فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ دائما لا يفارقه ولا يزال يوسوسه ويغويه وهذا عقاب على الكفر بالختم وعدم الفلاح كما يقال: إن الله تعالى يعاقب على المعصية بمزيد اكتساب السيئات، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه: والسلمي والأعمش ويعقوب وأبو عمرو بخلاف عنه. وحماد عن عاصم وعصمة عن الأعمش وعن عاصم والعليمي عن أبي بكر «يقيض» بالياء على إسناده إلى ضمير الرَّحْمنِ، وقرأ ابن عباس «يقيض» بالياء والبناء للمفعول «شيطان» بالرفع والفعل في جميع القراءات مجزوم ولم نسمع أنه قرىء بالرفع، وفي الكشاف حق من قرأ «من يعشو» بالواو أن يرفعه أي بناء على تخريجه ذلك على أن من موصولة، وجوز على ذلك أيضا أن يكون «يقيّض» مرفوعا لكنه سكن تخفيفا.
وفي البحر يجوز أن تكون مَنْ موصولة وجزم نُقَيِّضْ تشبيها للموصول باسم الشرط وإذا كان ذلك مسموعا في الذي وهو لم يكن اسم شرط قط فالأولى أن يكون فيما استعمل موصولا وشرطا، قال الشاعر:
لا تحفرن بئرا تريد أخا بها ... فإنك فيها أنت من دونه تقع
كذاك الذي يبغي على الناس ظالما ... تصبه على رغم عواقب ما صنع
أنشدهما ابن الاعرابي وهو مذهب للكوفيين، وله وجه من القياس وهو أنه كما شبه الموصول باسم الشرط فدخلت الفاء في خبره فكذلك يشبه به فينجزم الخبر إلا أن دخول الفاء منقاس إذا كان الخبر مسببا عن الصلة بشروطه المذكورة في النحو وهذا لا يقيسه البصريون وَإِنَّهُمْ أي الشياطين الذين قيض وقدر كل واحد منهم لكل واحد ممن يعشو لَيَصُدُّونَهُمْ أي ليصدون قرناءهم وهم الكفار المعبر عنهم بمن يعش، وجمع ضمير الشيطان لأن المراد به الجنس. وجمع ضمير من رعاية للمعنى كما أفرد أولا رعاية للفظ. وفي الانتصاف أن في هذه الآية نكتتين بديعتين الأولى الدلالة على أن النكرة الواقعة في سياق الشرط تفيد العموم وهي مسألة أضرب فيها الأصوليون وإمام الحرمين من القائلين بإفادتها العموم حتى استدرك على الأئمة إطلاقهم القول بأن النكرة في سياق الإثبات تخص، وقال إن الشرط يعم والنكرة في سياقه تعم وقد رد عليه الفقيه أبو الحسن علي الأبياري شارح كتابه ردا عنيفا، وفي هذه الآية للإمام ومن قال بقوله كفاية، وذلك أن الشيطان ذكر فيها منكرا في سياق شرط ونحن نعلم أنه إنما أريد عموم الشياطين لا واحد لوجهين. أحدهما أنه قد ثبت أن لكل أحد شيطانا فكيف بالعاشي عن ذكر الله تعالى والآخر من الآية وهو أنه أعيد عليه الضمير مجموعا في قوله تعالى: «وإنهم» فإنه عائد إلى الشيطان قولا واحدا ولولا إفادته عموم الشمول لما(13/81)
جاز عود ضمير الجمع عليه بلا إشكال، فهذه نكتة تجد سماعها لمخالفي هذا الرأي سكتة. النكتة الثانية أن فمها ردا على من زعم أن العود على معنى من يمنع من العود على لفظها بعد ذلك واحتج لذلك بأنه إجمال بعد تفسير، وهو خلاف المعهود من الفصاحة وقد نقض ذلك الكندي وغيره بآيات، واستخرج جدي من هذه الآية نقض ذلك أيضا لأنه أعيد الضمير على اللفظ في يَعْشُ ولَهُ وعلى المعنى في لَيَصُدُّونَهُمْ ثم على اللفظ في حَتَّى إِذا جاءَنا وقد قدمت أن الذي منع قد يكون اقتصر بمنعه على مجيء ذلك في جملة واحدة وأما إذا تعددت الجمل واستقلت كل بنفسها فقد لا يمنع ذلك انتهى.
وفي كون ضمير إِنَّهُمْ عائدا على الشيطان قولا واحدا نظر، فقد قال أبو حيان: الظاهر أن ضمير النصب في إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عائد على من على المعنى وهو أولى من عود ضمير إِنَّهُمْ على الشيطان كما ذهب إليه ابن عطية لتناسق الضمائر في إِنَّهُمْ وما بعده فلا تغفل عَنِ السَّبِيلِ المستبين الذي يدعو إليه ذكر الرحمن وَيَحْسَبُونَ أي العاشون إِنَّهُمْ أي الشياطين مُهْتَدُونَ أي إلى ذلك السبيل الحق وإلا لما اتبعوهم أو ويحسب العاشون أن أنفسهم مهتدون فإن اعتقاد كون الشياطين مهتدين مستلزم لاعتقاد كونهم كذلك لاتحاد مسلكهما.
والظاهر أن أبا حيان يختار هذا الوجه للتناسق أيضا، والجملة حال من مفعول «يصدون» بتقدير المبتدأ أو من فاعله أو منهما لاشتمالها على ضميريهما أي وإنهم ليصدونهم عن الطريق الحق وهم يحسبون أنهم مهتدون إليه.
وصيغة المضارع في الأفعال الأربعة للدلالة على الاستمرار التجددي لقوله تعالى: حَتَّى إِذا جاءَنا فإن حَتَّى وإن كانت ابتدائية داخلة على الجملة الشرطية لكنها تقتضي حتما أن تكون غاية لأمر ممتد وأفرد الضمير في جاء وما بعده لما أن المراد حكاية مقالة كل واحد من العاشين لقرينه لتهويل الأمر وتفظيع الحال والمعنى يستمر أمر العاشين على ما ذكر حتى إذا جاءنا كل واحد منهم مع قرينه يوم القيامة قالَ مخاطبا له: يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أي في الدنيا، وقيل: في الآخرة بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ أي بعد كل منهما من الآخر، والمراد بهما المشرق والمغرب كما اختاره الزجاج او الفراء وغيرهما لكن غلب المشرق على المغرب وثنيا كالموصلين للموصل والجزيرة وأضيف البعد إليهما، والأصل بعد المشرق من المغرب والمغرب من المشرق وإنما اختصر هذا المبسوط لعدم الإلباس إذ لا خفاء أنه لا يراد بعدهما من شيء واحد لأن البعد من أحدهما قرب من الآخر ولأنهما متقابلان فبعد أحدهما من الآخر مثل في غاية البعد لا بعدهما عن شيء آخر، وإشعار السياق بالمبالغة لا ينكر فلا لبس من هذا الوجه أيضا، وقال ابن السائب: لا تغليب، والمراد مشرق الشمس في أقصر يوم من السنة ومشرقها في أطول يوم منها فَبِئْسَ الْقَرِينُ أي أنت، وقيل: أي هو على أنه من كلامه تعالى وهو كما ترى.
وقرأ أبو جعفر وشيبة وأبو بكر والحرميان وقتادة والزهري والجحدري «جاءانا» على التثنية أي العاشي والقرين وقوله تعالى: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ إلخ حكاية لما سيقال لهم حينئذ من جهة الله عزّ وجلّ توبيخا وتقريعا، وفاعل يَنْفَعَكُمُ ضمير مستتر يعود على ما يفهم مما قبل أي لن ينفعكم هو أي تمنيكم لمباعدتهم أو الندم أو القول المذكور الْيَوْمَ أي يوم القيامة إِذْ ظَلَمْتُمْ بدل من الْيَوْمَ أي إذ تبين أنكم ظلمتم في الدنيا قاله غير واحد، وفسر ذلك بالتبين قيل لئلا يشكل جعله وهو ماض بدلا من الْيَوْمَ وهو مستقبل لأن تبين كونهم ظالمين عند أنفسهم إنما يكون يوم القيامة فاليوم وزمان التبين متحدان وهذا كقوله:
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة وأورد عليه أن السؤال عائد لأن إِذْ ظرف لما مضى من الزمان ولا يخرج عن ذلك باعتبار التبين وتفصي(13/82)
بعضهم عن الإشكال بأن إذ قد تخرج من المضي إلى الاستقبال على ما ذهب إليه جماعة منهم ابن مالك محتجا بقوله تعالى: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ [غافر: 70، 71] وإلى الحال كما ذهب إليه بعضهم محتجا بقوله سبحانه: وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [يونس: 61] فلتكن هنا للاستقبال، وأهل العربية يضعفون دعوى خروجها من المضي.
وقال الجلبي: لعل الأظهر حملها على التعليل فيتعلق بالنفي، فقد قال سيبويه: إنها بمعنى التعليل حرف بمنزلة لام العلة، نعم أنكر الجمهور هذا القسم لكن إثبات سيبويه إياه يكفي حجة. فإن القول ما قالت حذام. وتعقب بأنه لا يكفي في تخريج كلام الله سبحانه إثبات سيبويه وحده مع إطباق جميع أئمة العربية على خلافه، وأيضا تعليل النفي بعد يبعده وقال أبو حيان: لا يجوز البدل على بقاء إذ على موضوعها من كونها ظرفا لما مضى من الزمان فإن جعلت لمطلق الوقت جاز، ولا يخفى أن ذلك مجاز فهل تكفي البدلية قرينة له فإن كفت فذاك، وقال ابن جني: راجعت أبا علي في هذه المسألة يعني الإبدال المذكور مرارا وآخر ما تحصل منه أن الدنيا والآخرة متصلتان وهما سواء في حكم الله سبحانه وعلمه جل شأنه لا يجري عليه عزّ وجلّ زمان فكأن إِذْ مستقبل أو الْيَوْمَ ماض فصح ذلك، ورد بأن المعتبر حال الحكاية والكلام فيها وارد على ما تعارفه العرب ولولاه لسد باب النكات ولغت الاعتبارات في العبارات ومثله غني عن البيان، وقال أبو البقاء: التقدير بعد إذ ظلمتم فحذف المضاف للعلم به، وقال الحوفي: إِذْ متعلقة بما دل عليه المعنى كأنه قيل ولن ينفعكم اليوم اجتماعكم إذ ظلمتم مثلا.
ومن الناس من استشكل الآية من حيث إن فيها إعمال يَنْفَعَكُمُ الدال على الاستقبال لاقترانه بلن في اليوم وهو الزمان الحاضر وإذ وهو للزمان الماضي، وأجيب بأنه يدفع الثاني بما قدروه من التبين لأن تبين الحال يكون في الاستقبال والأول بأن الْيَوْمَ تعريفه للعهد وهو يوم القيامة لا للحضور كتعريف الآن وإن كان نوعا منه.
وقيل: يدفع بأن الاستقبال بالنسبة إلى وقت الخطاب وهو بعض أوقات اليوم وهو كما ترى فتأمل ولا تغفل.
وقوله تعالى: أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ تعليل لنفي النفع أي لأن حقكم أن تشتركوا أنتم وقرناؤكم في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه في الدنيا.
وجوز أن يكون الفعل مسندا إليه أي لن ينفعكم كونكم مشتركين في العذاب كما ينفع الواقعين في الأمر الصعب اشتراكهم فيه لتعاونهم في تحمل أعبائه وتقسمهم لشدته وعنائه وذلك أن كل واحد منكم به من العذاب ما لا تبلغه طاقته أو لن ينفعكم ذلك من حيث التأسي فإن المكروب يتأسى ويتروح بوجدان المشارك وهو الذي عنته الخنساء بقولها:
يذكرني طلوع الشمس صخرا ... وأذكره بكل مغيب شمس
ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزي النفس عنه بالتأسي
فهؤلاء يؤسيهم اشتراكهم ولا يروحهم لعظم ما هم فيه أو لن ينفعكم ذلك من حيث التشفي أي لن يحصل لكم التشفي بكون قرنائكم معذبين مثلكم حيث كنتم تدعون عليهم بقولكم: رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً [الأحزاب: 68] وقولكم: فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ [الأعراف: 38] لتتشفوا بذلك، واعترض على الوجه الأول من هذه الأوجه الثلاثة بأن الانتفاع بالتعاون في تحمل أعباء العذاب ليس ما يخطر ببالهم حتى يرد عليهم بنفيه، وأجيب بأنه غير بعيد أن يخطر ذلك ببالهم لمكان المقارنة والصحبة والغريق يتشبث بالحشيش والظمآن يحسب السراب شرابا.(13/83)
وقرأ ابن عامر «إنكم» بكسر الهمزة وهو تقوى ما ذكر أولا من إضمار الفاعل وتقدير اللام في أنكم معنى ولفظا لأنه لا يمكن أن يكون فاعلا فيتعين الإضمار، ولأن الجملة عليها تكون استئنافا تعليليا فيناسب تقدير اللام لتتوافق القراءتان، وقوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ إنكار تعجيب من أن يكون صلّى الله عليه وسلّم هو الذي يقدر على هدايتهم وهو قد تمرنوا في الكفر واعتادوه واستغرقوا في الضلال بحيث صار ما بهم من العشى عمى مقرونا بالصمم وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ عطف على العمى باعتبار تغاير الوصفين أعني العمى والضلال بحسب المفهوم وإن اتحدا مآلا، ومدار الإنكار هو التمكن والاستقرار في الضلال المفرط الذي لا يخفى لا توهم القصور منه عليه الصلاة والسلام ففيه رمز إلى أنه لا يقدر على ذلك إلا الله وحده بالقسر والإلجاء وقد كان صلّى الله عليه وسلّم يبالغ في المجاهدة في دعاء قومه وهم لا يزيدون إلا غيا وتعاميا عما يشاهدونه من شواهد النبوة وتصاما عما يسمعونه من بينات القرآن فنزلت أَفَأَنْتَ إلخ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فإن قبضناك قبل أن نبصرك عذابهم ونشفي بذلك صدرك وصدور المؤمنين فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ لا محالة في الدنيا والآخرة واقتصر بعضهم على عذاب الآخرة لقوله تعالى في آية أخرى: أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ [غافر: 77] والقرآن يفسر بعضه بعضا، وما ذكرنا أتم فائدة وأوفق بإطلاق الانتقام، وأما تلك الآية فليس فيها ذكره، وما مزيدة للتأكيد وهي بمنزلة لام القسم في استجلاب النون المؤكدة.
أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ أي أو أردنا أن نريك العذاب الذي وعدناهم فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ بحيث لا مناص لهم من تحت ملكنا وقهرنا واعتبار الإرادة لأنها أنسب بذكر الاقتدار بعد، وفي التعبير بالوعد وهو سبحانه لا يخلف الميعاد إشارة إلى أنه هو الواقع، وهكذا كان إذ لم يفلت أحد من صناديدهم في بدر وغيرها إلا من تحصين بالإيمان، وقرىء «نرينك» بالنون الخفيفة فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تسلية له صلّى الله عليه وسلّم وأمر له عليه الصلاة والسلام أو لأمته بالدوام على التمسك بالآيات والعمل بها، والفاء في جواب شرط مقدر أي إذا كان أحد هذين الأمرين واقعا لا محالة فاستمسك بالذي أوحيناه إليك، وقوله تعالى: إِنَّكَ إلخ تعليل للاستمساك أو للأمر به.
وقرأ بعض قراء الشام «أوحي» بإسكان اللام، وقرأ الضحاك «أوحى» مبنيا للفاعل وَإِنَّهُ أي ما أوحى إليك والمراد به القرآن لَذِكْرٌ لشرف عظيم لَكَ وَلِقَوْمِكَ هم قريش على ما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد.
وأخرج ابن عدي وابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما قالا: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعرض نفسه على القبائل بمكة ويعدهم الظهور فإذا قالوا: لمن الملك بعدك أمسك فلم يجبهم بشيء لأنه عليه الصلاة والسلام لم يؤمر في ذلك بشيء حتى نزلت وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ فكان صلّى الله عليه وسلّم بعد إذا سئل قال لقريش:
فلا يجيبونه حتى قبلته الأنصار على ذلك.
وأخرج الطبراني وابن مردويه عن عدي بن حاتم قال: «كنت قاعدا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ألا إن الله تعالى علم ما في قلبي من حبي لقومي فبشرني فيهم فقال سبحانه: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ الآية فجعل الذكر والشرف لقومي في كتابه» الحديث
،
وفيه «فالحمد لله الذي جعل الصديق من قومي والشهيد من قومي إن الله تعالى قلب العباد ظهرا وبطنا فكان خير العرب قريش وهي الشجرة المباركة إلى أن قال عدي: ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكر عنده قريش بخير قط إلا سره حتى يتبين ذلك السرور في وجهه للناس كلهم وكان عليه الصلاة والسلام كثيرا ما يتلو هذه الآية وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ إلخ
، وقيل هم العرب مطلقا لما أن القرآن نزل بلغتهم ثم يختص بذلك الشرف الأخص(13/84)
وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64)
فالأخص منهم حتى يكون الشرف لقريش أكثر من غيرهم ثم لبني هاشم أكثر مما يكون لسائر قريش، وفي رواية عن قتادة هم من اتبعه صلّى الله عليه وسلّم من أمته.
وقال الحسن: هم الأمة والمعنى وإنه لتذكرة وموعظة لك ولأمتك، والأرجح عندي القول الأول.
وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ يوم القيامة عنه وعن قيامكم بحقوقه، وقال الحسن والكلبي والزجاج: تسألون عن شكر ما جعله الله تعالى لكم من الشرف، قيل إن هذه الآية تدل على إن الإنسان يرغب في الثناء الحسن والذكر الجميل إذ لو لم يكن مرغوبا فيه ما امتن الله تعالى به على رسوله صلّى الله عليه وسلّم والذكر الجميل قائم مقام الحياة ولذا قيل ذكر الفتى عمره الثاني، وقال ابن دريد:
وإنما المرء حديث بعده ... فكن حديثا حسنا لمن وعى
وقال آخر:
إنما الدنيا محاسنها ... طيب ما يبقى من الخبر
ويحكى أن الطاغية هلاكو سأل أصحابه: من الملك؟ فقالوا له: أنت الذي دوخت البلاد وملكت الأرض وطاعتك الملوك وكان المؤذن إذ ذاك يؤذن فقال لا الملك هذا له أزيد من ستمائة سنة قد مات وهو يذكر على المآذن في كل يوم وليلة خمس مرات يريد محمدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.(13/85)
وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ أي هل حكمنا بعبادة غير الله سبحانه وهل جاءت في ملة من ملل المرسلين عليهم السلام والمراد الاستشهاد بإجماع المرسلين على التوحيد والتنبيه على أنه ليس ببدع ابتدعه صلّى الله عليه وسلّم حتى يكذب ويعادى له، والكلام بتقدير مضاف أي واسأل أمم من أرسلنا أو على جعل سؤال الأمم بمنزلة سؤال المرسلين إليهم.
قال الفراء: هم إنما يخبرون عن كتب الرسل فإذا سألهم عليه الصلاة والسلام فكأنه سأل المرسلين عليهم السلام، وعلى الوجهين المسئول الأمم، وروي ذلك عن الحسن ومجاهد وقتادة والسدي وعطاء وهو رواية عن ابن عباس أيضا.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة أنه قال في بعض القراءات واسأل من أرسلنا إليهم رسلنا قبلك.
وأخرج هو وسعيد بن منصور عن مجاهد قال: كان عبد الله يقرأ واسأل الذين أرسلنا إليهم قبلك من رسلنا، وعن ابن مسعود أنه قرأ واسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبل مؤمني أهل الكتاب، وجعل بعضهم السؤال مجازا عن النظر والفحص عن مللهم في سؤال الديار والاطلال ونحوها من قولهم: سل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك وجنى ثمارك.
وروي عن ابن عباس أيضا وابن جبير والزهري وابن زيد أن الكلام على ظاهره وأنه عليه الصلاة والسلام قيل له ذلك ليلة الإسراء حين جمع له الأنبياء في البيت المقدس فافهم ولم يسأل عليه الصلاة والسلام إذ لم يكن في شك.
وفي بعض الآثار أن ميكال قال لجبريل عليهما السلام: هل سأل محمد صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك؟ فقال: هو أعظم يقينا وأوثق إيمانا من أن يسأل. وتعقب هذا القول بأن المراد بهذا السؤال الزام المشركين وهم منكرون الإسراء، وللبحث فيه مجال. والخطاب على جميع ما سمعت لنبينا عليه الصلاة والسلام.
وفي البحر الذي يظهر أنه خطاب للسامع الذي يريد أن يفحص عن الديانات قيل له اسأل أيها الناظر أتباع الرسل أجاءت رسلهم بعبادة غير الله عزّ وجلّ فإنهم يخبرونك أن ذلك لم يقع ولا يمكن أن يأتوا به ولعمري إنه خلاف الظاهر جدا، ومما يقضي منه العجب ما قيل: إن المعنى واسألني أو واسألنا عمن أرسلنا وعلق اسأل فارتفع من وهو اسم استفهام على الابتداء وأرسلنا خبره والجملة في موضع نصب باسأل بعد إسقاط الخافض كأن سؤاله من أرسلت يا رب قبلي من رسلك أجعلت في رسالته آلهة تعبد ثم السؤال فحكى المعنى فرد الخطاب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى مِنْ قَبْلِكَ انتهى، واسأل من قرأ أبا جاد أيرضى بهذا الكلام ويستحسن تفسير كلام الله تعالى المجيد بذلك وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا ملتبسا بها إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ أشراف قومه وخصوا بالذكر لأن غيرهم تبع فَقالَ لهم إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ إليكم وأريد باقتصاص ذلك تسلية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإبطال قولهم: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] لأن موسى عليه السلام مع عدم زخارف الدنيا لديه كان له مع فرعون وهو ملك جبار ما كان وقد أيده الله سبحانه بوحيه وما أنزل عليه، والاستشهاد بدعوته عليه السلام إلى التوحيد أثر ما أشير إليه من إجماع جميع الرسل عليهم السلام عليه ويعلم من ذلك وجه مناسبة الآيات لما قبلها، وقال أبو حيان:
مناسبتها من وجهين الأول أنه ذكر فيما قبل قول المشركين: لَوْلا نُزِّلَ إلخ وفيه زعم أن العظم بالجاه والمال وأشير في هذه الآيات إلى أن مثل ذلك سبق إليه فرعون في قوله: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ [الزخرف: 51] إلخ فهو قدوتهم في ذلك وقد انتقم منه فكذلك ينتقم منهم، الثاني أنه سبحانه لما قال: وَسْئَلْ إلخ ذكر جلّ وعلا قصة موسى وعيسى عليهما السلام وهما أكثر أتباعا ممن سبق من الأنبياء وكل جاء بالتوحيد فلم يكن فيما جاءا به إباحة(13/86)
اتخاذ آلهة من دون الله تعالى كما اتخذت قريش فناسب ذكر قصتهما الآية التي قبلها.
فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ أي فاجأهم الضحك منها أي استهزؤوا بها أول ما رأوها ولم يتأملوا فيها، وفي الكشاف جاز أن تجاب لما بإذا المفاجاة لأن فعل المفاجأة مقدر معها وهو عامل النصب في محلها كأنه قيل: فلما جاءهم بآياتنا فاجؤوا وقت ضحكهم. فالجواب عنده ذلك الفعل وهو العامل في لما، وقدر ماضيا لأنه المعروف في جوابها، وإذا مفعول به لا ظرف، وقال أبو حيان: لا نعلم نحويا ذهب إلى ما ذهب إليه هذا الرجل من أن إذا الفجائية تكون منصوبة بفعل مقدر تقديره فاجأ بل المذاهب فيها ثلاثة. الأول أنها حرف فلا تحتاج إلى عامل.
الثاني أنها ظرف مكان فإن صرح بعد الاسم بعدها بخبر له كان ذلك الخبر عاملا فيها نحو خرجت فإذا زيد قائم فقائم هو الناصب لها والتقدير خرجت ففي المكان الذي خرجت فيه زيد قائم. الثالث أنها ظرف زمان والعامل فيها الخبر أيضا كأنه قيل: ففي الزمان الذي خرجت فيه زيد قائم: وإذا لم يذكر بعد الاسم خبر أو ذكر اسم منصوب على الحال كانت إذا خبرا للمبتدأ: فإن كان جثة وقلنا: إذا ظرف مكان الأمر واضحا وإن قلنا ظرف زمان كان الكلام على حذف مضاف أي ففي الزمان حضور زيد ثم إن المفاجأة التي ادعاها لا يدل المعنى على أنها تكون من الكلام السابق بل يدل على أنها تكون من الكلام التي هي فيه تقول خرجت فإذا الأسد فالمعنى ففاجأني الأسد انتهى، وقال الخفاجي ما قيل إن نصبها بفعل المفاجأة المقدر هكذا لم يقله أحد من النحاة لا يلتفت إليه وتفصيله في شروح المغني وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ من الآيات:
إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها أي من آية مثلها في كونها آية دالة على النبوة واستشكل بأنه يلزم كون كل واحدة من الآيات فاضلة ومفضولة معا وهو يؤدي إلى التناقض وتفضيل الشيء على نفسه لعموم آية في النفي، وأجيب بأن الغرض من هذا الكلام انهن موصوفات بالكبر لا يكدن يتفاوتن فيه على معنى أن كل واحدة لكمالها في نفسها إذا نظر إليها قيل هي أكبر من البواقي لاستقلالها بإفادة المقصود على التمام كما قال الحماسي:
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري
وإذا لوحظ الكل توقف عن التفضيل بينهن، ولقد فاضلت فاطمة بنت خرشب الأنمارية بين أولادها الكملة ربيعة الحفاظ. وعمارة الوهاب. وأنس الفوارس ثم قال: أبصرت مراتبهم متدانية قليلة التفاوت ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها، وقال بعض الأجلة: المراد بأفعل الزيادة من وجه أي ما نريهم من آية الا هي مختصة بنوع من الإعجاز مفضلة على غيرها بذلك الاعتبار، ولا ضمير في كون الشيء الواحد فاضلا ومفضولا باعتبارين، وقد أطال الكلام في ذلك جلال الدين الدواني في حواشيه على الشرح الجديد للتجريد فليراجع ذلك من أراده، وفي البحر قيل: كانت آياته عليه السلام من كبار الآيات وكانت كل واحدة أكبر من التي قبلها فعلى هذا يكون ثم صفة محذوفة أي من أختها السابقة عليها ولا يبقى في الكلام تعارض، ولا يكون ذلك الحكم في الآية الأولى لأنه لم يسبقها شيء فتكون أكبر منه، وذكر بعضهم في الأكبرية أن الأولى تقتضي علما والثانية تقتضي علما منضما إلى علم الأولى فيزداد الرجوع انتهى، والأولى ما تقدم لشيوع إرادة ذلك المعنى من مثل هذا التركيب وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ كالسنين والجراد والقمل وغيرها:
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لكي يرجعوا ويتوبوا عما هم عليه من الكفر وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ قال الجمهور: وهو خطاب تعظيم فقد كانوا يقولون للعالم الماهر ساحر لاستعظامهم علم السحر، وحكاه في مجمع البيان عن الكلبي والجبائي، وقيل: المعنى يا غالب السحرة من ساحره فسحره كخاصمه فخصمه فهو خطاب تعظيم أيضا، وقيل:(13/87)
الساحر على المعنى المعروف فيه وقد تعودوا عليه السلام بذلك قبل، ومقتضى مقام طلب الدعاء منه عليه السلام أن لا يدعوه به إلا أنهم لفرط حسرتهم سبق لسانهم إلى ما تعودوا به، وقيل: هو خطاب استهزاء وانتقاص دعاهم إليه شدة شكيمتهم ومزيد حماقتهم وروي ذلك عن الحسن.
ودفع الزمخشري المنافاة بين هذا الخطاب وقولهم الآتي: إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ بأن ذلك القول وعد منوي إخلافه وعهد معزوم على نكثه معلق بشرط أن يدعو لهم وينكشف عنهم العذاب وفيه أن الوعد وإن كان منوي الأخلاف لكن إظهار الأخلاف حال التضرع إليه عليه السلام ينافيه لأنهم في استلانة قلبه عليه السلام.
وقيل الأظهر أنهم قالوا يا موسى كما في الأعراف لكن حكي الله تعالى كلامهم هنا على حسب حالهم ووفق ما في قلوبهم تقبيحا لذلك وتسلية لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم ويكون ذلك على عكس قوله سبحانه إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ [النساء: 157] وجعل على هذا قولهم الآتي مجمل ما فصل هنالك من الإيمان وإرسال بني إسرائيل فلا يحتاج إلى التزام كون القولين في مجلسين للجمع بين ما هنا وما هناك، ولا يخلو عن بعد والالتزام المذكور لا أرى ضررا فيه. وقرىء «يا أيه» بضم الهاء ادْعُ لَنا رَبَّكَ ليكشف عنا العذاب بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي بعهده عندك، والمراد به النبوة وسميت عهدا إما لأن الله تعالى عاهد نبيه عليه السلام أن يكرمه بها وعاهد النبي ربه سبحانه على أن يستقل بأعبائها أو لما فيها من الكلفة بالقيام بأعبائها ومن الاختصاص كما بين المتواثقين أو لأن لها حقوقا تحفظ كما يحفظ العهد أو من العهد الذي يكتب للولاة كأن النبوة منشور من الله تعالى بتولية من أكرمه بها والباء إما صلة لادع. أو متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير فيه أي متوسلا إليه تعالى بما عهد أو بمحذوف دل عليه التماسهم مثل أسعفنا إلى ما نطلب، وإما أن تكون للقسم والجواب ما يأتي، وهي على هذا للقسم حقيقة وعلى ما قبله للقسم الاستعطافي وعلى الوجه الأول للسببية، وإدخال ذلك في الاستعطاف خروج عن الاصطلاح، وجوز أن يراد بالعهد عهد استجابة الدعوة كأنه قيل: بما عاهدك الله تعالى مكرما لك من استجابة دعوتك أو عهد كشف العذاب عمن اهتدى، وأمر الباء في الوجهين على ما مر وأن يراد بالعهد الإيمان والطاعة أي بما عهد عندك فوفيت به على أنه من عهد إليه أن يفعل كذا أي أخذ منه العهد على فعله ومنه العهد الذي يكتب للولاة، وعِنْدَكَ يغني عن ذكر الصلة مع إفادة أنه محفوظ مخزون عند المخاطب، والأولى على هذا أن تكون ما موصولة، وهذا الوجه فيه كما في الكشف نبو لفظا ومعنى وسياقا ما لا يخفى على الفطن.
إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ لمؤمنون ثابتون على الإيمان وهو إما معلق بشرط كشف العذاب كما في قولهم المحكي في سورة الأعراف لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك أو غير معلق ويجب حينئذ أن يكون هذا منهم في مجلس آخر، وإن قلنا: لم يصدر منهم طلب الدعاء إلا مرة أو أكثر منها لكن على طرز واحد قيل هنا: أرادوا من الاهتداء الإيمان وإرسال بني إسرائيل كما سمعت آنفا فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ أي بدعوته ففي الكلام حذف أي فدعانا بكشف العذاب فكشفناه فلما كشفناه عنهم إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ فاجأهم نكث عهدهم بالاهتداء أو فاجؤوا وقت نكث عهدهم. وقرأ أبو حيوة «ينكثون» بكسر الكاف.
وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أي رفع صوته بنفسه فيما بين قومه بذلك القول، ولعله جمع عظماء القبط في محله الذي هو فيه به أن كشف العذاب فنادى فيما بينهم بذلك لتنتشر مقالته في جميع القبط ويعظم في نفوسهم مخافة أن يؤمنوا بموسى عليه السلام ويتركوه.
ويجوز أن يكون إسناد النداء إليه مجازا والمراد أمر بالنداء بذلك في الأسواق والأزقة ومجامع الناس وهذا كما(13/88)
يقال بنى الأمير المدينة، وَنادى قيل معطوف على فاجأ المقدر ونزل منزلة اللازم وعدي بفي كقوله: يجرح في عراقيبها نصلي. للدلالة على تمكين النداء فيهم، وعنى بملك مصر ضبطها والتصرف فيها بالحكم ولم يرد مصر نفسها بل هي وما يتبعها وذلك من اسكندرية إلى أسوان كما في البحر، والأنهار الخلجان التي تخرج من النيل المبارك كنهر الملك. ونهر دمياط. ونهر تنيس ولعل نهر طوطون كان منها إذ ذاك لكنه اندرس فجدده أحمد بن طولون ملك مصر في الإسلام وأراد بقوله مِنْ تَحْتِي
من تحت أمري.
وقال غير واحد كانت أنهار تخرج من النيل وتجري من تحت قصره وهو مشرف عليها، وقيل: كان له سرير عظيم مرتفع تجري من تحته أنهار أخرجها من النيل، وقال قتادة: كانت له جنان وبساتين بين يديه تجري فيها الأنهار، وفسر الضحاك الأنهار بالقواد والرؤساء الجبابرة، ومعنى كونهم يجرون من تحته أنهم يسيرون تحت لوائه ويأتمرون بأمره، وقد أبعد جدا وكذا من فسرها بالأموال ومن فسرها بالخيل وقال: كما يسمى الفرس بحرا يسمى نهرا بل التفاسير الثلاثة تقرب من تفاسير الباطنية فلا ينبغي أن يلتفت إليها، والواو في وَهذِهِ إلخ إما عاطفة لهذه الأنهار على الملك فجملة تجري حال منها أو للحال فهذه مبتدأ والْأَنْهارُ صفة أو عطف بيان وجملة تَجْرِي خبر للمبتدأ وجملة هذه إلخ حال من ضمير التكلم، وجوز أن تكون للعطف وهذِهِ تَجْرِي مبتدأ وخبر والجملة عطف على اسم وخبرها، وقوله: أَفَلا تُبْصِرُونَ على تقدير المفعول أي أفلا تبصرون ذلك أي ما ذكر، ويجوز أن ينزل منزلة اللازم والمعنى أليس لكم بصر أو بصيرة، وقرأ عيسى «تبصرون» بكسر النون فتكون الياء الواقعة مفعولا محذوفة، وقرأ فهد بن الصقر «يبصرون» بياء الغيبة ذكره في الكامل للهزلي والساجي عن يعقوب ذكره ابن خالويه، ولا يخفى ما بين افتخار اللعين بملك مصر ودعواه الربوبية من البعد البعيد، وعن الرشيد أنه لما قرأ هذه الآية قال لأولينها- يعني مصر- أخس عبيدي فولاها الخطيب وكان على وضوئه، وعن عبد الله بن طاهر أنه وليها فخرج إليها فلما شارفها ووقع عليها بصره قال: هي القرية التي افتخر بها فرعون حتى قال: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ والله لهي أقل عندي من أن أدخلها فثنى عنانه أَمْ أَنَا خَيْرٌ مع هذه البسطة والسعة في الملك والمال مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ أي ضعيف حقير أو مبتذل ذليل فهو من المهانة وهي القلة أو الذلة وَلا يَكادُ يُبِينُ أي الكلام، والجمهور أنه عليه السلام كان بلسانه بعض شيء من أثر الجمرة لكن اللعين بالغ.
ومن ذهب إلى أن الله تعالى كان أجاب سؤاله حل عقدة من لسانه فلم يبق فيه منها أثر قال: المعنى ولا يكاد يبين حجته الدالة على صدقه فيما يدعى لا أنه لا قدرة له على الإفصاح باللفظ وهو افتراء عليه السلام ألا ترى إلى مناظرته له ورده عليه وإفحامه إياه، وقيل: عابه بما كان به عليه السلام من الحبسة أيام كان عنده وأراد اللعين أنه عليه السلام ليس معه من العدد وآلات الملك والسياسة ما يعتضد به وهو في نفسه مخل بما ينعت به الرجال من اللسان وإبانة الكلام، وأَمْ على ما نقل عن سيبويه والخليل متصلة، وقد نزل السبب بعدها منزلة المسبب على ما ذهب إليه الزمخشري، والمعنى أفلا تبصرون أم تبصرون إلا أنه وضع أَمْ أَنَا خَيْرٌ موضع أم تبصرون.
وإيضاح ذلك أن فرعون عليه اللعنة لما قدم أسباب البسطة والرياسة بقوله أَلَيْسَ لِي إلخ وعقبه بقوله أفلا تبصرون استقصارا لهم وتنبيها على أنه من الوضوح بمكان لا يخفى على ذي عينين قال في مقابله: أَمْ أَنَا خَيْرٌ بمعنى أم تبصرون أني أنا المقدم المتبوع، وفي العدول تنبيه على أن هذا الشق هو المسلم لا محالة عندكم فكأنه يحكيه عن لسانهم بعد ما أبصروا وهو أسلوب عجيب وفن غريب، وجعله الزمخشري من إنزال السبب مكان المسبب لأن كونه خيرا في نفسه أن محصلا له أسباب التقدم والملك سبب لأن يقال فيه أنت خير منه وقولهم: أنت خير سبب(13/89)
لكونهم بصراء وسبب السبب قد يقال له سبب فلا يرد ما يقال إن السبب قولهم: أنت خير لا قوله: أنا خير، وقال القاضي البيضاوي: إنه من إنزال المسبب منزلة السبب لأن علمهم بأنه خبر مستفاد من الابصار. وفيه أن المذكور أنا خير لا أم تعلمون أني خير، وله أن يقول: ذلك يغني غناه لأنه جعله مسلما معلوما ما عندهم فقال: أَمْ أَنَا خَيْرٌ لا أم تعلمون كما سلف، ولا يخفى أن ما ذكره الزمخشري أظهر كذا في الكشف، وقال العلامة الثاني في تقرير ذلك: إن قوله: أنا خير سبب لقولهم من جهة بعثه على النظر في أحواله واستعداده لما ادعاه وقولهم: أنت خير سبب لكونهم بصراء عنده فأنا خير سبب له بالواسطة لكن لا يخفى أنه سبب للعلم بذلك والحكم به، وأما بحسب الوجود فالأمر بالعكس لأن إبصارهم سبب لقوله أنت خير فتأمل، وبالجملة إن ما بعد أَمْ مؤول بجملة فعلية معلولة لفظا ومعنى هي ما سمعت ونحو ذلك من حيث التأويل أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ [الأعراف: 123] أي أم صمتم، وقوله:
أمخدج اليدين أم أتمت أي أم متما، وقيل: حذف المعادل لدلالة المعنى عليه، والتقدير أفلا تبصرون أم تبصرون أنا خير إلخ، وتعقب بأن هذا لا يجوز إلا إذا كان بعد أم لا نحو أيقوم زيد أم لا أي أم لا يقوم فأما حذفه دون لا فليس من كلامهم، وجوز أن يكون في الكلام طي على نهج الاحتباك والمعنى أهو خير مني فلا تبصرون ما ذكرتكم به أم أنا خير منه لأنكم تبصرونه، ولا ينبغي الالتفات إليه، وجوز غير واحد كون أَمْ منقطعة مقدرة بيل والهمزة التي للتقرير كأن اللعين قال أثر ما عدد أسباب فضله ومبادي خيريته: أثبت عندكم واستقر لديكم أني خير وهذه حالي من هذا إلخ، ورجحه بعضهم لما فيه من عدم التكلف في أمر المعادل اللازم أولا لحسن في المتصلة، وقال السدي. وأبو عبيدة: أم بمعنى بل فيكون قد انتقل من ذلك الكلام إلى إخباره بأنه خير كقول الشاعر:
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ... وصورتها أم أنت في العين أملح
وقال أبو البقاء: إنها منقطعة لفظا متصلة وأراد ما تقدم من التأويل، وليس فيه مخالفة لما أجمع عليه النحاة كما توهم، وجملة «لا يكاد يبين» معطوفة على الصلة أو مستأنفة أو حالية. وقرىء «أما أنا خير» بإدخال الهمزة على ما النافية، وقرأ الباقر رضي الله تعالى عنه «يبين» بفتح الياء من بان إذا ظهر فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ كناية عن تمليكه، قال مجاهد: كانوا إذا سودوا رجلا سوروه بسوارين وطوقوه بطوق ذهب علامة لسؤدده، فقال فرعون هلا ألقى رب موسى عليه أساور من ذهب إن كان صادقا، وهذا من اللعين لزعمه أن الرياسة من لوازم الرسالة كما قال كفار قريش في عظيم القريتين، والأسورة جمع سوار نحو خمار وأخمرة، وقرأ الأعمش «أساور» ورويت عن أبي، وعن أبي عمرو جمع اسورة فهو جمع الجمع، وقرأ الجمهور «أساورة» جمع أسوار بمعنى السوار والهاء عوض من ياء أساوير فإنها تكون في الجمع المحذوف مدته للعوض عنها كما في زنادقة جمع زنديق.
وقد قرأ «أساوير» عبد الله وأبي في الرواية المشهورة، وقرأ الضحاك ألقى مبنيا للفاعل أي الله تعالى أساورة بالنصب أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ من قرنته به فاقترن، وفسر بمقرونين أي به لأنه لازم معناه بناء على هذا، وفسر أيضا بمتقارنين من اقترن بمعنى تقارن والاقتران مجاز أو كناية عن الإعانة.
ولذا قال ابن عباس: يعينونه على من خالفه، وقيل: عن التصديق ولولا ذلك لم يكن لذكره بعد قوله معه فائدة، وهو الأول حسي وعلى الثاني معنوي، وقيل: متقارنين بمعنى مجتمعين كثيرين، وعن قتادة متتابعين.
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فطلب منهم الخفة في مطاوعته على أن السين للطلب على حقيقتها، ومعنى الخفة السرعة(13/90)
لإجابته ومتابعته كما يقال هم خفوف إذا دعوا وهو مجاز مشهور وقال ابن الأعرابي استخف أحلامهم أي وجدهم خفيفة أحلامهم أي قليلة عقولهم فصيغة الاستفعال للوجدان كالأفعال كما يقال أحمدته وجدته محمودا وفي نسبته ذلك للقوم تجوز.
فَأَطاعُوهُ فيما أمرهم به إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ فلذلك سارعوا إلى طاعة ذلك الفاسق الغوي فَلَمَّا آسَفُونا أي أسخطونا كما قال علي كرم الله تعالى وجهه. وفي معناه ما قيل أي أغضبونا أشد الغضب أي بأعمالهم.
والغضب عند الخلف مجاز عن إرادة العقوبة فيكون صفة ذات أو عن العقوبة فيكون صفة فعل.
وقال أبو عبد الله الرضا رضي الله تعالى عنه: إن الله سبحانه لا يأسف كأسفنا ولكن له جل شأنه أولياء يأسفون ويرضون فجعل سبحانه رضاهم رضاه وغضبهم غضبه تعالى، وعلى ذلك
قال عز وجل: «من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة»
وقال سبحانه: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: 80] وعليه قيل: المعنى فلما أسفوا موسى عليه السلام ومن معه، والسلف لا يؤولون ويقولون: الغضب فينا انفعال نفساني وصفاته سبحانه ليست كصفاتنا بوجه من الوجوه، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير الأسف بالحزن وأنه قال هنا: أي أحزنوا أولياءنا المؤمنين نحو السحرة وبني إسرائيل.
وذكر الراغب أن الأسف الحزن والغضب معا وقد يقال لكل منهما على الانفراد، وحقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام فمتى كان ذلك على من دونه انتشر فصار غضبا ومتى كان على من فوقه انقبض فصار حزنا، ولذلك سئل ابن عباس عنهما فقال: مخرجهما واحد واللفظ مختلف فمن نازع من يقوى عليه أظهره غيظا وغضبا ومن نازع من لا يقوى عليه أظهره حزنا وجزعا، وبهذا النظر قال الشاعر:
فحزن كل أخي حزن أخو الغضب انتهى، وعلى جميع الأقوال آسف منقول بالهمزة من أسف.
انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ في اليم فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً قال ابن عباس وزيد بن أسلم. وقتادة أي متقدمين إلى النار.
وقال غير واحد: قدوة للكفار الذين بعدهم يقتدون بهم في استيجاب مثل عقابهم ونزوله بهم، والكلام على الاستعارة لأن الخلف يقتدي بالسلف فلما اقتدوا بهم في الكفر جعلوا كأنهم اقتدوا بهم في معلول الغضب وهو مصدر نعت به ولذا يصح إطلاقه على القليل والكثير، وقيل: جمع سالف كحارس وحرس وخادم وخدم وهذا يحتمل أن يراد بالجمع فيه ظاهره ويحتمل أن يراد به اسم الجمع فإن فعلا ليس من أبنية الجموع لغلبته في المفردات، والمشهور في جمعه أسلاف وجاء سلاف أيضا.
وقرأ أبو عبد الله وأصحابه وسعيد بن عياض والأعمش والأعرج وطلحة وحمزة والكسائي «سلفا» بضمتين جمع سليف كفريق لفظا ومعنى، سمع القاسم بن معن العرب تقول: مضى سليف من الناس يعنون فريقا، منهم وقيل: جمع سلف كصبر جمع صابر أو جمع سلف كجنب.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه ومجاهد والأعرج أيضا «سلفا» بضم
ففتح إما على أنه أبدلت فيه ضمة اللام فتحة تخفيفا كما يقال في جدد بضم الدال جدد بفتحها أو على أنه جمع سلفة بمعنى الأمة والجماعة من الناس أي فجعلناهم أمة سلفت، والسلف بالضم فالفتح في غير هذا ولد القبج والجمع سلفان كصردان ويضم.(13/91)
وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ أي عظة لهم، والمراد بهم الكفار بعدهم، والجار متعلق على التنازع بسلفا ومثلا، ويجوز أن يراد بالمثل القصة العجيبة التي تسير مسير الأمثال ومعنى كونهم مثلا للكفار أن يقال لهم: مثلكم مثل قوم فرعون، ويجوز تعلق الجار بالثاني وتعميم الآخرين بحيث يشمل المؤمنين، وكونهم قصة عجيبة للجميع ظاهر وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إلخ بيان لعناد قريش بالباطل والرد عليهم، فقد روي أن عبد الله بن الزبعري قبل إسلامه، قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم وقد سمعه يقول: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] أليست النصارى يعبدون المسيح وأنت تقول كان نبيا وعبدا من عباد الله تعالى صالحا فإن كان في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معه ففرح قريش وضحكوا وارتفعت أصواتهم وذلك قوله تعالى: إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ فالمعنى ولما ضرب ابن الزبعرى عيسى ابن مريم مثلا وحاجك بعبادة النصارى إياه إذا قومك من ذلك ولأجله يرتفع لهم جلبة وضجيج فرحا وجدلا، والحجة لما كانت تسير مسير الأمثال شهرة قيل لها مثل أو المثل بمعنى المثال أي جعله مقياسا وشاهدا على إبطال قوله عليه الصلاة والسلام: إن آلهتهم من حصب جهنم، وجعل عيسى عليه السلام نفسه مثلا من باب «الحج عرفة» .
وقرأ أبو جعفر والأعرج والنخعي وأبو رجاء وابن وثاب وابن عامر ونافع والكسائي
«يصدّون» بضم الصاد من الصدود، وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه
، وأنكر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذه القراءة وهو قبل بلوغه تواترها، والمعنى عليها إذا قومك من أجل ذلك يعرضون عن الحق بالجدل بحجة داحضة واهية، وقيل: المراد يثبتون على ما كانوا عليه من الإعراض.
وقال الكسائي والفراء: يصدون بالكسر ويصدون بالضم لغتان بمعنى واحد مثل يعرشون ويعرشون ومعناهما يضجون، وجوز أن يكون يعرضون وَقالُوا تمهيدا لما بنوا عليه من الباطل المموه بما يغتر به السفهاء أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ أي ظاهر عندك أن عيسى عليه السلام خير من آلهتنا فحيث كان هو في النار فلا بأس بكونها وإيانا فيها، وحقق الكوفيون الهمزتين همزة الاستفهام والهمزة الأصلية وسهل باقي السبعة الثانية بين بين، وقرأ ورش في رواية أبي الأزهر بهمزة واحدة على مثال الخبر، والظاهر أنه على حذف همزة الاستفهام، وقوله تعالى: ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إبطال لباطلهم إجمالا اكتفاء بما فصل في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ [الأنبياء: 101] وتنبيها على أنه مما لا يذهب على ذي مسكة بطلانه فكيف على غيره ولكن العناد يعمي ويصم أي ما ضربوا لك ذلك إلا لأجل الجدال والخصام لا لطلب الحق فإنه في غاية البطلان بل هم قوم لد شداد الخصومة مجبولون على المحك أي سؤال الخلق واللجاج، فجدلا منتصب على أنه مفعول لأجله، وقيل: هو مصدر في موضع الحال أي مجادلين، وقرأ ابن مقسم «جدالا» بكسر الجيم وألف بعد الدال، وقوله تعالى: إِنْ هُوَ أي ما عيسى ابن مريم إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ بالنبوة وروادفها فهو مرفوع المنزلة على القدر لكن ليس له من استحقاق المعبودية من نصيب، كلام حكيم مشتمل على ما اشتمل عليه قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ ولكن على سبيل الرمز وعلى فساد رأي النصارى في إيثارهم عبادته عليه السلام تعريضا بمكان عبادة قريش غيره سبحانه وتعالى، وقوله تعالى: وَجَعَلْناهُ مَثَلًا أي أمرا عجيبا حقيقا بأن يسير ذكره كالأمثال السائرة لِبَنِي إِسْرائِيلَ حيث خلقناه من غير أب وجعلنا له من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ونحو ذلك ما لم نجعل لغيره في زمانه، كلام أجمل فيه وجه الافتتان به وعليه، ووجه دلالته على قدرة خالقه تعالى شأنه وبعد استحقاقه عليه السلام عما قرف به إفراطا وتفريطا، وقوله سبحانه: وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا إلخ تذييل لوجه دلالته على القدرة وأن الافتتان من عدم التأمل وتضمين للإنكار على من اتخذ الملائكة آلهة كما اتخذ عيسى عليهم السلام أي ولو نشاء لقدرتنا على عجائب الأمور وبدائع الفطر لجعلنا بطريق التوليد ومآله لولدنا(13/92)
مِنْكُمْ يا رجال مَلائِكَةً كما ولدنا عيسى من غير أب فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ أي يخلفونكم في الأرض كما يخلفكم أولادكم أو يكونون خلفا ونسلا لكم ليعرف تميزنا بالقدرة الباهرة وليعلم أن الملائكة ذوات ممكنة تخلق توليدا كما تخلق إبداعا فمن أين لهم استحقاق الألوهية والانتساب إليه سبحانه وتعالى بالبنوة، وجوز أن يكون معنى لجعلنا إلخ لحولنا بعضكم ملائكة فمن ابتدائية أو تبعيضية ومَلائِكَةً مفعول ثان أو حال، وقيل: من للبدل كما في قوله تعالى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ [التوبة: 38] وقوله:
ولم تذق من البقول الفستقا أي ولو نشاء لجعلنا بدلكم ملائكة يكونون مكانكم بعد إذهابكم، وإليه يشير كلام قتادة ومجاهد، والمراد بيان كمال قدرته تعالى لا التوعد بالاستئصال وإن تضمنه فإنه غير ملائم للمقام، وقيل: لا مانع من قصدهما معا نعم كثير من النحويين لا يثبتون لمن معنى البدلية ويتأولون ما ورد مما يوهم ذلك والأظهر ما قرر أولا.
وذكر العلامة الطيبي عليه الرحمة أن قوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ إلخ جواب عن جدل الكفرة في قوله سبحانه: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ إلخ وإن تقريره ان جدلكم هذا باطل لأنه عليه السلام ما دخل في ذلك النص الصريح لأن الكلام معكم أيها المشركون وأنتم المخاطبون به وإنما المراد بما تعبدون الأصنام التي تنحتونها بأيديكم وأما عيسى عليه السلام فما هو إلا عبد مكرم منعم عليه بالنبوة مرفوع المنزلة والذكر مشهور في بني إسرائيل كالمثل السائر فمن أين تدخل في قولنا: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ثم لا اعتراض علينا أن نجعل قوما أهلا للنار وآخرين أهلا للجنة إذ لو نشاء لجعلنا منكم ومن أنفسكم أيها الكفرة ملائكة أي عبيدا مكرمون مهتدون وإلى الجنة صائرون كقوله تعالى: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها [السجدة: 13] اهـ.
وعلى ما ذكرنا أن الكلام في إبطال قد تم عند قوله تعالى: خَصِمُونَ وما بعد لما سمعت قبل وهو أدق وأولى مما ذكره بل ما أشار إليه من أن قوله تعالى: وَلَوْ نَشاءُ إلخ لنفي الاعتراض ليس بشيء.
وروي أن ابن الزبعرى قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم حين سمع قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] أهذا لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم فقال: خصمتك ورب الكعبة أليست النصارى يعبدون المسيح، واليهود عزيرا، وبنو مليح الملائكة؟ فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ففرحوا وضحكوا وسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ [الأنبياء: 101] الآية أو نزلت هذه الآية
، وأنكر بعضهم السكوت،
وذكر أن ابن الزبعرى حين قال للنبي عليه الصلاة والسلام: خصمتك رد عليه صلّى الله عليه وسلّم بقوله ما أجهلك بلغة قومك أما فهمت أن ما لما يعقل
،
وروى محيي السنة في المعالم أن ابن الزبعرى قال له عليه الصلاة والسلام: أنت قلت: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ؟ قال: نعم قال: أليست اليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد المسيح وبنو مليح يعبدون الملائكة؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: بل هم يعبدون الشيطان فأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى
وهذا أثبت من الخبر الذي قبله. وتعقب ما تقدم في الخبر السابق من سؤال ابن الزبعرى أهذا لنا إلخ، وقوله عليه الصلاة والسلام: هو لكم إلخ بأنه ليس بثبت.
وذكر من أثبته أنه صلّى الله عليه وسلّم إنما لم يجب حين سئل عن الخصوص والعموم بالخصوص عملا بما تقتضيه كلمة ما لأن إخراج المعهودين عن الحكم عند المحاجة وهم للرخصة في عبادتهم في الجملة فعممه عليه الصلاة والسلام للكل لكن لا بطريق عبارة النص بل بطريق الدلالة بجامع الاشتراك في المعبودية من دون الله تعالى ثم بين أنهم بمعزل من أن يكونوا معبوديهم بما جاء في خبر محيي السنة من قوله عليه الصلاة والسلام: بل هم يعبدون الشيطان كما(13/93)
نطق به قوله تعالى: سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ [سبأ: 41] الآية، وقد تقدم ما ينفعك تذكره فتذكر.
وفي الدر المنثور أخرج الإمام أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لقريش: إنه ليس أحد يعبد من دون الله تعالى فيه خير فقالوا: ألست تزعم أن عيسى كان نبيا وعبدا من عبد الله تعالى صالحا فإن كنت صادقا فإنه كآلهتنا فأنزل الله سبحانه: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا
إلخ، والكلام في الآيات على هذه الرواية يعلم مما تقدم بأدنى التفات، وقيل: إن المشركين لما سمعوا قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آل عمران: 59] قالوا: نحن أهدى من النصارى لأنهم عبدوا آدميا ونحن نعبد الملائكة فنزلت، فالمثل ما في قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى الآية والضارب هو تعالى شأنه أي ولما بين الله سبحانه حاله العجيبة اتخذه قومك ذريعة إلى ترويج ما هم فيه من الباطل بأنه مع كونه مخلوقا بشرا قد عبد فنحن أهدى حيث عبدنا ملائكة مطهرين مكرمين عليه وهو الذي عنوه بقولهم: أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ فأبطل الله تعالى ذلك بأنه مقايسة باطل بباطل وأنهم في اتخاذهم العبد المنعم عليه إلها مبطلون مثلكم في اتخاذ الملائكة وهم عباد مكرمون، ثم قال سبحانه: وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ دلالة على أن الملائكة عليهم السلام مخلوقون مثله وأنه سبحانه قادر على أعجب من خلق عيسى عليه السلام وأنه لا فرق في ذلك بين المخلوق توالدا وإبداعا فلا يصلح القسمان للإلهية. وفي رواية عن ابن عباس وقتادة أنه لما نزل قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى الآية قالت قريش: ما أراد محمد صلّى الله عليه وسلّم من ذكر عيسى عليه السلام إلا أن نعبده كما عبدت النصارى عيسى.
ومعنى يصدون يضجون ويضجرون، والضمير في أَمْ هُوَ لنبينا عليه الصلاة والسلام، وغرضهم بالموازنة بينه صلّى الله عليه وسلّم وبين آلهتهم الاستهزاء به عليه الصلاة والسلام، وقوله تعالى: وَلَوْ نَشاءُ إلخ رد وتكذيب لهم في افترائهم عليه صلّى الله عليه وسلّم ببيان أن عيسى عليه السلام في الحقيقة وفيما أوحى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ليس إلا أنه عبد منعم عليه كما ذكر فكيف يرضى صلّى الله عليه وسلّم بمعبوديته أو كيف يتوهم الرضا بمعبودية نفسه ثم بين جل شأنه أن مثل عيسى ليس ببدع من قدرة الله تعالى وأنه قادر على أبدع منه وأبدع مع التنبيه على سقوط الملائكة عليهم السلام أيضا عن درجة المعبودية بقوله سبحانه: وَلَوْ نَشاءُ إلخ وفيه أن الدلالة على ذلك المعنى غير واضحة، وكذلك رجوع الضمير إلى نبينا عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى: أَمْ هُوَ مع رجوعه إلى عيسى في قوله سبحانه: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ وفيه من فك النظم ما يجب أن يصان الكتاب المعجز عنه، ولا يكاد يقبل القول برجوع الضمير الثاني إليه صلّى الله عليه وسلّم، ولعل الرواية عن الخبر غير ثابتة، وجوز أن يكون مرادهم التنصل عما أنكر عليهم من قولهم: الملائكة عليهم السلام بنات الله سبحانه ومن عبادتهم إياهم كأنهم قالوا: ما قلنا بدعا من القول ولا فعلنا منكرا من الفعل فإن النصارى جعلوا المسيح ابن الله عز وجل فنحن أشف منهم قولا وفعلا حيث نسبنا إليه تعالى الملائكة عليهم السلام وهم نسبوا إليه الأناسي، وقوله تعالى: وَلَوْ نَشاءُ إلخ عليه كما في الوجه الثاني وَإِنَّهُ أي عيسى عليه السلام لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ أي إنه بنزوله شرط من أشراطها أو بحدوثه بغير أب أو بإحيائه الموتى دليل على صحة البعث الذي هو معظم ما ينكره الكفرة من الأمور الواقعة في الساعة، وأيا ما كان فعلم الساعة مجاز عما تعلم به والتعبير به للمبالغة.
وقرأ أبي «لذكر» وهو مجاز كذلك.
وقرأ ابن عباس وأبو هريرة وأبو مالك الغفاري وزيد بن علي وقتادة ومجاهد والضحاك ومالك بن دينار والأعمش والكلبي قال ابن عطية وأبو نصرة «لعلم» بفتح العين واللام أي لعلامة.
وقرأ عكرمة قال ابن خالويه وأبو نصرة «لا لعلم» معرفا بفتحتين والحصر إضافي، وقيل: باعتبار أنه أعظم(13/94)
العلامات، وقد نطقت الأخبار بنزوله عليه السلام
فقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينزلن ابن مريم حكما عدلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية وليتركن القلاص فلا يسقى عليها وليذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد»
،
وفي رواية «وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ينزل بين ممصرتين كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل فليقاتل الناس على الإسلام»
وفيه «ويهلك المسيح الدجال»
وفي أخرى قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم» وفي رواية «فأمكم منكم»
قال ابن أبي ذئب: تدري ما أمكم منكم؟ قال: تخبرني قال: فأمكم بكتاب ربكم عز وجل وسنة نبيكم صلّى الله عليه وسلّم، والمشهور نزوله عليه السلام بدمشق والناس في صلاة الصبح فيتأخر الإمام وهو المهدي فيقدمه عيسى عليه السلام ويصلي خلفه ويقول: إنما أقيمت لك.
وقيل بل يتقدم هو ويؤم الناس والأكثرون على اقتدائه بالمهدي في تلك الصلاة دفعا لتوهم نزوله ناسخا وأما في غيرها فيؤم هو الناس لأنه الأفضل والشيعة تأبى ذلك.
وفي بعض الروايات أنه عليه السلام ينزل على ثنية يقال لها أفيق بفاء وقاف بوزن أمير وهي هنا مكان بالقدس الشريف نفسه ويمكث في الأرض على ما جاء في رواية عن ابن عباس أربعين سنة وفي رواية سبع سنين قيل والأربعون إنما هي مدة مكثه قبل الرفع وبعده ثم يموت ويدفن في الحجرة الشريفة النبوية، وتمام الكلام في البحور الزاخرة للسفاريني، وعن الحسن وقتادة وابن جبير أن ضمير إِنَّهُ للقرآن لما أن فيه الإعلام بالساعة فجعله عين العلم مبالغة أيضا، وضعف بأنه لم يجر للقرآن ذكر هنا مع عدم مناسبة ذلك للسياق،
وقالت فرقة: يعود على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقد قال عليه الصلاة والسلام: «بعثت أنا والساعة كهاتين»
وفيه من البعد ما فيه.
وكأن هؤلاء يجعلون ضمير أَمْ هُوَ وضمير إِنْ هُوَ له صلّى الله عليه وسلّم أيضا وهو كما ترى فَلا تَمْتَرُنَّ بِها فلا تشكن في وقوعها وَاتَّبِعُونِ أي واتبعوا هداي أو شرعي أو رسولي، وقيل: هو قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم مأمورا من جهته عز وجل فهو بتقدير القول أي وقل اتبعوني هذا أي الذي أدعوكم إليه أو القرآن على أن الضمير في «إنه» له صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ موصل إلى الحق وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ عن اتباعي إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ أي بين العداوة أو مظهرها حيث أخرج أباكم من الجنة وعرضكم للبلية وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ بالأمور الواضحات وهي المعجزات أو آيات الإنجيل أو الشرائع ولا مانع من إرادة الجميع قالَ لبني إسرائيل قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ أي الإنجيل كما قال القشيري: والماوردي، وقال السدي. بالنبوة، وفي رواية أخرى عنه هي قضايا يحكم بها العقل، وقال أبو حيان. أي بما تقتضيه الحكمة الإلهية من الشرائع، وقال الضحاك: أي بالموعظة وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ متعلق بمقدر أي وجئتكم لأبين لكم، ولم يترك العاطف ليتعلق بما قبله ليؤذن بالاهتمام بالعلة حيث جعلت كأنها كلام برأسه. وفي الإرشاد هو عطف على مقدر ينبىء عنه المجيء بالحكمة كأنه قيل قد جئتكم بالحكمة لأعلمكم إياها ولأبين لكم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ وهو أمر الديانات وما يتعلق بالتكليف دون الأمور التي لم يتعبدوا بمعرفتها ككيفية نضد الأفلاك وأسباب اختلاف تشكلات القمر مثلا فإن الأنبياء عليهم السلام لم يبعثوا لبيان ما يختلف فيه من ذلك ومثلها ما يتعلق بأمر الدنيا ككيفية الزراعة وما يصلح الزرع وما يفسده مثلا فإن الأنبياء عليهم السلام لم يبعثوا لبيانه أيضا كما يشير إليه
قوله صلّى الله عليه وسلّم في قصة تأبير النخل «أنتم أعلم بأمور دنياكم» .
وجوز أن يراد بهذا البعض بعض أمور الدين المكلف بها وأريد بالبيان البيان على سبيل التفصيل وهي لا يمكن بيان جميعها تفصيلا وبعضها مفوض للاجتهاد، وقال أبو عبيدة: المراد بعض الذي حرم عليهم وقد أحل عليهم السلام(13/95)
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
لهم لحوم الإبل والشحم من كل حيوان وصيد السمك يوم السبت، وقال مجاهد: بعض الذي يختلفون فيه من تبديل التوراة، وقال قتادة: لأبين لكم اختلاف الذين تحزبوا في أمره عليه السلام فَاتَّقُوا اللَّهَ من مخالفتي وَأَطِيعُونِ فيما أبلغه عنه تعالى إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ بيان لما أمرهم بالطاعة فيه وهو اعتقاد التوحيد والتعبد بالشرائع هذا أي هذا التوحيد والتعبد بالشرائع صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ لا يضل سالكه، وهو إما من تتمة كلام عيسى عليه السلام أو استئناف من الله تعالى مقرر لمقالة عيسى عليه السلام.
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ الفرق المتحزبة مِنْ بَيْنِهِمْ من بين من بعث إليهم وخاطبهم بما خاطبهم من اليهود والنصارى وهم أمة دعوته عليه السلام، وقيل: المراد النصارى وهم أمة إجابته عليه السلام، وقد اختلفوا فرقا ملكانية ونسطورية ويعقوبية فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا من المختلفين وهم الذين لم يقولوا: إنه عبد الله ورسوله مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ هو يوم القيامة وأليم صفة عذاب أو يوم على الإسناد المجازي.
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ الضمير لقريش، وأن تأتيهم بدل من الساعة، والاستثناء مفرغ، وجوز جعل إلا بمعنى غير والاستفهام للإنكار وينظرون بمعنى ينتظرون أي ما ينتظرون شيئا إلا إتيان الساعة فجأة وهم غافلون عنها، وفي ذلك تهكم بهم حيث جعل إتيان الساعة كالمنتظر الذي لا بد من وقوعه.(13/96)
ولما جاز اجتماع الفجأة والشعور وجب أن يقيد ذلك بقوله سبحانه: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ لعدم إغناء الأول عنه فلا استدراك، وقيل: يجوز أن يراد بلا يشعرون الإثبات لأن الكلام وارد على الإنكار كأنه قيل: هل يزعمون أنها تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون أي لا يكون ذلك بل تأتيهم وهم فطنون، وفيه ما فيه، وقيل: ضمير يَنْظُرُونَ للذين ظلموا، وقيل: للناس مطلقا وأيد بما
أخرجه ابن مردويه عن أبي سعيد قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: تقوم الساعة والرجلان يحلبان النعجة والرجلان يطويان الثوب ثم قرأ عليه الصلاة والسلام هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ
الظرف متعلق بعدو والفصل لا يضره، والمراد أن المحبات تنقطع يوم إذ تأتيهم الساعة ولا يبقى إلا محبة المتقين وهم المتصادقون في الله عن وجل لما أنهم يرون ثواب التحاب في الله عن وجل لما أنهم يرون ثواب التحاب في الله تعالى، واعتبار الانقطاع لأن الخل حال كونه خلّا محال أن يصير عدوا.
وقيل: المعنى الأخلاء تنقطع خلتهم ذلك اليوم إلا المجتنبين أخلاء السوء، والفرق بين الوجهين أن المتقي في الأول هو المحب لصاحبه في الله تعالى فاتقى الحب أن يشوبه غرض غير إلهي، وفي الثاني هو من اتقى صحبة الأشرار.
والاستثناء فيهما متصل، وجوز أن يكون يومئذ متعلقا بالأخلاء والمراد به في الدنيا ومتعلق عدو مقدر أي في الآخرة والآية قيل نزلت في أبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ حكاية لما ينادى به المتقون المتحابون في الله تعالى يومئذ فهو بتقدير قول أي فيقال لهم يا عبادي إلخ أو فأقول: لهم بناء على أن المنادي هو الله عز وجل تشريفا لهم، وعن المعتمر بن سليمان أن الناس حين يبعثون ليس منهم أحدا لا يفزع فينادي مناد يا عباد إلخ فيرجوها الناس كلهم فيتبعها قوله تعالى الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ فييأس منها الكفار، فيا عباد عام مخصوص إما بالآية السابقة وإما باللاحقة، والأول أوفق من أوجه عديدة.
والموصول إما صفة للمنادى أو بدل أو مفعول لمقدر أي أمدح ونحوه، وجملة وَكانُوا مُسْلِمِينَ حال من ضمير آمَنُوا بتقدير قد أو بدونه، وجوز عطفها على الصلة، ورجحت الحالية بأن الكلام عليها أبلغ لأن المراد بالإسلام هنا الانقياد والإخلاص ليفيد ذكره بعد الإيمان فإذا جعل حالا أفاد بعد تلبسهم به في الماضي اتصاله بزمان الإيمان، وكان تدل على الاستمرار أيضا ومن هنا جاء التأكيد والأبلغية بخلاف العطف، وكذا الحال المفردة بأن يقال:
الذين آمنوا بآياتنا مخلصين، وقرأ غير واحد من السبعة «يا عبادي» بالياء على الأصل، والحذف كثير شائع وبه قرأ حفص وحمزة والكسائي، وقرأ ابن محيصن «لا خوف» بالرفع من غير تنوين، والحسن والزهري وابن أبي إسحاق وعيسى وابن يعمر ويعقوب بفتحها من غير تنوين ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ نساؤكم المؤمنات فالإضافة للاختصاص التام فيخرج من لم يؤمن منهن تُحْبَرُونَ تسرون سرورا يظهر حباره أي أثره من النضرة والحسن على وجوهكم كقوله تعالى: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين: 24] أو تزينون من الحبر بفتح الحاء وكسرها وهو الزينة وحسن الهيئة وهذا متحد بما قبله معنى والفرق في المشتق منه، وقال الزجاج: أي تكرمون إكراما يبالغ فيه، والحبرة بالفتح المبالغة في الفعل الموصوف بأنه جميل ومنه الإكرام فهو في الأصل عام أريد به بعض أفراده هنا يُطافُ عَلَيْهِمْ بعد دخولهم الجنة حيثما أمروا به بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ كذلك، والصحاف جمع صحفة قيل هي كالقصعة، وقيل: أعظم أواني الأكل الجفنة ثم القصعة ثم الصحفة ثم الكيلة.
والأكواب جمع كوب وهو كوز لا عروة له، وهذا معنى قول مجاهد لا أذن له، وهو على ما روي عن قتادة دون الإبريق، وقال: بلغنا أنه مدور الرأس ولما كانت أواني المأكول أكثر بالنسبة لأواني المشروب عادة جمع الأول جمع(13/97)
كثرة والثاني جمع قلة، وقد تظافرت الأخبار بكثرة الصحاف،
أخرج ابن المبارك وابن أبي الدنيا في صفة الجنة والطبراني في الأوسط بسند رجاله ثقات عن أنس قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إن أسفل أهل الجنة أجمعين درجة لمن يقوم على رأسه عشرة آلاف خادم بيد كل واحد صحفتان واحدة من ذهب والأخرى من فضة في كل واحدة لون ليس في الأخرى مثله يأكل من آخرها مثل ما يأكل من أولها يجد لآخرها من الطيب واللذة مثل الذي يجد لأولها ثم يكون ذلك كرشح المسك الأذفر لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون إخوانا على سرر متقابلين»
وفي حديث رواه عكرمة «إن أدنى أهل الجنة منزلة وأسفلهم درجة لرجل لا يدخل بعده أحد يفسح له في بصره مسيرة عام في قصور من ذهب وخيام من لؤلؤ ليس فيها موضع شبر إلا معمور يغدي عليه كل يوم ويراح بسبعين ألف صحفة في كل صحفة لون ليس في الأخرى مثله شهوته في آخرها كشهوته في أولها لو نزل عليه جميع أهل الأرض لوسع عليهم مما أعطى لا ينقص ذلك مما أوتي شيئا» وروى ابن أبي شيبة هذا العدد عن كعب
أيضا، وإذا كان ذلك للأدنى فما ظنك بالأعلى، رزقنا الله تعالى ما يليق بجوده وكرمه.
وأمال أبو الحرث عن الكسائي كما ذكر ابن خالويه بصحاف وَفِيها أي في الجنة ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ من فنون الملاذ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ أي تستلذ وتقر بمشاهدته، وذكر ذلك الشامل لكل لذة ونعيم بعد ذكر الطواف عليهم بأواني الذهب الذي هو بعض من التنعم والترفه تعميم بعد تخصيص كما أن ذكر لذة العين التي هي جاسوس النفس بعد اشتهاء النفس تخصيص بعد تعميم، وقال بعض الأجلة: إن قوله تعالى: يُطافُ عَلَيْهِمْ بصحاف دل على الأطعمة وَأَكْوابٍ على الأشربة، ولا يبعد أن يحمل قوله سبحانه: وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ على المنكح والملبس وما يتصل بهما ليتكامل جميع المشتهيات النفسانية فبقيت اللذة الكبرى وهي النظر إلى وجه الله تعالى الكريم فكني عنه بقوله عز وجل وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ولهذا
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه النسائي عن أنس: «حبب إليّ الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة»
وقال قيس بن ملوح:
ولقد هممت بقتلها من حبها ... كيما تكون خصيمتي في المحشر
حتى يطول على الصراط وقوفنا ... وتلذ عيني من لذيذ المنظر
ويوافق هذا
قول الإمام جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: شتان بين ما تشتهي الأنفس وبين ما تلذ الأعين
لأن جميع ما في الجنة من النعيم والشهوات في جنب ما تلذ الأعين كأصبع تغمس في البحر لأن شهوات الجنة لها حد ونهاية لأنها مخلوقة ولا تلذ عين في الدار الباقية إلا بالنظر إلى الباقي جل وعز ولا حد لذلك ولا صفة ولا نهاية انتهى، ويعلم مما ذكر أن المعنى على اعتبار وفيها ما تلذ الأعين وعلى ذلك بنى الزمخشري قوله: هذا حصر لأنواع النعم لأنها إما مشتهاة في القلوب أو مستلذة في الأعين، وتعقبه في الكشف فقال: فيه نظر لانتقاضه بمستلذات سائر المشاعر الخمس، فإن قيل: إنها من القسم الأول قلنا: مستلذ العين كذلك فالوجه أنه ذكر تعظيما لنعيمها بأنه مما يتوافق فيه القلب والعين وهو الغاية عندهم في المحبوب لأن العين مقدمة القلب وهذا قول بأنه ليس في الجملة الثانية اعتبار موصول آخر بل هي والجملة قبلها صلتان لموصول واحد وهو المذكور، وما تقدم هو الذي يقتضيه كلام الأكثرين، وحذف الموصول في مثل ذلك شائع، ولا مانع من إدخال النظر إلى وجهه تعالى الكريم فيما تلذ الأعين على ما ذكرناه أولا، و «أل» في الأنفس والأعين للاستغراق على ما قيل، ولا فرق بين جمع القلة والكثرة.
ولعل من يقول: بأن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع ويفرق بين الجمعين في المبدأ والمنتهى يقول:
بأن استغراق جمع القلة أشمل من استغراق جمع الكثرة، وقيل: هي للعهد، وقيل: عوض عن المضاف إليه أي ما(13/98)
تشتهيه أنفسهم وتلذ أعينهم، وجمع النفس والعين الباصرة على أفعل في كلامهم أكثر من جمعهما على غيره بل ليس في القرآن الكريم جمع الباصرة إلا على ذلك، وما أنسب هذا الجمع هنا لمكان الْأَخِلَّاءُ وحمل ما تشتهيه النفس على المنكح والملبس وما يتصل بهما خلاف الظاهر.
وفي الأخبار أيضا ما هو ظاهر في العموم، أخرج ابن أبي شيبة والترمذي وابن مردويه عن بريدة قال: «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: هل في الجنة خيل فإنها تعجبني؟ قال: إن أحببت ذلك أتيت بفرس من ياقوتة حمراء فتطير بك في الجنة حيث شئت، فقال له رجل: إن الإبل تعجبني فهل في الجنة من إبل؟ فقال: يا عبد الله إن أدخلت الجنة فلك فيها ما تشتهي نفسك ولذت عينك»
. وأخرج أيضا نحوه عن عبد الرحمن بن سابط وقال: هو أصح من الأول، وجاء نحوه أيضا في روايات أخر فلا يضره ما قيل من ضعف إسناده، ولا يشكل على العموم أن اللواطة (1) مثلا لا تكون في الجنة لأن ما لا يليق أن يكون فيها لا يشتهى بل قيل في خصوص اللواطة أنه لا يشتهيها في الدنيا الأنفس السليمة.
واختلف الناس هل يكون في الجنة حمل أم لا فذهب بعض إلى الأول،
فقد أخرج الإمام أحمد وهناد والدارمي وعبد بن حميد وابن ماجه وابن حبان والترمذي وحسنه وابن المنذر والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري قال: «قلنا يا رسول الله إن الولد من قرة العين وتمام السرور فهل يولد لأهل الجنة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إن المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة كما يشتهي»
وذهب طاوس وإبراهيم النخعي ومجاهد وعطاء وإسحاق بن إبراهيم إلى الثاني.
فقد روي عن أبي رزين العقيلي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن أهل الجنة لا يكون لهم ولد»
وفي حديث لقيط الطويل الذي رواه عبد الله ابن الإمام أحمد وأبو بكر بن عمرو وأبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم والطبراني وابن حبان ومحمد بن إسحاق ابن منده وابن مردويه وأبو نعيم وجماعة من الحفاظ وتلقاه الأئمة بالقبول وقال فيه ابن منده: لا ينكر هذا الحديث إلا جاحد أو جاهل أو مخالف للكتاب والسنة قلت: «يا رسول الله أو لنا فيها- يعني الجنة- أزواج أو منهن مصلحات؟ قال: المصلحات للمصلحين تلذذونهن ويلذذنكم مثل لذاتكم في الدنيا غير أن لا توالد» .
وقال مجاهد وعطاء قوله تعالى: وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ [البقرة: 25، النساء: 57] أي مطهرة من الولد والحيض والغائط والبول ونحوها، وقال إسحاق بن إبراهيم في حديث أبي سعيد السابق: إنه على معنى إذا اشتهى المؤمن الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة كما يشتهي ولكن لا يشتهي، وتعقب بأن (إذا) لمتحقق الوقوع ولو أريد ما ذكر لقيل: لو اشتهى، وفي حادي الأرواح إسناد حديث أبي سعيد على شرط الصحيح فرجاله يحتج بهم فيه ولكنه غريب جدا.
