وقرأ ابن عامر وحده «منكم» بكاف وَآثاراً فِي الْأَرْضِ أي قصورا للسكنى وحصونا للقتال ومصانع للمياه فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ، أي أهلكهم الله بسبب تكذيبهم الرسل بضروب الهلاك وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ، أي لم يجدوا من يمنعهم من الله ومن يخلصهم من عذاب الله.
وقرأ ابن كثير بالياء في الوقف. ذلِكَ العذاب في الدنيا بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالأحكام الظاهرة، وبالمعجزات الباهرة، فَكَفَرُوا بذلك، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ أخذا وبيلا، إِنَّهُ قَوِيٌّ بأخذه شَدِيدُ الْعِقابِ (22) لمن عاقبه وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا، وهي معجزاته وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) ، أي حجة مبينة إِلى فِرْعَوْنَ- ملك مصر- وَهامانَ- وزير فرعون- وَقارُونَ- ابن عم موسى- فَقالُوا لموسى فيما أظهره من المعجزات: هذا ساحِرٌ وفيما ادعاه من رسالة رب العالمين: هذا كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ، أي بتلك المعجزات الباهرة مِنْ عِنْدِنا قالُوا أي- فرعون وأتباعه- اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ، أي لا تقتلوا بناتهم للخدمة. وهذا القتل غير القتل الذي وقع في وقت ولادة موسى عليه السلام، لأن فرعون قد كف عن قتل الولدان بعد ولادة موسى، فلما بعث الله موسى أعاد القتل على بني إسرائيل، لئلا ينشئوا على دين موسى، فيقوى بهم، زعما منه أن القتل يمنع الناس من الإيمان وظنا منهم أن موسى هو الذي حكم المنجمون والكهنة بزوال ملكهم على يده. وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ (25) ، أي بطلان. لأن الله تعالى شغلهم عن ذلك القتل بما أنزل إليهم من أنواع العذاب: كالضفادع، والقمل، والدم، والطوفان إلى أن خرجوا من مصر، فأغرقهم الله تعالى، ولأن الناس لا يمتنعون من الإيمان وإن فعل بهم مثل هذا. وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وغرض فرعون من هذا الكلام إخفاء خوفه لأن أحدا ما منع فرعون من قتل موسى، وقد كان فرعون استيقن أن موسى نبي وأن ما جاء به آيات باهرة، وما هو بسحر، ولكن كان يخاف إن همّ بقتله أن يعاجل بالهلاك، ويخاف من أنه لو حاول قتله لظهرت منه معجزات قاهرة تمنعه من قتله، فيفتضح، وكان من دهائه ووقاحته قال هذا تمويها لقومه: أنه إذا امتنع من قتله رعاية لقلوبهم ربما ظنوا أن موسى كان محقا، وعجزوا عن جوابه، فقتلوه إيهاما أنهم هم الكافّون له عن قتله ولولاهم لقتله وما كان الذي يكفه إلّا ما في نفسه من الفزع الهائل. وَلْيَدْعُ رَبَّهُ الذي يزعم أنه أرسله إلي حتى يخلصه مني. وهذا على سبيل الاستهزاء في إظهار عدم المبالاة بدعائه، إِنِّي أَخافُ إن لم أقتله أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ الذي أنتم عليه من عبادة فرعون والأصنام، أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) من قتل أبنائكم واستخدام نسائكم.(2/346)
وقرأ نافع وأبو عمرو «وأن يظهر» بالواو الجامعة بين أمرين. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «أو يظهر» بفتح الياء والهاء ورفع «الفساد» فالقراءات السبعية أربعة: ثنتان مع «أو» وهما: نصب «الفساد» ورفعه. وثنتان مع «الواو» . كذلك، وقرئ «يظهر» بتشديد الظاء والهاء أي يتتابع وَقالَ مُوسى لقومه حين سمع ما يقوله اللعين من حديث قتله إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27) ، وموسى عليه السلام ولم يأت في دفع شر فرعون إلّا بأن استعاذ بالله واعتمد على فضل الله، فصانه الله عن كل بلية وأوصله إلى كل أمنية، والمسلم إذا قال عند القراءة، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فالله تعالى يصون دينه وإخلاصه عن وساوس شياطين الجن، فكذلك إذا قال المسلم: أعوذ بالله عند توجه الآفات والمخافات، فالله يصونه عن كل الآفات والمخافات من شياطين الإنس. وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وكان قبطيا ابن عم لفرعون آمن بموسى سرا، أو غريبا موحدا، أو اسمه حزقيل أو شمعان، يَكْتُمُ إِيمانَهُ من فرعون وملئه خوفا على نفسه مائة سنة، أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ أي أتقصدون قتل رجل لأجل أن يقول: ربي الله وحده من غير تأمل في أمره، وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالمعجزات الظاهرات مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ! أي وإن كان هذا الرجل كاذبا كان ضرر كذبه عائدا عليه فاتركوه، وَإِنْ يَكُ صادِقاً وقد كذبتموه، يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ من العذاب في الدنيا. فكان الأولى على كلا التقديرين إبقاءه حيا. والحاصل أن المقصود بيان أنه لا حاجة إلى قتله بل يكفيكم أن تعرضوا عنه وأن تمنعوه عن إظهار دينه إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) . وهذا كلام ذو وجهين أي لو كان موسى مسرفا كذابا لما هداه الله تعالى إلى الأحكام، ولما قواه بعلامات النبوة. وإن كان كذلك
أهلكه الله فلا حاجة لكم إلى قتله. وهذا إشارة إلى علو شأن موسى على طريق الرمز، وإلى التعريض لفرعون بأن الله لا يهديه منهاج النجاة، لأنه مسرف في عزمه على قتل موسى، كذاب في جرأته على ادّعاء الإلهية، والله تعالى لا يهدي من هذا شأنه، بل يهدم أمره، ولما أقام مؤمن آل فرعون أنواع الدلائل على أنه لا يجوز الإقدام على
قتل موسى خوفهم في ذلك بعذاب الله فقال: يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ أي عالين الناس في أرض مصر فلا يقاومكم أحد في هذا الوجه، فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا، أي فلا تفسدوا أمركم ولا تتعرضوا لعذاب الله بقتل موسى فإنه إن جاءنا لم يمنعنا منه أحد، ولما قال ذلك المؤمن هذا الكلام. قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى أي لا أشير إليكم برأي سوى ما ذكرته أنه يجب قتله حسما لمادة الفتنة، ولا أسر عنكم غير ما أظهره. ولقد كذب فرعون حيث كان مضمرا للخوف الشديد، ولكنه كان يتجلد ولولاه لما استشار أحد أبدا وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ (29) أي ما أدعوكم بهذا الرأي إلّا إلى طريق الصواب والصلاح.(2/347)
مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)
وقرئ بتشديد الشين للمبالغة وَقالَ الَّذِي آمَنَ رادا لهذا الكلام على فرعون، مخاطبا لقومه: يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30) أي مثل أيام الأمم الماضية المتفرّقة فكل أمة كان لها يوم معين في البلاء،
مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ كقوط لوط، أي مثل جزاء دأبهم من الكفر، وإيذاء الرسل. والحاصل أن حزقيل خوّفهم بهلاك معجل في الدنيا، وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) أي أن تدمير الله أولئك الأحزاب كان عدلا منه تعالى، لأنهم استوجبوه بسبب تكذيبهم للأنبياء، فتلك العلة قائمة هاهنا فوجب حصول الحكم هاهنا وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) ، أي يوم القيامة فإن أهل النار ينادون أهل الجنة، وأهل الجنة ينادون أهل النار، ويناديهم أصحاب الأعراف وينادي بعض الظالمين بعضا بالويل والثبور فيقولون: يا ويلنا وينادى باللعنة عليهم وينادى بالسعادة والشقاوة: ألا إن فلان ابن فلان سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا، وفلان ابن فلان شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبدا.
وقرأ ابن عباس «يوم التناد» بتشديد الدال، أي يوم فرار بعضهم من بعض يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ، أي منصرفين عن الموقف، لأنهم إذا سمعوا زفير النار ندوا هاربين، فلا يأتون قطرا من الأقطار إلا وجدوا ملائكة صفوفا فبينما هم يموج بعضهم في بعض إذ سمعوا مناديا أقبلوا إلى الحساب فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ أي ما لكم مانع من عذاب الله. والجملة حال أخرى من «ضمير تولون» وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ عن دينه، فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) أي مرشد، وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ بن يعقوب عليهما السلام مِنْ قَبْلُ أي من قبل موسى، فإن وفاة يوسف قبل مولد موسى بأربع وستين سنة، وفرعون أدرك يوسف بن يعقوب وكان عمره أربعمائة سنة وأربعين سنة.
وقيل: إن يوسف هذا هو يوسف بن أفراييم بن يوسف بن يعقوب، أرسله الله تعالى إلى القبط. فأقام فيهم عشرين سنة نبيا- وهذا من تمام وعظ حزقيل- بِالْبَيِّناتِ أي بالمعجزات الواضحة فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ يوسف من الدين حَتَّى إِذا هَلَكَ، أي مات يوسف قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد موت يوسف رَسُولًا وهذا تكذيب لرسالة من هو بعده مضموما إلى تكذيب رسالته، كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34) أي مثل هذا الإضلال يضل الله من هو متغال في عصيانه شاك فيما تشهد به البينات لغلبة الانهماك في التقليد، الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ، أي حجة أَتاهُمْ من الله كَبُرَ مَقْتاً أي عظم بغضا والوقف على «مرتاب» صالح، وعلى «أتاهم» كاف. وهذا إذا جعل «الذين» بدلا من «من» فهو في محل نصب، أو بدلا من مسرف فهو في محل رفع، وعلى هذا فهذا من كلام الرجل المؤمن أيضا، وإن جعل الذين مبتدأ خبره كبر كان الوقف على «مرتاب» تاما، ولا يوقف على «أتاهم» لتأخر الخبر عنه، وعلى هذا فهذا ابتداء كلام الله تعالى، وفاعل «كبر» ضمير يعود(2/348)
إلى «من» على الاحتمال الأول، وإلى «الجدال» على الاحتمال الثاني، أي كبر من ذكر أو كبر جدالهم بغير حجة، بل بالبناء على التقليد أو بالبناء على الشكوك الخسيسة مقتا، عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا فمقت الله إظهار خزيهم وإحلال العذاب بهم، ومقت المؤمنين لهم كراهتهم أشد الكراهة، كَذلِكَ أي مثل ذلك الطبع يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ عن الإيمان جَبَّارٍ (35) عن قبول الحق.
قرأ ابن عامر وأبو عمرو، وقتيبة عن الكسائي بتنوين «قلب» . والباقون بغير تنوين على الإضافة، ويشهد لهذه القراءة قراءة عبد الله «على قلب كل متكبر» وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً أي بناء عاليا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) ، أي أصعد الطرق أَسْبابَ السَّماواتِ، أي طرقها الموصلة إليها فَأَطَّلِعَ أي أنظر إِلى إِلهِ مُوسى.
وقرأ حفص عن عاصم «أطلع» بالنصب على أنه جواب الأمر، أو منصوب على التوهم كما قاله أبو حيان، لأن خبر «لعل» قد يجيء مقرونا بأن، أو على أنه جواب الترجي. والباقون بالرفع عطفا على «أبلغ» . والمقصود: أنه لما عرف كل أحد أن هذا الطريق ممتنع، كان الوصول إلى معرفة وجود الله بطريق الحسن ممتنعا، فحينئذ لا سبيل إلى معرفة الإله الذي يثبته موسى، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً فيما يدعيه من الرسالة، وَكَذلِكَ أي مثل ذلك التزيين زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ فانهمك فيه انهماكا لا يكف عنه بحال وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالبناء للمفعول أي صرف فرعون عن الحق. والباقون بالبناء للفاعل أي منع فرعون الناس عن الطريق الموصلة إلى الله. وقرئ «وصد» بكسر الصاد على نقل حركة الدال إليه. وقرئ «وصد» بالرفع على أنه معطوف على «سوء عمله» . وقرئ «وصدوا» أي هو وقومه. وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ (37) ، أي وما صنع فرعون في إبطال آيات موسى إلا في هلاك. وَقالَ الَّذِي آمَنَ وهو حزقيل يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ فيما دعوتكم إليه، أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) أي أدلكم على سبيل يؤدي سالكه إلى الخير، وفي هذا تصريح بأن ما عليه فرعون وقومه هو سبيل الضلال. يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ، أي منفعة قليلة لسرعة زوالها، فهي كمتاع البيت لا يبقى. وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) ، أي الثبات، فلا تحول عنها مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً، في الدنيا فَلا يُجْزى في الآخرة إِلَّا مِثْلَها أي إلا ما يقابلها في الاستحقاق، فالكافر يعتقد في كفره كونه طاعة، فكان عقابه في النار مؤبدا، لأنه على عزم أن يبقى مصرا على ذلك الاعتقاد أبدا بخلاف الفاسق، فإن عقابه منقطع فإنه يعتقد في فسقه كونه خيانة، فيكون على عزم أن لا يبقى مصرا عليه. وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ الذين عملوا ذلك يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فالآتي بالإيمان والمواظب على التوحيد مدة ثمانين سنة قد أتى بأعظم الصالحات، وبأحسن الطاعات، فوجب أن يدخل الجنة.(2/349)
وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وشعبة «يدخلون» بالبناء للمفعول يُرْزَقُونَ فِيها أي الجنة بِغَيْرِ حِسابٍ (40) أي بلا هنداز في الكثرة والسعة.
بدلا منه، وإن جعل خبر مبتدأ محذوف. فالوقف على «سوء العذاب» حسن، وكذا إن قرئ «النار» منصوبا على الاختصاص، أو نحوه، وإن جعل «النار» مبتدأ وخبره ما بعده فالوقف على «العذاب» تام، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46) .
قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم بفتح الهمزة، وكسر الخاء، أي ويوم القيامة يقول الله لخزنة جهنم أدخلوا آل فرعون في أشد العذاب. والباقون بهمزة الوصل وضم الخاء، والمعنى: ويوم القيامة يقال لهؤلاء الكفار: ادخلوا يا آل فرعون أشد العذاب وهو عذاب جهنم.
وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ أي واذكر يا أشرف الخلق لقومك وقت تخاصم بعضهم بعضا في(2/350)
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)
النار، فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ أي السفلة من الكفار لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا، أي للقادة الذين تعظموا عن الإيمان: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً أي أتباعا في دينكم، فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) ، أي فهل تقدرون على أن تدفعوا عنا جزءا من العذاب. والمقصود من هذا الكلام: المبالغة في تخجيل أولئك الرؤساء وإيلام قلوبهم. قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وهم القادة للسفلة: إِنَّا كُلٌّ فِيها أي نحن وأنتم واقعون في هذا العذاب، فلو قدرت على إزالة العذاب عنكم لدفعته عن أنفسنا ف «كل» مبتدأ و «فيها» خبره والجملة خبران.
وقرئ «كلا» بالنصب على التأكيد لاسم «إن» ، أي إن كلنا واقعون في النار، ثم يقولون:
إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) أي يوصل إلى كل أحد مقدار حقه من النعيم، أو من العذاب فلا معقب لحكمه، فعند ذلك يحصل اليأس للأتباع من المتبوعين فيرجعون إلى خزية جهنم، وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ من الضعفاء والمستكبرين إذا اشتدت عليهم النار، وقل صبرهم لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ، أي للملائكة الموكلين بعذاب أهل النار، ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) أي يخفف عنا شيئا من العذاب في وقت من الأوقات. قالُوا أي الخزنة:
أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ؟ أي ألم تنتبهوا عن هذا، ولم تكن تأتيكم رسلكم في الدنيا على الاستمرار بالحجج الواضحة الدالة على سوء الكفر والمعاصي قالُوا بَلى أي أتونا بها فكذبناهم، قالُوا أي الخزنة استهزاء بهم وإظهارا لخيبتهم: فَادْعُوا أي إذا كان الأمر كذلك فادعوا أنتم فإنا لا نجترئ على الدعاء ولا نشفع إلا بالإذن في الشفاعة وإلا لمن كان مؤمنا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ (50) ، أي ضياع. وهذا من كلام الله إخبارا لنبيه، فالوقف على «ادعوا» تام أو من كلام الخزنة- كما قاله الرازي وأبو السعود-
قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا بالرسل فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بانتقام الكفرة، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) أي يوم يقوم كل من يشهد بأعمال العباد يوم القيامة من ملك، ونبي، ومؤمن بالحجة والاعتذار، يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ من الكفر.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر «لا تنفع» بالتاء الفوقية. والباقون بالياء التحتية وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ أي الإهانة وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وهو العقاب الشديد. وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى أي التوراة والمعجزات، وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) ، أي وتركنا عليهم من بعد موسى التوراة هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) أي لأجل الهداية من الضلالة، ولأجل التذكرة لذوي العقول السليمة، فكتب أنبياء الله مشتملة على هذين القسمين، بعضها دلائل في أنفسها، وبعضها مذكرات لما ورد في الكتب الإلهية المتقدمة، فَاصْبِرْ يا أكرم الرسل على أذى اليهود والنصارى والمشركين، إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، فالله ناصرك ومنجز وعده في حقك، وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ أي تب من ترك الأولى، والأفضل في بعض الأحايين، فإنه(2/351)
تعالى كافيك في نصرة دينك، وإظهاره على الدين كله، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55) ، أي ودم على التسبيح ملتبسا بحمده تعالى. والمراد منه الأمر بالمواظبة على ذكر الله باللسان، وبأن لا يغفل القلب عنه، إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ، وجملة «إن في صدورهم» إلخ خبر ل «إن» ، وجملة «ما هم» إلخ صفة ل «كبر» ، أي إن الذين يجحدون بآيات الله بغير برهان أتاهم في ذلك من الله تعالى ما في قلوبهم إلا تكبر عن الحق ما هم ببالغي كبره، أي الذين يناصبون الجدال معك بغير حجة إنما يحملهم على هذا الجدال الباطل كبر في صدورهم، وذلك الكبر هو أنهم لو سلموا بنبوّتك لزمهم أن يكونوا تحت تصرفك، لأن النبوة تحتها كل رئاسة وملك، وهم لا يرضون أن يكونوا في خدمتك وإنما هم يريدون أن تكون تحت يدهم ولا يصلون إلى هذا المراد، بل لا بد وأن يصيروا تحت أمرك ونهيك، فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أي فالتجئ إليه تعالى من كيد من يجادلك، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم الْبَصِيرُ (56) بأعمالهم، لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ، أي فالذي قدر على ابتداء خلق السموات والأرض مع عظمها، قادر على إعادة الإنسان الذي خلقه أولا، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) أي أن هذا البرهان مع قوته صار بحيث لا يعرفه من ينكرون الحشر والنشر، فظهر أن هؤلاء يجادلون في آيات الله بغير حجة، بل بمجرد الحسد والكبر، وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أي لا يستوي الجاهل المقلد المستدل، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ أي ولا يستوي الآتي بالأعمال الصالحة، والآتي بالأعمال الفاسدة. قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ (58) أي أن المجادلين وإن كانوا يعلمون أن العلم خير من الجهل، وأن العمل الصالح خير من العمل الفاسد إلا أنهم ما يتعظون اتعاظا قليلا من أمثال القرآن، فإن الحسد يعمي قلوبهم فيعتقدون في الجهل والتقليد أنه محض المعرفة، وفي الحسد والكبر أنه محض الطاعة.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «تتذكرون» على الخطاب. والباقون بالغيبة. إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها أي لا شك في مجيئها بإجماع الرسل على الوعد بوقوعها. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ وهم الذين ينكرون البعث، لا يُؤْمِنُونَ (59) بمجيء الساعة، وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ أي اعبدوني أثبكم وأغفر لكم، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60) أي أذلاء.