وقال السفاريني في البحور الزاخرة: حديث أبي سعيد أجود أسانيده إسناد الترمذي وقد حكم عليه بالغرابة وأنه لا يعرف إلا من حديث أبي الصديق التاجي وقد اضطرب لفظه فتارة يروى عنه إذا اشتهى الولد وتارة أنه يشتهي الولد وتارة أن الرجل ليولد له، وإذا قد تستعمل لمجرد التعليق الأعم من المحقق وغيره، ورجح القول بعدم الولادة بعشرة وجوه مذكورة فيها، وأنا أختار القول بالولادة كما نطق بها حديث أبي سعيد وقد قال فيه الأستاذ أبو
__________
(1) وقيل: إن أهل الجنة لا أدبار لهم اهـ منه.(13/99)
سهل فيما نقله الحاكم: إنه لا ينكره إلا أهل الزيغ، وفيه غير إسناد، وليس تكون الولد على الوجه المعهود في الدنيا بل يكون كما نطق به الحديث ومتى كان كذلك فلا يستبعد تكونه من نسيم يخرج وقت الجماع، وزعم أن الولد إنما يخلق من المني فحيث لا مني في الجنة كما جاء في الأخبار لا خلق فيه تعجيز للقدرة، ولا ينافي ذلك ما في حديث لقيط لأن المراد هناك نفي التوالد المعهود في الدنيا كما يشير إليه وقوع غير أن لا توالد بعد قوله عليه الصلاة والسلام: مثل لذاتكم في الدنيا، ويقال نحو ذلك في حديث أبي رزين جمعا بين الأخبار، ثم إن التوالد ليس على سبيل الاستمرار بل هو تابع للاشتهاء ولا يلزم استمراره فالقول بأنه إن استمر لزم وجود أشخاص لا نهاية لها وإن انقطع لزم انقطاع نوع من لذة أهل الجنة ليس بشيء، وما قيل: إنه
قد ثبت في الصحيح أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «يبقى في الجنة فضل فينشىء الله تعالى لها خلقا يسكنهم إياها»
ولو كان في الجنة إيلاد لكان الفضل لأولادهم الملازمة فيه ممنوعة لجواز أن يقال من يشتهي الولد يشتهي أن يكون معه في منزله، والقول بأن التوالد في الدنيا لحكمة بقاء النوع وهو باق في الجنة بدون توالد فيكون عبثا يرد عليه أنه ما المانع من أن يكون هناك للذة ونحوها كالأكل والشرب فإنهما في الدنيا لشيء وفي الجنة لشيء آخر، وبالجملة ما ذكر لترجيح عدم الولادة من الوجوه مما لا يخفى حاله على من له ذهن وجيه.
وقرأ غير واحد من السبعة وغيرهم «ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين» بحذف الضمير العائد على ما من الجملتين المتعاطفتين، وفي مصحف عبد الله «ما تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين» بالضمير فيهما، والقراءة به في الأول دون الثانية لأبي جعفر وشيبة ونافع وابن عامر وحفص وَأَنْتُمْ فِيها أي في الجنة، وقيل: في الملاذ المفهومة مما تقدم وهو كما ترى خالِدُونَ دائمون أبد الآبدين، والجملة داخلة في حيز النداء وهي كالتأكيد لقوله تعالى: لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ ونودوا بذلك إتماما للنعمة وإكمالا للسرور فإن كل نعيم زائل موجب لكلفة الحفظ وخوف الزوال ومستعقب للتحسر في ثاني الأحوال، ولله تعالى در القائل:
وإذا نظرت فإن بؤسا زائلا ... للمرء خير من نعيم زائل
وعن النصرآباذي أنه إن كان خلودهم لشهوة الأنفس ولذة الأعين فالفناء خير من ذلك وإن كان لفناء الأوصاف والاتصاف بصفات الحق والمقام فيها على سرر الرضا والمشاهدة فانتم إذا أنتم، وأنت تعلم أن ما ذكره يدخل في عموم ما تقدم دخولا أوليا، وذكر بعضهم هنا أن الخطاب هنا من باب الالتفات وأنه للتشريف.
وقال الطيبي: ذق مع طبعك المستقيم معنى الخطاب والالتفات وتقديم الظرف في وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ لتقف على ما لا يكتنهه الوصف وَتِلْكَ الْجَنَّةُ مبتدأ وخبر وقوله تعالى: الَّتِي أُورِثْتُمُوها صفة الجنة وقوله سبحانه بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ متعلق بأورثتموها، وقيل: تِلْكَ الْجَنَّةُ مبتدأ وصفة والَّتِي أُورِثْتُمُوها الخبر والجار بعده متعلق به، وقيل: تلك مبتدأ والجنة صفتها والتي أورثتموها صفة الجنة وبما كنتم متعلق بمحذوف هو الخبر.
والإشارة على الوجه الأول إلى الجنة المذكورة في قوله تعالى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ وعلى الأخيرين إلى الجنة الواقعة صفة على ما قيل، والباء للسببية أو للمقابلة، وقد شبه ما استحقوه بأعمالهم الحسنة من الجنة ونعيمها الباقي لهم بما يخلفه المرء لوارثه من الأملاك والأرزاق ويلزمه تشبيه العمل نفسه بالمورث اسم فاعل فاستعير الميراث لما استحقوه ثم اشتق أورثتموها فيكون هناك استعارة تبعية، وقال بعض: الاستعارة تمثيلية.
وجوز أن تكون مكنية، وقيل: الإرث مجاز مرسل للنيل والأخذ،
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار فالكافر يرث المؤمن منزله في النار والمؤمن(13/100)
يرث الكافر منزله في الجنة وذلك قوله تعالى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
ولا يخلو الكلام عن مجاز عليه أيضا، وأيّا ما كان فسببية العمل لإيراث الجنة ونيلها ليس إلا بفضل الله تعالى ورحمته عزّ وجلّ، والمراد
بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لن يدخل أحدكم الجنة عمله»
ففي إدخال العمل الجنة على سبيل الاستقلال والسببية التامة فلا تعارض.
وأخرج هناد. وعبد بن حميد في الزهد عن ابن مسعود قال: تجوزون الصراط بعفو الله تعالى وتدخلون الجنة برحمة الله تعالى وتقتسمون المنازل بأعمالكم فتأمل. وقرىء «ورثتموها» لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ بحسب الأنواع والأصناف لا بحسب الأفراد فقط مِنْها تَأْكُلُونَ أي لا تأكلون إلا بعضها وأعقابها باقية في أشجارها فهي مزينة بالثمار أبدا موقرة بها لا ترى شجرة عريانة من ثمرها كما في الدنيا،
وفي الحديث «لا ينزع رجل في الجنة من ثمرها إلا نبت مكانها مثلاها»
فمن تبعيضية وجوز كونها ابتدائية، والتقديم للحصر الإضافي وقيل لرعاية الفاصلة.
ولعل تكرير ذكر المطاعم في القرآن العظيم مع أنها كلا شيء بالنسبة إلى سائر أنواع نعيم الجنة لما كان بأكثرهم في الدنيا من الشدة والفاقة فهو تسلية لهم، وقيل: إن ذلك لكون أكثر المخاطبين عواما نظرهم مقصور على الأكل والشرب. وتعقب بأنه غير تام للصوفية، كلام سيأتي في مواضع إن شاء الله عزّ وجلّ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ أي الراسخين في الإجرام الكاملين فيه وهم الكفار فكأنه قيل: إن الكفار فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ وأيد إرادة ذلك بجعلهم قسيم المؤمنين بالآيات في قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا [الزخرف: 69] فلا تدل الآية على خلود عصاة المؤمنين كما ذهب إليه المعتزلة والخوارج، ولا يضر عدم التعرض لبيان حكمهم بناء على أن المراد بالذين آمنوا المتقون لقوله تعالى: يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [الزخرف: 68] والقول بأن الذين آمنوا شامل لهم لأن العلة إيمانهم وإسلامهم لا يخفى ما فيه. والظرف متعلق بخالدون وخالدون خبر إن، وجوز أن يكون الظرف هو الخبر وخالدون فاعله لاعتماده لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ أي لا يخفف عنهم من فترت عنه الحمى إذا سكنت قليلا، والمادة بأي صيغة كانت تدل على الضعف مطلقا وَهُمْ فِيهِ أي في العذاب، وقرأ عبد الله «فيها» أي في جهنم مُبْلِسُونَ حزينون من شدة البأس، قال الراغب: الإبلاس الحزن المعترض من شدة البأس ومنه اشتق إبليس فيما قيل.
ولما كان المبلس كثيرا ما يلزم السكوت وينسى ما يعنيه قيل أبلس فلان إذا سكت وانقطعت حجته انتهى، وقد فسر الإبلاس هنا بالسكوت وانقطاع الحجة وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ لسوء اختيارهم، وهُمُ ضمير فصل فيفيد التخصيص، وقرأ عبد الله. وأبو زيد «الظالمون» بالرفع على أن هم مبتدأ وهو خبره، وذكر أبو عمر الجرمي أن لغة تميم جعل ما هو فصل عند غيرهم مبتدأ ويرفعون ما بعده على الخبر، وقال أبو زيد: سمعتهم يقرؤون «تجدوه عند الله هو خير وأعظم» (1) برفع خير وأعظم، وقال قيس بن ذريح:
تحن إلى ليلى وأنت تركتها ... وكنت عليها بالملا أنت أقدر
وقال سيبويه: بلغنا أن رؤبة كان يقول أظن زيدا هو خير منك يعني بالرفع وَنادَوْا أي من شدة العذاب.
وفي بعض الآثار يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه العذاب فيقولون: ادعوا مالكا فيدعون يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ أي ليمتنا من قضى عليه إذا أماته، ومرادهم سل ربك أن يقضي علينا حتى نستريح، واضافتهم الرب إلى ضميره لحثه لا للإنكار، وهذا لا ينافي الإبلاس على التفسير الأول لأنه صراخ وتمني للموت من فرط الشدة، وأما على التفسير الثاني أنه وإن نفاه لكن زمان كل غير زمان الآخر فإن أزمنة العذاب متطاولة وأحقابه
__________
(1) سورة المزمل، الآية: 20.(13/101)
ممتدة فتختلف بهم الأحوال فيسكتون أوقاتا لغلبة اليأس عليهم وعلمهم أنه لا خلاص لهم ولو بالموت ويغوثون أوقاتا لشدة ما بهم. وتعقب بأنه لا يناسب دوام الجملة الاسمية أعني وهم مبلسون وقيل إن نادوا معطوف بالواو وهي لا تقتضي ترتيبا، ولا يخفى أن تلك الجملة حالية لا تنفك عن الخلود.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن مسعود وابن وثاب والأعمش «يا مال» بالترخيم
على لغة من ينتظر وقرأ أبو السوار «يا مال» بالترخيم أيضا لكن على لغة من لم ينتظر.
قال ابن جني: وللترخيم في هذا الموضع سر وذلك أنهم لعظم ما هم فيه ضعفت قواهم وذلت أنفسهم فكان هذا من موضع الاختصار ضرورة وبهذا يجاب عن قول ابن عباس وقد حكيت له القراءة به على اللغة الأولى: ما أشغل أهل النار عن الترخيم مشيرا بذلك إلى إنكارها فإن ما للتعجب وفيها معنى الصد يعني أنهم في حالة تشغلهم عن الالتفات إلى الترخيم وترك النداء على الوجه الأكثر في الاستعمال، وحاصل الجواب أن هذا الترخيم لم يصدر عنهم لقصد التصرف في الكلام والتفنن فيه كما في قوله:
يحيي رفات العظام بالية ... والحق يا مال غير ما تصف
بل للعجز وضيق المجال عن الإتمام كما يشاهد في بعض المكروبين قالَ أي مالك إِنَّكُمْ ماكِثُونَ مقيمون في العذاب أبدا لا خلاص لكم منه بموت ولا غيره، وهذا تقنيط ونكاية لهم فوق ما هم فيه ولا يضر في ذلك علمه بيأسهم إن قلنا به.
وذكر بعض الأجلة أن فيه استهزاء لأنه أقام المكث مقام الخلود والمكث يشعر بالانقطاع لأنه كما قال الراغب ثبات مع انتظار، ويمكن أن يكون وجه الاستهزاء التعبير بما كثون من حيث إنه يشعر بالاختيار وإجابتهم بذلك بعد مدة.
قال ابن عباس يجيبهم بعد مضي ألف سنة، وقال نوف: بعد مائة، وقيل ثمانين، وقيل أربعين.
لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ خطاب توبيخ وتقريع من جهته تعالى مقرر لجواب مالك ومبين لسبب مكثهم، ولا مانع من خطاب سبحانه الكفرة تقريعا لهم، وقيل: هو من كلام بعض الملائكة عليهم السلام وهو كما يقول أحد خدم الملك للرعية أعلمناكم وفعلنا بكم قيل لا يجوز أن يكون من قول مالك لا لأن ضمير الجمع ينافيه بل لأن مالكا لا يصح منه أن يقوله لأنه لا خدمة له غير خزنه للنار.
وفيه بحث، وقيل: في قالَ ضميره تعالى فالكل مقوله عزّ وجلّ، وقيل: إن قوله تعالى إِنَّكُمْ ماكِثُونَ خاتمة حال الفريقين، وقوله سبحانه لقد إلخ كلام آخر مع قريش والمراد عليه جئناكم في هذه السورة أو القرآن بالحق، وعلى ما تقدم لقد جئناكم في الدنيا بالحق وهو التوحيد وسائر ما يجب الإيمان به وذلك بإرسال الرسل وإنزال الكتب ولكن أكثركم للحق أي حق كان كارهون لا يقبلونه وينفرون منه وفسر الحق بذلك دون الحق المعهود سواء كان الخطاب لأهل النار أو لقريش لمكان أَكْثَرَكُمْ فإن الحق المعهود كلهم كارهون له مشمئزون منه، وقد يقال:
الظاهر العهد وعبر بالأكثر لأن من الأتباع من يكفر تقليدا. وقرىء «لقد جئتكم» وقوله تعالى: أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً كلام مبتدأ ناع على المشركين ما فعلوا من الكيد برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأَمْ منقطعة وما فيها معنى بل للانتقال من توبيخ أهل النار إلى حكاية جناية هؤلاء والهمزة للانكار فإن أريد بالإبرام الأحكام حقيقة فهي لإنكار الوقوع واستبعاده، وإن أريد الأحكام صورة فهي لإنكار الواقع واستقباحه أي بل أبرم مشركو مكة أمرا من كيدهم ومكرهم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فَإِنَّا مُبْرِمُونَ كيدنا حقيقة لا هم أو فانا مبرمون كيدنا بهم حقيقة كما أبرموا كيدهم صورة كقوله تعالى أَمْ(13/102)
يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ
[الطور: 42] والآية إشارة إلى ما كان منهم من تدبير قتله عليه الصلاة والسلام في دار الندوة وإلى ما كان منه عزّ وجلّ من تدميرهم، وقيل: هو من تتمة الكلام السابق، والمعنى أم أبرموا في تكذيب الحق ورده ولم يقتصروا على كراهته فإنّا مبرمون أمرا في مجازاتهم، فإن كان ذاك خطابا لأهل النار فإبرام الأمر في مجازاتهم هو تخليدهم في النار معذبين، وإن كان خطابا لقريش فهو خذلانهم ونصر النبي صلّى الله عليه وسلّم عليهم فكأنه قيل: فإنا مبرمون أمرا في مجازاتهم وإظهار أمرك، وفيه إشارة إلى أن إبرامهم لا يفيدهم، ولا يغني عنهم شيئا والعدول عن الخطاب في أكثركم إلى الغيبة في أبرموا على هذا القيل للإشعار بأن ذلك أسوأ من كراهتهم ويؤيده ما ذكر أولا على ما قيل قوله تعالى:
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ لأنه يدل على أن ما أبرموه كان أمرا قد أخفوه فيناسب الكيد دون تكذيب الحق لأن الكفرة مجاهرون فيه والمراد بالسر هنا حديث النفس أي بل أيحسبون أنا لا نسمع حديث أنفسهم بذلك الكيد وَنَجْواهُمْ أي تناجيهم وتحادثهم سرا.
وقال غير واحد: السر ما حدثوا به أنفسهم أو غيرهم في مكان خال والنجوى ما تكلموا به فيما بينهم بطريق التناجي بَلى نسمعهما ونطلع عليهما وَرُسُلُنا الذي يحفظون عليهم أعمالهم لَدَيْهِمْ ملازمون لهم يَكْتُبُونَ أي يكتبونهما أو يكتبون كل ما صدر عنهم من الأفعال والأقوال التي من جملتها ما ذكر.
والمضارع للاستمرار التجددي، وهو مع فاعله خبر ولَدَيْهِمْ حال قدم للفاصلة أو خبر أيضا وجملة المبتدأ والخبر إما عطف على ما يترجم عنه بل أو حال أي نسمع ذلك والحال أن رسلنا يكتبونه، وإذا كان المراد بالسر حديث النفس فالآية ظاهرة في أن السر والكلام المخيل مسموع له تعالى، وكذا هي ظاهرة في أن الحفظة تكتبه كغيره من أقوالهم وأفعالهم الظاهرة، ولا يبعد ذلك بأن يطلعهم الله تعالى عليه بطريق من طرق الاطلاع فيكتبوه.
ومن خص كتابهم بالأمور الغير القلبية خص السر بما حدث به الغير في مكان خال والظاهر أن حسبانهم ذلك حقيقة ولا يستبعد من الكفرة الجهلة، فقد أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال: بينا ثلاثة عند الكعبة وأستارها قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي فقال واحد منهم ترون الله تعالى يسمع كلامنا فقال واحد: إذا جهرتم وإذا أسررتم لم يسمع فنزلت أَمْ يَحْسَبُونَ الآية.
وقيل: إنهم نزلوا في إقدامهم على الباطل وعدم خوفهم من الله عزّ وجلّ منزلة من يحسب أن الله سبحانه لا يسمع سره ونجواه قُلْ أي للكفرة تحقيقا للحق وتنبيها لهم على أن مخالفتك لهم بعدم عبادتك ما يعبدون من الملائكة عليهم السلام ليس لبغضك وعداوتك لهم أو لمعبوديهم بل إنما هو لجزمك باستحالة ما نسبوا إليهم وبنوا عليه عبادتهم من كونهم بنات الله سبحانه وتعالى إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ أي لذلك الولد وكان بمعنى صح كما يقال ما كان لك أن تفعل كذا وهو أحد استعمالاتها، و «أول» أفعل تفضيل والمفضل عليه المقول لهم، وجوز اعتبار ذلك مطلقا، والمراد إظهار الرغبة والمسارعة، والمنساق إلى الذهن الأول.
ووجه الملازمة أنه عليه الصلاة والسلام أعلم الناس بشؤونه تعالى وبما يجوز عليه وبما لا يجوز أحرصهم على مراعاة حقوقه وما توجيه من تعظيم ولده سبحانه فإن حق الوالد على شخص يوجب عليه تعظيم ولده لما أن تعظيم الولد تعظيم الوالد. فالمعنى إن كان للرحمن ولد وصح ذلك وثبت ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها فأنا أول من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له كما يعظم الرجل ولد الملك لعظم أبيه، وهذرا نفي(13/103)
لكينونة ولد له سبحانه على أبلغ وجه وهو الطريق البرهاني والمذهب الكلامي، فإنه في الحقيقة قياس استثنائي استدل فيه بنفي اللازم البين انتفاؤه وهو عبادته صلّى الله عليه وسلّم للولد على نفي الملزوم وهو كينونة الولد له سبحانه، وذلك نظير قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] لكنه جيء بأن دون لو لجعل ما في حيزها بمنزلة ما لا قطع بعدمه على طريق المساهلة وإرخاء العنان للتبكيت والإفحام.
وفي الكشف أن في الآية مبالغة من حيث إنه جعل الممكن في نفسه أعني عبادته عليه الصلاة والسلام لما يدعونه ولدا محالا فهو نفي لعبادة الولد على أبلغ وجه حيث جعل مسببا عن محال ثم نفى للولد كذلك من طريق آخر وهو أنه لما لم يعبد صلّى الله عليه وسلّم الولد مع كونه أولى بعبادته لو كان دل على نفيه، ونحوها ذكر في الآية مرويا عن قتادة والسدي والطبري.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد أن المعنى قل إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول من عبد الله تعالى وحده وكذبكم بما تقولون فالمراد من كونه عليه الصلاة والسلام أول العابدين كونه صلّى الله عليه وسلّم أول من ينكر ذلك عليهم، والملازمة في الشرطية باعتبار أن نسبتهم الولد له تعالى تقتضي أن يكذبهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وأن يكون أول من ينكره لأنه صاحب الدعوة إلى التوحيد، وقد خفي ذلك على الإمام فنفى صحة هذا الوجه، وتكلف بعضهم فقال: إن تسبب الجزاء عن الشرط عليه باعتبار الأولية في العبادة والتوحيد من بينهم فإنهم إذا أطبقوا على ذلك الزعم يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم أولهم في عبادة الله تعالى وحده لا محالة، وقيل: إن السببية باعتبار الأخبار والذكر نحو إن تضربني فأنا لا أضربك وهو أولى مما قبله، والإنصاف أن الارتباط خفي لا يظهر إلا لمجاهد، وحكى أبو حاتم عن جماعة ولم يسم أحدا منهم أن الْعابِدِينَ من عبد يعبد كفرح يفرح إذا أنف من الشيء، ومنه قوله:
وأعبد أن أهجو كليبا بدارم وقول الآخر:
متى ما يشأ ذو الود يصرم خليله ... ويعبد عليه لا محالة ظالما
أي إن كان للرحمن ولد فأنا أول الآنفين من الولد أو من كونه لله سبحانه ونسبته له عزّ وجلّ. وروي نحو هذا عن ابن عباس أخرج الطستي عنه أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله تعالى: فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ فقال: أنا أول من ينفر عن أن يكون لله تعالى ولد، وأيد ذلك بقراءة السلمي واليماني «العبدين» جمع عبد كحذر وحذرين وهو للمعروف في معنى أنف وقلما يقال فيه عابد، ومن هنا ضعف ابن عرفة هذا الوجه لما فيه من استعمال ما قل استعماله في كلامهم، وذكر الخليل في كتاب العين أنه قرىء «العبدين» بسكون الباء تخفيفي العبدين بكسرها، وقال أبو حاتم:
العبد بكسر الباء الشديد الغضب، وقال أبو عبيدة: العرب تقول عبدني حقي أي جحدني، وروي عن الحسن وابن زيد وزهير بن محمد وهو رواية عن ابن عباس وقتادة والسدي أيضا أن إِنْ نافية أي ما كان للرحمن ولد فانا أول من قال ذلك وعبد ووحد، وكانَ عليه للاستمرار والمقصود استمرار النفي لا نفي الاستمرار والفاء للسببية. وتعقب بأنه خلاف الظاهر مع خفاء وجه السببية أو حسنها، وزعم مكي أنه لا يجوز لإيهامه نفي الولد فيما مضى وهو كما ترى.
وقرأ عبد الله وابن وثاب وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي كما قال القاضي «ولد» بضم الواو وسكون اللام جمع ولد بفتحهما.
سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ أي عن وصفهم أو الذي يصفونه به من كونه سبحانه له ولد، وفي إضافة اسم الرب إلى أعظم الأجرام وأقواها تنبيه على أنها وما فيها من المخلوقات حيث كانت(13/104)
تحت ملكوته تعالى وربوبيته عزّ وجلّ كيف يتوهم أن يكون شيء منها جزءا منه سبحانه وهو ينافي وجوب الوجود، وفي تكرير ذلك الاسم الجليل تفخيم لشأن العرش فَذَرْهُمْ فدعهم غير ملتفت إليهم حيث لم يذعنوا للحق بعد ما سمعوا هذا البرهان الجلي يَخُوضُوا في أباطيلهم وَيَلْعَبُوا في دنياهم فإن ما هم فيه من الأقوال والأفعال ليس إلا من باب الجهل، والجزم لجواب الأمر حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ وهو يوم القيامة عند الأكثرين، وعن عكرمة. وجماعة أنه يوم بدر وقد وعدوا الهلاك فيه، وقريب منه تفسيره بيوم الموت، وقيل: ينبغي تفسيره به دون يوم القيامة لأن الغاية للخوض واللعب إنما هو يوم الموت لانقطاعهما بالموت، وانتصر للأكثرين بأن يوم القيامة هو اليوم الموعود وبه سمي في لسان الشرع وتفسيره بذاك مخالف لمعروف ولما بعد من ذكر الساعة، وما ذكر من أمر الانقطاع مدفوع بأن الموت وما بعده في حكم القيامة ولذا ورد من مات فقد قامت قيامته ومثله قد يراد به الدلالة على طول المدة مع قطع النظر عن الانتهاء فيقال: لا يزال في ضلالة إلى أن تقوم القيامة.
وقرأ أبو جعفر وابن محيصن وعبيد بن عقيل عن أبي عمرو «يلقوا» مضارع لقي، والآية قيل منسوخة بآية السيف وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ الظرفان متعلقان بإله لأنه صفة بمعنى معبود من أله بمعنى عبد وهو خبر مبتدأ محذوف أي هو إله وذلك عائد الموصول وحذف لطول الصلة بمتعلق الخبر والعطف عليه.
وقال غير واحد: الجار متعلق بإله باعتبار ما ينبىء عنه من معنى المعبودية بالحق بناء على اختصاصه بالمعبود بالحق وهذا كتعلق الجار بالعلم المشتهر بصفة نحو قولك: هو حاتم في طيء حاتم في تغلب، وعلى هذا تخرج قراءة عمر وعلي وعبد الله وأبي والحكم بن أبي العالي وبلال بن أبي بردة وابن يعمر وجابر وابن زيد وعمر بن عبد العزيز وأبو شيخ الهنائي وحميد وابن مقسم وابن السميفع «وهو الذي في السماء الله وفي الأرض الله» فيعلق الجار بالاسم الجليل باعتبار الوصف المشتهر به، واعتبر بعضهم معنى الاستحقاق للعبادة وعلل ذلك بأن العبادة بالفعل لا تلزم، وجوز كون الجار والمجرور صلة الموصول، و «إله» خبر مبتدأ محذوف أيضا على أن الجملة بيان للصلة وأن كونه سبحانه في السماء على سبيل الإلهية لا على معنى الاستقرار.
واختير كون إِلهٌ في هذا الوجه خبر مبتدأ محذوف على كونه خبرا آخر للمبتدأ المذكور أو بدلا من الموصول أو من ضميره بناء على تجويزه لأن إبدال النكرة الغير الموصوفة من المعرفة إذا أفادت ما لم يستفد أولا كما هنا جائز حسن على ما قال أبو علي في الحجة لأن البيان هاهنا أتم وأهم فلذا رجح مع ما فيه من التقدير وحينئذ فلا فاصل أجنبي بين المتعاطفين، ولا يجوز كون الجار والمجرور خبر مقدما وإله مبتدأ مؤخرا للزوم خلو الجملة عن العائد مع فساد المعنى، وفي الآية نفي الآلهة السماوية والأرضية واختصاص الإلهية به عزّ وجلّ لما فيها من تعريف طرفي الإسناد. والموصول في مثل ذلك كالمعرف بالأداة وللاعتناء بكل من إلهيته تعالى في السماء وإلهيته عزّ وجلّ في الأرض قيل وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ ولم يقل: وهو الذي في السماء وفي الأرض إله أو هو الذي في السماء والأرض إله، وحديث الإعادة قيل مما لا يجري هاهنا لأن القاعدة أغلبية كأكثر قواعد العربية.
وقال بعض الأفاضل: يجوز إجراء القاعدة فيه والمغايرة بين الشيئين أعم من أن تكون بالذات أو بالوصف والاعتبار والمراد هنا الثاني ولا شك أن طريق عبادة أهل السماء له تعالى غير طريق عبادة أهل الأرض على ما يشهد به تتبع الآثار فإذا كان إله بمعنى معبود كان معنى الآية أنه تعالى معبود في السماء على وجه ومعبود في الأرض على وجه آخر، وإن كان بمعنى التحير فيه فالتحير في أهل السماء غير التحير في أهل الأرض فلا جرم تكون أطوارهم مخالفة لأطوار أهل الأرض، ومن ذلك اختلاف علومهم فإن علوم أهل الأرض إن كانت ضرورية فأكثرها مستندة إلى الحس وإن كانت نظرية كانت مكتسبة من النظر فإذا انسد طريق النظر والحسن عجزوا وتحيروا ولا كذلك أهل السماء(13/105)
لتنزههم عن الكسب والحسن فتحيرهم على نحو آخر، أو نقول التحير في إدراك ذاته تعالى وصفاته إنما ينشأ من مشاهدة آثار عظمته وكمال قدرته سبحانه ولا شك أن تلك الآثار في السماء أعظم من الآثار في الأرض وعليه فيجوز أن يكون الإله بمعنى المتحير فيه ويكون مجازا عن عظيم الشأن من باب ذكر اللازم وإرادة الملزوم فيكون المعنى أنه تعالى عظيم الشأن في السماء على نحو وعظيم الشأن في الأرض على نحو آخر اهـ، ولا يخلو عن شيء كما لا يخفى وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ كالدليل على النفي والاختصاص المشار إليهما فإن من لا يتصف بكمال الحكمة والعلم لا يستحق الإلهية.
وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما كالهواء ومخلوقات الجو المشاهدة وغيرها وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أي العلم بالساعة أي الزمان الذي تقوم القيامة فيه فالمصدر مضاف لمفعوله، والساعة بمعناها اللغوي وهو مقدار قليل من الزمان، ويجوز أن يراد بها معناها الشرعي وهو يوم القيامة، والمحذور مندفع بأدنى تأمل، وفي تقديم الخبر إشارة إلى استئثاره تعالى بعلم ذلك وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ للجزاء، والالتفات إلى الخطاب للتهديد، وقرأ الأكثر بياء الغيبة والفعل في القراءتين مبني للمفعول وقرىء بفتح تاء الخطاب والبناء للفاعل، وقرىء «تحشرون» بتاء الخطاب أيضا والبناء للمفعول وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ أي ولا يملك آلهتهم الذين يدعونهم مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله عزّ وجلّ، وقرىء «تدعون» بتاء الخطاب والتخفيف والسلمي وابن وثاب بها وشد الدال إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ الذي هو التوحيد وَهُمْ يَعْلَمُونَ أي يعلمونه، والجملة في موضع الحال، وقيد بها لأن الشهادة عن غير علم بالمشهود به لا يعول عليها، وجمع الضمير باعتبار معنى من كما أن الأفراد أولا باعتبار لفظه، والمراد به الملائكة وعيسى وعزير وأضرابهم صلاة الله تعالى وسلامه عليهم، والاستثناء قيل: متصل إن أريد بالذين يدعون من دونه كل ما يعبد من دون الله عزّ وجلّ ومنفصل إن أريد بذلك الأصنام فقط، وقيل: هو منفصل مطلقا وعلل بأن المراد نفي ملك الآلهة الباطلة الشفاعة للكفرة ومن شهد بالحق منها لا يملك الشفاعة للمؤمنين فكأنه قيل على تقدير التعميم: ولا يملك الذين يدعونهم من دون الله تعالى كائنين ما كانوا الشفاعة لهم لكن من شهد بالحق يملك الشفاعة لمن شاء الله سبحانه من المؤمنين فالكلام نظير قولك: ما جاء القوم إلي إلا زيدا جاء إلى عمرو فتأمل.
وقال مجاهد وغيره: المراد بمن شهد بالحق المشفوع فيهم، وجعل الاستثناء عليه متصلا والمستثنى منه محذوفا كأنه قيل: ولا يملك هؤلاء الملائكة واضرابهم الشفاعة في أحد إلا فيمن وحد عن إيقان وإخلاص ومثله في حذف المستثنى منه قوله:
نجا سالم والنفس منه بشرقة ... ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا
أي واستدل بالآية على أن العلم مما لا بد منه في الشهادة دون المشاهدة.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ أي سألت العابدين أو المعبودين لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لتعذر المكابرة في ذلك من فرط ظهوره ووجه قول المعبودين ذلك أظهر من أن يخفى فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ فكيف يصرفون عن عبادته تعالى إلى عبادة غيره سبحانه ويشركونه معه عزّ وجلّ مع إقرارهم بأنه تعالى خالقهم أو مع علمهم بإقرار آلهتهم بذلك، والفاء جزائية أي إذا كان الأمر كذلك فإني إلخ، والمراد التعجب من إشراكهم مع ذلك، وقيل: المعنى فكيف يكذبون بعد علمهم بذلك فهو تعجب من عبادة غيره تعالى وإنكارهم للتوحيد مع أنه مركوز في فطرتهم، وأيّاما كان فهو متعلق بما قبله من التوحيد والإقرار بأنه تعالى هو الخالق، وأما كون المعنى فكيف أو أين يصرفون عن التصديق بالبعث مع أن الإعادة(13/106)
أهون من الإبداء وجعله متعلقا بأمر الساعة كما قيل فيأباه السياق.
وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو «تؤفكون» بتاء الخطاب وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ بحر «قيلة» وهي قراءة عاصم وحمزة والسلمي وابن وثاب. والأعمش.
وقرأ الأعرج وأبو قلابة ومجاهد والحسن وقتادة ومسلم بن جندب برفعه وهي قراءة شاذة.
وقرأ الجمهور بنصبه، واختلف في التخريج فقيل الجر على عطفه لفظ الساعة في قوله تعالى وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أي عنده علم قيله، والنصب على عطفه على محلها لأنها في محل نصب بعلم المضاف إليها فإنه كما قدمنا مصدر مضاف لمفعوله فكأنه قيل: يعلم الساعة ويعلم قيله، والرفع على عطفه على عِلْمُ السَّاعَةِ على حذف مضاف والأصل وعلم قيله فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ونسب الوجه الأول لأبي علي والثالث لابن جني وجميع الأوجه للزجاج وضمير قِيلِهِ عليها للرسول صلّى الله عليه وسلّم المفهوم من قوله تعالى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ والقيل والقال والقول مصادر جاءت بمعنى واحد، والمنادى وما في حيزه مقول القول، والكلام خارج مخرج التحسر والتحزن والتشكي من عدم إيمان أولئك القوم، وفي الإشارة إليهم بهؤلاء دون قوله قومي ونحوه تحقير لهم وتبرّ منهم لسوء حالهم، والمراد من أخباره تعالى بعلمه ذلك وعيده سبحانه إياهم، وقيل: الجر على إضمار حرف القسم والنصب على حذفه وإيصال فعله إليه محذوفا والرفع على نحو لعمرك لأفعلن وإليه ذهب الزمخشري وجعل المقول يا رب وقوله سبحانه إِنَّ هؤُلاءِ إلخ جواب القسم على الأوجه الثلاثة وضمير قِيلِهِ كما سبق، والكلام إخبار منه تعالى أنهم لا يؤمنون وإقسامه سبحانه عليه بقوله صلّى الله عليه وسلّم: يا رب لرفع شأنه عليه الصلاة والسلام وتعظيم دعائه والتجائه إليه تعالى، والواو عنده للعطف أعني عطف الجملة القسمية على الجملة الشرطية لكن لما كان القسم بمنزلة الجملة الاعتراضية صارت الواو كالمضمحل عنها معنى العطف، وفيه أن الحذف الذي تضمنه تخريجه من ألفاظ شاع استعمالها في القسم كعمرك وايمن الله واضح الوجه على الأوجه الثلاثة، وأما في غيرها كالقيل هنا فلا يخلو عن ضعف، وقيل: الجر على أن الواو واو القسم والجواب محذوف أي لننصرنه أو لنفعلن بهم ما نشاء حكاه في البحر وهو كما ترى، وقيل:
النصب على العطف على مفعول يكتبون المحذوف أي يكتبون أقوالهم وأفعالهم وقيله يا رب إلخ وليس بشيء، وقيل:
بشيء، هو على العطف على مفعول يعلمون أعني الحق أي يعلمون الحق وقيل إلخ، وهو قول لا يكاد يعقل، وعن الأخفش أنه على العطف على سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ ورد بأنه ليس بقوي في المعنى مع وقوع الفصل بما لا يحسن اعتراضا ومع تنافر النظم. وتعقب أن ما ذكر من الفصل ظاهر وأما ضعف المعنى وتنافر النظم فغير مسلم لأن تقديره أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم وأنا لا نسمع قيله إلخ وهو منتظم أتم انتظام، وعنه أيضا أنه على إضمار فعل من القيل ناصب له على المصدرية والتقدير قال قيله ويؤيده قراءة ابن مسعود «وقال الرسول» والجملة معطوفة على ما قبلها. ورد بأنه لا يظهر فيه ما يحسن عطفه على الجملة قبله وليس التأكيد بالمصدر في موقعه ولا ارتباط لقوله تعالى فَاصْفَحْ به، وقال العلامة الطيبي في توجيهه: إن قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ تقديره وقلنا لك: ولئن سألتهم إلخ وقلت: يا رب يأسا من إيمانهم وإنما جعل غائبا على طريق الالتفات لأنه كأنه صلّى الله عليه وسلّم فاقد نفسه لتحزن عليهم حيث لم ينفع فيهم سعيه واحتشاده، وقيل: الواو على هذا الوجه للحال وقال بتقدير قد والجملة حالية أي فأنّى يؤفكون وقد قال الرسول يا رب إلخ، وحاصله فأنّى يؤفكون وقد شكا الرسول عليه الصلاة والإسلام إصرارهم على الكفر وهو خلاف الظاهر، وقيل: الرفع على الابتداء والخبر يا رب إلى لا يؤمنون أو هو محذوف أي مسموع أو متقبل فجملة النداء وما بعده في موضع نصب بقيله والجملة حال أو معطوفة، ولا يخفى ما في ذلك، والأوجه عندي ما نسب إلى الزجاج،(13/107)
والاعتراض عليه بالفصل هين، وبضعف المعنى والتنافر غير مسلم، ففي الكشف بعد ذكر تخريج الزجاج الجر أن الفاصل أعني من قوله تعالى: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ- إلى- يُؤْفَكُونَ يصلح اعتراضا لأن قوله سبحانه وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ مرتبط بقوله تعالى: حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ على ما لا يخفى، والكلام مسوق للوعيد البالغ بقوله تعالى: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ إلى قوله عزّ وجلّ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ متصل بقوله تعالى: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ اتصال العصا بلحاها، وقوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ خطاب لمن يتأتى منه السؤال تتميم لذلك الكلام باستحقاقهم ما أوعدوه لعنادهم البالغ، ومنه يظهر وقوع التعجب في قوله سبحانه فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ وعلى هذا ظهر ارتباط وعلم قيله بقوله تعالى: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وأن الفاضل متصل بهما اتصالا يجل موقعه، ومن هذا التقرير يلوح أن ما ذهب إليه الزجاج في الأوجه الثلاثة حسن، ولك أن ترجحه على ما ذهب إليه الأخفش بتوافق القراءتين، وأن حمل وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ على الخطاب المتروك إلى غير معين أوفق بالمقام من حمله على خطابه عليه الصلاة والسلام وسلامته من إضمار القول قبل قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مع أن السياق غير ظاهر الدلالة عليه اهـ، وهو أحسن ما رأيته للمفسرين في هذا المقام. وقرأ أبو قلابة «يا رب» بفتح الباء ووجه ظاهر فَاصْفَحْ فأعرض عَنْهُمْ ولا تطمع في إيمانهم، وأصل الصفح ليّ صفحة العنق فكني به عن الإعراض.
وَقُلْ لهم سَلامٌ أي امري سلام تسلم منكم ومتاركة فليس ذلك أمرا بالسلام عليهم والتحية وإنما هو أمر بالمتاركة، وحاصله إذا أبيتم القبول فأمري التسلم منكم، واستدل بعضهم بذلك على جواز السلام على الكفار وابتدائهم بالتحية، أخرج ابن أبي شيبة. عن شعيب بن الحبحاب قال: كنت مع علي بن عبد الله البارقي فمر علينا يهودي أو نصراني فسلم عليه قال شعيب: فقلت: إنه يهودي أو نصراني فقرأ علي آخر سورة الزخرف وَقِيلِهِ يا رَبِّ إلى الآخر، وأخرج ابن أبي شيبة أيضا عن عون بن عبد الله أنه قال قلت لعمر بن عبد العزيز كيف تقول أنت في ابتداء أهل الذمة بالسلام؟ فقال: ما أرى بأسا أن نبتدئهم قلت لم؟ قال: لقوله تعالى: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ ومما ذكرنا يعلم ضعفه، وقال السدي المعنى قل خيرا بدلا من شرهم، وقال مقاتل: اردد عليهم معروفا، وحكى الماوردي أي قل ما تسلم به من شرهم والكل كما ترى والحق ما قدمنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حالهم السيئة وإن تأخر ذلك وهو وعيد من الله سبحانه لهم وتسلية لرسوله صلّى الله عليه وسلّم، وقرأ أبو جعفر والحسن والأعرج ونافع وهشام «تعلمون» بتاء الخطاب على أنه داخل في حيز قُلْ وإن أريد من الآية الكف عن القتال فهي منسوخة وإن أريد الكف عن مقابلتهم بالكلام فليست بمنسوخة والله تعالى أعلم.(13/108)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)
سورة الدّخان
مكية كما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم واستثنى بعض قوله تعالى: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ [الدخان: 15] وآيها كما قال الداني تسع وخمسون في الكوفي وسبع في البصري وست في عدد الباقين. واختلافها على ما في مجمع البيان أربع آيات حم [الدخان: 1] وإِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ [الدخان:
34] كوفي شَجَرَةَ الزَّقُّومِ [الدخان: 43] عراقي شامي والمدني الأول في الْبُطُونِ [الدخان: 45] عراقي مكي والمدني الأخير. ووجه مناسبتها لما قبلها أنه عزّ وجلّ ختم ما قبل بالوعيد والتهديد وافتتح هذه بشيء من الإنذار الشديد وذكر سبحانه هناك قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ [الزخرف: 88] وهنا نظيره فيما حكي عن أخيه موسى عليهما الصلاة والسلام بقوله تعالى فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ [الدخان: 22] وأيضا ذكر فيما تقدم فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ [الزخرف: 89] وحكى سبحانه عن موسى عليه السلام إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ [الدخان: 20، 21] وهو قريب من قريب إلى غير ذلك، وهي إحدى النظائر التي كان يصلي بهن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما أخرج الطبراني عن ابن مسعود الذاريات والطور والنجم واقتربت والرحمن والواقعة ونون والحاقة والمزمل ولا أقسم بيوم القيامة وهل أتى على الإنسان والمرسلات وعم يتساءلون والنازعات وعبس وويل للمطففين وإذا الشمس كورت والدخان، وورد بفضلها أخبار.
أخرج الترمذي ومحمد بن نصر وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك»
وأخرج المذكورون عنه أيضا يرفعه من قرأ حم الدخان في ليلة جمعة أصبح مغفورا له»
وفي رواية للبيهقي وابن الضريس عنه مرفوعا «من قرأ ليلة الجمعة حم الدخان ويس أصبح مغفورا له»
وأخرج ابن الضريس عن الحسن أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «من قرأ سورة الدخان في ليلة غفر له ما تقدم من ذنبه»
وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من قرأ حم الدخان في ليلة جمعة أو يوم جمعة بنى الله تعالى له بيتا في الجنة» .(13/109)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ الكلام فيه كالذي سلف في السورة السابقة.
إِنَّا أَنْزَلْناهُ أي الكتاب المبين الذي هو القرآن على القول المعول عليه فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ هي ليلة القدر على ما روي عن ابن عباس وقتادة وابن جبير ومجاهد، وابن زيد والحسن وعليه أكثر المفسرين والظواهر معهم، وقال عكرمة. وجماعة: هي ليلة النصف من شعبان. وتسمى ليلة الرحمة والليلة المباركة وليلة الصك وليلة البراءة، ووجه تسميتها بالأخيرين أن البندار إذا استوفى الخراج من أهله كتب لهم البراءة والصك كذلك أن الله عزّ وجلّ يكتب لعباده المؤمنين البراءة والصك في هذه الليلة. وظاهر كلامهم هنا أن البراءة وهي مصدر برىء براءة إذا تخلص تطلق على صك الأعمال والديون وما ضاهاها وأنه ورد في الآثار ذلك وهو مجاز مشهور وصار بذلك كالمشترك، وفي المغرب بريء من الدين والعيب براءة، ومنه البراءة لخط الإبراء والجمع براءات وبروات عامية اهـ.
وأكثر أهل اللغة على أنه لم يسمع من العرب وأنه عامي صرف وإن كان من باب المجاز الواسع.
قال ابن السيد في المقتضب البراءة في الأصل مصدر برىء براءة، وأما البراءة المستعملة في صناعة الكتاب فتسميتها بذلك إما على أنها من بريء من دينه إذا أداه وبرئت من الأمر إذا تخليت منه فكأن المطلوب منه أمر تبرأ إلى الطالب أو تخلى، وقيل: أصله أن الجاني كان إذا جنى وعفا عنه الملك كتب له كتاب أمان مما خافه فكان يقال:
كتب السلطان لفلان براءة ثم عمم ذلك فيما كتب من أولي الأمر وأمثالهم اهـ.
وذكروا في فضل هذه الليل أخبارا كثيرة، منها ما
أخرجه ابن ماجه والبيهقي في شعب الإيمان عن علي كرم الله وجهه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها فإن الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى السماء الدنيا فيقول: ألا مستغفر فأغفر له ألا مسترزق فأرزقه ألا مبتلى فأعافيه ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر»
وما
أخرجه الترمذي وابن أبي شيبة والبيهقي وابن ماجه عن عائشة قالت: «فقدت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة فخرجت أطلبه فإذا هو بالبقيع رافعا رأسه إلى السماء فقال يا عائشة: أكنت تخافين أن يحيف الله تعالى عليك ورسوله؟ قلت: ما بي من ذلك ولكني ظننت أنك أتيت بعض نسائك، فقال: إن الله عز وجل ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب»
. وما
أخرجه أحمد بن حنبل في المسند عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يطلع الله تعالى إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لعباده إلا اثنين مشاحن وقاتل نفس»
وذكر بعضهم فيها صلاة مخصوصة وأنها تعدل عشرين حجة مبرورة وصيام عشرين سنة مقبولا، وروي في ذلك حديثا طويلا عن علي كرم الله تعالى وجهه، وقد أخرجه البيهقي ثم قال: يشبه أن يكون هذا الحديث موضوعا وهو منكر وفي رواته مجهولون وأطال الوعاظ الكلام في هذه الليلة وذكر فضائلها وخواصها، وذكروا عدة أخبار في أن الآجال تنسخ فيها. وفي الدر المنثور طرف غير يسير من ذلك وسنذكر بعضا منه إن شاء الله تعالى. وفي البحر قال الحافظ أبو بكر بن العربي: لا يصح فيها شيء ولا نسخ الآجال فيها ولا يخلو من مجازفة والله تعالى أعلم.(13/110)
والمراد بإنزاله في تلك الليلة إنزاله فيها جملة إلى السماء الدنيا من اللوح فالإنزال المنجم في ثلاث وعشرين سنة أو أقل كان من السماء الدنيا وروي هذا عن ابن جرير وغيره، وذكر أن المحل الذي أنزل فيه من تلك السماء البيت المعمور وهو مسامت للكعبة بحيث لو نزل لنزل عليها.
وأخرج سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي أنه قال: نزل القرآن جملة على جبريل عليه السلام وكان جبريل عليه السلام يجيء به بعد إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وقال غير واحد: المراد ابتداء إنزاله في تلك الليلة على التجوز في الطرف أو النسبة واستشكل ذلك بأن ابتداء السنة المحرم أو شهر ربيع الأول لأنه ولد فيه صلّى الله عليه وسلّم ومنه اعتبر التاريخ في حياته عليه الصلاة والسلام إلى خلافة عمر رضي الله تعالى عنه وهو الأصح، وقد كان الوحي إليه صلّى الله عليه وسلّم على رأس الأربعين سنة من مدة عمره عليه الصلاة والسلام على المشهور من عدة أقوال فكيف يكون ابتداء الإنزال في ليلة القدر من شهر رمضان أو في ليلة البراءة من شعبان.
وأجيب بأن ابتداء الوحي كان مناما في شهر ربيع الأول ولم يكن بإنزال شيء من القرآن والوحي يقظة مع الإنزال كان في يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من شهر رمضان، وقيل لسبع منه، وقيل لأربع وعشرين ليلة منه، وأنت تعلم كثرة اختلاف الأقوال في هذا المقام فمن يقول بابتداء إنزاله في شهر يلتزم منها ما لا يأباه.
واختلف في أول ما نزل منه، ففي صحيح مسلم أنه يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر: 1] وتعقبه النووي في شرحه فقال: إنه ضعيف بل باطل والصواب أن أول ما نزل على الإطلاق اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] كما صرح به في حديث عائشة، وأما يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ فكان نزولها بعد فترة الوحي كما صرح به في رواية الزهري عن أبي سلمة، عن جابر.
وأما قول من قال من المفسرين أول ما نزل الفاتحة فبطلانه أظهر من أن يذكر اهـ والكلام في ذلك مستوفى في الإتقان فليرجع إليه من أراده.
ووصف الليلة بالبركة لما أن إنزال القرآن مستتبع للمنافع الدينية والدنيوية بأجمعها أو لما فيها من تنزل الملائكة والرحمة وإجابة الدعوة وفضيلة العبادة أو لما فيها من ذلك وتقدير الأرزاق وفصل الأقضية كالآجال وغيرها وإعطاء تمام الشفاعة له عليه الصلاة والسلام، وهذا بناء على أنها ليلة البراءة، فقد روي أنه صلّى الله عليه وسلّم سأل ليلة الثالث عشر من شعبان في أمته فأعطى الثلث منها ثم سأل ليلة الرابع عشر فأعطى الثلثين ثم سأل ليلة الخامس عشر فأعطى الجميع إلا من شرد على الله تعالى شراد البعير، وأياما كان فقد قيل: إن التعليل إنما يحتاج إليه بناء على القول بما اختاره العز بن عبد السلام من أن الأمكنة والأزمنة كلها متساوية في حد ذاتها لا يفضل بعضها بعضا إلا بما يقع فيها من الأعمال ونحوها، وزاد بعضهم أو يحل لتدخل البقعة التي ضمته صلّى الله عليه وسلّم فإنها أفضل البقاع الأرضية والسماوية حتى قيل وبه أقول إنها أفضل من العرش.
والحق أنه لا يبعد أن يخص الله سبحانه بعضها بمزيد تشريف حتى يصير ذلك داعيا إلى إقدام المكلف على الأعمال فيها أو لحكمة أخرى، وجملة إِنَّا أَنْزَلْناهُ جواب القسم، وفي ذلك مبالغة نحو ما في قوله: وثناياك إنها إغريض.
وقوله تعالى: إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ استئناف يبين المقتضي للإنزال، وقوله تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ استئناف أيضا لبيان التخصيص بالليلة المباركة فكأنه قيل: أنزلناه لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب وكان إنزاله(13/111)
في تلك الليلة المباركة لأنه من الأمور الدالة على الحكم البالغة وهي ليلة يفرق فيها كل أمر حكيم ففي الكلام لف ونشر، واشتراط أن يكون كل منهما بجملتين مستقلتين مما لا داعي إليه، وقيل: إن جملة فِيها يُفْرَقُ إلخ صفة أخرى لليلة وما بينهما اعتراض لا يضر الفصل به بل لا يعد الفصل به فصلا، وقيل إن قوله تعالى إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ هو جواب القسم وما بينهما اعتراض وإليه ذهب ابن عطية زاعما أنه لا يجوز جعل إِنَّا أَنْزَلْناهُ جوابا له فيه من القسم بالشيء على نفسه.
واعترض بأن قوله تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ يكون حينئذ من تتمة الاعتراض فلا يحسن تأخره عن المقسم عليه ولا يدفعه أن هذه الجملة مستأنفة لا صفة أخرى لأنه استئناف بياني متعلق بما قبل كما سمعت آنفا فلا يليق الفصل أيضا كما لا يخفى على من له ذوق سليم، وما ذكر من حديث القسم بالشيء على نفسه فقد أشرنا إلى جوابه، وقيل إنّ قوله سبحانه: إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ جواب آخر للقسم وفيه تعدد المقسم عليه من غير عطف ولم نر من تعرض له، ومعنى يفرق يفصل ويلخص، والحكيم بمعنى المحكم لأنه لا يبدل ولا يغير بعد إبرازه للملائكة عليهم السلام بخلافه قبله وهو في اللوح فإن الله تعالى يمحو منه ما يشاء ويثبت.
وجوز أن يكون بمعنى المحكوم به ونسبته إلى الأمر عليها حقيقة، ويجوز أن يكون المعنى كل أمر ملتبس بالحكمة والأصل حكيم صاحبه فتجوز في النسبة، وقيل: إن حكيم للنسبة كتامرو لابن وقد أبهم سبحانه هذا الأمر.
وأخرج محمد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في ذلك: يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق أو موت أو حياة أو مطر حتى يكتب الحاج يحج فلان ويحج فلان.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن ربيعة بن كلثوم قال: كنت عند الحسن فقال له رجل: يا أبا سعيد ليلة القدر في كل رمضان هي؟ قال: إي والله إنها لفي كل رمضان وإنها لليلة يفرق فيها كل أمر حكيم فيها يقضي الله تعالى كل أجل وعمل ورزق إلى مثلها، وروي هذا التعميم عن غير واحد من السلف.
وأخرج البيهقي عن أبي الجوزاء فيها يفرق كل أمر حكيم هي ليلة القدر يجاء بالديوان الأعظم السنة إلى السنة فيغفر الله تعالى شأنه لمن يشاء ألا ترى أنه عز وجل قال رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وفيه بحث، وإلى مثل ذلك التعميم ذهب بعض من قال: إن الليلة المباركة هي ليلة البراءة، أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق محمد بن سوقة عن عكرمة أنه قال في الآية: في ليلة النصف من شعبان يبرم أمر السنة وينسخ الأحياء من الأموات ويكتب الحاج فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أحد، وفي كثير من الأخبار الاقتصار على قطع الآجال،
أخرج ابن جرير والبيهقي في شعب الإيمان عن الزهري عن عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخفش قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى أن الرجل لينكح ويولد له وقد خرج اسمه في الموتى»
وأخرج الدينوري في المجالسة عن راشد بن سعد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «في ليلة النصف من شعبان يوحي الله تعالى إلى ملك الموت بقبض كل نفس يريد قبضها في تلك السنة»
ونحوه كثير، وقيل: يبدآن في استنساخ كل أمر حكيم من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة ويقع الفراغ في ليلة القدر فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل عليه السلام ونسخة الحروب إلى جبرائيل عليه السلام وكذلك الزلازل والصواعق والخسف ونسخة الأعمال إلى إسماعيل عليه السلام صاحب سماء الدنيا وهو ملك عظيم ونسخة المصائب إلى ملك الموت.
وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تقضى الأقضية كلها ليلة النصف من شعبان وتسلم إلى أربابها ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان. واعترض بما ذكر على الاستدلال بالظواهر على أن الليلة المذكورة هي ليلة القدر لا(13/112)
ليلة النصف من شعبان ومن تدبر علم أنه لا يخدش الظواهر، نعم حكي عن عكرمة أن ليلة النصف من شعبان هي ليلة القدر ويلزمه تأويل ما يأبى ظاهره ذلك فتدبر، وسيأتي إن شاء الله عز وجل الكلام في هذا المقام مستوفى على أتم وجه في تفسير سورة القدر وهو سبحانه الموفق.
وقرأ الحسن والأعرج والأعمش «يفرق» بفتح الياء وضم الراء «كلّ» بالنصب أي يفرق الله تعالى، وقرأ زيد بن علي فيما ذكر الزمخشري عنه «نفرّق» بالنون «كلّ» بالنصب وفيما ذكر أبو علي الأهوازي عنه بفتح الياء وكسر الراء ونصب «كلّ» ورفع «حكيم» على أنه الفاعل بيفرق، وقرأ الحسن. وزائدة عن الأعمش «يفرّق» بالتشديد وصيغة المفعول وهو للتكثير وفيه رد على قول بعض اللغويين كالحريري أن الفرق مختص بالمعاني والتفريق بالأجسام.
أَمْراً مِنْ عِنْدِنا نصب على الاختصاص وتنكيره للتفخيم، والجار والمجرور في موضع الصفة له وتعلقه بيفرق ليس بشيء، والمراد بالعندية أنه على وفق الحكمة والتدبير أي أعني بهذا الأمر أمرا فخيما حاصلا على مقتضى حكمتنا وتدبيرنا وهو بيان لزيادة فخامته ومدحه، وجوز كونه حالا من ضمير أمر السابق المستتر في حكيم الواقع صفة له أو من «أمر» نفسه، وصح مجيء الحال منه مع أنه نكرة لتخصصه بالوصف على أن عموم النكرة المضاف إليها كل مسوغ للحالية من غير احتياج الوصف، وقول السمين: إن فيه القول بالحال من المضاف إليه في غير المواضع المذكورة في النحو صادر عن نظر ضعيف لأنه كالجزء في جواز الاستغناء عنه بأن يقال: يفرق أمر حكيم على إرادة عموم النكرة في الإثبات كما في قوله تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ [التكوير: 14] وقيل: حال من كُلُّ وأيا ما كان فهو مغاير لذي الحال لوصفه بقوله تعالى: مِنْ عِنْدِنا فيصح وقوعه حالا من غير لغوية فيه.
وكونها مؤكدة غير متأت مع الوصفية كما لا يخفى على ذي الذهن السليم، وهو على هذه الأوجه واحد الأمور وجوز أن يراد به الأمر الذي هو ضد النهي على أنه واحد الأوامر فحينئذ يكون منصوبا على المصدرية لفعل مضمر من لفظه أي أمرنا أمرا من عندنا، والجملة بيان لقوله سبحانه: يُفْرَقُ إلخ، وقيل: إما أن يكون نصبا على المصدرية ليفرق لأن كتب الله تعالى للشيء إيجابه وكذلك أمره عز وجل به كأنه قيل: يؤمر بكل شأن مطلوب على وجه الحكمة أمرا فالأمر وضع موضع الفرقان المستعمل بمعنى الأمر، وإما أن يكون على الحالة من فاعل أَنْزَلْناهُ أو مفعوله أي إنا أنزلناه آمرين أمرا أو حال كون الكتاب أمرا يجب أن يفعل وفي جعل الكتاب نفس الأمر لاشتماله عليه أيضا تجوز فيه فخامة، وتعقب ذلك في الكشف فقال: فيه ضعف للفصل بالجملتين بين الحال وصاحبها على الثاني ولعدم اختصاص الأوامر الصادرة منه تعالى بتلك الليلة على الأول.
ووجهه أن تخص بالقرآن ولا يجعل قوله تعالى: فِيها يُفْرَقُ علة للإنزال في الليلة بل هو تفصيل لما أجمل في قوله سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ على معنى فيها أنزل الكتاب المبين الذي هو المشتمل على كل مأمور به حكيم كأنه جعل الكتاب كله أمرا أو ما أمر به كل المأمورات وفيه مبالغة حسنة، ولا يخفى أن في فهمه من الآية تكلفا.
وقال الخفاجي في أمر الفصل: إنه لا يضر ذلك الفاصل على الاعتراض وكذا على التعليل لأنه غير أجنبي.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «أمر» بالرفع وهي تنصر كون انتصابه في قراءة الجمهور على الاختصاص لأن الرفع عليه فيها، وقوله تعالى: إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ
تعليل ليفرق أو لقوله تعالى: أَمْراً مِنْ عِنْدِنا ورحمة مفعول به لمرسلين وتنوينها للتفخيم، والجار والمجرور في موضع الصفة لها، وإيقاع الإرسال عليها هنا كإيقاعه عليها في قوله سبحانه: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر: 2] والمعنى على ما في الكشاف يفصل في هذه الليلة كل أمر لأن من عادتنا أن نرسل رحمتنا وفصل(13/113)
كل أمر من قسمة الأرزاق وغيرها من باب الرحمة أي إن المقصود الأصلي بالذات من ذلك الرحمة أو تصدر الأوامر من عندنا لأن من عادتنا ذلك والأوامر الصادرة من جهته تعالى من باب الرحمة أيضا لأن الغاية لتكليف العباد تعريضهم للمنافع، وفيه كما قيل إشارة إلى أن جعله تعليلا لقوله سبحانه: أمرا من عندنا إنما هو على تقدير أن يراد بالأمر مقابل النهي وهو يجري على تقديري المصدرية والحالية.
وفي الكشف أن قوله: يفصل إلخ أو تصدر الأوامر إلخ تبيين لمعنى التعليل على التفسيرين في يُفْرَقُ لأنه أما بمعنى الفصل على الحقيقة من قسمة الأرزاق وغيرها أو بمعنى يؤمر والشأن المطلوب يكون مأمورا به لا محالة فحاصله يرجع إلى قوله: أو تصدر الأوامر من عندنا لا لوجهي التعليل من تعلقه بيفرق أو بأمرا فإن تعلقه بأمرا إنما يصح إذا نصب على الاختصاص وإذ ذاك ليس الأمر ما يقابل النهي لأن الأمر إذا كان المقابل فهو إما مصدر وإنما يعلل فعله وإما حال مؤكدة فيكون راجعا إلى تعليل الإنزال المخصوص وليس المقصود وإنما لم يذكر المعنى على تقدير تعلقه بأمرا لأن المعنى الأول يصلح تفسيرا له أيضا انتهى.
والظاهر كون ذلك تبيينا لوجهي التعليل، وما ذكر في نفيه لا يخلو عن بحث كما يعرف بالتأمل، واعتبار العادة في بيان المعنى جاء من كنا فإنه يقال: كان يفعل كذا لما تكرر وقوعه وصار عادة كما صرحوا به في الكتب الحديثية وغيرها ولإفادة ذلك عدل عن إنا مرسلون الاخصر وقوله سبحانه: مِنْ رَبِّكَ وضع فيه الظاهر موضع الضمير والأصل منا فجيء بلفظ الرب مضافا إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم على وجه تخصيص الخطاب به صلّى الله عليه وسلّم تشريفا له عليه الصلاة والسلام ودلالة على أن كونه سبحانه ربك وأنت مبعوث رحمة للعالمين مما يقتضي أن يرسل الرحمة.
وقال الطيبي: خص الخطاب برسوله عليه الصلاة والسلام والمراد العموم، والأصل من ربكم وجيء بلفظ الرب ليؤذن بأن المربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين وليكون تمهيده يبتنى عليه التعليل الآتي المتضمن للتعريض بواسطة الحصر بأن آلهتهم لا تسمع ولا تبصر ولا تغني شيئا وتعقب بأنه لو أريد العموم لفاتت النكتة المذكورة ولزم أن يدخل المؤمنون في قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ وما بعده وليس المعنى عليه وفي القلب منه شيء وفسر بعضهم الرحمة المرسلة بنبينا صلّى الله عليه وسلّم ولا يخفى أن صحة التعليل تأبى ذلك.
وجوز أن يكون قوله تعالى: إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ بدلا من قوله سبحانه: إنا كنا منذرين الواقع تعليلا لإنزال الكتاب بدل كل أو اشتمال باعتبار الإرسال والإنذار، ويكون رَحْمَةً حينئذ مفعولا له أي أنزلنا القرآن لأن عادتنا إرسال الرسل والكتب إلى العباد لأجل الرحمة عليهم واختيار كون الرحمة مفعولا له ليتطابق البدل والمبدل منه إذ معنى المبدل منه فاعلين الإنذار ويطابقه فاعلين الإرسال ولم يجوز كونها كذلك على وجه التعليل بل أوجب كونها مفعولا به ليصح إذ لو قيل فيها تفصيل كل شأن حكيم لأنا فاعلون الإرسال لأجل الرحمة لم يفد أن الفصل رحمة ولا أنه سبحانه مرسل فلا يستقيم التعليل قيل وينصر نصب رحمة على المفعول قراءة الحسن وزيد بن علي برفعها لأن الكلام عليه جملة مستأنفة أي هي رَحْمَةً تعليلا للإرسال فيلائم القول بأنها في قراءة النصب مفعول له وليطابق قراءتهما في كون معنى إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ إنا كنا فاعلين الإرسال، وقال بعض أجلة المحققين: إن القول بأنه تعليل أظهر من القول بأنه بدل ليكون الكلام على نسق في التعليل غب التعليل، ولما ذكر في الحالة المقتضية للإبدال ولوقوع الفصل، وأشار على ما قيل بما ذكر في الحالة المقتضية للإبدال بأن المبدل منه غير مقصود وأنه في حكم السقوط وهاهنا ليس كذلك، وتعقب هذا بأنه أغلبي لا مطرد وقوله: لوقوع الفصل أي بين البدل والمبدل منه بأن الفاصل غير أجنبي فلا يضر الفصل به فتدبر، وجوز كون رحمة مصدرا لرحمنا مقدر وكونها حالا من ضمير(13/114)
مُرْسِلِينَ وكونها بدلا من أَمْراً فلا تغفل إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لكل مسموع فيسمع أقوال العباد الْعَلِيمُ لكل معلوم فيعلم أحوالهم، وتوسيط الضمير مع تعريف الطرفين لإفادة الحصر، والجملة تحقيق لربوبيته عز وجل وأنها لا تحق إلا لمن هذه نعوته، وفي تخصيص السَّمِيعُ الْعَلِيمُ على ما قال الطيبي إدماج لوعيد الكفار ووعد المؤمنين الذين تلقوا الرحمة بأنواع الشكر رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما بدل من رَبِّكَ أو بيان أو نعت.
وقرأ غير واحد من السبعة والأعرج وابن أبي إسحاق وأبو جعفر وشيبة بالرفع على أنه خبر آخر لإن أو خبر مبتدأ محذوف أي هو رب، والجملة مستأنفة لإثبات ما قبلها وتعليله إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي إن كنتم ممن عنده شيء من الإيقان وطرف من العلوم اليقينية على أن الوصف المتعدي منزل منزلة اللازم لعدم القصد إلى ما يتعلق به، وجواب الشرط محذوف أي إن كنتم من أهل الإيقان علمتم كونه سبحانه رب السموات والأرض لأنه من أظهر اليقينيات دليلا وحينئذ يلزمكم القول بما يقتضيه مما ذكر أولا، ويجوز أن يكون مفعوله مقدرا أي إن كنتم موقنين في إقراركم إذا سئلتم عمن خلق السموات والأرض فقلتم الله تعالى خلقهن، والجواب أيضا محذوف أي إن كنتم موقنين في إقراركم بذلك علمتم ما يقتضيه مما تقدم لظهور اقتضائه إياه، وجعل غير واحد الجواب على الوجهين تحقق عندكم ما قلناه، ولم يجوزوا جعله مضمون رَبِّ السَّماواتِ إلخ لأنه سبحانه كذلك أيقنوا أم لم يوقنوا فلا معنى لجعله دالا عليه، وكذا جعله مضمون ما بعد بل هذا مما لا يحسن باعتبار العلم أيضا.
وفي هذا الشرط تنزيل إيقانهم منزلة عدمه لظهور خلافه عليهم، وهو مراد من قال: إنه من باب تنزيل العالم منزلة الجاهل لعدم جريه على موجب العلم، قيل: ولا يصح أن يقال: إنهم نزلوا منزلة الشاكرين لمكان قوله سبحانه بعد:
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ ولا أرى بأسا في أن يقال: إنهم نزلوا أولا كذلك ثم سجل عليهم بالشك لأنهم وإن أقروا بأنه عز وجل رب السموات والأرض لم ينفكوا عن الشك لإلحادهم في صفاته سبحانه وإشراكهم به تعالى شأنه.
وجوز أن يكون مُوقِنِينَ مجازا عن مريدين الإيقان والجواب محذوف أيضا أي إن كنتم مريدين الإيقان فاعلموا ذلك، وفيه بعد، وأما جعل إِنْ نافية كما حكاه النيسابوري فليس بشيء كما لا يخفى لا إِلهَ إِلَّا هُوَ جملة مستأنفة مقررة لما قبلها، وقيل: خبر لمبتدأ محذوف أي هو سبحانه لا إله إلا هو وجملة المبتدأ وخبره مستأنفة مقررة لذلك، وقيل: خبر آخر لإن على قراءة «رب السموات» بالرفع وجعله خبرا، وقيل: خبر له على تلك القراءة وما بينهما اعتراض يُحْيِي وَيُمِيتُ مستأنفة كما قبلها، وكذا قوله تعالى: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ بإضمار مبتدأ أو بدل من رَبِّ السَّماواتِ على تلك القراءة أو بيان أو نعت له، وقيل: فاعل ليميت، وفي يُحْيِي ضمير راجع إليه والكلام من باب التنازع أو إلى رَبِّ السَّماواتِ، وقيل: يُحْيِي وَيُمِيتُ خبر آخر لرب السموات وكذا رَبُّكُمْ وقيل: هما خبران آخران لإن، وقرأ ابن أبي إسحق وابن محيصن وأبو حيوة والزعفراني وابن مقسم والحسن وأبو موسى وعيسى بن سليمان وصالح كلاهما عن الكسائي بالجر بدلا من «رب السموات» على قراءة الجر، وقرأ أحمد بن جبير الانطاكي بالنصب على المدح.
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ إضراب ابطالي أبطل به إيقانهم لعدم جريهم على موجبه، وتنوين «شكّ» للتعظيم أي في شك عظيم يَلْعَبُونَ لا يقولون ما يقولون مما هو مطابق لنفي الأمر عن جد وإذعان بل يقولونه مخلوطا بهزء ولعب وهذه الجملة خبر بعد خبر لهم.
وجوز أن تكون هي الخبر والظرف متعلق بالفعل قدم للفاصلة، والالتفات عن خطابهم لفرط عنادهم وعدم التفاتهم، والفاء في قوله تعالى: فَارْتَقِبْ لترتيب الارتقاب أو الأمر به على ما قبلها فإن كونهم في شك يلعبون مما(13/115)
يوجب ذلك حتما أي فانتظر لهم يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ أي يوم تأتي بجدب ومجاعة فإن الجائع جدا يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان وهي ظلمة تعرض للبصر لضعفه فيتوهم ذلك فإطلاق الدخان على ذلك المرئي باعتبار أن الرائي يتوهمه دخانا، ولا يأباه وصفه بمبين وإرادة الجدب والمجاعة منه مجاز من باب ذكر المسبب وإرادة السبب أو لأن الهواء يتكدر سنة الجدب بكثرة الغبار لقلة الأمطار المسكنة له فهو كناية عن الجدب وقد فسر أبو عبيدة الدخان به، وقال القتبي: يسمى دخانا ليبس الأرض حتى يرتفع منها ما هو كالدخان، وقال بعض العرب: نسمي الشر الغالب دخانا، ووجه ذلك بأن الدخان مما يتأذى به فأطلق على كل مؤذ يشبهه، وأريد به هنا الجدب ومعناه الحقيقي معروف، وقياس جمعه في القلة أدخنة وفي الكثرة دخنان نحو غراب وأغربة وغربان، وشذوا في جمعه على فواعل فقالوا: دواخن كأنه جمع داخنة تقديرا، وقرينة التجوز فيه هنا حالية كما ستعلمه إن شاء الله تعالى من الخبر، والمراد باليوم مطلق الزمان وهو مفعول به لارتقب أو ظرف له والمفعول محذوف أي ارتقب وعد الله تعالى في ذلك اليوم وبالسماء جهة العلو، وإسناد الإتيان بذلك إليهما من قبيل الإسناد إلى السبب لأنه يحصل بعدم إمطارها ولم يسند إليه عز وجل مع أنه سبحانه الفاعل حقيقة ليكون الكلام مع سابقه المتضمن إسناد ما هو رحمة إليه تعالى شأنه على وزان قوله تعالى أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] وتفسير الدخان بما فسرناه به مروي عن قتادة وأبي العالية والنخعي والضحاك ومجاهد ومقاتل وهو اختيار الفراء والزجاج.
وقد روي بطرق كثيرة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، أخرج أحمد والبخاري وجماعة عن مسروق قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: إني تركت رجلا في المسجد يقول في هذه الآية يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ إلخ:
يغشى الناس قبل يوم القيامة دخان، فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ويأخذ المؤمن منه كهيئة الزكام فغضب وكان متكئا فجلس ثم قال: من علم منكم علما فليقل به، ومن لم يكن يعلم فليقل الله تعالى أعلم. فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم الله تعالى أعلم، وسأحدثكم عن الدخان إن قريشا لما استصعبت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبطؤوا عن الإسلام قال: اللهم أعنّي عليهم بسبع كسبع يوسف فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينه كهيئة الدخان من الجوع، فأنزل الله تعالى فَارْتَقِبْ- إلى- أَلِيمٌ فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقيل: يا رسول الله استسق الله تعالى لمضر فاستسقى لهم عليه الصلاة والسلام، فسقوا فأنزل الله تعالى إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ [الدخان: 15] الخبر
.
وفي رواية أخرى صحيحة أنه قال: لما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الناس إدبارا قال: اللهم سبعا كسبع يوسف فأخذتهم سنة حتى أكلوا الميتة والجلود والعظام، فجاءه أبو سفيان وناس من أهل مكة فقالوا: يا محمد إنك تزعم أنك قد بعثت رحمة وإن قومك قد هلكوا، فادع الله تعالى فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسقوا الغيث فأطبقت عليهم سبعا فشكا الناس كثرة المطر فقال: اللهم حوالينا ولا علينا فانحدرت السحابة عن رأسه فسقي الناس حولهم قال: فقد مضت آية الدخان وهو الجوع الذي أصابهم الحديث
، وظاهره يدل كما في تاريخ ابن كثير على أن القصة كانت بمكة فالآية مكية.
وفي بعض الروايات أن قصة أبي سفيان كانت بعد الهجرة فلعلها وقعت مرتين، وقد تقدم ما يتعلق بذلك في سورة المؤمنين.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق أبي لهيعة عن عبد الرحمن الأعرج أنه قال في هذا الدخان: كان في يوم فتح مكة وفي البحر عنه أنه قال يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ وهو يوم فتح مكة لما حجبت السماء الغبرة، وفي رواية ابن سعيد أن الأعرج يروي عن أبي هريرة أنه قال: كان يوم فتح مكة دخان، وهو قول الله تعالى فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ(13/116)
مُبِينٍ
ويحسن على هذا القول أن يكون كناية عما حل بأهل مكة في ذلك اليوم من الخوف والذل ونحوهما،
وقال علي كرم الله تعالى وجهه وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد الخدري وزيد بن علي والحسن: إنه دخان يأتي من السماء قبل يوم القيامة يدخل في أسماع الكفرة حتى يكون رأس الواحد كالرأس الحنيذ ويعتري المؤمن كهيئة الزكام وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص.
وأخرج ابن جرير عن حذيفة بن اليمان مرفوعا أول الآيات الدجال ونزول عيسى ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا والدخان، قال حذيفة: يا رسول الله وما الدخان؟ فتلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ وقال: يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة، أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكمة، وأما الكافر فيكون بمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره، فالدخان على ظاهره
والمعنى فارتقب يوم ظهور الدخان.
وحكى السفاريني في البحور الزاخرة عن ابن مسعود أنه كان يقول: هما دخانان مضى واحد والذي بقي يملأ ما بين السماء والأرض ولا يصيب المؤمن إلا بالزكمة وأما الكافر فيشق مسامعه فيبعث الله تعالى عند ذلك الريح الجنوب من اليمن فتقبض روح كل مؤمن ويبقى شرار الناس، ولا أظن صحة هذه الرواية عنه.
وحمل ما في الآية على ما يعم الدخانين لا يخفى حاله، وقيل: المراد بيوم تأتي السماء إلخ يوم القيامة فالدخان يحتمل أن يراد به الشدة والشر مجازا وأن يراد به حقيقته.
وقال الخفاجي: الظاهر عليه أن يكون قوله تعالى: تَأْتِي السَّماءُ إلى آخره استعارة تمثيلية إذ لا سماء لأنه يوم تشقق فيه السماء فمفرداته على حقيقتها، وأنت تعلم أنه لا مانع من القول بأن السماء كما سمعت أولا بمعنى جهة العلو سلمنا أنها بمعنى الجرم المعروف لكن لا مانع من كون الدخان قبل تشققها بأن يكون حين يخرج الناس من القبور مثلا بل لا مانع من القول بأن المراد من إتيان السماء بدخان استحالتها إليه بعد تشققها وعودها إلى ما كانت عليه أولا كما قال سبحانه: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ [فصلت: 11] ويكون فناؤها بعد صيرورتها دخانا.
هذا والأظهر حمل الدخان على ما روي عن ابن مسعود أولا لأنه أنسب بالسياق لما أنه في كفار قريش وبيان سوء حالهم مع أن في الآيات بعد ما هو أوفق به، فوجه الربط أنه سبحانه لما ذكر من حالهم مقابلتهم الرحمة بالكفران وأنهم لم ينفعوا بالمنزل والمنزل عليه عقب بقوله تعالى شأنه فَارْتَقِبْ يَوْمَ إلخ، للدلالة على أنهم أهل العذاب والخذلان لا أهل الإكرام والغفران يَغْشَى النَّاسَ أي يحيط أنهم والمراد بهم كفار قريش ومن جعل الدخان ما هو من أشراط الساعة حمل الناس على من أدركه ذلك الوقت، ومن جعل ذلك يوم القيامة حمل الناس على العموم، والجملة صفة أخرى للدخان.
وقوله تعالى: هذا عَذابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ في موضع نصب بقول مقدر وقع حالا أي قائلين أو يقولون هذا إلخ. والإشارة للتفخيم، وقيل: يجوز أن يكون هذا عذاب أليم إخبارا منه عز وجل تهويلا للأمر كما قال سبحانه وتعالى في قصة الذبيح إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ [الصافات: 106] فهو استئناف أو اعتراض والإشارة بهذا للدلالة على قرب وقوعه وتحققه، وما تقدم أولى، وقوله سبحانه: رَبَّنَا إلى آخره كما صرح به غير واحد من المفسرين وعد منهم بالإيمان إن كشف جلّ وعلا عنهم العذاب، فكأنهم قالوا: ربنا إن كشفت عنا العذاب آمنا لكن عدلوا عنه إلى ما في المنزل إظهارا لمزيد الرغبة وحملوه على ذلك لما في بعض الروايات أنه لما اشتد القحط بقريش مشى أبو سفيان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وناشده الرحم وواعده إن دعا لهم وزال ما بهم آمنوا والمراد بقوله سبحانه وتعالى:(13/117)
إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى نفي صدقهم في الوعد وأن غرضهم إنما هو كشف العذاب والخلاص أي كيف يتذكرون أو من أين يتذكرون بذلك ويفون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب عنهم.
وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ أي والحال أنهم شاهدوا من دواعي التذكر وموجبات الاتعاظ ما هو أعظم من ذلك في إيجابهما حيث جاءهم رسول عظيم الشأن ظاهر أمر رسالته بالآيات والمعجزات التي تخر لها صم الجبال أو مظهر لهم مناهج الحق بذلك ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ أي عن ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام وهو هو والجملة عطف على قوله تعالى وقَدْ جاءَهُمْ إلى آخره، وعطفها على قوله سبحانه: رَبَّنَا إلخ لأنه على معنى قالوا: رَبَّنَا إلخ ليس بذاك، وثم للاستبعاد والتراخي الرتبي وإلا فهم قد تولوا ريثما جاءهم وشاهدوا منه ما شاهدوا مما يوجب الإقبال إليه صلّى الله عليه وسلّم وَقالُوا مع ذلك في حقه عليه الصلاة والسلام.
مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ أي قالوا تارة: يعلمه عداس غلام رومي لبعض ثقيف وأخرى مجنون أو يقول بعضهم كذا وآخرون كذا ولم يقل ومجنون بالعطف لأن المقصود تعديد قبائحهم وقرأ زر بن حبيش معلم بكسر اللام فمجنون صفة له وكأنهم أرادوا رسول مجنون وحاشاه ثم حاشاه صلّى الله عليه وسلّم.
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ جواب من جهته تعالى عن قولهم وإخبار بالعود على تقدير الكشف أي إن كشفنا عنكم العذاب كشفا قليلا أو زمانا قليلا عدتم، والمراد على ما قيل عائدون إلى الكفر وأنت تعلم أن عودهم إليه يقتضي إيمانهم وقد مر أنهم لم يؤمنوا وإنما وعدوا الإيمان فإما أن يكون وعدهم منزلا منزلة إيمانهم أو المراد عائدون إلى الثبات على الكفر أو على الإقرار والتصريح به وقال قتادة: هذا توعد بمعاد الآخرة وهو خلاف الظاهر جدا ومن قال: إن الدخان يوم القيامة قال إن قوله سبحانه: إِنَّا كاشِفُوا إلى آخره وعد بالكشف على نحو قوله عز وجل:
وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الأنعام: 28] ومن قال المراد به ما هو من أشراط الساعة قال بإمكان الكشف وعدم انقطاع التكليف عند ظهوره وإن كان من الأشراط بل جاء في بعض الآثار أنه يمكث أربعين يوما وليلة فيكشف عنهم(13/118)
فيعودون إلى ما كانوا عليه من الضلال، وحمله على ما روي عن ابن مسعود ظاهر الاستقامة لا قيل فيه ولا قال، وقوله سبحانه: وَقَدْ جاءَهُمْ إلخ قوي الملاءمة له وهو بعيد الملاءمة للقول المروي عن الأمير كرم الله تعالى وجهه ومن معه فقد احتيج في تحصيلها إلى جعل الإسناد من باب إسناد حال البعض إلى الكل أو حمل الناس على الكفار الموجودين في ذلك الوقت والأمر على القول بأنه ما كان في فتح مكة أهون إلا أنه مع ذلك ليس كقول ابن مسعود فتأمل يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى هو يوم بدر عند ابن مسعود وأخرجه عبد بن حميد وابن جرير عن أبي بن كعب ومجاهد والحسن وأبي العالية وسعيد بن جبير ومحمد بن سيرين وقتادة وعطية، وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس.
وأخرج ابن جرير وعبد بن حميد بسند صحيح عن عكرمة. قال: قال ابن عباس قال ابن مسعود البطشة الكبرى يوم بدر، وأنا أقول: هي يوم القيامة ونقل في البحر حكاية أنه يوم القيامة عن الحسن وقتادة أيضا.
والظرف معمول لما دل عليه قوله تعالى: إِنَّا مُنْتَقِمُونَ أي إنا ننتقم يوم إذ إنا منتقمون، وقيل لمنتقمون ورده الزجاج وغيره بأن ما بعد أن لا يجوز أن يعمل فيما قبلها، وقيل لعائدون على معنى إنكم لعائدون إلى العذاب يوم نبطش.
وقيل بكاشفوا العذاب وليس بشيء وقيل لذكرهم أو اذكر مقدرا، وقيل هو بدل من يَوْمَ تَأْتِي إلخ.
وقرىء «نبطش» بضم الطاء وقرأ الحسن وأبو رجاء وطلحة بخلاف عنه نَبْطِشُ بضم النون من باب الأفعال على معنى نحمل الملائكة عليهم السلام على أن يبطشوا بهم أو نمكنهم من ذلك فالمفعول به محذوف للعلم وزيادة التهويل، وجعل البطشة على هذا مفعولا مطلقا على طريقة أنبتكم نباتا، وقال ابن جني، وأبو حيان: هي منصوبة بفعل مضمر يدل عليه الظاهر أي يوم نبطش من نبطشه فيبطش البطشة الكبرى، وقال ابن جني: ولك أن تنصبها على أنها مفعول كأنه به قيل: يوم نقوي البطشة الكبرى عليهم ونمكنها منهم كقولك: يوم نسلط القتل عليهم ونوسع الأخذ منهم، وفي القاموس بطش به ويبطش ويبطش أخذ بالعنف والسطوة كابطشه والبطش الأخذ الشديد في كل شيء والبأس اهـ فلا تغفل وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أي امتحناهم بإرسال موسى عليه السلام إليهم على أنه من فتن الفضة عرضها على النار فيكون بمعنى الامتحان وهو استعارة والمراد عاملناهم معاملة الممتحن ليظهر حالهم لغيرهم أو أوقعناهم في الفتنة على أنه بمعناه المعروف والمراد بالفتنة حينئذ ما يفتن به الشخص أي يغتر ويغفل عما فيه صلاحه كما في قوله تعالى: أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
[الأنفال: 28] وفسرت هنا بالإمهال وتوسيع الرزق.
وفسر بعضهم الفتنة بالعذاب ثم تجوز به عن المعاصي التي هي سبب وهو تكلف ما لا داعي له.
وقرىء «فتّنّا» بتشديد التاء إما لتأكيد معناه المصدري أو لتكثير المفعول أو الفعل.
وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أي مكرم معظم عند الله عز وجل أو عند المؤمنين أو عنده تعالى وعندهم أو كريم في نفسه متصف بالخصال الحميدة والصفات الجليلة حسبا ونسبا، وقال الراغب: الكرم إذا وصف به الإنسان فهو اسم للأخلاق والأفعال المحمودة التي تظهر منه ولا يقال هو كريم حتى يظهر ذلك منه، ونقل عن بعض العلماء أن الكرم كالحرية إلا أن الحرية قد تقال في المحاسن الصغيرة والكبيرة والكرم لا يقال إلا في المحاسن الكبيرة. وقال الخفاجي: أصل معنى الكريم جامع المحامد والمنافع وادعى لذلك أن تفسيره به أحسن من تفسيره بالتفسيرين السابقين أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ أطلقوهم وسلموهم إلي، والمراد بهم بنو إسرائيل الذين كان فرعون مستعبدهم، والتعبير عنهم بعباد الله تعالى للإشارة إلى أن استعباده إياهم ظلم منه، والأداء مجاز عما ذكر، وهذا كقوله عليه السلام فأرسل معنى بنا إسرائيل ولا تعذبهم وروي ذلك عن ابن زيد ومجاهد وقتادة أو أدوا إلى حق الله تعالى من الإيمان وقبول(13/119)
الدعوى يا عباد الله على أن مفعول أَدُّوا محذوف وعباد منادى وهو عام لبني إسرائيل والقبط، والأداء بمعنى الفعل للطاعة وقبول الدعوى وروي هذا عن ابن عباس، وأن عليهما قيل مصدرية قبلها حرف جر مقدر متعلق بجاءهم أي بأن أدوا، وتعقب بأنه لا معنى لقولك: جاءهم بالتأدية إلى، وحمله على طلب التأدية إلى لا يخلو عن تعسف ورد بأنه بتقدير القول وهو شائع مطرد فتقديره بأن قال أدوا إلي ولا يخلو عن تكلف ما ومع هذا الأمر مبني على جواز وصل المصدرية بالأمر والنهي وهو غير متفق عليه، نعم الأصح الجواز.
وقيل: هي مخففة من الثقيلة، وتعقب بأنها حينئذ يقدر معها ضمير الشأن ومفسره لا يكون إلا جملة خبرية وأيضا لا بد أن يقع بعدها النفي أو قد أو السين أو سوف أو لو وأن يتقدمها فعل قلبي ونحوه وأجيب بأن مجيء الرسول يتضمن معنى فعل التحقيق كالإعلام والفصل المذكور غير متفق عليه، فقد ذهب المبرد تبعا للبغاددة إلى عدم اشتراطه، والقول بأنه شاذ يصان القرآن عن مثله غير مسلم واشتراط كون مفسر ضمير الشأن جملة خبرية فيه خلاف على ما يفهم من كلام بعضهم، ولم يذكر في المغني في الباب الرابع في الكلام على ضمير الشأن إلا اشتراط كون مفسره جملة ولم يشترط فيها الخبرية ولم يتعرض لخلاف، نعم قال في الباب الخامس: النوع الثامن اشتراطهم في بعض الجملة الخبرية وفي بعضها الإنشائية وعد من الأول خبران وضمير الشأن لكنه قال بعد: وينبغي أن يستثنى من ذلك في خبري أن وضمير الشأن خبر أن المفتوحة إذا خففت فإنه يجوز أن يكون جملة دعائية كقوله تعالى وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها [النور: 9] في قراءة من قرأ أن وغضب بالفعل والاسم الجليل فاعل.
وحقق بعض الأجلة أن الإخبار عن ضمير الشأن بجملة إنشائية جائز عند الزمخشري أو هي مفسرة وقد تقدم ما يدل على القول دون حروفه لأن مجيء الرسول يكون برسالة ودعوة وكأن التفسير لمتعلقه المقدر أي جاءهم بالدعوة وهي أن أدوا إلى عباد الله إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ ولا تستكبروا عليه سبحانه بالاستهانة بوحيه جلّ شأنه ورسوله عليه السلام وَأَنْ كالتي قبلها، والمعنى على المصدرية بكفكم عن العلو على الله تعالى إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ تعليل للنهي أي آتيكم بحجة واضحة لا سبيل إلى إنكارها أو موضحة صدق دعواي وآتِيكُمْ على صيغة الفاعل أو المضارع، ولا يخفى حسن ذكر الأمين مع الأداء والسلطان مع العلاء، وذكر أن في الأول ترشيحا للاستعارة المصرحة أو المكنية بجعلهم كأنهم مال للغير في يده أمره بدفعه لمن يؤتمن عليه وفي الثاني تورية عن معنى الملك مرشحة بقوله لا تَعْلُوا وقرأت فرقة «أنّي» بفتح الهمزة فقيل هو أيضا على تعليل النهي بتقدير اللام، وقيل: هو متعلق بما دخله النهي نظير قولك لمن غضب من قول الحق له لا تغضب لأن قيل لك الحق وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أي التجأت إليه تعالى وتوكلت عليه جل شأنه أَنْ تَرْجُمُونِ من أن ترجموني أي تؤذوني ضربا أو شتما أو أن تقتلوني، وروي هذا عن قتادة وجماعة قيل: لما قال: أن لا تعلوا على الله توعدوه بالقتل فقال ذلك، وفي البحر أن هذا كان قبل أن يخبره عز وجل بعجزهم عن رجمه بقوله سبحانه: فلا يصلون إليكما والجملة عطف على الجملة المستأنفة، وقرأ أبو عمرو والأخوان عت بإدغام الذال في التاء وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ فكونوا بمعزل مني لا علي ولا لي ولا تتعرضوا لي بسوء فليس ذلك جزاء من يدعوكم إلى ما فيه فلاحكم، وقيل:
المعنى وإن لم تؤمنوا لي فلا موالاة بيني وبين من لا يؤمن فتنحوا واقطعوا أسباب الوصلة عني، ففي الكلام حذف الجواب وإقامة المسبب عنه مقامه والأول أوفق بالمقام، والاعتزال عليه عبارة عن الترك وإن لم تكن مفارقة بالأبدان فَدَعا رَبَّهُ بعد أن أصروا على تكذيبه عليه السلام أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ أي بأن هؤلاء إلخ فهو بتقدير الباء صلة الدعاء كما يقال دعا بهذا الدعاء، وفيه اختصار كأنه قيل: إن هؤلاء قوم مجرمون تناهى أمرهم في الكفر وأنت(13/120)
أعلم بهم فافعل بهم ما يستحقونه قيل كان دعاؤه عليه السلام اللهم عجل لهم ما يستحقون بإجرامهم، وقيل: قوله رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ إلى قوله فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس: 85- 88] وإنما ذكر الله سبحانه السبب الذي استوجبوا به الهلاك ليعلم منه دعاؤه والإجابة معا وإن دعاءه كان على يأس من إيمانهم وهذا من بليغ اختصارات الكتاب المعجز.
وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى والحسن في رواية وزيد بن علي بكسر همزة إن وخرج على إضمار القول أي قائلا إن هؤلاء إلخ فَأَسْرِ بِعِبادِي وهم بنو إسرائيل ومن آمن به من القبط لَيْلًا بقطع من الليل، والكلام بإضمار القول أما بعد الفاء أي فقال أسر إلخ فالفاء للتعقيب والترتيب والقول معطوف على ما قبله أو قبلها كأنه قيل قال: أو فقال إن كان الأمر كما تقول: فاسر إلخ، فالفاء واقعة في جواب شرط مقدر وهو وجوابه مقول القول المقدر مع الفاء أو بدونها على أنه استئناف والإضمار الأول أولى لقلة التقدير مع أن تقدير أن لا يناسب إذ لا شك فيه تحقيقا ولا تنزيلا وجعلها بمعنى إذا تكلف على تكلف وأبو حيان لا يجيز حذف الشرط وإبقاء جوابه في مثل هذا الموضع وقد شنع على الزمخشري في تجويزه، وقرأ نافع وابن كثير «فاسر» بوصل الهمزة من سرى.
إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ يتبعكم فرعون وجنوده إذا علموا بخروجكم فالجملة مستأنفة لتعليل الأمر بالسرى ليلا ليتأخر العلم به فلا يدركون والتأكيد لتقدم ما يلوح بالخبر وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً أي ساكنا كما قال ابن عباس يقال رها البحر يرهو رهوا سكن ويقال: جاءت الخيل رهوا أي ساكنة، قال الشاعر:
والخيل تمزع رهوا في أعنتها ... كالطير ينجو من الشؤبوب ذي البرد
ويقال افعل ذلك رهوا أي ساكنا على هينة وأنشد غير واحد للقطامي في نعت الركاب:
يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة ... ولا الصدور على الأعجاز تتكل
والظاهر أنه مصدر في الأصل يؤول باسم الفاعل، وجوز أن يكون بمعنى الساكن حقيقة وعن مجاهد رهوا أي منفرجا مفتوحا قال أبو عبيدة رها الرجل يرهو رهوا فتح بين رجليه، وعن بعض العرب أنه رأى جملا فالجا أي ذا سنامين فقال: سبحان الله تعالى رهو بين سنامين قالوا: أراد فرجة واسعة، والظاهر أيضا أنه مصدر مؤول أو فيه مضاف مقدر أي ذا فرجة قال قتادة: أراد موسى عليه السلام بعد أن جاوز البحر هو ومن معه أن يضربه بعصاه حتى يلتئم كما ضربه أولا فانفلق لئلا يتبعه فرعون وجنوده فأمر بأن يتركه رهوا أي مفتوحا منفرجا أو ساكنا على هيئته قارا على حاله من انتصاب الماء وكون الطريق يبسا ولا يضربه بعصاه ولا يغير منه شيئا ليدخله القبط فإذا حصلوا فيه أطبقه الله تعالى عليهم، وذلك قوله تعالى: إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ فهو تعليل للأمر بتركه رهوا، وقيل: رهوا سهلا، وقيل: يابسا، وقيل:
جددا، وقيل: غير ذلك والكل بيان لحاصل المعنى، وزعم الراغب أن الصحيح أن الرهو السعة من الطريق ثم قال: ومنه الرهاء المفازة المستوية ويقال لكل جوبة مستوية يجتمع فيها الماء رهو ومنه قيل: لا شفعة في رهو. والحق أن ما ذكره من جملة إطلاقاته وأما أنه الصحيح فلا وقرىء «أنهم» بالفتح أي لأنهم كَمْ تَرَكُوا أي كثيرا تركوا بمصر مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ حسن شريف في بابه، وأريد بذلك كما روي عن قتادة المواضع الحسان من المجالس والمساكن وغيرها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس وابن مردويه عن جابر أنه أريد به المنابر، وروي ذلك عن مجاهد وابن جبير أيضا، وقيل: السرر في الحجال والأول أولى، وقرأ ابن هرمز. وقتادة. وابن السميفع. ونافع في رواية خارجة «مقام»(13/121)
بضم الميم وَنَعْمَةٍ أي تنعم، قال الراغب: النعمة بالفتح التنعم وبناؤها بناء المرة من الفعل كالضربة والشتمة والنعمة بالكسر الحالة الحسنة وبناؤها بناء التي يكون عليها الإنسان كالجلسة والركبة وتقال للجنس الصادق بالقليل والكثير واختير هاهنا تفسير النعمة بالشيء المنعم به لأنه أنسب للترك وهي كثيرا ما تكون بهذا المعنى.
وقرأ أبو رجاء «ونعمة» بالنصب وخرج بالعطف على كَمْ، وقيل: هي معطوفة على محل ما قبلها كأنه قيل:
كم تركوا جنات وعيونا وزروعا ومقاما كريما ونعما كانُوا فِيها فاكِهِينَ طيبي الأنفس وأصحاب فاكهة ففاكه كلابن وتامر، وقال القشيري: لاهين، وقرأ الحسن. وأبو رجاء «فكهين» بغير ألف والفكه يستعمل كثيرا في المستخف المستهزئ فالمعنى مستخفين بشكر النعمة التي كانوا فيها.
وقال الجوهري: فكه الرجل بالكسر فهو فكه إذا كان مزاحا والفكه أيضا الأشر كَذلِكَ قال الزجاج: المعنى الأمر كذلك، والمراد التأكيد والتقرير فيوقف على ذلك فالكاف في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف أو الجار والمجرور كذلك، وقيل: الكاف في موضع نصب أي نفعل فعلا كذلك لمن نريد إهلاكه، وقول الكلبي: أي كذلك أفعل بمن عصاني ظاهر فيما ذكر، وقال الزمخشري: الكاف منصوبة على معنى مثل ذلك الإخراج أي المفهوم مما تقدم أخرجناهم منها وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ عطف على تركوا والجملة معترضة فيما عدا القول الأخير وعلى أخرجناهم فيه، وقيل: الكاف منصوبة على معنى تركوا تركا مثل ذلك فالعطف على تَرَكُوا بدون اعتراض وهو كما ترى، والمراد بالقوم الآخرين بنو إسرائيل وهم مغايرون للقبط جنسا ودينا. ويفسر ذلك قوله تعالى في سورة [الشعراء: 59] كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ وهو ظاهر في أن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون وملكوها وبه قال الحسن.
وقيل: المراد بهم غير بني إسرائيل رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون وملكوها وبه قال الحسن.
وقيل: المراد بهم غير بني إسرائيل ممن ملك مصر بعد هلاك القبط وإليه ذهب قتادة قال: لم يرد في مشهور التواريخ أن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر ولا أنهم ملكوها قط وأول ما في سورة الشعراء بأنه من باب وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ [فاطر: 11] وقولك: عندي درهم ونصفه فليس المراد خصوص ما تركوه بل نوعه وما يشبهه، والإيراث: الإعطاء وقيل: المراد من إيراثها إياهم تمكينهم من التصرف فيها ولا يتوقف ذلك على رجوعهم إلى مصر كما كانوا فيها أولا، وأخذ جمع بقول الحسن وقالوا لا اعتبار بالتواريخ وكذا الكتب التي بيد اليهود اليوم لما أن الكذب فيها كثير وحسبنا كتاب الله تعالى وهو سبحانه أصدق القائلين وكتابه جلّ وعلا مأمون من تحريف المحرفين فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ مجاز عن عدم الاكتراث بهلاكهم والاعتداد بوجودهم، وهو استعارة تمثيلية تخييلية شبه حال موتهم لشدته وعظمته بحال من تبكي عليه السماء والأجرام العظام وأثبت له ذلك والنفي تابع للإثبات في التجوز كما حقق في موضعه، وقيل: هي استعارة مكنية تخييلية بأن شبه السماء والأرض بالإنسان وأسند إليهما البكاء أو تمثيلية بأن شبه حالهما في عدم تغير حالهما وبقائهما على ما كانا عليه بحال من لم يبك، وليس بشيء كما لا يخفى على من راجع كلامهم، وقد كثر في التعظيم لمهلك الشخص بكت عليه السماء والأرض وبكته الريح ونحو ذلك، قال يزيد بن مفرغ:
الريح يبكي شجوه ... والبرق يلمع في غمامه
وقال النابغة:(13/122)
بكى حارث الجولان من فقد ربه ... وحوران منه خاشع متضائل
أراد بهما مكانين معروفين، وقال جرير:
لما أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشع
وقال الفرزدق يرثي أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز:
الشمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
يتعجب من طلوع الشمس وكان من حقها أن لا تطلع أو تطلع كاسفة، والنجوم تروى منصوبة ومرفوعة فالنصب على المغالبة أي تغلب الشمس النجوم في البكاء نحو باكيته فبكيته، قال جار الله: كان رضي الله تعالى عنه يتهجد بالليل فتبكيه النجوم ويعدل بالنهار فتبكيه الشمس والشمس غالبة في البكاء لأن العدل أفضل من صلاة الليل، والجوهري جعلها منصوبة بكاسفة أي لا تكسف ضوء النجوم لكثرة بكائها وكأنه جعل خفاء النجوم تحت ضوء الشمس كسفا لها مجازا، وفيه أن الكسف بالمعنى المذكور غير واضح وتخلل تبكي غير مستفصح وفي حواشي الصحاح الشمس كاسفة ليست بطالعة. وفيها أن نجوم الليل ظرف أي طول الدهر كأنه من باب آتيك الشمس والقمر أي وقتهما كأنه قيل: تبكي ما يطلع النجوم والقمر، وفيه أن مثل هذا الظرف مسموع لا يثبت إلا بثبت فكيف يعدل إليه مع المعنى الواضح، وقيل: التقدير تبكي بكاء النجوم فحذف المضاف، وفيه أنه مما لا يكاد يفهم، والرفع واضح والقمر منصوب على أنه مفعول معه وهذا استطراد دعانا إليه شهرة البيت مع كثرة الخبط فيه.
وأخرج الترمذي وجماعة عن أنس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما من عبد إلا وله في السماء بابان باب يصعد منه عمله وباب ينزل منه رزقه فالمؤمن إذا مات فقداه وبكيا عليه وتلا هذه الآية فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ»
وذكر أنهم لم يكونوا يعملون على وجه الأرض عملا صالحا فتفقدهم فتبكي عليهم، ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم ولا من عملهم كلام طيب ولا عمل صالح فتفقدهم فتبكي عليهم.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان والحاكم وصححه وغيرهما عن ابن عباس قال: «إن الأرض لتبكي على المؤمن أربعين صباحا ثم قرأ الآية»
وأخرج ابن المنذر وغيره عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: إن المؤمن إذا مات بكى عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء ثم تلا فَما بَكَتْ
إلخ وجعلوا كل ذلك من باب التمثيل.
ومن أثبت كالصوفية للأجرام السماوية والأرضية وسائر الجمادات شعورا لائقا بحالها لم يحتج إلى اعتبار التمثيل وأثبت بكاء حقيقيا لها حسبما تقتضيه ذاتها ويليق بها أو أوله بالحزن أو نحوه وأثبته لها حسب ذلك أيضا.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عطاء بكاء السماء حمرة أطرافها. وأخرج ابن أبي الدنيا عن الحسن نحوه، وأخرج عن سفيان الثوري قال: كان يقال هذه الحمرة التي تكون في السماء بكاء السماء على المؤمن ولعمري ينبغي لمن لم يضحك من ذلك أن يبكي على عقله، وأنا لا أعتقد أن من ذكر من الأجلة كانوا يعتقدونه، وقيل: إن الآية على تقدير مضاف أي فما بكت عليهم سكان السماء وهم الملائكة وسكان الأرض وهم المؤمنون بل كانوا بهلاكهم مسرورين.
وروي هذا عن الحسن والأحسن ما تقدم وَما كانُوا لما جاء وقت هلاكهم مُنْظَرِينَ ممهلين إلى وقت آخر أو إلى يوم القيامة بل عجل لهم في الدنيا وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ بما فعلنا بفرعون وقومه ما فعلنا مِنَ(13/123)
الْعَذابِ الْمُهِينِ
من استعباد فرعون وقتله أبناءهم واستحيائه نساءهم على الخسف والضيم مِنْ فِرْعَوْنَ بدل من العذاب على حذف المضاف والتقدير من عذاب فرعون أو جعله عليه اللعنة عين العذاب مبالغة، وجوز أن يتعلق بمحذوف يقع حالا أي كائنا من جهة فرعون، وقيل: متعلق بمحذوف واقع صفة أي كائنا أو الكائن من فرعون ولا بأس بهذا إذا لم يعد ذلك من حذف الموصول مع بعض صلته.
وقرأ عبد الله «من عذاب المهين» على إضافة الموصوف إلى صفته كبقلة الحمقاء. وقرأ ابن عباس من «فرعون» على الاستفهام لتهويل العذاب أي هل تعرفون من فرعون في عتوه وشيطنته فما ظنكم بعذابه، وقيل: لتحقير فرعون بجعله غير معلوم يستفهم عنه كالنكرة لما فيه في القبائح التي لم يعهد مثلها وما بعد يناسب ما قبل كما لا يخفى.
وأيا ما كان فالظاهر أن الجملة استئناف، وقيل: إنها مقول قول مقدر هو صفة للعذاب، وقدر المقول عنده إن كان تعريف العذاب للعهد ومقول إن كان للجنس فلا تغفل إِنَّهُ كانَ عالِياً متكبرا مِنَ الْمُسْرِفِينَ في الشر والفساد، والجار والمجرور إما خبر ثاني لكان أي كان متكبرا مغرقا في الإسراف، وإما حال من الضمير المستتر في عاليا أي كان متكبرا في حال إغراقه في الإسراف وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ أي اصطفينا بني إسرائيل وشرفناهم عَلى عِلْمٍ أي عالمين باستحقاقهم ذلك أو مع علم منا بما يفرط منهم في بعض الأحوال، وقيل: عالمين بما يصدر منهم من العدل والإحسان والعلم والإيمان، ويرجع هذا إلى ما قيل أولا فإن العدل وما معه من أسباب الاستحقاق، وقيل: لأجل علم فيهم، وتعقب بأنه ركيك لأن تنكير العلم لا يصادق محزه.
وأجيب بأنه للتعظيم ويحسن اعتباره علة للاختيار عَلَى الْعالَمِينَ أي عالمي زمانهم كما قال مجاهد وقتادة فالتعريف للعهد أو الاستغراق العرفي فلا يلزم تفضيلهم على أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم الذين هم خير أمة أخرجت للناس على الإطلاق، وجوز أن يكون للاستغراق الحقيقي والتفضيل باعتبار كثرة الأنبياء عليهم السلام فيهم لا من كل الوجوه حتى يلزم تفضيلهم على هذه الأمة المحمدية، وقيل: المراد اخترناهم للإيحاء على الوجه الذي وقع وخصصناهم به دون العالمين، وليس بشيء، ومما ذكرنا يعلم أنه ليس في الآية تعلق حرفي جر بمعنى بمتعلق واحد لأن الأول متعلق بمحذوف وقع حالا والثاني متعلق بالفعل كقوله:
ويوما على ظهر الكثيب تعذرت ... عليّ وآلت حلفة لم تحلل
وقيل: لأن كل حرف بمعنى وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ كفلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغيرها من عظائم الآيات التي لم يعهد مثلها في غيرهم، وبعضها وإن أوتيها موسى عليه السلام يصدق عليهم أنهم أوتوه لأن ما للنبي لأمته ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ أي نعمة ظاهرة أو اختبار ظاهر لننظر كيف يعملون، وفي فِيهِ إشارة إلى أن هناك أمورا أخرى ككونه معجزة إِنَّ هؤُلاءِ كفار قريش لأن الكلام فيهم، وذكر قصة فرعون وقومه استطرادي للدلالة على أنهم مثلهم في الإصرار على الضلالة والإنذار عن مثل ما حل بهم، وفي اسم الإشارة تحقير لهم لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى أي ما العاقبة ونهاية الأمر إلا الموتة الأولى المزيلة للحياة الدنيوية وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ أي بمبعوثين بعدها، وتوصيفها بالأولى ليس لقصد مقابلة الثانية كما في قولك: حج زيد الحجة الأولى، ومات.
قال الاسنوي في التمهيد: الأول في اللغة ابتداء الشيء ثم قد يكون له ثان وقد لا يكون، كما تقول: هذا أول ما اكتسبته فقد تكتسب بعده شيئا وقد لا تكتسب كذا ذكره جماعة منهم الواحدي في تفسيره والزجاج.
ومن فروع المسألة ما لو قال: إن كان أول ولد تلدينه ذكرا فأنت طالق تطلق إذا ولدته، وإن لم تلد غيره(13/124)
بالاتفاق، قال أبو علي: اتفقوا على أنه ليس من شرط كونه أولا أن يكون بعده آخر، وإنما الشرط أن لا يتقدم عليه غيره اهـ، ومنه يعلم ما في قول بعضهم: إن الأول يضايف الآخر والثاني ويقتضي وجوده بلا شبهة، والمثال إن صح فإنما هو فيمن نوى تعدد الحج فاخترمته المنية فلحجه ثان باعتبار العزم من قصور الاطلاع وأنه لا حاجة إلى أن يقال: إنها أولى بالنسبة إلى ما بعدها من حياة الآخرة بل هو في حد ذاته غير مقبول لما قال ابن المنير من أن الأولى إنما يقابلها أخرى تشاركها في أخص معانيها، فكما لا يصح أو لا يحسن أن يقول: جاءني رجل وامرأة أخرى لا يقال الموتة الأولى بالنسبة لحياة الآخرة، وقيل: إنه قيل لهم إنكم تموتون موتة تتعقبها حياة كما تقدمتكم موتة قد تعقبتها حياة، وذلك قوله عز وجل وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [البقرة: 28] فقالوا إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى يريدون ما الموتة التي من شأنها أن تتعقبها حياة، إلا الموتة الأولى دون الثانية وما هذه الصفة التي تصفون بها الموتة من تعقب الحياة لها إلا للموتة الأولى خاصة، وهذا ما ارتضاه جار الله وأراد أن النفي والإثبات لما كان لرد المنكر المصر إلى الصواب كان منزلا على إنكارهم، لا سيما والتعريف في الأولى تعريف عهد، وقوله تعالى: الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان:
56] تفسير للمبهم وهي على نحو هي العرب تقول كذا فيتطابقان والمعهود الموتة التي تعقبتها الحياة الدنيوية، ولذلك استشهد بقوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً إلخ فليس اعتبار الوصف عدولا عن الظاهر من غير حاجة كما قال ابن المنير. وقوله في الاعتراض أيضا: إن الموت السابق على الحياة الدنيوية لا يعبر عنه بالموتة لأن فِيهَا لمكان بناء المرة إشعارا بالتجدد والموت السابق مستصحب لم تتقدمه حياة مدفوع كما قال صاحب الكشف، ثم إنه لا يلزم من تفسير الموتة الأولى بما بعد الحياة في قوله تعالى: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى تفسيرها بذلك هنا لأن إيقاع الذوق عليها هناك قرينة أنها التي بعد الحياة الدنيا لأن ما قبل الحياة غير مذوق، ومع هذا كله الإنصاف أن حمل الموتة الأولى هنا أيضا على التي بعد الحياة الدنيا أظهر من حملها على ما قبل الحياة من العدم بل هي المتبادرة إلى الفهم عند الإطلاق المعروفة بينهم، وأمر الوصف بالأولى على ما سمعت أولا.
وقيل: إنهم وعدوا بعد هذه الموتة موتة القبر وحياة البعث فقوله تعالى عنهم إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى رد للموتة الثانية وفي قوله سبحانه وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ نفي لحياة القبر ضمنا إذ لو كانت بدون الموتة الثانية لثبت النشر ضرورة فَأْتُوا بِآبائِنا خطاب لمن وعدهم بالنشور من الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين أي فأتوا لنا بمن مات من آبائنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في وعدكم ليدل ذلك على صدقكم ودلالة الإيقان إما لمجرد الإحياء بعد الموت وإما بأن يسألوا عنه، قيل: طلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يدعو الله تعالى فيحيي لهم قصي بن كلاب ليشاوروه في صحة النبوة والبعث إذ كان كبيرهم ومستشارهم في النوازل أَهُمْ خَيْرٌ في القوة والمنعة أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ هو تبع الأكبر الحميري واسمه أسعد بهمزة، وفي بعض الكتب سعد بدونها وكنيته أبو كرب وكان رجلا صالحا. أخرج الحاكم وصححه عن عائشة قالت: كان تبع رجلا صالحا ألا ترى أن الله تعالى ذم قومه ولم يذمه، وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس لا يشتبهن عليكم أمر تبع فإنه كان مسلما،
وأخرج أحمد والطبراني وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سهل بن سعد الساعدي قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم»
وأخرج ابن عساكر وابن المنذر عن ابن عباس قال: سألت كعبا عن تبع فإني أسمع الله تعالى يذكر في القرآن قوم تبع ولا يذكر تبعا فقال: إن تبعا كان رجلا من أهل اليمن ملكا منصورا فسار بالجيوش حتى انتهى إلى سمرقند فرجع فأخذ طريق الشام فأسر بها أحبارا فانطلق بهم نحو اليمن حتى إذا دنا من ملكه طار في الناس أنه هادم الكعبة فقال له: الأحبار: ما هذا الذي تحدث به نفسك فإن هذا البيت لله تعالى وإنك لن تسلط عليه فقال: إن هذا لله تعالى وأنا أحق من حرمه فأسلم من مكانه وأحرم فدخلها محرما فقضى نسكه ثم انصرف نحو اليمن راجعا حتى قدم على قومه فدخل عليه أشرافهم فقالوا: يا تبع أنت(13/125)
سيدنا وابن سيدنا خرجت من عندنا على دين وجئت على غيره فاختر منا أحد أمرين إما أن تخلينا وملكنا وتعبد ما شئت وإما أن تذر دينك الذي أحدثت وبينهم يومئذ نار تنزل من السماء فقال الأحبار عند ذلك: اجعل بينك وبينهم النار فتواعد القوم جميعا على أن يجعلوها بينهم فجيء بالأحبار وكتبهم وجيء بالأصنام وعمارها وقدموا جميعا إلى النار وقامت الرجال خلفهم بالسيوف فهدرت النار هدير الرعد ورمت شعاعا لها فنكص أصحاب الأصنام وأقبلت النار وأحرقت الأصنام وعمارها وسلّم الآخرون فأسلم قوم واستسلم قوم فلبثوا بعد ذلك عمر تبع حتى إذا نزل بتبع الموت استخلف أخاه وهلك فقتلوا أخاه وكفروا صفقة واحدة، وفي رواية عن ابن عباس أن تبعا لما أقبل من الشرق بعد أن حبر الحيرة أي بناها ونظم أمرها. وهي بكسر الحاء المهملة وياء ساكنة مدينة بقرب الكوفة. وبنى سمرقند وهي مدينة بالعجم معروفة، وقيل: إنه هدمها وقصد المدينة وكان قد خلف بها حين سافر ابنا له فقتل غيلة فأجمع على خرابها واستئصال أهلها فجمع له الأنصار وخرجوا لقتاله وكانوا يقاتلوه بالنهار ويقرونه بالليل فأعجبه ذلك وقال: إن هؤلاء لكرام فبينما هو على ذلك إذ جاءه كعب، وأسد ابنا عم من قريظة حبران وأخبراه أنه يحال بينك وبين ما تريد فإنها مهاجر نبي من قريش اسمه محمد صلّى الله عليه وسلّم ومولده بمكة فثناه قولهما عما يريد ثم دعواه إلى دينهما فاتبعهما وأكرمهما فانصرفوا عن المدينة ومعهم نفر من اليهود فقال له في الطريق نفر من هذيل: ندلك على بيت فيه كنز من لؤلؤ وزبرجد وذهب وفضة بمكة وأرادت هذيل هلاكه لأنهم عرفوا أنه ما أراده أحد بسوء إلا هلك فذكر ذلك للحبرين فقالا: ما نعلم لله عز وجلّ بيتا في الأرض اتخذه لنفسه غير هذا فاتخذه مسجدا وانسك عنده واحلق رأسك وما أراد القوم إلا هلاكك فأكرمه وكساه وهو أول من كسى البيت وقطع أيدي أولئك النفر من هذيل وأرجلهم وسمل أعينهم وصلبهم. وفي رواية أنه قال للحبرين حين قالا له ما قالا:
وأنتما ما يمنعكما من ذلك؟ فقالا: أما والله إنه لبيت أبينا إبراهيم عليه السلام وإنه لكما أخبرناك ولكن أهله حالوا بيننا وبينه بالأوثان التي نصبوها حوله وبالدماء التي يريقونها عنده وهم نجس أهل شرك فعرف صدقهما ونصحهما فطاف بالبيت ونحر وحلق رأسه وأقام بمكة ستة أيام فيما يذكرون ينحر للناس ويطعم أهلها ويسقيهم العسل، وقيل: إنه أراد تخريب البيت فرمي بداء عظيم فكف عنه وكساه.
وأخرج ابن عساكر عن ابن إسحاق أن تبعا أري في منامه أن يكسو البيت فكساه الخصف ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه المعافر ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه الوصائل وصائل اليمن فكان فيما ذكر لي أول من كساه وأوصى بها ولاته من جرهم وأمر بتطهيره وجعل له بابا ومفتاحا. وفي رواية أنه قال أيضا: ولا تقربوه دما ولا ميتا ولا تقربه حائض، وفي نهاية ابن الأثير في الحديث أن تبعا كسى البيت المسوح فانتفض البيت منه ومزقه عن نفسه ثم كساه الخصف فلم يقبله ثم كساه الانطاع، وفي موضع آخر منها أن أول من كسى الكعبة كسوة كاملة تبع كساها الانطاع ثم كساها الوصائل والخصف فعل بمعنى مفعول من الخصف وهو ضم الشيء إلى الشيء والمراد شيء منسوج من الخوص على ما هو الظاهر، وقيل: أريد به هاهنا الثياب الغلاظ جدا تشبيها بالخصف المذكور، والمعافر برود من اليمن منسوبة إلى معافر قبيلة بها، والميم زائدة، والوصائل ثياب حمر مخططة يمانية، والمسوح جمع مسح بكسر الميم وسكون المهملة أثواب من شعر غليظة، والانطاع جمع نطع بالكسر وبالفتح وبالتحريك بسط من أديم. وأخرج ابن سعد وابن عساكر عن أبي بن كعب قال: لما قدم تبع المدينة ونزل بفنائها بعث إلى أحبار يهود فقال: إني مخرب هذا البلد حتى لا تقوم به يهودية ويرجع الأمر إلى دين العرب فقال له:
شامول اليهودي وهو يومئذ أعلمهم: أيها الملك إن هذا بلد يكون إليه مهاجر نبي من بني إسماعيل مولده بمكة اسمه أحمد وهذه دار هجرته إلى أن قال: قال وما صفته؟ قال: رجل ليس بالقصير ولا بالطويل في عينيه حمرة يركب البعير ويلبس الشملة سيفه على عاتقه لا يبالي من لاقى حتى يظهر أمره فقال تبع: ما إلى هذا البلد من سبيل وما كان ليكون(13/126)
خرابها على يدي. وذكر أبو حاتم الرياشي أنه آمن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يبعث بسبعمائة سنة، وقيل: بينه وبين مولده عليه الصلاة والسلام ألف سنة، والقولان يدلان على أنه قبل مبعث عيسى عليه السلام. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال:
لا تقولوا في تبع إلا خيرا فإنه قد حج البيت وآمن بما جاء به عيسى ابن مريم، وهو يدل على أنه بعد مبعث عيسى عليه السلام، والأول أشهر.
ومن حديث عباد بن زياد المري أنه لما أخبره اليهود أنه سيخرج نبي بمكة يكون قراره بهذا البلد. يعني المدينة اسمه أحمد وأخبروه أنه لا يدركه قال للأوس والخزرج:
حدثت أن رسول الملي ... ك يخرج حقا بأرض الحرم
ولو مد دهري إلى دهره ... لكنت وزيرا له وابن عم
وفي البحر بدل البيت الأول:
شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله باري النسم
وفيه أيضا رواية عن ابن إسحاق وغيره أنه كتب أيضا كتابا وكان فيه: أما بعد فإني آمنت بك وبكتابك الذي أنزل عليك وأنا على دينك وسنتك وآمنت بربك ورب كل شيء وآمنت بكل ما جاء من ربك من شرائع الإسلام فإن أدركتك فبها ونعمت وإن لم أدركك فاشفع لي ولا تنسني يوم القيامة فإني من أمتك الأولين وتابعيك قبل مجيئك وأنا على ملتك وملة أبيك إبراهيم عليه السلام، ثم ختم الكتاب ونقش عليه لله الأمر من قبل ومن بعد، وكتب عنوانه إلى محمد بن عبد الله نبي الله ورسوله خاتم النبيين ورسول رب العالمين صلّى الله عليه وسلّم من تبع الأول ودفعه إلى عظيم من الأوس والخزرج وأمره أن يدفعه للنبي عليه الصلاة والسلام أن أدركه.
ويقال: إنه بنى له دارا في المدينة يسكنها إذا أدركه صلّى الله عليه وسلّم وقدم إليها وأن تلك الدار دار أبي أيوب خالد بن زيد وأن الشعر والكتاب وصلا إليه وأنه من ولد ذلك الرجل الذي دفعا إليه أولا، ولما ظهر النبي عليه الصلاة والسلام دفعوا الكتاب إليه فلما قرىء عليه قال: مرحبا بتبع الأخ الصالح ثلاث مرات.
وجاء أنه صلّى الله عليه وسلّم صلّى عليه صلاة الجنازة وكذا على البراء بن معرور بعد وفاته بشهر يوم قدومه عليه الصلاة والسلام المدينة كما قال النجم الغيطي وكانت صلاة الجنازة قد فرضت تلك السنة، وكون هذا هو تبع الأول ويقال له الأكبر هو المذكور في غير ما كتاب، وذكر عبد الملك بن عبد الله بن بدرون في شرحه لقصيدة ابن عبدون أن أسعد هذا هو تبع الأوسط وذكر أيضا أن ملكه ثلاثمائة وعشرين سنة وملك بعده عمرو أربعا وستين سنة، وقال ابن قتيبة حسان وهو الذي قتل زرقاء اليمامة وأباد جديسا وكان ملكه خمسا وعشرين سنة والتواريخ ناطقة بتقدم تبابعة عليه فإن تبعا يقال لمن ملك اليمن مطلقا كما يقال لملك الترك خاقان، والروم قيصر، والفرس كسرى أو لا يسمى به إلا إذا كانت له حمير وحضرموت كما في القاموس أو إلا إذا كانت له حمير وسبأ وحضرموت كما ذكره الطيبي، والمتصف بذلك غير واحد كما لا يخفى على من أحاط خبرا بالتواريخ. وما تقدم من حكاية أنه هدم سمرقند ذكر عبد الملك خلافه ونسب هدمها إلى شمر بن افريقيس بن أبرهة أحد التبابعة أيضا كان قبل تبع المذكور بكثير قال: إن شمر خرج نحو العراق ثم توجه يريد الصين ودخل مدينة الصغد فهدمها وسميت شمر كند أي شمر خربها وعربت بعد فقيل سمرقند اهـ.(13/127)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
وحكاية البناء يمكن نسبتها إلى شمر هذا فإن كند في لغة أهل أذر بيجان ونواحيها على ما قيل بمعنى القرية فسمرقند بمعنى قرية شمر وهو أوفق بالبناء، وذكر علامة عصره الملا أمين أفندي العمري الموصلي تغمده الله تعالى برحمته في كتابه شرح ذات الشفاء أن تبعا الذي ذكر سابقا هو ابن حسان وأنه ملك الدنيا كلها وأنه يقال له الرائش لأنه راش الناس بالعطاء، ولعل ما قاله قول لبعضهم وإلا فقد قال ابن قتيبة: إنه ابن كليكرب.
وفي شرح قصيدة ابن عبدون أن الرائش لقب الحارث بن بدر أحد التبابعة، وهو قبل أسعد المتقدم ذكره بزمان طويل جدا، وهو أيضا ممن ذكر نبينا صلّى الله عليه وسلّم في شعره فقال:
ويملك بعدهم رجل عظيم ... نبي لا يرخص في الحرام
يسمى أحمدا يا ليت أني ... أعمر بعد مخرجه بعام
ثم إن ملكه الدنيا كلها غير مسلم، وبالجملة الأخبار مضطربة في أمر التبابعة وأحوالهم وترتيب ملوكهم بل قال صاحب تواريخ الأمم: ليس في التواريخ أسقم من تاريخ ملوك حمير لما يذكر من كثرة عدد سنينهم مع قلة عدد ملوكهم فإن ملوكهم ستة وعشرون ومدتهم ألفان وعشرون سنة.
وقال بعض: إن مدتهم ثلاثة آلاف واثنان وثمانون سنة ثم ملك من بعدهم اليمن الحبشة والله تعالى أعلم بحقيقة الحال، والقدر المعول عليه هاهنا أن تبعا المذكور هو أسعد أبو كرب وأنه كان مؤمنا بنبينا صلّى الله عليه وسلّم وكان على دين إبراهيم عليه السلام ولم يكن نبيا، وحكاية نبوته عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا تصح، وأخباره بمبعثه صلّى الله عليه وسلّم لا يقتضيها لأنه علم ذلك من أحبار اليهود وهم عرفوه من الكتب السماوية.
وما روي من أنه عليه الصلاة والسلام قال: ما أدري أكان تبع نبيا أو غير نبي لم يثبت، نعم
روى أبو داود والحاكم أنه عليه الصلاة والسلام قال: «ما أدري أذو القرنين هو أم لا»
وليس فيه ما يدل على التردد في نبوته وعدمها فإن ذا القرنين ليس بنبي على الصحيح، ثم إن الظاهر أنه عليه الصلاة والسلام درى بعد أنه ليس ذا القرنين.
وقال قوم: ليس المراد بتبع هاهنا رجلا واحدا إنما المراد ملوك اليمن، وهو خلاف الظاهر والأخبار تكذبه، ومعنى تبع متبوع فهو فعل بمعنى مفعول وقد يجيء هذا اللفظ بمعنى فاعل كما قيل للظل تبع لأنه يتبع الشمس، ويقال لملوك اليمن إقيال من يقيل فلان أباه إذا اقتدى به لأنهم يقتدى بهم، وقيل: سمي ملكهم قيلا لنفوذ أقواله وهو مخفف قيل كميت.
وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي قبل قوم تبع كعاد وثمود أو قبل قريش فهو تعميم بعد تخصيص أَهْلَكْناهُمْ استئناف لبيان عاقبة أمرهم هدد به كفار قريش أو حال بإضمار قد أو بدونه من الضمير المستتر في الصلة أو خبر عن الموصول إن جعل مبتدأ ولم يعطف على ما قبله إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ تعليل لإهلاكهم أي أهلكناهم بسبب كونهم مجرمين فليحذر كفار قريش الإهلاك لإجرامهم.(13/128)
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما أي ما بين الجنسين وهو شامل لما بين الطبقات.
وقرأ عبيد بن عمير «وما بينهن» فالضمير لمجموع السموات والأرض لاعِبِينَ أي عابثين وهو دليل على وقوع الحشر كما مر في الأنبياء وغيرها ما خَلَقْناهُما أي وما بينهما إِلَّا بِالْحَقِّ استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي ما خلقناهما ملتبسين بشيء من الأشياء إلا ملتبسين بالحق فالجار والمجرور في موضع الحال من الفاعل، وجوز أن يكون في موضع الحال من المفعول، والباء للملابسة فيهما، وجوز أن تكون للسببية، والاستثناء مفرغ من أعم الأسباب أي ما خلقناهما بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق الذي هو الإيمان والطاعة والبعث والجزاء والملابسة أظهر وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ تذييل وتجهيل فخيم لمنكري الحشر وتوكيد لأن إنكارهم يؤدي إلى إبطال الكائنات بأسرها وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور: 15] ولهذا قال المؤمنون: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ [آل عمران: 191] إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ أي فصل الحق عن الباطل والمحق عن المبطل بالجزاء أو فصل الشخص عن أحبابه وذوي قرابته مِيقاتُهُمْ وقت وعدهم أَجْمَعِينَ وقرىء «ميقاتهم» بالنصب على أنه اسم إن والخبر يَوْمَ الْفَصْلِ أي إن ميعاد حسابهم وجزائهم في يوم الفصل وليس مثل إن حراسنا أسدا يَوْمَ لا يُغْنِي بدل من يَوْمَ الْفَصْلِ أو عطف بيان عند من لا يشترط المطابقة تعريفا وتنكيرا، وجوز نصبه أعني مقدرا وأن يكون ظرفا لما دل عليه الفصل لا له للفصل بينه وبينه بأجنبي، وهو مصدر لا يعمل إذا فصل لضعفه أو له على قول من اغتفر الفصل إذا كان المعمول ظرفا كابن الحاجب، والرضي، وجوز أبو البقاء كونه صفة لميقاتهم. وتعقب بأنه جامد نكرة لاضافته للجملة فكيف يكون صفة للمعرفة مع أنه لا يصح بناؤه عند البصريين إذا أضيف إلى جملة صدرها معرب وهو المضارع أي يوم لا يجزي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً من الأغنياء أي الإجزاء، فشيئا منصوب على المصدرية يجوز كونه مفعولا به، ويغني بمعنى يدفع وينفع. وتنكير شَيْئاً للتقليل، والمولى الصاحب الذي من شأنه أن يتولى معونة صاحبه على أموره فيدخل في ذلك ابن العم والحلف والعتيق والمعتق وغيره، وذكر الخفاجي أنه من الولاية وهي التصرف فيشمل كل من يتصرف في آخر لأمر ما كقرابة وصداقة وهو قريب مما ذكرنا. وأيّا ما كان فليس ذلك من استعمال المشترك في أكثر من معنى واحد، ولو سلم أن هناك مشتركا استعمل في أكثر من معنى كانت الآية دليلا لابن الهمام عليه الرحمة في جواز ذلك في النفي فيقال عنده: ما رأيت عينا ويراد العين الباصرة وعين الذهب وغيرها ويعلم من نفي إغناء المولى نفي إغناء غيره من باب أولى.
وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ الضمير عند جمع المولى الأول والجمع باعتبار المعنى لأنه نكرة في سياق النفي وهي تعم دون الثاني لأنه أفيد وأبلغ لأن حال المولى الثاني نصرته معلوم من نفي الإغناء السابق، ولأنه إذا لم ينصر من(13/129)
استند إليه فكيف هو، وأيضا وجه جمع الضمير فيه أظهر، وجوز عوده على الثاني للدلالة على أنه لا ينصره غير مولاه وهو في سياق النفي أيضا وإن لم يكن في ذلك بمرتبة الأول. نعم قيل في وجه الجمع عليهما: إن النكرة في سياق النفي تدل على كل فرد فرد فلا يرجع الضمير لها جمعا.
وأجيب بأنه لا يطرد لأنها قد تحمل على المجموع بقرينة عود ضمير الجمع عليها، ولعل الأولى عود الضمير على المولى المفهوم من النكرة المنفية، وقال بعض: لو جعل الضمير للكفار كضمير مِيقاتُهُمْ كثرت الفائدة وقلت المئونة فتأمل إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ في محل رفع على أنه بدل من ضمير يُنْصَرُونَ أو في محل نصب على الاستثناء منه أي لا يمنع من العذاب إلا من رحمة الله تعالى وذلك بالعفو عنه وقبول الشفاعة فيه.
وجوز كونه بدلا أو استثناء من مَوْلًى وفيه كما في الأول دليل على ثبوت الشفاعة لكن الرجحان للأول لفظا ومعنى والاستثناء من أي كان متصل، وقال الكسائي: إنه منقطع أي لكن من رحمه الله تعالى فإنه لا يحتاج إلى قريب ينفعه ولا إلى ناصر ينصره، ولا وجه له مع ظهور الاتصال، نعم إنه لا يتأتى على كون الاستثناء من الضمير وكونه راجعا للكفار فلا تغفل.
إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الغالب الذي لا ينصر من أراد سبحانه تعذيبه الرَّحِيمُ لمن أراد أن يرحمه عزّ وجلّ.
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ مر معنى الزقوم في الصافات وقرىء «شجرة» بكسر الشين طَعامُ الْأَثِيمِ أي الكثير الآثام والمراد به الكافر لدلالة ما قبله وما بعده عليه دون ما يعمه والعاصي المكثر من المعاصي ثم إن المراد به جنس الكافر لا واحد بعينه، وقال ابن زيد وسعيد بن جبير: إنه هنا أبو جهل، وليس بشيء ولا دليل على ذلك بما أخرجه سعيد ابن منصور عن أبي مالك من أن أبا جهل كان يأتي بالتمر والزبد فيقول: تزقموا فهذا الزقوم الذي يعدكم به محمد صلّى الله عليه وسلّم فنزلت إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ لما لا يخفى، ومثله ما قيل: إنه الوليد وأخرج أبو عبيد في فضائله وابن الأنباري وابن المنذر عن عوف بن عبد الله أن ابن مسعود أقرأ رجلا إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ فقال الرجل طعام اليثيم (1) فرددها عليه فلم يستقم بها لسانه فقال أتستطيع أن تقول طعام الفاجر؟ قال: نعم قال: فافعل، وأخرج الحاكم وصححه وجماعة عن أبي الدرداء أنه وقع له مثل ذلك فلما رأى الرجل أنه لا يفهم قال: إن شجرة الزقوم طعام الفاجر.
واستدل بذلك على أن إبدال كلمة مكان كلمة جائز إذا كانت مؤدية معناها. وتعقبه القاضي أبو بكر في الانتصار بأنه أراد أن ينبهه على أنه لا يريد اليتيم (2) بل الفاجر فينبغي أن يقرأ الْأَثِيمِ وأنت تعلم أن هذا التأويل لا يكاد يتأتى فيما روي عن ابن مسعود فإنه كالنص تجويز الإبدال لذلك الرجل وأبعد منه عن التأويل ما
أخرج ابن مردويه عن أبي أنه كان يقرىء رجلا فارسيا فكان إذا قرأ عليه إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ قال: طعام اليتيم فمر به النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «قل طعام الظلام» فقالها ففصح بها لسانه
، وفي الباب أخبار كثيرة جياد الأسانيد
كخبر أحمد من حديث أبي هريرة «أنزل القرآن على سبعة أحرف عليما حكيما غفورا رحيما» .
وكخبره من حديث أبي بكرة كله أي القرآن شاف كاف ما لم تختم آية عذاب برحمة أو رحمة بعذاب نحو
__________
(1) بخط المؤلف بالثاء المثلثة.
(2) بالتاء المثناة اهـ منه.(13/130)
قولك تعالى وأقبل وأسرع وعجل إلى غير ذلك، لكن قال الطحاوي: إنما كان ذلك رخصة لما كان يتعسر على كثير منهم التلاوة بلفظ واحد لعدم علمهم بالكتابة والضبط وإتقان الحفاظ ثم نسخ بزوال العذر وتيسر الكتابة والحفظ، وكذا قال ابن عبد البر والباقلاني وآخرون، ولعله أن تحقق إبدال من أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم بعده عليه الصلاة والسلام يقال: إنه كان منه قبل الاطلاع على النسخ ومتى لم يجز إبدال كلمة مكان كلمة مؤدية معناها مع الاتحاد عربية فعدم جواز ذلك مع الاختلاف عربية وفارسية مثلا أظهر، وما روي عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه من أنه يرى جواز قراءة القرآن بالفارسية بشرط أداء المعاني على كمالها فقد صح عنه خلافه، وقد حقق الشرنبلالي عليه الرحمة هذه المسألة في رسالة مفردة بما لا مزيد عليه، وقد تقدم في هذا الكتاب شيء من ذلك فتذكر، والطعام ما يتناول منه من الغذاء وأصله مصدر فلذا وقع خبرا عن المؤنث ولم يطابق، وجوز أن يكون ذلك من باب قوله:
إنارة العقل مكسوف بطوع هوى ... وعقل عاصي الهوى يزداد تنويرا
فكأنه قيل: إن الزقوم طعام الأثيم كَالْمُهْلِ عكر الزيت كما
روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما وجاء في حديث رواه الحاكم وغيره عن أبي سعيد مرفوعا وفيه «فإذا قرب إلى وجهه- يعني الجهنمي- سقطت فروة وجهه»
وربما يؤيد بقوله تعالى: يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ [المعارج: 8] مع قوله سبحانه: فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ [الرحمن: 37] وقال بعض: عكر القطران، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الصدد، ومنه ما في حديث أبي بكر رضي الله تعالى عنه ادفنوني في ثوبي هذين فإنما هما للمهل والتراب. وفي رواية أخرى عنه رضي الله تعالى عنه أنه ما أذيب من ذهب أو فضة أو حديد أو رصاص، وروي ذلك عن ابن مسعود، قيل: وسمي ذلك مهلا لأنه في النار حتى يذوب فهو من المهل بمعنى السكون، وادعى بعضهم الاشتراك وقد جاء استعماله في كل ما سمعت، وقرأ الحسن «كالمهل» بفتح الميم وهو لغة فيه، والجار والمجرور أو الكاف في محل رفع خبر مبتدأ محذوف والجملة استئناف لبيان حال الطعام أي هو كالمهل أو مثل المهل، وقوله عزّ وجلّ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ خبر ثان لذلك المبتدأ، وقيل: حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور فيكون وصفا للطعام أيضا وقال أبو عبيد: هو حال من المهل، وقيل: صفة له لأن أل فيه للجنس نحو: أمرّ على اللئيم يسبني ويعتبر داخلا في التشبيه وأنت تعلم أن غليان الطعام في البطن فيه مبالغة أما التشبيه بمهل يغلي في البطن فلا، وقيل كالمهل أو الكاف خبر ثان لإن وجملة «يغلي في البطون» حال من الزقوم أو الطعام. وتعقب بأنه منع مجيء الحال من المضاف إليه في غير صور مخصوصة ليس هذا منها ومنع مجيئه من الخبر ومن المبتدأ. وأجيب بأن هذا بناء على جواز مجيء الحال من الخبر ومن المبتدأ والمضاف إليه المبتدأ في حكمه وأن ما ذكر من الصور التي يجيء الحال فيها من المضاف إليه لأن المضاف كالجزء في جوز إسقاطه، ولا يخفى أنه بناء على ضعيف، وقيل: كالمهل خبر ثان والجملة حال من ضمير الشجرة المستتر فيه، والتذكير باعتبار كونها طعام الأثيم أو لاكتسابها إياه مما أضيفت إليه نظير ما سمعت في البيت آنفا وهو تكلف مستغنى عنه، وقيل: الجملة على ذلك خبر مبتدأ محذوف هو ضمير الطعام أو الزقوم فإن كانت الجملة حينئذ مستأنفة فالبحث هين وإن كانت حالية عاد ما مر آنفا ولا أراك تظنه هينا، وقيل: كالمهل حال من طعام وحاله معلوم، وبالجملة الوجوه في إعراب الآية كثيرة وأنا أختار منها ما ذكرته أولا.
وقرأ عمرو بن ميمون وأبو رزين والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن وطلحة والحسن في رواية وأكثر السبعة «تغلي» بالتاء الفوقية فكالمهل خبر ثان لأن وجملة «تغلي» خبر ثالث واتحاد المبتدأ والخبر متكفل باتحاد القراءتين معنى فافهم ولا تغفل.(13/131)
كَغَلْيِ الْحَمِيمِ صفة مصدر محذوف أي غليا كغلي الحميم، وجوز أن يكون حالا، والحميم ما هو في غاية الحرارة خُذُوهُ على إرادة القول والمقول له الزبانية أي ويقال لهم خذوه فَاعْتِلُوهُ فجروه بقهر.
قال الراغب: العتل الأخذ بجامع الشيء وجره بقهر، وبعضهم يعبر بالثوب بدل الشيء وليس ذاك بلازم والمدار على الجر مع الإمساك بعنف.
وقال الأعمش ومجاهد: معنى (اعتلوه) اقصفوه كما يقصف الحطب، والظاهر عليه التضمين أو تعلق الجار بخذوه، والمعنى الأول هو المشهور. وقرأ زيد بن علي والحجازيان وابن عامر ويعقوب «فاعتلوه» بضم التاء وروي ذلك عن الحسن وقتادة والأعرج على أنه من باب قعد، وعلى قراءة الجمهور من باب نصر وهما لغتان إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ أي وسطه، وسمي سواء لاستواء بعد جميع أطرافه بالنسبة إليه.
ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ كأن أصله صبوا فوق رأسه الحميم، ثم قيل: صبوا فوق رأسه الحميم، ثم قيل: صبوا فوق رأسه عذابا هو الحميم للمبالغة بجعل العذاب عين الحميم، وهو مترتب عليه ولجعله مصبوبا كالمحسوس ثم أضيف العذاب إلى الحميم للتخفيف، وزيد مِنْ للدلالة على أن المصبوب بعض هذا النوع فهناك إما تمثيل أو استعارة تصريحية أو مكنية أو تخييلية ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ أي ويقال: أو قولوا له ذلك استهزاء وتقريعا على ما كان يزعمه.
أخرج عبد الرزاق وغيره عن قتادة قال: لما نزلت خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ قال أبو جهل: ما بين جبليها رجل أعز ولا أكرم مني، فقال الله تعالى: ذُقْ إلخ.
وأخرج الأموي في مغازيه عن عكرمة أن أبا جهل قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ما تستطيع لي أنت ولا صاحبك من شيء لقد علمت أنني أمنع أهل بطحاء وأنا العزيز الكريم فقتله الله تعالى يوم بدر وأذله وعيره بكلمته ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ وروي أن اللعين قال يوما: يا معشر قريش أخبروني ما اسمي فذكرت له ثلاث أسماء عمر والجلاس وأبو الحكم فقال: ما أصبتم اسمي ألا أخبركم به؟ قالوا: بلى قال: اسمي العزيز الكريم فنزلت إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ الآيات، وهذا ونحوه لا يدل أيضا على تخصيص حكم الآية به فكل أثيم يدعي دعواه كذلك يوم القيامة، وقيل: المعنى ذق إنك أنت العزيز في قومك الكريم عليهم فما أغنى ذلك عنك ولم يفدك شيئا، والذوق مستعار للإدراك.
وقرأ الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما على المنبر والكسائي «أنك» بفتح الهمزة على معنى لأنك.
إِنَّ هذا أي العذاب أو الأمر الذي أنتم فيه ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ تشكون وتمارون فيه، وهذا ابتداء كلام منه عزّ وجلّ أو من مقول القول والجمع باعتبار المعنى لما سمعت أن المراد جنس الأثيم.
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ في موضع قيام، والمراد بالقيام الثبات والملازمة كما في قوله تعالى: ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً [آل عمران: 75] ويكنى به عن الإقامة لأن المقيم ملازم لمكانه، وهو مراد من قال: في مقام أي موضع إقامة.
وقرأ عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما وزيد بن علي وأبو جعفر وشيبة والأعرج والحسن وقتادة ونافع وابن عامر «مقام» بضم الميم ومعناه موضع إقامة، وعلى ما قررنا ترجع القراءتان إلى معنى واحد.
أَمِينٍ يأمن صاحبه مما يكره فهو صفة من الأمن وهو عدم الخوف عما هو من شأنه، ووصف المقام به باعتبار أمن من آمن به فهو إسناد مجازي كما في نهر جار، وظاهر كلام الزمخشري أن ذلك استعارة من الأمانة كأن المكان مؤتمن وضع عنده ما يحفظه من المكاره ففيه استعارة مكنية وتخييلية، وقال ابن عطية: فعيل بمعنى مفعول أي(13/132)
مأمون فيه وليس بذاك، وجوز أن يكون للنسبة أي ذي أمن ي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
بدل من «مقام» بإعادة الجار أو الجار والمجرور بدل من الجار والمجرور، وظرفية العيون للمجاورة، والظاهر أنه بدل اشتمال لا كل وبعض، وفي ذلك دلالة على نزاهة مكانهم واشتماله على ما يستلذ من المآكل والمشارب.
يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ خبر ثان أو حال من الضمير في الجار والمجرور أو استئناف، والسندس قال ثعلب: الرقيق من الديباج والواحدة سندسة، والإستبرق غليظه، وقال الليث: هو ضرب من البزيون يتخذ من المرعز، ولم يختلف أهل اللغة في أنهما معربان كذا ذكره بعضهم.
وفي الكشاف الإستبرق ما غلظ من الديباج وهو تعريب استبر، قال الخفاجي: ومعنى استبر في لغة الفرس الغليظ مطلقا ثم خص بغليظ الديباج وعرب، وقيل: إنه عربي من البراقة، وأيد بقراءته بوصل الهمزة وهو كما ترى.
وذكر بعضهم أن السندس أصله سندي ومعناه منسوب إلى السند المكان المعروف لأن السندس كان يجلب منه فأبدلت ياء النسبة سينا، وقد مر الكلام في ذلك فتذكر، ثم إن وقوع المعرب في القرآن العظيم لا ينافي كونه عربيا مبينا. ونقل صاحب الكشف عن جار الله أنه قال: الكلام المنظوم مركب من الحروف المبسوطة في أي لسان كان تركي أو فارسي أو عربي ثم لا يدل على أن العربي أعجمي فكذا هاهنا، ثم قال صاحب الكشف: يريد أن كون استبر أعجميا لا يلزمه أن يكون إستبرق كذلك. وقرأ ابن محيصن «وإستبرق» فعلا ماضيا كما في البحر، والجملة حينئذ قيل معترضة، وقيل: حال من سُندُسٍ والمعنى يلبسون من سندس وقد برق لصقالته ومزيد حسنه مُتَقابِلِينَ في مجالسهم ليستأنس بعضهم ببعض كَذلِكَ أي الأمر كذلك فالكاف في محل رفع على الخبرية لمبتدأ محذوف، والمراد تقرير ما مر وتحقيقه. ونقل عن جار الله أنه قال: والمعنى فيه أنه لم يستوف الوصف وأنه بمثابة ما لا يحيط به الوصف فكأنه قيل: الأمر نحو ذلك وما أشبهه.
وأراد على ما قال المدقق أن الكاف مقحم للمبالغة وذلك مطرد في عرفي العرب والعجم، وجوز أن يكون في محل نصب على معنى أثبناهم مثل ذلك، وقوله تعالى: وَزَوَّجْناهُمْ على هذا عطف على الفعل المقدر وعلى ما قبل على يَلْبَسُونَ والمراد على ما قال غير واحد وقرناهم بِحُورٍ عِينٍ وفسر بذلك قيل لأن الجنة ليس فيها تكليف فلا عقد ولا تزويج بالمعنى المشهور، وقيل: لمكان الباء، وزوجه المرأة بمعنى أنكحه إياها متعد بنفسه، وفيه بحث فإن الأخفش جوز الباء فيه فيقال: زوجته بامرأة فتزوج بها، وأزد شنوءة يعدونه بالباء أيضا، وفي القاموس زوجته امرأة وتزوجت امرأة وبها أو هي قليلة، ويعلم مما ذكر أن قول بعض الفقهاء زوجته بها خطأ لا وجه له، ويجوز أن يقال: إن ذلك التفسير لأن الحور العين في الجنة ملك يمين كالسراري في الدنيا فلا يحتاج الأمر إلى العقد عليهن، على أنه يمكن أن يكون في الجنة عقد وإن لم يكن فيها تكليف.
وقد أخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد أنه قال: زوجناهم أنكحناهم. ومن الناس من قال بالتكليف فيها بمعنى الأمر والنهي لكن لا يجدون في الفعل والترك كلفة، نعم المشهور أن لا تكليف فيها، وبعض ما حرم في الدنيا كنكاح امرأة الغير ونكاح المحارم لا يفعلونه لعدم خطوره لهم ببال أصلا، والحور جمع حوراء وهي البيضاء كما روي عن ابن عباس والضحاك وغيرهما، وقيل: الشديدة سواد العين وبياضها، وقيل: الحوراء ذات الحور وهو سواد المقلة كلها كما في الظباء فلا يكون في الإنسان إلا مجازا. وأخرج ابن المنذر. وغيره عن مجاهد أن الحوراء التي يحار فيها الطرف.
والعين جمع عيناء وهي عظيمة العينين وأكثر الأخبار تدل على أنهن لسن نساء الدنيا،
أخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلق الحور العين من زعفران» وأخرج ابن مردويه والخطيب عن أنس بن مالك(13/133)
مرفوعا نحوه
،
وأخرج ابن المبارك عن زيد بن أسلم قال: إن الله تعالى لم يخلق الحور العين من تراب إنما خلقهن من مسك وكافور وزعفران.
وأخرج ابن مردويه والديلمي عن عائشة قالت: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حور العين خلقهن من تسبيح الملائكة عليهم السلام»
وهذا إن صح لا يعارض ما قبله إذ لا بد عليه من أن يقال بتجسد المعاني فيجوز تجسد التسبيح وجعله جزءا مما خلقن منه، وقيل: المراد بهن هنا نساء الدنيا وهن في الجنة حور عين بالمعنى الذي سمعت بل هن أجمل من الحور العين أعني النساء المخلوقات في الجنة من زعفران أو غيره ويعطى الرجل هناك ما كان له في الدنيا من الزوجات، وقد يضم إلى ذلك ما شاء الله تعالى من نساء متن ولم يتزوجن، ومن تزوجت بأكثر من واحد فهي لآخر أزواجها أو لأولهم إن لم يكن طلقها في الدنيا أو تخير فتختار من كان أحسنهم خلقا معها أقوال صحح جمع منها الأول، وتعطى زوجة كافر دخلت الجنة لمن شاء الله تعالى. وقد ورد أن آسية امرأة فرعون تكون زوجة نبينا صلّى الله عليه وسلّم.
وقرأ عكرمة «بحور عين» بالإضافة وهي على معنى من أي بالحور من العين، وفي قراءة عبد الله «بعيس عين» والعيساء البيضاء تعلوها حمرة يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ يطلبون ويأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه ولا يتخصص شيء منها بمكان ولا زمان آمِنِينَ من الضرر أي ضرر كان، وهو حال من ضمير يَدْعُونَ وكونه حالا من الضمير في قوله سبحانه: ي جَنَّاتٍ
بعيد، وأبعد منه جعل يَدْعُونَ حينئذ صفة الحور والنون فيه ضمير النسوة وزنه يفعلن لما فيه من ارتكاب خلاف الظاهر مع عدم المناسبة للسياق.
وقوله تعالى: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى جملة مستأنفة أو حالية وكأنه أريد أن يقال: لا يذوقون فيها الموت البتة فوضع الموتة الأولى موضع ذلك لأن الموتة الماضية محال ذوقها في المستقبل فهو من باب التعليق بالمحال كأنه قيل: إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في المستقبل فإنهم يذوقونها، ونظيره قول القائل لمن يستسقيه: لا أسقيك إلا الجمر وقد علم أن الجمر لا يسقى، ومثله قوله عزّ وجلّ: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النساء: 22] فالاستثناء متصل والدخول فرضي للمبالغة، وضمير فِيهَا للجنات، وقيل: هو متصل والمؤمن عند موته لمعاينة ما يعطاه في الجنة كأنه فيها فكأنه ذاق الموتة الأولى في الجنة، وقيل متصل وضمير «فيها» للآخرة والموت أول أحوالها، ولا يخفى ما فيه من التفكيك مع ارتكاب التجوز، وقيل: الاستثناء منقطع والضمير للجنات أي لكن الموتة الأولى قد ذاقوها في الدنيا، والأصل اتصال الاستثناء، وقال الطبراني: إلا بمعنى بعد، والجمهور لم يثبتوا هذا المعنى لها، وقال ابن عطية: ذهب قوم إلى أن إلا بمعنى سوى وضعفه الطبري.
وقال أبو حيان: ليس تضعيفه بصحيح بل يصح المعنى بسوى ويتسق. وفائدة الوصف تذكير حال الدنيا.
والداعي لما سمعت من الأوجه دفع سؤال يورد هاهنا من أن الموتة الأولى مما مضى لهم في الدنيا وما هو كذلك لا يمكن أن يذوقوه في الجنة فكيف استثنيت؟ وقيل: إن السؤال مبني على أن الاستثناء من النفي إثبات فيثبت للمستثنى الحكم المنفي عن المستثنى منه ومحال أن يثبت للموتة الأولى الماضية الذوق في الجنة، وأما على قول من جعله تكلما بالباقي بعد الثنيا، والمعنى لا يذوقون سوى الموتة الأول من الموت فلا إشكال فتأمل. وقرأ عبيد بن عمير «لا يذاقون» مبنيا للمفعول، وقرأ عبد الله «لا يذوقون فيها طعم الموت»
وجاء في الحديث النوم لأنه أخو الموت
، أخرج البزار والطبراني في الأوسط وابن مردويه والبيهقي في البعث بسند صحيح عن جابر بن عبد الله قال: «قيل يا رسول الله أينام أهل الجنة؟ قال: لا النوم أخو الموت وأهل الجنة لا يموتون ولا ينامون» .
وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ وقرأ أبو حيوة «ووقّاهم» مشدد القاف على المبالغة في التكثير في الوقاية لأن(13/134)
التفعيل لزيادة المعنى لا للتعدية لأن الفعل متعد قبله فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ أي أعطوا كل ذلك عطاء وتفضلا منه تعالى فهو نصب على المصدرية، وجوز فيه أن يكون حالا ومفعولا له، وأيا ما كان ففيه إشارة إلى نفي إيجاب أعمالهم الإثابة عليه سبحانه وتعالى. وقرىء «فصل» بالرفع أي ذلك فضل ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لأنه فوز بالمطالب وخلاص من المكاره فَإِنَّما يَسَّرْناهُ أي فإنما سهلنا القرآن بِلِسانِكَ أي بلغتك، وقيل: المعنى أنزلناه على لسانك بلا كتابة لكونه أميا، وهذا فذلكة وإجمال لما في السورة بعد تفصيل تذكيرا لما سلف مشروحا فيها، فالمعنى ذكرهم بالكتاب المبين فإنما يسرناه بلسانك لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي كي يفهموه ويتذكروا به ويعملوا بموجبه فَارْتَقِبْ أي وإن لم يتذكروا فانتظر ما يحل بهم وهو تعميم بعد تخصيص بقوله تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ [الدخان: 10] إلخ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ منتظرون ما يحل بك كما قالوا: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور: 30] وقيل: معناه مرتقبون ما يحل بهم تهكما، وقيل: هو مشاكلة، والمعنى أنهم صائرون للعذاب، وفي الآية من الوعد له صلّى الله عليه وسلّم ما لا يخفى، وقيل: فيها الأمر بالمتاركة وهو منسوخ بآية السيف فلا تغفل.