ويقال: إن الدعاء هو السؤال، أي ادعوني أقبل إليكم، فالدعاء اعتراف بالعبودية والذلة فكأنه قيل: إن تارك الدعاء إنما تركه لأجل أن يستكبر عن إظهار العبودية، وكل من دعا الله وفي قلبه ذرة من الاعتماد على ماله وجاهه، واجتهاده وأقاربه وأصدقائه، فهو في الحقيقة ما دعا الله إلا باللسان، أما قلبه فهو معول في تحصيل ذلك المطلوب على غير الله، فهذا ما دعا الله في(2/352)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70)
الحقيقة في وقت. أما إذا دعا في وقت لا يبقى في القلب التفات إلى غير الله، فإنه تحصل الاستجابة وانقطاع القلب بالكلية، عما سوى الله لا يحصل إلا عند القرب من الموت، فإن الإنسان قاطع في ذلك الوقت بأنه لا ينفعه شيء سوى فضل الله تعالى.
وقرأ ابن كثير وشعبة «سيدخلون» على صيغة المبني للمفعول.
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ باردا مظلما لِتَسْكُنُوا فِيهِ أي لتستريحوا فيه بالنوم وبالعبادة وَالنَّهارَ مُبْصِراً أي مضيئا. وهذا إعلام بوجود الإله القادر، فإن الاشتغال بالدعاء لا بدّ وأن يكون مسبوقا بحصول المعرفة، وبأن من أنعم قبل السؤال بهذه النعم العالية فكيف لا ينعم بالأشياء القليلة بعد السؤال؟! إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ كافة باختلاف الليل والنهار، وما يحتويان عليه من المنافع وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) . إما لكونه حريصا على الدنيا محبا للمال والجاه، فإذا فاته وقع في كفران هذه النعم العظيمة، أو لأنها لما دامت واستمرت نسيها الإنسان، أو لاعتقاده أن هذه النعم ليست من الله تعالى، بأن يعتقد أن هذه الأفلاك واجبة الدوران لذواتها.
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ، أي ذلكم المعلوم المميز بالأفعال الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد هو الله ربكم، خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ. وهذه أخبار أربعة عن اسم الإشارة.
صَوَّرَكُمْ
أي أحدث صورتكم على غير نظام واحد، فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ولم يخلق الله تعالى حيوانا أحسن صورة من الإنسان، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي اللذائذ لا كرزق الدواب، ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ أي ذلكم الذي نعت بالنعوت الجليلة هو الله المحسن إليكم، فَتَبارَكَ اللَّهُ أي ثبت الله مع كثرة الخيرات رَبُّ الْعالَمِينَ (64) أي مالكهم هُوَ الْحَيُّ، أي المنفرد بالحياة الذاتية لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فلا موجود يدانيه في ذاته وصفاته وأفعاله، فَادْعُوهُ أي اعبدوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي الطاعة من الشرك الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65) .
قال الفراء: هو خبره وفيه إضمار الأمر أي فادعوه واحمدوه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما من قال: لا إله إلا الله فليقل بعدها الحمد لله رب العالمين، أي ولما كان تعالى موصوفا بصفات الجلال والعزة استحق لذاته أن يقال له: الحمد لله رب العالمين. قُلْ لأهل مكة يا أكرم الرسل- حين قالوا لك: ارجع إلى دين آبائك-: إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ(2/353)
إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80)
اللَّهِ
أي الذين تعبدون من الأوثان لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ أي الدلائل مِنْ رَبِّي، وهي أن إله العالم قد ثبت كونه موصوفا بصفات الجلال والعظمة، وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66) أي أن أنقاد له وأخلص توحيدي له، هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ فكل إنسان مخلوق من مني وهو مخلوق من الدم، وهو يتولد من الأغذية، وهي منتهية إلى النباتية، والنبات إنما يكون من التراب والماء، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ أي دم عبيط ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ من بطون أمهاتكم طِفْلًا ثُمَّ يبقيكم لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ، أي كمالكم في القوة والعقل، ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً.
وقرأ نافع وأبو عمرو، وهشام، وحفص بضم الشين. والباقون بكسرها وقرئ «شيخا» ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ، أي من قبل الشيخوخة بعد بلوغ الأشد، أو قبله أو قبل هذه الأحوال إذا خرج سقطا يفعل ذلك لتعيشوا، وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وهو وقت الموت وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) ، أي ولكي تعقلوا ما في هذه الأحوال العجيبة من أنواع العبر وأقسام الدلائل، فإن دلائل وجود الله تعالى وقدرته إما من دلائل الآفاق، وهي: الليل، والنهار، والأرض والسماء.
أو من دلائل الأنفس وهي: التصوير وحسن الصورة، ورزق الطيبات. أو من عمر الإنسان وهو على ثلاث مراتب: كونه طفلا وهو في التزايد شيئا فشيئا وبلوغه كمال النشوء وظهوره في النقص. هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، فكما أن الانتقال من صفة إلى صفة أخرى يدل على الإله القادر كذلك الانتقال من الحياة إلى الموت، وبالعكس يدل على الإله القادر. فَإِذا قَضى أَمْراً أي أراد أيّ أمر كان، فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) فعبّر الله عن نفاذ قدرته في الكائنات من غير معارض بما إذا قال: كن فيكون. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أي انظر إلى هؤلاء المجادلين في آياته تعالى، الواضحة، الموجبة للإيمان بها أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) أي كيف يصرفون عنها مع تعاضد الدواعي إلى الإقبال عليها،
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ أي بالقرآن، وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا من سائر الكتب فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ، والوقف هنا تام أو كاف- كما قاله أبو عمرو- و «إذ» بمعنى إذا، وهو ظرف ليعلمون، والسلاسل عطف على الأغلال. والمعنى فسوف يعلمون وقت أن يكون الإغلال والسلاسل في أعناقهم يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ، أي وهم يجرون بتلك السلاسل في الماء المسخن بنار جهنم.
وقرئ «والسلاسل يسحبون» بنصب «السلاسل» على أنه مفعول مقدم ل «يسحبون» بفتح الياء. وقرئ «والسلاسل» بالجر على إضمار الباء كما يدل عليه القراءة به. ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) أي يحرقون، ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ بعد أن يعذبوا بأنواع العذاب: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ أي مع الله قالُوا ضَلُّوا عَنَّا أي غابوا عن عيوننا فلا نراهم ولا نستشفع بهم، بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً أي بل لم نكن نعبد من قبل هذه الإعادة شيئا يضر ولا ينفع، ولا يبصر، ولا يسمع. وهذا اعتراف بأن عبادتهم الأصنام كانت باطلة أو يقال: بل لم نكن نعبد(2/354)
وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
من قبل هذا الوقت شيئا من دون الله. وهذا إنكار لعبادة الصنم كَذلِكَ أي مثل ذلك الإضلال يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) عن طريق الجنة ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ، أي ذلكم العذاب بما كنتم تظهرون في الدنيا من السرور بالمعصية، وعبادة الأصنام، وبكثرة المال والأتباع والصحة، ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ أي السبعة المقسومة لكم خالِدِينَ فِيها أي لا يخرجون منها ولا يموتون فيها، فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) عن الحق، جهنم. فَاصْبِرْ على إيذائهم وإيحاشهم بتلك المجادلات. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالنصرة لك، وبإنزال العذاب على أعدائك حَقٌّ أي كائن بلا شك، فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أي فإن نرك بعض الذي نعد أولئك الكفار من أنواع العذاب، فذلك هو المطلوب أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل إنزال العذاب عليهم، فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) يوم القيامة فننتقم منهم أشد الانتقام، ويجوز أن يكون هذا جوابا للشرطين. فالمعنى: أن نعذبهم في حياتك أو لم نعذبهم فيها فإنا نعذبهم في الآخرة أشد العذاب. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي أنت يا أشرف الرسل كالرسل من قبلك وقد ذكرنا حال بعضهم لك، ولم نذكر حال الباقين، وليس فيهم أحد أعطاه الله معجزات إلا وقد جادله قومه فيها، وكذبوه فيها، وجرى عليهم من الهم مثل ما جرى عليك وصبروا، وكان قومهم يقترحون عليهم إظهار المعجزة الزائدة على قدر الحاجة على سبيل التعنت، ثم إن كان الصلاح في إظهارها أظهرناها وإلا لم نظهرها، ولم يكن ذلك قادحا في نبوتهم، فكذلك الحال في اقتراح قومك عليك المعجزات الزائدة، فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ أي جاءكم الله بنزول العذاب على الأمم الماضية، قُضِيَ بِالْحَقِّ أي نفذ حكم الله بالعدل، وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) ، أي وهلك في وقت مجيء العذاب من يقترحون المعجزات الزائدة على قدر الحاجة على سبيل التعنت، اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ أي الإبل- كما قاله الزجاج- لِتَرْكَبُوا مِنْها أي الإبل وَمِنْها أي من لحوم الإبل، تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ، كألبانها وأوبارها وجلودها، وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ بحمل أثقالكم من بلد إلى بلد، وَعَلَيْها أي الإبل بالهودج في البر، وَعَلَى الْفُلْكِ أي السفن في البحر تُحْمَلُونَ (80) وتسافرون،
يُرِيكُمْ آياتِهِ
أي دلائله الدالة على كمال قدرته ووفور رحمته، أَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ
(81) أي ليس في شيء من هذه الدلائل ما يمكن إنكاره، لأنها كلها ظاهرة باهرة، أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي أقعدوا، فلم يسيروا في أقطار الأرض؟ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم الماضية المتكبرين؟ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ أي من أهل مكة في العدد- يعرف في الأخبار- وَأَشَدَّ قُوَّةً بالبدن وَآثاراً فِي الْأَرْضِ قد بقيت بعدهم بحصون عظيمة مثل الأهرام الموجودة بمصر فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) ، أي فلم ينفعهم الذي كانوا(2/355)
يكسبونه أو فأي شيء نفعهم مكسو بهم، فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالمعجزات فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ. أي علم عقائدهم الزائغة وشبههم الداحضة، أو علمهم بأمور الدنيا وهو علمهم بالطبائع والصنائع يقال أي استهزاء الكفار بالبينات، وبما جاء الرسل به من علم الوحي، إذ لم يأخذوه بالقبول، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) ، أي دار بالكافرين جزاء استهزائهم بالرسل، فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا أي شدة عذابنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) أي بالأصنام التي كنا مشركين بها مع الله تعالى لأنا علمنا أنها لا تدفع عنا شيئا من عذاب الله فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا، أي فلم يصح أن ينفعهم إيمانهم عند رؤية عذابنا لعدم قبوله حينئذ سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ أي سنّ الله ذلك المذكور من التعذيب عند التكذيب، ومن رد الإيمان عند معاينة العذاب أي إن عدم قبول الإيمان حال البأس سنة الله مطردة في كل الأمم، ويجوز أن يكون سنة منصوبا على التحذير، أي احذروا سيرة الله في المكذبين التي قد مضت على عباده، وَخَسِرَ هُنالِكَ أي في تلك المواضع الْكافِرُونَ (85) بالله تعالى.(2/356)
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)
سورة السجدة
وتسمى سورة فصلت، وسورة حم السجدة، وسورة المصابيح. مكية، أربع وخمسون آية، سبعمائة وتسعة وتسعون كلمة، ثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمسون حرفا
حم (1) أي هذا حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ أي جعلت آيات الكتاب تفاصيل في معادن مختلفة فبعضها: في ذات الله وصفاته، وفي عجائب أفعاله.
وبعضها: في أحوال التكاليف. وبعضها: في الوعد والوعيد، ودرجات أهل الجنة، ودركات أهل النار. وبعضها: في المواعظ والنصائح. وبعضها: في تهذيب الأخلاق. وبعضها: في قصص الأولين. قُرْآناً عَرَبِيًّا نصب على الاختصاص والمدح، أو على الحالية من «كتاب» ، أو من «آياته» . لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) أي كائنا لقوم عرب ف «اللام» متعلقة بمحذوف صفة ثانية ل «قرآنا» بَشِيراً للمطيعين بالثواب وَنَذِيراً للمجرمين بالعقاب.
وقرأ زيد بن علي برفع الاسمين فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ عن تدبر هذا الكتاب مع كونهم بلغتهم فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) سماع طاعة ولا يلتفتون إليه، فكون الكتاب نازلا من عند الرحمن الرحيم يدل على اشتماله على أفضل المنافع، وأجل المطالب، وكونه قرآنا عربيا يدل على أنه في غاية الكشف والبيان، وكونه بشيرا ونذيرا يدل على أن الاحتياج إلى فهم ما فيه من أهم المهمات وإعراضهم عنه يدل على أنه لا مهدي إلا من هداه الله، ولا ضال إلا من من أضله الله. وَقالُوا أي كفار مكة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم- عند دعوته إياهم إلى الإيمان والعمل بما في القرآن-: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ أي أغطية مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ من التوحيد وَفِي آذانِنا وَقْرٌ أي صمم وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ، أي ستر غليظ يمنعنا عن مواصلتنا إياك فَاعْمَلْ، أي استمر على دينك وهو التوحيد، إِنَّنا عامِلُونَ (5) أي مستمرون على ديننا وهو الإشراك قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ، أي قل يا أشرف الخلق: إني لا أقدر على أن أحملكم على الإيمان قهرا فإني بشر مثلكم ولا امتياز بيني وبينكم إلّا بمجرد أن الله تعالى أوحى إلي دونكم، فأنا أبلغ هذا الوحي إليكم، فإن شرفكم الله قبلتموه، وإن خذلكم رددتموه. وذلك لا يتعلق بنبوتي ورسالتي، وذلك الوحي يرجع(2/357)
إلى أمرين: العلم والعمل. فالعلم رئيسه معرفة أن الله واحد، وهو المراد من قوله تعالى: أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ وإذا كان الحق ذلك التوحيد وجب علينا أن نعترف به. وهو المراد من قوله تعالى: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ أي استقيموا في أفعالكم متوجهين إلى الإله الواحد، ثم أمر الله تعالى بوظيفة العمل ورئيسه الاستغفار، فلهذا السبب قال: وَاسْتَغْفِرُوهُ لأجل الخوف من وقوع التقصير في العمل المأتي به، وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) فالله تعالى أثبت الويل لمن كان موصوفا بصفات ثلاثة: الشرك، والامتناع من الزكاة، وإنكار القيامة. فإن أعظم الطاعات التعظيم لأمر الله، وأفضل أبوابه الإقرار بكون الله واحدا، وإذا كان التوحيد أعظم الطاعات كان الشرك أخسها، لأنه ضد التوحيد، ولما كان أفضل أنواع المعاملة مع الخلق إظهار الشفقة عليهم كان الامتناع من الزكاة أخس الأعمال، لأنه ضد الشفقة على خلق الله. ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه فسر لا يؤتون الزكاة بقوله: أي لا يقولون لا إله إلّا الله فإنها زكاة الأنفس. والمعنى: لا يطهرون أنفسهم من لوث الشرك بقولهم: لا إله إلا الله. وقال الحسن وقتادة: أي لا يعتقدون إعطاء الزكاة واجبا. وقال مجاهد: لا يزكون أعمالهم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) أي غير مقطوع. قيل: نزلت هذه الآية في المرضى والزمنى إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأحسن ما كانوا يعملونه.
ويقال يكتب ثواب أعمالهم بعد الهرم أو الموت إلى يوم القيامة غير منقوض. وقيل: لا يمنون بذلك الأجر. قُلْ يا أشرف الخلق: أَإِنَّكُمْ يا أهل مكة لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ أي لتكفرون بالعظيم الشأن الذي حكم بأن الأرض ستوجد في مقدار يومين، وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً. أي نظراء والحال أنه لا يمكن له نظير واحد، أي أن الإله الموصوف بالقدرة على خلق هذه الأشياء العظيمة في هذه المدة الصغيرة كيف يليق بالعقل جعل الخشب المنجور والحجر المنحوت شريكا له في المعبودية! ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) أي ذلك العظيم الشأن الذي علمت من صفته أنه خالق جميع الموجودات فكيف أثبتم له أنداد من الخشب والحجر؟! وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وهو عطف على «خلق الأرض» ، أي وخلق في الأرض جبالا ثوابت مِنْ فَوْقِها، أي كائنة من فوق الأرض ليرى الإنسان بعينه وليتفكر أن الجبال أثقال، على أثقال وكلها مفتقرة إلى ممسك، وحافظ، وما ذاك الحافظ المدبر إلّا الله تعالى، ولو جعل في الأرض رواسي من تحتها لأوهم ذلك أن تلك الأساطين التحتانية هي التي أمسكت هذه الأرض الثقيلة عن النزول، وَبارَكَ فِيها أي الأرض بشق الأنهار، وخلق الأشجار والثمار، وأصناف الحيوانات، وكل ما يحتاج إليه من الخيرات، وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها أي بأن يوجد لأهل الأرض من الأنواع المختلفة أقواتها المناسبة لها على مقدار معين تقتضيه الحكمة. وقرئ «وقسم فيها أقواتها» . فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أي مع اليومين الأولين الذين خلق فيهما الأرض سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) .(2/358)
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20)
قرئ «سواء» بالحركات الثلاثة: النصب: على مصدر مؤكد لمضمر، هو صفة لأربعة:
أي استوت الأربعة استواء لا يزيد ولا ينقص. والجر: على الوصف، أي مساويات غير مختلفة في المقادير. والرفع: على تقدير هي سواء، ولمن قرأه بالرفع أن يقف على أربعة أيام. وقوله تعالى: لِلسَّائِلِينَ إما متعلق ب «سواء» أي مستويات لمن سأل الرزق، ولمن لم يسأل، أو متعلق بقدر- كما قاله الزجاج- أي وقدر فيها أقواتها في تتمة أربعة أيام، لأجل الطالبين للأقوات المحتاجين إليها، أو متعلق بمحذوف والتقدير: هذا الحصر بيان للسائلين عن مدة خلق الأرض، وما فيها. في كم يوم خلقت الأرض وما فيها
ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ، أي ثم قصد إلى خلق السماء، أي ثم دعاه داعي الحكمة إلى خالق السماء بعد خلق الأرض، وما فيها من غير صارف يصرفه عن ذلك، وَهِيَ دُخانٌ أي أمر ظلماني، أو دخان مرتفع من الماء. فَقالَ لَها- أي للسماء- وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا إلى الوجود والحصول أي كوننا على وجه معين، وفي وقت مقدر لكل منكما. وهذا عبارة عن تعلق إرادته تعالى بوجودهما تعلقا فعليا، طَوْعاً أَوْ كَرْهاً أي طائعتين أو كارهتين، أي شئتما ذلك أو أبيتما. قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) أي أتينا أمرك منقادين لا على الكره. وهذا تمثيل لكمال تأثرهما بالذات العلية عن القدرة الربانية.