ومن باب الإشارة في الآيات: ما ذكروه في قوله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ إلى آخر القصة من تطبيق ذلك على ما في الأنفس، وهو مما يعلم مما ذكرناه في باب الإشارة من هذا الكتاب غير مرة فلا نطيل به، وقالوا في قوله تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ إنه إشارة إلى الوحدة كقوله عزّ وجلّ: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت: 53] وأفصح بعضهم فقال: الحق هو عزّ وجلّ والباء للسببية أي ما خلقناهما إلا بسبب أن تكون مرايا لظهور الحق جلّ وعلا، ومن جعل منهم الباء للملابسة أنشد:
رق الزجاج وراقت الخمر ... فتشاكلا وتشابه الأمر
فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر
والعبارة ضيقة والأمر طور ما وراء العقل والسكوت أسلم، وقالوا في شجرة الزقوم: هي شجرة الحرص وحب الدنيا تظهر يوم القيامة على أسوأ حال وأخبث طعم، وقالوا الْمَوْتَةَ الْأُولى ما كان في الدنيا بقتل النفس بسيف الصدق في الجهاد الأكبر وهو المشار إليه بموتوا قبل أن تموتوا فمن مات ذلك الموت حيي أبدا الحياة الطيبة التي لا يمازجها شيء من ماء الألم الجسماني والروحاني وذلك هو الفوز العظيم، والله تعالى يقول الحق وهو سبحانه يهدي السبيل.(13/135)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
سورة الجاثية
وتسمى سورة الشريعة وسورة الدهر كما حكاه الكرماني في العجائب لذكرهما فيها، وهي مكية قال ابن عطية:
بلا خلاف، وذكر الماوردي إلا قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا [الجاثية: 14] الآية فمدنية، وحكى هذا الاستثناء في جمال القراء عن قتادة، وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى. وهي سبع وثلاثون آية في الكوفي وست وثلاثون في الباقية لاختلافهم في «حم» هل هي آية مستقلة أو لا، ومناسبة أولها لآخر ما قبلها في غاية الوضوح.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إن جعل اسما للسورة فمحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذا مسمى بحم، وقوله تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتابِ خبر بعد خبر على أنه مصدر أطلق على المفعول مبالغة، وقوله سبحانه:
مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ صلته أو خبر ثالث أو حال من تَنْزِيلُ عاملها معنى الإشارة أو من الْكِتابِ الذي هو مفعول معنى عاملها المضاف، وقيل: حم مبتدأ وهذا خبره والكلام على المبالغة أيضا أو تأويل تَنْزِيلُ بمنزل،(13/136)
والإضافة من إضافة الصفة لموصوفها، واعتبار المبالغة أولى أي المسمى به تنزيل إلخ. وتعقب بأن الذي يجعل عنوانا للموضوع حقه أن يكون قبل ذلك معلوم الانتساب إليه وإذ لا عهد بالتسمية بعد فحقها الإخبار بها، وجوز جار الله جعل «حم» مبتدأ بتقدير مضاف أي تنزيل حم وتَنْزِيلُ المذكور خبره ومِنَ اللَّهِ صلته، وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر إيذانا بأنه الكتاب الكامل إن أريد بالكتاب السورة، وفيه تفخيم ليس في تنزيل حم تنزيل من الله، ولهذا لما لم يزاع في حم السجدة هذه النكتة عقب بقوله تعالى: كِتابٌ فُصِّلَتْ [فصلت: 3] ليفيد هذه الفائدة مع التفنن في العبارة، وإن أريد الكتاب كله فللإشعار بأن تنزيله كإنزال الكل في حصول الغرض من التحدي والتهدي، فدعوى عراء هذا الوجه عن فائدة يعتد بها عراء عن إنصاف يعتد به، وإن جعل تعديدا للحروف فلا حظ له من الإعراب وكان تَنْزِيلُ خبر مبتدأ مضمر يلوح به ما قبله أي المؤلف من جنس ما ذكر تنزيل الكتاب أو مبتدأ خبره الظرف بعده على ما قاله جار الله، وقيل: حم مقسم به ففيه حرف جر مقدر وهو في محل جر أو نصب على الخلاف المعروف فيه وتَنْزِيلُ نعت مقطوع فهو خبر مبتدأ مقدر والجملة مستأنفة وجواب القسم قوله تعالى: إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وهو على ما تقدم استئناف للتنبيه على الآيات التكوينية، وجوز أن يكون تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ مبتدأ وخبرا والجملة جواب القسم، وهو خلاف الظاهر، وقيل: يقدر حم على كونه مقسما به مبتدأ محذوف الخبر أي حم قسمي ويكون «تنزيل» نعتا له غير مقطوع، وعلى سائر الأوجه قوله سبحانه: الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ نعت للاسم الجليل.
وجوز الإمام كونه صفة للكتاب إلا أنه رجح الأول بعد احتياجه إلى ارتكاب المجاز مع زيادة قرب الصفة من الموصوف فيه، وأوجبه أبو حيان لما في الثاني من الفصل بين الصفة والموصوف الغير الجائز.
وقوله عزّ وجلّ: «إن في السموات» إلخ يجوز أن يكون بتقدير مضاف أي إن في خلق السموات كما رواه الواحدي عن الزجاج لما أنه قد صرح به في آية أخرى والقرآن يفسر بعضه بعضا، ويناسبه قوله عزّ وجلّ:
وَفِي خَلْقِكُمْ إلى آخره، ويجوز أن يكون على ظاهره وحينئذ يكون على أحد وجهين. أحدهما إن فيهما لآيات أي ما فيهما من المخلوقات كالجبال والمعادن والكواكب والنيرين وعلى هذا يكون قوله سبحانه وَفِي خَلْقِكُمْ من عطف الخاص على العام. والثاني أن أنفسهما لآيات لما فيها من فنون الدلالة على القادر الحكيم جل شأنه، وهذا أظهر وهو أبلغ من أن يقال: إن في خلقهما لآيات وإن كان المعنى آئلا إليه، وفِي خَلْقِكُمْ خبر مقدم وقوله سبحانه: وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ عطف على خلق، وجوز في ما كونها مصدرية وكونها موصولة إما بتقدير مضاف أي وفي خلق ما ينشره ويفرقه من دابة أو بدونه.
وجوز عطفه على الضمير المتصل المجرور بالإضافة وما موصولة لا غير على الظاهر، وهو مبني على جواز العطف على الضمير المتصل المجرور من غير إعادة الجار وذلك مذهب الكوفيين ويونس والأخفش قال أبو حيان:
وهو الصحيح، واختاره الأستاذ أبو علي الشلوبين، ومذهب سيبويه وجمهور البصريين منع العطف المذكور سواء كان الضمير مجرورا بالحرف أو بالإضافة لشدة الاتصال فأشبه العطف على بعض الكلمة.
وذكر ابن الحاجب في شرح المفصل في باب الوقف منه أن بعض النحويين يجوزون العطف في المجرور بالإضافة دون المجرور بالحرف لأن اتصال المجرور بالمضاف ليس كاتصاله بالجار لاستقلال كل واحد منهما بمعناه فلم يشتد اتصال فيه اشتداده مع الحرف وأجاز الجرمي والزيادي العطف إذ أكد الضمير المتصل بمنفصل نحو مررت بك أنت وزيد وقوله تعالى آياتٌ مبتدأ مؤخر والجملة معطوفة على جملة إِنَّ فِي السَّماواتِ إلخ. وقرأ أبي(13/137)
وعبد الله «لآيات» باللام كذا في البحر ولم يبين أن آيات مرفوع أو منصوب، فإن كان منصوبا فاللام زائدة في اسم إن المتقدم عليه خبرها وهو أحد مواضع زيادته المطردة الكثيرة، وإن كان مرفوعا فهي زائدة في المبتدأ ويقل زيادتها فيه، وحسن زيادتها هنا تقدم أن في الجملة المعطوف عليها فهو كقوله:
إن الخلافة بعدهم لذميمة ... وخلائف ظرف لمما أحقر
وقرأ زيد بن علي «آية» بالإفراد. وقرأ الأعمش والجحدري وحمزة والكسائي ويعقوب «آيات» بالجمع والنصب على أنها عطف على «آيات» السابق الواقع اسما لأن وفِي خَلْقِكُمْ معطوف على فِي السَّماواتِ فكأنه قيل:
وإن في خلقكم وما يبث من دابة آيات لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أي من شأنهم أن يوقنوا بالأشياء على ما هي عليه وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ بالجر على إضمار في، وقد قرأ عبد الله بذكره. وجاء حذف الجار مع إبقاء عمله كما في قوله:
إذا قيل أي الناس شر قبيلة ... أشارت كليب بالأكف الأصابع
وحسن ما هنا ذكر الجار في الآيتين قبل. وقرىء بالرفع على أنه مبتدأ خبره آياتٌ بعد والمراد باختلافهما تعاقبهما أو تفاوتهما طولا وقصرا، وقيل: اختلافهما في أن أحدهما نور والآخرة ظلمة وَما أَنْزَلَ اللَّهُ عطف على اخْتِلافِ مِنَ السَّماءِ جهة العلو، وقيل: السحاب، وقيل: الجرم المعروف بضرب من التأويل.
مِنْ رِزْقٍ من مطر، وسمي رزقا لأنه سببه فهو مجاز، ولو لم يؤول صح لأنه في نفسه رزق أيضا.
فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بأن أخرج منها أصناف الزرع والثمرات والنبات، والسببية عادية اقتضتها الحكمة بَعْدَ مَوْتِها يبسها وعرائها عن آثار الحياة وانتفاء قوة التنمية عنها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ من جهة إلى أخرى ومن حال إلى حال، وتأخيره عن إنزال المطر مع تقدمه عليه في الوجود إما للإيذان بأنه آية مستقلة حيث لو روعي الترتيب الوجودي لربما توهم أن مجموع تصريف الرياح وإنزال المطر آية واحدة، وإما لأن كون التصريف آية ليس بمجرد كونه مبدأ لإنشاء المطر بل له ولسائر المنافع التي من جملتها سوق السفن في البحار.
وقرأ زيد بن علي وطلحة وعيسى «وتصريف الريح» بالإفراد آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بالرفع على أنه مبتدأ خبره ما تقدم من الجار والمجرور أعني «في اختلاف» على ما سمعت، والجملة معطوفة على ما قبلها. وقيل: إن اخْتِلافِ بالجر عطف على خَلْقِكُمْ المجرور بفي قبله وآياتٌ عطف على آيات السابق المرفوع بالابتداء، وفيه العطف على معمولي عاملين مختلفين، ومن الناس من يمنعة وهم أكثر البصريين، ومنهم من يجيزه وهم أكثر الكوفيين، ومنهم من يفصل فيقول: وهو جائز في نحو قولك: في الدار زيد والحجرة عمرو وغير جائز في نحو قولك: زيد في الدار وعمرو الحجرة لأن الأول يلي المجرور فيه العاطف فقام العاطف مقام الجار، والثاني لم يل فيه المجرور العاطف فكان فيه إضمار الجار من غير عوض، وتمام الكلام في هذه المسألة في محله وقيل: إن اخْتِلافِ عطف على المجرور قبله وآياتٌ خبر مبتدأ محذوف أي هي آيات واختاره من لم يجوز العطف على معمولي عاملين ويقول بضعف حذف الجار مع بقاء عمله وإن تقدمه ذكر جار.
وقال أبو البقاء: آياتٌ مرفوع على التأكيد لآيات السابق وهم يعيدون الشيء إذا طال الكلام في الجملة للتأكيد والتذكير. وتعقب بأن ذلك إنما يكون بعين ما تقدم واختلاف الصفات يدل على تغاير الموصوفات فلا وجه للتأكيد، وأيضا فيه الفصل بين المعطوف المجرور والمعطوف عليه وبين المؤكد والمؤكد وهو إن جاز يورث تعقيدا ينافى فصاحة القرآن العظيم. وقرأ آيات هنا بالنصب من قرأها هناك به فهي مفعول لفعل محذوف أي أعني آيات،(13/138)
وقيل: العاطف في قوله تعالى وَاخْتِلافِ عطف اختلاف على المجرور بفي قبل وعطفها على اسم إن وهو مبني على جواز العطف على معمولي عاملين، وقال أبو البقاء: هي منصوبة على التأكيد والتكرير لاسم إن نحو بثوبك دما وبثوب زيد دما، ومر آنفا ما فيه.
وقال بعضهم: إنها اسم إن مضمرة وهي قد تضمر ويبقى عملها، ذكر أبو حيان في الارتشاف في الكلام على أن من خير الناس أو خيرهم زيد أن محمد بن يحيى بن المبارك اليزيدي ذهب إلى نصب خيرهم ورفع زيد فاسم إن محذوف وأو خيرهم منصوب بإضمار إن لدلالة إن المذكورة تقديره إن من خير الناس زيدا وإن خيرهم زيد. وقد أقر الشاطبي تخريج النصب في الآية على ذلك لكن نقله السفاقسي عن أبي البقاء ورده بأن إن لا تضمر.
وقال ابن هشام في آخر الباب الرابع من المغني: إنه بعيد، والظاهر أنه لا بد عليه من إضمار الجار في اخْتِلافِ وحينئذ لا يخفى حاله، وسائر القراءات مروية هنا عمن رويت عنه فيما تقدم، وتنكير آياتٌ في الآيات للتفخيم كما وكيفا، والمعنى إن المنصفين من العباد إذا نظروا في السموات والأرض النظر الصحيح علموا أنها مصنوعة وأنها لا بد لها من صانع فآمنوا بالله تعالى وأقروا، وإذا نظروا في خلق أنفسهم وتنقلها من حال إلى حال وهيئة إلى أخرى وفي خلق ما على ظهر الأرض من صنوف الحيوان ازدادوا إيمانا وأيقنوا وانتفى عنهم اللبس فإذا نظروا في سائر الحوادث التي تتجدد في كل وقت كاختلاف الليل والنهار ونزول الأمطار وحياة الأرض بعد موتها وتصريف الرياح جنوبا وشمالا وقبولا ودبورا وشدة وضعفا وحرارة وبرودة عقلوا واستحكم علمهم وخلص يقينهم كذا في الكشاف ومنه يعلم نكتة اختلاف الفواصل.
وفي الكشف أنه ذكر ما حاصله أنه على سبيل الترقي وهو يوافق ما عليه الصوفية وغيرهم من أن الإيقان مرتبة خاصة في الإيمان، ثم العقل لما كان مدارهما أي الإيمان والإيقان ونعني به العقل المؤيد بنور البصيرة جعله لخلوص الإيقان من اعتراء الشكوك من كل وجه ففي استحكامه كل خير، وروعي في ترتيب الآيات ما روعي في ترتيب المراتب الثلاث من تقديم ما هو أقدم وجودا، ولا يلزم أن تكون الآية الثانية أعظم من الأولى ولا الثالثة من الثانية لما ذكره من أن الجامع بين النظرين موقن وبين الثلاثة عاقل على أنها كذلك في تحصيل هذا الغرض فإن كانت أعظم من وجه آخر فلا بأس فإن النظر إلى حال نفسه وما هو من نوعه ثم جنسه من سائر الأناسي والحيوان للقرب والتكرر وكثرة العدد أدخل في انتفاء الشك وحصول اليقين وإن كان النظر في السماء والأرض أتم دلالة على كمال القدرة والعلم فذلك لا يضر ولا هو المطلوب هاهنا ثم النظر إلى الاختلاف المذكور أدل على استحكام ذلك اليقين من حيث إنه يتجدد حينا فحينا ويبعث على النظر والاعتبار كلما تجدد هذا، والتحقيق أن تمام النظر في الثاني يضطر إلى النظر في الأول لأن السموات والأرض من أسباب تكون الحيوان بوجه، وكذلك النظر في الثالث يضطر إلى النظر في الأولين، أما على الأول فظاهر وأما على الثاني فلأنه العلة الغائية فلا بد من أن يكون جامعا انتهى، وهو كلام نفيس جدا.
وقال الإمام في ترتيب هذه الفواصل: أظن أن سببه أنه قيل إن كنتم مؤمنين فافهموا هذه الدلائل وإن كنتم لستم من المؤمنين بل كنتم من طلاب الجزم واليقين فافهموا هذه الدلائل وإن كنتم لستم من المؤمنين ولا من الموقنين فلا أقل من أن تكونوا من زمرة العاقلين فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل، ولا يخفى أنه فاته ذلك التحقيق ولم يختر الترقي وهو بالاختيار حقيق، والمغايرة بين ما هنا وما في سورة [البقرة: 164] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ الآية للتفنن والكلام المعجز مملوء منه، وذكر الإمام في ذلك ما لا يهش له السامع فتأمل تِلْكَ آياتُ اللَّهِ مبتدأ وخبر، وقوله تعالى: نَتْلُوها عَلَيْكَ حال عاملها معنى(13/139)
الإشارة نحو هذا بَعْلِي شَيْخاً [هود: 72] على المشهور، وقيل: هو الخبر وآياتُ اللَّهِ بدل أو عطف بيان وقوله سبحانه: بِالْحَقِّ حال من فاعل نَتْلُوها أو من مفعوله أي نتلوها محقين أو ملتبسة بالحق فالباء للملابسة ويجوز أن تكون للسببية الغائية، والمراد بالآيات المشار إليها إما آيات القرآن أو السورة أو ما ذكر قبل من السموات والأرض وغيرهم فتلاوتها بتلاوة ما يدل عليها، وفسرت بالسرد أي نسردها عليك.
وقال ابن عطية: الكلام بتقدير مضاف أي نتلو شأنها وشأن العبرة بها. وقرىء «يتلوها» بالياء على أن الفاعل ضميره تعالى والمراد على القراءتين تلاوتها عليه صلّى الله عليه وسلّم بواسطة الملك عليه السلام فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ هو من باب قولهم: أعجبني زيد وكرمه يريدون أعجبني كرم زيد إلا أنهم عدلوا عنه للمبالغة في الإعجاب أي فبأي حديث بعد هذه الآيات المتلوة بالحق يؤمنون، وفيه دلالة على أنه لا بيان أزيد من هذا البيان ولا آية أدل من هذه الآية، وتفخيم شأن الآيات من اسم الإشارة وإضافتها إلى الله عز وجلّ، وجعل «نتلوها» حالا مع ضمير التعظيم ثم تكرير الاسم الجليل للنكتة المذكورة وإضافتها إليه بواسطة الضمير مرة أخرى، وقد ذكر ذلك الزمخشري وتعقبه أبو حيان بأنه ليس بشيء لأن فيه من حيث المعنى إقحام الأسماء من غير ضرورة والعطف، والمراد غير العطف من إخراجه إلى باب البدل لأن تقدير كرم زيد إنما يكون في أعجبني زيد كرمه بغير واو على البدل وهذا قلب لحقائق النحو، وإنما المعنى في المثال إن ذات زيد أعجبته وأعجبه كرمه فهما إعجابان لا إعجاب واحد وهو مبني على عدم التعمق في فهم كلام جار الله.
ومن تعمق فيه لا يرى أنه قائل بالإقحام وإنما بيان حاصل المعنى يوهمه، وبين هذه الطريقة وطريقة البدل مغايرة تامة، فقد ذكر أن فائدة هذه الطريقة وهي طريقة إسناد الفعل إلى شيء والمقصود إسناده إلى ما عطف عليه قوة اختصاص المعطوف بالمعطوف عليه من جهة الدلالة على أنه صار من التلبس بحيث يصح أن يسند أوصافه وأفعاله وأحواله إلى الأول قصدا لأنه بمنزلته ولا كذلك البدل لأن المقصود فيه بالنسبة هو الثاني فقط وهنا هما مقصودان، فإن قلت: إذا لم يكن ذلك الوصف منسوبا للمعطوف عليه لزم إقحامه كما قال أبو حيان، وما يذكر من المبالغة لا يدفع المحذور، وعلى فرض تسليمه فدلالته على ما ذكر بأي طريق من طرق الدلالة المشهورة.
أجيب بأنه غير منسوب إليه في الواقع لكن لما كان بينهما ملابسة تامة من جهة ما ككون الآيات هاهنا بإذنه تعالى أو مرضية له عز وجل جعل كأنه المقصود بالنسبة وكني بها عن ذلك الاختصاص كناية إيمائية ثم عطف عليه المنسوب إليه وجعل تابعا فيها وبهذا غاير البدل مغايرة تامة غفل عنها المعترض فالنسبة بتمامها مجازية كذا قرره بعض المحققين.
وقال الواحدي: أي فبأي حديث بعد حديث الله أي القرآن وقد جاء إطلاقه عليه في قوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزمر: 23] وحسن الإضمار لقرينة تقدم الحديث، وقوله سبحانه: وَآياتِهِ عطف عليه لتغايرهما إجمالا وتفصيلا لأن الآيات هي ذلك الحديث ملحوظ الأجزاء، وإن أريد ما بين فيه من الآيات والدلائل فليس من عطف الخاص على العام لأن الآيات ليست من القرآن وإنما وجه دلالتها وإيرادها منه فيكون في هذا الوجه الدلالة أيضا على حال البيان والمبين كما في الوجه الأول، وقال الضحاك: أي فبأي حديث بعد توحيد الله ولا يخفى أنه بظاهره مما لا معنى له فلعله أراد بعد حديث توحيده تعالى أي الحديث المتضمن ذلك أو هو بعد تقدير المضاف من باب أعجبني زيد وكرمه، وأيا ما كان فالفاء في جواب شرط مقدر والظرف صفة «حديث» وجوز أن يكون متعلقا بيؤمنون قدم للفاصلة.(13/140)
وقرأ ابن عامر وأبو بكر وحمزة والكسائي «تؤمنون» بالتاء الفوقانية وهو موافق لقوله تعالى: وَفِي خَلْقِكُمْ بحسب الظاهر والصورة وإلا فالمراد هنا الكفار بخلاف ذلك.
وقرأ طلحة «توقنون» بالتاء الفوقانية والقاف من الإيقان وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ كثير الإفك أي الكذب أَثِيمٍ كثير الإثم، والآية نزلت في أبي جهل، وقيل: في النضر بن الحارث وكان يشتري حديث الأعاجم ويشغل به الناس عن استماع القرآن لكنها عامة كما هو مقتضى كل ويدخل من نزلت فيه دخولا أوليا، وأَثِيمٍ صفة أَفَّاكٍ وقوله تعالى: يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ صفة أخرى له، وقيل استئناف، وقيل حال من الضمير في أَثِيمٍ وقوله سبحانه تُتْلى عَلَيْهِ حال من آياتِ اللَّهِ ولم يجوز جعله مفعولا ثانيا ليسمع لأن شرطه أن يكون ما بعده مما لا يسمع كسمعت زيدا يقرأ، والظاهر أن المراد بتتلى الاستمرار لأنه المناسب للاستبعاد المدلول عليه بقوله عز وجل ثُمَّ يُصِرُّ فإن ثم لاستبعاد الإصرار بعد سماع الآيات وهي للتراخي الرتبي ويمكن إبقاؤه على حقيقته إلا أن الأول أبلغ وأنسب بالمقام، ونظير ذلك في الاستبعاد قول جعفر بن علية:
لا يكشف الغماء إلا ابن حرة ... يرى غمرات الموت ثم يزورها
والإصرار على الشيء ملازمته وعدم الانفكاك عنه من الصر وهو الشد ومنه صرة الدراهم، ويقال: صر الحمار أذنيه ضمهما صرا وأصر الحمار ولا يقال أذنيه على ما في الصحاح وكأن معناه حينئذ صار صارّا أذنيه.
والمراد هنا ثم يقيم على كفره وضلاله مُسْتَكْبِراً عن الإيمان بالآيات وهو حال من ضمير يُصِرُّ وقوله سبحانه كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها حال بعد حال أو حال من ضمير مُسْتَكْبِراً وجوز الاستئناف، وكَأَنْ مخففة من كأن بحذف إحدى النونين واسمها ضمير الشأن، وقيل: لا حاجة إلى تقديره كما في أن المفتوحة، والمعنى يصر مستكبرا مثل غير السامع لها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ على إصراره ذلك، والبشارة في الأصل الخبر المغير للبشرة خيرا كان أو شرا، وخصها العرف بالخبر السار فإن أريد المعنى العرفي فهو استعارة تهكمية أو هو من قبيل:
تحية بينهم ضرب وجيع وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً وإذا بلغه شيء من آياتنا وعلم أنه منها.
اتَّخَذَها هُزُواً بادر إلى الاستهزاء بالآيات كلها ولم يقتصر على الاستهزاء بما بلغه، وجوز أن يكون المعنى وإذا علم من آياتنا شيئا يمكن أن يتشبث به المعاند ويجد له محملا يتسلق به على الطعن والغميزة افترصه واتخذ آيات الله تعالى هزوا وذلك نحو اعتراض ابن الزبعري في قوله تعالى إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] ومغالطته رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقوله على ما بعض الروايات: خصمتك فضمير اتَّخَذَها على الوجهين للآيات، والفرق بينهما أن شَيْئاً على الثاني فيه تخصيص لقرينة اتَّخَذَها هُزُواً إذ لا يحتمل إلا ما يحسن أن يخيل فيه ذلك ثم يجعله دستورا للباقي فيقول: الكل من هذا القبيل، وفرق بين الوجهين أيضا بأن في الأول الاتخاذ قبل التأمل وفي الثاني بعده وبعد تمييز آية عن أخرى، وقيل: الاستهزاء بما علمه من الآيات إلا أنه أرجع الضمير إلى الآيات لأن الاستهزاء بواحدة منها استهزاء بكلها لما بينها من التماثل، وجوز أن يرجع الضمير إلى شيء والتأنيث لأنه بمعنى الآية كقول أبي العتاهية:
نفسي بشيء من الدنيا معلقة ... الله والقائم المهدي يكفيها
يعني الشيء وأراد به عتبة جارية للمهدي من حظاياه وكان أبو العتاهية يهواها فقال ما قال. وقرأ قتادة ومطر الوراق «علّم» بضم العين وشد اللام مبنيا للمفعول أُولئِكَ إشارة إلى كل أفاك من حيث الاتصاف بما ذكر من(13/141)
القبائح، والجمع باعتبار الشمول للكل كما في قوله تعالى: كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم: 32] كما أن الإفراد فيما سبق من الضمائر باعتبار كل واحد واحد، وأداة البعد للإشارة إلى بعد منزلتهم في الشر.
لَهُمْ بسبب جناياتهم المذكورة عَذابٌ مُهِينٌ وصف العذاب بالإهانة توفية لحق استكبارهم واستهزائهم بآيات الله عز وجلّ مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ أي من قدامهم لأنهم متوجهون إليها أو من خلفهم لأنهم معرضون عن الالتفات إليها والاشتغال عما ينجيهم منها مقبلون على الدنيا والانهماك في شهواتها، والوراء تستعمل في هذين المعنيين لأنها اسم للجهة التي يواريها الشخص فتعم الخلف والقدام، وقيل في توجيه الخلفية: إن جهنم لما كانت تتحقق لهم بعد الأجل جعلت كأنها خلفهم وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ولا يدفع ما كَسَبُوا أي الذي كسبوه من الأموال والأولاد شَيْئاً من عذاب الله تعالى أو شيئا من الإغناء على أن شَيْئاً مفعول به أو مفعول مطلق وَلا مَا اتَّخَذُوا أي الذي اتخذوه مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ أي الأصنام.
وجوز أن تفسر ما بما تعمها وسائر المعبودات الباطلة، والأول أظهر، وجوز في ما في الموضعين أن تكون مصدرية، وتوسيط حرفي النفي بين المعطوفين مع أن عدم إغناء الأصنام أظهر وأجلى من عدم إغناء الأموال والأولاد قطعا مبني على زعمهم الفاسد حيث كانوا يطمعون في شفاعتهم، وفيه تهكم وَلَهُمْ فيما وراءهم من جهنم عَذابٌ عَظِيمٌ لا يقادر قدره هذا أي القرآن كما يدل عليه ما بعد وكذا ما قبل ك يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا وتِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها هُدىً في غاية الكمال من الهداية كأنه نفسها وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ يعني القرآن أيضا على أن الإضافة للعهد، وكان الظاهر الإضمار لكن عدل عنه إلى ما في النظم الجليل لزيادة تشنيع كفرهم به وتفظيع حالهم وجوز أن يراد بالآيات ما يشمله وغيره.
لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ من أشد العذاب أَلِيمٌ بالرفع صفة عَذابٌ أخر للفاصلة.
وقرأ غير واحد من السبعة أليم بالجر على أنه صفة رِجْزٍ، وجعله صفة عَذابٌ أيضا والجر للمجاورة مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، وقيل: على قراءة الرفع إن الرجز بمعنى الرجس الذي هو النجاسة، والمعنى لهم عذاب أليم من تجرع رجس أو شرب رجس والمراد به الصديد الذي يتجرعه الكافر ولا يكاد يسيغه ولا داعي لذلك كما لا يخفى، وتنوين عَذابٌ في المواقع الثلاثة للتفخيم، ورفعه إما على الابتداء وإما على الفاعلية للظرف اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ بأن جعله أملس السطح يطفو عليه ما يتخلخل كالأخشاب ولا يمنع الغوص فيه لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ بتسخيره تعالى إياه وتسهيل استعمالها فيما يراد بها، وقيل: بتكوينه تعالى أو بإذنه عز وجلّ، وسياق الامتنان يقتضي أن يكون المعنى لتجري الفلك فيه وأنتم راكبوها.
وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ بالتجارة والغوص والصيد وغيرها وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ولكي تشكروا النعم المترتبة على ذلك، وهذا أعني اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ إلخ ذكر تتميما للتقريع ولهذا رتب عليه الأغراض العاجلة فإنه مما يستوجب الشكر غالبا للكافر أيضا فكأنه قيل: تلك الآيات أولى بالشكر ولهذا عقب بما يعم القسمين أعني قوله سبحانه: وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي من الموجودات بأن جعل فيها منافع لكم منها ظاهرة ومنها خفية، وعقب بالتفكر لينبه على أن التفكر هو الذي يؤدي إلى ما ذكر من الأولوية ويدل به على أن التفكر ملاك الأمر في ترتيب الغرض على ما جعل آية من الإيمان والإيقان والشكر جَمِيعاً حال من ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أو توكيد له وقوله تعالى: مِنْهُ حال من ذلك أيضا، والمعنى سخر هذه الأشياء جميعا كائنة منه وحاصلة من عنده يعني أنه سبحانه مكونها وموجدها بقدرته وحكمته ثم مسخرها لخلقه.(13/142)
وجوز فيه أوجه أخر. الأول أن يكون خبر مبتدأ محذوف فقيل جَمِيعاً حينئذ حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور بناء على جواز تقدم الحال على مثل هذا العامل أو من المبتدأ بناء على تجويز الحال منه أي هي جميعا منه تعالى وقيل: جميعا على ما كان ويلاحظ في تصوير المعنى فالضمير المبتدأ يقدر بعده ويعتبر رجوعه إلى ما تقدم بقيد جميعا، والجملة على القولين استئناف جيء به تأكيدا لقوله تعالى: سَخَّرَ أي إنه عز وجل أوجدها ثم سخرها لا أنها حصلت له سبحانه من غيره كالملوك، الثاني أن يجعل ما فِي السَّماواتِ مبتدأ ويكون هو خبره وجَمِيعاً حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور الواقع صلة ويكون وَسَخَّرَ لَكُمْ تأكيدا للأول أي سخر وسخر، وفي العطف إيماء إلى أن التسخير الثاني كأنه غير الأول دلالة على أن المتفكر كلما فكر يزداد إيمانا بكمال التسخير والمنة عليه، وجملة ما فِي السَّماواتِ إلخ مستأنفة لمزيد بيان القدرة والحكمة.
واعترض بأنه إن أريد التأكيد اللغوي فهو لا يخلو من الضعف لأن عطف مثله في الجمل غير معهود، وإن أريد التأكيد الاصطلاحي كما قيل به في قوله تعالى: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [التكوير: 3- 4] فهو مخالف لما ذكره ابن مالك في التسهيل من أن عطف التأكيد يختص بثم، وقال الرضي: يكون بالفاء أيضا وهو هاهنا بالواو ولم يجوزه أحد منهم وإن لم يذكروا وجه الفرق على أنه قد تقرر في المعاني أنه لا يجري في التأكيد العطف مطلقا لشدة الاتصال، واعترض أيضا بأن فيه حذف مفعول «سخر» من غير قرينة وهذا كما ترى، الثالث أن يكون ما فِي الْأَرْضِ مبتدأ ومِنْهُ خبره ولا يخفى أنه ضعيف بحسب المساق.
وأخرج ابن المنذر من طريق عكرمة أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم يكن يفسر هذه الآية، ولعله إن صح محمول على أنه لم يبسط الكلام فيها، فقد أخرج ابن جرير عنه أنه قال فيها كل شيء هو من الله تعالى.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن طاوس قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله مم خلق الخلق؟ قال: من الماء والنور والظلمة والريح والتراب قال: فمم خلق هؤلاء؟ قال: لا أدري ثم أتى الرجل عبد الله بن الزبير فسأله فقال مثل قول عبد الله بن عمرو فأتى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فسأله مم خلق الخلق؟ قال: من الماء والنور والظلمة والريح والتراب قال: فمم خلق هؤلاء؟ فقرأ ابن عباس وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ فقال الرجل: ما كان ليأتي بهذا إلا رجل من أهل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم.
واختلف أهل العلم فيما أراد ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بذلك فقال البيهقي: أراد أن مصدر الجميع منه تعالى أي من خلقه وإبداعه واختراعه خلق الماء أولا أو الماء وما شاء عز وجل من خلقه لا عن أصل ولا عن مثال سبق ثم جعله تعالى أصلا لما خلق بعده فهو جل شأنه المبدع وهو سبحانه البارئ لا إله غيره ولا خالق سواه اهـ، وعليه جميع المحدثين والمفسرين ومن حذا حذوهم، وقال الشيخ إبراهيم الكوراني من الصوفية: إن المخلوقات تعينات الوجود المفاض الذي هو صورة النفس الرحماني المسمى بالعماء وذلك أن العماء قد انبسط على الحقائق التي هي أمور عدمية متميزة في نفس الأمر والانبساط حادث والعماء من حيث اقترانه بالماهيات غير ذات الحق تعالى فإنه سبحانه الوجود المحض الغير المقترن بها فالموجودات صور حادثة في العماء قائمة به والله تعالى قيومها لأنه جلّ وعلا الأول الباطن الممد لتلك الصور بالبقاء ولا يلزم من ذلك قيام الحوادث بذات الحق تعالى ولا كونه سبحانه مادة لها لأن وجوده تعالى مجرد عن الماهيات غير مقترن بها والمتعين بحسبها هو العماء الذي هو الوجود المفاض منه تعالى بإيجاده جلّ شأنه، وبهذا ينطبق الجواب على السؤال من غير تكلف ولا محذور، ولو كان مراد ابن عباس مجرد ما ذكره البيهقي من أن مصدر الجميع من خلقه تعالى كان يكفي في ذلك قوله تعالى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد: 16، الزمر: 62] لكن(13/143)
السؤال إنما وقع بمم ووقع الجواب بمنه في تلاوته الآية فالظاهر أن ما فهمه السائل من تلاوته رضي الله تعالى عنه ليس مجرد ما ذكره بقرينة مدحه بقوله: ما كان ليأتي بهذا إلخ فإن ما ذكره البيهقي يعرفه كل من آمن بقوله تعالى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فلا يظهر حينئذ وجه لقول كل من ابن عمرو وابن الزبير لا أدري فإنهما من أفضل المؤمنين بأن الله تعالى خالق كل شيء بل ما فهمه هو ما أشرنا إليه اهـ، وعليه عامة أهل الوحدة «وأجاب الأولون» بأن مراد ابن عباس قطع التسلسل في السؤال بعد ذكر مادة لبعضها بأن مرجع الأمر أن الأشياء كلها خلقت بقدرته تعالى لا من شيء وهو كلام حكيم يمدح قائله لم يهتد إليه ابن الزبير. وابن عمرو، ولا يعكر على هذا قوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ [الطور:
35] لما قاله المفسرون فيه وسيأتي إن شاء الله تعالى في محله فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك، وقد أورد الحسين بن علي بن واقد في مجلس الرشيد هذه الآية ردا على بعض النصارى في زعمه أن قوله تعالى في عيسى عليه السلام:
وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء: 171] يدل على ما يزعمه فيه عليه السلام من أنه ابن الله سبحانه وتعالى عما يصفون.
وحكى أبو الفتح. وصاحب اللوامح عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو والجحدري. وعبد الله بن عبيد بن عمير أنهم قرؤوا «منّة» بكسر الميم وشد النون ونصب التاء على أنه مفعول له أي سخر لكم ذلك نعمة عليكم، وحكاها عن ابن عباس أيضا ابن خالويه. لكن قال أبو حاتم: إن سند هذه القراءة إليه مظلم فإذا صح السند يمكن أن يقال فيما تقدم من حديث طاوس: إنه ذكر الآية على قراءة الجمهور ويحتمل أن له قراءتين فيها.
وقرأ مسلمة بن محارب كذلك إلا أنه ضم التاء على تقدير هو أو هي منة، وعنه أيضا فتح الميم وشد النون وهاء الكتابة عائدة على الله تعالى أي انعامه وهو فاعل سَخَّرَ على الإسناد المجازي كما تقول: كرم الملك العشي أو هو خبر مبتدأ محذوف أي هذا أو هو منه تعالى، وجوزت الفاعلية في قراءته الأولى، وتذكير الفعل لأن الفاعل ليس مؤنثا حقيقيا مع وجود الفاصل، والوجه الأول أولى وإن كان فيه تقدير إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر لَآياتٍ عظيمة الشأن كثيرة العدد لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في بدائع صنعه تعالى وعظائم شأنه جلّ شأنه فإن ذلك يجرهم إلى الإيمان والإيقان والشكر.
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا حذف المقول لدلالة يَغْفِرُوا عليه فإنه جواب للأمر باعتبار تعلقه به لا باعتبار نفسه فقط أي قل لهم اغفروا يغفروا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ أي يعفوا ويصفحوا عن الذين لا يتوقعون وقائعه تعالى بأعدائه ونقمته فيهم فالرجاء مجاز عن التوقع وكذا الأيام مجاز عن الوقائع من قولهم: أيام العرب لوقائعها وهو مجاز مشهور وروي ذلك عن مجاهد أولا يأملون الأوقات التي وقتها الله تعالى لثواب المؤمنين ووعدهم الفوز فيها، والآية قيل نزلت قبل آية القتال ثم نسخت بها.
وقال بعضهم: لا نسخ لأن المراد هنا ترك النزاع في المحقرات والتجاوز عن بعض ما يؤذي ويوحش، وحكى النحاس. والمهدوي عن ابن عباس أنها نزلت في عمر رضي الله تعالى عنه شتمه مشرك (1) بمكة قبل الهجرة فهمّ أن يبطش به فنزلت وروي ذلك عن مقاتل وهذا ظاهر في كونها مكية كأخواتها. وإرادة فهم أن يبطش به بعد الهجرة لأن المسلمين بمكة قبلها عاجزون مقهورون لا يمكنهم الانتصار من المشركين والعاجز لا يؤمر بالعفو والصفح غير ظاهر محتاج إلى نقل، ودوام عجز كل من المسلمين غير معلوم بل من وقف على أحوال أبي حفص رضي الله تعالى عنه لا يتوقف في أنه قادر على ما هم به لا يبالي بما يترتب عليه.
__________
(1) قيل هو من غفار اهـ منه.(13/144)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)
وهذا أولى في الجواب من أن يقال: إن الأمر بفعل ذلك بينه وبين الله تعالى بقلبه ليثاب عليه، نعم قيل: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه نزلوا في غزوة بني المصطلق على بئر يقال له المريسيع فأرسل ابن أبيّ غلامه ليستقي فأبطأ عليه فلما أتاه قال له: ما حسبك؟ قال: غلام عمر قعد على طرف البئر فما ترك أحدا يستقي حتى ملأ قرب النبي صلّى الله عليه وسلّم وقرب أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال ابن أبيّ: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل سمّن كلبك يأكلك فبلغ ذلك عمر رضي الله تعالى عنه فاشتمل سيفه يريد التوجه إليه فأنزل الله تعالى الآية وحكاه الإمام عن ابن عباس وهو يدل على أنها مدنية، وكذا ما روي عن ميمون بن مهران قال: إن فنحاصا اليهودي قال: لما أنزل الله تعالى مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [البقرة: 245، الحديد: 11] احتاج رب محمد فسمع بذلك عمر رضي الله تعالى عنه فاشتمل سيفه وخرج فبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم في طلبه حتى رده ونزلت الآية لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ تعليل للأمر بالمغفرة، وجوز أن يكون تعليلا للأمر بالقول لأنه سبب لامتثالهم المجازي عليه، والمراد بالقوم المؤمنون الغافرون والتنكير للتعظيم، ولفظ القوم في نفسه اسم مدح على ما يرشد إليه الاشتقاق والاستعمال في نحو يا ابن القوم.
وفي هذا التنكير كمال التعريف والتنبيه على أنهم لا يخفون نكروا أو عرفوا مع العلم بأن المجزي لا يكون إلا العامل وهو الغافر هنا أي أمروا بذلك ليجزي الله تعالى يوم القيامة قوما أيما قوم وقوما مخصوصين بما كسبوا في الدنيا من الأعمال الحسنة التي من جملتها الصبر على أذية الكفار والإغضاء عنهم بكظم الغيظ واحتمال المكروه. ما لا يحيط به نطاق البيان من الثواب العظيم، ومنهم من خص ما كسبوه بالمغفرة والصبر على الأذية، وما في الوجهين موصولة وجوز أن تكون مصدرية، والباء للسببية أو للمقابلة أو صلة يجزي، وجوز أن يراد بالقوم الكفرة وبما كسبوا سيئاتهم التي من جملتها إيذاؤهم المؤمنين والتنكير للتحقير: وتعقب بأن مطلق الجزاء لا يصلح تعليلا للأمر بالمغفرة لتحققه على تقديري المغفرة وعدمها فلا بد من تخصيصه بالكل بأن لا يتحقق بعض منه في الدنيا أو بما يصدر عنه تعالى بالذات، وفي ذلك من التكلف ما لا يخفى، وأن يراد كلا الفريقين والتنكير للشيوع، وتعقب بأنه أكثر تكلفا وأشد تمحلا، والذي يشهد للوجه السابق ما روي عن سعيد بن المسيب قال: كنا بين يدي عمر رضي الله تعالى عنه فقرأ قارئ هذه الآية فقال: ليجزي عمر بما صنع، وقرأ زيد بن علي وأبو عبد الرحمن والأعمش وأبو خليد وابن عامر وحمزة والكسائي «لنجزي» بنون العظمة، وقرىء «ليجزي» بالياء والبناء للمفعول «قوم» بالرفع على أنه نائب الفاعل، وقرأ شيبة، وأبو جعفر بخلاف عنه كذلك إلا أنهما نصبا «قوما» وروي ذلك عن عاصم، واحتج به من يجوز نيابة الجار والمجرور عن الفاعل مع وجود المفعول الصريح فيقول: ضرب بسوط زيدا فبما كسبوا نائب الفاعل هاهنا ولا يجيز ذلك الجمهور، وخرجت هذه القراءة على أن القائم مقام الفاعل ضمير المصدر أي ليجزى هو أي الجزاء، ورد بأنه لا يقام مقامه عند وجود المفعول به أيضا على الصحيح، وأجازه الكوفيون على خلاف في الإطلاق والاستحسان أو على أنه ضمير المفعول الثاني وهو الجزاء بمعنى المجزي به كما في قوله تعالى جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ [البينة:
8] وأضمر لدلالة السياق كما في قوله سبحانه: وَلِأَبَوَيْهِ [النساء: 11] والمفعول الثاني في باب أعطى يقوم مقام الفاعل بلا خلاف وهذا من ذاك، وأبو البقاء اعتبر الخير بدل الجزاء المذكور أو على أن «قوما» منصوب بأعني أو جزى مضمرا لدلالة المجهول على أن ثم جازيا واختاره أبو حيان ولِيَجْزِيَ حينئذ من باب يعطي ويمنع وحيل بين العير والنزوان فمعناه ليفعل الجزاء ويكون هناك جملتان.(13/145)
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها لا يكاد يسري عمل إلى غير عامله ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مالك أموركم تُرْجَعُونَ فيجازيكم على أعمالكم حسبما تقتضيه الحكمة خيرا على الخير وشرا على الشر، والجملة مستأنفة لبيان كيفية الجزاء وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وهو التوراة على أن التعريف للعهد، وجوز جعله للجنس ليشمل الزبور والإنجيل ولا يضر في ذلك كون الزبور أدعية ومناجاة والإنجيل أحكامه قليلة جدا ومعظم أحكام عيسى عليه السلام من التوراة لأن إيتاء الكتاب مطلقا منة وَالْحُكْمَ القضاء وفصل الأمور بين الناس لأن الملك كان فيهم واختاره أبو حيان، أو الفقه في الدين ويقال: لم يتسع فقه الأحكام على نبي ما اتسع على لسان موسى عليه السلام، أو الحكم النظرية الأصلية والعملية الفرعية وَالنُّبُوَّةَ حيث كثر فيهم الأنبياء عليهم السلام ما لم يكثر في غيرهم وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ المستلذات الحلال وبذلك تتم النعمة وذلك كالمن والسلوى وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ حيث آتيناهم ما لم نؤت غيرهم من فلق البحر وإظلال الغمام ونظائرهما فالمراد تفضيلهم على العالمين مطلقا من بعض الوجوه لا من كلها ولا من جهة المرتبة والثواب فلا ينافي ذلك تفضيل أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم عليهم من وجه آخر ومن جهة المرتبة والثواب، وقيل: المراد بالعالمين عالمو زمانهم.(13/146)
آتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ دلائل ظاهرة في أمر الدين فمن بمعنى في والبينات الدلائل ويندرج فيها معجزات موسى عليه السلام وبعضهم فسرها بها، وعن ابن عباس آيات من أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلامات مبينة لصدقه عليه الصلاة والسلام ككونه يهاجر من مكة إلى يثرب ويكون أنصاره أهلها إلى غير ذلك مما ذكر في كتبهم فَمَا اخْتَلَفُوا في ذلك الأمر إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بحقيقة الحال فجعلوا ما يوجب زوال الخلاف موجبا لرسوخه بَغْياً بَيْنَهُمْ عداوة وحسدا لا شكا فيه إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بالمؤاخذة والجزاء فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من أمر الدين ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ أي سنة وطريقة من شرعه إذا سنه ليسلك، وفي البحر الشريعة في كلام العرب الموضع الذي يرد منه الناس في الأنهار ونحوها فشريعة الدين من ذلك من حيث يرد الناس منها أمر الله تعالى ورحمته والقرب منه عز وجل، وقال الراغب: الشرع مصدر ثم جعل اسما للطريق النهج فقيل له شرع وشرعة وشريعة واستعير ذلك للطريقة الإلهية من الدين ثم قال: قال بعضهم سميت الشريعة شريعة تشبيها بشريعة الماء من حيث إن من شرع فيها على الحقيقة والصدق روي وتطهر، وأعني بالري ما قال بعض الحكماء: كنت أشرب فلا أروى فلما عرفت الله تعالى رويت بلا شرب، وبالتطهر ما قال عز وجل: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب: 33] والظاهر هنا المعنى اللغوي، والتنوين للتعظيم أي شريعة عظيمة الشأن مِنَ الْأَمْرِ أي أمر الدين، وجوز أبو حيان كونه مصدر أمر، والمراد من الأمر والنهي وهو كما ترى فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ
أي آراء الجهال التابعة للشهوات، والمراد بهم ما يعم كل ضال، وقيل: وقيل: هم جهال قريظة.
والنضير، وقيل: رؤساء قريش كانوا يقولون له صلّى الله عليه وسلّم: ارجع إلى دين آبائك.
إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً من الأشياء أو شيئا من الإغناء أن اتبعتهم والجملة مستأنفة مبينة لعلة النهي وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ لا يواليهم ولا يتبع أهواءهم إلا من كان ظالما مثلهم.
وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ الذين أنت قدوتهم فدم على ما أنت عليه من توليه سبحانه خاصة والإعراض عما سواه عز وجلّ بالكلية هذا أي القرآن بَصائِرُ لِلنَّاسِ فإن ما فيه من معالم الدين وشعائر الشرائع بمنزلة البصائر في القلوب، وقيل: الإشارة إلى اتباع الشريعة والكلام من باب التشبيه البليغ، وجمع الخبر على الوجهين باعتبار تعدد ما تضمنه المبتدأ واتباع مصدر مضاف فيعم ويخبر عنه بمتعدد أيضا، وقرىء «هذه» أي الآيات وَهُدىً جليل من ورطة الضلالة وَرَحْمَةٌ عظيمة لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ من شأنهم الإيقان بالأمور أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ
إلى آخره استئناف مسوق لبيان حال المسيئين والمحسنين إثر بيان حال الظالمين والمتقين، وأَمْ
منقطعة وما فيها من معنى بل للانتقال من البيان الأول إلى الثاني، والهمزة لإنكار الحسبان على معنى أنه لا يليق ولا ينبغي لظهور خلافه، والاجتراح الاكتساب ومنه الجارحة للأعضاء التي يكتسب بها كالأيدي، وجاء هو جارحة أهله أي كاسبهم، وقال الراغب: الاجتراح اكتساب الإثم وأصله من الجراحة كما أن الاقتراف من قرف القرحة، والظاهر تفسيره هاهنا بالاكتساب لمكان السَّيِّئاتِ
والمراد بها على ما في البحر سيئات الكفر، وقوله تعالى: أَنْ نَجْعَلَهُمْ
ساد مسد مفعولي الحسبان، والجعل بمعنى التصيير وهم مفعوله الأول، وقوله سبحانه: كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
مفعوله الثاني، وقوله عز وجل: سَواءً
بدل من الكاف بناء على أنها اسم بمعنى مثل، وقوله تعالى: مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
فاعل سواء أجري مجرى مستو كما قالوا: مررت برجل سواء هو والعدم، وضمير الجمع للمجترحين، والمعنى على إنكار حسبان جعل محيا المجترحين ومماتهم مستويين مثلهما للمؤمنين، ومصب الإنكار استواء ذلك فإن المؤمنين تتوافق حالاهم لأنهم مرحومون في المحيا والممات وأولئك تتضاد حالاتهم فإنهم مرحومون حياة لا(13/147)
موتا وجوز أن يكون سَواءً
حالا من الضمير في الكاف بناء على ما سمعت من معناها.
وتعقب بأنها اسم جامد على صورة الحرف فلا يصح استتار الضمير فيها وقد صرح الفارسي بمنع ذلك، نعم يجوز أن يكون كَالَّذِينَ
جارا ومجرورا في موضع المفعول الثاني وسَواءً
حالا من الضمير المستتر فيه، وقيل:
يجوز أيضا كونه حالا من ضمير نجعلهم وكذا يجوز كونه المفعول الثاني، وكون الكاف أو الجار والمجرور حالا من هذا الضمير، وما ذكر أولا أظهر وأولى، وجوز كون ضمير الجمع في مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
للمؤمنين فسواء حال من الموصول الثاني ولا يجوز أن يكون حالا من الضمير في كَالَّذِينَ
لفساد المعنى وكون الضمير للفريقين فسواء حال من مجموع الموصول الثاني وضمير الأول، والمعنى على إنكار حسبان أن يستوي الفريقان بعد الممات في الكرامة أو ترك المؤاخذة كما استويا ظاهرا في الرزق والصحة في الحياة، وجوز أن يكون المعنى على إنكار حسبان جعل الحياتين مستويتين لأن المؤمنين على الطاعة وأولئك على المعاصي وكذلك الموتان لأنهم ملقون بالبشرى والرضوان وأولئك بالسوء والخذلان، وقيل: به على تقدير كون الضمير للمجترحين أيضا.
ولم يجوز المدقق الإبدال من الكاف على تقدير اشتراك الضمير إذ المثل هو المشبه وسَواءً
جار على المشبه والمشبه به.
وقرأ جمهور القراء سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
برفع سواء وما بعده على أن سواء خبر مقدم وما بعده مبتدأ لا العكس لأن سواء نكرة ولا مسوغ للابتداء بها والضمير للمجترحين، والجملة قيل: بدل من المفعول الثاني لنجعل بدل كل من كل أو بدل اشتمال أو بدل بعض، وأيا ما كان ففيه إبدال الجملة من المفرد وقد أجازه أبو الفتح واختاره ابن مالك، وأورد عليه شواهد، قال أبو حيان: لا يتعين فيها البدل، وقال محمد بن عبد الله الاشبيلي المعروف بابن العلج في كتابه البسيط في النحو: لا يصح أن تكون جملة معمولة للأول في موضع البدل فإن كانت غير معمولة فهل تكون جملة بدلا من جملة لا يبعد عندي جواز ذلك كالعطف والتأكيد اللفظي.
وظاهره أنه لا يجوز الإبدال هاهنا، وفي البحر يظهر لي أنه لا يجوز إبدال هذه الجملة من ذلك المفعول لأن الجعل بمعنى التصيير ولا يجوز صيرت زيدا أبوه قائم ولا صيرت زيدا غلامه منطلق لأن في ذلك انتقالا من ذات إلى ذات أو من وصف في الذات إلى وصف آخر فيها وليس في تلك الجملة المقدرة مفعولا ثانيا انتقال مما ذكرنا وفيه بحث لا يخفى، والزمخشري قد نص على جعل الجملة بدلا من الكاف وهو إمام في العربية، لكن أفاد صاحب الكشف أنه أراد أنه بدل من حيث المعنى لا أنه بدل من ذاك لفظا قال: لأنه مفرد دال على الذات باعتبار المعنى وهذا دال على المعنى وإن كان الذات يلزم من طريق الضرورة إلا أن يقدر له موصوف محذوف بأن يقدر رجالا سواء محياهم ومماتهم مثلا، والمعنى على البدلية كما سمعت في قراءة النصب، وجوز كون الجملة مفعولا ثانيا وكَالَّذِينَ
حال من ضمير نَجْعَلَهُمْ
ولا يخفى عليك ما علي وما له، وإذا كان الضمير للمؤمنين فالجملة قيل:
حال من الموصول الثاني لا من الضمير في المفعول الثاني للفساد، وتعقب بأن فيه اكتفاء الاسمية الحالية بالضمير وهو غير فصيح على ما قيل: وقيل: استئناف يبين المقتضي للإنكار على حسبان التماثل وهو أن المؤمنين سواء حالهم عند الله تعالى في الدارين بهجة وكرامة فكيف يماثلهم المجترحون، وجوز أن تكون بيانا لوجه الشبه المجمل، وإذا كان الضمير للفريقين فالظاهر أن الجملة كلام مستأنف غير داخل في حكم الإنكار والتساوي حينئذ بين حال المؤمنين بالنسبة إليهم خاصة وحال المجترحين كذلك وتكون الجملة تعليلا للإنكار في المعنى دالا على عدم المماثلة لا في الدنيا ولا في الآخرة لأن المؤمنين متساوو المحيا والممات في الرحمة وأولئك متساوو المحيا(13/148)
والممات في النقمة إذ المعنى كما يعيشون يموتون فلما افترق حال هؤلاء وحال هؤلاء حياة فكذلك موتا، وأما الإبدال فقد علم حاله فتأمل.
وقرأ الأعمش «سواء» بالنصب «محياهم ومماتهم» به أيضا، وخرج الأول على ما سمعت ونصب محياهم ومماتهم على الظرفية لأنهما اسما زمان أو مصدران أقيما مقام الزمان والعامل إما سَواءً
أو نَجْعَلَهُمْ
، هذا والآية وإن كانت في الكفار على ما نقل عن البحر وهو ظاهر ما روي عن الكلبي من أن عتبة. وشيبة. والوليد بن عتبة قالوا لعلي كرم الله تعالى وجهه. وحمزة رضي الله تعالى عنه. والمؤمنين: والله ما أنتم على شيء ولئن كان ما تقولون حقا لحالنا أفضل من حالكم في الآخرة كما هو أفضل في الدنيا فنزلت الآية أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ
إلخ.
وهي متضمنة للرد عليهم على جميع أوجهها كما يعرف بأدنى تدبر يستنبط منها تباين حاليّ المؤمن العاصي والمؤمن الطائع ولهذا كان كثير من العباد يبكون عند تلاوتها حتى أنها تسمى مبكاة العابدين لذلك، فقد أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد والطبراني وجماعة عن أبي الضحى قال: قرأ تميم الداري سورة الجاثية فلما أتى على قوله تعالى أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ
الآية لم يزل يكررها ويبكي حتى أصبح وهو عند المقام.
وأخرج ابن أبي شيبة عن بشير مولى الربيع بن خيثم أن الربيع كان يصلي فمر بهذه الآية أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ
إلخ فلم يزل يرددها حتى أصبح، وكان الفضيل بن عياض يقول لنفسه إذا قرأها: ليت شعري من أي الفريقين أنت.
وقال ابن عطية: إن لفظها يعطي أن اجتراح السيئات هو اجتراح الكفر لمعادلته بالإيمان، ويحتمل أن تكون المعادلة بالاجتراح وعمل الصالحات ويكون الإيمان في الفريقين ولهذا بكى الخائفون عند تلاوتها.
ورأيت كثيرا من المغرورين المستغرقين ليلهم ونهارهم بالفسق والفجور يقولون بلسان القال والحال: نحن يوم القيامة أفضل حالا من كثير من العابدين وهذا منهم والعياذ بالله تعالى ضلال بعيد وغرور ما عليه مزيد ساءَ ما يَحْكُمُونَ
أي ساء حكمهم هذا وهو الحكم بالتساوي فما مصدرية والكلام إخبار عن قبح حكمهم المعهود.
ويجوز أن يكون لإنشاء ذمهم على أن ساءَ
بمعنى بئس فما فيه نكرة موصوفة وقعت تمييزا مفسرا لضمير الفاعل المبهم والمخصوص بالذم محذوف أي بئس شيئا حكموا به ذلك وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ كأنه دليل على إنكار حسباتهم السابق أو دليل على تساوي محيا كل فريق ومماته وبيان لحكمته على تقدير كون قوله تعالى: سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
استئنافا وذلك من حيث إن خلق العالم بالحق المقتضي للعدل يستدعي انتصاف المظلوم من الظالم والتفاوت بين المسيء والمحسن وإذا لم يكن في المحيا كان بعد الممات حتما وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ عطف على بِالْحَقِّ لأنه في معنى العلة سواء كانت الباء للسببية الغائية أو الملابسة، أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فلأن المعنى خلقها ملتبسة ومقرونة بالحكمة والصواب دون العبث والباطل وحاصله خلقها لأجل ذلك أو عطف على علة محذوفة مثل ليدل سبحانه بها على قدرته أو ليعدل، وما موصولة أو مصدرية أي ليجزى كل نفس بالذي كسبته أو بكسبها وَهُمْ أي النفوس المدلول عليها بكل نفس لا يُظْلَمُونَ بنقص ثواب وتضعيف عذاب، والجملة في موضع الحال، وتسمية ذلك ظلما مع أنه ليس كذلك لأنه منه سبحانه تصرف في ملكه والظلم صرف في ملك الغير بغير إذنه لأنه لو فعله غيره عز وجل كان ظلما فالكلام على الاستعارة التمثيلية أو أنه لما كان مخالفا لوعده سبحانه الحق سماه تعالى ظلما.
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ تعجيب من حال من ترك متابعة الهدى إلى مطاوعة الهوى فكأنه يعبده فالكلام على التشبيه البليغ أو الاستعارة، والفاء للعطف على مقدر دخلت عليه الهمزة أي أنظرت من هذه حاله فرأيته فإن ذلك(13/149)
مما يقضي منه العجب، وأبو حيان جعل أرأيت بمعنى أخبرني وقال: المفعول الأول من اتَّخَذَ والثاني محذوف يقدر بعد الصلات أي أيهتدي بدليل «فمن يهديه» والآية نزلت على ما روي عن مقاتل في الحارث بن قيس السهمي كان لا يهوى شيئا إلا ركبه، وحكمها عام وفيها من ذم اتباع هوى النفس ما فيها، وعن ابن عباس ما ذكر الله تعالى هوى إلا ذمه.
وقال وهب: إذا شككت في خير أمرين فانظر أبعدهما من هواك فأته، وقال سهل التستري: هواك داؤك فإن خالفته فدواؤك،
وفي الحديث «العاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله تعالى» .
وقال أبو عمران موسى بن عمران الاشبيلي الزاهد:
فخالف هواها واعصها إن من يطع ... هوى نفسه ينزع به شر منزع
ومن يطع النفس اللجوجة ترده ... وترم به في مصرع أي مصرع
وقد ذم ذلك جاهلية أيضا، ومنه قول عنترة:
إني امرؤ سمح الخليقة ماجد ... لا أتبع النفس اللجوج هواها
ولعل الأمر غني عن تكثير النقل.
وقرأ الأعرج وأبو جعفر «إلهة» بتاء التأنيث بدل هاء الضمير، وعن الأعرج أنه قرأ «آلهة» بصيغة الجمع.
قال ابن خالويه: كان أحدهم يستحسن حجرا فيعبده فإذا رأى أحسن منه رفضه مائلا إليه، فالظاهر أن آلهة بمعناها من غير تجوز أو تشبيه والهوى بمعنى المهوى مثله في قوله: هواي مع الركب اليمانين مصعد.
وَأَضَلَّهُ اللَّهُ أي خلقه ضالا أو خلق فيه الضلال أو خذله وصرفه عن اللطف على ما قيل عَلى عِلْمٍ حال من الفاعل أي أضله الله تعالى عالما سبحانه بأنه أهل لذلك لفساد جوهر روحه.
ويجوز أن يكون حالا من المفعول أي أضله عالما بطريق الهدى فهو كقوله تعالى: فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ بحيث لا يتأثر بالمواعظ ولا يتفكر في الآيات.
وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً مانعة عن الاستبصار والاعتبار والكلام على التمثيل، وقرأ عبد الله. والأعمش غِشاوَةً بفتح الغين وهي لغة ربيعة، والحسن وعكرمة وعبد الله أيضا بضمها وهي لغة عكلية، وأبو حنيفة وحمزة والكسائي وطلحة ومسعود بن صالح والأعمش أيضا «غشوة» بفتح الغين وسكون الشين، وابن مصرف. والأعمش أيضا كذلك إلا أنهما كسرا الغين فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أي من بعد إضلاله تعالى إياه، وقيل: المعنى فمن يهديه غير الله سبحانه أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي ألا تلاحظون فلا تذكرون، وقرأ الجحدري «تذكرون» بالتخفيف، والأعمش «تتذكرون» بتاءين على الأصل وَقالُوا بيان لأحكام إضلالهم والختم على سمعهم وقلوبهم وجعل غشاوة على أبصارهم فالضمير لمن باعتبار معناه أو للكفرة ما هِيَ أي ما الحياة إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا التي نحن فيها، ويجوز أن يكون الضمير للحال والحياة الدنيا من جملة الأحوال فيكون المستثنى من جنس المستثنى منه أيضا لاستثناء حال الحياة الدنيا من أعم الأحوال ولا حاجة إلى تقدير حال مضافا بعد أداة الاستثناء أي ما الحال إلا حال الحياة الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيا حكم على النوع بجملته من غير اعتبار تقديم وتأخير إلا أن تأخير نحيي الله في النظم الجليل للفاصلة أي تموت طائفة وتحيا طائفة ولا حشر أصلا، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير أي نحيا ونموت وليس بذاك، وقيل: أرادوا بالموت عدم الحياة السابق على نفخ الروح فيهم أي نكون نطفا وما قبلها وما بعدها ونحيا بعد ذلك، وقيل: أرادوا بالحياة بقاء النسل والذرية(13/150)
مجازا كأنهم قالوا: نموت بأنفسنا ونحيا ببقاء أولادنا وذرارينا، وقيل: أرادوا يموت بعضنا ويحيا بعض على أن التجوز في الإسناد، وجوز أن يريدوا بالحياة على سبيل المجاز إعادة الروح لبدن آخر بطريق التناسخ وهو اعتقاد كثير من عبدة الأصنام ولا يخفى بعد ذلك، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «ونحيا» بضم النون وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ أي طول الزمان فالدهر أخص من الزمان وهو الذي ارتضاه السعد، ولهم في ذلك كلام طويل، وقال الراغب: الدهر في الأصل اسم لمدة العالم من مبدأ وجوده إلى انقضائه ثم يعبر به عن كل مدة كثيرة، وهو خلاف الزمان فإنه يقع على المدة العالم من مبدأ وجوده إلى انقضائه ثم يعبر به عن كل مدة كثيرة، وهو خلاف الزمان فإنه يقع على المدة القليلة والكثيرة ودهر فلان مدة حياته، ويقال: دهر فلانا نائبة دهرا أي نزلت به حكاه الخليل فالدهر هاهنا مصدر.
وذكر بعض الأجلة أن الدهر بالمعنى السابق منقول من المصدر وأنه يقال: دهره دهرا أي غلبه وإسنادهم الإهلاك إلى الدهر إنكار منهم لملك الموت وقبضه الأرواح بأمر الله عز وجل وكانوا يسندون الحوادث مطلقا إليه لجهلهم أنها مقدرة من عند الله تعالى، وإشعارهم لذلك مملوءة من شكوى الدهر وهؤلاء معترفون بوجود الله تعالى فهم غير الدهرية فإنهم مع إسنادهم الحوادث إلى الدهر لا يقولون بوجوده سبحانه وتعالى «عما يقولون علوا كبيرا» والكل يقول باستقلال الدهر بالتأثير، ولا يبعد أن يكون الزمان عندهم مقدار حركة الفلك كما ذهب إليه معظم الفلاسفة. وقد جاء النهي عن سب الدهر.
أخرج مسلم «لا يسب أحدكم الدهر فإن الله هو الدهر»
وأبو داود. والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم قال الله عز وجل: «يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر فلا يقل أحدكم يا خيبة الدهر أنا الدهر أقلب ليله ونهاره»
والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم أيضا يقول الله عز وجل: «استقرضت عبدي فلم يقرضني وشتمني عبدي وهو لا يدري يقول وا دهراه وأنا الدهر»
والبيهقي «لا تسبوا الدهر قال الله عز وجل: أنا الأيام والليالي أجددها وأبليها وآتي بملوك بعد ملوك»
ومعنى ذلك أن الله تعالى هو الآتي بالحوادث فإذا سببتم الدهر على أنه فاعل وقع السب على الله عز وجلّ.
وعد بعضهم سبه كبيرة لأنه يؤدي إلى سبه تعالى وهو كفر، وما أدى إليه فأدنى مراتبه أن يكون كفرا (1) .
وكلام الشافعية صريح بأن ذلك مكروه لا حرام فضلا عن كونه كبيرة، والذي ينجه في ذلك تفصيل وهو أن من سبه فإن أراد به الزمن فلا كلام في الكراهة، أو الله عز وجل فلا كلام في الكفر، ومثله إذا أراد المؤثر الحقيقي فإنه ليس إلا الله سبحانه وإن أطلق فهذا محل التردد لاحتمال الكفر وغيره وظاهر كلامهم هنا أيضا الكراهة لأن المتبادر منه الزمن وإطلاقه على الله تعالى كما قال بعض الأجلة إنما هو بطريق التجوز.
ومن الناس من قال: إن سبه كبيرة إن اعتقد أن له تأثيرا فيما نزل به كما كان يعتقد جهلة العرب، وفيه نظر لأن اعتقاد ذلك كفر ولي الكلام فيه، وأنكر بعضهم كون ما
في حديث أبي داود. والحاكم «فإني أنا الدهر»
بضم الراء وقال: لو كان كذلك كان الدهر من أسمائه تعالى وكان
يرويه «فإني أنا الدهر»
بفتح الراء ظرفا لأقلب أي فإني أنا أقلب الليل والنهار الدهر أي على طول الزمان وممره، وفيه أن رواية مسلم فإن الله هو الدهر تبطل ما زعمه، ومن ثم كان الجمهور على ضم الراء. ولا يلزم عليه أن يكون من أسمائه تعالى لما سبق أن ذلك على التجوز، وحكى الراغب عن بعضهم أن الدهر الثاني في حديث مسلم غير الأول وأنه مصدر بمعنى الفاعل، والمعنى أن الله تعالى هو الدهر أي
__________
(1) قوله فأدنى مراتبه أن يكون كفرا كذا بالأصل ولعل الأولى أن يكون كبيرة.(13/151)
المصرّف المدبر المفيض لما يحدث، وفيه بعد.
وقرأ عبد الله «إلّا دهر» وتأويله إلا دهر يمر وَما لَهُمْ بِذلِكَ أي بما ذكر من قصر الحياة على ما في الدنيا ونسبة الإهلاك إلى الدهر مِنْ عِلْمٍ مستند إلى عقل أو نقل إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن والتقليد من غير أن يكون لهم ما يصح أن يتمسك به في الجملة، هذا معتقدهم الفاسد في أنفسهم وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا الناطقة بالحق الذي من جملته البعث بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على ما نطقت به مما يخالف معتقدهم أو مبينات له ما كانَ حُجَّتَهُمْ بالنصب على أنه خبر كان واسمها قوله تعالى:
إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في أنا نبعث بعد الموت أي ما كان متمسكا لهم شيء من الأشياء إلا هذا القول الباطل الذي يستحيل أن يكون حجة، وتسميته حجة لسوقهم إياه مساق الحجة على سبيل التهكم بهم أو أنه من قبيل: تحية بينهم ضرب وجيع. أي ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة، والمراد نفي أن يكون لهم حجة فإنه لا يلزم من عدم حصول الشيء حالا كإعادة آبائهم التي طلبوها في الدنيا امتناعه بتعد لتمتنع الإعادة إذا قامت القيامة، والخطاب في ائْتُوا وكُنْتُمْ للرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين إذ هم قائلون بمقالته صلّى الله عليه وسلّم من البعث طالبون من الكفرة الإقرار به، وجوز أن يكون له عليه الصلاة والسلام وللأنبياء عليهم السلام الجائين بالبعث وغلب الخطاب على الغيبة.
وقال ابن عطية: ائْتُوا وكُنْتُمْ من حيث المخاطبة له صلّى الله عليه وسلّم والمراد هو وإلهه والملك الذي يذكر عليه الصلاة والسلام نزوله عليه بذلك وهو جبريل عليه السلام، وهو كما ترى.
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وابن عامر فيما روى عنه عبد الحميد وعاصم فيما روى هارون وحسين عن أبي بكر عنه «حجّتهم» بالرفع على أنه اسم كان وما بعد خبر أي ما كان حجتهم شيئا من الأشياء إلا هذا القول الباطل، وجواب إِذا ما كان إلخ، ولم تقترن بالفاء وإن كانت لازمة في المنفي بما إذا وقعت جواب الشرط لأنها غير جازمة ولا أصلية في الشرطية، وهو سر قول أبي حيان: إن إذا خالفت أدوات الشرط بأن جوابها إذا كان منفيا بما لم تدخل الفاء بخلاف أدوات الشرط فلا بد معها من الفاء نحو إن تزرنا فما جفوتنا فلا حاجة إلى تقدير جواب لها كعمدوا إلى الحجج الباطلة خلافا لابن هشام. واستدل بوقوع ما ذكر جوابا على أن العمل في إذا ليس للجواب لصدارة ما المانعة منه ولا قائل بالفرق، ولعل من قال بالعمل يقول يتوسع في الظرف ما لم يتوسع في غيره، ثم إن المعنى على الاستقبال لمكان إِذا أي ما تكون حجتهم إلا أن يقولوا ذلك.
قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ابتداء ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انقضاء آجالكم على ما دل عليه الحجج لا الدهر كما تزعمون ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي فيه وجوز كون الفعل مضمنا معنى مبعوثين أو منتهين ونحوه ومعنى في أظهر أي يجمعكم في يوم القيامة لا رَيْبَ فِيهِ أي في جمعكم فإن من قدر على البدء وقدر على الإعادة والحكمة اقتضت الجمع للجزاء لا محالة في ذلك اليوم والوعد الصدق بالآيات دل على قرعها، وحاصله أن البعث أمر ممكن أخبر به الصادق وتقتضيه الحكمة وكل ما هو كذلك لا محالة واقع والإتيان بالآباء حيث كان منافيا للحكمة التشريعية امتنع إيقاعه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ استدراك من قوله تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ وهو من تمام الكلام المأمور به أو كلام مسوق من جهته تعالى تحقيقا للحق وتنبيها على أن ارتيابهم لجهلهم وقصورهم في النظر والتفكر لا لأن فيه شائبة ريب ما وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بيان للاختصاص المطلق والتصرف الكلي فيهما وفيما بينهما بالله عز(13/152)
وجلّ إثر بيان تصرفه تعالى بالإحياء والإماتة والبعث والجمع للمجازاة فهو تعميم للقدرة بعد تخصيص.
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ قال الزمخشري: العامل في يَوْمَ تَقُومُ يخسر ويومئذ بدل من يوم تقول وحكاه ابن عطية عن جماعة، وتقديم الظرف على الفعل للحصر لأن كل خسران عند الخسران في ذلك اليوم كلا خسران، وفيه أيضا رعاية الفواصل على ما قيل، وتعقب حديث الإبدال بأن التنوين في يَوْمَئِذٍ عوض عن الجملة المضاف إليها، والظاهر أنها تقدر بقرينة ما قبل تَقُومُ السَّاعَةُ فيقال ويوم تقوم الساعة يوم إذ تقوم الساعة يخسر المبطلون فيكون تأكيدا لا بدلا إذ لا وجه له. ولذا قيل: إنه بالتأكيد أشبه، وقول أبي حيان: إن كان بدلا توكيديا وهو قليل جاز وإلا فلا لا يسمن ولا يغني وتكلف بعضهم فزعم أن اليوم الثاني بمعنى الوقت الذي هو جزء من يوم قيام الساعة فهو بدل بعض معه عائد مقدر ولما كان فيه ظهور خسرانهم كان هو المقصود بالنسبة، وقالت فرقة: العامل في يَوْمَ تَقُومُ ما يدل عليه الملك قالوا: وذلك أن يوم القيامة أمر ثالث ليس بالسماء ولا بالأرض لتبدلهما فكأنه قيل.
ولله ملك السموات والأرض والملك يوم تقوم الساعة، ويَوْمَئِذٍ منصوب بيخسر والجملة استئناف وإن كان لها تعلق بما قبلها من جهة تنوين العوض، وقيل: يجوز أن يكون عطفا على ظرف معمول لملك المذكور كأنه قيل: لله ملك السموات والأرض اليوم ويوم تقوم الساعة وهو كما ترى، والْمُبْطِلُونَ الداخلون في الباطل، ولعل المراد به أعظم أنواعه وهو الكفر وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ من الأمم المجموعة جاثِيَةً باركة على الركب مستوفزة وهي هيئة المذنب الخائف المنتظر لما يكره، وعن ابن عباس جاثية مجتمعة، وعن قتادة جماعات من الجثوة مثلثة الجيم وهي الجماعة تجتمع على جثى أي تراب مجتمع، وعن مؤرج السدوسي جاثية خاضعة بلغة قريش، والخطاب في تَرى لمن يصح منه الرؤية أو لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام وهي بصرية، وجاثِيَةً حال وجوز أن تكون صفة ولو كانت علمية كانت مفعولا ثانيا، وقرىء «جاذية» بالذال والجذو أشد استيفازا من الجثو لأن الجاذي هو الذي يجلس على أطراف أصابعه، وجوز أن يكون الجاذي بمعنى الجاثي أبدلت ثاؤه ذالا فإن الثاء والذال متقارضان كما قيل شحاث وشحاذ كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا إلى صحيفة أعمالها التي كتبتها الحفظة لتحاسب، وأفرد على إرادة الجنس وإلا فلكل واحد من كل أمة صحيفة فيها أعماله، وقيل: المراد كتاب نبيها تدعى إليه لينظر هل عملت به أو لا وحكي ذلك عن يحيى بن سلام إلا أنه حمل كل أمة على كل أمة كافرة والظالم العموم، وقيل: المراد بذلك اللوح المحفوظ أي تدعى إلى ما سبق لها فيه، وقرأ يعقوب «كلّ» بالنصب وخرج على أنه بدل من كل الأول، وجملة تُدْعى صفة، وإبدال الأمة المدعوة إلى كتابها من الأمة الجاثية حسن وجاء ذلك من الوصف، ويقال مثل ذلك فيما إذا كانت الجملة حالا، وإذا كانت الرؤية علمية وجملة تُدْعى مفعولا ثانيا فالظاهر أنه تأكيد، وجعله تأكيدا مع كون الجملة صفة فيه تخلل التأكيد بين الوصفين وهو كما في الكشف غير مستحسن الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مقول قول مقدر وهو حال أو خبر بعد خبر.
وفي الكلام مضاف مقدر أي جزاء ما كنتم إلخ أو هو من المجاز، وقوله تعالى: هذا كِتابُنا إلى آخره من تمام ما يقال حينئذ، والإشارة إلى الكتاب الذي تدعى إليه الأمة المقول لها ذلك، وهو إذا كان صحيفة الأعمال فإضافته إلى ضميره جلّ شأنه لأدنى ملابسة على التجوز في النسبة الإضافية فإنه تعالى الذي أمر الكتبة أن يكتبوا فيه أعمالهم، وإن كان الكتاب المنزل على نبي تلك الأمة أو اللوح المحفوظ فأمر الإضافة ظاهر، وضمير العظمة على سائر الأوجه لتفخيم شأن الكتاب، وجوز أن يكون الضمير للكتبة والإضافة فيه حقيقية قيل: ويأباه نَسْتَنْسِخُ إلا أن يجعل بمعنى ننسخ ونكتب وستعلم إن شاء الله تعالى ما فيه، والأظهر عندي حمل الكتاب في الموضعين على صحيفة الأعمال(13/153)
واسم الإشارة مبتدأ وما بعده خبر، وقوله سبحانه يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ أي يشهد عليكم بِالْحَقِّ من غير زيادة ولا نقص خبر آخر أو حال أو مستأنف، وبِالْحَقِّ حال من فاعل يَنْطِقُ وقوله تعالى: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ إلى آخره تعليل لنطقه عليهم بأعمالهم من غير إخلال بشيء منها أي إنا كنا فيما قبل نستنسخ الملائكة أي نجعلها تنسخ وتكتب ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا من الأعمال حسنة كانت أو سيئة، وحقيقة النسخ كتابة من أصل ينظر فيه فكان أفعال العباد هي الأصل على ما في البحر،
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: إن الله تعالى خلق النون وهي الدواة وخلق القلم فقال: اكتب قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل معمول بر أو فاجر ورزق مقسوم حلال أو حرام ثم ألزم كل شيء من ذلك بيانه دخوله في الدنيا متى ومقامه فيها كم وخروجه منها كيف ثم جعل على العباد حفظة وعلى الكتاب خزّانا فالحفظة يستنسخون كل يوم من الخزان عمل ذلك اليوم فإذا فني الرزق وانقطع الأمر وانقضى الأجل أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم فتقول الخزنة ما نجد لصاحبكم عندنا شيئا فترجع فيجدونه قد مات
ثم قال ابن عباس ألستم قوما عربا تسمعون الحفظة يقولون إن كنا نستنسخ ما كنتم تعملون وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل؟ وفي رواية ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن الآية فذكر نحو ما سمعت ثم قال: هل يستنسخ الشيء إلا من كتاب، وكون الاستنساخ من اللوح قد رواه جماعة عنه، وما ذكرناه يصحح أن يكون هذا القول من الملائكة بدون تأويل نَسْتَنْسِخُ بننسخ كما لا يخفى، وقوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ إلى آخره تفصيل للمجمل المفهوم من قوله تعالى: يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ أو يجزون من الوعد والوعيد، والمراد بالرحمة الجنة مجازا والظرفية على ظاهرها، وقيل: المراد بالرحمة ما يشمل الجنة وغيرها والأول أظهر ذلِكَ الذي ذكر من الإدخال في رحمته تعالى: هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ الظاهر كونه فوزا لا فوز وراءه.
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ أي فيقال لهم بطريق التقريع والتوبيخ: ألم تكن تأتيكم رسلي فلم تكن آياتي تتلى عليكم فجواب أما القول المقدر، وحذف اكتفاء بالمقصود وهو المقول وحذفه كثير مقيس حتى قيل هو البحر حدث عنه، وحذف المعطوف عليه لقرينة الفاء العاطفة وأن تلاوة الآيات تستلزم إتيان الرسل معنى، وهذا على ما ذهب إليه الزمخشري والجمهور على أن الهمزة مقدمة من تأخير لصدارتها والفاء على نية التقدير، والتقدير فيقال لهم: ألم تكن إلخ فليس هناك سوى حذف القول، وفي الكشف لو حمل على أن المحذوف فيوبخون لدلالة ما بعده عليه، وفائدة هذا الأسلوب مع أن الأصل فيدخلهم في عذابه الدلالة على أن المؤمنين يدخلون الجنة والكافرون بعد في الموقف معذبون بالتوبيخ لكان وجها فَاسْتَكْبَرْتُمْ عن الإيمان بها وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ قوما عادتهم الإجرام وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ أي وما وعده سبحانه من الأمور الآتية أو وعده تعالى بذلك حَقٌّ أي كائن هو أو متعلقه لا محالة ففي الكلام تجوز إما في الطرف أو في النسبة.
وقرأ الأعرج وعمرو بن قائد «وإذا قيل أنّ» بفتح الهمزة على لغة سليم وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها برفع «الساعة» في قراءة الجمهور على العطف على محل إن واسمها على ما ذهب إليه أبو علي وتبعه الزمخشري، ومن زعم أن لاسم إن موضعا جوز العطف عليه هنا، وزعم أبو حيان أن الصحيح أنه لا يجوز كلا الوجهين وعليه فجملة السَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها عطف على الجملة السابقة، وقرأ حمزة وَالسَّاعَةُ بالنصب عطفا على اسم أن وروي ذلك عن الأعمش وأبي عمرو وأبي حيوة وعيسى والعبسي والمفضل، وذكر أمر الساعة وإنها لا ريب في وقوعها مع أنها من جملة ما وعد الله تعالى اعتناء بأمر البعث المقصود بالمقام قُلْتُمْ لغاية عتوكم: ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ أي أي شيء هي استغرابا لها جدا كما يؤذن به جمع ما نَدْرِي مع الاستفهام.(13/154)
إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا استشكل ذلك لما أنه استثناء مفرغ وقد قالوا: لا يجوز تفريغ العامل إلى المفعول المطلق المؤكد فلا يقال: ما ضربت إلا ضربا لأنه بمنزلة ما ضربت إلا ضربت، وقال الرضي: إن الاستثناء المفرغ يجب أن يستثنى من متعدد مقدر معرب بإعراب المستثنى مستغرق لذلك الجنس حتى يدخل فيه المستثنى بيقين ثم يخرج بالاستثناء وليس مصدر نظن محتملا مع الظن غيره حتى يخرج الظن منه، وكذا يقال في ما ضربت إلّا ضربا ونحوه وهذا مراد من قال: إنه من قبيل استثناء الشيء من نفسه. واختلفوا في حله فقيل: إن معنى ما نظن ما نفعل الظن كما في نحو قيم وقعد وحينئذ يصح الاستثناء ويتغاير مورد النفي والإيجاب من حيث التقدير والتجوز في الاستثناء من العام المقدر وجعل نَظُنُّ في معنى نفعل الفعل لا نفعل الظن كأنه قيل: ما نفعل فعلا إلا الظن، وكذا يقال في أمثاله ومنها قول الأعشى:
وحل به الشيب أثقاله ... وما اغتره الشيب إلا اغترارا
وارتضاه صاحب الكشف، وقيل: ما نظن بتأويل ما نعتقد ويكون ظَنًّا مفعولا به أي ما نعتقد شيئا إلا ظنا، وارتضاه أبو حيان. وتعقب بأن ظاهر حالهم أنهم مترددون لا معتقدون. وأجيب بأن الاعتقاد المنفي لا ينافي ظاهر حالهم بل يقررها على أتم وجه، وقيل المستثنى ظن أمر الساعة والمستثنى منه مطلق الظن كأنه قيل لا ظن ولا تردد لنا إلا ظن أمر الساعة والتردد فيه فالكلام لنفي ظنهم فيما سوى ذلك مبالغة، وقال الرضي: إن ما ضربت إلا ضربا يحتمل التعدد من حيث توهم المخاطب إذ ربما تقول ضربت وقد فعلت غير الضرب مما يجري مجراه من مقدماته كالتهديد فتدفع ذلك وتقول ضربت ضربا فهو نظير جاء زيد زيد فلما كان ضربت محتملا للضرب وغيره من حيث التوهم صار كالمتعدد الشامل للضرب وغيره، وحاصله أن الضرب لما احتمل قبل التأكيد والاستثناء فعلا آخر حمل على العموم بقرينة الاستثناء فيكون المعنى ما فعلت شيئا إلا ضربا، وهكذا إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وهذا كالمتحد مع ما ذكرناه أولا، ورد بأن الاستثناء يقتضي الشمول المحقق ولا يكفي فيه الاحتمال المحقق فضلا عن المتوهم.
وتعقب بأنه ليس بشيء لأنه إذا تجرد الفعل لمعنى عام صار الشمول محققا على أن عدم كفاية الشمول الفرضي غير مسلم كما يعرفه من يتتبع موارده، وذهب ابن يعيش. وأبو البقاء إلى أنه على القلب والتقديم والتأخير الأصل إن نحن إلا نظن ظنا وحكي ذلك عن المبرد، وقد حمل عليه ما حكاه أبو عمرو بن العلاء وسيبويه من قول العرب: ليس الطيب إلا المسك بالرفع فقال: الأصل ليس إلا الطيب المسك ليكون اسم ليس ضمير الشأن وما بعد إلا مبتدأ وخبرا في موضع الخبر لها، ورده الرضي وقال: إنه تكلف لما فيه من التعقيد المخلّ بالفصاحة.
والمثال المحكي وارد على لغة بني تميم فإنهم عاملوا ليس معاملة ما فأهملوها لانتقاض النفي بإلا، وقيل ظَنًّا مفعول مطلق لفعل محذوف والمستثنى محذوف والتقدير إن نظن إلا أنكم تظنون ظنا.
وحكي عن المبرد أيضا وفيه حذف إن واسمها وخبرها وإبقاء المصدر وذلك لا يجوز، وفيه أيضا من التعقيد المخل بالفصاحة ما فيه، ولا أظن صحة حكايته عن المبرد لغاية برودته، وجوز صاحب التقريب أن يكون المراد إن نظن إلا ظنا ضعيفا فهو مصدر مبين للنوع حذفت صفته كما صرح به في البحر لا مؤكد، وهذا يوافق ما ذكره الإمام السكاكي في بحث أن التنكير قد يكون للتحقير. وتعقب بأن قوله تعالى: وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ يأباه فإن مقابل الاستيقان مطلق الظن لا الضعيف منه، وقد صرح غير واحد بأن هذه الجملة كالتأكيد لما قبلها والمراد بها استمرار النفي وتأكيده، قيل: والمعنى وما نحن بمستيقنين إمكان الساعة أي لا نتيقن إمكانها أصلا فضلا عن تحقق وقوعها المدلول عليه بقوله تعالى: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها فقولهم ذلك رد لهذا، ولعل المثبتين لأنفسهم(13/155)
الظن من غير إيقان بأمر الساعة غير القائلين إن هي إلا حياتنا الدنيا فإن ذلك ظاهر في أنهم منكرون للبعث جازمون بنفي الساعة فيكون الكفرة صنفين صنف جازمون بنفيها كأئمتهم وصنف مترددون متحيرون فيها فإذا سمعوا ما يؤثر عن آبائهم أنكروها وإذا سمعوا الآيات المتلوة تقهقر إنكارهم فترددوا.
ويحتمل اتحاد قائل ذاك وقائل هذا إلا أن كل قول في وقت وحال فهو مضطرب مختلف الحالات تارة يجزم بالنفي فيقول: إن هي إلا حياتنا الدنيا وأخرى يظن فيقول إن نظن إلا ظنا، وقيل: الجزم هناك بنفي وقوعها والظن من غير إيقان هنا بمجرد إمكانها فهم مترددون بإمكانها الذاتي جازمون بعدم وقوعها بالفعل فتأمل «تم الجزء الخامس والعشرون ويليه إن شاء الله تعالى الجزء السادس والعشرون وأوله (وبدا لهم) » .(13/156)
الجزء السادس والعشرون(13/157)
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
وَبَدا لَهُمْ أي ظهر لهم حينئذ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا أي قبائح أعمالهم أي عقوباتها فإن العقوبة تسوء صاحبها وتقبح عنده أو سيئات أعمالهم أي أعمالهم السيئات على أن تكون الإضافة من إضافة الصفة إلى الموصوف والكلام على تقدير مضاف أي ظهر لهم جزاء ذلك أو أن يراد بالسيئات جزاؤها من باب إطلاق السبب على المسبب، وقيل:
المراد ظهر لهم الجهات السيئة الغير الحسنة عقلا لأعمالهم أي جهات قبحها العقلي التي خفيت عليهم في الدنيا بتزيين الشيطان وهو قول بالحسن والقبح العقليين في الأفعال، وما موصولة، وجوز أن تكون مصدرية فلا تغفل وَحاقَ أي حل بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من الجزاء والعقاب.
وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ نترككم في العذاب من باب إطلاق السبب على المسبب لأن من نسي شيئا تركه أو نجعلكم بمنزلة الشيء المنسي غير المبالى به على أن ثم استعارة تمثيلية، وجوز أن يكون استعارة مكنية في ضمير الخطاب.
كَما نَسِيتُمْ في الدنيا لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي كما تركتم عدته وهي التقوى والإيمان به أو كما لم تبالوا أنتم بلقائه ولم تخطروه ببال كالشيء الذي يطرح نسيا منسيا، وجوز أن يكون التعبير بنسيانه لأن علمه مركوز في فطرتهم أو لتمكنهم منه بظهور دلائله ففي النسيان الأول مشاكلة، وإضافة لِقاءَ إلى- يوم- من إضافة المصدر إلى ظرفه فهي على معنى في والمفعول مقدر أي لقاءكم الله تعالى وجزاءه سبحانه في يومكم هذا، وقال العلامة التفتازاني:
لِقاءَ يَوْمِكُمْ ك مَكْرُ اللَّيْلِ [سبأ: 33] من باب المجاز الحكمي فلذا أجري المضاف إليه مجرى المفعول به، وإنما لم يجعل من إضافة المصدر إلى المفعول به حقيقة لأن التوبيخ ليس على نسيان لقاء اليوم نفسه بل نسيان ما فيه من الجزاء.(13/159)
وقال بعض الأجلة: لا يخفى أن لقاء اليوم يجوز أن يكون كناية عن لقاء جميع ما فيه وهو أنسب بالمقام لأن السياق لإنكار البعث وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ما لأحد منكم ناصر واحد يخلصكم منها.
ذلِكُمْ العذاب بِأَنَّكُمُ بسبب أنكم اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً أي مهزوءا بها ولم ترفعوا لها رأسا وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فحسبتم أن لا حياة سواها فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها أي النار. وقرأ الحسن وابن وثاب وحمزة والكسائي «لا يخرجون» مبنيا للفاعل، والالتفات إلى الغيبة للإيذان بإسقاطهم عن رتبة الخطاب استهانة بهم أو بنقلهم من مقام الخطابة إلى غيابه النار، وجوز أن يكون هذا ابتداء كلام فلا التفات.
وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي يطلب منهم أن يعتبوا ربهم سبحانه أي يزيلوا عتبه جلّ وعلا، وهو كناية عن إرضائه تعالى أي لا يطلب منهم إرضاؤه عز وجل لفوات أوانه، وقد تقدم في الروم. والسجدة أوجه أخر في ذلك فتذكر فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ تفريع على ما احتوت عليه السورة الكريمة، وقد احتوت على آلاء الله تعالى وأفضاله عز وجل واشتملت على الدلائل الآفاقية والأنفسية وانطوت على البراهين الساطعة والنصوص اللامعة في المبدأ والمعاد، واللام للاختصاص، وتقديم الخبر لتأكيده، وتعريف الحمد للاستغراق أو الجنس، والجملة إخبار عن استحقاقه تعالى لما تدل عليه، وجوز أن يراد الإنشاء، وتمام الكلام قد تقدم في الفاتحة، وفي التفريع المذكور على ما قال بعض الأجلة إشارة إلى أن كفرهم لا يؤثر شيئا في ربوبيته تعالى ولا يسد طريق إحسانه ورحمته عز وجلّ. ومن يسد طريق العارض الهطل. وإنما هم ظلموا أنفسهم، وإجراء ما جرى من الصفات الدالة على إنعامه تعالى عليه عز وجلّ كالدليل على استحقاقه تعالى الحمد واختصاصه به جلّ وعلا وقوله تعالى: رَبِّ الْعالَمِينَ بدل مما قبل وفي تكرير لفظ الرب تأكيد وإيذان بأن ربوبيته تعالى لكل بطريق الأصالة. وقرأ ابن محيصن برفعه على المدح بإضمار هو وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فيه من الاختصاص ما في فَلِلَّهِ الْحَمْدُ والكبرياء قال ابن الأثير: العظمة والملك، وقال الراغب: الترفع عن الانقياد، وقيل: هي عبارة عن كمال الذات وكمال الوجود، وقوله تعالى: فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ في موضع الحال أو متعلق- بالكبرياء- والتقييد بذلك لظهور آثار الكبرياء وأحكامها فيه، والإظهار في مقام الإضمار لتفخيم شأن الكبرياء،
وفي الحديث القدسي «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما قذفته في النار» أخرجه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه وابن أبي شيبة والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة
، وهو ظاهر في عدم اتحاد الكبرياء والعظمة فلا تغفل وَهُوَ الْعَزِيزُ الذي لا يغلب الْحَكِيمُ في كل ما قضى وقدر، وفي هذه الجمل إرشاد- على ما قيل- إلى أوامر جليلة كأنه قيل: له الحمد فاحمدوه تعالى وله الكبرياء فكبروه سبحانه وهو العزيز الحكيم فأطيعوه عز وجل، وجعلها بعضهم مجازا أو كناية عن الأوامر المذكورة والله تعالى أعلم، هذا ولم أظفر من باب الإشارة بما يتعلق بشيء من آيات هذه السورة الكريمة يفي بمؤنة نقله غير ما يتعلق بقوله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ [الجاثية: 13] من جعله إشارة إلى وحدة الوجود، وقد مر ما يغني عن نقله، والله عز وجلّ ولي التوفيق.(13/160)
سورة الأحقاف
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير أنها نزلت بمكة فأطلق غير واحد القول بمكيتها من غير استثناء، واستثنى بعضهم قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [الأحقاف: 10] الآية، فقد أخرج الطبراني بسند صحيح عن عوف بن مالك الأشجعي أنها نزلت بالمدينة في قصة إسلام عبد الله بن سلام، وروي ذلك عن محمد بن سيرين.
وفي الدر المنثور أخرج البخاري ومسلم والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: ما سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض: إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام وفيه نزلت وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ
[الأحقاف: 10] وفي نزولها فيه رضي الله تعالى عنه أخبار كثيرة، وظاهر ذلك أنها مدنية لأن إسلامه فيها بل في الأخبار ما يدل على مدنيتها من وجه آخر، وعكرمة ينكر نزولها فيه ويقول: هي مكية كما أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه وكذا مسروق، فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أنه قال في الآية: والله ما نزلت في عبد الله بن سلام ما نزلت إلا بمكة وإنما كان إسلام ابن سلام بالمدينة وإنما كانت خصومة خاصم بها محمد صلّى الله عليه وسلّم، واستثنى بعضهم وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ [الأحقاف: 17] الآيتين، وزعم مروان من لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أباه وهو في صلبه أنهما نزلتا في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله تعالى عنهما فكذبته عائشة وقالت: كذب مروان مرتين والله ما هو به ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته ولكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعن أبا مروان ومروان في صلبه فمروان فضض أي قطعة من لعنة الله تعالى، وفي رواية أنها قالت: إنما نزلت في فلان بن فلان وسمت رجلا آخر، واستثنى آخر وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ [الأحقاف: 15] الآيات الأربع كما حكاه في جمال القراء، وحكى أيضا استثناء فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ [الأحقاف: 35] الآية ونقله في البحر عن ابن عباس. وقتادة، وكذا نقل فيه عنهما استثناء قُلْ أَرَأَيْتُمْ إلخ، وتمام الكلام في ذلك سيأتي إن شاء الله تعالى. وآيها خمس وثلاثون في الكوفي وأربع وثلاثون في غيره والاختلاف في «حم» وتسمى لمجاوزتها الثلاثين ثلاثين.
أخرج أحمد بسند جيد عن ابن عباس قال: أقرأني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سورة من آل حم وهي الأحقاف وكانت السورة إذا كانت أكثر من ثلاثين آية سميت ثلاثين،
وروي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأها على وجهين.
أخرج ابن الضريس والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: أقرأني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سورة الأحقاف فسمعت رجلا يقرؤها خلاف ذلك فقلت: من أقرأكها؟ قال: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: والله لقد أقرأني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غير ذا فأتينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله ألم تقرئني كذا وكذا؟ قال: بلى فقال الآخر: ألم تقرئني كذا وكذا؟ قال: بلى فتمعّر وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ليقرأ كل واحد منكما ما سمع فإنما هلك من كان قبلكم بالاختلاف» .
وأنت تعلم أن ما تواتر هو القرآن. ووجه اتصالها أنه تعالى لما ختم السورة التي قبلها بذكر التوحيد وذم أهل(13/161)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)
الشرك والوعيد افتتح هذه بالتوحيد ثم بالتوبيخ لأهل الكفر من العبيد فقال عز وجلّ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ الكلام فيه كالذي تقدم في مطلع السورة السابقة ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بما فيهما من حيث الجزئية منهما ومن حيث الاستقرار فيهما وَما بَيْنَهُما من المخلوقات إِلَّا بِالْحَقِّ استثناء مفرع من أعم المفاعيل أي لا خلقا ملتبسا بالحق الذي تقتضيه الحكمة التكوينية والتشريعية، وفيه من الدلالة على وجود الصانع وصفات كماله وابتناء أفعاله على حكم بالغة وانتهائها إلى غايات جليلة ما لا يخفى، وجوز كونه مفرغا من أعم الأحوال من فاعل خَلَقْنَا أو من مفعوله أي ما خلقناها في حال من الأحوال إلا حال ملابستنا بالحق أو حال ملابستها به وَأَجَلٍ مُسَمًّى عطف على (الحق) بتقدير مضاف أي وبتقدير أجل مسمى، وقدر لأن الخلق إنما يلتبس به لا بالأجل نفسه والمراد بهذا الأجل. كما قال ابن عباس. يوم القيامة فإنه ينتهي إليه أمور الكل وتبدل فيه الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار، وقتل:
مدة البقاء المقدر لكل واحد، ويؤيد الأول قوله تعالى:(13/162)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ فإن ما أنذروه يوم القيامة وما فيه من الطامة التامة والأهوال العامة لا آخر أعمارهم. وجوز كون ما مصدرية أي عن إنذارهم بذلك الوقت على إضافة المصدر إلى مفعوله الأول القائم مقام الفاعل، والجملة حالية أي ما خلقنا الخلق إلا بالحق وتقدير الأجل الذي يجازون عنده والحال أنهم غير مؤمنين به معرضون عنه غير مستعدين لحلوله قُلْ توبيخا لهم وتبكيتا أَرَأَيْتُمْ أخبروني وقرىء «أرأيتكم» ما تَدْعُونَ ما تعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام أو جميع المعبودات الباطلة ولعله الأظهر، والموصول مفعول أول- لأرأيتم- وقوله تعالى: أَرُونِي تأكيد له فإنه بمعنى أخبروني أيضا، وقوله تعالى: ماذا خَلَقُوا جوز فيه أن تكون ما اسم استفهام مفعولا مقدما- لخلقوا- وذا زائدة وأن تكون ماذا اسما واحدا مفعولا مقدما أي أي شيء خلقوا وأن تكون اسم استفهام مبتدأ أو خبرا مقدما وذا اسم موصول خبرا أو مبتدأ مؤخرا وجملة خَلَقُوا صلة الموصول أي ما الذي خلقوه، وعلى الأولين جملة خَلَقُوا مفعول ثان- لأرأيتم- وعلى ما بعدهما جملة ماذا خَلَقُوا وجوز أن يكون الكلام من باب الأعمال وقد أعمل الثاني وحذف المفعول الأول وأختاره أبو حيان، وقيل:
يحتمل أن يكون أَرُونِي بدل اشتمال من أَرَأَيْتُمْ وقال ابن عطية: يحتمل أَرَأَيْتُمْ وجهين: كونها متعدية وما مفعولا لها. وكونها منبهة لا تتعدى وما استفهامية على معنى التوبيخ، وهذا الثاني قاله الأخفش في أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ [الكهف: 63] .
وقوله تعالى: مِنَ الْأَرْضِ تفسير للمبهم في ماذا خَلَقُوا قيل: والظاهر أن المراد من أجزاء الأرض وبقعها، وجوز أن يكون المراد ما على وجهها من حيوان وغيره بتقدير مضاف يؤدي ذلك، ويجوز أن يراد بالأرض السفليات مطلقا ولعله أولى أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ أي شركة مع الله سبحانه فِي السَّماواتِ أي في خلقها، ولعل الأولى فيها أيضا أن تفسر بالعلويات. وأَمْ جوز أن تكون منقطعة وأن تكون متصلة، والمراد نفي استحقاق آلهتهم للمعبودية على أتم وجه، فقد نفى أولا مدخليتها في خلق شيء من أجزاء العالم السفلي حقيقة واستقلالا، وثانيا مدخليتها على سبيل الشركة في خلق شيء من أجزاء العالم العلوي، ومن المعلوم أن نفي ذلك يستلزم نفي استحقاق المعبودية وتخصيص الشركة في النظم الجليل بقوله سبحانه: فِي السَّماواتِ مع أنه لا شركة فيها وفي الأرض أيضا لأن القصد إلزامهم بما هو مسلم لهم ظاهر لكل أحد والشركة في الحوادث السفلين ليست كذلك لتملكهم وإيجادهم لبعضها بحسب الصورة الظاهرة. وقيل: الأظهر أن تجعل الآية من حذف معادل أَمْ المتصلة لوجود دليله والتقدير ألهم شرك في الأرض أم لهم شرك في السموات وهو كما ترى، وقوله تعالى: ائْتُونِي بِكِتابٍ إلى آخره تبكيت لهم بتعجيزهم عن الإتيان بسند نقلي بعد تبكيتهم بالتعجيز عن الإتيان بسند عقلي فهو من جملة القول أي ائتوني بكتاب إلهي كائن مِنْ قَبْلِ هذا الكتاب أي القرآن الناطق بالتوحيد وإبطال الشرك دال على صحة دينكم أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ أي بقية من علم بقيت عليكم من علوم الأولين شاهدة باستحقاقهم العبادة، فالاثارة مصدر كالضلالة بمعنى البقية من قولهم: سمنت الناقة على أثارة من لحم أي بقية منه. وقال القرطبي: هي بمعنى الإسناد والرواية، ومنه قول الأعشى:
إن الذي فيه تماريتما ... بيّن للسامع والآثر
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن، وقتادة: المعنى أو خاصة من علم فاشتقاقها من الأثرة فكأنها قد آثر الله تعالى بها من هي عنده، وقيل: هي العلامة. وأخرج أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ قال: الخط، وروي ذلك أيضا موقوفا على(13/163)
ابن عباس، وفسر بعلم الرمل كما
في حديث أبي هريرة مرفوعا «كان نبي من الأنبياء يخط فمن صادف مثل خطه علم» .
وفي رواية عن الحبر أنه قال أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ خط كان يخطه العرب في الأرض، وهذا ظاهر في تقوية أمر علم الرمل وأنه شيء له وجه ويرشد إلى بعض الأمور، وفي ذلك كلام يطلب من محله. وفي البحر قيل: إن صح تفسير ابن عباس الأثارة بالخط على التراب كان ذلك من باب التهكم بهم وبأقوالهم ودلائلهم، والتنوين للتقليل ومِنْ عِلْمٍ صفة أي أو ائتوني بأثارة قليلة كائنة من علم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم فإنها لا تكاد تصح ما لم يقم عليها برهان عقلي أو دليل نقلي وحيث لم يقم عليها شيء منهما وقد قاما على خلافها تبين بطلانها، وقرىء «إثارة» بكسر الهمز وفسرت بالمناظرة فإنها تثير المعاني، قيل: وذلك من باب الاستعارة على تشبيه ما يبرز ويتحقق بالمناظرة بما يثور من الغبار الثائر من حركات الفرسان. وقرأ علي وابن عباس رضي الله تعالى عنهم بخلاف عنهما. وزيد بن علي وعكرمة وقتادة والحسن والسلمي والأعمش وعمرو بن ميمون «أثرة» بغير ألف وهي واحدة جمعها أثر كقترة وقتر، وعلي كرم الله تعالى وجهه والسلمي وقتادة أيضا بإسكان الثاء وهي الفعلة الواحدة مما يؤثر أي قد قنعت منكم بخبر واحد أو أثر واحد يشهد بصحة قولكم وعن الكسائي ضم الهمزة وإسكان الثاء فهي اسم للمقدار كالغرفة لما يغرف باليد أي ائتوني بشيء ما يؤثر من علم، وروي عنه أيضا أنه قرأ «إثرة» بكسر الهمزة وسكون الثاء وهي بمعنى الأثرة بفتحتين وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إنكار لأن يكون أضل من المشركين، وذكر بعض الفضلاء أن المراد نفي أن يكون أحد يساويهم في الضلالة وإن كان سبك التركيب لنفي الأضل، وقد مر ما يتعلق بذلك فتذكر أي هو أضل من كل ضال حيث ترك دعاء المجيب القادر المستجمع لجميع صفات الكمال كما يشعر بذلك الاسم الجليل ودعا من ليس شأنه الاستجابة له وإسعافه بمطلوبه إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي ما دامت الدنيا، وظاهره أنه بعدها تقع الاستجابة وليس بمراد لتحقق ما يدل على خلافه، فهذه الغاية على ما في الانتصاف من الغايات المشعرة بأن ما بعدها وإن وافق ما قبلها إلا أنه أزيد منه زيادة بينة تلحقه بالمباين حتى كأن الحالتين وإن كانتا نوعا واحدا لتفاوت ما بينهما كالشيء وضده، وذلك أن الحالة الأولى التي جعلت غايتها القيامة لا تزيد على عدم الاستجابة، والحالة الثانية التي في القيامة زادت على عدم الاستجابة بالعداوة وبالكفر بعبادتهم إياهم كما ينطق به ما بعد فهو من وادي قول تعالى: في سورة [الزخرف: 29] بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ الآية، ونحوه قوله سبحانه في إبليس: إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ [ص: 78] وقد يقال: المراد بهذه الغاية التأبيد كما قيل في قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ [هود: 107] وقولهم: ما دام ثبير، وقال بعضهم: لا إشكال في الآية لأن الغاية مفهوم فلا تعارض المنطوق، وفيه بحث، ففي الدرر والينبوع عن البديع أن الغاية عندنا من قبيل إشارة النص لا المفهوم.
وقال الزركشي في شرح جمع الجوامع: ذهب القاضي أبو بكر إلى أن الحكم في الغاية منطوق وادعى أن أهل اللغة صرحوا بأن تعليق الحكم بالغاية موضوع على أن ما بعدها خلاف ما قبلها لأنهم اتفقوا على أنها ليست كلاما مستقلا فإن قوله تعالى: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: 230] وقوله سبحانه: حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة: 222] لا بد فيه من إضمار لضرورة تتميم الكلام وذلك أن المضمر إما ضد ما قبله أو لا والثاني لأنه ليس في الكلام ما يدل عليه فيقدر حتى يطهرن فاقربوهن، حتى تنكح زوجا غيره فتحل، قال: والمضمر بمنزلة الملفوظ فإنه إنما يضمر لسبقه إلى ذهن العارف باللسان، وعليه جرى صاحب البديع من الحنفية فقال: هو عندنا من دلالة الإشارة لا من المفهوم، لكن الجمهور على أنه مفهوم ومنعوا وضع اللغة لذلك انتهى، ويعلم من هذا أن قوله في التلويح: إن مفهوم الغاية متفق عليه لا يخلو من الخلل وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ الضمير الأول لمفعول يَدْعُوا أعني مَنْ لا يَسْتَجِيبُ والثاني(13/164)
لفاعله، والجمع فيهما باعتبار معنى مَنْ كما أن الأفراد فيما سبق باعتبار لفظها أي والذين يدعون من لا يستجيبون لهم عن دعائهم إياهم غافِلُونَ لا يسمعون ولا يدرون، أما إن كان المدعو جمادا فظاهر، وأما إن كان من ذوي العقول فإن كان من المقبولين المقربين عند الله تعالى فلاشتغاله عن ذلك بما هو فيه من الخير أو كونه في محل ليس من شأن الذي فيه أن يسمع دعاء الداعي للبعد كعيسى عليه الصلاة والسلام اليوم أو لأن الله تعالى يصون سمعه عن سماع ذلك لأنه لكونه مما لا يرضي الله تعالى يؤلمه لو سمعه، وإن كان من أعداء الله تعالى كشياطين الجن والإنس الذين عبدوا من دون الله تعالى فإن كان ميتا فلاشتغاله بما هو فيه من الشر، وقيل: لأن الميت ليس من شأنه السماع ولا يتحقق منه سماع إلا معجزة كسماع أهل القليب، وفي هذا كلام تقدم بعضه وإن كان حيا فإن كان بعيدا مثلا فالأمر ظاهر، وإن كان قريبا سليم الحاسة فقيل: الكلام بالنسبة إليه بعد تأويل الغفلة بعدم السماع وعلى التغليب لندرة هذا الصنف.
ومن الناس من أوّل الغفلة بعدم الفائدة وتعقب بأنه حينئذ لا يكون لوصفهم بالغفلة بعد وصفهم بعدم الاستجابة كثير فائدة، واعتبر بعضهم التغليب من غير تأويل بمعنى أنه غلب من يتصور منه الغفلة حقيقة على غيره، وهذا كالتغليب في التعبير عن تلك الآلهة بما هو موضوع لأن يستعمل في العقلاء، وإن كانت الآية في عبدة الأصنام ونحوها مما لا يعقل تجوز في الغفلة وكان التعبير بما هو للعاقل لإجراء العبدة إياها مجرى العقلاء.
وقال بعضهم: على جعلها في عبدة الأصنام. إن وصفها بما ذكر من ترك الاستجابة والغفلة مع ظهور حالها للتهكم بها فتدبر ولا تغفل وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ عند قيام القيامة كانُوا أي المعبودون لَهُمْ أي العابدين أَعْداءً شديدي العداوة وَكانُوا أي المعبودون أيضا بِعِبادَتِهِمْ أي بعبادة الكفرة إياهم كافِرِينَ مكذبين، والأمر ظاهر في ذوي العقول. وأما في الأصنام فقد روي أن الله تعالى يخلق لها إدراكا وينطقها فتتبرأ عن عبادتهم وكذا تكون أعداء لهم، وجوز كون تكذيب الأصنام بلسان الحال لظهور أنهم لا يصلحون للعبادة وأنهم لا نفع لهم كما توهموه أولا حيث قالوا: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ [الزمر: 3] ورجوا الشفاعة منهم. وفسرت العداوة بالضر على أنها مجاز مرسل عنه فمعنى كانُوا لَهُمْ أَعْداءً كانوا لهم ضارين، وما ذكرناه في بيان الضمائر هو الظاهر، وقيل: ضمير (هم) المرفوع البارز والمستتر في قوله تعالى: وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ للكفرة الداعين وضمير دُعائِهِمْ لهم أو للمعبودين، والمعنى أن الكفار عن ضلالهم بأنهم يدعون من لا يستجيب لهم غافلون لا يتأملون ما عليهم في ذلك، وفيه من ارتكاب خلاف الظاهر ما فيه، وفي الضمائر بعد نحو ذلك، والمعنى إذا حشر الناس كان الكفار أعداء لآلهتهم الباطلة لما يرون من ترتب العذاب على عبادتهم إياها وكانوا لذلك منكرين أنهم عبدوا غير الله تعالى كما حكى الله تعالى عنهم أنهم يقولون: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] وتعقب بأن السياق لبيان حال الآلهة معهم لا عكسه، ولأن كفرهم حينئذ إنكار لعبادتهم وتسميته كفرا خلاف الظاهر وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ أي واضحات أو مبينات ما يلزم بيانه قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ أي الآيات المتلوة، ووضع موضع ضميرها تنصيصا على حقيتها ووجوب الإيمان بها كما وضع الموصوف موضع ضمير المتلو عليهم تسجيلا عليهم بكمال الكفر والضلالة.
وجوز كون المراد- بالحق- النبوة أو الإسلام فليس فيه موضوعا موضع الضمير، والأول أظهر، واللام متعلقة.
بقال على أنها لام العلة أي قالوا لأجل الحق وفي شأنه وما يقال في شأن شيء مسوق لأجله، وجوز تعلقه- بكفروا- على أنه بمعنى الباء أو حمل الكفر على نقيضه وهو الإيمان فإنه يتعدى باللام نحو أَنُؤْمِنُ لَكَ [الشعراء: 111] وهو(13/165)
خلاف الظاهر كما لا يخفى لَمَّا جاءَهُمْ أي في وقت مجيئه إياهم، ويفهم منه في العرف المبادرة وتستلزم عدم التأمل والتدبر فكأنه قيل: بادروا أول سماع الحق من غير تأمل إلى أن قالوا: هذا سِحْرٌ مُبِينٌ أي ظاهر كونه سحرا، وحكمهم بذلك على الآيات لعجزهم عن الإتيان بمثلها، وعلى النبوة لما معها من الخارق للعادة، وعلى الإسلام لتفريقه بين المرء وزوجه وولده أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ إضراب وانتقال من حكاية شناعتهم السابقة إلى حكاية ما هو أشنع منها وهو الكذب عمدا على الله تعالى فإن الكذب خصوصا عليه عز وجل متفق على قبحه حتى ترى كل أحد يشمئز من نسبته إليه بخلاف السحر فإنه وإن قبح فليس بهذه المرتبة حتى تكاد تعد معرفته من الأمور المرغوبة، وما في أَمْ المنقطعة من الهمزة معنى للإنكار التوبيخي المتضمن للتعجب من نسبته إلى الافتراء مع قولهم: هو سحر لعجزهم عنه، والضمير المنصوب في افْتَراهُ كما قال أبو حيان لِلْحَقِّ الذي هو الآيات المتلوة، وقال بعضهم:
للقرآن الدال عليه ما تقدم أي بل أيقولون افتراه.
قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ على الفرض فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي عاجلني الله تعالى بعقوبة الافتراء عليه سبحانه فلا تقدرون على كفه عز وجلّ من معالجتي ولا تطيقون دفع شيء من عقابه سبحانه عني فكيف أفتريه وأتعرض لعقابه، فجواب إِنِ في الحقيقة محذوف وهو عاجلني وما ذكر مسبب عنه أقيم مقامه أو تجوز به عنه هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ بالذي تأخذون فيه من القدح في وحي الله تعالى والطعن في آياته وتسميته سحرا تارة وافتراء أخرى، واستعمال الإفاضة في الأخذ في الشيء والشروع فيه قولا كان أو فعلا مجاز مشهور، وأصلها إسالة الماء يقال: أفاض الماء إذا أساله، وما أشرنا إليه من كون (ما) موصولة وضمير فيه عائد عليه هو الظاهر وجوز كون (ما) مصدرية وضمير فِيهِ للحق أو للقرآن كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ حيث يشهد لي سبحانه بالصدق والبلاغ وعليكم بالكذب والجحود، وهو وعيد بجزاء إفاضتهم في الطعن في الآيات، واستؤنف لأنه في جواب سؤال مقدر، وبِهِ في موضع الفاعل- بكفى- على أصح الأقوال، وشَهِيداً حال وبَيْنِي وَبَيْنَكُمْ متعلق به أو بكفى وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وعد بالغفران والرحمة لمن تاب وآمن وإشعار بحلم الله تعالى عليهم إذ لم يعاجلهم سبحانه بالعقوبة وأمهلهم جل شأنه ليتداركوا أمورهم قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ أي بديعا منهم يعني لست مبتدعا لأمر يخالف أمورهم بل جئت بما جاؤوا به من الدعوة إلى التوحيد أو فعلت نحو ما فعلوا من إظهار ما آتاني الله تعالى من المعجزات دون الإتيان بالمقترحات كلها، فقد قيل: إنهم كانوا يقترحون عليه عليه الصلاة والسلام آيات عجيبة ويسألونه عن المغيبات عنادا ومكابرة فأمر صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لهم ذلك، ونظير بدع الخف بمعنى الخفيف والخل بمعنى الخليل فهو صفة مشبهة أو مصدر مؤول بها، وجوز إبقاؤه على أصله. وقرأ عكرمة وأبو حيوة وابن أبي عبلة «بدعا» بفتح الدال، وخرج علي أنه جمع بدعة كسدرة وسدر، والكلام بتقدير مضاف أي ذا بدع أو مصدر والإخبار به مبالغة أو بتقدير المضاف أيضا.
وقال الزمخشري: يجوز أن يكون صفة على فعل كقولهم: دين قيم ولحم زيم أي متفرق. قال في البحر: ولم يثبت سيبويه صفة على هذا الوزن إلا عدي حيث قال: ولا نعلمه جاء صفة إلا في حرف معتل يوصف به الجمع وهو قوم عدي، واستدرك عليه زيم وهو استدراك صحيح، وأما قيم فمقصور من قيام ولولا ذلك لصحت عينه كما صحت في حول وعوض، وأما قول العرب: مكان سوي وماء روي ورجل رضا وماء صرى فمتأولة عند التصريفيين إما بالمصدر أو بالقصر، وعن مجاهد وأبي حيوة «بدعا» بفتح الباء وكسر الدال وهو صفة كحذر.
وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ أي في الدارين على التفصيل كما قيل.(13/166)
وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه قال في الآية: أما في الآخرة فمعاذ الله تعالى قد علم صلّى الله عليه وسلّم أنه في الجنة حين أخذ ميثاقه في الرسل ولكن ما أدري ما يفعل بي في الدنيا أأخرج كما أخرجت الأنبياء عليهم السلام من قبلي أم أقتل كما قتلت الأنبياء عليهم السلام من قبلي ولا بكم أأمتي المكذبة أم أمتي المصدقة أم أمتي المرمية بالحجارة من اسماء قذفا أم المخسوف بها خسفا ثم أوحى إليه وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ [الإسراء: 60] يقول سبحانه:
أحطت لك بالعرب أن لا يقتلوك فعرف عليه الصلاة والسلام أنه لا يقتل ثم أنزل الله تعالى هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً [الفتح: 28] يقول: أشهد لك على نفسه أنه سيظهر دينك على الأديان ثم قال سبحانه له عليه الصلاة والسلام في أمته: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال: 33] فأخبره الله تعالى بما صنع به وما يصنع بأمته،
وعن الكلبي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال له أصحابه وقد ضجروا من أذى المشركين: حتى متى نكون على هذا؟ فقال: وما أدري ما يفعل بي. ولا بكم أأترك بمكة أم أؤمر بالخروج إلى أرض قد رفعت لي ورأيتها
يعني في منامه ذات نخل وشجر. وحكى في البحر عن مالك بن أنس وقتادة وعكرمة والحسن أيضا. وابن عباس أن المعنى ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة،
وأخرج أبو داود في ناسخه من طريق عكرمة عن ابن عباس أنه قال في الآية: نسختها الآية التي في [الفتح: 2] لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ فخرج صلّى الله عليه وسلّم إلى الناس فبشرهم بأنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فقال رجل من المؤمنين: هنيئا لك يا نبي الله قد علمنا الآن ما يفعل بك فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله تعالى في سورة [الأحزاب: 47] وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً وقال سبحانه: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ
[الفتح: 5] فبين الله تعالى ما يفعل به وبهم. واستشكل على تقدير صحته بأن النسخ لا يجري في الخبر فلعل المنسوخ الأمر بقوله تعالى: قُلْ إن قلنا: إنه هنا للتكرار أو المراد بالنسخ مطلق التغيير.
وقال أبو حيان: هذا القول ليس بظاهر بل قد أعلم الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام من أول الرسالة بحاله وحال المؤمن وحال الكافر في الآخرة، وقال الإمام: أكثر المحققين استبعدوا هذا القول واحتجوا بأن النبي لا بد أن يعلم من نفسه كونه نبيا ومتى علم ذلك علم أنه لا يصدر عنه الكبائر وأنه مغفور وإذا كان كذلك امتنع كونه شاكا في أنه هل هو مغفور له أم لا، وبأنه لا شك أن الأنبياء أرفع حالا من الأولياء، وقد قال الله تعالى فيهم: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس: 62] فكيف يعتقد بقاء الرسول وهو رئيس الأنبياء وقدوة الأولياء شاكا في أنه هل هو من المغفورين أم لا، وقد يقال: المراد أيضا أنه عليه الصلاة والسلام ما يدري ذلك على التفصيل، وما ذكر لا يتعين فيه حصول العلم التفصيلي لجواز أن يكون عليه الصلاة والسلام قد أعلم بذلك في مبدأ الأمر إجمالا بل في إعلامه صلّى الله عليه وسلّم بعد بحال كل شخص شخص على سبيل التفصيل بأن يكون قد أعلم عليه الصلاة والسلام بأحوال زيد مثلا في الآخرة على التفصيل وبأحوال عمرو كذلك وهكذا توقف.
وفي صحيح البخاري وأخرجه الإمام أحمد والنسائي وابن مردويه عن أم العلاء، وكانت بايعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنها قالت لما مات عثمان بن مظعون: رحمة الله تعالى عليك يا أبا السائب شهادتي عليك لقد أكرمك الله تعالى فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «وما يدريك أن الله تعالى أكرمه؟ أما هو فقد جاءه اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم، قالت أم العلاء: فو الله ما أزكي بعده أحدا
،
وفي رواية ابن حبان والطبراني عن زيد بن ثابت أنها قالت لما قبض: طب أبا السائب نفسا إنك في الجنة فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: وما يدريك؟
قالت: يا رسول الله عثمان بن مظعون قال: أجل وما رأينا إلا خيرا والله ما أدري ما يصنع بي
،
وفي رواية الطبراني. وابن(13/167)
مردويه عن ابن عباس أنه لما مات قالت امرأته أو امرأة: هنيئا لك ابن مظعون الجنة فنظر إليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نظر مغضب وقال: وما يدريك؟ والله إني لرسول الله وما أدري ما يفعل الله بي فقالت: يا رسول الله صاحبك وفارسك وأنت أعلم فقال: أرجو له رحمة ربه تعالى وأخاف عليه ذنبه
، لكن في هذه الرواية أن ابن عباس قال: وذلك قبل أن ينزل لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 2] وعن الضحاك المراد لا أدري ما أومر به ولا ما تؤمرون به في باب التكاليف والشرائع والجهاد ولا في الابتلاء والامتحان، والذي أختاره أن المعنى على نفي الدراية من غير جهة الوحي سواء كان الدراية تفصيلية أو إجمالية وسواء كان ذلك في الأمور الدنيوية أو الأخروية وأعتقد أنه صلّى الله عليه وسلّم لم ينتقل من الدنيا حتى أوتي من العلم بالله تعالى وصفاته وشؤونه والعلم بأشياء يعد العلم بها كمالا ما لم يؤته أحد غيره من العالمين، ولا أعتقد فوات كمال بعدم العلم بحوادث دنيوية جزئية كعدم العلم بما يصنع زيد مثلا في بيته وما يجري عليه في يومه أو غده، ولا أرى حسنا قول القائل: إنه عليه الصلاة والسلام يعلم الغيب وأستحسن أن يقال بدله: إنه صلّى الله عليه وسلّم أطلعه الله تعالى على الغيب أو علمه سبحانه إياه أو نحو ذلك، وفي الآية رد على من ينسب لبعض الأولياء علم كل شيء من الكليات والجزئيات، وقد سمعت خطيبا على منبر المسجد الجامع المنسوب للشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره يوم الجمعة قال بأعلى صوت: يا باز أنت أعلم بي من نفسي، وقال لي بعض: إني لأعتقد أن الشيخ قدس سره يعلم كل شيء مني حتى منابت شعري، ومثل ذلك مما لا ينبغي أن ينسب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكيف ينسب إلى من سواه؟ فليتق العبد مولاه، وفيما تقدم من الأخبار في شأن عثمان بن مظعون رد أيضا على من يقول فيمن دونه في الفضل أو من لم يبشره الصادق بالجنة والكرامة نحو ما قيل فيه. نعم ينبغي الظن الحسن في المؤمنين أحياء وأمواتا ورجاء الخير لكل منهم فالله تعالى أرحم الراحمين، هذا والظاهر أن ما استفهامية مرفوعة المحل بالابتداء والجملة بعدها خبر وجملة المبتدأ والخبر معلق عنها الفعل القلبي وهو إما متعد لواحد أو اثنين، وجوز أن تكون ما موصولة في محل نصب على المفعولية لفعل الدراية وهو حينئذ متعد لواحد والجملة بعدها صلة، وأن تكون حرفا مصدريا فالمصدر مفعول أَدْرِي والاستفهامية أقضى لحق مقام التبري عن الدراية، ولا لتذكير النفي المنسحب على ما يُفْعَلُ إلخ وتأكيده، ولولا اعتبار الانسحاب لكان التركيب ما يفعل بي وبكم دون لا لأنه ليس محلا للنفي ولا لزيادة لا ونظير ذلك زيادة مِنَ في قوله تعالى: ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ [البقرة: 105] لانسحاب النفس فإنه إذا انتفت ودادة التنزيل انتفى التنزيل، وزيادة الباء في قوله سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ [الأحقاف: 33] لانسحاب النفي، على أن مع ما في حيزها ولولاه ما زيدت الباء في الخبر، وقيل: الأصل ولا ما يفعل بكم فاختصر، وقيل: ولا بكم، وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة «يفعل» بالبناء للفاعل وهو ضمير الله عز وجل إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ أي ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إلي على معنى قصر أفعاله صلّى الله عليه وسلّم على اتباع الوحي، والمراد بالفعل ما يشمل القول وغيره، وهذا جواب عن اقتراحهم الإخبار عما لم يوح إليه عليه الصلاة والسلام من الغيوب، والخطاب السابق للمشركين.
وقيل: عن استعجال المسلمين أن يتخلصوا عن أذية المشركين والخطاب السابق لهم، والأول أوفق لقوله تعالى: وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ أنذركم عقاب الله تعالى حسبما يوحى إليّ مُبِينٌ بين الإنذار بالمعجزات الباهرة، والحصر إضافي. وقرأ ابن عمير «يوحي» على البناء للفاعل قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ أي ما يوحى إلي من القرآن، وقيل:
الضمير للرسول، وفيه أن الظاهر لو كان المعنى عليه كنت مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لا سحرا ولا مفترى كما تزعمون وَكَفَرْتُمْ(13/168)
بِهِ
الواو للحال والجملة حال بتقدير قد على المشهور من الضمير في الخبر وسطت بين أجزاء الشرق اهتماما بالتسجيل عليهم بالكفر أو للعطف على كانَ كما في قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ [فصلت: 52] وكذا الواو في قوله تعالى: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ إلا أنها تعطفه بما عطف عليه على جملة ما قبله، فالجمل المذكورات بعد الواوات ليست متعاطفة على نسق واحد بل مجموع شَهِدَ فَآمَنَ واسْتَكْبَرْتُمْ معطوف على مجموع كانَ وما معه، مثله في المفردات هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ [الحديد: 3] والمعنى إن اجتمع كونه من عند الله تعالى مع كفركم واجتمع شهادة الشاهد فإيمانه مع استكباركم عن الإيمان، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في جواب الشرط وفي مفعولي أَرَأَيْتُمْ وضمير «به» عائد على ما عاد عليه اسم كان وهو ما يوحى من القرآن أو الرسول، وعن الشعبي أنه للرسول، ولعله يقول في ضمير كانَ أيضا كذلك وكنا في ضمير عَلى مِثْلِهِ لئلا يلزم التفكيك. وأنت تعلم أن الظاهر رجوع الضمائر كلها للقرآن، وتنوين شاهِدٌ للتفخيم، وكذا وصفه بالجار والمجرور أي وشهد شاهد عظيم الشأن من بني إسرائيل الواقفين على شؤون الله تعالى وأسرار الوحي بما أوتوا من التوراة على مثل القرآن من المعاني المنطوية في التوراة من التوحيد والوعد والوعيد وغير ذلك فإنها في الحقيقة عين ما فيه كما يعرب عنه قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشعراء: 196] على وجه، وكذا قوله سبحانه: إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى [الأعلى: 18] والمثلية باعتبار تأديتها بعبارات أخرى أو على مثل ما ذكر من كونه من عند الله تعالى والمثلية لما ذكر، وقيل: على مثل شهادته أي لنفسه بأنه من عند الله تعالى كأنه لإعجازه يشهد لنفسه بذلك، وقيل مثل كناية عن القرآن نفسه للمبالغة، وعلى تقدير كون الضمير للرسول صلّى الله عليه وسلّم فسر المثل بموسى عليه السلام.
والفاء في قوله تعالى: فَآمَنَ أي بالقرآن للسببية فيكون إيمانه مترتبا على شهادة له بمطابقته للوحي، ويجوز أن تكون تفصيلية فيكون إيمانه به هو الشهادة له، والمعنى على تقدير أن يراد فآمن بالرسول صلّى الله عليه وسلّم ظاهر بأدنى التفات، وقوله تعالى: وَاسْتَكْبَرْتُمْ أي عن الإيمان معطوف على ما أشرنا إليه على شَهِدَ شاهِدٌ وجوز كونه معطوفا على «آمن» لأنه قسيمه ويجعل الكل معطوفا على الشرط، ولا تكرار في اسْتَكْبَرْتُمْ لأن الاستكبار بعد الشهادة والكفر قبلها، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي الموسومين بهذا الوصف، استئناف بياني في مقام التعليل للاستكبار عن الإيمان، ووصفهم بالظلم للإشعار بعلة الحكم فتشعر هذه الجملة بأن كفرهم به لضلالهم المسبب عن ظلمهم وهو دليل جواب الشرط ولذا حذف ومفعولا أَرَأَيْتُمْ محذوفان أيضا لدلالة المعنى عليهما، والتقدير أرأيتم حالكم إن كان كذا فقد ظلمتم ألستم ظالمين، فالمفعول الأول حالكم والثاني ألستم ظالمين، والجواب فقد ظلمتم، وقال ابن عطية: في أَرَأَيْتُمْ يحتمل أن تكون منبهة فهي لفظ موضوع للسؤال لا تقتضي مفعولا، ويحتمل أن تكون جملة إِنْ كانَ إلخ سادة مسد مفعوليها، وهو خلاف ما قرره محققو النحاة في ذلك. وقدر الزمخشري الجواب ألستم ظالمين بغير فاء. ورده أبو حيان بأن الجملة الاستفهامية إذا وقعت جوابا للشرط لزمها الفاء فإن كانت الأداة الهمزة تقدم على الفاء وإلا تأخرت، ولعله تقدير معنى لا تقدير إعراب، وقدره بعضهم أفتؤمنون لدلالة فَآمَنَ وقدره الحسن فمن أضل منكم لقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ [فصلت: 52] وقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأنعام: 144، القصص: 50، الأحقاف: 10] وقيل: التقدير فمن المحقق منا ومنكم ومن المبطل؟ وقيل: تهلكون، وقيل: هو فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ أي فقد آمن محمد صلّى الله عليه وسلّم به أو الشاهد واستكبرتم أنتم عن الإيمان، وأكثرها كما ترى.(13/169)
والشاهد عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه عند الجمهور وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وابن سيرين والضحاك وعكرمة في رواية ابن سعد. وابن عساكر عنه. وفي الكشف في جعله شاهدا والسورة مكية بحث ولهذا استثنيت هذه الآية، وتحقيقه أنه نزل ما سيكون منزلة الواقع ولهذا عطف شَهِدَ وما بعده على قوله تعالى: كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ ليعلم أنه مثله في التحقيق فيكون على أسلوب قوله سبحانه: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ [الحجر: 90] أي أنذر قريشا مثل ما أنزلناه على يهود بني قريظة وقد أنزل عليهم بعد سبع سنين من نزول الآية، ومصب الإلزام في قوله تعالى: فَآمَنَ كأنه قيل: أخبروني إن يؤمن به عالم من بني إسرائيل أي عالم لما تحقق عنده أنه مثل التوراة ألستم تكونون أضل الناس، ففيه الدلالة على أنه مثل التوراة يجب الإيمان به شهد ذلك الشاهد أو لم يشهد لأن تلك الشهادة يعقبها الإيمان من غير مهلة فلو لم يؤمن لم يكن عالما بما في التوراة وهذا يصلح جوابا مستقلا من غير نظر إلى الأول فافهم، وقول من قال: الشاهد عبد الله على هذا بيان للواقع وأنه كان ممن شهد وآمن لا أن المراد بلفظ الآية عبد الله خصوصا، وعلى الوجهين لا بد من تأويل قول سعد، وقد تقدم في حديث الشيخين وغيرهما وفيه نزل وَشَهِدَ شاهِدٌ بأن المراد في شأنه الذي سيحدث على الأول أو فيه وفيمن هو على حاله كأنه قيل: هو من النازلين فيه لأنه كان من الشاهدين انتهى.
وتعقب قوله: إنه نزل ما سيكون منزلة الواقع بأنه لا حاجة إلى ذلك التنزيل على تقدير مكيتها، وكون الشاهد ابن سلام لمكان العطف على الشرط الذي يصير به الماضي مستقبلا وحينئذ لا ضير في شهادة الشاهد بعد نزولها، ومع هذا فالظاهر من الأخبار أن النزول كان في المدينة وأنه بعد شهادة ابن سلام.
أخرج أبو يعلى والطبراني والحاكم بسند صحيح عن عوف بن مالك الأشجعي قال: انطلق النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم فكرهوا دخولنا عليهم فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أروني اثني عشر رجلا منكم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله يحبط الله تعالى عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه فسكتوا فما أجابه منهم أحد ثم رد عليهم عليه الصلاة والسلام فلم يجبه أحد فثلث فلم يجبه أحد فقال: أبيتم فو الله لأنا الحاشر وأنا العاقب وأنا المقفى آمنتم أو كذبتم ثم انصرف صلّى الله عليه وسلّم وأنا معه حتى كدنا أن نخرج فإذا رجل من خلفه فقال: كما أنت يا محمد فأقبل فقال ذلك الرجل: أي رجل تعلموني فيكم يا معشر اليهود؟ قالوا: والله ما نعلم فينا رجلا أعلم بكتاب الله تعالى ولا أفقه منك ولا من أبيك ولا من جدك قال: فإني أشهد بالله أنه النبي الذي تجدونه في التوراة والإنجيل فقالوا: كذبت ثم ردوا عليه وقالوا شرا فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا وابن سلام فأنزل الله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ الآية
، وروي حديث شهادته وإيمانه على وجه آخر، ولا يظهر لي الجمع بينه وبين ما ذكر، وهو أيضا ظاهر في كون النزول بعد الشهادة.
وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير قال: جاء ميمون بن يامين إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وكان رأس اليهود بالمدينة فأسلم وقال: يا رسول الله ابعث إليهم- يعني اليهود- فاجعل بينك وبينهم حكما من أنفسهم فإنهم سيرضوني فبعث عليه الصلاة والسلام إليهم وأدخله الداخل فأتوه فخاطبوه مليا فقال لهم:
اختاروا رجلا من أنفسكم يكون حكما بيني وبينكم قالوا: فإنا قد رضينا بميمون بن يامين فأخرجه إليهم فقال لهم ميمون: لنشهد أنه رسول الله وأنه على الحق فأبوا أن يصدقوه فأنزل الله تعالى فيه قُلْ أَرَأَيْتُمْ الآية
، وهو ظاهر في مدنية الآية وأن نزولها قبل شهادة الشاهد لكنه ظاهر في أن الشاهد غير عبد الله بن سلام، وكونه كان يسمى بذلك قبل لم أره، ولا يظهر لي وجه التعبير به دون المشهود إن كان، والذي رأيته في الاستيعاب في ترجمة عبد الله أنه ابن سلام بن الحرث الإسرائيلي الأنصاري يكنى أبا يوسف وكان اسمه في الجاهلية الحصين فلما أسلم سماه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله والله تعالى أعلم.(13/170)
ومن كذب اليهود وجهلهم بالتاريخ ما يعتقدونه في عبد الله بن سلام أنه صلّى الله عليه وسلّم حين سافر إلى الشام في تجارة لخديجة رضي الله تعالى عنها اجتمع بأحبار اليهود وقص عليهم أحلامه فعلموا أنه صاحب دولة فأصحبوه عبد الله بن سلام وبقي معه مدة فتعلم منه علم الشرائع والأمم السالفة وأفرطوا في الكذب إلى أن نسبوا القرآن المعجز إلى تأليف عبد الله بن سلام وعبد الله هذا مما ليس له إقامة بمكة ولا تردد إليها، ولم ير النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا في المدينة وأسلم إذ قدمها عليه الصلاة والسلام أو قبل وفاته صلّى الله عليه وسلّم بعامين على ما حكاه في البحر عن الشعبي، فما أكذب اليهود وأبهتهم لعنهم الله تعالى، وناهيك من طائفة ما ذم في القرآن طائفة مثلها.
وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر عن مسروق أن الشاهد هو موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، وقد تقدم أنه كان يدّعي مكية الآية وينكر نزولها في ابن سلام ويقول: إنما كانت خصومة خاصم بها محمد صلّى الله عليه وسلّم، وكأنه على هذا لا يحتاج إلى القول بأنها نزلت بخصوص شاهد، وأيد عدم إرادة الخصوص بأن شاهِدٌ في الآية نكرة والنكرة في سياق الشرط تعم، وأنا أقول: بكون التنوين في شاهِدٌ للتعظيم وبمدنية الآية ونزولها في ابن سلام، والخطابات فيها مطلقا لكفار مكة، وربما يظن على بعض الروايات أنها لليهود وليس كذلك، وهم المعنيون أيضا بالذين كفروا في قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى آخره، وهو حكاية لبعض آخر من أقاويلهم الباطلة في حق القرآن العظيم والمؤمنين به. وفيه تحقيق لاستكبارهم أي وقال كفار مكة: لِلَّذِينَ آمَنُوا أي لأجلهم وفي شأنهم فاللام للتعليل كما سمعت في قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ [سبأ: 43] .
وقيل: هي لام المشافهة والتبليغ والتفتوا في قولهم: لَوْ كانَ أي ما جاء به صلّى الله عليه وسلّم من القرآن، وقيل: الإيمان خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ ولولاه لقالوا: سبقتمونا بالخطاب أو لما سمعوا أن جماعة آمنوا خاطبوا جماعة أخرى من المؤمنين أي قالوا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقنا إليه أولئك الذين بلغنا إيمانهم.
وتعقب بأن هذا ليس من مواطن الالتفات، وكونهم قصدوا تحقير المؤمنين بالغيبة لا وجه له، وكون المشافهين طائفة من المؤمنين والمخبر عنهم طائفة أخرى خلاف الظاهر، فالأولى كونها للتعليل وقالوا ذلك لما رأوا أن أكثر المؤمنين كانوا فقراء ضعفاء كعمار وصهيب وبلال وكانوا يزعمون أن الخير الديني يتبع الخير الدنيوي وأنه لا يتأهل للأول إلا من كان له القدح المعلى من الثاني، ولذا قالوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] وخطؤهم في ذلك مما لا يخفى.
وأخرج ابن المنذر عن عون بن أبي شداد قال: كانت لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أمة أسلمت قبله يقال لها زنيرة (1) فكان رضي الله تعالى عنه يضربها على إسلامها وكان كفار قريش يقولون: لو كان خيرا ما سبقتنا إليه زنيرة فأنزل الله تعالى في شأنها وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية، ولعلهم لم يريدوا زنيرة بخصوصها بل من شابهها أيضا.
وفي الآية تغليب المذكر على المؤنث، وقال أبو المتوكل: أسلم أبو ذر ثم أسلمت غفار فقالت قريش ذلك، وقال الكلبي والزجاج. قال ذلك بنو عامر بن صعصعة وغطفان وأسد وأشجع لما أسلم أسلم وجهينة ومزينة وغفار وقال الثعلبي: هي مقالة اليهود حين أسلم ابن سلام، وأصحابه منهم، ويلزم عليه القول بأن الآية مدنية وعدها في المستثنيات أو كون قالَ فيها كنادى في قوله تعالى: وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ [الأعراف: 48] وهذا كما ترى والمعول عليه ما تقدم وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ أي بالقرآن، وقيل: بالرسول صلّى الله عليه وسلّم، و «إذ» على ما اختاره جار الله ظرف لمقدر دل
__________
(1) بالنون ووقع في أصل المؤلف «زبيرة» بالباء الموحدة وهو غلط صححناه من الإصابة.(13/171)
عليه السابق واللاحق أي وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم واستكبارهم، وقوله تعالى: فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ أي يتحقق منهم هذا القول والطعن حينا فحينا كما يؤذن بذلك صيغة المضارع مسبب عن العناد والاستكبار، وإذا جاز مثل حينئذ الآن أي كان ذلك حينئذ واسمع الآن بدليل قرينة الحال فهذا أجوز، والإشارة إلى القرآن العظيم، وقولهم: ذلك فيه كقولهم: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الأنعام: 25 وغيرها] ولم يجوز أن يكون فَسَيَقُولُونَ عاملا في الظرف لتدافع دلالتي المضي والاستقبال، وإنما لم يجعله من قبيل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ [غافر: 70- 71] نظما للمستقبل في سلك المقطوع كما اختاره ابن الحاجب في الأمالي لأن المعنى هاهنا- كما في الكشف- على أن عدم الهداية محقق واقع لا أنه سيقع البتة، ألا ترى إلى قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا بعد ما بين استكبارهم وعنادهم كيف ينص على أنهم مجادلون معرضون عن القرآن وتدبره غير مهتدين ببشائره ونذره.
وقال بعضهم: الظرف معمول- لسيقولون- والفاء لا تمنع عن عمل ما بعدها فيما قبلها كما ذكره الرضي، والتسبب المشعرة به عن كفرهم، و (سيقولون) بمعنى قالوا، والعدول إليه للإشعار بالاستمرار وتعقب بأن ذلك مع السين بعيد، وقيل: إذ تعليلية للقول. وتعقب بأنه معلل بكفرهم كما آذنت به الفاء، وقدر بعضهم العامل المحذوف قالوا ما قالوا، ورجحه على التقدير السابق وليس براجح عليه كما لا يخفى على راجح وَمِنْ قَبْلِهِ أي من قبل القرآن وهو خبر مقدم لقوله تعالى: كِتابُ مُوسى قدم للاهتمام، وجوز الطبرسي كون كِتابُ معطوفا على شاهِدٌ والظرف فاصل بين العاطف والمعطوف، والمعنى وشهد كتاب موسى من قبله، وجعل ضمير قَبْلِهِ للقرآن أيضا وليس بشيء أصلا، وقوله سبحانه: إِماماً وَرَحْمَةً حال من الضمير في الخبر أو من كِتابُ عند من جوز الحال من المبتدأ، وقيل: حال من محذوف والعامل كذلك أي أنزلناه إماما وهو كما ترى.
والمعنى وكائن من قبله كتاب موسى يقتدى به في دين الله تعالى وشرائعه كما يقتدى بالإمام ورحمة من الله سبحانه لمن آمن به وعمل بموجبه، وقوله تعالى: وَهذا أي القرآن الذي يقولون في شأنه ما يقولون كِتابُ مبتدأ خبر، وقوله عز وجل: مُصَدِّقٌ نعت كِتابُ وهو مصب الفائدة أي مصدق لكتاب موسى الذي هو إمام ورحمة أو لما بين يديه من جميع الكتب الإلهية، وقد قرىء «مصدق لما بين يديه» والجملة عطف على الجملة قبلها وهي حالية أو مستأنفة، وأيا ما كان فالكلام رد لقولهم: هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ وإبطال له، والمعنى كيف يصح كونه إفكا قديما وقد سلموا كتاب موسى والقرآن مصدق له متحد معه في المعنى أو لجميع الكتب الإلهية، وقوله تعالى: لِساناً عَرَبِيًّا حال من ضمير كِتابُ المستتر في مُصَدِّقٌ أو منه نفسه لتخصيصه بالصفة، وعامله على الأول مُصَدِّقٌ وعلى الثاني ما في هذا من معنى الفعل، وفائدة هذه الحال مع أن عربيته أمر معلوم لكل أحد الاشعار بالدلالة على أن كونه مصدقا كما دل على أنه حق دل على أنه وحي وتوقيف من الله تعالى.
هذا على القول بأن الكلام مع اليهود ظاهر، وأما على القول بأنه مع كفار مكة فلأنهم قد يسلمون التوراة ونحوها من الكتب الإلهية السابقة وإن كانوا أحيانا ينكرون إنزال الكتب وإرسال الرسل عليهم السلام مطلقا. وفي الكشف وجه تقديم الخبر في قوله تعالى: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى أن إرسال الرسل وإنزال الكتب أمر مستمر كائن من عند الله تعالى فمن قبل إنزال القرآن إماما ورحمة كان إنزال التوراة كذلك، وليس من تقديم الاختصاص بل لأن العناية والاهتمام بذكره، ولما ألزم الكفار بنزول مثله وشهادة أعلم بني إسرائيل ذكر على سبيل الاعتراض من حال كتاب موسى عليه السلام ما يؤكد كونه من عند الله تعالى وأن ما يطابقه يكون من عنده سبحانه لا محالة وتوصل منه إلى أن القرآن لما كان مصدقه بل مصدق سائر الكتب السماوية وجب أن يؤمن به ويتلقى بالقبول وهو بالحقيقة إعادة(13/172)
للدعوى الأولى على وجه أخصر وأشمل إذ دلّ فيه على أن كونه مصدقا كاف شهد شاهد بني إسرائيل أو لا، وإن قيل: نزلوا لعنادهم منزلة من لا يعرف أن كتاب موسى قبله إذ لو عرفوا وقد تبين أنه مثله لأذعنوا فقيل: وَمِنْ قَبْلِهِ لا من بعده لكان وجها موفى فيه حق الاختصاص كما آثره السكاكي من أنه لازم التقديم انتهى. وهو ظاهر في أن الجملة ليست حالية.
وجوز كون لِساناً مفعولا لمصدق. والكلام بتقدير مضاف أي ذا لسان عربي وهو النبي عليه الصلاة والسلام وتصديقه إياه بموافقته كتاب موسى أو الكتب السماوية مطلقا وإعجازه، وجوز على المفعولية كون «هذا» إشارة إلى كتاب موسى فلا يحتاج إلى تقدير مضاف، ويراد بلسانا عربيا: القرآن، ووضعت الإشارة موضع الضمير للتعظيم، والأصل وهو مصدق لسانا عربيا، وقيل: هو منصوب بنزع الخافض أي مصدق بلسان عربي والكل كما ترى. وقرأ الكلبي «ومن قبله» بفتح الميم «كتاب موسى» بالنصب، وخرجت على أن من موصولة معمولة لفعل مقدر وكذا كِتابُ أي وآتينا الذين كانوا قبل نزول القرآن من بني إسرائيل كتاب موسى.
لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا متعلق بمصدق. وفيه ضمير للكتاب أو لله تعالى أو للرسول عليه الصلاة والسلام، ويؤيد الأخير قراءة أبي رجاء وشيبة والأعرج وأبي جعفر وابن عامر ونافع وابن كثير في رواية «لتنذر» بتاء الخطاب فإنه لا يصلح بدون تكلف لغير الرسول، والتعليل صحيح على الكل، ولا يتوهم لزوم حذف اللام على أن الضمير للكتاب لوجود شرط النصب لأنه شرط الجواز وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ عطف على المصدر الحاصل من أن والفعل، وقال الزمخشري: وتبعه أبو البقاء هو في محل النصب معطوف على محل لِيُنْذِرَ لأنه مفعول له، وزعم أبو حيان أن ذلك لا يجوز على الصحيح من مذهب النحويين لأن المحل ليس بحق الأصالة وهم يشترطون في الحمل عليه ذلك إذ الأصل في المفعول له الجر، والنصب ناشىء من نزع الخافض لكنه كثر بشرطه، وحكى في إعرابه أوجها فقال: قيل معطوف على مُصَدِّقٌ وقيل: خبر مبتدأ محذوف أي هو بشرى، وقيل: منصوب بفعل محذوف معطوف على (ينذر) أي ويبشر بشرى، وقيل: منصوب بنزع الخافض أي ولبشرى، والظاهر أن (المحسنين) في مقابلة الَّذِينَ ظَلَمُوا والمراد بالأول الكفرة وبالثاني المؤمنون. وفي شرح الطيبي إنما عدل عن العادلين إلى (المحسنين) ليكون ذريعة إلى البشارة بنفي الخوف والحزن لمن قالوا: ربنا الله ثم استقاموا، وقيل: (المحسنين) دون الذين أحسنوا بعد قوله تعالى: الَّذِينَ ظَلَمُوا ليكون المعنى لينذر الذين وجد منهم الظلم ويبشر الذين ثبتوا واستقاموا على الصراط السوي فيناسب تعليل البشارة بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا إلى آخره أي إن الذين جمعوا بين التوحيد الذي هو خلاصة العلم والاستقامة في الدين التي هي منتهى العمل، وثُمَّ للتراخي الرتبي فالعمل متراخي الرتبة عن التوحيد، وقد نصوا على أنه لا يعتد به بدونه فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من لحوق مكروه وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ من فوات محبوب، والمراد استمرار النفي، والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط مع بقاء معنى الابتداء فلا تدخل في خبر ليت ولعل وكان وإن كانت أسماؤها موصولات، وتقدم في سورة السجدة نظير هذه الآية وذكرنا في تفسير ما ذكرنا فليراجع أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر من الوصفين الجليلين أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها حال من المستكن في أَصْحابُ وقوله تعالى: جَزاءً منصوب إما بعامل مقدر أي يجزون جزاء، والجملة استئناف أو حال وإما بمعنى ما تقدم على ما قيل فإن قوله تعالى: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ في معنى جازيناهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من الحسنات القلبية والقالبية.(13/173)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً نزلت كما أخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه إلى قوله تعالى: وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ.
وإِحْساناً قيل: مفعول ثان لوصينا على تضمينه معنى ألزمنا، وقيل: منصوب على المصدر على تضمين وَصَّيْنَا معنى أحسنا أي أحسنا بالوصية للإنسان بوالديه إحسانا، وقيل: صفة لمصدر محذوف بتقدير مضاف أي إيصاء ذا إحسان، وقيل: مفعول له أي وصيناه بهما لإحساننا إليهما، وقال ابن عطية: إنه منصوب على المصدر الصريح وبِوالِدَيْهِ متعلق بوصينا، أو به وكأنه عنى يحسن إحسانا وهو حسن، لكن تعقب أبو حيان تجويزه تعلق الجار بإحسانا بأنه لا يصح لأنه مصدر مقدر بحرف مصدري والفعل فلا يتقدم معموله عليه ولأن أحسن لا يتعدى بالباء وإنما يتعدى باللام تقول: أحسنت لزيد ولا تقول: أحسنت بزيد على معنى أن الإحسان يصل إليه، وفيه أنا لا نسلم أن المقدر بشيء يشارك ما قدر به في جميع الأحكام لجواز أن يكون بعض أحكامه مختصا بصريح لفظه مع أن الظرف يكفيه رائحة الفعل ولذا يعمل الاسم الجامد فيه باعتبار لمح المعنى المصدري، وقال قالوا: إنه يتصرف فيه ما لا يتصرف في غيره لاحتياج معظم الأشياء إليه.
والجار والمجرور محمول عليه، وقد كثر ما ظاهره التعلق بالمصدر المتأخر نكرة كلا تأخذكم بهما رأفة.
ومعرفة نحو فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ [الصافات: 102] وتأويل كل ذلك تكلف، وأيضا قوله: لأن أحسن لا يتعدى(13/174)
بالباء إلخ فيه منع ظاهر، وقدر بعضهم الفعل قبل الجار فقال: وصينا الإنسان بأن يحسن بوالديه إحسانا، ولعل التنوين للتفخيم أي إحسانا عظيما، والإيصاء والوصية التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترنا بوعظ من قولهم: أرض واصية متصلة النبات، ففي الآية إشعار بأن الإحسان بهما أمر معتنى به، وقد عد في الحديث ثاني أفضل الأعمال وهو الصلاة لأول وقتها، وعد عقوقهما ثاني أكبر الكبائر وهو الإشراك بالله عز وجل، والأحاديث في الترغيب في الأول والترهيب عن الثاني كثيرة جدا، وفي الآيات ما فيه كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد.
وقرأ الجمهور «حسنا» بضم الحاء وإسكان السين أي فعلا ذا حسن أو كأنه في ذاته نفس الحسن لفرط حسنه، وجوز أبو حيان فيه أن يكون بمعنى إِحْساناً فالأقوال السابقة تجري فيه.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. والسلمي.
وعيسى «حسنا» بفتح الحاء والسين
، وعن عيسى «حسنا» بضمهما.
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً أي ذات كره أو حملا ذا كره وهو المشقة كما قال مجاهد والحسن وقتادة، وليس الكره في أول علوقها بل بعد ذلك حين تجد له ثقلا. وقرأ شيبة وأبو جعفر والحرميان «كرها» بفتح الكاف وهما لغتان بمعنى واحد كالفقر والفقر والضعف والضعف، وقيل: المضموم اسم والمفتوح مصدر.
وقال الراغب: قيل الكره أي بالفتح المشقة التي تنال الإنسان من خارج مما يحمل عليه بإكراه والكره ما يناله من ذاته وهو ما يعافه من حيث الطبع أو من حيث العقل أو الشرع. وطعن أبو حاتم في هذه القراءة فقال: لا تحسن هذه القراءة لأن الكره بالفتح الغصب والغلبة. وأنت تعلم أنها في السبعة المتواترة فلا معنى للطعن فيها، وقد كان هذا الرجل يطعن في بعض القراءات بما لا علم له به جسارة منه عفا الله تعالى عنه وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ أي مدة حمله وفصاله، وبتقدير هذا المضاف يصح حمل قوله تعالى: ثَلاثُونَ شَهْراً على المبتدأ من غير كره.
والفصال الفطام وهو مصدر فاصل فكأن الولد فاصل أمه وأمه فاصلته. وقرأ أبو رجاء والحسن وقتادة ويعقوب والجحدري «وفصله» أي فطمه فالفصل والفصال كالفطم والفطام بناء ومعنى وقيل: الفصال بمعنى وقت الفصل أي الفطم فهو معطوف على مدة الحمل، والمراد بالفصال الرضاع التام المنتهي بالفطام ولذلك عبر بالفصال عنه أو عن وقته دون الرضاع المطلق فإنه لا يفيد ذلك، وفي الوصف تطويل، والآية بيان لما تكابده الأم وتقاسيه في تربية الولد مبالغة في التوصية لها، ولذا اعتنى الشارع ببرها فوق الاعتناء ببر الأب،
فقد روي «أن رجلا قال: يا رسول الله من أبر؟
قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أباك»
وقد أشير في الآية إلى ما يقتضي البر بها على الخصوص في ثلاث مراتب فتكون الأوامر في الخبر كالمأخوذة من ذلك. واستدل بها علي كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وجماعة من العلماء على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر لما أنه إذا حط عن الثلاثين للفصال حولان لقوله تعالى: حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة: 233] يبقى للحمل ذلك وبه قال الأطباء، قال جالينوس: كنت شديد الفحص عن مقدار زمن الحمل فرأيت امرأة ولدت لمائة وأربع وثمانين ليلة.
وادعى ابن سينا أنه شاهد ذلك.
وأما أكثر مدة الحمل فليس في القرآن العظيم ما يدل عليه وقال ابن سينا في الشفاء: بلغني من جهة من أثق به كل الثقة أن امرأة وضعت بعد الرابع من سني الحمل ولدا نبتت أسنانه، وحكي عن أرسطو أنه قال: أزمنة الحمل لكل حيوان مضبوطة سوى الإنسان فربما وضعت المرأة لسبعة أشهر وربما وضعت لثمانية وقلما يعيش الولد في الثامن إلا في بلاد معينة مثل مصر، ولعل تخصيص أقل الحمل وأكثر الرضاع بالبيان في القرآن الكريم بطريق الصراحة والدلالة دون أكثر الحمل وأقل الرضاع وأوسطهما لانضباطهما بعدم النقص والزيادة بخلاف ما ذكر، وتحقق ارتباط حكم النسب(13/175)
بأقل مدة الحمل حتى لو وضعته فيما دونه لم يثبت نسبه منه وبعده يثبت وتبرأ من الزنا، ولو أرضعت مرضعة بعد حولين لم يثبت به أحكام الرضاع في التناكح وغيره وفي هذا خلاف لا يعبأ به حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ غاية لمقدر أي فعاش أو استمرت حياته حتى إذا اكتهل واستحكم قوته وعقله وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً الظاهر أنه غير بلوغ الأشد، وقال بعضهم: إنه بلوغ الأشد والعطف للتأكيد.
وقد ذكر غير واحد أن الإنسان إذا بلغ هذا القدر يتقوى جدا خلقه الذي هو عليه فلا يكاد يزايله بعد،
وفي الحديث «إن الشيطان يجر يده على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب ويقول بأبي وجه لا يفلح»
وأخرج أبو الفتح الأزدي من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا «من أتى عليه الأربعون سنة فلم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار»
وعلى ذلك قول الشاعر:
إذا المرء وافى الأربعين ولم يكن ... له دون ما يهوى حياء ولا ستر
فدعه ولا تنفس عليه الذي مضى ... وإن جر أسباب الحياة له العمر
وقيل: لم يبعث نبي إلا بعد الأربعين، وذهب الفخر إلى خلافه مستدلا بأن عيسى ويحيى عليهما السلام أرسلا صبيين لظواهر ما حكي في الكتاب الجليل عنهما، وهو ظاهر كلام السعد حيث قال: من شروط النبوة الذكورة وكمال العقل والذكاء والفطنة وقوة الرأي ولو في الصبا كعيسى ويحيى عليهما السلام إلى آخر ما قال.