وقرأ ابن عباس وابن جبير ومجاهد «آتيا قالتا آتينا» . بالمد في الفعلين، أي وافقا على مرادي منكما. قالتا: توافقنا على ذلك أو أعطيا الطاعة من أنفسكما من أمركما. قالتا: أعطينا الطاعة. ويقال: إن الله تعالى قال للسماء والأرض بعد ما فرغ منهما: أعطيا ما فيكما أو جيئا بما خلقت فيكما من المنافع والمصالح وأخرجاها لخلقي. أي قال لهما: افعلا ما أمرتكما طوعا وإلّا ألجأتكما إلى ذلك حتى تفعلاه، فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ، أي أتم السماء حال كونها سبع سموات في يومين. ذكر أهل الأثر أن الله تعالى خلق الأرض في يوم الأحد والإثنين. وخلق سائر ما في الأرض في يوم الثلاثاء والأربعاء، وخلق السموات وما فيها في يوم الخميس والجمعة، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة، فخلق فيها آدم، وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة، وأن الذي خلق أولا هو الدخان الذي هو أصل السماء، ثم بعده الأرض، غير مدحوة، ثم خلقت السماء مبسوطة متفاصلة طباقا بعضها فوق بعض، ثم دحيت الأرض، وخلق ما فيها من الأرزاق وغيرها. وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها.
قال مقاتل: أمر في كل سماء بما أراد. وقال قتادة والسدي: خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها. وقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهم: خلق في كل سماء ما فيها من البحار وجبال البرد، وما لا يعلمه إلا الله تعالى ويقال: ولله تعالى على أهل كل سماء تكليف خاص، فمن الملائكة من هو في القيام من أول خلق العالم إلى قيام القيامة، ومنهم ركوع لا ينتصبون، ومنهم سجود لا يرفعون، وذلك الأمر مختص بأهل السماء. وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ- وهي(2/359)
النبرات التي خلقها في السموات وخصّ كل واحد بضوء معين، وطبيعة معينة، وسر معين، لا يعلمها إلّا الله تعالى- وَحِفْظاً أي وحفظناها من الشياطين الذين يسترقون السمع.
وقيل: إن «حفظا» مفعول له على المعنى كأنه قيل: وخلقنا المصابيح زينة وحفظا، فبعض النجوم زينة السماء لا يتحرك وبعضها يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، وبعضها رجوم للشياطين.
ذلِكَ أي هذه التفاصيل تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) لأنها لا تمكن إلّا بقدرة كاملة وعلم محيط، فَإِنْ أَعْرَضُوا عن قبول هذه الحجة القاهرة وأصروا على التقليد، فَقُلْ لهم:
أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً
أي خوفتكم عذابا هائلا، كأنه نار معها رعد شديد مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) .
وقرأ ابن الزبير، والنخعي، والسلمي، وابن محيصن: «صعقة» مثل صعقة عاد وثمود، وهي المرة من صيحة العذاب.
روي أن أبا جهل قال في ملأ من قريش: التبس علينا أمر محمد فلو التمستم لنا رجلا عالما بالشعر والسحر والكهانة فكلمه، ثم أتانا ببيان عن أمره، فقال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت الشعر والسحر والكهانة، وعلمت من ذلك علما وما يخفى علي، فأتاه، فقال: يا محمد أنت خيرا أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطلب أنت خير أم عبد الله؟ فلم تشتم آلهتنا وتضللنا، فإن كنت تريد الرئاسة عقدنا اللواء، فكنت رئيسنا وإن كنت أردت الباه زوجناك عشر نسوة تختارهن من أي بنات قريش شئت، وإن كنت تريد المال جمعنا لك ما تستغني به، ورسول الله ساكت، فلما فرغ عتبة قال صلّى الله عليه وسلّم: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إلى قوله تعالى:
صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ» فأمسك عتبة على فيه صلّى الله عليه وسلّم وناشده بالرحم ورجع إلى أهله، ولم يخرج إلى قريش، فلما احتبس عنهم قالوا: لا نرى عتبة إلّا قد صبأ فانطلقوا إليه وقالوا: يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت، فغضب عتبة، وأقسم لا يكلم محمدا أبدا وقال: والله لقد كلمته فأجابني بشيء والله ما هو بشعر ولا سحر، ولا كهانة،
ولما بلغ صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود أمسكت بفيه وناشدته بالرحم، ولقد علمت أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب، وإنما خص هاتين القبيلتين، لأن قريشا كانوا يمرون على بلادهم، إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ حال من صاعقة عاد، أو ظرف منها منصوب بها، لأنها بمعنى عذاب، فالمعنى صعقة عاد وثمود وقت مجيء رسلهم إليهم مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أي أتوهم من جميع جوانبهم، وأتوهم بجميع وجوه الحيل، فلم يروا منهم إلّا الأعراض، أي جاءتهم الرسل من قبلهم، ومن بعدهم، أي جاءهم هود وصالح داعيين لهم إلى الإيمان بهما وبجميع الرسل، فكأن جميع الرسل قد جاءوهم وخاطبوهم بقوله تعالى: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ف «أن» مفسرة بمعنى أي، أو مخففة من الثقيلة، أي بأنه لا تعبدوا أي بأن الحديث قولهم لهم لا تعبدوا إلّا الله، «أو» مصدرية، والجملة بعدها صلتها وصلت بالنهي، كما توصل بالأمر، أي جاءوهم بكونهم نهوهم(2/360)
عن الشرك، ويجوز «أن» تكون أن نافية على هذا الوجه أي جاءوهم بأمرهم بالتوحيد ونفي الشرك. قالُوا أي عاد وثمود مخاطبين لهود وصالح: لَوْ شاءَ رَبُّنا أي إرسال الرسل إلى البشر، لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً أي لأرسلهم بطريق الإنزال فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14) أي فإذا أنتم بشر ولستم بملائكة، فأنتم لستم برسل، وإذا لم تكونوا من الرسل لم يلزمنا قبول قولكم، وقوله تعالى بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ حكاية لكلامهم على سبيل الاستهزاء كما قال فرعون: إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون. فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي فأما قوم هود فتعظموا في الأرض على أهلها بغير استحقاق للتعظيم. وَقالُوا لهود لما هددهم بالعذاب: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ أي نحن نقدر على دفع العذاب عن أنفسنا بفضل قوتنا ذلك لأن أطولهم كما قال ابن عباس كان مائة ذراع، وأقصرهم كان ستين ذراعا. فقال الله تعالى ردا عليهم: أَوَلَمْ يَرَوْا أي ألم ينظروا ولم يعلموا علما جليا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً أي قدرة يقدر على إهلاكهم وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) أي إنهم كانوا يعرفون أن الآيات المنزلة على الرسل حق، ولكنهم أنكروها كما ينكر المودع الوديعة، فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً أي باردا شديدا، يحرق ببرده كما تحرق النار بحرها، أو ريحا يصوت في هبوبه.
وعن ابن عباس: أن الله تعالى ما أرسل على عاد من الريح إلا قدر خاتمي والمراد. أنه مع قلته أهلك الكل وذلك دليل على كمال قدرته تعالى فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ أي مشؤومات. روي أن الأيام كانت آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء. قال ابن عباس: وما عذب قوم إلّا في يوم الأربعاء.
وقرأ نافع ابن كثير وأبو عمرو «نحسات» بسكون الحاء. والباقون بكسرها لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بسبب أنهم استكبروا فقابل الله ذلك الاستكبار بإيصال الذل إليهم. وقرئ «لتذيقهم» بالتاء على إسناد الإذاقة إلى الريح أو إلى الأيام وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى أي أشد إهانة مما كان لهم في الدنيا وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) بدفع العذاب عنهم، وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى، أي وأما قوم صالح فبيّنا لهم طريق الخير والشر، فاختاروا الدخول في الضلالة على الدخول في الرشد.
وقرأ الجمهور برفع «ثمود» ممنوعا من الصرف. وقرئ بالنصب بفعل يفسره ما بعده، وقرأه الأعمش وابن وثاب منونا في الحالين والرفع أفصح لوقوع ثمود بعد حرف الابتداء. وقرئ «ثمود» بضم الثاء، فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ أي داهية العذاب الذي يهينهم بشدته، بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17) من اختيار الضلالة، وهي شركهم وتكذيبهم صالحا وعقرهم الناقة، وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا من الفريقين وَكانُوا يَتَّقُونَ (18) الأعمال التي أتى بها قوم عاد وثمود، وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ، أي واذكر يا أشرف الخلق لقريش المعاندين لك حال الكفار في القيامة يوم يجمع بكره الكفار الأولون والآخرون إلى موقف الحساب والتعبير عنه بالنار الإعلام(2/361)
وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)
بأنها آخر حشرهم، أو لأن حسابهم يكون على شفيرها ويحشر بالبناء للمفعول وأعداء بالرفع على قراءة الجمهور.
وقرأ نافع «نحشر» بنون العظمة وضم الشين ونصب أعداء. وقرئ «ويحشر» بالبناء للفاعل ونصب أعداء. وقرئ بكسر الشين مع البناء للفاعل في الحالين، فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) أي يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا، حَتَّى إِذا ما جاؤُها أي حتى إذا حضروا موقف الحساب، شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) في الدنيا من فنون الكفر والمعاصي، بأن ينطقها الله تعالى كإنطاق اللسان فتشهد. وقال ابن عباس: المراد من شهادة الجلود شهادة الفروج.
وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ أي لأعضائهم أو لفروجهم لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا وكنا نحابس عنكم بالجدال.
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أول من يتكلم من الآدمي فخده وكفه»
. اه. وذلك لأن مقدمة الزنا إنما تحصل بالكف ونهاية الأمر إنما تحصل بالفخذ قالُوا أي الجلود: أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) ، أي أنطقنا الله الذي أنطق كل ناطق، وأقدرنا على بيان الواقع فشهدنا عليكم بما عملتم بواسطتنا من القبائح، وما كتمناها، فإن القادر على إنشائكم وإنطاقكم في المرة الأولى حال ما كنتم في الدنيا وعلى إعادتكم بعد الموت أحياء قادر على إنطاقكم في المرة الثانية وهي حال القيامة فكيف يستبعد منه إنطاق الأعضاء؟ وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) ، أي وما كنتم تستترون بنحو الحيطان في الدنيا عند الإقدام على الأفعال القبيحة مخافة أن تشهد عليكم جوارحكم بذلك، لأنكم غير عالمين بشهادتهم عليكم، ولأنكم منكرون للبعث والجزاء، ولكن استتاركم لأجل أنكم ظننتم أن الله لا يعلم الأعمال التي أقدمتم عليها من القبائح المخيفة فلا يظهرها في الآخرة، ولذلك اجترأتم على ما فعلتم وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ، فاسم الإشارة مبتدأ «وظنكم» خبر، والموصول نعت أو بدل و «أرداكم» حال، أي ذلكم الظن المذكور ظنكم الذي ظننتم بربكم مهلكا إياكم، ويجوز أن يكون ظنكم والموصول وجملة «أرداكم» إخبارا فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) ، أي فصرتم بسبب ذلك الظن المردي من الهالكين بالعقوبة.
قال أهل التحقيق: الظن قسمان: حسن، وفاسد.
فالظن الحسن: أن يظن بالله تعالى الرحمة والفضل والإحسان
قال صلّى الله عليه وسلّم حكاية عن الله تعالى: «أنا عند ظن عبدي»
. والظن الفاسد: أن يظن أن الله تعالى يعزب عن علمه بعض هذه الأحوال. وقال قتادة:
الظن نوعان: ظن منج، وظن مرد. فالمنجي: هو المحكي بقوله تعالى: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ [الحاقة: 20] والمردي هو المحكي بقوله تعالى: ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ. فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ، أي فإن أمسكوا عن الاستغاثة لأجل فرج ينتظرونه لم(2/362)
يجدوا ذلك الفرج وتكون النار محل إقامة أبدية لهم، وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) أي وإن طلبوا الرجوع إلى ما يحبونه جزعا مما هم فيه لم يعطوه ولم يجابوا إليه.
وقرئ و «إن يستعتبوا» بصيغة المفعول، «فما هم من المعتبين» بصيغة اسم الفاعل، أي وإن يطلبوا أن يرضوا ربهم فما هم فاعلون، إذ لا سبيل لهم إلى ذلك، وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ أي بعثنا لهم شركاء من الشياطين يلازمونهم، فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي فزينوا لهم أمر الآخرة بأن لا بعث ولا حساب ولا جنة، ولا نار، وأمر الدنيا بأنها قديمة باقية لا تفنى، ولا صانع إلّا الطبائع والأفلاك. ويقال: فزينوا لهم ما مضى من أعمالهم الخبيثة، وما تبقى من أعمالهم الخسيسة، وهو ما يزعمون أنهم يعملونه. وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25) أي وثبت عليهم كلمة العذاب حال كونهم كائنين في جملة أم من المتقدمين من الجن والإنس، لأنهم كانوا هالكين بالعقوبة وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي كفار مكة أبو جهل وأصحابه عند قراءة النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ لأنه مقلب القلوب، وكل من استمع له صبا إليه، وَالْغَوْا فِيهِ أي تشاغلوا عند قراءته برفع الأصوات بالخرافات والأشعار الفاسدة، والكلمات الباطلة حتى تخلطوا على القارئ، لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) أي لكي تغلبوا محمدا على قراءته فيسكت، فهددهم الله بالعذاب الشديد بقوله: فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً في الدنيا بالحرمان وفنون الهوان، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ في الآخرة أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) أي سيئات أعمالهم بحسب تفاوت السيئات في الإثم، ولا يجازيهم على محاسن أعمالهم كإغاثة الملهوفين وصلة الأرحام وقري الأضياف، لأنها محبطة بالكفر، وفي هذا تهديد شديد لمن يصدر عنه عند سماعه ما يشوش على القارئ، ويخلط عليه القراءة، وتعريض بمن لا يكون عند كلام الله خاضعا خاشعا. ذلِكَ أي جزاء أقبح أعمالهم جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ أي جزاء معد لهم النَّارُ عطف بيان لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ أي لهم في دركات النار دار معينة، وهي دار العذاب المخلد لهم، جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28) و «جزاء» منصوب ب «جزاء» ، فإن المصدر ينصب بمثله أي بسبب ما كانوا يلغون في قراءة آياتنا وإنما سمي اللغو جحودا، لأنهم علموا أن القرآن بالغ إلى حد الإعجاز خافوا من أنه لو سمعه الناس لآمنوا به.
فاستخرجوا تلك الطريقة الفاسدة. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا وهم متقلبون في عذاب النار: رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا عن الحق مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أي الشياطين ورؤساء الإنس. وقال علي بن أبي طالب: أي من إبليس وقابيل، لأن الكفر سنة إبليس والقتل بغير حق سنة قابيل.
وقرأ ابن كثير والسوسي، وابن عامر، وشعبة بسكون الراء من «أرنا» ، أي أعطناهما، واختلس الدوري كسر الراء، وشدد ابن كثير النون من الذين نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا، أي ندوسهما ليكونا وقاية بيننا وبين النار، فتخف عنا حرارتها نوع خفة، لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) أي ليكونا ممن هو أذل منا مكانا، وأشد منا عذابا كما جعلانا في الدنيا تحت أمرهما، إِنَّ(2/363)
نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)
الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ قولا مقرونا باليقين التام والمعرفة الحقيقية، ثُمَّ اسْتَقامُوا أي ثبتوا على الأعمال الصالحة، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ عند الموت في القبر وعند البعث بالبشرى: أَلَّا تَخافُوا و «أن» مفسرة، أو مخففة من الثقيلة، و «لا» ناهية، أي بأنه لا تخافوا على ما أمامكم، أو مصدرية و «لا» إما ناهية، أو نافية. وقرئ «لا تخافوا» على أنه حال من الملائكة، أي يقولون: لا تخافوا وَلا تَحْزَنُوا على ما تركتم من خلفكم، فالله تعالى أخبر أن الملائكة يخبرون في أول الأمر بأنه لا خوف عليكم بسبب ما تستقبلونه من أحوال القيامة، ثم يخبرون بأنه لا حزن عليكم بسبب ما فاتكم من أحوال الدنيا فإن المستقبل في كل ساعة يصير أقرب حصولا والماضي في كل حالة أبعد حصولا، ولهذا قال الشاعر:
فلا زال ما نهواه أقرب من غد ... ولا زال ما نخشاه أبعد من أمس
وعند حصول هذين الأمرين فقد زالت المضار والمتاعب بالكلية، ثم بعد الفراغ من ذلك الإخبار، يبشرون بحصول المنافع، لأن دفع المضرة أولى بالرعاية من جلب المصلحة. وذلك قوله تعالى: وَأَبْشِرُوا أي املئوا صدوركم سرورا، بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) في الدنيا على ألسنة الرسل،
نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
أي نحن أقرباء الأقرباء إليكم فنوقظكم من المنام، ونحملكم على الصلاة والصيام، ونبعدكم عن الآثام في الحياة الدنيا، وندفع عنكم المضرات، ونجلب لكم المسرات في الآخرة بالشفاعة حيث يتعادى الكفرة وقرناؤهم، وَلَكُمْ فِيها
أي الآخرة ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ
من اللذائذ، لأنكم منعتموها في الدنيا من الشهوات، وَلَكُمْ فِيها
أي الآخرة ما تَدَّعُونَ
(31) أي تطلبون، نُزُلًا حال من «ما تدعون» ، أي حال كون هذا رزقا مهيأ كما يهيأ للضيف مستقرا لكم مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) .
قال العارفون: هذه الآية تدل على أن هذه الأشياء جارية مجرى المهيأ للضيف، والكريم جل وعلا إذا أعطى النزل فلا بد وأن يبعث الخلع النفيسة بعدها، وتلك الخلع ليست إلا السعادات الحاصلة عند رؤيته تعالى، وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ أي لا أحد أحسن من جهة القول ممن دعا إلى الطاعة الله وَعَمِلَ صالِحاً، أي والحال أنه قد عمل صالحا في نفسه، وللدعوة إلى الله مراتب:
الأولى: دعوة الأنبياء بالمعجزات وبالحجج وبالسيف.
والثانية: دعوة العلماء إلى الله تعالى بالبراهين، فهم نواب الأنبياء في العلم، أما الملوك فهم نواب الأنبياء في القدرة.
الثالثة: دعوة المجاهدين إلى الله تعالى بالسيف.