وذهب ابن العربي في آخرين إلى أنه يجوز على الله سبحانه بعث الصبي إلا أنه لم يقع وتأولوا آيتي عيسى ويحيى قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا [مريم: 30] . وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم: 12] بأنهما اخبار عما سيحصل لهما لا عما حصل بالفعل، ومثله كثير في الآيات وغيرها، والواقع عند هؤلاء البعث بعد البلوغ. وحكى اللقاني عن بعض اشتراطه فيه ويترجح عندي اشتراطه فيه دون أصل النبوة لما أن النفوس في الأغلب تأنف عن اتباع الصغير وإن كبر فضلا كالرقيق والأنثى، وصرح جمع بأن الأعم الأغلب كون البعثة على رأس الأربعين كما وقع لنبينا صلّى الله عليه وسلّم قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أي رغبني ووفقني من أوزعته بكذا أي جعلته مولعا به راغبا في تحصيله. وقرأ البزي «أوزعني» بفتح الياء أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ أي نعمة الدين أو ما يعمها وغيرها، وذلك يؤيد ما روي أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لأنه لم يكن أحد أسلم هو وأبواه من المهاجرين والأنصار سواه كذا قيل، وإسلام أبيه بعد الفتح وحينئذ يلزم أن تكون الآية مدنية وإليه ذهب بعضهم، وقيل: إن هذا الدعاء بالنسبة إلى أبويه دعاء بتوفيقهما للإيمان وهو كما ترى. واعترض على التعليل بابن عمر. وأسامة بن زيد.
وغيرهما، ونقل عن الواحدي أنه قد صحب النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو ابن ثمان عشرة سنة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم ابن عشرين سنة في سفر للشام في التجارة فنزل تحت شجرة سمرة وقال له الراهب: إنه لم يستظل بها أحد بعد عيسى غيره صلّى الله عليه وسلّم فوقع في قلبه تصديقه فلم يكن يفارقه في سفر ولا حضر فلما نبىء وهو ابن أربعين آمن به وهو ابن ثمانية وثلاثين فلما بلغ الأربعين قال: رَبِّ أَوْزِعْنِي إلخ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ التنوين للتفخيم والتكثير، والمراد بكونه مرضيا له تعالى مع أن الرضا على ما عليه جمهور أهل الحق الإرادة مع ترك الاعتراض وكل عمل صالح كذلك أن يكون سالما من غوائل عدم القبول كالرياء والعجب وغيرهما، فحاصله اجعل عملي على وفق رضاك: وقيل المراد بالرضا هنا ثمرته على طريق الكناية وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي أي اجعل الصلاح ساريا في ذريتي راسخا فيهم كما في قوله:
فإن تعتذر في المحل من ذي ضروعها ... لدى المحل يجرح في عراقيبها نصلي(13/176)
على أن أَصْلِحْ نزل منزلة اللازم ثم عدي بفي ليفيد ما أشرنا إليه من سريان الصلاح فيهم وكونهم كالظرف له لتمكنه فيهم وإلا فكان الظاهر وأصلح لي ذريتي، وقيل: عدي بفي لتضمنه معنى اللطف أي الطف بي في ذريتي، والأول أحسن، قال ابن عباس: أجاب الله تعالى دعاء أبي بكر فأعتق تسعة من المؤمنين منهم بلال. وعامر بن فهيرة ولم يرد شيئا من الخير إلا أعانه الله تعالى عليه، ودعا أيضا فقال أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي فأجابه الله تعالى فلم يكن له ولد إلا آمنوا جميعا فاجتمع له إسلام أبويه وأولاده جميعا، وقد أدرك أبوه وولده عبد الرحمن وولده أبو عتيق النبي صلّى الله عليه وسلّم وآمنوا به ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ عما لا ترضاه أو يشغل عنك وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ الذين أخلصوا أنفسهم لك أُولئِكَ إشارة إلى الإنسان، والجمع لأن المراد به الجنس المتصف بالمعنى المحكي عنه، وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد منزلته وعلو درجته أي أولئك المنعوتون بما ذكر من النعوت الجليلة.
الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا من الطاعات فإن المباح حسن لا يثاب عليه وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ لتوبتهم المشار إليها بأني تبت وإلا فعند أهل الحق أن مغفرة الذنب مطلقا لا تتوقف على توبة فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ كائنين في عدادهم منتظمين في سلكهم، وقيل: فِي بمعنى مع وليس بذاك وَعْدَ الصِّدْقِ مصدر لفعل مقدر وهو مؤكد لمضمون الجملة قبله، فإن قوله سبحانه: نَتَقَبَّلُ ونَتَجاوَزُ وعد منه عز وجل بالتقبل والتجاوز.
الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ على ألسنة الرسل عليهم السلام. وقرىء «يتقبّل» بالياء والبناء للمفعول و «أحسن» بالرفع على النيابة مناب الفاعل وكذا «يتجاوز عن سيّئاتهم» .
وقرأ الحسن والأعمش وعيسى بالياء فيهما مبنيين للفاعل وهو ضميره تعالى شأنه و «أحسن» بالنصب على المفعولية وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ عند دعوتهما إياه للإيمان أُفٍّ لَكُما صوت يصدر عن المرء عند تضجره وفيه قراءات ولغات نحو الأربعين، وقد نبهنا على ذلك في سورة الإسراء، واللام لبيان المؤفف له كما في هَيْتَ لَكَ [يوسف: 23] والموصول مبتدأ خبره أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ والمراد به الجنس فهو في معنى الجمع، ولذا قيل: «أولئك» وإلى ذلك أشار الحسن بقول: هو الكافر العاق لوالديه المنكر للبعث، ونزول الآية في شخص لا ينافي العموم كما قرر غير مرة، وزعم مروان عليه ما يستحق أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما وردت عليه عائشة رضي الله تعالى عنها. أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن عبد الله قال: إني لفي المسجد حين خطب مروان فقال: إن الله تعالى قد أرى لأمير المؤمنين- يعني معاوية- في يزيد رأيا حسنا أن يستخلفه فقد استخلف أبو بكر وعمر فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: أهر قلية إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه والله ما جعلها في أحد من ولده ولا أحد من أهل بيته ولا جعلها معاوية إلا رحمة وكرامة لولده، فقال مروان: ألست الذي قال لوالديه أف لكما فقال عبد الرحمن: ألست ابن اللعين الذي لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أباك فسمعت عائشة فقالت: مروان أنت القائل لعبد الرحمن كذا وكذا كذبت والله ما فيه نزلت نزلت في فلان بن فلان.
وفي رواية تقدمت رواها جماعة وصححها الحاكم عن محمد بن زياد أنها كذبته ثلاثا ثم قالت: والله ما هو به.
تعني أخاها. ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته إلى آخر ما مر، وكان ذلك من فضض اللعنة إغاظة لعبد الرحمن وتنفيرا للناس عنه لئلا يلتفتوا إلى ما قاله وما قال إلا حقا فأين يزيد الذي تجل اللعنة عنه وأين الخلافة.
ووافق بعضهم كالسهيلي في الإعلام مروان في زعم نزولها في عبد الرحمن، وعلى تسليم ذلك لا معنى للتعيير(13/177)
لا سيما من مروان فإن الرجل أسلم وكان من أفاضل الصحابة وأبطالهم وكان له في الإسلام غناء يوم اليمامة وغيره والإسلام يجب ما قبله فالكافر إذا أسلم لا ينبغي أن يعير بما كان يقول أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ أبعث من القبر بعد الموت وقرأ الحسن وعاصم وأبو عمرو في رواية وهشام «أتعداني» بإدغام نون الرفع في نون الوقاية، وقرأ نافع في رواية.
وجماعة بنون واحدة، وقرأ الحسن وشيبة وأبو جعفر بخلاف عنه، وعبد الوارث عن أبي عمرو وهارون بن موسى عن الجحدري، وبسام عن هشام «أتعدانني» بنونين من غير إدغام ومع فتح الأولى كأنهم فروا من اجتماع الكسرتين والياء ففتحوا للتخفيف، وقال أبو حاتم: فتح النون باطل غلط، وقال بعضهم: فتح نون التثنية لغة رديئة وهو الأمر هنا الاجتماع، وقرأ الحسن وابن يعمر والأعمش وابن مصرف والضحاك «أخرج» مبنيا للفاعل من الخروج وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي أي مضت ولم يخرج منها أحد ولا بعث فالمراد إنكار البعث كما قيل:
ما جاءنا أحد يخبر أنه ... في جنة لما مضى أو نار
وقال أبو سليمان الدمشقي: أراد: وقد خلت القرون من قبلي مكذبة بالبعث، فالكلام كالاستدلال على نفي البعث.
وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ أي يقولان: الغياث بالله تعالى منك، والمراد إنكار قوله واستعظامه كأنهما لجآ إلى الله سبحانه في دفعه كما يقال: العياذ بالله تعالى من كذا أو يطلبان من الله عزّ وجلّ أن يغيثه بالتوفيق حتى يرجع عما هو عليه من إنكار البعث وَيْلَكَ آمِنْ أي قائلين أو يقولون له ذلك، وأصل «ويل» دعاء بالثبور يقام مقام الحث على الفعل أو تركه إشعارا بأن ما هو متركب له حقيق بأن يهلك مرتكبه وأن يطلب له الهلاك فإذا أسمع ذلك كان باعثا على ترك ما هو فيه والأخذ بما ينجيه، وقيل: إن ذلك لأن فيه إشعارا بأن الفعل الذي أمر به مما يحسد عليه فيدعى عليه بالثبور فإذا سمع ذلك رغب فيه، وأيا ما كان فالمراد هنا الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الدعاء بالهلاك إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي البعث، وأضاف الوعد إليه تعالى تحقيقا للحق وتنبها على خطئه في إسناد الوعد إليهما. وقرأ الأعرج. وعمرو بن فائد «أن» بفتح الهمزة على تقدير لأن أو آمن بأن وعد الله حق، ورجح الأول بأن فيه توافق القراءتين فَيَقُولُ مكذبا لهما ما هذا الذي تسميانه وعد الله تعالى إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أباطيلهم التي سطروها في الكتب من غير أن يكون لها حقيقة أُولئِكَ القائلون ذلك، وقيل: أي صنف هذا المذكور بناء على زعم خصوص الَّذِي وليس بشيء.
الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ وهو قوله تعالى لإبليس: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:
85] وقد مر تمام الكلام في ذلك. ورد بهذا على من زعم أن الآية في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أسلم وجب عنه ما قبل وكان من أفاضل الصحابة، ومن حق عليه القول هو من علم الله تعالى أنه لا يسلم أبدا. وقيل:
الحكم هنا على الجنس فلا ينافي خروج البعض من أحكامه الأخروية، وقيل غير ذلك مما لا يلتفت إليه.
فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ في مقابلة فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ فهو مثله إعرابا ومبالغة ومعنى، وقوله تعالى مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ بيان للأمم إِنَّهُمْ جميعا كانُوا خاسِرِينَ قد ضيعوا فطرتهم الأصلية الجارية مجرى رؤوس أموالهم باتباع الشيطان، والجملة تعليل للحكم بطريق الاستئناف. وقرأ العباس عن أبي عمرو «أنهم» بفتح الهمزة على تقدير لأنهم. واستدل بقوله عزّ وجلّ: فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ إلخ على أن الجن يموتون قرنا بعد قرن كالأنس. وفي البحر قال الحسن في بعض مجالسه: الجن لا يموتون فاعترضه قتادة بهذه الآية فسكت وَلِكُلٍّ من(13/178)
الفريقين المذكورين في قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ وفي قوله سبحانه: «أولئك الذين حق عليهم القول» وإن شئت فقل في الذين قالوا ربنا الله والذي قال لوالديه أف دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أي من جزاء ما عملوا، فالكلام بتقدير مضاف، والجار والمجرور صفة دَرَجاتٌ و (من) بيانية أو ابتدائية و (ما) موصولة أي من الذي عملوه من الخير والشر أو مصدرية أي من عملهم الخير والشر، ويجوز أن تكون (من) تعليلية بدون تقدير مضاف والجار والمجرور كما تقدم. والدرجات جمع درجة وهي نحو المنزلة لكن يقال للمنزلة درجة إذا اعتبرت بالصعود ودركا إذا اعتبرت بالحدور، ولهذا قيل: درجات الجنة ودركات النار.
والتعبير بالدرجات كما قال غير واحد على وجه التغليب لاشتمال (كل) على الفريقين أي لكل منازل ومراتب سواء كانت درجات أو دركات، وإنما غلب أصحاب الدرجات لأنهم الأحقاء به لا سيما، وقد ذكر جزاؤهم مرارا وجزاء المقابل مرة وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ أي جزاء أعمالهم والفاعل ضميره تعالى. وقرأ الأعمش والأعرج وشيبة وأبو جعفر والأخوان وابن ذكوان ونافع بخلاف عنه «لنوفيهم» بنون العظمة، وقرأ السلمي بتاء فوقية على الإسناد للدرجات مجازا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ بنقص ثواب وزيادة عقاب، وقد مر الكلام في مثله غير مرة. والجملة حال مؤكدة للتوفية أو استئناف مقرر لها، واللام متعلقة بمحذوف مؤخر كأنه قيل: وليوفيهم أعمالهم ولا يظلمهم فعل ما فعل من تقدير الأجزية على مقادير أعمالهم فجعل الثواب درجات والعقاب دركات.
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أي يعذبون بها من قولهم: عرض بنو فلان على السيف إذا قتلوا به وهو مجاز شائع، وذهب غير واحد إلى أنه من باب القلب المعنوي والمعنى يوم تعرض النار على الذين كفروا نحو عرض الناقة على الحوض فإن معناه أيضا كما قالوا: عرض الحوض على الناقة لأن المعروض عليه يجب أن يكون له إدراك ليميل به إلى المعروض أو يرغب عنه لكن لما كان المناسب هو أن يؤتى بالمعروض عند المعروض عليه ويحرك نحوه وهاهنا الأمر بالعكس لأن الحوض لم يؤت به وكذا النار قلب الكلام رعاية لهذا الاعتبار، وفي الانتصاف إن كان قولهم: عرضت الناقة على الحوض مقلوبا فليس قوله تعالى: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ كذلك لأن الملجئ ثم إلى اعتقاد القلب أن الحوض جماد لا إدراك له والناقة هي المدركة فهي التي يعرض عليها الخوض حقيقة، وأما النار فقد وردت النصوص بأنها حينئذ مدركة إدراك الحيوانات بل إدراك أولي العلم فالأمر في الآية على ظاهره كقولك عرضت الأسرى على الأمير، وربما يقال: لا مانع من تنزيلها منزلة المدركة إن لم تكن حينئذ مدركة وكذا تنزيل الحوض منزلته حتى كأنه يستعرض الناقة كما قال أبو العلاء المعري:
إذا اشتاقت الخيل المناهل أعرضت ... عن الماء فاشتاقت إليها المناهل
وبعد ذلك قد لا يحتاج إلى اعتبار القلب، وقال أبو حيان: لا ينبغي حمل القرآن على القلب إن الصحيح فيه أنه مما يضطر إليه في الشعر، وإذا كان المعنى صحيحا واضحا بدونه فأي ضرورة تدعو إليه؟ والمثال المذكور لا قلب فيه أيضا، فإن عرض الناقة على الحوض وعرض الحوض على الناقة كل منهما صحيح إذ العرض أمر نسبي يصح إسناده لكل واحد من الناقة والحوض. وابن السكيت في كتاب التوسعة ذهب إلى أن عرضت الحوض على الناقة مقلوب والأصل إنما هو عرض الناقة على الحوض وهو مخالف للمشهور. وأنت تعلم مما ذكرنا أولا أن سبب اعتبارهم القلب في المثال كون المناسب في العرض أن يؤتى بالمعروض عند المعروض عليه وإن الأمر في عرضت الحوض على الناقة بالعكس، وتفصيل الكلام في ذلك على وجه يعرف منه منشأ الخلاف إن العرض مطلقا لا يقتضي ذلك وإنما(13/179)
المقتضي له المعنى المقصود من العرض في المثال وهو الميل إلى المعروض، ومن لم ينظر إلى هذا المعنى ونظر إلى أن المعرض يتحرك إلى المعروض عليه قال إنه الأصل، ومن لم ينظر إلى الاعتبارين وقال العرض إظهار شيء لشيء قال إن كلّا من القولين على الأصل، وهو كما قال العلامة السالكوتي الحق لأن كلا الاعتبارين خارج عن مفهوم العرض فاحفظه فإنه نفيس.
والظرف منصوب بقول محذوف مقوله قوله تعالى: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ إلى آخره أي فيقال لهم يوم يعرضون أذهبتم لذاتكم فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا باستيفائها وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فلم يبق لكم بعد شيء منها، وهو عطف تفسير لأذهبتم، وقرأ قتادة ومجاهد وابن وثاب وأبو جعفر والحسن والأعرج وابن كثير «آذهبتم» بهمزة بعدها مدة مطولة، وابن عامر بهمزتين حققهما ابن ذكوان ولين الثانية ابن هشام. وابن كثير في رواية، وعن هشام الفصل بين المحققة والملينة بألف، والاستفهام على معنى التوبيخ فهو خبر في المعنى ولو كان استفهاما محضا لم تدخل الفاء في قوله سبحانه:
فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ أي الهوان وكذلك قرىء بِما كُنْتُمْ في الدنيا تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ بغير استحقاق لذلك، وقد مر بيان سر فِي الْأَرْضِ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ أي تخرجون من طاعة الله عزّ وجلّ أي بسبب استكباركم وفسقكم المستمرين، وفي البحر أريد بالاستكبار الترفع عن الإيمان وبالفسق معاصي الجوارح وقدم ذنب القلب على ذنب الجوارح إذ أعمال الجوارح ناشئة عن مراد القلب، وقرىء «تفسقون» بكسر السين وهذه الآية محرضة على التقلل من الدنيا وترك التنعم فيها والأخذ بالتقشف، أخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر أن عمر رضي الله تعالى عنه رأى في يد جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه درهما فقال ما هذا الدرهم؟ قال: أريد أن أشتري به لأهلي لحما قرموا إليه فقال أكلما اشتهيتم شيئا اشتريتموه أين تذهب عنكم هذه الآية أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها.
وأخرج ابن المبارك وابن سعد وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وأبو نعيم في الحلية عن الحسن قال قدم وفد أهل البصرة على عمر رضي الله تعالى عنه مع أبي موسى الأشعري فكان له في كل يوم خبز يلت فربما وافقناه مأدوما بزيت وربما وافقناه مأدوما بسمن وربما وافقناه مأدوما بلبن وربما وافقنا القدائد اليابسة قد دقت ثم أغلي عليها وربما وافقنا اللحم الغريض- أي الطري- وهو قليل قال وقال لنا عمر رضي الله تعالى عنه: إني والله ما أجهل عن كراكر والأسنمة وعن صلاء وصناب وسلائق ولكن وجدت الله تعالى عير قوما بأمر فعلوه فقال عزّ وجلّ: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها، والكراكر جمع كركرة بالكسرة زور البعير الذي إذا برك أصاب الأرض وهو من أطيب ما يؤكل منه والأسنمة جمع سنام معروف. والصلاء بالكسر والمد الشواء، والصناب ككتاب صباغ يتخذ من الخردل والزبيب، والسلائق جمع سليقة كسفينة ما سلق من البقول وغيرها ويروى بالصاد الخبز الرقاق واحدتها صليقة كسفينة أيضا، وقيل: هي الحملان المشوية، وقيل: اللحم المشوي المنضج وأنشدوا لجرير:
يكلفني معيشة آل زيد ... ومن لي بالصلائق والصناب
وأخرج أحمد، والبيهقي في شعب الإيمان عن ثوبان رضي الله تعالى عنه قال «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سافر آخر عهده من أهله بفاطمة وأول من يدخل عليه منهم فاطمة رضي الله تعالى عنها فقدم من غزاة له فأتاها فإذا بمسح على بابها ورأى على الحسن والحسين قلبين من فضة فرجع ولم يدخل عليها فلما رأت ذلك ظنت أنه لم يدخل من أجل ما رأى فهتكت الستر ونزعت القلبين من الصبيين فقطعتهما فبكيا فقسمت ذلك بينهما فانطلقا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهما يبكيان فأخذه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منهما فقال يا ثوبان اذهب بهذا إلى بني فلان أهل بيت بالمدينة واشتر لفاطمة(13/180)
قلادة من عصب وسوارين من عاج فإن هؤلاء أهل بيتي ولا أحب أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا»
والمسح بكسر فسكون ثوب من شعر غليظ، والقلبين تثنية قلب بضم فسكون السوار، والعصب بفتح فسكون قال الخطابي إن لم يكن الثياب اليمانية فما أدري ما هو وما أدري أن القلائد تكون منها، ويحتمل أن الرواية بفتح الصاد وهو اطناب مفاصل الحيوان فلعلهم كانوا يتخذون من طاهره مثل الخرز.
قال ثم ذكر بعض أهل اليمن أن العصب سن دابة بحرية تسمى فرس فرعون يتخذ منها الخرز البيض وغيرها، وأحاديث الزهد في طيبات الحياة الدنيا كثيرة وحال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك معروفة بين الأمة. وفي البحر بعد حكاية حال عمر رضي الله تعالى عنه على نحو مما ذكرنا، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: وهذا من باب الزهد وإلا فالآية نزلت في كفار قريش، والمعنى أنه كانت لكم طيبات الآخرة لو آمنتم لكنكم لم تؤمنوا فاستعجلتم طيباتكم في الحياة الدنيا. فهذه كناية عن عدم الإيمان ولذلك ترتب عليه فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ ولو أريد الظاهر ولم يكن كناية عما ذكرنا لم يترتب عليه الجزاء بالعذاب، هذا ولما كان أهل مكة مستغرقين في لذات الدنيا معرضين عن الإيمان وما جاء به الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلّم ناسب تذكيرهم بما جرى للعرب الأولى ممن كانوا أكثر أموالا وأشد قوة وأعظم جاها منهم فسلط عليهم العذاب بسبب كفرهم وبضرب الأمثال وقصص من تقدم يعرف قبح الشيء وحسنه فقال سبحانه لرسوله صلّى الله عليه وسلّم: وَاذْكُرْ لكفار مكة أَخا عادٍ هودا عليه السلام إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بدل اشتمال منه أي وقت إنذاره إياهم بِالْأَحْقافِ جمع حقف رمل مستطيل فيه اعوجاج وانحناء ويقال احقوقف الشيء اعوج وكانوا بدويين أصحاب خباء وعمد يسكنون بين رمال مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشجر من بلاد اليمن قاله ابن زيد، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بين عمان ومهرة، وفي رواية أخرى عنه الأحقاف جبل بالشام، وقال ابن إسحق: مساكنهم من عمان إلى حضرموت وقال ابن عطية الصحيح أن بلاد عاد كانت باليمن ولهم كانت إرم ذات العماد وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ارم وبيان الحق فيها.
وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ أي الرسل كما هو المشهور، وقيل من يعمهم والنواب عنهم جمع نذير بمعنى منذر. وجوز كون النُّذُرُ جمع نذير بمعنى الأنذار فيكون مصدرا وجمع لأنه يختلف باختلاف المنذر به. وتعقب بأن جمعه على خلاف القياس ولا حاجة تدعو إليه مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ أي من قبله عليه السلام وَمِنْ خَلْفِهِ أي من بعده وقرىء به ولولا ذلك لجاز العكس، والظاهر أن المراد النذر المتقدمون عليه والمتأخرون عنه. وعن ابن عباس يعني الرسل الذين بعثوا قبله والذين بعثوا في زمانه، فمعنى مِنْ خَلْفِهِ من بعد إنذاره، وعطف مِنْ خَلْفِهِ أي من بعده على ما قبله إما من باب علفتها تبنا وماء باردا وفيه أقوال فقيل عامل الثاني مقدر أي وسقيتها ماء ويقال في الآية أي خلت النذر من بين يديه وتأتي من خلفه وقيل إنه مشاكلة، وقيل: إنه من قبيل الاستعارة بالكناية، وإما لادخال الآتي في سلك الماضي قطعا بالوقوع وفيه شائبة الجمع بين الحقيقة والمجاز، وجوز أن يقال: المضي باعتبار الثبوت في علم الله تعالى أي وقد خلت النذر في علم الله تعالى يعني ثبت في علمه سبحانه خلو الماضين منهم والآتين، والجملة إما حال من فاعل أَنْذَرَ أي إذ أنذر معلما إياهم بخلو النذر أو مفعوله أي وهم عالمون بإعلامه إياهم، وهو قريب من أسلوب قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً [البقرة: 28] الآية، ويجوز أن يكون المعنى أنذرهم على فترة من الرسل، وهي حال أيضا على تفسير ابن عباس، وعلم القوم يجوز أن يكون من إعلامه ومن مشاهدتهم أحوال من كانوا في زمانه وسماعهم أحوال من قبله، وإما اعتراض بين المفسر أعني أَنْذَرَ قَوْمَهُ وبين المفسر أعني قوله تعالى:
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ فإن النهي عن الشيء إنذار عن مضرته كأنه قيل: واذكر زمان إنذار هود قومه بما أنذر به الرسل قبله(13/181)
وبعده وهو أن لا تعبدوا إلا الله تنبيها على أنه إنذار ثابت قديما وحديثا اتفقت عليه الرسل عليهم السلام عن آخرهم فهو يؤكد قوله تعالى: وَاذْكُرْ ويؤكد قوله سبحانه: أَنْذَرَ قَوْمَهُ ولذلك توسط، وهو أيضا مقصود بالذكر بخلاف ما إذا جعل حالا فإنه حينئذ قيد تابع، وهذا الوجه أولى مما قبله على ما قرره في الكشف، وجوز بعضهم العطف على أَنْذَرَ أي وأعلمهم بذلك وهو كما ترى، وجعلت (أن) مفسرة لتقدم معنى القول دون حروفه وهو الإنذار والمفسر معموله المقدر، وجوز كونها مصدرية وكونها مخففة من الثقيلة فقبلها حرف جر مقدر متعلق بأنذر أي أنذرهم بأن لا تعبدوا إلا الله.
إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ صفة يَوْمٍ وعظمه مجاز عن كونه مهولا لأنه لازم له، وكون اليوم مهولا باعتبار هول ما فيه من العذاب فالإسناد فيه مجازي، ولا حاجة إلى جعله صفة للعذاب والجر للجوار والجملة استئناف تعليل للنهي، ويفهم إني أخاف عليكم ذلك بسبب شرككم قالُوا أَجِئْتَنا استفهام توبيخي لِتَأْفِكَنا أي لتصرفنا- كما قال الضحاك- من الإفك بمعنى الصرف، وقيل: أي لتنزيلنا بالإفك وهو الكذب عَنْ آلِهَتِنا أي عن عبادتها فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من معاجلة العذاب على الشرك في الدنيا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في وعدك بنزوله بنا قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ أي بوقت نزوله أو العلم بجميع الأشياء التي من جملتها ذلك عِنْدَ اللَّهِ وحده لا علم لي بوقت نزوله، والكلام كناية عن أنه لا يقدر عليه ولا على تعجيله لأنه لو قدر عليه وأراده كان له علم به في الجملة فنفي علمه به المدلول عليه بالحصر نفي لمدخليته فيه حتى يطلب تعجيله من الله عزّ وجلّ ويدعو به.
وبهذا التقرير علم مطابقة جوابه عليه السلام لقولهم: (ائتنا) فيأتيكم به في وقته المقدر له وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ من مواجب الرسالة التي من جملتها بيان نزول العذاب إذ لم تنتهوا عن الشرك، وقرأ أبو عمرو «أبلغكم» من الإبلاغ.
وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ شأنكم الجهل ومن آثار ذلك أنكم تقترحون على ما ليس من وظائف الرسل من الإتيان بالعذاب، والفاء في قوله تعالى: فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً فصيحة أي فأتاهم فلما رأوه، وضمير النصب قيل راجع إلى (ما) في بِما تَعِدُنا وكون المرئي هو الموعود باعتبار المآل والسببية له وإلا فليس هو المرئي حقيقة، وجوز الزمخشري أن يكون مبهما يفسره عارِضاً وهو إما تمييز وإما حال، ثم قال: وهذا الوجه أعرب أي أبين واظهر لما أشرنا إليه في الوجه الأول من الخفاء وأفصح لما فيه من البيان بعد الإبهام والإيضاح غب التعمية.
وتعقبه أبو حيان بأن المبهم الذي يفسره ويوضحه التمييز لا يكون إلا في باب رب نحو ربه رجلا لقيته وفي باب نعم وبئس على مذهب البصريين نحو نعم رجلا زيد وبئس غلاما عمرو، وأما أن الحال توضح المبهم وتفسره فلا نعلم أحدا ذهب إليه، وقد حصر النحاة المضمر الذي يفسره ما بعده فلم يذكروا فيه مفعول رأى إذا كان ضميرا ولا إن الحال يفسر الضمير ويوضحه، وأنت تعلم جلالة جار الله وإمامته في العربية، والعارض السحاب الذي يعرض في أفق السماء، ومنه قول الشاعر:
يا من رأى عارضا أرقت له ... بين ذراعي وجبهة الأسد
وقول الأعشى:
يا من رأى عارضا قد بت أرمقه ... كأنما البرق في حافاته الشعل
مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ أي متوجه أوديتهم وفي مقابلتها وهي جمع واحد وأفعلة في جمع فاعل الاسم شاذ نحو ناد(13/182)
وأندية وجائز للخشبة الممتدة في أعلى السقف وأجوزة والإضافة لفظية كما في قوله تعالى: قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا ولذلك وقعا صفتين للنكرة وأطلق عليها الزمخشري مجازية ووجه التجوز أن هذه الإضافة للتوسع والتخفيف حيث لم تفد فائدة زائدة على ما كان قبل فكما أن إجراء الظرف مجرى المفعول به مجاز كذلك إجراء المفعول أو الفاعل مجرى المضاف إليه في الاختصاص ولم يرد أنها من باب الإضافة لأدنى ملابسة.
بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ أي من العذاب والكلام على إضمار القول قبله أي قال هود بل هو إلخ لأن الخطاب بينه وبينهم فيما سبق ويؤيده أنه قرىء كذلك وقدره بعضهم قل بل هو إلخ للقراءة به أيضا والاحتياج إلى ذلك لأنه إضراب ولا يصلح أن يكون من مقول من قال هذا عارض ممطرنا وقدر البغوي قال الله بل هو إلخ وينفك النظم الجليل عليه كما لا يخفى. وقرىء «بل ما استعجلتم» أي بل هو، وقرأ قوم «ما استعجلتم» بضم التاء وكسر الجيم رِيحٌ بدل من مَا أو من هُوَ أو خبر لمبتدأ محذوف أي هي أو هو ريح فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ صفة رِيحٌ لكونه جملة بعد نكرة وكذا قوله تعالى تُدَمِّرُ أي تهلك كُلَّ شَيْءٍ من نفوسهم وأموالهم أو مما أمرت بتدميره بِأَمْرِ رَبِّها ويجوز أن يكون مستأنفا، وقرأ زيد بن علي «تدمر» بفتح التاء وسكون الدال وضم الميم، وقرىء كذلك أيضا إلا أنه بالياء ورفع كلّ على أنه فاعل «يدمر» وهو من دمر دمارا أي هلك، والجملة صفة أيضا والعائد محذوف أي بها أو الضمير من رَبِّها ويجوز أن يكون استئنافا كما في قراءة الجمهور وأراد البيان أن لكل ممكن وقتا مقيضا منوطا بأمر بارئه لا يتقدم ولا يتأخر ويكون الضمير من رَبِّها لكل شيء فإنه بمعنى الأشياء وفي ذكر الأمر والرب والإضافة إلى الريح من الدلالة على عظمة شأنه عزّ وجلّ ما لا يخفى والفاء في قوله تعالى: فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ فصيحة أي فجأتهم الريح فدمرتهم فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم وجعلها بعضهم فاء التعقيب على القول بإضمار القول مسندا إليه تعالى وادعى أنه ليس هناك قول حقيقة بل هو عبارة عن سرعة استئصالهم وحصول دمارهم من غير ريث وهو كما ترى، وقرأ الجمهور «لا ترى» بتاء الخطاب «إلّا مساكنهم» بالنصب، والخطاب لكل أحد تتأتى منه الرؤية تنبيها على أن حالهم بحيث لو حضر كل أحد بلادهم لا يرى إلا مساكنهم أو لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم، وقرأ أبو رجاء ومالك بن دينار بخلاف عنهما والجحدري والأعمش وابن أبي إسحق والسلمي «لا ترى» بالتاء من فوق مضمومة إِلَّا مَساكِنُهُمْ بالرفع وجمهور النحاة على أنه لا يجوز التأنيث مع الفصل بإلا إلا في الشعر كقول ذي الرمة:
كأنه جمل هم وما بقيت ... إلا النحيزة والألواح والعصب
وقول الآخر وعزاه ابن جني لذي الرمة أيضا:
برى النحز والاجرال ما في غروضها ... وما بقيت إلا الضلوع الجراشع
وبعضهم يجيزه مطلقا وتمام الكلام فيه في محله، وقرأ عيسى الهمداني «لا يرى» بضم التحتية «إلّا مسكنهم» بالتوحيد والرفع وروي هذا عن الأعمش. ونصر بن عاصم، وقرىء «لا ترى» بتاء فوقية مفتوحة «إلّا مسكنهم» مفردا منصوبا وهو الواحد الذي أريد به الجمع أو مصدر حذف مضافه أي آثار سكونهم كَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء الفظيع نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب السحاب. وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في قوله تعالى فَلَمَّا رَأَوْهُ الآية أول ما عرفوا أنه عذاب ما رأوا ما كان خراجا من رحالهم ومواشيهم يطير بين السماء والأرض مثل الريش فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم فجاءت الريح ففتحت أبوابهم ومالت عليهم بالرمل فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام حسوما لهم أنين فأمر الله تعالى الريح فكشفت عنهم(13/183)
الرمل وطرحتهم في البحر فهو قوله تعالى: فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ.
وروي أن أول من أبصر العذاب امرأة منهم رأت ريحا فيها كشهب النار،
وروي أن هودا عليه السلام لما أحس بالريح خط على نفسه وعلى المؤمنين خطا إلى جنب عين تنبع
، وعن ابن عباس أنه عليه السلام اعتزل ومن معه في حظيرة ما يصيبهم من الريح إلا ما يلين به الجلود وتلذه الأنفس، وأنها لتمر من عاد بالظعن بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة، وكانت كما أخرج ابن أبي شيبة. وابن جرير عن عمرو بن ميمون تجيء بالرجل الغائب، ومر في سورة الأعراف مما يتعلق بهم ما مر فارجع إليهم إن أردته، ولما أصابهم من الريح ما أصابهم كان صلّى الله عليه وسلّم يدعو إذا عصفت الريح.
أخرج مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وعبد بن حميد عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا عصفت الريح قال: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به وأعوذ من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به فإذا أخيلت السماء تغير لونه صلّى الله عليه وسلّم وخرج ودخل وأقبل وأدبر فإذا مطرت سري عنه فسألته فقال عليه الصلاة والسلام: لا أدري لعله كما قال قوم عاد هذا عارض ممطرنا»
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ أي قررنا عادا وأقدرناهم، و (ما) في قوله تعالى: فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ موصولة أو موصولة وإِنْ نافية أي في الذي أو في شيء ما مكناكم فيه من السعة والبسطة وطول الأعمار وسائر مبادي التصرفات كما في قوله تعالى: كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ [الأنعام: 6] ولم يكن النفي بلفظ «ما» كراهة لتكرير اللفظ وإن اختلف المعنى، ولذا قال من ذهب إلى أن أصل مهما ما ما على أن ما الشرطية مكررة للتأكيد قلبت الألف الأولى هاء فرارا من كراهة التكرار، وعابوا على المتنبي قوله:
لعمرك ما ما بأن منك لضارب ... بأقتل مما بان منك لعائب
أي ما الذي بأن إلخ، يريد لسانه لا يتقاعد عن سنانه هذا للعائب وذلك للضارب، وكان يسعه أن يقول: إن ما بان، وإدخال الباء للنفي لا للعمل على أن إعمال إن قد جاء عن المبرد، وقيل: إِنْ شرطية محذوفة الجواب والتقدير إن مكناكم فيه طغيتم، وقيل: إنها صلة بعد ما الموصولة تشبيها بما النافية وما التوقيتية، فهي في الآية مثلها في قوله:
يرجّي المرء ما أن لا يراه ... وتعرض دون أدناه الخطوب
أي مكناهم في مثل الذي مكناكم فيه، وكونها نافية هو الوجه لأن القرآن العظيم يدل عليه في ما وضع وهو أبلغ في التوبيخ وأدخل في الحث على الاعتبار وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً ليستعملوها فيما خلقت له ويعرفوا بكل منها ما نيطت به معرفته من فنون النعم ويستدلوا بها على شؤون منعمها عزّ وجلّ ويداوموا على شكره جلّ شأنه فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ حيث لم يستعملوه في استماع الوحي ومواعظ الرسل وَلا أَبْصارُهُمْ حيث لم يجتلوا بها الآيات التكوينية المرسومة في صحائف العالم وَلا أَفْئِدَتُهُمْ حيث لم يستعملوها في معرفة الله تعالى مِنْ شَيْءٍ أي شيئا من الإغناء، ومِنْ مزيدة للتوكيد والتنوين للتقليل.
وجوز أن تكون تبعيضية أي ما أغنى بعض الإغناء وهو القليل، و (ما) في فَما أَغْنى نافية وجوز كونها استفهامية. وتعقبه أبو حيان بأنه يلزم عليه زيادة مِنْ في الواجب وهو لا يجوز على الصحيح. ورد بأنهم قالوا: تزاد في غير الموجب وفسروه بالنفي والنهي والاستفهام، وإفراد السمع في النظم الجليل وجمع غيره لاتحاد المدرك به وهو الأصوات وتعدد مدركات غيره أو لأنه في الأصل مصدر، وأيضا مسموعهم من الرسل متحد.(13/184)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ ظرف متعلق بالنفي الصريح أو الضمني في قوله تعالى: فَما أَغْنى وهو ظرف أريد به التعليل كناية أو مجازا لاستواء مؤدى الظرف والتعليل في قولك: ضربته لإساءته وضربته إذ أساء لأنك إنما ضربته في ذلك الوقت لوجود الإساءة فيه، وهذا مما غلب في إذ وحيث من بين سائر الظروف حتى كاد يلحق بمعانيهما الوضعية وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء ويقولون:
فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الأعراف: 70، هود: 32] .
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ يا أهل مكة مِنَ الْقُرى كحجر ثمود وقرى قوم صالح، والكلام بتقدير مضاف أو تجوز بالقرى عن أهلها بقوله تعالى: وَصَرَّفْنَا الْآياتِ أي كررناها لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وأمر ما سهل، والترجي مصروف لغيره تعالى أو (لعل) للتعليل أي لكي يرجعوا عما هم فيه من الكفر والمعاصي إلى الإيمان والطاعة فَلَوْلا نَصَرَهُمُ فهلا منعهم من الهلاك الذي وقعوا فيه الَّذِينَ اتَّخَذُوا أي آلهتهم الذين اتخذوهم.
مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً والضمير الذي قدرناه عائدا هو المفعول الأول لاتخذوا. وآلِهَةً هو المفعول الثاني وقُرْباناً بمعنى متقربا بها حال أي اتخذوهم آلهة من دون الله حال كونها متقربا بها إلى الله عزّ وجلّ حيث كانوا يقولون: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] وهؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: 18] وفي الكلام تهكم بهم.
وأجار الحوفي كون قُرْباناً مفعولا من أجله، وأجاز هو أيضا وابن عطية ومكي وأبو البقاء كونه المفعول الثاني لا تخذوا. وجعل آلِهَةً بدلا منه، وقال في الكشاف: لا يصح ذلك لفساد المعنى، ونقل عنه في بيانه أنه لا يصح أن يقال: تقربوا بها من دون الله لأن الله تعالى لا يتقرب به، وأراد كما في الكشف أنه إذا جعل مفعولا ثانيا يكون المعنى فلولا نصرهم الذين اتخذوهم قربانا بدل الله تعالى أو متجاوزين عن أخذه تعالى قربانا إليهم وهو معنى فاسد.
واعترض عليه بجعل دُونِ بمعنى قدام كما قيل به في قوله تعالى: وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [البقرة: 231](13/185)
وبأنه قد قيل: إن قربانا مفعول له فهو غير مختص بالمتقرب به، وجاز أن يطلق على المتقرب إليه وحينئذ يلتئم الكلام.
وأجيب عن الأول بأنه غير قادح لأنه مع نزارة استعمال دون بمعنى قدام لا يصلح ظرف الاتخاذ لأنه ليس بين يدي الله تعالى وإنما التقرب بين يديه تعالى ولأجله سبحانه، واتخاذهم قربانا ليس التقرب به لأن معناه تعظيمهم بالعبادة ليشفعوا بين يدي الله عزّ وجلّ ويقربوهم إليه سبحانه، فزمان الاتخاذ ليس زمان التقرب البتة، وحينئذ ان كان مستقرا حالا لزم ما لزم في الأول.
ولا يجوز أن يكون معمول قُرْباناً لأنه اسم جامد بمعنى ما يتقرب به فلا يصلح عاملا كالقارورة وإن كان فيها معنى القرار، وفيه نظر. وأجيب عن الثاني بأن الزمخشري بعد أن فسر القربان بما يتقرب به ذكر هذا الامتناع على أن قوله تعالى بعد. بَلْ ضَلُّوا إلخ ينادي على فساد ذلك أرفع النداء، وقال بعضهم في امتناع كون قُرْباناً مفعولا ثانيا وآلِهَةً بدلا منه: إن البدل وإن كان هو المقصود لكن لا بد في غير بدل الغلط من صحة المعنى بدونه ولا صحة لقولهم: اتخذوهم من دون الله قربانا أي ما يتقرب به لأن الله تعالى لا يتقرب به بل يتقرب إليه فلا يصح أنهم اتخذوهم قربانا متجاوزين الله تعالى في ذلك، وجنح بعضهم إلى أنه يصح أن يقال: الله تعالى يتقرب به أي برضاه تعالى والتوسل به جل وعلا. وقال الطيبي: إن الزمخشري لم يرد بفساد المعنى إلا خلاف المعنى المقصود إذ لم يكن قصدهم في اتخاذهم الأصنام آلهة على زعمهم إلا أن يتقربوا بها إلى الله تعالى كما نطقت به الآيات فتأمل.
وقرىء «قربانا» بضم الراء بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ أي غابوا عنهم، وفيه تهكم بهم أيضا كأن عدم نصرهم لغيبتهم أو ضاعوا عنهم أي ظهر ضياعهم عنهم بالكلية وقد امتنع نصرهم الذي كانوا يؤملونه امتناع نصر الغائب عن المنصور وَذلِكَ أي ضلال آلهتهم عنهم إِفْكُهُمْ أي أثر إفكهم أي صرفهم عن الحق واتخاذهم إياها آلهة ونتيجة شركهم وَما كانُوا يَفْتَرُونَ أي وأثر افترائهم وكذبهم على الله تعالى أو أثر ما كانوا يفترونه على الله عزّ وجلّ، وقيل: ذلك إشارة إلى اتخاذ الأصنام آلهة أي ذلك الاتخاذ الذي أثره ضلال آلهتهم عنهم كذبهم وافتراؤهم أو والذي كانوا يفترونه وليس بذاك وإن لم يحوج إلى تقدير مضاف. وقرأ ابن عباس في رواية «أفكهم» بفتح الهمزة والافك والأفك مصدران كالحذر والحذر وقرأ ابن الزبير. والصباح بن العلاء الأنصاري وأبو عياض وعكرمة وحنطلة بن النعمان بن مرة ومجاهد وهي رواية عن ابن عباس أيضا «أفكهم» بثلاث فتحات على أن افك فعل ماض وحينئذ الإشارة إلى الاتخاذ أي ذلك الاتخاذ صرفهم عن الحق، وَما كانُوا قيل عطف على ذلك أو على الضمير المستتر وحسن للفصل أو هو مبتدأ والخبر محذوف أي كذلك، والجملة حينئذ معطوفة على الجملة قبلها.
وأبو عياض وعكرمة أيضا كذلك إلا أنهما شددا الفاء للتكثير، وابن الزبير أيضا. وابن عباس فيما ذكر ابن خالويه «آفكهم» بالمد فاحتمل أن يكون فاعل فالهمزة أصلية وأن يكون أفعل والهمزة للتعدية أي جعلهم يأفكون، وجوز أن تكون للوجدان كأحمدته وأن يكون أفعل بمعنى فعل، وحكى في البحر أنه قرىء «أفكهم» بفتح الهمزة والفاء وضم الكاف وهي لغة في الإفك. وقرأ ابن عباس فيما روى قطرب. وأبو الفضل الرازي «آفكهم» اسم فاعل من إفك أي وذلك الاتخاذ صارفهم عن الحق. وقرىء «وذلك إفك مما كانوا يفترون» والمعنى ذلك بعض ما يفترون من الإفك أي بعض أكاذيبهم المفتريات فالافك بمعنى الاختلاف فلا تغفل.
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ أي أملناهم إليك ووجهناهم لك، والنفر على المشهور ما بين الثلاثة والعشرة من الرجال لأنه من النفير والرجال هم الذين إذا حزبهم أمر نفروا لكفايته، والحق أن هذا باعتبار الأغلب فإنه يطلق على ما فوق العشرة في الفصيح، وقد ذكر ذلك جمع من أهل اللغة، وفي المجمل الرهط والنفر يستعمل إلى(13/186)
الأربعين، وفي كلام الشعبي حدثني بضعة عشر نفرا، وسيأتي إن شاء الله تعالى تفسيره هنا بما زاد على العشرة ولا يختص بالرجال، والأخذ من النفير لا يدل على الاختصاص بهم بل ولا بالناس لإطلاقه على الجن هنا.
والجار والمجرور صفة نَفَراً وقوله تعالى: يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ حال مقدرة منه لتخصصه بالصفة أو صفة له أخرى وضمير الجمع لأنه اسم جمع فهو في المعنى جمع، ولذا قرىء «صرّفنا» بالتشديد للتكثير، وإِذْ معمولة لمقدر لا عطف على أَخا عادٍ أي واذكر لقومك وقت صرفنا إليك نفرا من الجن مقدرا استماعهم القرآن لعلهم يتنبهون لجهلهم وغلطهم وقبح ما هم عليه من الكفر بالقرآن والإعراض عنه حيث إنهم كفروا به وجهلوا أنه من عند الله تعالى وهم أهل اللسان الذي نزل به ومن جنس الرسول الذي جاء به وأولئك استمعوه وعلموا أنه من عنده تعالى وأمنوا به وليسوا من أهل لسانه ولا من جنس رسوله ففي ذكر هذه القصة توبيخ لكفار قريش والعرب، ووقوعها أثر قصة هود وقومه وإهلاك من أهلك من أهل القرى لأن أولئك كانوا ذوي شدة وقوة كما حكي عنهم في غير آية والجن توصف بذلك أيضا كما قال تعالى: قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ [النمل:
39] ووصفهم بذلك معروف بين العرب فناسبت ما قبلها لذلك مع ما قيل أن قصة عاد متضمنة ذكر الريح وهذه متضمنة ذكر الجن وكلاهما من العالم الذي لا يشاهد، وسيأتي الكلام في حقيقتهم.
فَلَمَّا حَضَرُوهُ أي القرآن عند تلاوته، وهو الظاهر وإن كان فيه تجوز، وقيل: الرسول الله عند تلاوته له ففيه التفات قالُوا أي قال بعضهم لبعض أَنْصِتُوا اسكتوا لنسمعه، وفيه تأدب مع العلم وكيف يتعلم فَلَمَّا قُضِيَ أتم وفرغ عن تلاوته. وقرأ أبو مجلز وحبيب بن عبد الله «قضى» بالبناء للفاعل وهو ضمير الرسول الله، وأيد بذلك عود ضمير حَضَرُوهُ إليه عليه الصلاة والسلام.
وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ مقدرين إنذارهم عند وصولهم إليهم، قيل: إنهم تفرقوا في البلاد فأنذروا من رأوه من الجن، وكان هؤلاء كما جاء في عدة روايات من جن نصيبين وهي من ديار بكر قريبة من الشام، وقيل: من نينوى وهي أيضا من ديار بكر لكنها قريبة من الموصل، وذكر أنهم كانوا من الشيصبان وهم أكثر الجن عددا وعامة جنود إبليس منهم، وكان الحضور بوادي نخلة على نحو ليلة من مكة المكرمة. فقد أخرج أحمد وعبد بن حميد والشيخان والترمذي والنسائي وجماعة عن ابن عباس قال: انطلق النبي صلّى الله عليه وسلّم في طائفة من أصحابه إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب قالوا ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو وأصحابه بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو عليه الصلاة والسلام يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء فهناك حين رجعوا إلى قومهم.
وفي رواية ابن المنذر عن عبد الملك أنهم لما حضروه قالوا: أنصتوا فلما قضى وفرغ صلّى الله عليه وسلّم من صلاة الصبح ولوا إلى قومهم منذرين مؤمنين لم يشعر بهم حتى نزل قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ [الجن: 1] .
وفي الصحيحين عن مسروق عن ابن مسعود أنه آذنته صلّى الله عليه وسلّم بهم شجرة وكانوا على ما روي عن ابن عباس سبعة وكذا قال زر وذكر منهم زوبعة، وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد أنهم كانوا سبعة. ثلاثة من أهل حران، وأربعة من نصيبين وكانت أسماؤهم حسى. ومسى. وشاصر. وماصر. والاردوانيان. وسرق. والأحقم. بميم آخره، وفي رواية عن كعب الأحقب بالباء، وذكر صاحب الروض بدل حسى. ومسى. منشىء. وناشىء.(13/187)
وأخرج ابن جرير والطبراني. وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في هؤلاء النفر: كانوا تسعة عشر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رسلا إلى قومهم، والخبر السابق يدل على أنه صلّى الله عليه وسلّم كان حين حضر الجن مع طائفة من أصحابه، وأخرج عبد بن حميد وأحمد ومسلم والترمذي وأبو داود عن علقمة قال قلت لابن مسعود: هل صحب النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة الجن منكم أحد؟ قال: ما صحبه منا أحد ولكنا كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب فقلنا: استطير أو اغتيل فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء فأخبرناه فقال أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم فهذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن معه أحد من أصحابه ولم يشعر به أحد منهم.
وأخرج أحمد عن ابن مسعود أنه قال: قمت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة الجن وأخذت إداوة ولا أحسبها إلا ماء حتى إذا كنا بأعلى مكة رأيت أسودة مجتمعة قال: فخط لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: قم هاهنا حتى آتيك ومضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم فرأيتهم يتثورون إليه فسمر معهم ليلا طويلا حتى جاءني مع الفجر فقال لي: هل معك من وضوء قلت:
نعم ففتحت الإداوة فإذا هو نبيذ فقلت: ما كنت أحسبها إلا ماء فإذا هو نبيذ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ثمرة طيبة وماء طهور فتوضأ منها ثم قام يصلي فأدركه شخصان منهم فصفهما خلفه ثم صلى بنا فقلت: من هؤلاء يا رسول الله؟ قال:
جن نصيبين
فهذا يدل على خلاف ما تقدم والجمع بتعدد واقعة الجن، وقد أخرج الطبراني في الأوسط. وابن مردويه عن الحبر أنه قال: صرفت الجن إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرتين، وذكر الخفاجي أنه قد دلت الأحاديث على أن وفادة الجن كانت ست مرات ويجمع بذلك اختلاف الروايات في عددهم وفي غير ذلك،
فقد أخرج أبو نعيم. والواقدي عن كعب الأحبار قال: انصرف النفر التسعة من أهل نصيبين من بطن نخلة وهم فلان وفلان وفلان والاردوانيان. والأحقب جاؤوا قومهم منذرين فخرجوا بعد وافدين إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم ثلاثمائة فانتهوا إلى الحجون فجاء الأحقب فسلم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن قومنا قد حضروا الحجون يلقونك فواعده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لساعة من الليل بالحجون.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة أنه قال في الآية: هم اثنا عشر ألفا من جزيرة الموصل، وفي الكشاف حكاية هذا العدد أيضا وأن السورة التي قرأها صلّى الله عليه وسلّم عليهم اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] ، ونقل في البحر عن ابن عمر. وجابر ابن عبد الله رضي الله تعالى عنهم أنه عليه الصلاة والسلام قرأ عليهم سورة الرحمن فكان إذا قال: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن] قالوا: لا بشيء من آيات ربنا نكذب ربنا لك الحمد، وأخرج أبو نعيم في الدلائل. والواقدي عن أبي جعفر قال: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجن في ربيع الأول سنة إحدى عشر من النبوة وفي معناه ما قيل: كانت القصة قبل الهجرة بثلاث سنين بناء على ما صح عن ابن عباس أنه صلّى الله عليه وسلّم مكث بمكة يوحى إليه ثلاث عشرة سنة وفي المسألة خلاف والمشهور ما ذكر.
وقيل: كان استماع الجن في ابتداء الإيحاء قالُوا أي عند رجوعهم إلى قومهم يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً جليل الشأن أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى ذكروه دون عيسى عليهما السلام لأنه متفق عليه عند أهل الكتابين ولأن الكتاب المنزل عليه أجل الكتب قبل القرآن وكان عيسى عليه السلام مأمورا بالعمل بمعظم ما فيه أو بكله، وقال عطاء: لأنهم كانوا على اليهودية ويحتاج إلى نقل صحيح، وعن ابن عباس أن الجن لم تكن سمعت بأمر عيسى عليه السلام فلذا قالوا ذلك، وفيه بعد فإن اشتهار أمر عيسى عليه السلام وانتشار أمر دينه أظهر من أن يخفى لا سيما على الجن، ومن هنا قال أبو حيان: إن هذا لا يصح عن ابن عباس مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من التوراة أو جميع الكتب الإلهية السابقة يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ من العقائد الصحيحة وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ من الأحكام الفرعية أو ما يعمها وغيرها من العقائد على أنه من ذكر العام بعد الخاص.(13/188)
يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ أرادوا به ما سمعوه من الكتاب ووصفوه بالدعوة إلى الله تعالى بعد ما وصفوه بالهداية إلى الحق والطريق المستقيم لتلازمهما، وفي الجمع بينهما ترغيب لهم في الإجابة أي ترغيب، وجوز أن يكون أرادوا به الرسول صلّى الله عليه وسلّم وَآمِنُوا بِهِ أي بداعي الله تعالى أو بالله عز وجل يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ أي بعض ذنوبكم قيل: وهو ما كان خالص حقه عز وجل فإن حقوق العباد لا تغفر بالإيمان. وتعقبه ابن المنير بأن الحربي إذا نهب الأموال وسفك الدماء ثم حسن إسلامه جب إسلامه إثم ما تقدم بلا إشكال ثم قال ويقال: إنه لم يرد وعد المغفرة للكافرين على تقدير الإيمان في كتاب الله تعالى إلا مبعضة وهذا منه فإن لم يكن لاطراده كذلك سر فما هو إلا أن مقام الكافرين قبض لا بسط فلذلك لم يبسط رجاؤه في مغفرة جملة الذنوب، وقد ورد في حق المؤمنين كثيرا، ورده صاحب الإنصاف بأن مقام ترغيب الكافر في الإسلام بسط لا قبض وقد أمر الله تعالى أن يقول لفرعون: قَوْلًا لَيِّناً [طه: 44] وقد قال تعالى: إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [الأنفال: 38] وهي غير مبعضة و «ما» للعموم لا سيما وقد وقعت في الشرط.
وقال بعض أجلة المحققين: إن الحربي وإن كان إذا أسلم لا تبقى عليه تبعة أصلا لكن الذمي إذا أسلم تبقى عليه حقوق الآدميين، والقوم- كما نقل عن عطاء- كانوا يهودا فتبقى عليهم تبعاتهم فيما بينهم إذا أسلموا جميعا من غير حرب فلما كان الخطاب معهم جيء بما يدل على التبعيض، وقيل: جيء به لعدم علم الجن بعد بأن الإسلام يجب إثم ما قبله مطلقا وفيه توقف، وقد يقال: أرادوا بالبعض الذنوب السالفة ولو لم يقولوا ذلك لتوهم المخاطبون أنهم إن أجابوا داعي الله تعالى وآمنوا به يغفر لهم ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر، وقيل: من زائدة أي يغفر لكم ذنوبكم وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ معد للكفرة، وهذا ونحوه يدل على أن الجن مكلفون، ولم ينص هاهنا على ثوابهم إذا أطاعوا وعمومات الآيات تدل على الثواب، وعن ابن عباس لهم ثواب وعليهم عقاب يلتقون في الجنة ويزدحمون على أبوابها، ولعل الاقتصار هنا على ما ذكر لما فيه من التذكير بالذنوب والمقام مقام الإنذار فلذا لم يذكر فيه شيء من الثواب، وقيل: لا ثواب لمطيعيهم إلا النجاة من النار فيقال لهم: كونوا ترابا فيكونون ترابا، وهذا مذهب ليث بن أبي سليم. وجماعة ونسب إلى الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، وقال النسفي في التيسير: توقف أبو حنيفة في ثواب الجن في الجنة ونعيمهم لأنه لا استحقاق للعبد على الله تعالى ولم يقل بطريق الوعد في حقهم إلا المغفرة والإجارة من العذاب، وأما نعيم الجنة فموقوف على الدليل.
وقال عمر بن عبد العزيز إن مؤمني الجن حول الجنة في ربض وليسوا فيها، وقيل: يدخلون الجنة ويلهمون التسبيح والذكر فيصيبون من لذة ذلك ما يصيبه بنو آدم من لذائذهم، قال النووي في شرح صحيح مسلم: والصحيح أنهم يدخلونها ويتنعمون فيها بالأكل والشرب وغيرهما، وهذا مذهب الحسن البصري. ومالك بن أنس والضحاك وابن أبي ليلى وغيرهم وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ إيجاب للإجابة بطريق الترهيب إثر إيجابها بطريق الترغيب وتحقيق لكونهم منذرين وإظهار داعي الله من غير اكتفاء بأحد الضميرين بأن يقال: يجبه أو يجب داعيه للمبالغة في الإيجاب بزيادة التقرير وتربية المهابة وإدخال الروعة.
وتقييد الإعجاز بكونه في الأرض لتوسيع الدائرة أي فليس بمعجز له تعالى بالهرب وإن هرب كل مهرب من أقطارها أو دخل في أعماقها، وقوله تعالى: وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ بيان لاستحالة نجاته بواسطة الغير إثر بيان استحالة نجاته بنفسه وجمع الأولياء باعتبار معنى مَنْ فيكون من باب مقابلة الجمع بالجمع لانقسام الآحاد على الآحاد، ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عامر أنه قرأ وليس لهم بضمير الجمع فإنه لمن باعتبار معناها، وكذا الجمع(13/189)
في قوله سبحانه: أُولئِكَ بذلك الاعتبار أي أولئك الموصوفون بعدم إجابة داعي الله فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي ظاهر كونه ضلالا بحيث لا يخفى على أحد حيث أعرضوا عن إجابة من هذا شأنه أَوَلَمْ يَرَوْا الهمزة للإنكار والواو على أحد القولين عطف على مقدر دخله الاستفهام يستدعيه المقام، والرؤية قلبية أي ألم يتفكروا ولم يعلموا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ أي لم يتعب بذلك أصلا من عيي كفعل بكسر العين، ويجوز فيه الإدغام بمعنى تعب كأعيا، وقال الكسائي: أعييت من التعب وعييت من انقطاع الحيلة والعجز والتحير في الأمر وأنشدوا:
عيوا بأمرهم كما ... عيت ببيضتها الحمامة
أي لم يعجز عن خلقهن ولم يتحير فيه، واختار بعضهم عدم الفرق، وقرأ الحسن «ولم يعي» بكسر العين وسكون الياء، ووجهه أنه في الماضي فتح عين الكلمة كما قالوا في بقي بقي بفتح القاف وألف بعدها وهي لغة طيء، ولما بني الماضي على فعل مفتوح العين بني مضارعه على يفعل مسكورها فجاء يعي فلما دخل الجازم حذف الياء فبقي يعي بنقل حركة الياء إلى العين فسكنت الياء، وقوله تعالى: بِقادِرٍ في حيز الرفع لأنه خبر أن والباء زائدة فيه، وحسن زيادتها كون ما قبلها في حيز النفي، وقد أجاز الزجاج ما ظننت أن أحدا بقائم قياسا على هذا، قال أبو حيان: والصحيح قصر ذلك على السماع فكأنه قيل هنا: أو ليس الله بقادر عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ولذلك أجيب عنه بقوله تعالى: بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تقريرا للقدرة على وجه عام يكون كالبرهان على المقصود، ولذا قيل: إن هذا مشير إلى كبرى لصغرى سهلة الحصول فكأنه قيل: إحياء الموتى شيء وكل شيء مقدور له فينتج أن إحياء الموتى مقدور له، ويلزمه أنه تعالى «قادر على أن يحيي الموتى» .
وقرأ الجحدري وزيد بن علي وعمرو بن عبيد وعيسى والأعرج بخلاف عنه ويعقوب «يقدر» بدل بِقادِرٍ بصيغة المضارع الدال على الاستمرار وهذه القراءة على ما قيل موافقة أيضا للرسم العثماني.
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ظرف عامله قول مضمر مقوله تعالى: أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ أي ويقال: يَوْمَ يُعْرَضُ إلخ، والظاهر أن الجملة معترضة، وقيل: هي حال، والتقدير وقد قيل، وفيه نظر، وقد مر آنفا الكلام في العرض بطوله، والإشارة إلى ما يشاهدونه حين العرض من حيث هو من غير أن يخطر بالبال لفظ يدل عليه فضلا عن تذكيره وتأنيثه إذ هو اللائق بتهويله وتفخيمه، وقيل: هي إلى العذاب بقرينة التصريح به بعد، وفيه تهكم بهم وتوبيخ لهم على استهزائهم بوعد الله تعالى ووعيده، وقولهم: وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [الشعراء: 138، سبأ: 35، الصافات: 59] .
قالُوا بَلى وَرَبِّنا تصديق بحقيته وأكدوا بالقسم كأنهم يطمعون في الخلاص بالاعتراف بحقية ذلك كما في الدنيا وأنى لهم. وعن الحسن أنهم ليعذبون في النار وهم راضون بذلك لأنفسهم يعترفون أنه العدل.
قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بسبب استمراركم على الكفر في الدنيا، ومعنى الأمر الإهانة بهم فهو تهكم وتوبيخ وإلا لكان تحصيلا للحاصل، وقيل: هو أمر تكويني والمراد إيجاب عذاب غير ما هم فيه وليس بذاك، والفاء في قوله تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ واقعة في جواب شرط مقدر أي إذا كان عاقبة أمر الكفرة ما ذكر فاصبر على ما يصيبك من جهتهم أو إذا كان الأمر على ما تحققته من قدرته تعالى الباهرة فَاصْبِرْ وجوز غير واحد كونها عاطفة لهذه الجملة على ما تقدم، والسببية فيها ظاهرة واقتصر في البحر على كونها لعطف(13/190)
هذه الجملة على إخبار الكفار في الآخرة وقال: المعنى بينهما مرتبط كأنه قيل: هذه حالهم فلا تستعجل أنت واصبر ولا تخف إلا الله عز وجل، والعزم يطلق على الجد والاجتهاد في الشيء وعلى الصبر عليه، ومِنَ بيانية كما في فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج: 30] والجار والمجرور في موضع الحال من الرُّسُلِ فيكون أولو العزم صفة جميعهم، وإليه ذهب ابن زيد والجبائي وجماعة أي فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ الرسل المجدون المجتهدون في تبليغ الوحي الذين لا يصرفهم عنه صارف ولا يعطفهم عنه عاطف والصابرون على أمر الله تعالى فيما عهده سبحانه إليهم أو قضاه وقدره عز وجل عليهم بواسطة أو بدونها. وعن عطاء الخراساني والحسن بن الفضل والكلبي ومقاتل وقتادة وأبي العالية وابن جريج، وإليه ذهب أكثر المفسرين أن مِنَ للتبعيض فأولو العزم بعض الرسل عليهم السلام، واختلف في عدتهم وتعيينهم على أقوال، فقال الحسن بن الفضل: ثمانية عشر وهم المذكورون في سورة الأنعام لأنه سبحانه قال بعد ذكرهم: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] وقيل: تسعة نوح عليه السلام صبر على أذى قومه طويلا. وإبراهيم عليه السلام صبر على الإلقاء في النار. والذبيح عليه السلام صبر على ما أريد به من الذبح. ويعقوب عليه السلام صبر على فقد ولده. ويوسف عليه السلام صبر على البئر والسجن وأيوب عليه السلام صبر على البلاء. وموسى عليه السلام قال له قومه: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء: 61] فقال إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 62] وداود عليه السلام بكى على خطيئته أربعين سنة وعيسى عليه السلام لم يضع لبنة على لبنة وقال: إنها يعني الدنيا معبرة فاعبروها ولا تعمروها، وقيل:
سبعة آدم ونوح وإبراهيم وموسى وداود وسليمان وعيسى عليهم السلام، وقيل: ستة وهم الذين أمروا بالقتال وهم نوح وهود وصالح وموسى وداود وسليمان، وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس، وعن مقاتل أنهم ستة ولم يذكر حديث الأمر بالقتال وقال: هم نوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب ويوسف وأيوب وأخرج ابن عساكر عن قتادة أنهم نوح وهود وإبراهيم وشعيب وموسى عليهم السلام وظاهره القول بأنهم خمسة وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عنه أنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وظاهره القول بأنهم أربعة وهذا أصح الأقوال. وقول الجلال السيوطي: إن أصحها القول بأنهم خمسة هؤلاء الأربعة ونبينا صلّى الله عليه وسلّم وعليهم أجمعين وأخرج ذلك ابن أبي حاتم. وابن مردويه عن ابن عباس وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله من أئمة أهل البيت رضي الله تعالى عنهم ونظمهم بعض الأجلة فقال:
أولو العزم نوح والخليل الممجد ... وموسى وعيسى والحبيب محمد
مبني على أنهم كذلك بعد نزول الآية وتأسي نبينا عليه الصلاة والسلام بمن أمر بالتأسي به ولم يرد أن أصح الأقوال أن المراد بهم في الآية أولئك الخمسة صلّى الله عليه وسلّم إذ يلزم عليه أمره عليه الصلاة والسلام أن يصبر كصبره نفسه ولا يكاد يصح ذلك، وعلى هذا قول أبي العالية فيما أخرجه عبد بن حميد وأبو الشيخ، والبيهقي في شعب الإيمان وابن عساكر عنه أنهم ثلاثة نوح وإبراهيم وهود ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم رابع لهم، ولعل الأولى في الآية القول الأول وإن صار أولو العزم بعد مختصا بأولئك الخمسة عليهم الصلاة والسلام عند الإطلاق لاشتهارهم بذلك كما في الأعلام الغالبة فكأنه قيل: فاصبر على الدعوة إلى الحق ومكابدة الشدائد مطلقا كما صبر إخوانك الرسل قبلك وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ أي لكفار مكة بالعذاب أي لا تدع بتعجيله فإنه على شرف النزول بهم كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ من العذاب لَمْ يَلْبَثُوا في الدنيا إِلَّا ساعَةً يسيرة مِنْ نَهارٍ لما يشاهدون من شدة العذاب وطول مدته. وقرأ أبي «من النهار» وقوله تعالى: بَلاغٌ خبر مبتدأ محذوف أي هذا الذي وعظتم به كفاية في الموعظة أو تبليغ من الرسول، وجعل بعضهم الإشارة إلى القرآن أو ما ذكر من السورة. وأيد تفسير بَلاغٌ بتبليغ بقراءة أبي مجلز. وأبي سراج الهذلي «بلغ» بصيغة الأمر له صلّى الله عليه وسلّم، وبقراءة أبي مجلز أيضا في رواية «بلغ» بصيغة الماضي من التفعيل، واستظهر أبو حيان كون(13/191)
الإشارة إلى ما ذكر من المدة التي لبثوا فيها كأنه قيل: تلك الساعة بلاغهم كما قال تعالى: مَتاعٌ قَلِيلٌ [آل عمران:
197، النحل: 117] وقال أبو مجلز: بَلاغٌ مبتدأ خبره قوله تعالى: لَهُمْ السابق فيوقف على وَلا تَسْتَعْجِلْ ويبتدأ بقوله تعالى: لَهُمْ وتكون الجملة التشبيهية معترضة بين المبتدأ والخبر والمعنى لهم انتهاء وبلوغ إلى وقت فينزل بهم العذاب وهو ضعيف جدا لما فيه من الفصل ومخالفة الظاهر إذ الظاهر تعلق لَهُمْ بتستعجل. وقرأ الحسن وزيد بن علي وعيسى «بلاغا» بالنصب بتقدير بلغ بلاغا أو بلغنا بلاغا أو نحو ذلك. وقرأ الحسن أيضا «بلاغ» بالجر على أنه نعت لنهار.
فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن الاتعاظ أو عن الطاعة، وفي الآية من الوعيد والإنذار ما فيها.
وقرأ ابن محيصن فيما حكى عنه ابن خالويه «يهلك» بفتح الياء وكسر اللام. وعنه أيضا «يهلك» بفتح الياء واللام وماضيه هلك بكسر اللام وهي لغة، وقال أبو الفتح: هي مرغوب عنها. وقرأ زيد بن ثابت «نهلك» بنون العظمة من الإهلاك «القوم الفاسقين» بالنصب، وهذه الآية أعني قوله تعالى: كَأَنَّهُمْ إلى الآخر جاء في بعض الآثار ما يعشر بأن لها خاصية من بين آي هذه السورة.
أخرج الطبراني في الدعاء عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا طلبت حاجة وأحببت أن تنجح فقل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي العظيم لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحليم الكريم بسم الله الذي لا إله إلا هو الحي الحليم سبحان الله رب العرش العظيم الحمد لله رب العالمين كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها. كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون اللهم إني اسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والسلامة من كل إثم والغنيمة من كل بر والفوز بالجنة والنجاة من النار اللهم لا تدع لي ذنبا إلا غفرته ولا هما إلا فرجته ولا دينا إلا قضيته ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها برحمتك يا أرحم الراحمين»
.(13/192)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)
سورة محمّد
وتسمى سورة القتال، وهي مدنية عند الأكثرين ولم يذكروا استثناء، وعن ابن عباس وقتادة أنها مدنية إلا قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ [محمد: 13] إلى آخره فإنه صلّى الله عليه وسلّم لما خرج من مكة إلى الغار التفت إليها
وقال: «أنت أحب بلاد الله تعالى إلى الله وأنت أحب بلاد الله تعالى إليّ ولولا أن أهلك أخرجوني منك لم أخرج منك»
فأنزل الله تعالى ذلك فيكون مكيا بناء على أن ما نزل في طريق المدينة قبل أن يبلغها النبي صلّى الله عليه وسلّم. أعني ما نزل في سفر الهجرة. من المكي اصطلاحا كما يؤخذ من أثر أخرجه عثمان بن سعيد الدارمي بسنده إلى يحيى بن سلام، وعدة آيها أربعون في البصري وثمان وثلاثون في الكوفي وتسع بالتاء الفوقية وثلاثون فيما عداهما، والخلاف في قوله تعالى: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها [محمد: 4] وقوله تعالى: لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [محمد: 15] ولا يخفى قوة ارتباط أولها بآخر السورة قبلها واتصاله وتلاحمه بحيث لو سقطت من البين البسملة لكانا متصلا واحدا لا تنافر فيه كالآية الواحدة آخذا بعضه بعنق بعض، وكان صلّى الله عليه وسلّم على ما أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقرؤها في صلاة المغرب.
وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: نزلت سورة محمد آية فينا وآية في بني أمية
، ولا أظن صحة الخبر. نعم لكفار بني أمية الحظ الأوفر من عمومات الآيات التي في الكفار كما أن لأهل البيت رضي الله تعالى عنهم المعلى والرقيب من عمومات الآيات التي في المؤمنين، وأكثر من هذا لا يقال سوى أني أقول: لعن الله تعالى من قطع الأرحام وآذى الآل.(13/193)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي أعرضوا عن الإسلام وسلوك طريقه أو منعوا غيرهم عن ذلك على أن صد لازم أو متعد، قال في الكشف: والأول أظهر لأن الصد عن سبيل الله هو الإعراض عما أتى به محمد صلّى الله عليه وسلّم لقوله تعالى: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ [يوسف: 108] فيطابق قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وكثير من الآثار تؤيد الثاني، وفسر الضحاك سَبِيلِ اللَّهِ ببيت الله عز وجل، وقال: صدهم عنه منعهم قاصديه وليس بذلك.
والآية عامة لكل من اتصف بعنوان الصلة، وقال ابن عباس: هم أي الذين كفروا وصدوا على الوجه الثاني في صَدُّوا المطعمون يوم بدر الكبرى، وكأنه عنى من يدخل في العموم دخولا أوليا، فإن أولئك كانوا صادين بأموالهم وأنفسهم فصدهم أعظم من صد غيرهم ممن كفر وصد عن السبيل، وأول من أطعم منهم. على ما نقل عن سيرة ابن سيد الناس. أبو جهل عليه اللعنة نحر لكفار قريش حين خرجوا من مكة عشرا من الإبل، ثم صفوان بن أمية نحر تسعا بعسفان، ثم سهل بن عمرو نحر بقديد عشرا ثم شيبة بن ربيعة وقد ضلوا الطريق نحر تسعا ثم عتبة بن ربيعة نحر عشرا، ثم مقيس الجمحي بالأبواء نحر تسعا، ثم العباس نحر عشرا، والحرث بن عامر نحر تسعا، وأبو البختري على ماء بدر نحر عشرا، ومقيس تسعا ثم شغلتهم الحرب فأكلوا من أزوادهم، وقيل: كانوا ستة نفر نبيه ومنبه ابنا الحجاج وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل والحارث ابنا هشام، وضم مقاتل إليهم ستة أخرى وهم عامر بن نوفل. وحكيم بن حزام. وزمعة بن الأسود. والعباس بن عبد المطلب. وصفوان بن أمية. وأبو سفيان بن حرب أطعم كل واحد منهم يوما الأحابيش والجنود يستظهرون بهم على حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا ينافي عد أبي سفيان إن صحت الرواية من أولئك كونه مع العير لأن المراد بيوم بدر زمن وقعتها فيشمل من أطعم في الطريق وفي مدتها حتى انقضت، وقال مقاتل: هم اثنا عشر رجلا من أهل الشرك كانوا يصدون الناس عن الإسلام ويأمرونهم بالكفر، وقيل: هم شياطين من أهل الكتاب صدوا من أراد منهم أو من غيرهم عن الدخول في الإسلام.
والموصول مبتدأ خبره قوله تعالى: أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أي أبطلها وأحبطها وجعلها ضائعة لا أثر لها ولا نفع أصلا لا بمعنى أنه سبحانه أبطلها وأحبطها بعد أن لم تكن كذلك بل بمعنى أنه عز وجل حكم ببطلانها وضياعها وأريد بها ما كانوا يعملونه من أعمال البر كصلة الأرحام وقرى الأضياف وفك الأسارى وغيرها من المكارم.
وجوز أن يكون المعنى جعلها ضلالا أي غير هدى حيث لم يوفقهم سبحانه لأن يقصدوا بها وجهه سبحانه أو(13/194)
جعلها ضالة أي غير مهتدية على الإسناد المجازي، ومن قال الآية في المطعمين وأضرابهم قال: المعنى أبطل جلّ وعلا ما عملوه من الكيد لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كالإنفاق الذي أنفقوه في سفرهم إلى محاربته عليه الصلاة والسلام وغيره بنصر رسوله صلّى الله عليه وسلّم وإظهار دينه على الدين كله، ولعله أوفق بما بعده، وكذا بما قيل إن الآية نزلت ببدر.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قال ابن عباس فيما أخرجه عنه جماعة منهم الحاكم وصححه هم أهل المدينة الأنصار، وفسر رضي الله تعالى عنه الَّذِينَ كَفَرُوا بأهل مكة قريش، وقال مقاتل: هم ناس من قريش، وقيل:
مؤمنو أهل الكتاب، وقيل: أعم من المذكورين وغيرهم فإن الموصول من صيغ العموم ولا داعي للتخصيص وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ من القرآن، وخص بالذكر الإيمان بذلك مع اندراجه فيما قبله تنويها بشأنه وتنبيها على سمو مكانه من بين سائر ما يجب الإيمان به وانه الأصل في الكل ولذلك أكد بقوله تعالى: وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وهو جملة معترضة بين المبتدأ والخبر مفيدة لحصر الحقية فيه على طريقة الحصر في قوله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ وقولك: حاتم الجواد فيراد بالحق ضد الباطل، وجوز أن يكون الحصر على ظاهره والحق الثابت، وحقية ما نزل عليه عليه الصلاة والسلام لكونه ناسخا لا ينسخ وهذا يقتضي الاعتناء به ومنه جاء التأكيد، وأيا ما كان فقوله تعالى مِنْ رَبِّهِمْ حال من ضمير الْحَقُّ وقرأ زيد بن علي. وابن مقسم «نزل» مبنيا للفاعل. والأعمش «أنزل» معدى بالهمزة مبنيا للمفعول، وقرىء «أنزل» بالهمز مبنيا للفاعل «ونزل» بالتخفيف كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي سترها بالإيمان والعمل الصالح، والمراد إزالها ولم يؤاخذهم بها وَأَصْلَحَ بالَهُمْ أي حالهم في الدين والدنيا بالتوفيق والتأييد، وتفسير البال بالحال مروي عن قتادة وعنه تفسيره بالشأن وهو الحال أيضا أو ما له خطر، وعليه قول الراغب: البال الحال التي يكترث بها، ولذلك يقال: ما باليت بكذا بالة أي ما اكترثت به، ومنه
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «كل أمر ذي بال» الحديث
ويكون بمعنى الخاطر القلبي ويتجوز به عن القلب كما قال الشهاب. وفي البحر حقيقة البال الفكر والموضع الذي فيه نظر الإنسان وهو القلب ومن صلح قلبه صلحت حاله، فكأن اللفظ مشير إلى صلاح عقيدتهم وغير ذلك من الحال تابع له، وحكى عن السفاقسي تفسيره هنا بالفكر وكأنه لنحو ما أشير إليه، وهو كما في البحر أيضا مما لا يثنى ولا يجمع وشذ قولهم في جمعه بآلات ذلِكَ إشارة إلى ما مر من الإضلال والتكفير والإصلاح وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ أي ذلك كائن بسبب اتباع الأولين الباطل واتباع الآخرين الحق والمراد بالحق والباطل معناهما المشهور.