الرابعة: دعوة المؤذنين إلى الصلاة فهم دعاة إلى طاعة الله تعالى. وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) أي ابتهاجا بأنه منهم فيكون هذا الرجل موصوفا بخصال أربعة:(2/364)
الأولى: الإقرار باللسان، وهو الدعوة إلى الله بإقامة الدلائل اليقينية.
والثانية: الأعمال الصالحة بالجوارح.
والثالثة: الاعتقاد الحق بالقلب وهاتان داخلتان في قوله تعالى: وَعَمِلَ صالِحاً.
والرابعة: الاشتغال بإقامة الحجة على دين الله تعالى والموصوف بهذه الخصال الأربعة أفضل الناس وهو سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وقرأ ابن أبي عبلة «إني» بنون واحدة. وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ أي لا تستوي الدعوة إلى دين الحق والصبر على جهالة الكفار، ولا قولهم: قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه، ولا تسمعوا لهذا القرآن. ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي ادفع جهالتهم بالطريق التي هي أحسن الطرق، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) . و «إذا» التي هي للمفاجأة ظرف مكان لمعنى التشبيه والموصول مبتدأ، والجملة بعد خبره، و «إذا» معمولة لمعنى التشبيه، والظرف يتقدم على عامله المعنوي أي فالذي بينك وبينه عداوة مشبه في المحبة للصديق في الدين، القريب في النسب الذي لم تسبق منه عداوة إذا صبرت على سوء أخلاقهم مرة بعد أخرى، والمعنى: فإذا قابلت أفعال أعدائك القبيحة بالأفعال الحسنة ولم تقابل سفاهتهم بالغضب والإيحاش استحيوا من تلك الأخلاق المذمومة وتركوا تلك الأفعال القبيحة، وانقلبوا من العداوة إلى المحبة. قيل:
نزلت هذه الآية في أبي سفيان بن حرب وكان عدوا مؤذيا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلم وصار وليا مصافيا له صلّى الله عليه وسلّم: وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا أي وما يعطى هذه الخصلة التي هي مقابلة الإساءة بالإحسان إلّا الذين شأنهم الصبر على تحمل المكاره، وتجرع الشدائد، وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) أي وما يوفق على هذه الفعلة- أي التي هي دفع السيئة بالحسنة- إلّا ذو حظ عظيم من ثواب الآخرة أو من الخلق الحسن. وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أي وإن يوسوس لك الشيطان بترك ما أمرت به، بأن صرفك صارف عما شرعت من الدفع بالتي هي أحسن فاستجر بالله من شره يدفعه عنك، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)
لقولك وأفعالك. وَمِنْ آياتِهِ الدالة على وجود الله وقدرته اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ كل منها مخلوق له تعالى، مسخر لأمره تعالى، لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ لأنهما عبدان مخلوقان مثلكم وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ أي الأربعة إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) أي إن كنتم تريدون بعبادة الشمس والقمر عبادة الله فلا تعبدوهما فإن عبادة الله في ترك عبادتهما فإن الذين يعبدونهما يقولون: نحن أذل من أن يحصل لنا أهلية عبودية الله تعالى، ولكنا عبيد للشمس والقمر وهما عبدان لله. فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي فإن استكبروا عن قبول قولك يا محمد في النهي عن السجود للشمس والقمر، فدعهم وشأنهم فإن لله عبادا يعبدونه من الملائكة، أي والله لا يعدم عابدا له أبدا بل يكون من خلقه من يعبده على(2/365)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)
الدوام. وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38) أي لا يملّون عن عبادة الله تعالى ولا يفترون وموضع السجود عند قوله تعالى: إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ. وهو قول ابن مسعود والحسن حكاه الرافعي عن أبي حنيفة، وأحمد لذكر السجود قبيله، وعند قوله تعالى: لا يَسْأَمُونَ وهو قول ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب، وقتادة وحكاه الزمخشري عن أبي حنيفة، لأن الكلام إنما يتم عنده، وعند الشافعي عند قوله تعالى: إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ لكن قال الشربيني والصحيح عند الشافعي عند قوله تعالى: لا يَسْأَمُونَ، وَمِنْ آياتِهِ الدالة على قدرته تعالى ووحدانيته. أَنَّكَ أيها الإنسان تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً أي منكسرة ميتة فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ أي تحركت بالنبات وَرَبَتْ أي انفتحت، ثم تصدعت عن النبات.
وقرئ «ربأت» أي ارتفعت، إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى أي إن القادر على احياء الأرض بعد موتها هو القادر على إحياء هذه الأجساد بعد موتها إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) أي أنه تعالى قادر على الممكنات، فوجب أن يكون قادرا على إعادة التركيب والحياة والقدرة والعقل إلى تلك الأجزاء المتفرقة، إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا أي يميلون عن الحق في أدلتنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا في وقت من الأوقات. وقرأ حمزة بفتح الياء والحاء. أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ أي الذين يميلون عن الاستقامة في آياتنا بالطعن والتأويل الباطل، فيلقون في النار خير أم الذين يؤمنون بآيتنا فيأتون آمنين من العذاب يوم القيامة؟ اعْمَلُوا يا أهل مكة ما شِئْتُمْ من الأعمال المؤدية إلى الإلقاء في النار والإتيان آمنا، إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) فيجازيكم بحسب أعمالكم- وفي ذلك تهديد-
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ أي بالقرآن لَمَّا جاءَهُمْ لهم في الآخرة نار جهنم أو يجازون بكفرهم، وَإِنَّهُ أي القرآن لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) أي غالب عديم النظير، لأنه بقوة حجته غلب على كل ما سواه، ولأن الأولين والآخرين عجزوا عن معارضته لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ أي لا تكذبه الكتب المتقدمة عليه كالتوراة والإنجيل والزبور، وسائر الكتب. ولا يجيء كتاب من بعده يكذبه، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ في أمره حَمِيدٍ (42) في أفعاله ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ، أي ما يقول لك كفار قومك إلا مثل ما قد قال للرسل كفار قومهم من الكلمات المؤذية والمطاعن في الكتب المنزلة، إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ للمحقين، وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43) للمبطلين، ففوض هذا الأمر إلى الله تعالى، واشتغل بما أمرت به- وهو التبليغ والدعوة إلى الله تعالى- وَلَوْ جَعَلْناهُ أي هذا الذكر قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا أي كفار مكة: لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ أي لولا بيّنت آياته بلسان نفهمه؟ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ أي أكلام أعجمي ورسول أو مرسل إليه عربي. والمعنى: أنا لو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم لكان لهم أن يقولوا: كيف أرسلت الكلام العجمي إلى القوم العرب، ويصح لهم أن يقولوا: قلوبنا في أكنة تدعونا إليه، أي من هذا الكلام. وفي آذاننا وقر منه لا نفهمه، ولا نحيط(2/366)
بمعناه، ولما أنزلنا هذا الكتاب بلغة العرب وأنتم من أهل هذه اللغة فكيف يمكنكم ادعاء أن قلوبكم في أكنة منها، وفي آذانكم وقر منها. وقرئ «أعجمي» على الأخيار بأن القرآن أعجمي، والمتكلم والمخاطب عربي، ويجوز أن يراد: هلا فصلت آياته فجعل بعضها أعجميا لإفهام العجم وبعضها عربيا لإفهام العرب. قُلْ هُوَ أي القرآن لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً، لأنه دليل على الخيرات ويرشد إلى كل السعادات، وَشِفاءٌ لأنه إذا أمكنهم الاهتداء فقد حصل لهم الهدى، فذلك الهدى شفاء لهم من مرض الكفر والجهل، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ، أي والذين لا يؤمنون هو حال كونه كائنا في آذانهم صمم ف «وقر» خبر للضمير المقدر، والجملة خبر الموصول، وفي آذانهم متعلق بمحذوف، وقع حالا من «وقر» ، وَهُوَ أي القرآن عَلَيْهِمْ عَمًى.
قرأ الجمهور على صيغة المصدر. وقرأ ابن عباس «عم» على صيغة النعت. أُولئِكَ الموصوفون بالصمم عن الحق والعمى عن الآيات الظاهرة يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) ، أي هم مثل البهيمة التي لا تفهم إلا نداء. وقيل: هم كمن ينادون من مكان بعيد لم يسمعوا، وإن سمعوا لم يفهموا. وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة فَاخْتُلِفَ فِيهِ فقبله بعضهم ورده الآخرون فكذلك آتيناك هذا الكتاب فقبله بعضهم، وهم أصحابك، ورده آخرون، وهم الذين يقولون: قلوبنا في أكنة ما تدعونا إليه، وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ أي لولا عدة سبقت بتأخير العذاب في حق أمتك المكذبة إلى يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ، أي بين المكذبين والمصدقين بالعذاب الواقع بالمكذبين في الدنيا، وَإِنَّهُمْ أي كفار قومك لَفِي شَكٍّ مِنْهُ، أي من كتابك مُرِيبٍ (45) ، أي موقع في شك ظاهر فلا ينبغي أن يستعظم استيحاشك من قولهم: قلوبنا في أكنة ما تدعونا إليه. مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها، أي خفف يا أكرم الرسل على نفسك إعراضهم فإنهم إن آمنوا فنفع إيمانهم يعود عليهم، وإن كفروا فضرر كفرهم يعود إليهم، وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) وهو يوصل إلى كل أحد ما يليق بعلمه من الجزاء في يوم القيامة، إِلَيْهِ أي إلى ربك يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ أي لا يعلم وقت الساعة بعينه إلّا الله، وكما أن هذا العلم ليس إلّا عند الله فكذلك العلم بحدوث الحوادث المستقبلة في أوقاتها المعينة ليس إلا عند الله تعالى، ثم ذكر الله تعالى من أمثلة هذا الباب مثالين بقوله: وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها أي أوعيتها، وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ حملها إِلَّا بِعِلْمِهِ أي إلا ملابسا بعلمه المحيط، أما أصحاب الكشف فهو من إلهام الله تعالى، وأما أصحاب علم الرمل وعلم التعبير فلا يمكنهم الجزم في شيء من المطالب ألبتة وإنما غايتهم ادعاء ظن ضعيف، وما نافية، ومن في ثمرات، وفي أنثى زائدة للاستغراق.
وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم «من ثمرات» بالجمع. والباقون «من ثمرة» بالإفراد. وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أي يوم ينادي الله المشركين أَيْنَ شُرَكائِي بحسب اعتقادكم؟(2/367)
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
قالُوا أي يقولون متبرئين من إثبات الشريك لله تعالى: آذَنَّاكَ أي أخبرناك وأسمعناك ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) أي ليس أحد منا يشهد بأن لك شريكا. وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ أي غابت عنهم آلهتهم التي كانوا يعبدونها في الدنيا، ولا يبصرونها في ساعة التوبيخ، وظهر لهم عدم نفعها حالتئذ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) ، أي أيقنوا أنه ليس لهم مهرب من النار لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ، أي من طلب السعة في أسباب المعيشة، وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) أي أصابته ضيقة فهو مبالغ في قطع الرجاء من فضل الله، ومن رحمته حتى تظهر آثاره في الأحوال الظاهرة. وَلَئِنْ أَذَقْناهُ أي الإنسان رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ أي من بعد شدة أصابته، لَيَقُولَنَّ هذا لِي، أي هذه الخيرات إنما حصلت لي بسبب استحقاقي لما حصل عندي من الفضائل وأعمال القربة من الله، وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً أي أن الإنسان يكون شديد الرغبة في الدنيا عظيم النفرة عن الآخرة، فإذا آل الأمر إلى الآخرة يقول: وما أظن الساعة تقوم.
وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ أي في الآخرة لَلْحُسْنى أي للحالة الحسنى من الكرامة وقوله: إِنَّ لِي إلخ جواب القسم لسبقه الشرط، فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا أي فلنظهرن لهم أن الأمر على عكس ما تصوروه، وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50) أي شديد
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ عن التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وَنَأى بِجانِبِهِ، أي تباعد عن الشكر بكليته تعظما، وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ أي أصابه فقر فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51) ، أي أقبل على دوام الدعاء، وأخذ في التضرع قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52) أي قل لهم يا أشرف الخلق: أخبروني إن كان هذا القرآن من الله، ثم كفرتم به من أضل منكم، فإن حالكم في معاداة شديدة مع محمد صلّى الله عليه وسلّم، وإنكم كلما سمعتم هذا القرآن أعرضتم عنه وما تأملتم فيه، وبالغتم في النفرة عنه حتى قلتم قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه، وفي آذاننا وقر سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ أي سنرى أهل مكة علامات وحدانيتنا وقدرتنا في أطراف الأرض من خراب مساكن الأمم الماضية، كعاد وثمود، وسنريهم ذلك في أنفسهم من الأمراض والمصائب وغير ذلك. حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ
أَنَّهُ الْحَقُ
أي أن هذا القرآن هو الحق المنزل من الله، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) و «بربك» فاعل، والباء مزيدة، و «أنه» بدل منه، أي أو لم يكفهم أن ربك على كل شيء شهيد، ولم يغنهم أخباره للأمم الماضية أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أي إن أهل مكة في شك عظيم من البعث والقيامة، أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54) أي إن الله عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها فيعلم بواطن هؤلاء الكفار وظواهرهم، ويجازي كل أحد على فعله بحسب ما يليق به، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.(2/368)
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)
سورة الشورى
وتسمى سورة حم عسق، وسورة حم سق، مكية ثلاث وخمسون آية، ثمانمائة وست وثمانون كلمة، ثلاثة آلاف وخمسمائة وثمانية وثمانون حرفا
حم (1) عسق (2) اسمان للسورة ولذلك فصل بينهما وعدا آيتين. وقرأ ابن عباس وابن مسعود «حم سق» ، وهما خبران لمبتدأ محذوف. كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) أي مثل ما في السورة من المعاني أوحى الله القادر على ما لا نهاية له، العالم بجميع المعلومات الغني عن جميع الحاجات إليك في سائر السور وإلى من قبلك من الرسل في كتبهم.
وقرأ ابن كثير «يوحي» بالبناء للمفعول. ويروى أيضا عن أبي عمرو على أن «كذلك» مبتدأ و «يوحي» خبره المسند إلى ضمير عائد عليه واسم الجلالة مرفوع بما دل عليه «يوحي» ، أي الموحي الله. وقرأ أبو حيوة والأعمش وأبان «نوحي» بنون العظمة، فاسم الجلالة مبتدأ، وعلى هاتين القراءتين فالوقف على من قبلك كاف بخلاف قراءة الجمهور فلا يوقف عليه، لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فكل من كان موجودا في السموات فهو عبد الله، فوجب أن يكون الله منزها عن الكون في المكان والجهة، والعرش والكرسي، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) أي هو المتعالي عن مشابهة الممكنات، ومناسبة المحدثات، العظيم بالقدرة وكمال الإلهية فهو تعالى أعلى كل شيء وأعظم كل شيء، تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ أي يتشققن من هيبة الله تعالى وعظمته، ويبتدئ التشقق من جهتهن الفوقانية.
قرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر «تكاد» بالتاء «ينفطرن» بنون ساكنة بعد الياء، وابن كثير وابن عامر وحمزة، وحفص عن عاصم «تكاد» بالتاء «يتفطرن» بالتاء المفتوحة بعد الياء، ونافع والكسائي «يكاد يتفطرن» بالتاء، ومن قرأ «تكاد» بالتاء الفوقية يجوز الوجهين في ينفطرن، ومن قرأ «يكاد» بالياء التحتية لا يقرأ «يتفطرن» إلا بالتاء الفوقية. وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي والملائكة ينزهون الله تعالى عمّا لا ينبغي ملتبسين بوصفه تعالى بكونه مفيضا لكل الخيرات، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أي يطلبون تجاوز الذنوب عن المؤمنين وتأخير العقوبة عن(2/369)
فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
الكافرين والفاسقين طمعا في إيمانهم وتوبتهم، ويطلبون الرزق لهم وحيث لم يذكر الله تعالى عن الملائكة استغفارهم لأنفسهم علمنا أنهم مبرأون عن كل الذنوب أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) فإن الله تعالى يعطي المغفرة التي طلبوها، ويزيدهم على ما طلبوه رحمة كاملة، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أي أربابا يعبدونهم من الأصنام اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ أي رقيب على أعمالهم فيجازيهم عليها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) ، أي ما أنت يا أشرف الرسل بموكول إليك أمرهم ولا قسرهم على الإيمان إنما أنت منذر فقط، وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها أي كما أوحينا إليك أنك لست حفيظا عليهم ولست وكيلا عليهم، فكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتكون نذيرا لأهل أم القرى، ولمن حولها من سائر الناس، وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ أي يوم القيامة فيجتمع فيه أهل السموات مع أهل الأرض لا رَيْبَ فِيهِ والوقف هنا كاف فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) أي بعد جمعهم في الموقف، ف «فريق» مبتدأ خبره الظرف بعده. وقرئ بالنصب على الحالية وتنذر يوم جمعهم متفرقين في داري الثواب والعقاب. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ في الدنيا أُمَّةً واحِدَةً أي على دين واحد وهو إما الإسلام أو الكفر، ولكن الله جعل البعض مؤمنا والبعض كافرا، وهو معنى قوله تعالى: وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ أي يدخل الله في رحمته من يشاء أن يدخله فيها، ويدخل في عذابه من يشاء أن يدخله فيه، وَالظَّالِمُونَ أي الكافرون ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ أي قريب ينفعهم، وَلا نَصِيرٍ (8) أي مانع يمنعهم من عذاب الله تعالى، أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أي بل اتخذوا متجاوزين الله أولياء من الأصنام وغيرها، هيهات فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى أي إن أرادوا وليا بحق، فالله هو الولي بحق لا ولي سواه، لأنه يحيي الموتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) فهو حقيق بأن يتخذ وليا دون من لا يقدر على شيء وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ أي وما خالفكم الكفار فيه من أمور الدين فاختلفتم أنتم وهم، فَحُكْمُهُ راجع إِلَى اللَّهِ وهو إثابة المحقين ومعاقبة المبطلين، ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي أي ذلكم الحاكم بينكم هو الله مالكي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في دفع كيد الأعداء، وفي طلب كل خير، وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) أي وإليه تعالى أرجع في كل المهمات لا إلى أحد سواه
فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بالرفع خبر خامس ل «ذلكم» ، أو مبتدأ خبره ما بعده. وقرئ بالجر على أنه بدل من الضمير، أو وصف لاسم الجلالة المجرور ب «إلى» . جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من جنسكم من الناس أَزْواجاً أي نساء وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً أي وجعل للأنعام من جنسها أصنافا، ذكرا وأنثى يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ، أي يكثركم بسبب هذا الجعل، لأن الناس والأنعام يتوالدون به لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، أي ليس كذاته تعالى ذوات، وليس كصفاته تعالى صفات، وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) للمسموعات والمرئيات، لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي له تعالى مفاتيح الرزق من السموات والأرض، وهي الأمطار والنباتات يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ(2/370)
وَيَقْدِرُ أي يوسعه لمن يشاء ويقتر، إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) فيفعل كل ما يفعل على ما ينبغي أن يفعل عليه شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ، أي اختار الله لكم يا أمة محمد من الدين ما وصى به نوحا ومحمدا، وإبراهيم وموسى وعيسى، فهم أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع العظيمة، و «أن» تفسيرية بمعنى أي، أو مصدرية في محل نصب بدل من الموصول، أو في محل جر بدل من «الدين» ، أو في محل رفع خبر مبتدأ مضمر تقديره هو أن أقيموا دين الإسلام، وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ أي لا تختلفوا في أصل الدين الذي لا تختلف فيه الشرائع وهو التوحيد والصلاة، والصيام والحج، والتقرب إلى الله بصالح العمل، والصدق والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وتحريم الكفر، والقتل والزنا والإذاية للخلق، والاعتداء على الحيوان، واقتحام الدنا آت، وما يعود بخرم المروعات، فهذا كله لم يختلف على ألسنة الأنبياء، كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أي شق عليهم ما تدعوهم إليه من إقامة دين الله تعالى، اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ أي الله يقرب إلى ما تدعوهم إليه من يشاء وهو من ولد في الإسلام ويميت عليه وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) أي ويرشد إليه من يميل إليه من أهل الكفر، وَما تَفَرَّقُوا أي المشركون في الدين الذي دعوا إليه، إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بحقيقته بَغْياً بَيْنَهُمْ أي حسدا منهم، وطلبا للرئاسة، فصار ذلك سببا لوقوع الاختلاف وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ، أي ولولا عدة ثبتت في الأزل من ربك بتأخير عذاب هذه الأمة إلى وقت معلوم- وهو يوم القيامة- لأوقع القضاء بينهم من هلاكهم بالاستئصال في الدنيا، وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) أي وإن أهل الكتاب من اليهود والنصارى كانوا في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذين أعطوا كتابهم، الذي هو التوراة والإنجيل من بعد المختلفين في الحق لفي الشك من كتابهم موقع في قلق النفس، لا يؤمنون به حق الإيمان، فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ أي فلأجل ما حدث من الاختلافات الكثيرة في الدين، فادع الناس كافة إلى الاتفاق على الملّة الإسلامية، واستقم عليها وعلى الدعوة إليها كما أمرك الله تعالى ولا تتبع أهواءهم المختلفة الباطلة، وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ أي وقل يا أكرم الرسل: آمنت بما أنزل الله على الأنبياء من كتاب صح أن الله أنزله، وهو الإيمان بجميع الكتب المنزلة، لأن المتفرقين آمنوا ببعض منها وكفروا ببعض، وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ أي وأمرت بأن أعدل بينكم في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم إلي، وأسوي بين أكابركم وأصاغركم فيما يتعلق بحكم الله تعالى، اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) أي إن إله الكل واحد وكل واحد مخصوص بعمل نفسه، لا خصومة بيننا وبينكم في الدين، لأن الحق قد ظهر ولم يبق للمخاصمة مجال، ولا
للمخالفة محل سوى العناد، وبعده لا جدال، فإن الله يجمع(2/371)
بين الكل يوم القيامة ويجازيه على عمله، لأن مرجع الكل إليه تعالى فيظهر هناك حالنا وحالكم، وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي والذين يخاصمون في دين الله من بعد ما استجاب الناس لذلك الدين ودخلوا فيه حجتهم باطلة عند ربهم، وتلك المخاصمة هي أن اليهود
قالوا: ألستم تقولون: إن الأخذ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف فيه، فنبوة موسى وحقيقة التوراة معلومة بالاتفاق، ونبوة محمد ليست متفقا عليها فحينئذ وجب الأخذ باليهودية، فبيّن الله تعالى أن هذه الحجة فاسدة، وذلك لأن اليهود أطبقوا على أنه إنما وجب الإيمان بموسى عليه السلام، لأجل ظهور المعجزات على وفق قوله عليه السلام، وقد ظهرت المعجزات على وفق قول محمد صلّى الله عليه وسلّم، واليهود شاهدوا تلك المعجزات، فإن كان ظهور المعجزة يدل على صدق صاحبها وجب الاعتراف بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وإن كان لا يدل على صدقه وجب أن لا يقروا بنبوة موسى عليه السلام، والإقرار بنبوة موسى مع الإنكار بنبوة محمد مع استوائهما في ظهور المعجزات باطل، لأنه متناقض وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ لمكابرتهم الحق بعد ظهوره، وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16) في الآخرة اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ أي القرآن وسائر الكتب المنزلة قبلك بِالْحَقِّ، أي بالصدق وَالْمِيزانَ، أي الشرع الذي يوزن به الحقوق ويسوى بين الناس، وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) أي أيّ شيء يجعلك عالما بأن الساعة التي يخبر بمجيئها الكتاب شيء قريب، فوجب على العاقل أن يجتهد في النظر ويترك طريقة أهل التقليد، ولمّا كان الرسول يهددهم بنزول القيامة قالوا على سبيل السخرية: متى تقوم القيامة، وليتها قامت، فيظهر لنا أن الحق ما نحن عليه، أو ما عليه محمد وأصحابه، فدفع الله ذلك فقال:
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها استعجال إنكار واستهزاء وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها أي خائفون من قيامها وأهوالها لعلمهم أن التوبة تمتنع عندها، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أي الكائنة بلا شك أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18) أي إن الّذين يدخلهم الشك في وقوع الساعة فيجادلون فيها لفي ضلال بعيد عن الصواب، لأن استيفاء حق المظلوم من الظالم واجب في العدل، فلو لم يحصل القيامة لزم إسناد الظلم إلى الله تعالى، وهذا محال. فكان إنكار القيامة ضلالا بعيدا، اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ أي كثير الإحسان بهم بالحياة والعقل ودفع أكثر البليات عنهم، وإعطاء ما لا بد منه من الرزق، وتأخير العذاب عمن يستحقون العذاب، يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ كيفما يشاء وَهُوَ الْقَوِيُّ أي القادر على ما يشاء، الْعَزِيزُ (19) أي الذي لا يغالب فلا يقدر أحد أن يمنعه عن شيء يريده، مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ أي من كان يريد بأعماله ثواب الآخرة، نزد له ثوابه بالتضعيف إلى ما نشاء، ونزد له في تسهيل سبيل الطاعات، ونعطه من الدنيا ما كتبناه له، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أي ومن كان يريد بأعماله متاع الدنيا نعطه بعض ما يطلبه حسب ما قسمنا له، وما له(2/372)
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)
في الآخرة ثواب، لأنه عمل للدنيا،
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ أي: الكفار مكة شياطينهم الذين زينوا لهم ما لم يأمر الله تعالى من الشرك، وإنكار البعث، والعمل للدنيا؟! فإنها على ضد دين الله، وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ أي القضاء السابق بتأخير الجزاء إلى يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي بين الكافر والمؤمنين في الدنيا، وَإِنَّ الظَّالِمِينَ أي الذين اختاروا ما لم يأذن به الله لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) .
وقرأ بعضهم «وأن» بفتح الهمزة عطفا على كلمة الفصل، أي ولولا الوعد بأن الفصل بينهم يكون يوم القيامة، وتقدير عذاب الظالمين في الآخرة لقضي بينهم في الدنيا، تَرَى الظَّالِمِينَ يوم القيامة مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا أي خائفين خوفا شديدا من جزاء ما عملوا في الدنيا من السيئات، وَهُوَ جزاؤه واقِعٌ بِهِمْ يوم القيامة فلا ينفعهم الحذر، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ أي مستقرون في أطيب بقاع الجنات، لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي ما يشتهونه من فنون المستلذات حاصل عند ربهم، فإن كل الأشياء حاضرة عنده مهيأة، ذلِكَ أي جزاء الإيمان والعمل الصالح هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ، أي فإن الثواب غير واجب على الله وإنما يحصل بطريق الفضل من الله تعالى لا بطريق الاستحقاق، ذلِكَ أي الفضل الكبير الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ في الدنيا عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.
قرأ نافع وابن عامر، وعاصم بضم الياء وفتح الباء وكسر الشين والباقون بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين. قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى أي قل يا أشرف الخلق لأهل مكة: لا أسألكم أجرا قط على التبليغ ببشارة ونذارة، ولكن أسألكم المودة متمكنة في أهل القرابة، وحب آل محمد واجب. قال الشافعي رضي الله عنه:
يا راكبا قف بالمحصب من منى ... واهتف بساكن خيفها والناهض
سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى ... فيضا كما نظم الفرات الفائض
إن كان رفضا حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي
وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً أي ومن يكتب أي حسنة كانت- كالمودة للقربى- نزد له في تلك الحسنة تضعيف ثوابها. وقرئ «يزد» بالياء أي يزد الله. وقرئ «حسنى» . إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أي أنه تعالى يحسن إلى المطيعين في إيصال الثواب إليهم وفي التفضل عليهم بزيادة أنواع كثيرة على ذلك الثواب. أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي بل يقولون: اختلق محمد على الله كذبا بدعوى النبوة، وتلاوة القرآن، فاغتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك فقال الله تعالى: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ، أي لو كان القرآن افتراء عليه تعالى لشاء عدم صدوره عنك، وإن يشأ ذلك يختم على قلبك بحيث لم يخطر ببالك معنى من معانيه، ولم تنطق بحرف من حروفه، وحيث تواتر الوحي حينا فحينا تبين أنه من عند الله، ومن عادة الله ابطال الباطل(2/373)
وتقرير الحق بوحيه فلو كان افتراء كما زعموا لمحقه إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24) فيجري عليها أحكامها اللائقة بها من المحو والإثبات، وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ.
وروى جابر أن أعرابيا دخل مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك وكبّر، فلما فرغ من صلاته قال له علي: يا هذا، إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين، فتوبتك هذه تحتاج إلى التوبة، فقال: يا أمير المؤمنين وما التوبة؟ قال: اسم يقع على ستة معان على الماضي من الذنوب: الندامة، ولتضييع الفرائض الإعادة، ورد المظالم، وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية، وإذاقتها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية والبكاء، بدل كل ضحك ضحكته
، وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ، فتارة يعفو عن الذنوب بواسطة قبول التوبة وتارة يعفو ابتداء من غير توبة، وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25) من خير وشر، فيجازي التائب ويتجاوز عن غير التائب. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم على المخاطبة. والباقون بالياء على المغايبة. وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي يجيب الله دعاءهم وَيَزِيدُهُمْ على ما طلبوه بالدعاء مِنْ فَضْلِهِ. وقال عطاء عن ابن عباس والمعنى: ويثيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله سوى ثواب أعمالهم تفضلا منه. وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26) بدل ما للمؤمنين من الثواب، والفضل المزيد. وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ أي ولو سوى الله الرزق بين الكل لامتنع كون البعض خادما للبعض، ولو صار الأمر كذلك لخرب العالم، وتعطّلت المصالح.
وقال ابن عباس: ولو وسع الله المال على عباده لطلبوا منزلة بعد منزلة، ودابة بعد دابة، ومركبا بعد مركب، وملبسا بعد ملبس، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ أي بتقدير ما يَشاءُ أن ينزله. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) أي إنه عالم بأحوال الناس وبعواقب أمورهم، فيقدر أرزاقهم على وفق مصالحهم، وَهُوَ
الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ
أي المطر الذي يغيثهم من الجدب مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا أي من بعد يأسهم من نزوله. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم «ينزل» بتشديد الزاي. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش بكسر نون «قنطوا» . وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ أي منافع الغيث وما يحصل به من الخصب، وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) أي وهو الّذي يتولى عباده بإحسانه، المحمود على ما يوصل للخلق من أقسام الرحمة، وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ، و «ما» معطوف على «السموات» ، أي وخلق ما نشر الله فيهما من حي.
وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29) أي وهو تعالى على جمع العقلاء للمحاسبة في أي وقت يشاء قدير، وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ أي فهي بسبب معاصيكم التي اكتسبتموها، ف «ما» متضمنة لمعنى الشرط، ولذلك جاءت الفاء في جوابها. وقرأ نافع وابن عامر «بما كسبت» بغير فاء، ف «ما» بمعنى الذي، و «بما كسبت» خبره. والمعنى: والّذي(2/374)
وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)
أصابكم من الأحوال المكروهة وقع بما كسبت أيديكم، وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) من الذنوب فإن الذنوب قسمان: قسم يعجل العقوبة عليه في الدنيا بالمصائب، وقسم يعفو عنه وهو أكثر.
وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي بفائتين ما قضي عليكم من المصائب، وإن هربتم من أقطارها كل مهرب، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ يحميكم منها وَلا نَصِيرٍ (31) يدفعها عنكم، وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ أي السفن الجارية فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) أي كالجبال.
وقرأ نافع وأبو عمرو بالياء وصلا، وابن كثير وهشام بها وقفا. والباقون بحذفها للتخفيف.
إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ التي تجري بها السفن. وقرأ نافع وحده «الرياح» على الجمع. فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ أي يصرن ثوابت على ظهر البحر، أي غير جاريات، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) فإن كان المؤمن في البلاء كان من الصابرين، وإن كان في النعماء كان من الشاكرين، فلا يكون من الغافلين عن دلائل معرفة الله ألبتة، أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا. والمعنى: أنه تعالى إن شاء ابتلى المسافرين في البحر بإحدى بليتين إما أن يسكن الريح فتقف الجواري على متن البحر، وإما أن يرسل الرياح عاصفة فيها فيهلكن بسبب الإغراق بمعصيتهم وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) أي إن يشأ يهلك ناسا وينج ناسا على طريق العفو عنهم. وقرأ الأخفش «ويعفو» بالواو. وقرأ بعض أهل المدينة بالنصب بإضمار «أن» بعد الواو، وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) .
وقرأ نافع وابن عامر بالرفع على الاستئناف. والباقون بالنصب عطف على علة مقدرة تقديره: لينتقم منهم وليعلم إلخ. وقرئ بالجزم عطفا على «يعف» فيكون المعنى: وإن يشأ يجمع بين ثلاثة أمور إهلاك قوم، وإنجاء قوم، وتحذير قوم، وعلى هذا فلا يوقف على كثير بخلاف القراءتين الأوليين، فالوقف عليه تام، فمعنى الآية: وليعلم الّذين ينازعون في آياتنا على وجه التكذيب أن لا مخلص لهم إذا وقفت السفن، وإذا عصفت الرياح فيصير ذلك سببا لاعترافهم بأن الإله النافع الضار ليس إلّا الله، فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي فما أعطيتم مما تتنافسون فيه من أثاث فهو ما تتمتعون به مدة حياتكم وَما عِنْدَ اللَّهِ من الثواب خَيْرٌ ما عندكم وَأَبْقى زمانا لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) .
وعن علي رضي الله: أنه تصدّق أبو بكر رضي الله عنه بماله كله، فلامه جمع من المسلمين فنزلت هذه الآية.
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ كالغيبة والنميمة، وَالْفَواحِشَ كالقتل والزنا والسرقة.
وقرأ حمزة والكسائي «كبير الإثم» بالإفراد والموصول معطوف على الذين آمنوا، وكذا ما بعده، وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) . «وإذا» منصوبة ب «يغفرون» ، و «يغفرون» خبر ل «هم» ، والجملة بأسرها عطف على «يجتنبون» ، والتقدير: والذين يجتنبون وهم يغفرون عطف اسمية على فعلية. وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ أي أجابوا لربهم بالتوحيد والطاعة وَأَقامُوا الصَّلاةَ أي أدوا(2/375)
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
الصلوات الخمس بشروطها وهيئاتها وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ، أي إذا أرادوا أمرا تشاوروا فيما بينهم فيه، ثم عملوا به ولا يعجلون في أمورهم وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ، أي أعطيناهم من المال يُنْفِقُونَ (38) أي في سبيل الخير وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ أي المظلمة هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) ، أي ينصفون بالقصاص لا بالمكابرة، وكانوا يكرهون أن يذلّوا أنفسهم فيجترئ عليهم السفهاء، وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها أي جزاء جناية مثل تلك الجناية فَمَنْ عَفا عن المسيء إليه، وَأَصْلَحَ بينه وبين خصمه بترك المكافأة فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) أي البادئين بالسيئة، والمتعدين في الانتقام.
واعلم أن العفو على قسمين:
أحدهما: أن يصير العفو سببا لتسكين الفتنة ولرجوعه عن جنايته، فآيات العفو محمولة على هذا القسم.
وثانيهما: أن يصير العفو سببا لمزيد جراءة الجاني ولقوة غضبه، فآية الانتقام محمولة على هذا.
وَلَمَنِ انْتَصَرَ أي سعى في نصر نفسه بطاقته وانتصف بالقصاص بَعْدَ ظُلْمِهِ أي بعد ظلم الظالم إياه. وقرئ «بعد ما ظلم» . فَأُولئِكَ أي المنتصرون ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) أي من مأثم وعقاب لأنهم فعلوا ما أبيح لهم، إِنَّمَا السَّبِيلُ أي المأثم عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ أي يبدءون بالظلم أو يجاوزون في الانتقام، وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي يتكبرون في الأرض بلا حق، أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) بسبب ظلمهم وتطاولهم، وَلَمَنْ صَبَرَ على الأذى بأن لا يقتص، وَغَفَرَ لمن ظلمه وفوض أمره إلى الله تعالى، إِنَّ ذلِكَ، أي الصبر والتجاوز لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) أي من مطلوبات الله تعالى في الأمور. قيل: نزل قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ إلى قوله تعالى: لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ في شأن أبي بكر الصدّيق وعمرو بن غزية الأنصاري في تنازع بينهما، فشتم الأنصاري أبا بكر الصديق، فأنزل الله تعالى في شأنهما هذه الآيات. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ أي من أضله الله تعالى عن هذه الأشياء فليس له من هاد يهديه من بعد إضلال الله إياه، وَتَرَى الظَّالِمِينَ أي المشركين يوم القيامة لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ أي حين يرونه يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) ، أي هل إلى رجوع إلى الدنيا من حيلة، وَتَراهُمْ في ذلك اليوم يُعْرَضُونَ عَلَيْها أي النار والخطاب في الموضعين لكل من تتأتى منه الرؤية خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ، أي حال كونهم حقيرين بسبب ما لحقهم من الذل، يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ أي يبتدئ نظرهم إلى النار من تحريك لأجفانهم، ضعيف كما ينظر المقتول إلى السيف. وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا على سبيل التعبير للكافرين: إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ باستغراقها في العذاب وَأَهْلِيهِمْ بمفارقتهم لهم، يَوْمَ الْقِيامَةِ ظرف ل «قال» ، وصيغة الماضي للدلالة على التحقيق، أي يقولون يوم القيامة- إذا رأوهم على تلك(2/376)
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
الصفة-: أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ أي المشركين فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) ، أي دائم- وهذا من كلام الله تصديقا للمؤمنين، أو من تمام كلامهم- وَما كانَ لَهُمْ أي المشركين مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ برفع العذاب عنهم مِنْ دُونِ اللَّهِ حسبما كانوا يرجون ذلك في الدنيا، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ عن دينه فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) أي دين اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ إذ دعاكم إلى الإيمان على لسان نبيه، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ وقوله: مِنَ اللَّهِ إما صلة للأمر أي لا يرده الله بعد ما حكم به وإما صلة ليأتي أي من قبل أن يأتي من الله يوم لا يقدر أحد على رده، ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ ينفع في التخلص من العذاب يَوْمَئِذٍ أي في ذلك اليوم، وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) أي لا تقدرون أن تنكروا شيئا مما اقترفتموه من الأعمال، لأنه مدون في صحائف أعمالكم وتشهد عليكم جوارحكم، فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً، أي فإن لم يقبل هؤلاء هذا الأمر فإنا لم نرسلك لتقهرهم على امتثال ما أرسلناك به، إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ لما أرسلناك به وقد فعلت، وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً أي نعمة من الصحة والغنى والأمن، فَرِحَ بِها وأعجب بها غير شاكر لها، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي بلاء من مرض وفقر وخوف بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بما عملوه من المعاصي فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48) أي فيظهر منه الكفر ونسيان النعمة، وذكر البلية من غير تأمل لسببها لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فيتصرف فيهما وما فيهما كيفما يشاء ويقسم النعمة والبلية حسبما يريده، يَخْلُقُ ما يَشاءُ كيف يشاء يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً من الأولاد وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) منهم، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً أي يخلطهم ذكرانا وإناثا، وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً أي بلا ولد، إِنَّهُ عَلِيمٌ بما خلق قَدِيرٌ (50) على ما يشاء أن يخلقه
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ، أي وما صح لفرد من أفراد البشر أن يكلمه الله إلّا على أحد ثلاثة أوجه: إما أن الله يلهمه في قلبه لا بواسطة شخص آخر ولا بسمع عين كلام الله كما في أم موسى، وكما في رؤية إبراهيم عليه السلام في المنام بذبح ولده. وإما أن الله يوصل إليه الوحي لا بواسطة شخص آخر ولكنه يسمع عين كلام الله من غير رؤية ذاته تعالى، كما وقع لموسى عليه السلام. وإما أن الله يوصل إليه الوحي بواسطة شخص آخر وهو جبريل. وهذا هو الّذي يجري بينه وبين الأنبياء في أكثر الأوقات من الكلام.