وأخرج ابن المنذر. وغيره عن مجاهد تفسير الْباطِلَ بالشيطان. وفي البحر قال مجاهد: الباطل الشيطان وكل ما يأمر به والْحَقَّ هو الرسول والشرع، وقيل: الباطل ما لا ينتفع به، وجوز الزمخشري كون ذلك خبر مبتدأ محذوف وبِأَنَّ إلخ في محل نصب على الحال، والتقدير الأمر ذلك أي كما ذكر ملتبسا بهذا السبب.
والعامل في الحال إما معنى الإشارة وإما نحو أثبته وأحقه فإن الجملة تدل على ذلك لأنه مضمون كل خبر وتعقبه أبو حيان بأن فيه ارتكابا للحذف من غير داع له، والجار والمجرور أعني مِنْ رَبِّهِمْ في موضع الحال على كل حال، والكلام أعني قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ إلى قوله سبحانه: مِنْ رَبِّهِمْ تصريح بما أشعر به الكلام السابق من السببية لما فيه من البناء على الموصول، ويسميه علماء البيان التفسير، ونظيره ما أنشده الزمخشري لنفسه:
به فجع الفرسان فوق خيولهم ... كما فجعت تحت الستور العواتق
تساقط من أيديهم البيض حيرة ... وزعزع عن أجيادهن المخانق
فإن فيه تفسيرا على طريق اللف والنشر كما في الآية وهو من محاسن الكلام كَذلِكَ أي مثل ذلك الضرب(13/195)
البديع يَضْرِبُ اللَّهُ أي يبين لِلنَّاسِ أي لأجلهم أَمْثالَهُمْ أي أحوال الفريقين المؤمنين والكافرين وأوصافهما الجارية في الغرابة مجرى الأمثال، وهي اتباع المؤمنين الحق وفوزهم وفلاحهم، واتباع الكافرين الباطل وخيبتهم وخسرانهم، وجوز أن يراد بضرب الأمثال التمثيل والتشبيه بأن جعل سبحانه اتباع الباطل مثلا لعمل الكفار والإضلال مثلا لخيبتهم واتباع الحق مثلا لعمل المؤمنين وتكفير السيئات مثلا لفوزهم والإشارة بذلك لما تضمنه الكلام السابق، وجوز كون ضمير أَمْثالَهُمْ للناس والفاء في قوله تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لترتيب ما في حيزها من الأمر على ما قبلها فإن ضلال أعمال الكفرة وخيبتهم وصلاح أحوال المؤمنين وفلاحهم مما يوجب أن يترتب على كل من الجانبين ما يليق به من الأحكام أي إذا كان الأمر كذلك فإذا لقيتموهم في المحارب فَضَرْبَ الرِّقابِ وقال الزمخشري: لَقِيتُمُ من اللقاء وهو الحرب و (ضرب) نصب على المصدرية لفعل محذوف والأصل اضربوا الرقاب ضربا فحذف الفعل وقدم المصدرية وأنيب منابه مضافا إلى المفعول، وحذف الفعل الناصب في مثل ذلك بما أضيف إلى معموله واجب، وهو أحد مواضع يجب فيها الحذف ذكرت في مطولات كتب النحو، وليس منها نحو ضربا زيدا على ما نص عليه ابن عصفور.
وذكر غير واحد أن فيما ذكر اختصارا وتأكيدا ولا كلام في الاختصار، وأما التأكيد فظاهر القول به أن المصدر بعد حذف عامله مؤكد، وقال الحمصي في حواشي التصريح: إن المصدر في ذلك مؤكد في الأصل وأما الآن فلا لأنه صار بمنزلة الفعل الذي سد هو مسده فلا يكون مؤكدا بل كل مصدر صار بدلا من اللفظ بالفعل لا يكون مؤكدا ولا مبينا لنوع ولا عدد، وضرب الرِّقابِ مجاز مرسل عن القتل، وعبر به عنه إشعارا بأنه ينبغي أن يكون بضرب الرقبة حيث أمكن وتصويرا له بأشنع صورة لأن ضرب الرقبة فيه إطارة الرأس الذي هو أشرف أعضاء البدن ومجمع حواسه وبقاء البدن ملقى على هيئة منكرة والعياذ بالله تعالى، وذكر أن في التعبير المذكور تشجيع المؤمنين وأنهم منهم بحيث يتمكنون من القتل بضرب أعناقهم في الحرب حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ أي أوقعتم القتل بهم بشدة وكثرة على أن ذلك مستعار من ثخن المائعات لمنعه عن الحركة، والمراد حتى إذا أكثرتم قتلهم وتمكنتم من أخذ من لم يقتل فَشُدُّوا الْوَثاقَ أي فأسروهم واحفظوهم، فالشد وكذا ما بعد في حق من أسر منهم بعد اثخانهم لا للمثخن إذ هو بالمعنى السابق لا يشد ولا يمن عليه ولا يفدى لأنه قد قتل أو المعنى حتى إذا أثقلتموهم بالجراح ونحوه بحيث لا يستطيعون النهوض فأسروهم واحفظوهم فالشد وكذا ما بعد في حق المثخن لأنه بهذا المعنى هو الذي لم يصل إلى حد القتل لكن ثقل عن الحركة فصار كالشيء الثخين الذي لم يسل ولم يستمر في ذهابه، والإثخان عليه مجاز أيضا، والْوَثاقَ في الأصل مصدر كالخلاص وأريد به هنا ما يوثق به. وقرىء «الوثاق» بالكسر وهو اسم لذلك، ومجيء فعال اسم آلة كالحزام والركاب نادر على خلاف القياس، وظاهر كلام البعض أن كلا من المفتوح والمكسور اسم لما يوثق به، ولعل المراد بيان المراد هنا.
فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً أي فإما تمنون منا وإما تفدون فداء، والكلام تفصيل لعاقبة مضمون ما قبله من شد الوثاق، وحذف الفعل الناصب للمصدر في مثل ذلك واجب أيضا، ومنه قوله:
لأجهدن فإما درء واقعة ... تخشى وإما بلوغ السؤل والأمل
وجوز أبو البقاء كون كل من مَنًّا وفِداءً مفعولا به لمحذوف أي أولوهم منّا أو اقبلوا منهم فداء، وليس كما قال أبو حيان إعراب نحوي. وقرأ ابن كثير في رواية شبل «وإمّا فدى» بالفتح والقصر كعصا. وزعم أبو حاتم أنه لا يجوز قصره لأنه مصدر فأديته، قال الشهاب: ولا عبرة به فإن فيه أربع لغات الفتح والكسر مع المد والقصر ولغة(13/196)
خامسة البناء مع الكسر كما حكاه الثقات انتهى، وفي الكشف نقلا عن الصحاح الفداء إذا كسر أوله يمد ويقصر وإذا فتح فهو مقصور. ومن العرب من يكسر الهمزة أي يبنيه على الكسر إذا جاوز لام الجر خاصة لأنه اسم فعل بمعنى الدعاء، وأنشد الأصمعي بيت النابغة مهلا فداء لك. وهذا الكسر مع التنوين كما صرح به في البحر، وظاهر الآية. على ما ذكره السيوطي في أحكام القرآن العظيم. امتناع القتل بعد الأسر وبه قال الحسن. وأخرج ابن جرير. وابن مردويه عنه أنه قال: أتى الحجاج بأسارى فدفع إلى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما رجلا يقتله فقال ابن عمر: ليس بهذا أمرنا إنما قال الله تعالى: حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً وفي حكم الأسارى خلاف فذهب الأكثرون إلى أن الإمام بالخيار إن شاء قتلهم إن لم يسلموا لأنه صلّى الله عليه وسلّم قتل صبرا عقبة بن أبي معيط وطعيمة بن عدي والنضر بن الحرث التي قالت فيه أخته أبياتا منها تخاطب النبي صلّى الله عليه وسلّم:
ما كان ضرك لو مننت وربما ... منّ الفتى وهو المغيظ المحنق
ولأن في قتلهم حسم مادة فسادهم بالكلية، وليس لواحد من الغزاة أن يقتل أسيرا بنفسه فإن فعل بلا ملجىء كخوف شر الأسير كان للإمام أن يعزره إذا وقع على خلاف مقصوده ولكن لا يضمن شيئا، وإن شاء استرقهم لأن فيه دفع شرهم مع وفور المصلحة لأهل الإسلام، وإن شاء تركهم ذمة أحرارا للمسلمين كما فعل عمر رضي الله تعالى عنه ذلك في أهل السواد إلا أسارى مشركي العرب والمرتدين فإنهم لا تقبل منهم جزية ولا يجوز استرقاقهم بل الحكم فيهم إما الإسلام أو السيف، وإن أسلم الأسارى بعد الأسر لا يقتلهم لاندفاع شرهم بالإسلام، ولكن يجوز استرقاقهم فإن الإسلام لا ينافي الرق جزاء على الكفر الأصلي وقد وجد بعد انعقاد سبب الملك وهو الاستيلاء على الحربي غير المشرك من العرب، بخلاف ما لو أسلموا من قبل الأخذ فإنهم يكونون أحرارا لأنه إسلام قبل انعقاد سبب الملك فيهم، ولا يفادى بالأسارى في إحدى الروايتين عن الإمام أبي جنيفة رضي الله تعالى عنه لما في ذلك من معونة الكفر لأنه يعود الأسير الكافر حربا علينا، ودفع شر حرابته خير من استنقاذ المسلم لأنه إذا بقي في أيديهم كان ابتلاء في حقه فقط، والضرر بدفع أسيرهم إليهم يعود على جماعة المسلمين.
والرواية الأخرى عنه أنه يفادى وهو قول محمد وأبي يوسف والإمام الشافعي ومالك وأحمد إلا بالنساء فإنه لا يجوز المفاداة بهن عندهم، ومنع أحمد المفاداة بصبيانهم، وهذه رواية السير الكبير، قيل: وهو أظهر الروايتين عن الإمام أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: تجوز المفاداة بالأسارى قبل القسمة لا بعدها، وعند محمد تجوز بكل حال.
ووجه ما ذكره الأئمة من جواز المفاداة أن تخليص المسلم أولى من قتل الكافر للانتفاع به ولأن حرمته عظيمة وما ذكر من الضرر الذي يعود إلينا بدفعه إليهم يدفعه ظاهرا المسلم الذي يتخلص منهم لأنه ضرر شخص واحد فيقوم بدفعه واحد مثله ظاهرا فيتكافئان وتبقى فضيلة تخليص المسلم وتمكينه من عبادة الله تعالى فإن فيها زيادة ترجيح.
ثم إنه قد ثبت ذلك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخرج مسلم وأبو داود والترمذي وعبد بن حميد وابن جرير عن عمران ابن حصين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين ويحتج لمحمد بما
أخرجه مسلم أيضا عن إياس بن سلمة عن أبيه سلمة قال: خرجنا مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه أمره علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أن قال فلقيني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الغد في السوق فقال: يا سلمة هب لي المرأة يعني التي نفله أبو بكر إياها. فقلت: يا رسول الله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوبا، ثم لقيني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الغد في السوق فقال: «يا سلمة هب لي المرأة لله أبوك» فقلت: هي لك يا رسول الله فو الله ما كشفت لها ثوبا فبعث بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ففدى بها ناسا من المسلمين أسروا بمكة
، ولا يفادى بالأسير إذا أسلم وهو بأيدينا لأنه لا يفيد إلا إذا طابت نفسه وهو مأمون على إسلامه فيجوز لأنه(13/197)
يفيد تخليص مسلم من غير إضرار بمسلم آخر، وأما المفاداة بمال فلا تجوز في المشهور من مذهب الحنفية لما بين في المفاداة بالمسلمين من ردهم حربا علينا. وفي السير الكبير أنه لا بأس به إذا كان بالمسلمين حاجة. قيل: استدلالا بأسارى بدر فإنه لا شك في احتياج المسلمين بل في شدة حاجتهم إذ ذاك فليكن محمل المفاداة الكائنة في بدر بالمال. وأما المن على الأسارى وهو أن يطلقهم إلى دار الحرب من غير شيء فلا يجوز عند أبي حنيفة ومالك وأحمد، وأجازه الإمام الشافعي لأنه صلّى الله عليه وسلّم من على جماعة من أسرى بدر منهم أبو العاص بن أبي الربيع على ما ذكره ابن اسحق بسنده.
وأبو دواد من طريقه إلى عائشة لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في فداء أبي العاص بمال وبعثت فيه بقلادة كانت خديجة أدخلته بها على أبي العاص حين بنائه عليها فلما رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك رق لها رقة شديدة وقال لأصحابه: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا لها الذي لها» ففعلوا ذلك مغتبطين به، ورواه الحاكم وصححه وزاد «وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أخذ عليه أن يخلي زينب إليه ففعل»
ومنّ صلّى الله عليه وسلّم على ثمامة بن أثال ابن النعمان الحنفي سيد أهل اليمامة ثم أسلم وحسن إسلامه، وحديثه في صحيح مسلم عن أبي هريرة، ويكفي ما
ثبت في صحيح البخاري من قوله عليه الصلاة والسلام: «لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى- يعني أسارى بدر- لتركتهم له»
فإنه صلّى الله عليه وسلّم أخبر وهو الصادق المصدوق بأنه يطلقهم لو سأله المطعم، والإطلاق على ذلك التقدير لا يثبت إلا وهو جائز شرعا لمكان العصمة، وكونه لم يقع لعدم وقوع ما علق عليه لا ينفي جوازه شرعا.
واستدل أيضا بالآية التي تحت فيها فإن الله تعالى خير فيها بين المن والفداء، والظاهر إن المراد بالمن الإطلاق مجانا وكون المراد المن عليهم بترك القتل وإبقاءهم مسترقين أو تخليتهم لقبول الجزية وكونهم من أهل الذمة خلاف الظاهر، وبعض النفوس يجد طعم الالاء أحلى من هذا المن. وأجاب بعض الحنفية بأن الآية منسوحة بقوله تعالى:
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] من سورة براءة فإنه يقتضي عدم جواز المن وكذا عدم جواز الفداء وهي آخر سورة نزلت في هذا الشأن، وزعم أن ما وقع من المن والفداء إنما كان في قضية بدر وهي سابقة عليها وإن كان شيء من ذلك بعد بدر فهو أيضا قبل السورة.
والقول بالنسخ جاء عن ابن عباس وقتادة والضحاك ومجاهد في روايات ذكرها الجلال السيوطي في الدر المنثور، وقال العلامة ابن الهمام: قد يقال إن ذلك- يعني ما في سورة براءة- في حق غير الأسارى بدليل جواز الاسترقاق فيهم فيعلم أن القتل المأمور به في حق غيرهم، وما ذكره في جواز الاسترقاق ليس على إطلاقه إذ لا يجوز كما علمت استرقاق مشركي العرب حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها أي آلاتها وأثقالها من السلاح وغيره، قال الأعشى:
وأعددت للحرب أوزارها ... رماحا طوالا وخيلا ذكورا
ومن نسج داود موضونة ... تساق إلى الحرب عيرا فعيرا
وهي في الأصل الأحمال فاستعيرت لما ذكر استعارة تصريحية، ويجوز أن يكون في الْحَرْبُ استعارة مكنية بأن تشبه بإنسان يحمل حملا على رأسه أو ظهره ويثبت لها ما أثبت تخييلا، وكلام الكشاف أميل إليه، وقيل:
هي أحمال المحارب أضيفت للحرب تجوزا في النسبة الإضافية وتغليبا لها على الكراع، وإسناد الوضع للحرب مجاري أيضا وليس بذاك. وعد بعض الأماثل الكلام تمثيلا، والمراد حتى تنقضي الحرب وقال: يجوز أن يكون إرادة ذلك من باب المجاز المتفرع على الكناية كما في قوله: فألقت عصاها واستقر بها النوى. فإنه كنى به عن انقضاء السفر والإقامة، قيل: الأوزار جمع وز بمعنى إثم وهو هنا الشرك والمعاصي، و «تضع» بمعنى تترك مجازا، وإسناده(13/198)
للحرب مجاز أو بتقدير مضاف، والمعنى حتى يضع أهل الحرب شركهم ومعاصيهم، وفيه أنه لا يستحسن إضافة الأوزار بمعنى الآثام إلى الحرب، وحَتَّى عند الشافعي عليه الرحمة ومن قال نحو قوله: غاية للضرب، والمعنى اضربوا أعناقهم حتى تنقضي الحرب، وليس هذا بدلا من الأول ولا تأكيدا له بناء على ما قرروه من أن حتى الداخلة على إذا الشرطية ابتدائية أو غاية للشد أو للمن والفداء معا أو للمجموع من قوله تعالى: فَضَرْبَ الرِّقابِ إلخ بمعنى أن هذه الأحكام جارية فيهم حتى لا يكون حرب مع المشركين بزوال شوكتهم، وقيل: بنزول عيسى عليه السلام، وروي ذلك عن سعيد بن جبير. والحسن،
وفي الحديث ما يؤيده أخرج أحمد والنسائي وغيرهما عن سلمة بن نفيل قال: بينما أنا جالس عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ جاء رجل فقال: يا رسول الله إن الخيل قد سيبت ووضع السلاح وزعم أقوام أن لا قتال وإن قد وضعت الحرب أوزارها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كذبوا فالآن جاء القتال ولا تزال طائفة من أمتي يقاتلون في سبيل الله لا يضرهم من خالفهم يزيغ الله تعالى قلوب قوم ليرزقهم منهم وتقاتلون حتى تقوم الساعة ولا تزال الخيل معقودا في نواصيها الخير حتى تقوم الساعة ولا تضع الحرب أوزارها حتى يخرج يأجوج ومأجوج»
وهي عند من يقول: لا منّ ولا فداء اليوم غاية للمن والفداء إن حمل على الحرب على حرب بدر بجعل تعريفه للعهد، والمعنى المن عليهم ويفادون حتى تضع حرب بدر أوزارها، وغاية للضرب والشد إن حملت على الجنس، والمعنى أنهم يقتلون ويؤسرون حتى تضع جنس الحرب أوزارها بأن لا يبقى للمشركين شوكة، ولا تجعل غاية للمن والفداء مع إرادة الجنس.
وفي زعم جوازه والتزام النسخ كلام فتأمل ذلِكَ أي الأمر ذلك أو افعلوا ذلك فهو في محل رفع خبر مبتدأ محذوف أو في محل نصب مفعول لفعل كذلك، والإشارة إلى ما دل عليه قوله تعالى: فَضَرْبَ الرِّقابِ إلخ لا إلى ما تقدم من أول السورة إلى هاهنا لأن افعلوا لا يقع على جميع السالف وعلى الرفع ينفك النظم الجليل إن لم يحمل عليه لأن ما بعد كلام فيهم وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ لانتقم منهم ببعض أسباب الهلاك من خسف أو رجفة أو غرق أو موت جارف وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ولكن أمركم سبحانه بالقتال ليبلو المؤمنين بالكافرين بأن يجاهدوهم فينالوا الثواب ويخلد في صحف الدهر ما لهم من الفضل الجسيم والكافرين بالمؤمنين بأن يعاجلهم عزّ وجلّ ببعض انتقامه سبحانه فيتعظ به بعض منهم ويكون سببا لإسلامه واللام متعلقة بالفعل المقدر الذي ذكرناه وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي استشهدوا.
وقرأ الجمهور «قاتلوا» أي جاهدوا، والجحدري بخلاف عنه «قتلوا» بفتح القاف والتاء بلا ألف، وزيد بن ثابت والحسن وأبو رجاء وعيسى والجحدري أيضا «قتّلوا» بالبناء للمفعول وشد التاء.
فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ فلن يضيعها سبحانه،
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه «يضلّ» مبنيا للمفعول
«أعمالهم» بالرفع على النيابة عن الفاعل. وقرىء «يضلّ» بفتح الياء من ضل «أعمالهم» بالرفع على الفاعلية. والآية قال قتادة: كما
أخرجه عنه ابن جرير. وابن أبي حاتم ذكر لنا أنها نزلت في يوم أحد ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الشعب وقد فشت فيهم الجراحات والقتل وقد نادى المشركون يومئذ أعل هبل ونادى المسلمون الله أعلى وأجل فنادى المشركون يوم بيوم بدر وان الحرب سجال لنا عزى ولا عزى لكم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الله مولانا ولا مولى لكم إن القتلى مختلفة أما قتلانا فأحياء مرزوقون وأما قتلاكم ففي النار يعذبون»
ومنه يعلم وجه قراءة «قتلوا» بصيغة التفعيل سَيَهْدِيهِمْ سيوصلهم إلى ثواب تلك الأعمال من النعيم المقيم والفضل العظيم، وهذا كالبيان لقوله سبحانه: فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ أو سيثبت جلّ شأنه في الدنيا هدايتهم، والمراد الوعد بأن يحفظهم سبحانه ويصونهم عما يورث الضلال وحبط الأعمال، وهو كالتعليل لذلك، ويجوز أن يكون كالبيان له أيضا.(13/199)
وَيُصْلِحُ بالَهُمْ أي شأنهم، قال الطبرسي: المراد إصلاح ذلك في العقبى فلا يتكرر مع ما تقدم لأن المراد به إصلاح شأنهم في الدين والدنيا فلا تغفل وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ في موضع الحال بتقدير قد أو بدونه أو استئناف كما قال أبو البقاء، والتعريف في الآخرة. أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد أنه قال: يهدي أهل الجنة إلى بيوتهم ومساكنهم وحيث قسم الله تعالى لهم منها لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خلقوا لا يستدلون عليها أحدا،
وفي الحديث «لأحدكم بمنزله في الجنة أعرف منه بمنزله في الدنيا»
وذلك بإلهام منه عزّ وجلّ، وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل أنه قال: بلغنا أن الملك الذي كان وكل بحفظ عمل الشخص في الدنيا يمشي بين يديه في الجنة ويتبعه الشخص حتى يأتي أقصى منزل هو له فيعرفه كل شيء أعطاه الله تعالى في الجنة فإذا انتهى إلى أقصى منزله في الجنة دخل إلى منزله وأزواجه وانصرف الملك عنه.
وورد في بعض الآثار أن حسناته تكون دليلا إلى منزله فيها، وقيل: إنه تعالى رسم على كل منزل اسم صاحبه وهو نوع من التعريف، وقيل: تعريفها تحديدها يقال: عرف الدار وأرفها أي حددها أي حددها لهم بحيث يكون لكل جنة مفرزة، وقيل: أي شرفها لهم ورفعها وعلاها على أن عرفها من الأعراف التي هي الجبال وما أشبهها، وعن ابن عباس في رواية عطاء. وروي عن مؤرج أي طيبها لهم على أنه من العرف وهو الريح الطيبة هاهنا، ومنه طعام معرف أي مطيب، وعرفت القدر طيبتها بالملح والتابل، وعن الجبائي أن التعريف في الدنيا وهو بذكر أوصافها، والمراد أنه تعالى لم يزل يمدحها لهم حتى عشقوها فاجتهدوا فيما يوصلهم إليها:
والأذن تعشق قبل العين أحيانا وعلى هذا المراد قيل:
اشتقاقه من قبل رؤيته كما ... تهوى الجنان بطيّب الأخبار
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ أي دينه ورسوله صلّى الله عليه وسلّم لا على أن الكلام على تقدير مضاف بل على أن نصرة الله فيه تجوز في النسبة فنصرته سبحانه نصرة رسوله ودينه إذ هو جل شأنه وعلا المعين الناصر وغيره سبحانه المعان المنصور يَنْصُرْكُمْ على أعدائكم ويفتح لكم وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ في مواطن الحرب ومواقفها أو على محجة الإسلام، والمراد يقويكم أو يوفقكم للدوام على الطاعة.
وقرأ المفضل عن عاصم «ويثبت» مخففا وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ من تعس الرجل بفتح العين تعسا أي سقط على وجهه، وضده انتعش أي قام من سقوطه. وقال شمر وابن شميل وأبو الهيثم وغيرهم: تعس بكسر العين، ويقال: تعسا له ونكسا على أن الأول. كما قال ابن السكيت. بمعنى السقوط على الوجه والثاني بمعنى السقوط على الرأس، وقال الحمصي في حواشيه على التصريح: تعس تعسا أي لا انتعش من عثرته ونكسا بضم النون وقد تفتح إما في لغة قليلة وإما اتباعا لتعسا، والنكس بالضم عود المرض بعد النقه، ويراد بذلك الدعاء، وكثر في الدعاء على العاثر تعسا له، وفي الدعاء له لعا له أي انتعاشا وإقامة، وأنشدوا قول الأعشى يصف ناقة:
كلفت مجهولة نفسي وشايعني ... همي عليها إذا ما آلها لمعا
بذات لوث عفرناة إذا عثرت ... فالتعس أولى لها من أن أقول لعا
وقال ثعلب وابن السكيت أيضا: التعس الهلاك، ومنه قول مجمع بن هلال:
تقول وقد أفردتها من حليلها ... تعست كما أتعستني يا مجمع(13/200)
وفي القاموس التعس الهلاك والعثار والسقوط والشر والبعد والانحطاط والفعل كمنع وسمع أو إذا خاطبت قلت:
تعست كمنع وإذا حكيت قلت: تعس كسمع، ويقال: تعسه الله تعالى وأتعسه ورجل تاعس وتعس، وانتصابه على المصدر بفعل من لفظه يجب إضماره لأنه للدعاء كسقيا ورعيا فيجري مجرى الأمثال إذا قصد به ذلك، والجار والمجرور بعده متعلق بمقدر للتبيين عند كثير أي أعني له مثلا فنحو تعسا له جملتان. وذهب الكوفيون إلى أنه كلام واحد، ولابن هشام كلام في هذا الجار مذكور في بحث لام التبيين فلينظر هناك.
واختلفت العبارات في تفسير ما في الآية الكريمة، فقال ابن عباس: أي بعدا لهم. وابن جريج. والسدي أي حزنا لهم، والحسن أي شتما لهم، وابن زيد أي شقاء لهم، والضحاك أي رغما لهم، وحكى النقاش تفسيره بقبحا لهم، وقال غير واحد: أي عثورا وانحطاطا لهم، وما ألطف ذكر ذلك في حقهم بعد ذكر تثبيت الأقدام في حق المؤمنين، وفي رواية عن ابن عباس يريد في الدنيا القتل وفي الآخرة التردي في النار، وأكثر الأقوال ترجع إلى الدعاء عليهم بالهلاك.
وجوز الزمخشري في إعرابه وجهين: الأول كونه مفعولا مطلقا لفعل محذوف كما تقدم. والثاني مفعولا به لمحذوف أي فقضى تعسا لهم، وقدر على الأول القول أي فقال: تعسا لهم، والذي دعاه لذلك على ما قيل جعل الَّذِينَ مبتدأ والجملة المقرونة بالفاء خبرا له وهي لا نشاء الدعاء. والإنشاء لا يقع خبرا بدون تأويل، فإما أن يقدر معها قول أو تجعل خبرا بتقدير قضى، وجعل قوله تعالى: وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ عطفا على ما قدر.
وفي الكشف المراد من قال: تعسا لهم أهلكهم الله لا أن ثم دعاء وقولا، وذلك لأنه لا يدعي على شخص إلا وهو مستحق له فإذا أخبر تعالى أنه يدعو عليه دل على تحقق الهلاك لا سيما وظاهر اللفظ أن الدعاء منه عزّ وجلّ، وهذا مجاز على مجاز أعني أن القول مجاز وكذلك الدعاء بالتعس، ولم يجعل العطف على (تعسا) لأنه دعاء، وأَضَلَّ إخبار، ولو جعل دعاء أيضا عطفا على (تعسا) على التجوز المذكور لكان له وجه انتهى. وأنت تعلم أن اعتبار ما اعتبره الزمخشري ليس لأجل أمر العطف فقط بل لأجل أمر الخبرية أيضا، فإن قيل بصحة الأخبار بالجملة الإنشائية من غير تأويل استغنى عما قاله بالكلية، ودخلت الفاء في خبر الموصول لتضمنه معنى الشرط.
وجوز أن يكون الموصول في محل نصب على المفعولية لفعل مقدر يفسره الناصب- لتعسا- أي أتعس الله الذين كفروا أو تعس الله الذين كفروا تعسا لما سمعت عن القاموس وقد حكي عن أبي عبيدة، والفاء زائدة في الكلام كما في قوله تعالى: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر: 3] ويزيدها العرب في مثل ذلك على توهم الشرط، وقيل: يقدر الفعل مضارعا معطوفا على قوله تعالى: يُثَبِّتْ أي ويتعس الذين إلخ. والفاء للعطف فالمراد اتعاس بعد اتعاس، ونظيره قوله تعالى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة: 40] أو لأن حق المفسر أن يذكر عقب المفسر كالتفصيل بعد الإجمال، وفيه مقال.
ذلِكَ أي ما ذكر من التعس والإضلال بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ من القرآن لما فيه من التوحيد وسائر الأحكام المخالفة لما ألفوه واشتهته أنفسهم الأمارة بالسوء، وهذا تخصيص وتصريح بسببية الكفر بالقرآن للتعس والإضلال إذ قد علم من قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلخ سببية مطلق الكفر الداخل فيه الكفر بالقرآن دخولا أوليا لذلك فَأَحْبَطَ لأجل ذلك أَعْمالَهُمْ التي لو كانوا عملوها التي لو كانوا عملوها مع الإيمان لأثيبوا عليها، وذكر الإحباط مع ذكر الإضلال المراد هو منه إشعارا بأنه يلزم الكفر بالقرآن ولا ينفك عنه بحال أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي أقعدوا في أماكنهم فلم يسيروا فيها فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم المكذبة فإن آثار ديارهم تنبىء عن أخبارهم، وقوله تعالى: دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ استئناف بياني كأنه قيل: كيف كانت(13/201)
عاقبتهم؟ فقيل: أهلك ما يختص بهم من النفس والأهل والمال يقال: دمره أهلكه دمر عليه أهلك ما يختص به فدمر عليه أبلغ من دمره، وجاءت المبالغة من حذف المفعول وجعله نسيا منسيا والإتيان بكلمة الاستعلاء وهي لتضمن التدمير معنى الإيقاع أو الهجوم أو نحوه وَلِلْكافِرِينَ أي لهؤلاء الكافرين السائرين سيرتهم أَمْثالُها أمثال عاقبتهم أو عقوبتهم لدلالة ما سبق عليها لكن لا على أن لهؤلاء أمثال ما لأولئك وأضعافه بل مثله، وإنما جمع باعتبار مماثلته لعواقب متعددة حسب تعدد الأمم المعذبة، وقيل: يجوز أن يكون عذابهم أشد من عذاب الأولين وقد قتلوا وأسروا بأيدي من كانوا يستخفونهم ويستضعفونهم، والقتل بيد المثل أشد من الهلاك بسبب عام، وقيل: المراد بالكافرين المتقدمون بطريق وضع الظاهر موضع الضمير كأنه قيل: دمر الله تعالى عليهم في الدنيا ولهم الآخرة أمثالها ذلِكَ إشارة إلى ثبوت أمثال عاقبة أو عقوبة الأمم السالفة لهؤلاء، وقيل: إشارة إلى النصر وهو كما ترى بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا أي ناصرهم على أعدائهم، وقرىء «ولي الذين آمنوا» وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ فيدفع ما حل بهم من العقوبة والعذاب، ولا يناقض هذا قوله تعالى: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ [يونس: 30] لأن المولى هناك بمعنى المالك فلم يتوارد النفي والإثبات على معنى واحد.
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ بيان لحكم ولايته تعالى لهم وثمرتها الأخروية وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ أي ينتفعون بمتاع الدنيا أياما قلائل وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ الكاف في موضع نصب إما على الحال من ضمير المصدر كما يقول سيبويه أي يأكلونه أي الأكل مشبها أكل الأنعام، وإما على أنه نعت لمصدر محذوف كما يقول أكثر المعربين أي أكلا مثل أكل الأنعام، والمعنى أن أكلهم مجرد من الفكر والنظر كما تقول للجاهل تعيش كما تعيش البهيمة لا تريد التشبيه في مطلق العيش ولكن في خواصه ولوازمه، وحاصله أنهم يأكلون غافلين عن عواقبهم ومنتهى أمورهم، وقوله تعالى: وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ أي موضع إقامة لهم، حال مقدر من واو يَأْكُلُونَ.
وجوز أن يكون استئنافا وكان قوله تعالى: يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ في مقابلة قوله سبحانه: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لما فيه من الإيماء إلى أنهم عرفوا أن نعيم الدنيا خيال باطل وظل زائل، فتركوا الشهوات وتفرغوا للصالحات، فكان عاقبتهم النعيم المقيم في مقام كريم وهؤلاء غفلوا عن ذلك فرتعوا في دمنهم كالبهائم حتى ساقهم الخذلان إلى مقرهم من درك النيران، وهذا ما ذكره العلامة الطيبي في بيان التقابل بين الآيتين، وقال بعض الأجلة: في الكلام احتباك وذلك أنه ذكر الأعمال الصالحة ودخول الجنة أولا دليلا على حذف الأعمال الفاسدة ودخول النار ثانيا وذكر التمتع والمثوى ثانيا دليلا على حذف التقلل والمأوى أولا والأول أحسن وأدق، وأسند إدخال الجنة إلى الله تعالى ولم يسلك نحو هذا المسلك في قوله تعالى: وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وخولف بين الجملتين فعلية واسمية للإيذان بسبق الرحمة والإعلام بمصير المؤمنين والوعد بأن عاقبتهم أن الله سبحانه يدخلهم جنات وأن الكافرين مثواهم النار وهم الآن حاضرون فيها ولا يدرون وكالبهائم يأكلون.
وَكَأَيِّنْ بمعنى كم الخبرية وهي مبتدأ، وقوله تعالى: مِنْ قَرْيَةٍ تمييز لها، وقوله سبحانه: هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ صفة لقرية كما أن قوله عزّ وجلّ: الَّتِي أَخْرَجَتْكَ صفة لقريتك، وقد حذف عنهما المضاف وأجري أحكامه عليهما كما يفصح عنه الخبر الذي هو قوله تعالى: أَهْلَكْناهُمْ أي وكم من أهل قرية هم أشد قوة من أهل قريتك الذين أخرجوك أهلكناهم بأنواع العذاب، وجوز أن لا يكون هناك حذف وإنما أطلق المحل وأريد الحال مجازا، وإسناد الإخراج إلى أهل قريته صلّى الله عليه وسلّم وهي مكة المكرمة مجاز من باب الإسناد إلى السبب لأنهم عاملوه صلّى الله عليه وسلّم بما عاملوه(13/202)
فكانوا بذلك سببا لإخراجه حين أذن الله تعالى عليه الصلاة والسلام بالهجرة منها، ونظير ذلك أقدمني بلدك حق لي عليك. وأنت تعلم أنه على ما حققه الأجلة يحتمل أوجها ثلاثة، مجازا في الإسناد إذا كان الإقدام مستعملا في معناه الذي وضع له وإن كان موهوما. ومجازا في الطرف إذا كان مستعملا في معنى الحمل على القدوم. واستعارة بالكناية إن كان الحق مستعملا في المقدم، والشيخ يقول في مثل ذلك: إن الفعل المتعدي موهوم لا فاعل له ليصير الإسناد إليه حقيقة فلا إقدام مثلا في قصد المتكلم وإنما هو تصوير القدوم بصورة الإقدام، وإسناده إلى الحق المصور بصورة المقدم مبالغة في كونه داعيا للقدوم، وارتضاه السالكوتي في حواشي شرح مختصر التلخيص وذب عنه القال والقيل، وتمام الكلام هناك، والكلام في الآية على طرز ذاك، ووصف القرية الأولى بشدة القوة للإيذان بأولوية الثانية منها بالإهلاك لضعف قوتها كما أن وصف الثانية بإخراجه عليه الصلاة والسلام للإيذان بأولويتها به لقوة جنايتها، وعلى طريقته قول النابغة:
كليب لعمري كان أكثر ناصرا ... وأيسر جرما منك ضرج بالدم
وقوله تعالى: فَلا ناصِرَ لَهُمْ بيان لعدم خلاصهم بواسطة الأعوان والأنصار إثر بيان عدم خلاصهم منه بأنفسهم، والفاء لترتيب ذكر ما بالغير على ذكر ما بالذات وهو حكاية حال ماضية كما في قوله تعالى: فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ولا نسلم أن اسم الفاعل إذا لم يعمل حقيقة في الماضية، والآية تسلية له صلّى الله عليه وسلّم،
فقد أخرج عبد بن حميد وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما خرج من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال: «أنت أحب بلاد الله تعالى إلى الله وأنت أحب بلاد الله تعالى إلي ولولا أن أهلك أخرجوني منك لم أخرج منك»
فأعدى الأعداء من عدا على الله تعالى في حرمه أو قتل غير قاتله أو قتل بدخول أهل الجاهلية فأنزل الله سبحانه وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ إلخ، وقد تقدم ما يتعلق بذلك أول السورة فتذكر.
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ تقرير لتباين حال الفريقين المؤمنين والكافرين وكون الأولين في أعلى عليين والآخرين في أسفل سافلين وبيان لعلة ما لكل منهما من الحال، والهمزة لإنكار استوائهما أو لإنكار كون الأمر ليس كما ذكر، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام وقد قرىء بدونها، و (من) عبارة عن المؤمنين المتمسكين بأدلة الدين كما أنها في قوله تعالى: كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ عبارة عن أضدادهم من المشركين.
وأخرج جماعة عن ابن عباس أن من كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ هم المشركون، وروي عن قتادة نحوه وإليه ذهب الزمخشري. وتعقب بأن التخصيص لا يساعده النظم الكريم ولا داعي إليه، قيل: ومثله كون (من) الأول عبارة عنه صلّى الله عليه وسلّم وعن المؤمنين، والمعنى أيستوي الفريقان أو أليس الأمر كما ذكر فمن كان ثابتا على حجة ظاهرة وبرهان نير من مالك أمره ومربيه وهو القرآن العظيم وسائر المعجزات والحجج العقلية كمن زين له الشيطان عمله السيء من الشرك وسائر المعاصي كإخراجك من قريتك مع كون ذلك في نفسه أقبح القبائح وَاتَّبَعُوا في ذلك العمل السيء، وقيل: بسبب ذلك التزيين أَهْواءَهُمْ الزائغة من غير أن يكون لهم شبهة توهم صحة ما هم عليه فضلا عن حجة تدلك عليها. وجمع الضميرين الأخيرين باعتبار معنى (من) كما أن افراد الأولين باعتبار لفظها.(13/203)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ إلى آخره استئناف مسوق لشرح إيذانا بأن الإيمان والعمل الصالح من باب التقوى الذي هو عبارة عن فعل الواجبات وترك السيئات، والمثل الوصف العجيب الشأن وهو مبتدأ باتفاق المعربين، واختلف في خبره فقيل محذوف فقال النضر بن شميل: تقديره ما تسمعون، وقوله عزّ وجلّ: فِيها أَنْهارٌ إلى آخره مفسر له، وقال سيبويه: تقديره فيما يتلى عليكم أو فيما قصصنا عليك ويقدر مقدما وفِيها أَنْهارٌ إلخ بيان لذلك المثل، وقدره ابن عطية ظاهر في نفس من وعى هذه الأوصاف وليس بذاك، ولعل الأنسب بصدر النظم الكريم تقدير النضر، وقيل: هو مذكور فقيل هو قوله تعالى: فِيها أَنْهارٌ إلخ على معنى مثل الجنة وصفتها مضمون هذا الكلام ولا يحتاج مثل هذا الخير إلى رابط.
وقيل هذه الجملة هي الخبر إلا أن لفظ مَثَلُ زائد زيادة اسم في قول من قال:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما فالمبتدأ في الحقيقة هو المضاف إليه فكأنه قيل: الجنة فيها أنهار إلخ وليس بشيء، وقيل: الخبر قوله تعالى الآتي: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط الكلام فيه.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وعبد الله والسلمي «أمثال الجنة»
أي صفاتها، قال ابن جني: وهذا دليل على أن قراءة العامة بالتوحيد معناها الكثرة لما في مثل من معنى المصدرية ولذا جاز مررت برجل مثل رجلين وبرجلين مثل رجال وبامرأة مثل رجل،
وعن علي كرم الله تعالى وجهه أيضا أنه قرىء «مثال الجنة»
ومثال الشيء في الأصل نظيره الذي يقابل به.
مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ أي غير متغير الطعم والريح لطول مكث ونحوه، وماضيه أسن بالفتح من باب ضرب ونصر وبالكسر من باب علم حكى ذلك الخفاجي عن أهل اللغة. وفي البحر أسن الماء تغير ريحه يأسن ويأسن ذكره ثعلب في الفصيح، والمصدر أسون، وأسن بكسر السين يأسن بفتحها لغة أسنا قاله اليزيدي، وأسن الرجل بالكسر لا غير إذا دخل البئر فأصابته ريح منتنة منها فغشي عليه أو دار رأسه ومنه قول الشاعر:
قد أترك القرن مصفرا أنامله ... يميد في الريح ميد المائح الأسن
وقرأ ابن كثير. وأهل مكة «أسن» على وزن حذر فهو صفة مشبهة أو صيغة مبالغة، وقرأ «يسن» بالياء قال أبو علي: وذلك على تخفيف الهمزة وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ لم يحمض ولم يصر قارصا ولا حاذرا كألبان الدنيا وتغير الريح لا يفارق تغير الطعم وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ أي لذيذة لهم ليس فيها كراهة طعم وريح ولا غائلة سكر وخمار كخمور الدنيا فإنها لا لذة في نفس شربها وفيها من المكاره والغوائل ما فيها وهي صفة مشبهة مؤنث لذ وصفت بها الخمر لأنها مؤنثة وقد تذكر أو مصدر نعت به بتقدير مضاف أو بجعلها عين اللذة مبالغة على ما هو المعروف في أمثال ذلك وقرئت بالرفع على أنها صفة أَنْهارٌ وبالنصب على أنها مفعول له أي كائنة لأجل اللذة لا لشيء آخر من الصداع وسائر آفات خمور الدنيا وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى مما يخالفه فلا يخالطه الشمع(13/204)
وفضلات النحل وغيرها، ووصفه بمصفى لأنه الغالب على العسل التذكير وهو مما يذكر ويؤنث كما نص عليه أبو حيان. وغيره، وهذا على ما قيل تمثيل لما يجري مجرى الأشربة في الجنة بأنواع ما يستطاب منها أو يستلذ في الدنيا بالتخلية عما ينقصها وينغصها والتحلية بما يوجب غزارتها ودوامها.
وبدىء بالماء لأنه في الدنيا مما لا يستغنى عنه ثم باللبن إذ كان يجري مجرى المطعم لكثير من العرب في كثير من أوقاتهم ثم بالخمر لأنه إذا حصل الري والمطعوم تشوفت النفس إلى ما يلتذ به ثم بالعسل لأن فيه الشفاء في الدنيا مما يعرض من المشروب والمطعوم فهو متأخر بالرتبة، وجاء عن ابن عباس أن لبن تلك الأنهار لم يحلب، وقال سعيد بن جبير: إنه لم يخرج من بين فرث ودم وإن خمرها لم تدسها الرجال بأرجلها وإن عسلها لم يخرج من بطون النحل. وأخرج ابن جرير عن سعد قال: سألت أبا إسحق عن قوله تعالى: مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ فقال: سألت عنه الحارث فحدثني أن ذلك الماء تسنيم وقال: بلغني أنه لا تمسه يد وأنه يجيء الماء هكذا حتى يدخل الفم.
وفي حديث أخرجه ابن مردويه عن الكلبي أن نهر دجلة نهر الخمر في الجنة وأن عليه إبراهيم عليه السلام ونهر جيحون نهر الماء فيها ويقال له نهر الرب ونهر الفرات نهر اللبن وأنه لذرية المؤمنين ونهر النيل نهر العسل.
وأخرج الحرث بن أبي أسامة في مسنده. والبيهقي عن كعب قال: نهر النيل نهر العسل ونهر دجلة نهر اللبن ونهر الفرات نهر الخمر ونهر سيحان نهر الماء في الجنة. وأنت تعلم أن المذكور في الآية لكل أنهار بالجمع والله تعالى أعلم بصحة هذه الأخبار ونحوها، ثم إنها إن صحت لا يبعد تأويلها وإن كانت القدرة الإلهية لا يتعاصاها شيء وَلَهُمْ فِيها مع ما ذكر من فنون الأنهار مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي أنواع من كل الثمرات فالجار والمجرور صفة مبتدأ مقدر وقدره بعضهم زوجان وكأنه انتزعه من قوله تعالى: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ [الرحمن: 52] وقيل:
مِنْ زائدة أي ولهم فيها كل الثمرات وَمَغْفِرَةٌ مبتدأ خبره محذوف والجملة عطف على الجملة السابقة أي ولهم مغفرة، وجوز أن يكون عطفا على المبتدأ قبل بدون قيد فيها لأن المغفرة قبل دخول الجنة أو بالقيد والكلام على حذف مضاف أي ونعيم مغفرة أو جعل المغفرة عبارة عن أثرها وهو النعيم أو مجازا عن رضوان الله عزّ وجلّ، وقد يقال: المراد بالمغفرة هنا ستر ذنوبهم وعدم ذكرها لهم لئلا يستحيوا فتتنغص لذتهم والمغفرة السابقة ستر الذنوب وعدم المؤاخذة بها وحينئذ العطف على المبتدأ من غير ارتكاب شيء مما ذكر، وقد رأيت نحو هذا بعد كتابته للطبرسي مقتصرا عليه ولعله أولى مما قالوه، وتنوين مَغْفِرَةٌ للتعظيم أي مغفرة عظيمة لا يقادر قدرها، وقوله تعالى:
مِنْ رَبِّهِمْ متعلق بمحذوف صفة لها مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي كائنة من ربهم، وقوله عزّ وجلّ: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ خبر لمبتدأ محذوف تقديره أمن هو خالد في هذه الجنة حسبما جرى به الوعد كمن هو خالد في النار كما نطق به قوله تعالى: وَالنَّارُ مَثْوىً لهم، وجوز أن يكون بدلا من قوله سبحانه: كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وما بينهما اعتراض لبيان ما يمتاز به من على بينة في الآخرة تقرير الإنكار المساواة وفيه بعد. وذهب جار الله إلى أنه خبر مَثَلُ الْجَنَّةِ وأن ذاك مرتب على الإنكار السابق أعني قوله تعالى:
أَفَمَنْ كانَ إلخ، والمعنى أمثل الجنة كمثل جزاء من هو خالد في النار فالمضافان محذوفان الجزاء بقرينة مقابلة الجنة ولفظ المثل بقرينة تقدمه ومثله كثير، وفائدة التعرية عن حرف الإنكار أن من اشتبه عليه الأول أعني حال المتمسك بالبينة وحال التابع لهواه فالثاني مثله عنده وإذ ذاك لا يستحق الخطاب، ونظير ذلك قول حضرمي بن عامر:
أفرح أن أرزأ الكرام وأن ... أورث ذودا شصائصا نبلا
فإنه كلام منكر للفرح برزية الكرام ووراثة الذود مع تعريه من حرف الإنكار لانطوائه تحت حكم من قال له:(13/205)
أتفرح بموت أخيك وبوراثة إبله وذلك من التسليم الذي يقل تحته كل إنكار، وجعل قوله تعالى: فِيها أَنْهارٌ كالتكرير للصلة أي صلة بعد صلة يتضمن تفصيلها لأنه كالتفصيل للموعود، ولهذا لم يتخلل العاطفة بينهما، وجوز أن يكون في موضع الحال على أن الظرف في موضع ذلك وأَنْهارٌ فاعله لا على أنه مبتدأ والظرف خبر مقدم والجملة الاسمية حال لعدم الواو فيها، وقد صرحوا بأن الاكتفاء فيها بالضمير غير فصيح، واعتبارها فعلية بتقدير متعلق الظرف استقر لا يخفى حاله، وقيل: في الحال ضعف من حيث المعنى لمجيئه مجيء الفضلات وهي أم الإنكار، وأيضا هو حال من الجنة لا من ضميرها في الصلة وفي العامل تكلف، ثم الحال غير مقيدة وجعلها مؤكدة وقد علم كونها كذلك من إخباره تعالى فيه أيضا تكلف، وأن يكون خبر مبتدأ محذوف والجملة استئناف بياني، قال في الكشف:
وهو الوجه، والتقدير هي فيها أنهار وكأنه قيل: أنى يكون صفة الجنة وهي كذا وكذا كصفة النار الاستئناف هاهنا بمنزلة قولك: وهي كذا وكذا اعتراضا لما في لفظ المثل من الأشعار بالوصف العجيب، وليس خبر الجملة السابقة وهو كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ مورد السؤال ليعترض بوقوع الاستئناف قبل مضيه. وأورد أنه لا حاجة إلى تقدير المبتدأ لأن فِيها أَنْهارٌ جملة برأسها، والجواب أن تقدير مثلها فيها أنهار فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فصار مرفوعا ثم حذف ولهذا قال في السؤال: كأن قائلا قال: وما مثلها؟ ويجري ما قرر في قراءة الأمير كرم الله تعالى وجهه ومن معه أمثال بالجمع فيقال: التقدير أمثال الجنة كأمثال جزاء من هو خالد في النار، ويقدر المضاف الأول جمعا للمطابقة، ولعمري لقد أبعد جار الله المغزى، وقد استحسن ما ذكره كثير من المحققين قال صاحب الكشف بعد تقرير جعل كَمَنْ هُوَ خالِدٌ خبر لمثل الجنة: هذا هو الوجه اللائح المناسب المساق.
وقال ابن المنير: في الانتصاف بعد نقله كم ذكر الناس في تأويل هذه الآية فلم أر أطلى ولا أحلى من هذه النكت التي ذكرها لا يعوزها إلا التنبيه على أن في الكلام محذوفا ليتعادل. والتقدير مثل ساكن الجنة كمن هو خالد في النار، ومن هذا النمط قوله تعالى: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [التوبة: 19] إلخ، وما قدرناه لتحصيل التعادل أولى وإن كان فيه كثرة حذف فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك، والضمير المفرد.
أعني «هو» . راجع إلى «من» لفظها كما إن ضمير الجمع في قوله سبحانه: وَسُقُوا ماءً حَمِيماً راجع إليها باعتبار معناها، والمراد وسقوا ماء حارا مكان تلك الأشربة وفيه تهكم بهم فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ من فرط الحرارة.
روي أنه إذا أدني منهم شوى وجوههم وامتازت فروة رؤوسهم فإذا شربوه قطع أمعاءهم، وهي جمع معى بالفتح والكسر ما ينتقل الطعام إليه بعد المعدة ويقال له عفاج وهو مذكر وقد يؤنث وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ هم المنافقون، وإفراد الضمير باعتبار اللفظ كما أن جمعه بعد باعتبار المعنى، قال ابن جريج: كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيسمعون كلامه ولا يعونه ولا يراعونه حق رعايته تهاونا منهم حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي لأولي العلم من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وقيل: الواعون لكلامه عليه الصلاة والسلام الراعون له حق رعايته من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ماذا قالَ آنِفاً أي ما الذي قال قبيل هذا الوقت ومقصودهم من ذلك الاستهزاء وإن كان بصورة الاستعلام، وجوز أن يكون مرادهم حقيقة الاستعلام إذا لم يلقوا له آذانهم تهاونا به ولذلك ذموا والأول أولى، قيل: ذلك لابن مسعود، وعن ابن عباس أنا منهم وقد سميت فيمن سئل وأراد رضي الله تعالى عنه أنه من الذين أوتوا العلم بنص القرآن. وما أحسن ما عبر عن ذلك، وآنِفاً اسم فاعل على غير القياس أو بتجريد فعله من الزوائد لأنه لم يسمع له فعل ثلاثي بل استأنف وأتنف، وذكر الزجاج أنه من استأنفت الشيء إذا ابتدأته وكان أصل معنى هذا أخذت أنفه أي مبدأه، وأصل الأنف الجارحة المعروفة ثم يسمى به طرف(13/206)
الشيء ومقدمه وأشرفه، وذكر غير واحد أن آنفا من ذلك قالوا: إنه اسم للساعة التي قبل ساعتك التي أنت فيها من الأنف بمعنى المتقدم وقد استعير من الجارحة لتقدمها على الوقت الحاضر، وقيل: هو بمعنى زمان الحال، وهو على ما ذهب إليه الزمخشري نصب على الظرفية ولا ينافي كونه اسم فاعل كما في بادىء فإنه اسم فاعل غلب على معنى الظرفية في الاستعمال، وقال أبو حيان: الصحيح أنه ليس بظرف ولا نعلم أحدا من النحاة عده في الظروف وأوجب نصبه على الحال من فاعل قالَ أي ماذا قال مبتدئا أي ما القول الذي ائتنفه الآن قبل انفصالنا عنه، وإلى ذلك يشير كلام الراغب. وقرأ ابن كثير «أنفا» على وزن فعل أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فعدم توجههم نحو الخير وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ فتوجهوا نحو كل ما لا خير فيه فلذلك كان منهم ما كان.
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا إلى طريق الحق زادَهُمْ أي الله عز وجل هُدىً بالتوفيق والإلهام، والموصول يحتمل الرفع على الابتداء والنصب بفعل محذوف يفسره المذكور وهُدىً مفعول ثاني لأن زاد قد يتعدى لمفعولين، ويحتمل أن يكون تمييزا والأول هو الظاهر، وتنوينه للتعظيم أي هدى عظيما وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ أي أعطاهم تقواهم إياه جل شأنه بأن خلقها فيهم بناء على ما يقوله الأشاعرة في أفعال العباد أو بأن خلق فيهم قدرة عليها مؤثرة في فعلها بإذنه سبحانه على ما نسبه الكوراني إلى الأشعري وسائر المحققين في أفعال العباد من أنها بقدرة خلقها الله تعالى فيهم مؤثرة بإذنه تعالى، وقول بعضهم: بأن جعلهم جل شأنه متقين له سبحانه يمكن تطبيقه على كل من القولين، وقال البيضاوي: أي بين لهم ما يتقون أو أعانهم على تقواهم أو أعطاهم جزاءها فالإيتاء عنده مجاز عن البيان أو الإعانة أو هو على حقيقته والتقوى مجاز عن جزائها لأنها سببه أو فيه مضاف مقدر وليس في شيء من ذلك ما يأباه مذهب أهل الحق، وذكر الزمخشري الثاني والثالث من ذلك، واختار الطيبي الأول من هذين الاثنين وقال: هو أوفق لتأليف النظم الكريم لأن أغلب آيات هذه السورة الكريمة روعي فيها التقابل فقوبل أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ بقوله سبحانه: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً لأن الطبع يحصل من تزايد الرين وترادف ما يزيد في الكفر، وقوله تعالى وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ بقوله جل وعلا: وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ فيحمل على كمال التقوى وهو أن يتنزه العارف عما يشغل سره عن الحق ويتبتل إليه سبحانه بشر أشره وهو التقوى الحقيقية المعنية بقوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: 102] فإن المزيد على مزيد الهدى مزيد لا مزيد عليه، وفي الترفع عن متابعة الهوى النزوع إلى المولى والعزوب عن شهوات الحياة الدنيا، ثم في إسناد إيتاء التقوى إليه تعالى وإسناد متابعة الهوى إليهم إيماء إلى معنى قوله تعالى حكاية: وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: 80] وتلويح إلى أن متابعة الهوى مرض روحاني وملازمة التقوى دواء إلهي انتهى. وما ذكره من التقابل جار فيما ذكرناه أيضا، وكذا يجري التقابل على تفسير إيتاء التقوى ببيان ما يتقون لإشعار الكلام عليه بأن ما هم فيه ليس من ارتكاب الهوى والتشهي بل هو أمر حق مبني على أساس قوي، وتفسير ذلك بإعطاء جزاء التقوى مروي عن سعيد بن جبير وذهب إليه الجبائي، والكلام عليه أفيد وأبعد عن التأكيد من غير حاجة إلى حمل التقوى على أعلى مراتبها، وأمر التقابل هين فإنه قد يقال إن قوله تعالى: اهْتَدَوْا في مقابلة اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وقوله سبحانه: زادَهُمْ هُدىً في مقابلة طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فليتدبر، وقيل: فاعل زادَهُمْ ضمير قوله صلّى الله عليه وسلّم المفهوم من قوله تعالى وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وقوله سبحانه: ماذا قالَ آنِفاً وكذا فاعل آتاهُمْ أي أعانهم أو بيّن لهم، والإسناد مجازي، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر، وأيضا إذا كان قوله تعالى:
زادَهُمْ هُدىً في مقابلة قوله سبحانه: طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فالأولى أن يتحد فاعله مع فاعله ويجري نحو ذلك على ما قاله الطيبي لئلا يلزم التفكيك، وجوز أن يكون ضميرا عائدا على قول المنافقين فإن ذلك مما يعجب منه(13/207)
المؤمن فيحمد الله تعالى على إيمانه ويزيد بصيرة في دينه، وهو بعيد جدا بل لا يكاد يلتفت إليه.
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أي القيامة، وقوله تعالى: أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً أي تباغتهم بغتة وهي المفاجأة بدل اشتمال من الساعة أي لا يتذكرون بأحوال الأمم الخالية ولا بالأخبار بإتيان الساعة وما فيها من عظائم الأحوال فما ينتظرون للتذكر إلا إتيان الساعة نفسها، وقوله تعالى: فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها أي علاماتها وأماراتها كما في قوله أبي الأسود الدؤلي:
فإن كنت قد أزمعت بالصرم بيننا ... فقد جعلت أشراط أوله تبدو
وهي جمع شرط بالتحريك تعليل لمفاجأتها على معنى أنه لم يبق من الأمور الموجبة للتذكر أمر مترقب ينتظرونه سوى إتيان نفس الساعة إذ قد جاء أشراطها فلم يرفعوا لها رأسا ولم يعدوها من مبادئ إتيانها فيكون إتيانها بطريق المفاجأة لا محالة كذا في إرشاد العقل السليم، وظاهر كلام الكشاف أنه تعليل للإتيان مطلقا أي ما ينتظرون إلا إتيان الساعة لأنه قد جاء أشراطها وبعد مجيئها لا بد من وقوع الساعة، وتعليل المقيد دون قيده لا يخلو عن بعد، قيل: ويقربه هنا أن انتظارهم ليس إلا لإتيان الساعة وتقييده ببغتة ليس إلا لبيان الواقع، وقال بعض المحققين: هو تعليل لانتظار الساعة لأن ظهور إمارات الشيء سبب لانتظاره، وفي جعله تعليلا للمفاجأة خفاء لأنها لا تناسب مجيء الأشراط إلا بتأويل، وأنت تعلم أن البدل هو المقصود فالانتظار لاتيان الساعة بغتة فالتعليل المذكور تعليل للمقيد دون قيده أيضا فكان ما في الإرشاد متعين وإن كان فيه نوع تأويل، وقوله تعالى: فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ على ما أفاده بعض الأجلة تعجيب من نفع الذكرى عند مجيء الساعة وإنكار لعدم تشمرهم لها ولانتظارهم إياها هزؤا وجحودا، وفي الإرشاد وقوله تعالى: فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ حكم بخطئهم وفساد رأيهم في تأخير التذكر إلى إتيانها ببيان استحالة نفع التذكر حينئذ كقوله سبحانه: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى [الفجر: 23] أي فكيف لهم ذكراهم على أن (أنى) خبر مقدم وذِكْراهُمْ مبتدأ وإِذا جاءَتْهُمْ اعتراض وسط بينهما رمزا إلى غاية سرعة مجيئها، وإطلاق المجيء عن قيد البغتة لما أن مدار استحالة نفع التذكر كونه عند مجيئها مطلقا لا مقيدا بقيد البغتة، وقيل: (أنى) خبر مقدم لمبتدأ محذوف أي فأنى لهم الخلاص إذا جاءتهم الذكرى بما يخبرون به فينكرونه منوطة بالعذاب ولا يخفى حاله، وقرأ أبو جعفر الرؤاسي عن أهل مكة «إن تأتهم» على أنه شرط مستأنف جزاؤه فَأَنَّى لَهُمْ إلخ أي إن تأتهم الساعة بغتة إذ قد جاء أشراطها فأنى تنفعهم الذكرى وقت مجيئها، و (إن) هنا بمعنى إذا لأن إتيان الساعة متيقن، ولعل الإتيان بها للتعريض بهم وأنهم في ريب منها أو لأنها لعدم تعيين زمانها أشبهت المشكوك فيه وإذا جاءتهم باعتبار الواقع فلا تعارض بينهما كما يتوهم في النظرة الحمقاء.
وفي الكشف «إذا» على هذه القراءة لمجرد الظرفية لئلا يلزم التمانع بين إِذا جاءَتْهُمْ و «إن تأتهم» وفي الإتيان بأن مع الجزم بالوقوع تقوية أمر التوبيخ والإنكار كما لا يخفى انتهى، وعلى ما ذكرنا لا يحتاج إلى جعل إذا لمجرد الظرفية.
وقرأ الجعفي. وهارون عن أبي عمرو «بغتّة» بفتح الغين وشد التاء، قال صاحب اللوامح: وهي صفة وانتصابها على الحال ولا نظير لها في المصادر ولا في الصفات بل في الأسماء نحو الجربة وهي القطيع من حمر الوحش، وقد يسمى الأقوياء من الناس إذا كانوا جماعة متساوين جربة، والشربة وهي اسم موضع وكذا قال أبو العباس بن الحاج من أصحاب أبي علي الشلوبين في كتابه المصادر، وقال الزمخشري: وما أخوفني أن تكون غلطة من الراوي عن أبي عمرو وان يكون الصواب بغتة بفتح الغين من غير تشديد كقراءة الحسن فيما تقدم.(13/208)
وتعقبه أبو حيان بأن هذا على عادته في تغليط الرواة، والظاهر أن المراد بأشراط الساعة هنا علاماتها التي كانت واقعة إذ ذاك وأخبروا أنها علامات لها كبعثة نبينا صلّى الله عليه وسلّم،
فقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن أنس قال:
«قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى»
وأراد عليه الصلاة والسلام مزيد القرب بين مبعثه والساعة فإن السبابة تقرب من الوسطى طولا فينا وهكذا فيه صلّى الله عليه وسلّم. وزعم بعضهم أن أمر الطول والقصر في وسطاه وسبابته عليه الصلاة والسلام على عكس ما فينا خطأ لا يلتفت إليه إلا أن يكون أراد ذلك في أصابع رجليه الشريفة صلّى الله عليه وسلّم.
وأخرج أحمد عن بريدة رضي الله تعالى عنه قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول بعثت أنا والساعة جميعا وإن كادت لتسبقني»
وهذا أبلغ في إفادة القرب وعدوا منها انشقاق القمر الذي وقع له صلّى الله عليه وسلّم والدخان الذي وقع لأهل مكة وأما أشراطها مطلقا فكثيرة الفت فيها كتب مختصرة ومطولة وهي تنقسم إلى مضيقة لا تبقى الدنيا بعد وقوعها إلا أيسر يسير كخروج المهدي رضي الله تعالى عنه على ما يقول أهل السنة دون ما يقوله الشيعة القائلون بالرجعة فإن الدنيا عندهم بعد ظهوره تبقى مدة معتدا بها وكنزول عيسى عليه السلام وخروج الدجال وطلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة وغير ذلك، وغير مضيقة وهي أكثر الأشراط ككون الحفاة الرعاة رؤوس الناس وتطاولهم في البنيان وفشو الغيبة وأكل الربا وشرب الخمر وتعظيم رب المال وقلة الكرام وكثرة اللئام وتباهي الناس في المساجد واتخاذها طرقا وسوء الجوار وقطيعة الأرحام وقلة العلم وأن يوسد الأمر إلى غير أهله وأن يكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع إلى ما يطول ذكره.
ومن وقف على الكتب المؤلفة في هذا الشأن واطلع على أحوال الأزمان رأى أن أكثر هذه العلامات قد برزت للعيان وامتلأت منها البلدان، ومع هذا كله أمر الساعة مجهول ورداء الخفاء عليه مسدول. وقصارى ما ينبغي أن يقال:
إن ما بقي من عمر الدنيا أقل قليل بالنسبة إلى ما مضى، وفي بعض الآثار أنه عليه الصلاة والسلام خطب أصحابه بعد العصر حين كادت الشمس تغرب ولم يبق منها إلا أسف. أي شيء.
فقال «والذي نفس محمد بيده ما مثل ما مضى من الدنيا فيما بقي منها إلا مثل ما مضى من يومكم هذا فيما بقي منه وما بقي منه إلا اليسير»
ولا ينبغي أن يقال: إن الألف الثانية بعد الهجرة وهي الألف التي نحن فيها هي ألف مخضرمة أي نصفها من الدنيا ونصفها الآخر من الآخرة، وقال الجلال السيوطي في رسالة سماها الكشف عن مجاوزة هذه الأمة الألف: الذي دلت عليه الآثار أن مدة هذه الأمة تزيد على ألف سنة ولا تبلغ الزيادة عليها ألف سنة وبني الأمر على ما ورد من أن مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعث في آخر الألف السادسة وأن الدجال يخرج على رأس مائة وينزل عيسى عليه السلام فيقتله ثم يمكث في الأرض أربعين سنة وأن الناس يمكثون بعد طلوع الشمس من مغربها مائة وعشرين سنة وأن بين النفختين أربعين سنة، وذكر الأحاديث والأخبار في ذلك.
وفي بهجة الناظرين وآيات المستدلين قد احتج كثير من العلماء على تعيين قرب زمانها بأحاديث لا تخلو عن نظر فمنهم من قال: بقي منها كذا، ومنهم من قال: يخرج الدجال على رأس كذا وتطلع الشمس على رأس كذا، وأفرد الحافظ السيوطي رسالة لذلك كله وقال: تقوم الساعة في نحو الألف والخمسمائة، وكل ذلك مردود وليس للمتكلمين في ذلك إلا ظن وحسبان لا يقوم عليه من الوحي برهان انتهى، ونقله السفاريني في البحور الزاخرة في علوم الآخرة، وذكر السيوطي عدة أخبار في كون مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، أولها ما
أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول بسنده عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنما الشفاعة يوم القيامة لمن عمل الكبائر من أمتي ثم ماتوا(13/209)
عليها فهم في الباب الأول من جهنم»
وساق بقية الحديث،
وفيه «وأطولهم مكثا فيه من يمكث فيها مثل الدنيا منذ خلقت إلى يوم أفنيت وذلك سبعة آلاف سنة» الحديث
وتعقبه السفاريني بقوله: ذكر الحافظ ابن رجب في كتابه صفة النار أن هذا الحديث خرجه ابن أبي حاتم. وغيره، وخرجه الاسماعيلي مطولا، وقال الدارقطني في كتاب المختلف:
هو حديث منكر وذكر علله، ومما ذكره السيوطي في ذلك ما نقل هو ضعف إسناد رفعه، وقد يرد عليه بأنه قد مضى من زمن البعثة إلى يومنا هذا ألف ومئتان وثماني وستون سنة وإذا ضم إليها ما ذكره من سني مكث عيسى عليه السلام وبقاء الدنيا بعد طلوع الشمس من مغربها وما بين النفختين وهي مائتا سنة تصير ألفا وأربعمائة وثماني وسبعين فيبقى من المدة التي ذكرها اثنتان وعشرون سنة وإلى الآن لم تطلع الشمس من مغربها ولا خرج الدجال الذي خروجه قبل طلوعها من مغربها بعدة سنين ولا ظهر المهدي الذي ظهوره قبل الدجال بسبع سنين ولا وقعت الأشراط التي قبل ظهور المهدي، ولا يكاد يقال: إنه يظهر بعد خمس عشرة سنة ويظهر الدجال بعدها بسبع سنين على رأس المائة الثالثة من الألف الثانية لأن قبل ذلك مقدمات تكون في سنين كثيرة، فالحق أنه لا يعلم ما بقي من مدة الدنيا إلا الله عز وجل وأنه وإن طال أقصر قصير وما متاع الحياة الدنيا إلا قليل، وكذا فيما أرى مبدأ خلقها لا يعلمه إلا الله تعالى وما يذكرونه في المبدأ لو صح فإنما هو في مبدأ خلق الخليفة آدم عليه السلام لا مبدأ خلق السماء والأرض والجبال ونحوها.
وحكى الشيخ محيي الدين قدس سره عن إدريس عليه السلام وقد اجتمع معه اجتماعا روحانيا وسأله عن العالم أنه قال: نحن معاشر الأنبياء نعلم أن العالم حادث ولا نعلم متى حدث. والفلاسفة على المشهور يزعمون أن من العالم ما هو قديم بالشخص وما هو قديم بالنوع مع قولهم بالحدوث الذاتي ولا يدثر عندهم. وذهب الملا صدر الشيرازي أنهم لا يقولون إلا بقدم العقول المجردة دون عالم الأجسام مطلقا بل هم قائلون بحدوثها ودثورها وأطال الكلام على ذلك في الأسفار وأتى بنصوص أجلتهم كأرسطو وغيره. وحكى البعض عنهم أنه خلق هذا العالم الذي نحن فيه وهو عالم الكون والفساد والطالع السنبلة ويدثر عند مضي ثمانية وسبعين ألف سنة وذلك عند مضي مدة سلطان كل من البروج الاثني عشر ووصول الأمر إلى برج الميزان وزعموا أن مدة سلطان الحمل اثنا عشر ألف سنة ومدة سلطان الثور أقل بألف وهكذا إلى الحوت.
ونقل البكري عن هرمس أنه زعم أنه لم يكن في سلطان الحمل والثور والجوزاء على الأرض حيوان فلما كان سلطان الأسد تكونت دواب الماء وهوام الأرض فلما كان سلطان الأسد تكونت الدواب ذوات الأربع فلما كان سلطان السنبلة تولد الإنسانان الأولان ادمانوس وحوانوس، وزعم بعضهم أن مدة العالم مقدار قطع الكواكب الثابتة لدرج الفلك التي هي ثلاثمائة وستون درجة وقطعها لكل درجة على قول كثير منهم في مائة سنة فتكون مدته ستا وثلاثين ألف سنة وكل ذلك خبط لا دليل عليه. ومن أعجب ما رأيت ما زعمه بعض الإسلاميين من أن الساعة تقوم بعد ألف وأربعمائة وسبع سنين أخذا من قوله تعالى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وقوله سبحانه لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [الأعراف: 187] بناء على أن عدة حروف بَغْتَةً بالجمل الكبير ألف وأربعمائة وسبع ويوشك أن يقول قائل: هي ألف وثمانمائة واثنان وبحسب تاء التأنيث أربعمائة لا خمسة فإنه رأى بعض أهل الحساب كما في فتاوى خير الدين الرملي ويجيء آخر ويقول: هي أكثر من ذلك أيضا ويعتبر بسط الحروف على نحو ما قالوا في اسم محمد صلّى الله عليه وسلّم إنه متضمن عدة المرسلين عليه السلام، وأنت تعلم أن مثل ذلك مما لا ينبغي لعاقل أن يعول عليه أو يلتفت إليه، والحزم الجزم بأنه لا يعلم ذلك إلا اللطيف الخبير فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ مسبب عن مجموع القصة(13/210)
من مفتتح السورة لا عن قوله تعالى: هل يَنْظُرُونَ كأنه قيل: إذا علمت أن الأمر كما ذكر من سعادة هؤلاء وشقاوة هؤلاء فاثبت على ما أنت عليه من العلم بالوحدانية فهو من موجبات السعادة، وفسر الأمر بالعلم بالثبات عليه لأن علمه صلّى الله عليه وسلّم بالتوحيد لا يجوز أن يترتب على ما ذكره سبحانه من الأحوال فإنه عليه الصلاة والسلام موحد عن علم حال ما يوحى إليه ولأن المعنى فتمسك بما أنت فيه من موجبات السعادة لا بطلب السعادة، وقال بعض الأفاضل: إن الثبات أيضا حاصل له عليه الصلاة والسلام فأمره بذلك صلّى الله عليه وسلّم تذكير له بما أنعم الله تعالى عليه توطئة لما بعده، وتعقب بأن المراد بالثبات الاستمرار وهو بالنظر إلى الأزمنة الآتية وذلك وإن كان مما لا بد من حصوله له عليه الصلاة والسلام لمكان العصمة لكن المعصوم يؤمر وينهى فيأتي بالمأمور ويترك المنهي ولا بد للعصمة والأمر في قوله تعالى:
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ قيل على معنى الثبات أيضا، وجعل الاستغفار كناية عما يلزمه من التواضع وهضم النفس والاعتراف بالتقصير لأنه صلّى الله عليه وسلّم معصوم أو مغفور لا مصرّ ذاهل عن الاستغفار، وقيل: التحقيق أنه توطئة لما بعده من الاستغفار للمؤمنين والمؤمنات ولعل الأولى إبقاؤه على الحقيقة من دون جعله توطئة، والنبي صلّى الله عليه وسلّم كان يكثر الاستغفار،
أخرج أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن حبان عن الأغر المزني رضي الله تعالى عنه قال:
«قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة»
وأخرج النسائي وابن ماجه وغيرهما عن أبي موسى قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما أصبحت غداة قط إلا استغفرت الله فيها مائة مرة»
وأخرج أبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه وجماعة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «إنا كنا لنعد لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المجلس يقول: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم مائة مرة»
وفي لفظ «التواب الغفور»
إلى غير ذلك من الأخبار الصحيحة.
والذنب بالنسبة إليه عليه الصلاة والسلام ترك ما هو الأولى بمنصبه الجليل ورب شيء حسنة من شخص سيئة من آخر كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين وقد ذكروا أن لنبينا صلّى الله عليه وسلّم في كل لحظة عروجا إلى مقام أعلى مما كان فيه فيكون ما عرج منه في نظره الشريف ذنبا بالنسبة إلى ما عرج إليه فيستغفر منه، وحملوا على ذلك
قوله عليه الصلاة والسلام: «إنه ليغان على قلبي» الحديث
وفيه أقوال أخر، وقوله تعالى: وَلِلْمُؤْمِنِينَ على حذف مضاف بقرينة ما قبل أي ولذنوب المؤمنين. وأعيد الجار لأن ذنوبهم جنس آخر غير ذنبه عليه الصلاة والسلام فإنها معاص كبائر وصغائر وذنبه صلّى الله عليه وسلّم ترك الأولى بالنسبة إلى منصبه الجليل، ولا يبعد أن يكون بالنسبة إليهم من أجل حسناتهم، قيل: وفي حذف المضاف وتعليق الاستغفار بذواتهم إشعار بفرط احتياجهم إليه فكأن ذواتهم عين الذنوب وكذا فيه إشعار بكثرتها، وجوز بعضهم كون الاستغفار للمؤمنين بمعنى طلب المغفرة لهم وطلب سببها كأمرهم بالتقوى، وفيه الجمع بين الحقيقة والمجاز مع أن في صحته كلاما، فالظاهر إبقاء اللفظ على حقيقته.
وفي تقديم الأمر بالتوحيد إيذان بمزيد شرف التوحيد فإنه أساس الطاعات ونبراس العبادات، وفي الكلمة الطيبة أبحاث شريفة ولطائف منيفة لا بأس بذكر بعضها وإن تقدم شيء من ذلك فنقول: المشهور أن إلا للاستثناء والاسم الجليل بدل من محل اسم لا النافية للجنس وخبر لا محذوف، واستشكل الإبدال من جهتين أولاهما أنه بدل بعض وليس معه ضمير يعود على المبدل منه وهو شرط فيه وأجيب بمنع كونه شرطا مطلقا بل هو شرط حيث لا تفهم البعضية بقرينة وهاهنا قد فهمت بقرينة الاستثناء ثانيتهما أن بين المبدل منه والبدل مخالفة فإن الأول منفي والثاني موجب.
وأجاب السيرافي بأنه بدل عن الأول في عمل العامل والتخالف نفيا وإيجابا لا يمنع البدلية لأن مذهب البدل أن(13/211)
يجعل الأول كأنه لم يذكر والثاني في موضعه وقد تتخالف الصفة والموصوف في ذلك نحو مررت برجل لا كريم ولا لبيب على أنه لو قيل: إن البدل في الاستثناء قسم على حياله مغاير لغيره من الإبدال لكان له وجه.
واستشكل أمر الخبر بأنه ان قدر ممكن يلزم عدم إثبات الوجود بالفعل للواحد الحقيقي تعالى شأنه أو موجود يلزم عدم تنزيهه تعالى عن إمكان الشركة وتقدير خاص مناسب لا قرينة عليه قيل: ولصعوبة هذا الاشكال ذهب صاحب الكشاف وأتباعه إلى أن الكلمة لا غير محتاجة إلى خبر وجعل إِلَّا اللَّهُ مبتدأ ولا إِلهَ خبره والأصل الله إله أي معبود بحق لكن لما أريد قصر الصفة على الموصوف قدم الخبر وقرن المبتدأ بإلا إذ المقصور عليه هو الذي يلي إلا والمقصود هو الواقع في سياق النفي والمبتدأ إذا اقترن بإلا وجب تقديم خبره. وتعقب بأنه مع ما فيه من التمحل يلزم منه بناء الخبر مع لا وهي لا يبني معها إلا المبتدأ، وأيضا لو كان الأمر كذلك لم يكن لنصب الاسم الواقع بعدها وجه وقد جوزه جماعة.