روي أن اليهود قالت للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا كما كلمه موسى ونظر إليه فإنا لن نؤمن حتى تفعل فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لم ينظر موسى إلى الله تعالى» فنزلت هذه الآية.
وقرأ نافع برفع «يرسل» بإضمار المبتدأ أي، أو هو يرسل، أو بالعطف على ما يتعلق به من وراء إذ التقدير، أو بسمع من وراء حجاب و «وحيا» في موضع الحال عطف عليه ذلك المقدر المعطوف عليه أو يرسل، والتقدير: إلا موحيا أو مسمعا من وراء حجاب أو مرسل رسول، وكذلك «فيوحي»(2/377)
فسكنت ياؤه، وأما على قراءة الجمهور بنصب «يرسل» و «يوحي» فهو معطوف على المضمر الذي يتعلق به «من وراء حجاب» ، هذا الفعل المقدر على «وحيا» ، والمعنى: إلا بوحي أو إسماع للكلام من وراء حجاب أو إرسال رسول. ويقال: التقدير وما كان لبشر أن يكلمه الله إلّا أن يوحي إليه وحيا، أو يسمع إسماعا من وراء حجاب، أو يرسل رسولا إِنَّهُ عَلِيٌّ عن صفات المخلوقين حَكِيمٌ (51) يجري أفعاله على موجب الحكمة، فيتكلم تارة بغير واسطة على سبيل الإلهام. وثانيا بإسماع الكلام. وثالثا: بتوسيط الملائكة الكرام. وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الإيحاء أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا أي حال كون الروح وهو القرآن بعض ما نوحيه إليك، لأن الموحى إليه لا ينحصر في القرآن وسمي القرآن روحا، لأنه يفيد الحياة من موت الجهل والكفر.
ما كُنْتَ تَدْرِي قبل الوحي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ أي أي شيء هو القرآن والإيمان بتفصيل ما في القرآن من الأمور التي لا تهتدي إليها العقول، وَلكِنْ جَعَلْناهُ أي الروح الذي أوحينا إليك نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ هدايته مِنْ عِبادِنا، وهو الذي يصرف اختياره إلى جهة الاهتداء به، وَإِنَّكَ لَتَهْدِي بذلك النور من تشاء هدايته إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) ، أي دين حق. وقرئ «التهدي» بالبناء للمفعول أي ليهديك الله. وقرئ «لتدعو» . صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي فالذي تجوز عبادته هو الذي يملك السموات والأرض، أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) أي أمور الخلائق في الآخرة فلا حاكم سواه، فيجازي كلا منهم بما يستحقه من ثواب أو عقاب.(2/378)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)
سورة الزخرف
مكية، تسع وثمانون آية، ثمانمائة وثلاث وثلاثون كلمة، ثلاثة آلاف وأربعمائة حرف
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) أي والكتاب المبين لطريق الهدى من طريق الضلالة، الموضح لكل ما يحتاج إليه في أبواب الديانة. إِنَّا جَعَلْناهُ أي إنا صيّرنا الكتاب قُرْآناً عَرَبِيًّا أي بلغة العرب، لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) أي لكي تفهموه وتعرفوا حق النعمة في ذلك، وَإِنَّهُ أي الكتاب فِي أُمِّ الْكِتابِ أي مثبت في أصل الكتب السماوية، وهو اللوح المحفوظ، وقرأ حمزة والكسائي بكسر همزة «أم الكتاب» . لَدَيْنا أي محفوظ عندنا من التغيير لَعَلِيٌّ أي رفيع الشأن حَكِيمٌ (4) أي محكم في أبواب البلاغة والفصاحة أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أي أنترككم فنبعد عنكم المواعظ إبعادا، وهذا استفهام على سبيل الإنكار أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) ، وقرأ حمزة والكسائي ونافع بكسر الهمزة على أنها شرطية لقصد تجهيل المخاطب، والباقون بالفتح على التعليل أي إنا لا نترك هذا الإنذار بسبب كونكم منهمكين في الإسراف، وهذا الكلام يحتمل الرحمة والمبالغة في التغليظ، فالمعنى على الأول: إنا لا نترككم مع سوء اختياركم، بل نذكركم إلى أن ترجعوا إلى الطريق الحق، وعلى الثاني أتظنون أن تتركوا مع ما تريدون؟ كلا، بل نلزمكم العمل وندعوكم إلى الدين ونؤاخذكم متى أخللتم بالواجب وأقدمتم على القبيح.
قال قتادة: لو أن هذا القرآن رفع حين رده أوائل هذه الأمة لهلكوا، ولكن الله برحمته كرره عليهم ودعاهم إليه عشرين سنة، وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ قبلك يا أكرم الرسل فِي الْأَوَّلِينَ (6) أي في الأمم الماضية وَما يَأْتِيهِمْ أي والحال أنه ما يأتي الأولين يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) أي أن عادة الأمم مع الأنبياء الذين يدعونهم إلى الدين الحق هو التكذيب، فلا ينبغي أن تتأذى من قومك بسبب إقدامهم على التكذيب لأن المصيبة إذا عمّت خفت، فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً أي فتسبب عن الاستهزاء بالرسل أنّا أهلكنا أشد قوة من أهل مكة الذين يستهزئون بك، وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) أي سبق في القرآن مرارا ذكر صفة الأولين في(2/379)
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)
الإهلاك، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي كفار مكة مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) فهم مقرون بأن خالقهن وما فيهن هو الله ذو العزة في سلطانه، والعلم في تدبيره، ومع هذا الإقرار يعبدون معه تعالى غيره وينكرون قدرته على البعث. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً أي فراشا ثابتة ولو شاء لجعلها متحركة، فلا يمكن الانتفاع بها في الزراعة والأبنية.
وقرأ الكوفيون مهدا والباقون مهادا وهذا الموصول ابتداء الكلام من الله تعالى دالا على نفسه بذكر مصنوعاته أي هو الذي إلخ.
وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها أي الأرض سُبُلًا تسلكونها في أسفاركم لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) أي لكي تهتدوا بسلوكها إلى مقاصدكم، ولتهتدوا بالتفكير فيها إلى التوحيد والدين الحق
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ حتى يكون معاشا لكم ولأنعامكم، لا كما أنزل على قوم نوح حتى أغرقهم فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً أي فأحيينا بذلك الماء مكانا خاليا من النبات.
كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) أي مثل إخراج النبات من الأرض تخرجون من قبوركم أحياء فهذا الدليل كما يدل على قدرته تعالى وحكمته، فكذلك يدل على قدرته على البعث والقيامة. وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ أي أصناف المخلوقات كُلَّها وقيل كل ما سوى الله تعالى فهو زوج كالفوق والتحت، واليمين واليسار، والقدّام والخلف، والماضي والمستقبل، والذوات والصفات، والصيف والشتاء، والربيع والخريف، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ أي الإبل ما تَرْكَبُونَ (12) أي ما تركبونه لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ أي لتستعلوا على ظهور ما تركبونه من الفلك والأنعام، ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ أي ركبتم عَلَيْهِ بأن تعرفوا أن الله تعالى خلق البحر، والرياح، والسفن، والإبل، وتعرفوا أن ذلك نعمة عظيمة من الله تعالى، وتشتغلوا بالشكر للنعم التي لا نهاية لها، وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) أي ليس لنا من القوة أن نضبط هذه الدابة والفلك، وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14) أي راجعون من الدنيا إلى دار البقاء كما
يروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان إذا وضع رجله في الركاب قال: «بسم الله» فإذا استوى على الدابة قال: «الحمد لله على كل حال سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا إلى قوله تعالى: لَمُنْقَلِبُونَ» .
وروي أن الحسن بن علي رضي الله عنهما رأى رجلا ركب دابة فقال: سبحان الذي سخر لنا هذا، فقال له: ما بهذا أمرت. أمرت أن تقول: الحمد لله الذي هدانا للإسلام، الحمد لله الذي منّ علينا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم الذي جعلنا من خير أمة أخرجت للناس، ثم تقول: سبحان الذي سخر لنا هذا.
وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه كان إذا سافر وركب راحلته كبر ثلاثا، ثم يقول: «سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا» ثم قال: «اللهم إني أسألك في سفري البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هوّن علينا السفر وأطوعنا بعد الأرض اللهم، أنت الصاحب في السفر، والخليفة على(2/380)
الأهل، اللهم أصحبنا في سفرنا وأخلفنا في أهلنا» . وكان إذا رجع إلى أهله يقول: «آئبون تائبون لربنا حامدون»
«1» . وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً أي أثبتوا أي بنو مليح له تعالى ولدا هو عبد من عباده إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أي لمبالغ في الكفر ظاهر الكفر أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) أي بل اتخذ من خلقه أخس الصنفين واختار لكم أفضلهما، وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أي وإذا أخبر أحد بني مليح بالبنت التي جعلها للرحمن شبها صار وجهه أسود من أحزان ما أخبر به، والحال أنه مغموم.
أفيرضون لله ما لا يرضون لأنفسهم؟
وقرئ «مسود» و «مسواد» واسم «ظل» إما ضمير يعود إلى أحد وجملة وجهه مسود من المبتدأ والخبر، خبرها وإما وجهه فسمود خبر مبتدأ مقدر أي هو مسود فتقع هذه الجملة موقع خبر ظل.
أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) أي أو جعلوا من عاداتها أن تربى في الزينة من الذهب والفضة ولدا لله، فالتي تتربى في الزينة تكون ناقصة الذات إذ لولا نقصانها في ذاتها لما احتاجت في تكميل نفسها إلى الزينة، والحال أنها إذا احتاجت إلى المخاصمة عجزت عن إقامة الحجة لضعف لسانها، وقلة عقلها، وبلادة طبعها، وهي النساء، فكيف يليق أن يكن بنات الله تعالى؟ وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بضم الياء وفتح النون والباقون بفتح الياء وسكون النون.
وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أي حكموا بأن الملائكة أكرم العباد على الله أنقصهم رأيا وأخسهم صنفا، فالقول بأن الملائكة إناث كفر. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر «عند الرحمن» أي وحكموا بأن الملائكة الذين يكونون عند الرحمن لا عند هؤلاء الكفار إناث فكيف عرفوا كونهم إناثا؟
أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ أي أحضروا خلق الله تعالى إياهم، فشاهدوهم إناثا حتى يحكموا بأنوثتهم. وقرأ نافع «أأشهدوا» بهمزتين مفتوحة ومضمومة وسكون الشين، وأدخل قالون بينهما ألفا أي أأحضروا خلقهم. أي حين خلقهم سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ في ديوان أعمالهم وهي قولهم:
«إن لله جزءا وان له بنات وإنها الملائكة. وَيُسْئَلُونَ (19) عنها يوم القيامة، وَقالُوا أي بنو مليح لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ أي لو شاء الله عدم عبادتنا للملائكة مشيئة ارتضاء ما عبدناهم فما فعلناه من عبادتنا إياهم حق مرضي عنده تعالى، ما لَهُمْ بِذلِكَ أي القول
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الجهاد، باب: ما يقول الرجل إذا سافر، وأحمد في (م 1/ ص 115) .(2/381)
أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30)
مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أي ما هم إلا يكذبون في ذلك القول، وهو قولهم: الملائكة بنات الله، وأن الله قد شاء منا عبادتنا إياهم بمشيئة الارتضاء
أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) أي هل وجدوا ذلك الباطل في كتاب منزل قبل القرآن حتى جاز لهم أن يتمسكوا به، بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) أي لم يأتوا بحجة عقلية، أو نقلية، بل اعترفوا بتقليد آبائهم الجهلة، وقالوا: إنا وجدنا آباءنا على حالة عظيمة تقصد، وإنا مهتدون على أعمالهم وَكَذلِكَ أي والأمر كما ذكر من عجزهم عن الحجة وتمسكهم بالتقليد. ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها أي ما أرسلنا نبيا مخوفا من قبلك إلى أهل قرية إلا قال من يحبون الشهوات والملاهي ويبغضون تحمل المشاق في طلب الحق قولا مثل قول قومك: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ أي على طريقة تستحق أن تقصد، وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ أي أعمالهم مُقْتَدُونَ (23) قل: يا أشرف الرسل لقومك، قال أبو السعود صيغة الأمر أمر ماض متعلق بالنذير السابق، حكاه الله لنبيه على تقدير «فقلنا له قل» لا أنه خطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويدل على ذلك أنه قرأ ابن عامر وحفص «قال» بصيغة الماضي أي قال كل نذير لأممهم: أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ أي أتقتدون بآبائكم ولو جئتكم بدين أوضح في الدلالة من دين آبائكم قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24) أي قال: إنّا كل أمة لنذيرها ثابتون على دين آبائنا وان جئتنا بما هو أصوب، فإنّا بما أرسلت به منكرون وإن كان ما جئتنا به أوضح مما كنا عليه. فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ بالاستئصال فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) بالرسل من الأمم الماضية فلا تكترث بتكذيب قومك، وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزر وَقَوْمِهِ المكبين على التقليد إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي أي أنني براء من آلهة تعبدونها غير الذي خلقني، وبراء مصدر، نعت به مبالغة وقرأ الزعفراني، وابن المنادي بضم الباء، وقرأ الأعمش إني بريء بنون واحدة وبصيغة اسم الفاعل. فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) أي يثبتني على الهداية، والسين للتأكيد، وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ أي وجعل إبراهيم كلمة التوحيد التي تكلم بها كلمة باقية في ذريته فلا يزال فيهم من يوحد الله تعالى ويدعو إلى توحيده، فقوله عليه السلام:
إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ جار مجرى لا إله إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي جار مجرى إلّا الله، فكان مجموع قوله: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي جاريا مجرى قوله: لا إله إلّا الله، وعلى هذا لا يوقف على قوله: مِمَّا تَعْبُدُونَ وقرئ «كلمة» و «في عقبه» بسكون اللام وسكون القاف.
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) أي لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحّد منهم، بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ أي بل متعت منهم أهل مكة، وَآباءَهُمْ بطول العمر وسعة الرزق حتى شغلهم ذلك عن كلمة التوحيد حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ أي القرآن وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) أي ظاهر الرسالة يوضحها بما معه من الآيات والمعجزات فكذبوا به وسموه ساحرا وما جاء به سحرا ولذا قال تعالى: وَلَمَّا(2/382)
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40)
جاءَهُمُ الْحَقُ
أي القرآن قالُوا هذا سِحْرٌ أي خيال وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30) فكفروا بالقرآن واستحقروا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ أي من إحدى القريتين مكة، والطائف عَظِيمٍ (31) في المال والجاه فالذي بمكة هو الوليد بن المغيرة والذي بالطائف هو عروة بن مسعود الثقفي أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ أي نبوة ربك لمن شاءوا نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ في الرزق دَرَجاتٍ أي متفاوتة لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا أي نحن أوقعنا هذا التفاوت بين العباد في القوة، والضعف، والعلم، والجهل، والحذاقة، والبلاهة، والشهرة، والخمول فلو سوينا بينهم في كل هذه الأحوال لم يخدم أحد أحدا، وحينئذ يفضى ذلك إلى فساد نظام الدنيا، وخراب العالم، ثم إن أحدا من الخلق لم يقدر على تغيير حكمنا في أحوال الدنيا مع دناءتها فكيف يمكنهم الاعتراض على حكمنا في تخصيص بعض العباد بمنصب النبوة، فكما فضلنا بعضهم كما شئنا كذلك اصطفينا بالرسالة من شئنا، وَرَحْمَتُ رَبِّكَ من النبوة وسعادة الدارين خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) من الأموال، فالعظيم من حاز النبوة لا من حاز الأموال الكثيرة وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) أي ولولا أن يرغب الناس في الكفر- إذا رأوا أهل الكفر في سعة من الرزق لحبهم الدنيا فيجتمعوا عليه- لأعطينا الكافرين أكثر الأسباب المفيدة للتنعم ولجعلنا سقف بيوتهم من فضة، ومصاعد من فضة يرتقون عليها، وأبواب بيوتهم من فضة، وسررا من فضة ينامون عليها وَزُخْرُفاً أي زينة من كل شيء في كل شيء، وهو معطوف على «سقفنا» ، ويجوز أن يكون معطوفا على محل فضة، أي جعلنا بعض هذه الأشياء فضة، وبعضها ذهبا.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو «سقفنا» بفتح السين وسكون القاف، والباقون بضمهما، وقرئ معاريج وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا، وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة «لما» بتشديد الميم، فهو بمعنى إلا و «إن» نافية كما في قراءة أبي وما ذلك أي وما كل ما ذكر إلا شيء يتمتع به في الحياة الدنيا، والباقون بالتخفيف ف «ما» زائدة و «إن» مخففة من الثقيلة، واللام فارقة أي وأنه كل ذلك متاع الحياة.