وقال بعض الأفاضل: إن لا إله إلا الله على هذا المذهب قضية معدولة الطرفين بمنزلة غير الحي لا عالم بمعنى الحي عالم ولا يدفع الاعتراض كما لا يخفى، وقال بعضهم: إن الخبر هو إِلَّا اللَّهُ أعني إلا مع الاسم الجليل وأورد عليه أن الجنس مغاير لكل من أفراده فكيف يصدق حينئذ سلب مغايرة فرد عنه اللهم إلا أن يقال: إن ذلك بناء على تضمين معنى من وإن المفهوم منه أنه انتفى من هذا الجنس غير هذا الفرد، والوجه كما قيل أن يقال: إن المغايرة المنفية هي المغايرة في الوجود لا المغايرة في المفهوم حتى لا يصدق، ولا شك أن المراد من الجنس المنفي بلا هذه هو المفهوم من غير اعتبار حصوله في الأفراد كلها أو بعضها فيكون محمولا لا بمعنى اعتبار عدم حصوله فيها أصلا حتى لا يصح حمله إذ لا يلزم من عدم اعتبار شيء اعتبار عدمه ومتى تحقق الحمل تحقق عدم المغايرة في الوجود فتدبره.
وقال بعضهم: لا خبر للا هذه أصلا على ما قاله بنو تميم فيها، وأورد عليه أنه يلزم حينئذ انتفاء الحكم والعقد وهو باطل قطعا ضرورة اقتضاء التوحيد ذلك ولا يبعد أن يقال: إن القول بعدم احتياج لا إلى الخبر لا يخرج المركب منها ومن اسمها عن العقد وذلك لأن معنى المركب نحو لا رجل على هذا التقدير انتفى هذا الجنس فإذا قلنا: لا رجل إلا حاتم كان معناه انتفى هذا الجنس في غير هذا الفرد ويخدشه ان تركب الكلام من الحرف والاسم مما ليس إليه سبيل، وربما يدفع بما قيل في النداء مثل يا زيد من أنه قائم مقام ادعوه، والشريف العلامة قدس سره صرح في بيان ما نقل عن بني تميم من عدم إثبات خبر لا هذه بأنه يحتمل أن يكون بناء على أن المفهوم من التركيب كما ذكر آنفا انتفاء هذا الجنس ثم إن كلمة الا على هذا التقدير بمعنى غير ولا مجال لكونها للاستثناء لا لما يتوهم من التناقض بناء على أن سلب الجنس عن كل فرد فرد ينافي إثباته لواحد من أفراده فإنه مدفوع بنحو ما اختاره نجم الأئمة في دفع التناقض المتوهم في مثل ما قام القوم إلا زيدا لوجوب شمول القوم المنفي عنهم الفعل لزيد المثبت هو له فيما يتبادر بأن يقال:
إن الجنس الخارج عنه هذا الفرد منتف في ضمن كل ما عداه ولا لما قد يتوهم من عدم تناول الجنس المنفي لما هو بعد إلا وهو شرط الاستثناء لما عرفت من الفرق بين الجنس بدون اعتبار حصوله في الأفراد وبينه مع اعتبار عدم حصوله فيها بل لأنها لو كانت للاستثناء لما أفاد الكلام التوحيد لأنه يكون حاصله حينئذ أن هذا الجنس على تقدير عدم دخول هذا الفرد فيه منتف فيفهم منه عدم انتفائه في افراد غير خارج عنها ذلك الفرد فأين التوحيد، فالواجب حملها على معنى غير وجعلها تابعة لمحل اسم لا بدلا عنه أو صفة كما في قوله:
وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان(13/212)
كذا رأيته في بعض نسخ قديمة وذكره بعض شيوخ مشايخنا العلامة الطبقجلي في رسالته شرح الكلمة الطيبة ولم يتعقبه بشيء، وعندي أن ما ذكر في نفي الكون إلا للاستثناء على ذلك التقدير لا يخلو عن نظر. ثم إنه قيل: إذا كان مضمون المركب على ذلك التقدير إن هذا الجنس منتف فيما عدا هذا الفرد كانت القضية شخصية ولها لازم هو قضية كلية. أعني قولنا كل ما يعتبر فردا له سوى هذا الفرد فهو منتف. ولا استبعاد في شيء من ذلك.
وذهب الكثير إلى تقدير الخبر موجود وأجاب عن الإشكال بأنه يلزم نفي الإمكان العام من جانب الوجود عن الآلهة غير الله تعالى وذلك مبني على مقدمة قطعية معلومة للعقلاء هي أن المعبود بالحق لا يكون إلا واجب الوجود فيصير المعنى لا معبود بحق موجود إلا الله وإذا ليس موجودا ليس ممكنا لأنه لو كان ممكنا لكان واجبا بناء على المقدمة القطعية فيكون موجودا، وقد أفادت الكلمة الطيبة أنه ليس بموجود فليس بممكن لأن نفي اللازم يدل على نفي الملزوم. واعترض بأن المقدمة القطعية وإن كانت صحيحة في نفس الأمر لكنها غير مسلمة عند المشركين لأنهم يعبدون الأصنام ويعتقدونها آلهة مع اعترافهم بأنها ممكنة محتاجة إلى الصانع وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25، الزمر: 38] فيمكن أن يعترف المكلف بالكلمة الطيبة ويعتقد أن نفي الوجود لا يستلزم نفي الإمكان فيمكن عنده وجود آلهة غير الله تعالى فلا يكون التلفظ بالكلمة نصا على إيمانه ولو كانت المقدمة المذكورة مسلمة عند الكل لأمكن أن يقدر الخبر من أول الأمر موجود بالذات أي لا إله موجود بالذات إلا الله وإذا لم يكن غيره تعالى موجودا بالذات لم يكن مستحقا للعبادة لأن المستحق لها لا يكون إلا واجبا لذاته.
وقد قرر الجواب بوجهين آخرين: الأول أن لا إله موجود قضية سالبة حملية لا بد لها من جهة وهي الإمكان العام فيكون المعنى أن الجانب المخالف للسلب وهو إثبات الوجود ليس ضروريا للآلهة إلا الله تعالى فإنه موجود بالإمكان العام أي جانب السلب ليس ضروريا له تعالى فيكون الوجود ضروريا له سبحانه تحقيقا للتناقض بين المستثنى والمستثنى منه. الثاني أن لا إله موجود بالإمكان العام سالبة كلية ممكنة عامة فيكون المتحصل بالاستثناء الذي هو نقيض موجبة جزئية ضرورية أي الله موجود بالضرورة. وأورد على التقريرين أنهما إنما يتمان إذا كان كل من طرفي المستثنى والمستثنى منه قضية مستقلة وهو ممنوع، والصحيح عند أهل العربية أنهما كلام واحد مقيد بالاستثناء فلا يجري فيهما أحكام الناقض إلا أن يؤول بالمعنى اللغوي، وأيضا جعل الله موجود بالضرورة قضية جزئية فيه تساهل، وقيل: يمكن أن يقال الخبر المقدر هو الموجود مطلقا سواء كان بالفعل أو بالإمكان على استعمال المشترك في كلا معنييه أو على تأويله بما يطلق عليه اسم الموجود وهو كما ترى، وقيل: يجوز تقديره ممكن ونفي الإمكان يستلزم نفي الوجود لأن الإله واجب الوجود وإمكان اتصاف شيء بوجوب الوجود يستلزم اتصافه بالفعل بالضرورة فإذا استفيد من الكلمة الطيبة إمكانه يستفاد منه وجوده أيضا إذ كل ما لم يوجد يستحيل أن يكون واجب الوجود، ويعلم ما فيه مما مر فلا تغفل، وقال بعضهم: الخبر المقدر مستحق للعبادة، فالمعنى لا إله مستحق للعبادة إلا الله، ولا محذور فيه.
واعترض بأن هذا كون خاص ولا بد في حذفه من قرينة ولا قرينة فلا يصح الحذف. وأجيب بأنها كنار على علم لأن الإله بمعنى المعبود فدل على العبادة واستحقاقها، يؤيده ملاحظة المقام واعتبار حال المخاطبين لأن هذه الكلمة الطيبة واردة لرد اعتقاد المشركين الزاعمين أن الأصنام تستحق العبادة.
واعترض أيضا بأنه لا يدل على نفي التعدد مطلقا أي لا بالإمكان ولا بالفعل لجواز وجود إله غيره سبحانه لا يستحق العبادة، وأيضا يمكن أن يقال: المراد إما نفي إله مستحق للعبادة غيره تعالى بالفعل أو بالإمكان فعلى الأول لا ينفي إمكان إله مستحق للعبادة أيضا غيره عز وجل وعلى الثاني لا يدل على استحقاقه قال للعبادة بالفعل. ورد بأن(13/213)
وجوب الوجود مبدأ جميع الكمالات ولذا فرعوا عليه كثيرا منها فلا ريب أنه يوجب استحقاق التعظيم التبجيل، ولا معنى لاستحقاق العبادة إلا ذلك فإذا لم يستحق غيره تعالى العبادة لم يوجد واجب وجود غيره سبحانه وإلا لاستحق العبادة قطعا، وإذا لم يوجد لم يكن ممكنا أيضا فثبت أن نفي استحقاق العبادة يستلزم نفي التعدد جزما.
وتعقب بأن فيه البناء على أن الإله لا يكون إلا واجب الوجود، وقد سمعت أنها وإن كانت قطعية الصدق في نفس الأمر إلا أنها غير مسلمة عند المشركين. ومن المحققين من قال: إنه لا يلتفت إلى عدم تسليمهم لمكابرتهم ما عسى أن يكون بديهيا. نعم ربما يقال: إن الكلمة الطيبة على ذلك التقدير إنما تدل على نفي المعبود بالفعل بناء على ما قرر في المنطق أن ذات الموضوع يجب اتصافه بالعنوان بالفعل، ويجاب بمنع وجوب ذلك بل يكفي الاتصاف بالإمكان كما صرح به الفارابي، وأما ما نقل عن الشيخ فمعناه كونه بالفعل بحسب الفرض العقلي لا بحسب نفس الأمر كما تدل عليه عبارته في الشفاء والإشارات فيرجع إلى معنى الإمكان.
والفرق بين المذهبين أن في مذهب الشيخ زيادة اعتبار ليست في مذهب الفارابي وهي أن الشيخ اعتبر مع الإمكان بحسب نفس الأمر فرض الاتصاف بالفعل ولم يعتبره الفارابي، وبالجملة إن الاتصاف بالفعل غير لازم فكل ما يمكن اتصافه بالمعبودية داخل في الحكم بأنه لا يستحق العبادة، ولما كانت القضية سالبة صدقت وإن لم يوجد الموضوع، ولعل التحقيق في هذا المقام أن الكلمة الطيبة جارية بين الناس على متفاهم اللغة والعرف لا على الاصطلاحات المنطقية والتدقيقات الفلسفية، وهي كلام ورد في رد اعتقاد المشرك الذي اعتقد أن آلهة غير الله سبحانه تستحق العبادة فإذا اعترف المشرك بمضمونه من أنه لا معبود مستحق للعبادة إلا الله تعالى علم من ظاهر حاله الإيمان، ولهذا اكتفى به الشارع عليه الصلاة والسلام، وأما الكافر الذي يعتقد إمكان وجود ذات تستحق العبادة بعد فلا تكفي هذه الكلمة الطيبة في إيمانه كما لا تكفي في إيمان من أنكر النبوة أو المعاد أو نحو ذلك مما يجب الإيمان به بل لا بد من الاعتراف بالحكم الذي أنكره ولا محذور في ذلك، ولما كان الكفرة الذين يعتقدون أن آلهة غير الله تعالى تستحق العبادة هم المشهورون دون من يعتقد إمكان وجودها بعد اعتبرت الكلمة علما للتوحيد بالنسبة إليهم.
ويعلم من هذا أنه لو قدر الخبر المحذوف من أول الأمر موجود أمكن دفع الإشكال بهذا الطريق أعني متفاهم اللغة وعرف الناس من الأوساط، وأما أن نفي الوجود لا يستلزم نفي الإمكان فلا يلزم من الكلمة الطيبة حينئذ نفى إمكان آلهة غير الله تعالى فمما لا يسبق إلى الأفهام ولا يكاد يوجد كافر يعتقد نفي وجود إله غيره تعالى مع اعتقاده إمكان وجود إله غيره سبحانه بعد ذلك، ومن الناس من أيد تقدير الخبر كذلك بأن الظاهر أن لا نافية للجنس ونفي الماهية نفسها بدون اعتبار الوجود واتصافها به كنفي السواد نفسه لا نفي وجوده عنه بعيد، فكما أن جعل الشيء باعتبار الوجود إذ لا معنى لجعل الشيء وتصييره نفسه فكذلك نفيه ورفعه أيضا باعتبار رفع الوجود عنه. وتعقب بأن هذا هو الذي يقتضيه النظر الجليل، وأما النظر الدقيق فقد يحكم بخلافه لأن نفي الماهية باعتبار الوجود ينتهي بالآخرة إلى نفي ماهية ما باعتبار نفسها، وذلك لأن نفي اتصافها بالوجود لا يكون باعتبار اتصاف ذلك الاتصاف به إلى ما لا يتناهى، فلا بد من الانتهاء إلى اتصاف منتف بنفسه لا باعتبار اتصافه بالوجود دفعا للتسلسل، وقيل: الظاهر أن نفي الأعيان كما في الكلمة الطيبة إنما هو باعتبار ذلك، وأما غيرها فتارة وتارة فتدبر، وإِلَّا على التقدير المذكور للاستثناء ورفع الاسم الجليل على ما سمعت من المشهور، وقيل: هي فيه بمعنى غير صفة الاسم لا باعتبار المحل أي لا إله غير الله تعالى موجود.(13/214)
واعترض بأن المقصود من الكلام أمران: نفي الألوهية عن غيره تعالى وإثباتها له سبحانه، وهو إنما يتم إذا كانت لا فيه للاستثناء إذ يستفاد النفي والإثبات حينئذ بالمنطوق أما إن كانت بمعنى غير فلا يفيد بمنطوقه إلا نفي الألوهية عن غيره تعالى سبحانه وفي كون إثباتها له تعالى بالمفهوم ويكتفي به بحث لأن ذلك إن كان مفهوم لقب فلا عبرة عند القائلين بالمفهوم على الصحيح خلافا للدقاق. والصيرفي من الشافعية، وابن خويز منداد من المالكية، ومنصور بن أحمد من الحنابلة، وإن كان مفهوم صفة فمن البين أنه غير مجمع عليه بل أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه لم يقل بشيء من مفاهيم المخالفة أصلا، وأنت تعلم أن ما ذكره من إفادة الكلمة الطيبة إثبات الإلهية لله تعالى ونفيها عما سواه عز وجل على تقدير كون إلا للاستثناء غير مجمع عليه أيضا فإن الاستثناء من النفي ليس بإثبات عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، وجعل الإثبات في كلمة التوحيد بعرف الشرع، وفي المفرغ نحو ما قام إلا زيد بالعرف العام، وما له وما عليه في كتب الأصول فلا تغفل، وتمام الكلام فيما يتعلق بإعراب هذه الكلمة الطيبة في كتب العربية، وقد ذكرنا ذلك في تعليقاتنا على شرح السيوطي للألفية، وهي عند السادة الصوفية قدست أسرارهم جامعة لجميع مراتب التوحيد ودالة عليها إما منطوقا أو بالاستلزام، ومراتبه أربع: الأولى توحيد الألوهية. الثانية توحيد الأفعال. الثالثة توحيد الصفات، وإن شئت قلت: توحيد الوجوب الذاتي فإنه يستلزم سائر الصفات الكمالية كما فرعها عليه بعض المحققين. الرابعة توحيد الذات وإن شئت قلت: توحيد الوجود الحقيقي فإن المآل واحد عندهم، وبيان ذلك أن لا إله إلا الله منطوقه. على ما يتبادر إلى الأذهان وذهب إليه المعظم. قصر الألوهية على الله تعالى قصرا حقيقيا أي إثباتها له تعالى بالضرورة ونفيها عن كل ما سواه سبحانه كذلك وهو يستلزم توحيد الأفعال. وتوحيد الصفات. وتوحيد الذات. أما الأول الذي هو قصر الخالقية فيه تعالى فلأن مقتضى قصر الألوهية عليه تعالى قصرا حقيقيا هو أن الله عز وجل هو الذي يستحق أن يعبده كل مخلوق فهو النافع الضار على الإطلاق فهو سبحانه وتعالى الخالق لكل شيء فإن كل من لا يكون خالقا لكل شيء لا يكون نافعا ضارا على الإطلاق وكل من لا يكون كذلك لا يستحق أن يعبده كل مخلوق لأن العبادة هي الطاعة والانقياد والخضوع ومن لا يملك نفعا ولا ضرا بالنسبة إلى بعض المخلوقين لا يستحق أن يعبده ذلك البعض ويطيعه وينقاد له، فإن من لا يقدر على إيصال نفع إلى شخص أو دفع ضر عنه لا يرجوه، ومن لا يقدر على إيصال ضر إليه لا يخافه، وكل من لا يخاف ولا يرجى أصلا لا يستحق أن يعبد وهو ظاهر لكن الذي
يقتضيه قصر الألوهية عليه تعالى قصرا حقيقيا هو أن الله تعالى هو الذي يستحق أن يعبده كل مخلوق فهو النافع الضار على الإطلاق فهو الخالق لكل شيء وهو المطلوب، وأما الثاني فلأن الكلمة الطيبة تدل على أن الألوهية ثابتة له تعالى ثبوتا مستمرا ممتنع الانفكاك ومنتفية عن غيره انتفاء كذلك، وكل ما كان كذلك فهي دالة على أنه عز وجل واجب الوجود، وأن كل موجود سواه تعالى ممكن الوجود وكل ما كان كذلك كان وجوب الوجود مقصورا عليه تعالى وهو مستلزم لسائر صفات الكمال وهو المطلوب، أما دلالتها على أنه عز وجل واجب الوجود فلأن الألوهية لا تكون إلا لموجود حقيقة اتفاقا، وكل ما لا يكون صفة إلا لموجود إذا دل كلام على أنه ثابت لشيء ثبوتا ممتنع الانفكاك سرمدا فقد دل على أن الوجود ثابت لذلك الشيء ثبوتا ممتنع الانفكاك سرمدا، ولا يكون كذلك إلا إذا كان موجودا لذاته وهو المعني بواجب الوجود لذاته، وحيث دلت على ثبوت الألوهية ثبوتا مستمرا ممتنع الانفكاك فقد دلت على وجوب وجوده تعالى وهو مستلزم لسائر صفات الكمال وهو المطلوب.
وأما دلالتها على أن كل موجود سواه فهو ممكن الوجود فلأن موجودا ما سواه لو كان واجب الوجود لذاته لكان مستحقا أن يعبد لكنها قد دلت على أنه لا يستحق أن يعبد إلا الله فقد دلت على أنه لا واجبا وجوده(13/215)
لذاته إلا الله تعالى فكل ما سواه فهو ممكن وهو المطلوب، أو يقال: إنها قد دلت على أنه تعالى هو النافع الضار على الإطلاق فهو الجامع لصفات الجلال والإكرام فهو سبحانه المتصف بصفات الكمال كلها وهو المطلوب.
وأما الثالث فقد قال حجة الإسلام الغزالي في باب الصدق من الاحياء: كل ما تقيد العبد به فهو عبد له كما
قال عيسى عليه السلام: يا عبيد الدنيا
،
وقال نبينا صلّى الله عليه وسلّم: «تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم وعبد الحلة وعبد الخميصة»
سمي كل من تقيد قلبه بشيء عبدا له، وقال في باب الزهد منه: من طلب غير الله تعالى فقد عبده وكل مطلوب معبود، وكل طالب عبد بالإضافة إلى مطلبه، وقال في الباب الثالث من كتاب العلم منه. كل متبع هواه فقد اتخذ هواه معبودا قال تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الجاثية: 23]
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «أبغض إله عبد في الأرض عند الله تعالى هو الهوى»
انتهى.
ومن المعلوم أنه ما في الوجود شيء إلا وهو مطلوب لطالب ما وقد صح بما مر إطلاق الإله عليه ولا إله إلا الله فما في الوجود حقيقة إلا الله ومنهم من قرر دلالة الكلمة الطيبة على توحيد الذات ونفي وجود أحد سواه عزّ وجلّ بوجه آخر، وهو أن إِلَّا بمعنى غير بدل من الإله المنفي فيكون النفي في الحقيقة متوجها إلى الغير ونفي الغير توحيد حقيقي عندهم. وإذا تبين لك دلالتها على جميع مراتل التوحيد لاح لك أن الشارع لأمر ما جعلها مفتاح الإسلام وأساس الدين ومهداة الأنام:
وفي حديث أخرجه أبو نعيم عن عياض الأشعري أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا إله إلا الله كلمة كريمة ولها عند الله مكان جمعت وسولت (1) من قالها صادقا من قلبه دخل الجنة»
وفي حديث أخرجه ابن النجار عن دينار عن أنس أنه عليه الصلاة والسلام قال: «لا إله إلا الله كلمة عظيمة كريمة على الله تعالى من قالها مخلصا استوجب الجنة»
وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اذهب بنعليّ هاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستقينا بها قلبه فبشره بالجنة»
وحديث البطاقة أشهر من أن يذكر، وكذا الحديث القدسي المروي عن علي الرضا عن آبائه عليهم السلام،
وجاء «من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة»
أي بلا حساب وإلا فما الفرق بين ذلك ومن قالها ولم تكن آخر كلامه من الدنيا، وبالجملة إن فضلها لا يحصى وإنها لتوصل قائلها إلى المقام الأقصى، وقد ألفت كتب في فضلها وكيفية النطق بها وآداب استعمالها فلا نطيل الكلام في ذلك.
بقي هاهنا بحث وهو أن المسلمين أجمعوا على وجوب معرفة الله تعالى وإن اختلفوا في كونه شرعيا أو عقليا، وأما النظر في معرفته تعالى لأجل حصولها بقدر الطاقة البشرية فقد قال العلامة التفتازاني في شرح المقاصد: لا خلاف بين أهل الإسلام في وجوبه لأنه أمر مقدور يتوقف عليه الواجب المطلق الذي هو المعرفة، وكل مقدور يتوقف عليه الواجب المطلق فهو واجب شرعا أن كان وجوب الواجب المطلق شرعيا كما هو رأي الأصحاب وعقلا إن كان عقليا كما هو رأي المعتزلة لئلا يلزم تكليف المحال، أما كون النظر مقدورا فظاهر، وأما توقف المعرفة عليه فلأنها ليست بضرورية بل نظرية، ولا معنى للنظري إلا ما يتوقف على النظر ويتحصل به، وظاهر كلام السند في شرح المواقف إجماع المسلمين كافة على ذلك أيضا. والحق وقوع الخلاف في وجوب النظر كما يدل عليه كلام ابن الحاجب في مختصره، والعضد في شرحه، وكلام التاج السبكي في جمع الجوامع، والجلال المحلي في شرحه، وقول شيخ الإسلام في حاشيته عليه: محل الخلاف في وجوب النظر في أصول الدين وعدم وجوبه في غير معرفة الله تعالى منها أما النظر فيها فواجب إجماعا كما ذكره السعد التفتازاني كغيره اعترضه المحقق ابن قاسم العبادي في حاشيته الآيات
__________
(1) قوله وسولت كذا في غير نسخة بسين مهملة ولام وليراجع مستخرج أبي نعيم. [.....](13/216)
البينات بقوله: إن الظاهر أن ما نقله السعد من الإجماع على وجوب النظر في معرفة الله تعالى غير مسلم عند الشارح وغيره، ألا ترى إلى تمثيل الشارح لمحل الخلاف بقول: كحدوث العالم ووجود الباري تعالى وما يجب له جل شأنه وما يمتنع عليه سبحانه من الصفات فإن قوله: ووجود الباري تعالى إلخ يتعلق بمعرفته عزّ وجلّ إلى آخر ما قال. نعم قال كثير ورجحه الإمام الرازي. والآمدي: إنه يجب النظر في مسائل الاعتقاد ومعرفة الله تعالى أسها فيجب فيها بالأولى، وقالوا في ذلك. لأن المطلوب اليقين لقوله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وقد علم ذلك، وقال تعالى للناس: وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف: 158] ويقاس غير الوحدانية عليها، ولا يتم الاستدلال إلا بضم توقف حصول اليقين على النظر. وهؤلاء لم يجوزوا التقليد في الأصول وهو أحد أقوال في المسألة. ثانيها قول العنبري. إنه يجوز التقليد فيها بالعقد الجازم ولا يجب النظر لها لأنه عليه الصلاة والسلام كان يكتفي في الإيمان بالعقد الجازم ويقاس غير الإيمان عليه.
والمراد أنه عليه الصلاة والسلام كان يكتفي بذلك نظرا إلى ظاهر الحال فإن الخبر كما صرح به المحقق عيسى الصفوي في شرحه للفوائد الغياثية على ما نقله عنه تلميذه ابن قاسم العبادي في الآيات البينات دال وضعا على صورة ذهنية على وجه الإذعان تحكي الحال الواقعية، ولا شك أن لا إلا الله محمد رسول الله من قسم الخبر فهما دالان وضعا على أن قائلهما ولو تحت ظلال السيف معتقد لمضمونهما على وجه الإذعان، وعدم كونه معتقدا في نفس الأمر احتمال عقلي، والمطلع على ما في القلوب علام الغيوب. وثالث الأقوال إنه يجب التقليد بالعقد الجازم ويحرك النظر لأنه مظنة الوقوع في الشبه والضلال لاختلاف الأذهان بخلاف التقليد وهذا ليس بشيء أصلا. والذي أوجب النظر من المحققين لم يرد به النظر على طريق المتكلمين بل صرح كما في الجواب العتيد للكوراني بأن المعتبر هو النظر على طريق العامة، والظاهر أنه ليس مظنة الوقوع فيما ذكر، وهل القائل بوجوبه من أولئك جاعل له شرطا لصحة الإيمان أم لا ففيه خلاف. فيفهم من بعض عبارات شرح الأربعين لابن حجر أنه جاعل له كذلك فلا يصح إيمان المقلد عنده، بل يفهم منها أن النظر المعتبر عند ذلك هو النظر على طريق المتكلمين، وكلام الجلال المحلي في شرح جمع الجوامع صريح في أن القائلين بوجوب النظر غير أبي هاشم ليسوا جاعلين النظر شرطا لصحة الإيمان ولا زاعمين بطلان إيمان المقلد بل هو صحيح عندهم مع الإثم بترك النظر الواجب. نعم سيأتي إن شاء الله تعالى نقل الإمام حجة الإسلام في كتابه فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة نقل الاشتراط عن طائفة من المتكلمين من رده.
وأما ما نقل عن الشيخ الأشعري من الاشتراط وأنه لا يصح إيمان المقلد فكذب عليه كما قاله الأستاذ أبو القاسم القشيري، وقال التاج السبكي: التحقيق أنه إن كان التقليد أخذا بقول الغير بغير حجة مع احتمال شك أو وهم فلا يكفي، وإن كان جزما فيكفي خلافا لأبي هاشم. والظاهر أن القائل بكفاية التقليد مع الجزم يمنع القول بأن المعرفة لا تحصل إلا بالنظر ويقول: إنها قد تحصل بالإلهام أو التعليم أو التصفية فمن حصل له العقد الجازم بما يجب عليه اعتقاده فقد صح إيمانه من غير إثم لحصول المقصود، ومن لم يحصل له ذلك ابتداء أو تقليدا أو ضرورة فالنظر عليه متعين وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها [الكهف 57] .
ويكفي دليلا للصحة اكتفاء النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم من عوام العجم كأجلاف العرب وإن أسلم أحدهم تحت ظل السيف بمجرد الإقرار بلا إله إلا الله محمد رسول الله الدال بحسب ظاهر حالهم على أنهم يعتقدون مضمون ذلك ويذعنون له، ولو كان الاستدلال فرضا لأمروا به بعد النطق بالكلمتين أو علموا الدليل ولقنوه كما لقنوهما وكما علموا سائر الواجبات، ولو وقع ذلك لنقل إلينا فإنه من أهم مهمات الدين، ولم ينقل أنهم أمروا أحدا(13/217)
منهم أسلم بترديد نظر ولا سألوه عن دليل تصديقه ولا أرجؤوا أمره حتى ينظر فلو كان النظر واجبا على الأعيان ولو إجماليا على طريق العامة لما اكتفى النبي صلّى الله عليه وسلّم من أولئك العوام والأجلاف بمجرد الإقرار لأن النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه لا يقرون أحدا على ترك فرض العين من غير عذر، فلا يكون تاركه آثما فضلا عن أن يكون بتركه غير صحيح الإيمان، ويشهد لذلك ما قاله صلّى الله عليه وسلّم لأسامة بن زيد عند اعتذاره عن قتل مرداس بن نهيك من أهل فدك وغيره من الأخبار الكثيرة. وما في المواقف والمقاصد وشرح المختصر العضدي وغيرها من كتب الكلام والأصول من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه كانوا يعلمون أنهم- أي العوام- واجلاف العرب يعلمون الأدلة إجمالا كما قال الأعرابي: البعرة تدل على البعير وأثر الأقدام على المسير أفسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج لا تدل على اللطيف الخبير أي فلذلك لم يلزموهم النظر ولا سألوهم عنه ولا أرجؤوا أمرهم وكل ما كان كذلك لم يكن اكتفاؤهم بمجرد الإقرار دليلا على أن النظر ليس واجبا على الأعيان ولا على أن تاركه غير آثم دعوى لا دليل عليها، وحكاية الأعرابي إن كانت مسوقة للاستدلال لا تدل غاية ما في الباب أن ذلك الأعرابي كان عالما بدليل إجمالي، ولا يلزم منه أن جميع الأجلاف والعوام كانوا عالمين بالأدلة الإجمالية في عهد النبوة وغيره وإلا لكانت حجة على أنه لا مقلد في الوجود، على أن بعضهم أسند ذلك القول إلى قس بن ساعدة وكان في الفترة. والجلال المحلي ذكره لأعرابي قاله في جواب الأصمعي وكان في زمن الرشيد بل قد يقال: إن ظاهر كثير من الآيات والأخبار يدل على أن كثيرا من المشركين في عهده عليه الصلاة والسلام لم يكونوا عالمين بأدلة التوحيد مطلقا، وذلك كقوله تعالى حكاية عنهم: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص: 5] . إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ [الصافات: 36] وقول بعضهم في بعض الحروب: أعل هبل أعل هبل وما ذكره المحقق العضد في شرح المختصر من الدليل على عدم جواز التقليد حيث قال: إن الأمة أجمعوا على وجوب معرفة الله تعالى وأنها لا تحصل بالتقليد لثلاثة أوجه: أحدها أنه يجوز الكذب على المخبر فلا يحصل بقوله العلم ثانيها أنه لو أفاد العلم لأفاده بنحو حدوث العالم من المسائل المختلف فيها فإذا قلد واحد في الحدوث والآخر في القدم كانا عالمين بهما فيلزم حقيقتهما وأنه محال. ثالثها أن التقليد لو حصل العلم فالعلم بأنه صدق فيما أخبر به إما أن يكون ضروريا أو نظريا لا سبيل إلا الأول بالضرورة فلا بد له من دليل والمفروض إنه لا دليل إذ لو علم صدقه بدليله لم يبق تقليدا تعقبه العلامة الكوراني فقال: فيه بحث، أما في الوجه الأول فلأن من جوز التقليد مثل المقلد بمن نشأ على شاهق جبل ولم ينظر في ملكوت السموات والأرض وأخبره غيره بما يلزمه اعتقاده وصدقه بمجرد إخباره من غير تفكر وتدبر وهو صريح في أن الكلام في مقلد أخبره غيره بما يلزمه اعتقاده وما يلزمه اعتقاده لا يكون إلا صدقا فإن الكذب لا يلزم أحدا اعتقاده، وأما من أخبر بالأكاذيب فاعتقدها فهو لم يعتقد إلا أكاذيب والأكاذيب ليس من معرفة الله تعالى في شيء فكيف يحكم عليه أحد من العقلاء بأنه مؤمن بالله تعالى عارف به مع أنه لم يعتقد إلا الأكاذيب وهو ظاهر، وأما في الوجه الثاني فلمثل ما مر لأنا لا نقول: إن كل تقليد مفيد للعلم ولا أن كل مقلد عالم كيف وليس كل نظر مفيدا للعلم ولا كل
ناظر مصيبا، فإذا لم يكن النظر موجبا للعلم مطلقا وإنما الموجب النظر الصحيح فكذلك نقول: ليس كل تقليد مفيدا للعلم وإنما المفيد التقليد الصحيح، وهو أن يقلد عالما بمسائل معرفة الله تعالى صادقا فيما يخبره به فإن الكلام إنما هو في صحة إيمان مثل هذا المقلد لا مطلقا، وأما في الثالث فلأنا نختار أن علمه بأنه صدق فيما أخبر به ضروري قولكم لا سبيل إليه بالضرورة قلنا: ممنوع لقوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الأنعام: 125]
وقد روي مرفوعا أنه صلّى الله عليه وسلّم سئل عن شرح الصدر فقال عليه الصلاة والسلام: «نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينفسح»
فصرح صلّى الله عليه وسلّم بأنه نور لا يحصل من دليل وإنما يقذفه الله تعالى في قلبه فلا يقدر على دفعه من غير فكر ولا روية ولا نظر ولا(13/218)
استدلال، وقد صرح بعض أكابر المحققين بأن توحيد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن علم ضروري وجدوه في نفوسهم لم يقدروا على دفعه وبأن من أهل الفترة من وجد كذلك بل قد صرح بأن الإيمان علم ضروري يجده المؤمن في قلبه لا يقدر على دفعه فكم من آمن بلا دليل ومن لم يؤمن مع الدليل، وقلما يوثق بإيمان من آمن عن دليل فإنه معرض للشبه القادحة فيه.
وفي الباب المائة والاثنين والسبعين والمائة والسابع والسبعين والمائتين والسابع والسبعين من الفتوحات المكية ما يؤيد ذلك، وقال الإمام حجة الإسلام في فيصل التفرقة: من أشد الناس غلوا وانحرافا طائفة من المتكلمين كفروا عوام المسلمين وزعموا أن من لا يعرف الكلام معرفتنا ولم يعرف الأدلة الشرعية بأدلتنا التي حررناها فهو كافر فهؤلاء ضيقوا رحمة الله تعالى الواسعة على عباده أولا، وجعلوا الجنة وقفا على شرذمة يسيرة من المتكلمين، ثم جهلوا ما تواترت به السنة ثانيا إذ ظهر من عصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعصر الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين حكمهم بإسلام طوائف من أجلاف العرب كانوا مشغولين بعبادة الوثن ولم يشتغلوا بتعليم الدلائل ولو اشتغلوا بها لم يفهموها، ومن ظن أن مدرك الإيمان الكلام والأدلة المحررة والتقسيمات المرتبة فقد أبعد، لا بل الإيمان نور يقذفه الله تعالى في قلب عبده عطية وهداية من عنده، تارة بتنبه في الباطل لا يمكن التعبير عنه، وتارة بسبب رؤيا في المنام، وتارة بمشاهدة حال رجل متدين وسراية نوره إليه عند صحبته ومجالسته، وتارة بقرينة حال،
فقد جاء أعرابي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاحدا له منكرا فلما وقع بصره على طلعته البهية وغرته الغريرة السنية فرآها يتلألأ منها نور النبوة قال: والله ما هذا وجه كذاب، وسأله أن يعرض عليه الإسلام فأسلم، وجاء آخر فقال: أنشدك الله بعثك الله نبيا؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: بلى إني والله الله بعثني نبيا فصدقه بيمينه وأسلم
، فهذا وأمثاله من أن يحصى ولم يشتغل واحد منهم قط بالكلام وتعلم الأدلة بل كان تبدو أنوار الإيمان أولا بمثل هذه القرائن في قلوبهم لمعة بيضاء ثم لا تزال تزداد وضوحا وإشراقا بمشاهدة تلك الأحوال العظيمة وبتلاوة القرآن وتصفية القلوب، وليت شعري من نقل عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعن الصحابة إحضاره أعرابيا أسلم وقوّله الدليل على أن العالم حادث لأنه لا يخلو عن الأعراض وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، وإن الله تعالى عالم بعلم وقادر بقدرة كلاهما زائد على الذات لا هو ولا غيره إلى غير ذلك من رسوم المتكلمين، ولست أقول: لم تجر هذه الألفاظ بل لم يجر أيضا ما معناه معنى هذه الألفاظ بل كان لا تنكشف ملحمة إلا عن جماعة من الأجلاف يسلمون تحت ظلال السيوف وجماعة من الأسارى يسلمون واحدا واحدا بعد طول الزمان أو على القرب وكانوا إذا نطقوا بكلمة الشهادة علموا الصلاة والزكاة وردوا إلى صناعتهم من رعاية الغنم أو غيرها. نعم لست أنكر أنه يجوز أن يكون ذكر أدلة المتكلمين أحد أسباب الإيمان في حق بعض الناس ولكن ذلك ليس بمقصور عليه وهو نادر أيضا وساق الكلام إلى أن قال: والحق الصريح أن كل من اعتقد أن ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم واشتمل عليه القرآن حق اعتقادا جزما فهو مؤمن وإن لم يعرف أدلته، فالإيمان المستعار من الدلائل الكلامية ضعيف جدا مشرف على التزلزل بكل شبهة بل الإيمان الراسخ إيمان العوام الحاصل في قلوبهم في الصبا بتواتر السماع والحاصل بعد البلوغ بقرائن لا يمكن العبارة عنها اهـ.
وفيه فوائد شتى ولذا نقلناه بطوله، ومتى جاز أن يقذف الله تعالى في قلوب العبد نور الإيمان فيؤمن بلا نظر واستدلال جاز أن يقذف سبحانه في قلبه صدق المخبر بحيث لا يقدر على دفعه ولا يدري أنه من أين جاء لا سيما إذا كان المخبر هو النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإن من لازم قذف نور الإيمان في قلب المؤمن به عليه الصلاة والسلام أن يقذف في قلبه صدقه صلّى الله عليه وسلّم لأن الإيمان لا يتم إلا بذلك، فقد ظهر أن دعوى الضرورة في أنه لا سبيل إلى العلم بصدق المخبر فيما(13/219)
أخبر به علما ضروريا إن لم تكن مكابرة فمنعها ليس مكابرة أيضا، فإن الدليل قد قام على جواز حصول العلم الضروري بصدقه بل على وقوعه فليست تلك الدعوى من المقدمات الضرورية التي يكون منعها مكابرة غير مسموعة، وقد اتضح من جميع ما ذكر أن ما قاله السعد في شرح المقاصد من أن الحق أن المعرفة بدليل إجمالي يرفع الناظر من حضيض التقليد فرض عين لا مخرج عنه لأحد من المكلفين وبدليل تفصيلي يتمكن معه من إزاحة الشبه وإلزام المنكرين وإرشاد المسترشدين فرض كفاية لا بد من أن يقوم به البعض لا يخلو عن نظر على ما قيل، لكن الظاهر عندي أن الحق مع السعد من جهة أن الإيمان بمعنى التصديق مكلف به وشرط المكلف به كونه اختياريا، وقد صرحوا أن التكليف بما ليس باختياري تكليف في الحقيقة بما يتوقف عليه من الأمور الاختيارية وإن التصديق نفسه لكونه غير اختياري كان التكليف به في الحقيقة تكليفا بما يتوقف هو عليه من النظر الاختياري، فالإيمان الذي يحصل بقذفه تعالى النور في القلب من غير فكر ولا روية ولا نظر ولا استدلال ليس اختياريا بنفسه ولا باعتبار ما يحصل هو منه فكيف يكون مكلفا به، وما مراد السعد ومن وافقه بالمعرفة إلا المعرفة من حيث إنها مكلف بها كما يشير إليه قوله: لا مخرج عنه لأحد من المكلفين، وكون ذلك مكلفا به باعتبار أمر اختياري غير النظر كتحصيل الاستعداد لإفاضة النور وخلق العلم الضروري في قلب العبد غير ظاهر. نعم لست أنكر أن من المعرفة ما لا يتوقف على نظر في دليل إجمالي أو غيره كمعرفة الأنبياء عليهم السلام على ما سمعت عن بعضهم، وكمعرفة من شاء الله تعالى من عباده سبحانه غيرهم ولا أسمى نحو هذه المعرفة تقليدية، وكذا لا أنكر أن المعرفة الحاصلة من قذف النور فوق المعرفة الحاصلة من النظر في الدليل فإنها يخشى عليها من عواصف الشبه، وأذهب إلى النظر في الدليل مطلقا واجب على من لم يحصل له العقد الجازم إلا به، وأما من حصل له ذلك بأي طريق كان دونه فلا يجب عليه وكذا لا يأثم بتركه، وحكاية الإجماع على إثمه به لا يخفى ما فيها، وتوجيه ذلك بأن جزم المؤمن حينئذ لا ثقة به إذ لو عرضت له شبهة فات وبقي مترددا بخلاف الجزم الناشئ عن الاستدلال فإنه لا يفوت بذلك غير ظاهر لأنه إذا سلّم أن من تم جزمه من غير نظر فقد أتى بواجب الإيمان فلا وجه لتأثيمه بترك النظر بناء على مجرد احتمال عروض شبهة مشوشة لجزمه لأنه إذا سلّم أن الواجب عليه ليس إلا أن يجزم وقد جزم فقد أدى واجب الوقت وما ترك منه شيئا، وكل من لم يترك واجبا معينا في وقت معين لا معنى لتأثيمه في ذلك الوقت من جهة ذلك الواجب، وكما يحتمل عقلا إن تعرض له شبهة تشوش عليه الجزم لعدم الدليل كذلك يحتمل عقلا أن يحصل له الدليل على ما جزم قبل عروض شبهة ولعل هذا الاحتمال أقوى وأقرب إلى الوقوع.
وإذا أحطت خبرا بجميع ما ذكرنا علمت أن الاستدلال بقوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ على وجوب النظر فيه نظر لتوقفه على صحة قولهم: إن العلم لا يحصل إلا بالنظر وقد سمعت ما فيه. ويقوي ذلك إذا قلنا: إن علمه صلّى الله عليه وسلّم بالوحدانية ضروري إذ يكون المراد الأمر بالثبات والاستمرار على ما هو صلّى الله عليه وسلّم فيه من اجتناب ما يخل بالعلم، وقد يقال: يجوز أن يكون الاستدلال نظرا إلى ظاهر اللفظ من حيث إنه أمر بالعلم بالوحدانية فلا بد أن يكون مقدورا بنفسه أو باعتبار ما يحصل هو منه، وحيث انتفى كونه مقدورا بنفسه تعين كونه مقدورا باعتبار ما يحصل هو منه، والظاهر أنه النظر.
وأنت تعلم أنه إن كان التقليد سببا من أسباب العلم أيضا لم يتم هذا وإن لم يكن سببا تم فتأمل، ثم اعلم أن النظر الذي قالوا به في الأصول الاعتقادية أعم من النظر في الأدلة العقلية والنظر في الأدلة السمعية، فإن منها ما ثبت بالسمع كالأمور الأخروية ومدخل العقل فيها ليس إلا بأنها أمور ممكنة أخبر الصادق بوقوعها وكل ممكن أخبر(13/220)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
الصادق بوقوعه واقع فتلك الأمور واقعة، وأما النظر في معرفة الله تعالى. أعني التصديق بوجوده تعالى وصفاته العلا.
فقيل: يتعين أن يكون المراد به النظر في الأدلة العقلية فقط، ولا يجوز أن يكون النظر في الأدلة السمعية طريقها إليه لاستلزامه الدور. وفي الجواب العتيد الدور لازم لكن لا مطلقا بل بالنسبة إلى كل مطلوب يتوقف العلم بصدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم على العلم به، وذلك لأن النظر في الأدلة السمعية إنما يكون طريقا إلى المعرفة إذا كانت صادقة عند الناظر فيها وصدقها في علم الناظر موقوف على علمه بأن هذا الذي يدعي أنه رسول الله الذي جاء بها (1) صادقا في دعواه الرسالة. وعلمه بذلك موقوف على العلم بأن الله تعالى قد أظهر المعجزات على يده تصديقا له في دعواه وعلمه بذلك موقوف على العلم بأن ثمت إلها على صفة يمكن بها أن يبعث رسولا ككونه حيا عالما مريدا قادرا وهو من معرفة الإله سبحانه فلو استفدنا العلم بوجود الله تعالى وبتلك الصفات من الدلائل السمعية الموقوفة على صدق الرسول عليه الصلاة والسلام لزم الدور كما ترى. نعم إذا قيل: إن المكلف بعد ما آمن بالرسول صلّى الله عليه وسلّم واعتقد اعتقادا جازما بصدقه في جميع ما جاء به من عند الله تعالى بأي وجه كان ذلك الجزم بالضرورة أو بالنظر أو بالتقليد فله أن يأخذ عقيدته من القرآن من غير تأويل ولا ميل من غير أن ينظر في دليل عقلي كان ذلك كلاما صحيحا لا غبار عليه، ولا يلزم منه تحصيل للحاصل بالنسبة إلى ما حصله أولا من المسائل التي يتوقف عليها صدق الرسول عليه الصلاة والسلام لأن التحصيل الثاني من حيث إن الجائي بدلائلها صادق فيها والتحصيل الأول كان بالنظر العقلي من غير اعتبار صدق الرسول عليه الصلاة والسلام فاختلفت الحيثية فليفهم والله تعالى أعلم.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ في الدنيا وَمَثْواكُمْ في الآخرة، وخص المتقلب بالدنيا والمثوى بالآخرة لأن كل أحد متحرك في الدنيا دائما نحو معاده غير قار وفي الآخرة مقيم لا حركة له نحو دار وراءها، والمراد من علمه تعالى بذلك تحذيرهم من جزائه وعقابه سبحانه أو الترغيب في امتثال ما يأمرهم جلّ شأنه به والترهيب عما ينهاهم عزّ وجلّ عنه على طريق الكناية. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: متقلبكم تصرفكم في حياتكم الدنيا ومثواكم في قبوركم وآخرتكم، وقال عكرمة: متقلبكم في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات ومثواكم إقامتكم في الأرض وقال الطبري: وغيره: متقلبكم تصرفكم في يقظتكم ومثواكم منامكم، وقيل: متقلبكم في معايشكم ومتاجركم ومثواكم حيث تستقرون من منازلكم، وقيل: متقلبكم في أعمالكم ومثواكم من الجنة والنار.
واختار أبو حيان عمومهما في كل متقلب وفي كل إقامة، ونحوه ما قيل: المراد يعلم جميع أحوالكم فلا يخفى عليه سبحانه شيء منها.
وقرأ ابن عباس «منقلبكم» بالنون.
__________
(1) قوله: الذي جاء بها صادقا كذا في النسخ.(13/221)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا حرصا على الجهاد لما فيه من الثواب الجزيل فالمراد بهم المؤمنون الصادقون لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ أي هلا أنزلت سورة يؤمر فيها بالجهاد. فلولا: تحضيضية، وعن ابن مالك أن لا زائدة والتقدير لو أنزلت سورة وليس بشيء.
فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ أي بطريق الأمر به، والمراد. بمحكمة. مبينة لا تشابه ولا احتمال فيها لوجه آخر سوى وجوب القتال، وفسرها الزمخشري بغير منسوخة الأحكام. وعن قتادة كل سورة فيها القتال فهي محكمة وهو أشد القرآن على المنافقين وهذا أمر استقرأه قتادة من القرآن لا بخصوصية هذه الآية والمتحقق أن آيات القتال غير منسوخة وحكمها باق إلى يوم القيامة. وقيل: محكمة بالحلال والحرام.
وقرىء «نزلت» سورة بالبناء للفاعل من نزل الثلاثي المجرد ورفع «سورة» على الفاعل.
وقرأ زيد بن علي «نزلت» كذلك إلا أنه نصب «سورة محكمة» ، وخرج ذلك على كون الفاعل ضمير السورة، و «سورة محكمة» نصب على الحال. وقرأ هو وابن عمير «وذكر» مبنيّا للفاعل وهو ضمير تعالى «القتال» بالنصب على أنه مفعول به رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي نفاق، وقيل: ضعف في الدين يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ أي نظر المحتضر الذي لا يطرف بصره، والمراد تشخص أبصارهم جبنا وهلعا، وقيل: يفعلون ذلك من شدة العداوة له عليه الصلاة والسلام، وقيل: من خشية الفضيحة فإنهم إن تخلفوا عن القتال افتضحوا وبان نفاقهم، وقال الزمخشري: كانوا يدعون الحرص على الجهاد ويتمنونه بألسنتهم ويقولون: لولا أنزلت سورة في معنى(13/222)
الجهاد فإذا أنزلت وأمروا فيها بما تمنوا وحرصوا عليه كاعوا وشق عليهم وسقط في أيديهم كقوله تعالى: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ [النساء: 77] والظاهر ما ذكرناه أولا من أن القائلين هم الذين أخلصوا في إيمانهم وإنما عرا المنافقين ما عرا عند نزول أمير المؤمنين بالجهاد لدخولهم فيهم بحسب ظاهر حالهم، وقد جوز هو أيضا إرادة الخلص من الذين آمنوا لكن كلامه ظاهر في ترجح ما ذكره أولا عنده والظاهر أن في الكلام عليه إقامة الظاهر مقام المضمر، وجوز أن يكون المطلوب في قوله تعالى: لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ إنزال سورة مطلقا حيث كانوا يستأنسون بالوحي ويستوحشون إذا أبطأ، وروي نحوه عن ابن جريج. أخرج ابن المنذر عنه أنه قال في الآية: كان المؤمنون يشتاقون إلى كتاب الله تعالى وإلى بيان ما ينزل عليهم فيه فإذا نزلت السورة يذكر فيها القتال رأيت يا محمد المنافقين ينظرون إليك إلخ.
فَأَوْلى لَهُمْ تهديد ووعيد على ما روي عن غير واحد، وعن أبي علي أن (أولى) فيه علم لعين الويل مبني على زنة أفعل من لفظ الويل على القلب وأصله أويل وهو غير منصرف للعلمية والوزن. فالكلام مبتدأ وخبر.
واعترض بأن الويل غير متصرف فيه، ومثل يوم أيوم مع أنه غير منقاس لا يفرد عن الموصوف البتة، وإن القلب خلاف الأصل لا يرتكب إلا بدليل، وإن علم الجنس شيء خارج عن القياس مشكل التعقل خاصة فيما نحن فيه، ثم قيل: إن الاشتقاق الواضح من الولي بمعنى القرب كما في قوله:
تكلفني ليلى وقد شط وليها ... وعادت عواد بيننا وخطوب
يرشد إلى أنه للتفضيل في الأصل غلب في قرب الهلاك ودعاء السوء كأنه قيل: هلاكا أولى لهم بمعنى أهلكهم الله تعالى هلاكا أقرب لهم من كل شر وهلاك، وهذا كما غلب بعدا وسحقا في الهلاك، وهو على هذا منصوب على أنه صفة في الأصل لمصدر محذوف وقد أقيم مقامه والجار متعلق به. وفي الصحاح عن الأصمعي أولى له قاربه ما يهلكه أي نزل به وأنشد:
فعادى بين هاديتين منها ... وأولى أن يزيد على الثلاث
أي قارب أن يزيد، قال ثعلب: ولم يقل أحد في (أولى) أحسن مما قاله الأصمعي، وعلى هذا هو فعل مستتر فيه ضمير الهلاك بقرينة السياق، وقريب منه ما قيل: إنه فعل ماض وفاعله ضميره عزّ وجلّ واللام مزيدة أي أولاهم الله تعالى ما يكرهون أو غير مزيدة أي أدنى الله عزّ وجلّ الهلاك لهم، والظاهر زيادة اللام على ما سمعت عن الأصمعي، ومن فسره بقرب جوز الأمرين، وقيل: هو اسم فعل والمعنى وليهم شر بعد شر. وقيل: هو فعلى من آل بمعنى رجع لا أفعل من الولي فهو في الأصل دعاء عليهم بأن يرجع أمرهم إلى الهلاك، والمراد أهلكهم الله تعالى إلا أن التركيب مبتدأ وخبر، وقال الرضي: هو علم للوعيد من وليه الشر أي قربه، والتركيب مبتدأ وخبر أيضا. واستدل بما حكي أبو زيد من قولهم: أولاة بتاء التأنيث على أنه ليس بأفعل تفضيل ولا أفعل فعلى وإنه علم وليس بفعل ثم قال: بل هو مثل أرمل وأرملة إذا سمي بهما ولذا لم ينصرف، وليس اسم فعل أيضا بدليل أولاة في تأنيثه بالرفع يعني أنه معرب ولو كان اسم فعل كان مبنيا مثله. وتعقب بأنه لا مانع من كون أولاة لفظا آخر بمعناه يرد من ذلك على قائلي ما تقدم أصلا، وجاء أول أفعل تفضيل وظرفا كقبل وسمع فيه أولة كما نقله أبو حيان، وقيل: الأحسن كونه أفعل تفضيل بمعنى أحق وأحرى وهو خبر لمبتدأ محذوف يقدر في كل مقام بما يليق به والتقدير هاهنا العقاب أولى لهم، وروي ذلك عن قتادة ومال إلى هذا القول ابن عطية، وعلى جميع هذه الأقوال قوله تعالى: طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ كلام مستقل محذوف منه أحد(13/223)
الجزأين أما الخبر وتقديره خير لهم أو أمثل، وهو قول مجاهد ومذهب سيبويه والخليل. وأما المبتدأ وتقديره الأمر أو أمرنا طاعة أي الأمر المرضي لله تعالى طاعة، وقيل: أي أمرهم طاعة معروفة وقول معروف أي معلوم حاله أنه خديعة، وقيل: هو حكاية قولهم قبل الأمر بالجهاد أي قالوا أمرنا طاعة ويشهد له قراءة أبي «يقولون طاعة وقول معروف» وذهب بعض إلى أن (أولى) أفعل تفضيل مبتدأ ولَهُمْ صلته واللام بمعنى الباء وطاعَةٌ خبر كأنه قيل فأولى بهم من النظر إليك نظر المغشيّ عليه من الموت طاعة وقول معروف، وعليه لا يكون كلاما مستقلا ولا يوقف على لَهُمْ ومما لا ينبغي أن يلتفت إليه ما قيل: إن طاعَةٌ صفة لسورة في قوله تعالى فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ والمراد ذات طاعة أو مطاعة. وتعقبه أبو حيان بأنه ليس بشيء لحيلولة الفصل الكثير بين الصفة والموصوف فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ أي جد والجد أي الاجتهاد لأصحاب الأمر إلا أنه أسند إليه مجازا كما في قوله تعالى: إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان:
17] ومنه قول الشاعر:
قد جدت الحرب بكم فجدوا والظاهر أن جواب «إذا» قوله تعالى: فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ وهو العامل فيها ولا يضر اقترانه بالفاء ولا تمنع من عمل ما بعدها فيما قبلها في مثله كما صرحوا به، وهذا نحو إذا جاء الشتاء فلو جئتني لكسوتك، وقيل: الجواب محذوف تقديره فإذا عزم الأمر كرهوا أو نحو ذلك قاله قتادة. وفي البحر من حمل طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ على أنهم يقولون ذلك خديعة قدر فإذا عزم الأمر ناقضوا وتعاصوا، ولعل من يجعل القول السابق للمؤمنين في ظاهر الحال وهم المنافقون جوز هذا التقدير أيضا، وقدر بعضهم الجواب فاصدق وهو كما ترى، وأيا ما كان فالمراد فلو صدقوا الله فيما زعموا من الحرص على الجهاد ولعلهم أظهروا الحرص عليه كالمؤمنين الصادقين، وقيل: في قوله: طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ، وقيل: في إيمانهم لَكانَ أي الصدق خَيْراً لَهُمْ مما ارتكبوه وهذا مبني على ما في زعمهم من أن فيه خيرا وإلا فهو في نفس الأمر لا خير فيه.
فَهَلْ عَسَيْتُمْ خطاب لأولئك الذين في قلوبهم مرض بطريق الالتفات لتأكيد التوبيخ وتشديد التقريع، وهل للاستفهام والأصل فيه أن يدخل الخبر للسؤال عن مضمونه والإنشاء الموضوع له عسى ما دل عليه بالخبر أي فهل يتوقع منكم وينتظر إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أمور الناس وتأمرتم عليهم فهو من الولاية والمفعول به محذوف وروي ذلك عن محمد بن كعب وأبي العالية والكلبي أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ تناحرا على الولاية وتكالبا على جيفة الدنيا والمتوقع كل من يقف على حالهم إلا الله عزّ وجلّ إذ لا يصح منه سبحانه ذلك والاستفهام أيضا بالنسبة إلى غيره جلّ وعلا فالمعنى إنكم لما عهد منكم من الأحوال الدالة على الحرص على الدنيا حيث أمرتم بالجهاد الذي هو وسيلة إلى ثواب الله تعالى العظيم فكرهتموه وظهر عليكم ما ظهر أحقاء بأن يقول لكم كل من ذاقكم وعرف حالكم يا هؤلاء ما ترون هل يتوقع منكم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض إلخ.
وفسر بعضهم التولي بالإعراض عن الإسلام فالفعل لازم أي فهل عسيتم إن ارضتم عن الإسلام أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الإفساد في الأرض بالتغاور والتناهب وقطع الأرحام بمقاتلة بعض الأقارب بعضا ووأد البنات، وتعقب بأن الواقع في حيز الشرط في مثل هذا المقام لا بد أن تكون محذوريته باعتبار ما يتبعه من المفاسد لا باعتبار ذاته ولا ريب في أن الأعراض عن الإسلام رأس كل شر وفساد فحقه أن يجعل عمدة في التوبيخ لا وسيلة للتوبيخ بما دونه من المفاسد، ويؤيد الأول قراءة بعض «ولّيتم» مبنيا المفعول وكذا قراءته عليه الصلاة والسلام على ما ذكر في الحبر
ورويت عن علي كرم الله تعالى وجهه. ورويس. ويعقوب «تولّيتم» بالبناء للمفعول
أيضا بناء على أن(13/224)
المعنى تولاكم الناس واجتمعوا على موالاتكم، والمراد كنتم فيهم حكاما، وقيل: المعنى تولاكم ولاة غشمة خرجتم معهم ومشيتم تحت لوائهم وأفسدتم بإفسادهم واستظهر أبو حيان تفسيره بالإعراض إلا أنه قال: المعنى إن أعرضتم عن امتثال أمر الله تعالى في القتال أن تفسدوا في الأرض بعدم معونة أهل الإسلام على أعدائهم وتقطعوا أرحامكم لأن من أرحامكم كثيرا من المسلمين فإذا لم تعينوهم قطعتم ما يبينكم وبينهم من الرحم.
وتعقب بأن حمل الإفساد على الإفساد بعدم المعونة فيه خفاء، وكذا الإتيان بأن عليه دون إذا من حيث إن الإعراض عن امتثال أمر الله تعالى في القتال كالمحقق من أولئك المنافقين فتأمل، وأَنْ تُفْسِدُوا خبر عسى. وإِنْ تَوَلَّيْتُمْ اعتراض، وجواب أن محذوف يدل عليه ما قبله، وزعم بعضهم أن الأظهر جعل إِنْ تَوَلَّيْتُمْ حالا مقدرة، وفيه أن الشرط بدون الجواب لم يعهد وقوعه حالا في غير أن الوصلية وهي لا تفارق الواو، والحاق الضمائر بعسى كما في سائر الأفعال المتصرفة لغة أهل الحجاز، وبنو تميم لا يلحقونها به ويلتزمون دخوله على أن والفعل فيقولون الزيدان عسى أن يقوما والزيدون عسى أن يقوموا، وذكر الإمام هاتين اللغتين ثم قال: وأما قول من قال: عسى أنت تقوم وعسى أنا أقوم فدون ما ذكرنا للتطويل الذي فيه فإن كان مقصوده حكاية لغة ثالثة هي انفصال الضمير فنحن لا نعلم أحدا من نقلة اللسان العربي ذكرها وإن كان غير ذلك فليس فيه كثير جدوى.
وقرأ نافع «عسيتم» بكسر السين المهملة، وهو غريب. وقرأ عمرو في رواية. وسلام ويعقوب وأبان وعصمة «تقطعوا» بالتخفيف مضارع قطع، والحسن «تقطّعوا» بفتح التاء والقاف وشد الطاء وأصله تتقطعوا بتاءين حذفت أحدهما ونصبوا «أرحامكم» على إسقاط الحرف أي في أرحامكم لأن تقطع لازم أُولئِكَ إشارة إلى المخاطبين بطريق الالتفات إيذان بأن ذكر هناتهم أوجب إسقاطهم عن درجة الخطاب ولو على جهة التوبيخ وحكاية أقوالهم الفظيعة لغيرهم، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أي أبعدهم من رحمته عزّ وجلّ فَأَصَمَّهُمْ عن استماع الحق لتصامهم عنه لسوء اختيارهم وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ لتعاميهم عما يشاهدونه من الآيات المنصوبة في الأنفس والآفاق وجاء التركيب فَأَصَمَّهُمْ ولم يأت فأصم آذانهم كما جاء وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ أو وأعماهم كما جاء فأصمهم، قيل: لأن الأذن لو أصيبت بقطع أو قلع لسمع الكلام فلم يحتج إلى ذكر الأذن والبصر وهو العين لو أصيب لامتنع الإبصار فالعين لها مدخل في الرؤية والأذن لا مدخل لها في السمع انتهى وهو كما ترى.
وقال الخفاجي: لأنه إذا ذكر الصمم لم يبق حاجة إلى ذكر الآذان، وأما العمى فلشيوعه في البصر والبصيرة حتى قيل: إنه حقيقة فيهما وهو ظاهر ما في القاموس فإذا كان المراد أحدهما حسن تقييده.
وقيل في وجه ذلك بناء على كون العمى حقيقة فيما كان في البصر إن نحو أعمى الله أبصارهم بحسب الظاهر من باب أبصرته بعيني وهو يقال في مقام يحتاج إلى التأكيد، ولما كان أولئك الذين حكى حالهم في أمر الجهاد غير ظاهر إعماؤهم ظهور إصمامهم كيف وفي الآيات السابقة ما يؤذن بعدم انتفاعهم بالمسموع من القرآن وهو من آثار إصمامهم وليس فيها ما يؤذن بعدم انتفاعهم بالآيات المرئية المنصوبة في الأنفس والآفاق الذي هو من آثار إعمائهم ناسب أن يسلك في كل من الجملتين ما سلك مع ما في سلوكه في الأخير من رعاية الفواصل وهو أدق مما قبل، هذا والأرحام جمع رحم بفتح الراء وكسر الحاء وهي على ما في القاموس القرابة أو أصلها وأسبابها، وقال الراغب: الرحم رحم المرأة أي بيت منبت ولدها ووعاؤه ومنه استعير الرحم للقرابة لكونهم خارجين من رحم واحدة، ويقال للأقارب ذوو رحم كما يقال لهم أرحام، وقد صرح ابن الأثير بأن ذا الرحم يقع على كل من يجمع بينك وبينه نسب ويطلق في الفرائض على الأقارب من جهة النساء والمذكور في كتبها تفسيره بكل قريب ليس بذي سهم ولا عصبة وعدوا من(13/225)
ذلك أولاد الأخوات لأبوين أو لأب وعمات الآباء وظاهر كلام الأئمة في قوله عليه الصلاة والسلام من ملك ذا رحم محرم فهو حر دخول الأبوين والولد في ذي الرحم لغة حيث أجمعوا على أنهم يعتقون على من ملكهم لهذا الخبر وإن اختلفوا في عتق غيرهم، وصرح ابن حجر الهيثمي في الزواجر بأن الأولاد من الأرحام وظاهر عطف الأقربين على الوالدين في الآية يقتضي عدم دخولهما في الأقارب فلا يدخلون في الأرحام لأنهم كما قالوا الأقارب، وكلام فقهائنا نص في عدم دخول الوالدين والولد في ذلك حيث قالوا: إذا أوصى لأقاربه أو لذوي قرابته أو لأرحامه فهي للأقرب فالأقرب من كل ذي رحم محرم ولا يدخل الوالدان والولد، وأما الجد وولد الولد فنقل أبو السعود عن العلامة قاسم عن البدائع أن الصحيح عدم دخولهما، واختاره في الاختيار وعلله بأن القريب من يتقرب إلى غيره بواسطة غيره وتكون الجزئية بينهما منعدمة، وفي شرح الحموي أن دخولهما هو الأصح. وفي متن المواهب وأدخل أي محمد الجد والحفدة وهو الظاهر عنهما، وذكر أن مثل الجد والجدة وقد يقال: إن عدم دخول الوالدين والولد في ذلك وكذا الجد والحفدة عند من يقول بعدم دخولهم ليس لأن اللفظ لا يصدق عليهم لغة بل لأنه لا يصدق عليهم عرفا وهم اعتبروا العرف كما قال الطحطاوي في أكثر مسائل الوصية. وفي جامع الفصولين أن مطلق الكلام فيما بين الناس ينصرف إلى المتعارف، وما ذكره في المعراج من خبر من سمى والده قريبا عقه لا يدل على أنه ليس قريبا لغة بل هو بيان حكم شرعي مبناه أن في ذلك إيذاء للوالد وحطا من قدره عرفا، وهذا كما لو ناداه باسمه وكان يكره ذلك، وأمر العطف في الآية الكريمة سهل لجواز عطف العام على الخاص كعطف الخاص على العام، فالذي يترجح عندي أن الأرحام كما صرحوا به الأقارب بالقرابة الغير السببية والمراد ما يقابل الأجانب ويدخل فيهم الأصول والفروع والحواشي من قبل الأب أو من قبل الأم وحرمة قطع كل لا شك فيها لأنه على ما قلنا رحم، والآية ظاهرة في حرمة قطع الرحم. وحكى القرطبي في تفسيره اتفاق الأمة على حرمة قطعها ووجوب صلتها، ولا ينبغي التوقف في كون القطع كبيرة، والعجب من الرافعي عليه الرحمة كيف توقف في قول صاحب الشامل: إنه من الكبائر، وكذا تقرير النووي قدس سره له على توقفه، واختلف في المراد بالقطيعة فقال أبو زرعة: ينبغي أن تختص بالإساءة، وقال غيره: هي ترك الإحسان ولو بدون إساءة لأن الأحاديث آمرة بالصلة ناهية عن القطيعة ولا واسطة بينهما، والصلة إيصال نوع من أنواع الإحسان كما فسرها بذلك غير واحد فالقطيعة ضدها فهي ترك الإحسان. ونظر فيه الهيثمي بناء على تفسير العقوق بأن يفعل مع أحد أبويه ما لو فعله مع أجنبي كان محرما صغيرة فينتقل بالنسبة إلى أحدهما كبيرة وان الأبوين أعظم من بقية الأقارب ثم قال: فالذي يتجه ليوافق كلامهم وفرقهم بين العقوق وقطع الرحم أن المراد بالأول
أن يفعل مع أحد الأبوين ما يتأذى به فإن كان التأذي ليس بالهين عرفا كان كبيرة وإن لم يكن محرما لو فعله مع الغير وبالثاني قطع ما ألف القريب منه من سابق الوصلة والإحسان بغير عذر شرعي لأن قطع ذلك يؤدي إلى إيحاش القلوب وتأذيها، فلو فرض أن قريبه لم يصل إليه إحسان ولا إساءة قط لم يفسق بذلك لأن الأبوين إذا فرض ذلك في حقهما من غير أن يفعل معهما ما يقتضي التأذي العظيم لغناهما مثلا لم يكن كبيرة فأولى بقية الأقارب ولو فرض أن الإنسان لم يقطع عن قريبه ما ألفه منه من الإحسان لكنه فعل معه محرما صغيرة أو قطب في وجهه أو لم يقم له في ملأ ولا عبأ به لم يكن ذلك فسقا بخلافه مع أحد الأبوين لأن تأكد حقهما اقتضى أن يتميزا على بقية الأقارب بما لا يوجد نظيره فيهم وعلى ضبط الثاني بما ذكرته فلا فرق بين أن يكون الإحسان الذي ألفه منه قريبه مالا أو مكاتبة أو مراسلة أو زيارة أو غير ذلك فقطع ذلك كله بعد فعله لغير عذر كبيرة، وينبغي أن يراد بالعذر في المال فقد ما كان يصله به أو تجدد احتياجه إليه أو أن يندبه الشارع إلى تقديم غير القريب عليه لكونه أحوج أو أصلح، فعدم الإحسان إلى القريب أو تقديم الأجنبي عليه لهذا العذر يرفع عنه وإن انقطع بسبب ذلك ما ألفه منه القريب لأنه إنما راعى أمر الشارع بتقديم الأجنبي عليه، وواضح أن القريب لو ألف(13/226)
منه قدرا معينا من المال يعطيه إياه كل سنة مثلا فنقصه لا يفسق بذلك بخلاف ما لو قطعه من أصله لغير عذر، وأما عذر الزيارة فينبغي ضبطه بعذر الجمعة لجامع أن كلّا فرض عين وتركه كبيرة وأما عذر ترك المكاتبة والمراسلة فهو أن لا يجد من يثق به في أداء ما يرسله معه، والظاهر أنه إذا ترك الزيارة التي ألفت منه في وقت مخصوص لعذر لا يلزمه قضاؤها في غير ذلك الوقت، والأولاد والأعمام من الأرحام وكذا الخالة فيأتي فيهم وفيها ما تقرر من الفرق بين قطعهم وعقوق الوالدين، وأما قول الزركشي: صح في الحديث أن الخالة بمنزلة الأم وأن عم الرجل صنو أبيه وقضيتهما أنهما مثل الأب والأم حتى في العقوق فبعيد جدا ويكفي مشابهتهما في أمر ما كالحضانة تثبت للخالة كما تثبت للأم وكذا المحرمية وكالإكرام في العم والمحرمية وغيرهما مما ذكر انتهى المراد منه، ولو قيل: إن الصغيرة تعد كبيرة لو فعلت مع القريب لكنها دون ما لو فعلت مع أحد الأبوين لم يبعد عندي لتفاوت قبح السيئات بحسب الإضافات بل لا يبعد على هذا أن يكون قبح قطع الرحم متفاوتا باعتبار الشخص القاطع وباعتبار الشخص المقطوع ومتى سلم التفاوت فليقل به في العقوق ويكون عقوق الأم أقبح من عقوق الأب وكذا عقوق الولد الذي يعبأ به أقبح من عقوق الولد الذي لا يعبأ به ويتفرع من ذلك ما يتفرع مما لا يخفى على فقيه. واستدل بالآية عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه على منع بيع أم الولد. روى الحاكم في المستدرك وصححه. وابن المنذر عن بريدة قال: كنت جالسا عند عمر إذ سمع صائحا فسأل فقيل: جارية من قريش تباع أمها فأرسل يدعو المهاجرين والأنصار فلم تمض ساعة حتى امتلأت الدار والحجرة فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فهل تعلمونه كان مما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم القطيعة قالوا: لا قال:
فإنها قد أصبحت فيكم فاشية ثم قرأ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ ثم قال:
وأي قطيعة أقطع من أن تباع أم امرئ فيكم قالوا فاصنع ما بدا لك فكتب في الآفاق أن لا تباع أم حر فإنها قطيعة رحم وأنه لا يحل واستدل بها أيضا على جواز لعن يزيد عليه من الله تعالى ما يستحق نقل البرزنجي في الإشاعة والهيثمي في الصواعق أن الإمام أحمد لما سأله ولده عبد الله عن لعن يزيد قال كيف لا يلعن من لعنه الله تعالى في كتابه فقال عبد الله قد قرأت كتاب الله عز وجل فلم أجد فيه لعن يزيد فقال الإمام إن الله تعالى يقول: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ الآية وأي فساد وقطيعة أشد مما فعله يزيد انتهى.
وهو مبني على جواز لعن العاصي المعين من جماعة لعنوا بالوصف، وفي ذلك خلاف فالجمهور، على أنه لا يجوز لعن المعين فاسقا كان أو ذميا حيا كان أو ميتا ولم يعلم موته على الكفر لاحتمال أن يختم له أو ختم له بالإسلام بخلاف من علم موته على الكفر كأبي جهل.
وذهب شيخ الإسلام السراج البلقيني إلى جواز لعن العاصي المعين لحديث الصحيحين «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح» وفي رواية «إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح» واحتمال أن يكون لعن الملائكة عليهم السلام إياها ليس بالخصوص بل بالعموم بأن يقولوا: لعن الله من باتت مهاجرة فراش زوجها بعيد وإن بحث به معه ولده الجلال البلقيني.
وفي الزواجر لو استدل لذلك
بخبر مسلم «أنه صلّى الله عليه وسلّم مر بحمار وسم في وجهه فقال: لعن الله من فعل هذا»
لكان أظهر إذ الإشارة بهذا صريحة في لعن معين إلا أن يؤول بأن المراد الجنس وفيه ما فيه انتهى.
وعلى هذا القول لا توقف في لعن يزيد لكثرة أوصافه الخبيثة وارتكابه الكبائر في جميع أيام تكليفه ويكفي ما فعله أيام استيلائه بأهل المدينة ومكة
فقد روى الطبراني بسند حسن «اللهم من ظلم أهل المدينة وأخافهم فأخفه وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل»
والطامة الكبرى ما فعله بأهل البيت ورضاه بقتل(13/227)
الحسين على جده وعليه الصلاة والسلام واستبشاره بذلك وإهانته لأهل بيته مما تواتر معناه وإن كانت تفاصيله آحادا،
وفي الحديث «ستة لعنتهم (1) وفي رواية: لعنهم الله وكل نبي مجاب الدعوة المحرف لكتاب الله- وفي رواية-: الزائد في كتاب الله والمكذب بقدر الله والمتسلط بالجبروت ليعز من أذل الله ويذل من أعز الله والمستحل من عترتي والتارك لسنتي»
وقد جزم بكفره وصرح بلعنه جماعة من العلماء منهم الحافظ ناصر السنة ابن الجوزي وسبقه القاضي أبو يعلى، وقال العلامة التفتازاني: لا نتوقف في شأنه بل في إيمانه لعنة الله تعالى عليه وعلى أنصاره وأعوانه، وممن صرح بلعنه الجلال السيوطي عليه الرحمة وفي تاريخ ابن الوردي. وكتاب الوافي بالوفيات أن السبي لما ورد من العراق على يزيد خرج فلقي الأطفال والنساء من ذرية علي. والحسين رضي الله تعالى عنهما والرؤوس على أطراف الرماح وقد أشرفوا على ثنية جيرون فلما رآهم نعب غراب فأنشأ يقول:
لما بدت تلك الحمول وأشرفت ... تلك الرؤوس على شفا جيرون
نعب الغراب فقلت قل أو لا تقل ... فقد اقتضيت من الرسول ديوني
يعني أنه قتل بمن قتله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر كجده عتبة وخاله ولد عتبة وغيرهما وهذا كفر صريح فإذا صح عنه فقد كفر به ومثله تمثله بقول عبد الله بن الزبعري قبل إسلامه:
ليت أشياخي الأبيات، وأفتى الغزالي عفا الله عنه بحرمة لعنه وتعقب السفاريني من الحنابلة نقل البرزنجي والهيثمي السابق عن أحمد رحمه الله تعالى فقال: المحفوظ عن الإمام أحمد خلاف ما نقلا، ففي الفروع ما نصه ومن أصحابنا من أخرج الحجاج عن الإسلام فيتوجه عليه يزيد ونحوه ونص أحمد خلاف ذلك وعليه الأصحاب، ولا يجوز التخصيص باللعنة خلافا لأبي الحسين وابن الجوزي وغيرهما، وقال شيخ الإسلام: يعني والله تعالى أعلم ابن تيمية ظاهر كلام أحمد الكراهة، قلت: والمختار ما ذهب إليه ابن الجوزي. وأبو حسين القاضي. ومن وافقهما انتهى كلام السفاريني.
وأبو بكر بن العربي المالكي عليه من الله تعالى ما يستحق أعظم الفرية فزعم أن الحسين قتل بسيف جده صلّى الله عليه وسلّم وله من الجهلة موافقون على ذلك كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [الكهف: 5] .
قال ابن الجوزي عليه الرحمة في كتابه السر المصون: من الاعتقادات العامة التي غلبت على جماعة منتسبين إلى السنة أن يقولوا: إن يزيد كان على الصواب وإن الحسين رضي الله تعالى عنه أخطأ في الخروج عليه ولو نظروا في السير لعلموا كيف عقدت له البيعة وألزم الناس بها ولقد فعل في ذلك كل قبيح ثم لو قدرنا صحة عقد البيعة فقد بدت منه بواد كلها توجب فسخ العقد ولا يميل إلى ذلك إلا كل جاهل عامي المذهب يظن أنه يغيظ بذلك الرافضة. هذا ويعلم من جميع ما ذكره اختلاف الناس في أمره فمنهم من يقول: هو مسلم عاص بما صدر منه مع العترة الطاهرة لكن لا يجوز لعنه، ومنهم من يقول: هو كذلك ويجوز لعنه مع الكراهة أو بدونها ومنهم من يقول: هو كافر ملعون، ومنهم من يقول: إنه لم يعص بذلك ولا يجوز لعنه وقائل هذا ينبغي أن ينظم في سلسلة أنصار يزيد وأنا أقول: الذي يغلب على ظني أن الخبيث لم يكن مصدقا برسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأن مجموع ما فعل مع أهل حرم الله تعالى وأهل حرم نبيه عليه الصلاة والسلام وعترته الطيبين الطاهرين في الحياة وبعد الممات وما صدر منه من المخازي ليس بأضعف دلالة على
__________
(1) قوله «ستة لعنتهم» كذا في النسخ والمعدود فيها خمس سقط منها «والمستحل لحرم الله» .(13/228)