وقرئ بكسر اللام وهي تعليل و «ما» موصولة قد حذف عائدها أي للّذي هو متاع الحياة وَالْآخِرَةُ أي ما فيها من فنون النعم عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) أي عن الكفر والمعاصي، فإن العظيم هو العظيم في الآخرة ولا في الدنيا وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ بضم الشين أي ومن يعرض عن القرآن وقرئ «يعش» بفتح الشين أي يعم، وبالكسر أي يميل وقرئ «يعشو» على أن «من» موصولة غير مضمنة معنى الشرط، والمعنى ومن يعرف أن القرآن حق وهو يتجاهل نُقَيِّضْ لَهُ أي نضم إليه شَيْطاناً فَهُوَ أي الشيطان لَهُ قَرِينٌ (36) في الدنيا وفي النار.(2/383)
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)
روي أن الكافر إذا بعث يوم القيامة من قبره أخذ شيطانه بيده فلم يفارقه حتى يصيرهما الله إلى النار وقرئ «يقيض» بالياء، والفاعل يعود إلى الرحمن ومن قرأ «يعشو» فحقه أن يرفع «يقيض» وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ أي وأن الشياطين ليصرفون قرناءهم عن سبيل الحق، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) أي والحال أن الكفار المعرضين عن القرآن يعتقدون أنهم على هدى حَتَّى إِذا جاءَنا أي جاءنا كل واحد من العاشين مع قرينه الشيطان يوم القيامة في سلسلة واحدة وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر، «جاءانا» على صيغة التثنية أي جاءنا العاشي والشيطان.
قالَ أي العاشي مخاطبا لشيطانه يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ أي ليت حصل بيني وبينك في الدنيا مثل بعد ما بين المشرق والمغرب. فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) أنت فكثرة المال والجاه توجب كمال النقصان والحرمان في الدين والدنيا فظهر أن قولهم: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ كلام فاسد، وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39) وفاعل ينفع أما «أنكم» ومدخولها و «إذ ظلمتم» أما بدل من اليوم والمعنى «ولن ينفعكم اليوم» إذ تبين الآن عندكم وعند الناس جميعا أنكم ظلمتم أنفسكم في الدنيا بالإشراك بالله كونكم مشتركين في العذاب، بمعنى لن يحصل لكم التشفي بكون قرنائكم معذبين مثلكم حيث كنتم تدعون عليهم بقولكم: رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً [الأحزاب: 68] ، وأما مضمر يعود إلى التمني و «إذ ظلمتم» تعليل لنفي النفع وكذلك «أنكم» بفتح الهمزة ويؤيد هذا الاحتمال قراءة ابن عامر في رواية إنكم بكسر الهمزة، والمعنى ولن ينفعكم يوم القيامة تمنيكم لمباعدتهم لأجل ظلمكم أنفسكم في الدنيا باتباعكم إياهم في الكفر والمعاصي لأن حقكم أن تشركوا أنتم وقرناؤكم في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه في الدنيا. أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) أي أفأنت وحدك من غير إرادتنا تسمع الصم الحق وتهدي من تمرنوا في الضلال إلى الهدى أي انهم بلغوا في النفرة عن دينك إلى حيث إذا أسمعتهم القرآن كانوا كالصم، وإذا أريتهم المعجزات كانوا كالعمين فإن صممهم وعماهم كانا بسبب كونهم في كفر بيّن
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أي فإن قبضناك قبل نزول النقمة بهم فإنّا منتقمون منهم بعد موتك في الدنيا والآخرة، أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) أي أو نرينك في حياتك ما وعدناهم من الذل والقتل فلا يعوقنا عائق لأنّا قادرون على عذابهم قبل موتك وبعده، فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ بأن تعتقد أنه حق وبأن تعمل بموجبه، وقرئ أوحي بالبناء للفاعل وهو الله تعالى. إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) لا يميل عنه إلا ضال في الدين، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ أي وأن الّذي أوحي إليك لموجب شرفا عظيما لك، ولقريش حيث يقال: إن هذا الكتاب أنزله الله تعالى على رجل متهم، وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) هل أديتم شكر أنعامنا عليكم بهذا الذكر الجميل وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ(2/384)
وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)
الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ
(45) أي واسأل مؤمني أهل التوراة والإنجيل هل جاءت عبادة الأوثان في ملة من مللهم بأمرنا فإنهم يخبرونك عن كتب الرسل فإذا سألتهم فكأنك سألت الأنبياء فما جاءت الرسل إلّا بالتوحيد فلم يسألهم النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه كان موقنا بذلك، وإذا كان التوحيد متفقا عليه بين الرسل وجب أن لا يجعلوه سببا لبغض محمد صلّى الله عليه وسلّم وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا، وهي المعجزات التي كانت مع موسى عليه السلام إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ أي قومه فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) إليكم فقالوا له: ائت بآية فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) أي استهزءوا بها أول ما رأوها ولم يتأملوا فيها، وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها أي إلّا وهي أعظم من الآية التي كانت قبلها في زعم الناظر وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ أي بأنواع العذاب كالدم، والقمل، والضفادع، والبرد الكبار ملتهبا بالنار، وموت الأبكار لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) أي لكي يرجعوا عن كفرهم إلى الإيمان وَقالُوا لموسى لما رأوا العذاب يا أَيُّهَا السَّاحِرُ أي العالم الماهر- يوقرونه عليه السلام بذلك القول لاستعظامهم على السحر- ادْعُ لَنا رَبَّكَ ليكشف عنّا العذاب بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي بالّذي عهد لك وكان عهده لموسى إن آمنوا كشفنا عنهم العذاب إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) أي لمؤمنون بك وبما جئت به، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ بدعوته عليه السلام إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) عهدهم في كل مرة من مرات العذاب أي فكانوا يتوبون في كل واحدة من العذاب فإذا انكشف عنهم نقضوا العهد بالإيمان،
وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ أي فيما بينهم بعد أن كشف العذاب عنهم مخافة أن يؤمنوا قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ أربعين فرسخا في أربعين فرسخا؟ قال: مجاهد هي الاسكندرية، وَهذِهِ الْأَنْهارُ التي فصلت من النيل ومعظمها أربعة أنهر نهر: الملك، ونهر طولون، ونهر دمياط، ونهر تنيس تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أي من تحت قصري أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) ذلك، فقد احتج فرعون على فضيلة نفسه بكثرة أمواله وقوة جاهه أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ أي بل أنا خير من موسى الذي هو فقير ضعيف الحال لأنه يتعاطى أموره بنفسه، وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) أي يظهر حجته التي تدل على صدقة فيما يدعي فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أي فهل ألقي على موسى من عند مرسله مقاليد الملك إن كان صادقا في دعواه لأن عادة القوم جرت بأنهم إذا جعلوا واحدا رئيسا ألبسوه سوارا من ذهب وطوقا من ذهب، فطلب فرعون من موسى مثل هذه الحالة. وقرأ حفص أسورة، والباقون أساورة، وقرئ ألقى عليه اسورة وأساورة على البناء للفاعل، وهو الله تعالى أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) أي أو هلا جاء الملائكة ماشين مع موسى فيدلون على صحة نبوته فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ أي فطلب فرعون من قومه الخفة في الإتيان بما كان يأمرهم به، فَأَطاعُوهُ فيه إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) حيث سارعوا إلى طاعة ذلك الجاهل الفاسق، فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ أي فلما أغضبوا نبيّنا موسى، ومالوا إلى إرادة عقابنا بالإفراط في العصيان عاقبناهم،(2/385)
فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55) في البحر، فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً أي متقدمين ليتعظ بهم كفار أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقرأ حمزة والكسائي بضم السين واللام والباقون بفتحهما، وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56) أي عظة لمن بقي بعدهم، وقصة عجيبة لهم، وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا أي لما جعل عيسى مشابها للأصنام في كونه معبودا إِذا قَوْمُكَ قريش مِنْهُ أي من ذلك المثل يَصِدُّونَ (57) أي يضحكون وترتفع أصواتهم فرحا بما سمعوا من ابن الزبعري لظنهم أن محمدا صار مغلوبا بهذا الجدال.
روي أنه لما نزل قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ قال عبد الله بن الزبعري: هذا خاصة لنا ولآلهتنا، أو لجميع الأمم؟! فقال صلّى الله عليه وسلّم: «هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم» فقال عبد الله: خصمتك ورب الكعبة، أليس النصارى يعبدون المسيح، واليهود عزيرا وبنو مليح الملائكة، فإذا كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن والهتنا معهم؟! فسكت النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفرح القوم وضجوا فنزلت هذه الآية.
وعبد الله هذا صحابي مشهور، وهذه القصة كانت قبل إسلامه، وقرأ نافع وابن عامر، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم بضم الصاد وهو قراءة علي بن أبي طالب، والباقون بكسرها هو قراءة ابن عباس. وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ أي إن جاز لعيسى الدخول في النار مع النصارى يجوز لنا الدخول في النار مع آلهتنا وأنت تزعم أن آلهتنا ليست خيرا من عيسى، فإذا كان هو من حصب جهنم كان أمر آلهتنا أهون. وقيل: إن الكفار لما سمعوا أن النصارى يعبدون عيسى قالوا: نحن أهدى من النصارى لأنهم عبدوا آدميا ونحن نعبد الملائكة.
فقولهم: أآلهتنا خير أم هو تفضيل لآلهتهم على عيسى، وقيل: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما حكى أن النصارى عبدوا المسيح، قالوا: إن محمدا يدعونا إلى عبادة نفسه وآباؤنا قالوا: يجب عبادة هذه الأصنام، فحينئذ عبادة الأصنام أولى لأن آباءنا متطابقون عليه. وإما محمد فإنه متهم في أمرنا بعبادته فمعنى أآلهتنا خير أم هو أي أ
عبادة الأصنام خير أم عبادة محمد والوقف على «أم» هو تام.
ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا أي ما ضربوا لك هذا المثل إلّا لأجل الغلبة في القول لا لطلب الفرق بين الحق والباطل، بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) أي شداد الخصومة مجبولون على اللجاج، فإن قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يتناول عيسى والملائكة لأن كلمة «ما» لا تتناول العقلاء ألبتة ولأن النصوص الدالة على تعظيم عيسى والملائكة أخص من هذا القول. والخاص مقدم على العام.
إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) أي ما عيسى إلّا عبد كسائر العبيد شرفناه بالنبوة والإقدار على الخوارق، وليس هو باله وصيرناه عبرة عجيبة حيث خلقناه من غير أب ليعرفوا تمييزنا بالقدرة الباهرة، وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) أي ولو(2/386)
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70)
نشاء لجعلنا من رجالكم ملائكة مستقرين في الأرض بطريق التوليد من غير واسطة نساء يخلفونكم كما تخلفكم أولادكم كما ولدنا عيسى من أنثى بلا فحل، فهذا أمر سهل علينا مع أنه أعجب من حال عيسى الذي تستغربونه، فإنه بواسطة أمّ، وشأن الأم الولادة،
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ أي وأن عيسى لشرط من أشراط الساعة، والمعنى: وأن نزول عيسى من السماء علامة على قرب الساعة.
وقرأ ابن عباس «لعلم» بفتح العين واللام أي علامة، وقرئ «للعلم» ، وقرأ أبي «لذكر» وفي الحديث: أن عيسى ينزل على ثنية في الأرض المقدسة يقال لها أفيق، وبيده حربة وبها يقتل الدجال، فيأتى بيت المقدس والناس صلاة الصبح، فيتأخر الإمام، فيقدمه عيسى عليه السلام ويصلّي خلفه على شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم، ثم يقتل الخنازير، ويكسر الصليب، ويخرب البيع، والكنائس، ويقتل النصارى إلا من آمن به فَلا تَمْتَرُنَّ بِها أي فلا تشكن في وقوع الساعة وَاتَّبِعُونِ أي واتبعوا هداي أو رسولي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) أي الّذي أدعوكم إليه صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) أي موصل إلى الحق وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ عن اتباعي إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) أي أنه قد بانت عداوته لكم لأجل أنه هو الّذي أخرج أباكم من الجنة، ونزع عنه لباس النور، وَلَمَّا جاءَ عِيسى إلى بني إسرائيل بِالْبَيِّناتِ أي بالمعجزات وبالشرائع الواضحات قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ أي بأصول الدين لأعلمكم إياها وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وهي فرع الدين، فإن قوم موسى قد اختلفوا في أشياء من أحكام التكليف، واتفقوا على أشياء، فجاء عيسى ليبين لهم الحق في المسائل الخلافية. أما اختلافهم في الأشياء التي لا حاجة بهم إلى معرفتها فلا يجب على الرسول بيانها فَاتَّقُوا اللَّهَ في الإعراض عن دينه وَأَطِيعُونِ (63) فيما أبلغه إليكم من التكاليف. إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ بالشرائع واعتقدوا وحدانيته تعالى أي التوحيد والتعبد بالشرائع هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) لا يضل سالكه، فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ أي فاختلف الطوائف في عيسى بعد رفعه إلى السماء اختلافا ناشئا منهم، فقال اليعقوبية:
هو الله. وقال النسطورية: هو ابن الله. وقال الملكانية: هو شريك الله. وقال المرقوسية: هو ثالث ثلاثة. وقال اليهود: هو ابن زنا. فَوَيْلٌ أي شدة عذاب لِلَّذِينَ ظَلَمُوا من هؤلاء المختلفين الذين وضعوا القول في غير موضعه مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هو يوم القيامة هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66) ف «إن تأتيهم» بدل من الساعة أي ما ينتظر الناس إلا إتيان الساعة فجأة غافلين عنها مشتغلين بأمور الدنيا. الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) أي المتحابون في الدنيا بعضهم عدو لبعض يوم إذ تأتيهم الساعة إلّا الموحّدين الذين يتحاب بعضهم بعضا على التقوى فإن مودتهم لا تصير عداوة، فإن الذين حصلت بينهم محبة في الدنيا إن كانت تلك المحبة لأجل طلب الدنيا ولذاتها فهذه المطالب لا(2/387)
يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)
تبقى في القيامة، بل تنقلب هذه المحبة الدنيوية بغضة في القيامة وإن كان حصول المحبة في الدنيا لأجل الاشتراك في محبة الله وفي طاعته كانت هذه المحبة باقية في القيامة، بل كأنها تصير أصفى ما كانت في الدنيا، ويقول الله لهم: يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69) أي مخلصين لنا بالعبادة، وقد روي في هذا الحديث: أن المنادي ينادي يوم القيامة: يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ فيرفع الخلائق رؤوسهم، فيقولون: نحن عباد الله، ثم ينادي الثانية: الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ، فينكس الكفار رؤوسهم، ويبقى الموحدون رافعين رؤوسهم، ثم ينادي الثالثة: الَّذِينَ آمَنُوا وكانوا يتقون، فينكس أهل الكبائر رؤوسهم، ويبقى أهل التقوى رافعين رؤوسهم قد زال عنهم الخوف والحزن كما وعدهم الله لأنه أكرم الأكرمين والموصول صفة للمنادى، أو نصب للمدح، وعلى هذا لا يوقف على «تحزنون» . أما إن جعل مبتدأ أو خبره مضمر فالوقف على «تحزنون» تام والتقدير يقال لهم: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) أي تكرمون بالتحف إكراما على سبيل المبالغة
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ أي لهم في الجنة أطعمة وأشربة يطاف بها عليهم في قصاع من ذهب وكيزان من ذهب، وَفِيها أي الجنة ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ من الأشياء المعقولة، والمسموعة، والملموسة جزاء لهم بما منعوا أنفسهم من الشهوات في الدنيا وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ من الأشياء المبصرة جزاء ما لا تحملوه من منع أعينهم من نظر ما لا يجوز شرعا.
وقرأ نافع وابن عامر وحفص «تشتهيه» بإثبات العائد على الموصول، والباقون بحذفه وقرئ و «تلذه» بالهاء.
وَأَنْتُمْ فِيها أي الجنة خالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) أي أعطيتموها جزاء على عملكم الصالح في الدنيا لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73) فلا تنفد أبدا. إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) خبر «إن» و «في عذاب» متعلقة به لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ أي لا ينقص العذاب عنهم وَهُمْ فِيهِ أي العذاب مُبْلِسُونَ (75) أي آيسون من النجاة. وقرأ عبد الله «وهم فيها» أي في جهنم وهذه جملة حالية، وَما ظَلَمْناهُمْ بعذابهم، وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) لا، قبال أنفسهم للعذاب الخالد بقصدهم عدم الانفكاك عن الكفر ما بقوا في الدنيا، ف «الظالمين» خبر كان، وقرأ عبد الله وأبو زيد «الظالمون» على أنه خبر ل «هم» والجملة خبر كان، وَنادَوْا خازن النار يا مالِكُ. قرأ ابن مسعود «يا مال» بحذف الكاف، وهذا دليل على أنهم بلغوا في الضعف إلى حيث لا يمكنهم أن يذكروا من الكلمة إلّا بعضها لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ، والمعنى: سل ربك أن يميتنا لنستريح من العذاب، وهذا تمن للموت لشدة عذابهم. قالَ أي مالك بعد أربعين سنة كما قاله عبد الله بن عمر، وقيل: الضمير يعود(2/388)
قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
إلى الله إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) في العذاب أبدا لا خلاص لكم منه بموت ولا بغيره. قال الله تعالى مقررا لجواب مالك ومبينا لسبب مكثهم لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ أي بالدين الحق في الدنيا بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78) أي ينفرون عنه ويبغضونه أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أي أأتقن مشركو مكة أمرا في كيدهم برسولنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، فإنّا متقنون كيدنا حقيقة، وكانوا يتشاورون في أموره صلّى الله عليه وسلّم في دار الندوة. أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ أي بل يحسبون أنّا لا نسمع ما حدّثوا به أنفسهم أو غيرهم في مكان خال وما تكلموا فيما بينهم بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) أي بلى نسمعهما ونطلع عليهما، والحال أن رسلنا وهم الحفظة الذين يلازمونهم أينما كانوا يكتبون عليهم كل ما صدر عنهم من الأفعال والأقوال
قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) لذلك الولد، فإن السلطان إذا كان له ولد يجب على عبده أن يخدمه كما يجب عليه أن يخدم السلطان والمعنى إن قام الدليل على ثبوت الولد له تعالى كنت مقرا بوجوب خدمته، لكن لم يوجد الدليل على ثبوته، بل الدليل القاطع قائم على عدمه، فكيف أقر بوجوده؟ قال بعضهم: إن كلمة «إن» هاهنا نافية والتقدير ما كان للرحمن ولد فأنا أول المقرين من أهل مكة بأن ليس لله ولد وأنا أول الموحدين منهم أن لا شريك له تعالى. وقرأ حمزة والكسائي «ولد» بضم الواو وإسكان اللام، والباقون بفتحهما سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) من أن له ولدا فَذَرْهُمْ أي فاتركهم في ذلك الباطل حيث لم يذعنوا للحق بعد ما سمعوا هذا البرهان الجلي فَذَرْهُمْ أي يفعلوا في أباطيلهم، وَيَلْعَبُوا في دنياهم حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) أي حتى يصلوا إلى اليوم الّذي يوعدون فيه بالعذاب، وهو يوم القيامة، وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ أي وهو الّذي هو معبود في السماء، ومعبود في الأرض، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)
فكونه بليغ الحكمة في تدبير خلقه وبالغا في العلم بمصالحهم ينافي حصول الولد له، وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما أي دام الذي له ملكها وكثرت خيراته، فعيسى ليس ولد الله تعالى لأنه حدث بعد أن لم يكن، ثم إنه مات ولأنه محتاج إلى الطعام فالذي هذا صفته كيف يكون ولدا لمن كان خالقا للسموات والأرض وما بينهما؟! ولا مجانسة بين عيسى والباقي الغني عن كل شيء، فامتنع كونه ولدا له تعالى، وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أي علم وقت قيامها ومن كان كاملا في الذات والعلم والقدرة امتنع أن يكون له ولد عاجز وعديم العلم في أحوال العالم بالحد الّذي وصفه النصارى، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) . وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي بالياء على الغيبة، والباقون بالتاء على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب للتهديد، وقرئ «تحشرون» بالتاء.
وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ أي أن الملائكة وعيسى عزيرا الذين كانوا يعبدهم الكفار من دون الله لا يشفعون إلّا لمن شهد بالحق، وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) بقلوبهم ما يشهدون به بألسنتهم.(2/389)
روي أن النضر بن الحرث ونفرا معه قالوا: إن كان ما يقول محمد حقا فنحن نعبد الملائكة، فهم أحق بالشفاعة من محمد، فأنزل الله هذه الآية، ويقال: إن كل معبود من دون الله لا يملكون الشفاعة إلّا من شهد أنه لا إله إلّا الله وهم الملائكة وعيسى وعزيرا فإن لهم شفاعة عند الله، وهم يعلمون أن الله خلقهم وأنهم عباده، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي الكفار الذين ادعوا الشريك لله مَنْ خَلَقَهُمْ أي العابدين والمعبودين معا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) أي فكيف يصرفون عن عبادته تعالى إلى عبادة غيره مع اعترافهم بكون الكل مخلوقا له تعالى، ولم يكذبون على الله؟
حيث قالوا: إن الله أمرنا بعبادة الأصنام وَقِيلِهِ قرأ الأكثرون بالنصب على المصدر أي قال النبي قوله، أو عطف على «سرهم» ، أو على محل الساعة، وقرأ عاصم، وحمزة بالجر عطف على «الساعة» أو أن الواو للقسم، وقرأ الأعرج، وأبو قلابة، ومجاهد، والحسن بالرفع عطف على «علم الساعة» ، أو مبتدأ وخبره ما بعده يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) بك وبرسولك قال تعالى: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ أي فأعرض عنهم بغير التبليغ، وبالدعاء عليهم بالعذاب، وَقُلْ سَلامٌ أي شأني الآن متاركة بسلامتكم مني، وسلامتي منكم، فهذا تباعد منهم، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) ما يفعل بهم.
وقرأ نافع، وابن عامر بتاء الخطاب على الالتفات لزيادة التهديد، والتقريع، والباقون بالياء كناية عن قوم لا يؤمنون. وهذه الآية غير منسوخة لأن الأمر لا يفيد الفعل إلا مرة واحدة، فإذا أتي به مرة واحدة فقد سقطت دلالة اللفظ فأي حاجة فيه إلى التزام النسخ.(2/390)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10)
سورة الدخان
مكية، تسع وخمسون آية، ثلاثمائة وست وأربعون كلمة، ألف وأربعمائة وواحد وثلاثون حرفا
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) يجوز أن يكون المراد بالكتاب هاهنا الكتب المتقدمة التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه، وأن يكون المراد به اللوح المحفوظ، وأن يكون المراد به القرآن، وهذا يدل على غاية تعظيم القرآن. إِنَّا أَنْزَلْناهُ أي القرآن فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ قال الأكثرون: إنها ليلة القدر. وقال عكرمة، وطائفة آخرون: إنها ليلة البراءة، وهي ليلة النصف من شعبان، ونقل محمد بن جرير الطبري عن قتادة أنه قال: نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، والتوراة لست ليال منه، والزبور لثنتي عشرة مضت منه، والإنجيل لثمان عشرة مضت منه، والقرآن لأربع وعشرين مضت من رمضان، والليلة المباركة هي ليلة القدر، وقد قيل: إنه تعالى أنزل كلية القرآن من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في ليلة مباركة، ثم أنزل في كل وقت ما يحتاج إليه المكلف، وقيل: يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ ليلة البراءة، ويقع الفراغ في ليلة القدر، فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل، ونسخة الحروب إلى جبريل، وكذلك الزلازل، والصواعق، والخسف، ونسخة الأعمال إلى إسرافيل صاحب سماء الدنيا، ونسخة المصائب إلى ملك الموت، إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) أي مخوفين بالقرآن فِيها أي ليلة مباركة يُفْرَقُ أي يظهر للملائكة الموكلين بالتصرف في العالم كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أي مبرم لا يحصل فيه تغيير ولا نقص، بل لا بد من وقوعه في تلك السنة، وقال الرازي: معنى الحكيم ذو حكمة، وذلك لأن تخصيص الله تعالى كل أحد بحالة معينة من العمر، والرزق، والأجل، والسعادة، والشقاوة يدل على حكمة بالغة لله تعالى فلما كانت تلك الأفعال والأقضية دالة على حكمة فاعلها وصفت بكونها حكيمة.
وقرئ «يفرق» بالتشديد، وقرئ «يفرق» على البناء للفاعل، ونصب «كل» والفارق هو الله تعالى، وقرأ زيد بن علي «نفرق» بالنون أَمْراً مِنْ عِنْدِنا حال من فاعل «أنزلنا» أو من مفعوله. أي في حال كون القرآن أمرا من عندنا بما يجب أن يفعل، أو من أمر حكيم، أو مفعول له(2/391)
وناصبه إما «أنزلناه» وإما «منذرين» وإما «يفرق» أي أو مصدر من معنى «يفرق» أي فرقا كائنا من عندنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) أي أنّا إنما فعلنا ذلك الإنذار لأجل أنا كنا مرسلين الأنبياء رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ مفعول له أي لأجل إفاضة رحمتنا على العباد، والمعنى: إنا أنزلنا القرآن لأن من عادتنا إرسال الرسل بالكتب إلى العباد لاقتضاء رحمتنا السابقة إرسالهم، أو بدل من «أمرا» فيجيء في «رحمة» ما تقدم من الأوجه في «أمرا» . إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) ، فإن المحتاجين للرحمة إما أن يذكروا حاجاتهم بألسنتهم وإما أن لا يذكروها، فإن ذكروها فإنه تعالى سميع لكلامهم، وإن لم يذكروها فهو تعالى عالم بحاجاتهم، رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي بالجر بدل من ربك أو بيان عليه، والباقون بالرفع عطف بيان على قوله:
«السميع العليم» ، أو خبر آخر، أو استئناف على إضمار مبتدأ إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) أي إن كنتم تريدون اليقين فاعرفوا أن الأمر كما قلنا لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وهذا تنبيه على تمام دلائل التوحيد رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بالرفع بدل، أو بيان، أو النعت ل «ربّ» السموات» .
وقرأ ابن محيصن، وابن أبي اسحق، وأبو حيوة، والحسن بالجر على البدل، أو البيان، أو النعت ل «رب» السموات» وقرأ الأنطاكي بالنصب على المدح، بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ أي ليسوا على يقين في إقرارهم بأن للسموات والأرض ربا وخالقا هو الله تعالى وإنما يقولونه تقليدا لآبائهم من غير علم فهم في شك يَلْعَبُونَ (9) في دينهم بما يظهر لهم من غير حجة، فَارْتَقِبْ أي انتظر يا أكرم الرسل عذابهم يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) وهو ما أصابهم من شدة الجوع، فإنهم لظلمة أبصارهم كأنهم يرون دخانا بين السماء والأرض، فالمراد بالدخان هنا- ما قاله ابن عباس في بعض الروايات، وابن مسعود، ومقاتل، ومجاهد واختاره الفراء، والزجاج- هو ما أصاب قريشا من الجوع بدعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإنه لما كذبه قومه بمكة دعا عليهم،
فقال: «اللهم اجعل سنيهم كسني يوسف» «1» فارتفع المطر، وأجدبت الأرض، وأصابت قريشا شدة المجاعة حتى أكلوا العظام، والكلاب، والجيف فكان الرجل يرى بينه وبين السماء كالدخان لما به الجوع.
ونقل عن علي، وابن عباس، وابن عمرو، وأبي هريرة، وزيد بن علي، والحسن أن المراد بالدخان هنا دخان يظهر في العالم في آخر الزمان يكون علامة على قرب الساعة يملأ ما بين المشرق والمغرب وما بين السماء والأرض. يمكث أربعين يوما وليلة، أما المؤمن فيصيبه
__________
(1) رواه أحمد في (م 2/ ص 470) ، وابن حجر في فتح الباري (2: 492) ، والسيوطي في الدر المنثور (2: 71) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (1: 96) .(2/392)
يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20)
كالزكام، وأما الكافر فيصير كالسكران فيملأ جوفه ويخرج من منخريه وأذنيه ودبره وتكون الأرض كلها كبيت أوقدت فيه النار، وقال عبد الرحمن الأعرج أن المراد بالدخان هو الغبار الذي ظهر يوم فتح مكة من ازدحام جنود الإسلام حتى حجب الأبصار عن رؤية السماء
يَغْشَى النَّاسَ أي يشملهم وهو محل جر صفة لدخان. هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) فإن قلنا التقدير يقولون هذا عذاب أليم رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ، فالعذاب هو: القحط الشديد، وإن قلنا التقدير:
يقولون ربنا اكشف عنّا العذاب، فالعذاب: هو الدخان المهلك الذي يدخل في أسماع الكفرة حتى يصير رأسهم كالرأس الحنيذ «1» . إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) بمحمد وبالقرآن، والمراد منه الوعد بالإيمان إن كشف عنهم العذاب أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) أي كيف يتعظون بهذه الحالة، والحال أنهم قد شاهدوا ما ظهر على رسول الله من المعجزات القاهرة وهي أعظم موجبات الاتعاظ، ثم لم يلتفتوا إليه، وقالوا: إن محمدا يتعلم هذه الكلمات من جبر- غلام عامر بن الحضري، وهو قين نصراني، أو غلام لحويطب بن عبد العزى قد أسلم- وقالوا: إن الجن يلقون على محمد هذه الكلمات حال ما يعرض له الغشي، وما مثلهم إلّا كمثل الكلب إذا جاع ضغا وإذا شبع طغى إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) أي إنا نكشف العذاب عنكم كشفا قليلا أو زمانا قليلا، بدعاء محمد صلّى الله عليه وسلّم فإنكم تعودون في الحال إلى ما كنتم عليه من الشرك والمعنى: أنهم لا يفون بعهدهم وانهم في حال العجز يتضرعون إلى الله تعالى، فإذا زال الخوف عادوا إلى الكفر والتقليد لمذاهب الأسلاف. يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) و «يوم» منصوب بما دل عليه «منتقمون» لأن ما بعد «إن» لا يعمل فيها قبلها أي يوم نأخذ بشدة أخذا قويا بإيصال الآلام المتتابعة ننتقم «إنا منتقمون» وهو يوم بدر كما قاله ابن مسعود، ومجاهد، ومقاتل، وأبو العالية.
وروي عكرمة عن ابن عباس هو يوم القيامة، وقرأ الحسن البصري، وأبو جعفر المدني نبطش بضم النون فإن الله أمر الملائكة بأن يعاقبهم العقوبة العظمى وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أي ولقد عاملنا قوم فرعون قبل هؤلاء العرب معاملة المختبر ببعث الرسول إليهم وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) على ربه، وهو موسى عليه السلام إذ اختصه بالنبوة وإسماع الكلام أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ أي بأن الحديث أرسلوا بني إسرائيل إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ من الله أَمِينٌ (18) أي قد ائتمنني الله تعالى على وحيه ورسالته وصدقني بالمعجزات القاهرة وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ أي وبأن الشأن لا تتكبروا على الله بإهانة وحيه ورسوله. إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) أي آتيكم
__________
(1) الحنيذ: الشاة يحنذها حنذا أي شواها وجعل فوقها حجارة محمّاة لتنضجها فهي حنيذ.
[القاموس المحيط، مادة: حنذ] .(2/393)
وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40)
من جهة الله تعالى بحجة واضحة يعترف بصحتها كل عاقل، وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) أي وإني اعتصمت بربي وربكم من أن تقتلون. قيل: لما قال موسى: «وأن لا تعلوا على الله» توعدوه بالقتل
وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) أي إن لم تصدقوني ولم تؤمنوا بالله لأجل ما أتيتكم به من الحجة فخلوا سبيلي لا لي ولا علي فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) أي أنهم كفروا ولم يؤمنوا، فدعا موسى ربه بأن هؤلاء مشركون اكتسبوا الهلاك على أنفسهم فافعل بهم يا رب ما يليق بهم.
وقرأ ابن أبي اسحق، وعيسى، والحسن بكسر الهمزة على إضمار القول عند البصريين وعلى إجراء دعا مجرى القول عند الكوفيين (ف) قال ربه: فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا أي سر ليلا ببني إسرائيل قرأ نافع، وابن كثير بالوصل، والباقون بالقطع. إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) أي يتبعكم فرعون وجنوده بعد ما علموا بخروجكم ويصير ذلك سببا لهلاكهم، وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً أي اجعل البحر طرقا واسعة حتى يدخله القبط فيغرقوا كما قال تعالى: إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) في البحر.
وقرئ بفتح الهمزة أي لأنهم وإنما أخبره الله تعالى بذلك حتى يبقى فارغ القلب عن شرهم كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ بفتح النون فأغرقهم الله وتركوا أمورا كثيرة من بساتين ومياه ظاهرة في البساتين، وحروث، ومنازل محسنة، ومجالس مزينة، وأمور يتمتعون بها كالملابس، والمراكب كانُوا فِيها أي في هذه الأشياء فَكِهِينَ (27) بالألف أي طيبين الأنفس معجبين.
وقرأ الحسن، وأبو رجاء «فكهين» بدون الألف أي مستهزئين بنعمة الله تعالى كَذلِكَ أي مثل ذلك السلب سلبنا هذه الأشياء منهم وَأَوْرَثْناها أي تلك الأشياء قَوْماً آخَرِينَ (28) أي جعلناها من بعدهم ميراثا لبني إسرائيل فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ
روى أنس بن مالك: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من عبد إلّا وله في السماء بابان باب يخرج منه رزقه، وباب يدخل فيه عمله، فإذا مات فقداه وبكيا عليه»
. وروي في الأخبار أن المؤمن ليبكي عليه مصلاه، ومحل عبادته، ومصعد عمله، ومهبط رزقه أي ولم تبك السماء والأرض على فرعون وقومه لأنهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملا صالحا، ولم يصعد لهم إلى السماء كلام طيب، ولا عمل صالح وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) أي لما جاء وقت هلاكهم لم يمهلوا إلى وقت آخر لتوبة وتدارك تقصير،
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ أي من العذاب الشديد الصادر من فرعون، وهو قتل الأبناء واستخدام النساء والإتعاب في الأعمال الشاقة.
وقرئ «من عذاب المهين» أي وهو فرعون لأنه كان عظيم السعي في إهانة المحقين، وقرأ ابن عباس «من فرعون» بمعنى الاستفهام والمعنى: هل تعرفونه من هو في عتوة وشيطنته؟ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) أي كان عالي الدرجة في طبقة المسرفين، أو يقال: إنه متكبرا مسرفا(2/394)
فإنه مع حقارته ادعى الإلهية فقوله: «من المسرفين» حال من الضمير في عاليا، أو خبر ثان لكان.
وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) أي ولقد اخترنا بني إسرائيل على العالمين جميعا عالمين بكونهم مستحقين لأن يختاروا ويرجحوا على غيرهم لكثرة الأنبياء فيهم، ويقال: «ولقد اخترناهم على عالمي زمانهم» مع علمنا بأنهم قد يزيغون في بعض الأوقات، ويصدر عنهم الفرطات «1» في بعض الأحوال وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33) أي وأعطينا بني إسرائيل ما فيه نعمة ظاهرة من الآيات التي لم يظهر الله مثلها أحد سواهم مثل فلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المن، والسلوى وغيرها، فإنه تعالى لما كان يبلو بالمحنة فقد يبلو بالنعمة أيضا اختبارا ظاهرا ليتميز الصديق عن الزنديق. إِنَّ هؤُلاءِ أي إن كفار قريش لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى أي ما نهاية الأمر إلّا الموتة الأولى المزيلة للحياة الدنيوية وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) أي بمحيون بعد الموت فَأْتُوا بِآبائِنا أي فعجلوا لنا- أيها القائلون بأننا نبعث بعد الموت أحياء- من مات من آبائنا بأن تسألوا ربكم ذلك حتى يصير دليلا عندنا على صدق دعواكم في البعث إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) فيما تعدونه من قيام الساعة وبعث الموتى ليظهر أنه حق. قال تعالى مقتصرا على الوعيد: أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي قبل قوم «تبع» كمدين، وأصحاب الأيكة، والرس، وثمود، وعاد وسمي تبعا لكثرة تبعه واسمه أسعد بن ملكيكرب وكنيته أبو كرب، وهو نبي كما قاله ابن عباس، أو رجل صالح كما قالته عائشة، وكان قومه كافرين وأراد خراب المدينة فلما أخبر أنها مهاجر نبي اسمه أحمد انصرف عنها وقال شعرا أودعه عند أهلها وكانوا يتوارثونه كابرا عن كابر إلى أن هاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم فدفعوه إليه وكان من اليوم الذي مات فيه «تبع» إلى اليوم الّذي بعث فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم ألف سنة لا يزيد ولا ينقص ويقال كان الكتاب والشعر عند أبي أيوب خالد بن زيد وفيه:
شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله بارى النسم
فلو مد عمري إلى عمره ... لكنت وزيرا له وابن عم
أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37) ف «أهلكناهم» مستأنف لبيان عاقبة أمرهم و «إنهم» تعليل لإهلاكهم أي إن أولئك الكفار أهلكوا بسبب إجرامهم مع أنهم كانوا أقوى من هؤلاء، أفلا يخافون من هلاكهم وهم شركاء لأولئك في الإجرام؟! وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) أي لاهين ولو لم يحصل البعث والجزاء لكان
هذا الخلق عبثا لأن الله تعالى خلق نوع الإنسان ثم كلّفهم بالإيمان والطاعة، فاقتضى ذلك أن يتميز المطيع من العاصي فيتعلق فضله
__________
(1) رواه القرطبي في التفسير (16: 154) ، وابن العراقي في تنزيه الشريعة (2: 38) ، وابن الجوزي في الموضوعات (3: 254) .(2/395)
يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
تعالى للمطيع، ويتعلق عدله، وعقابه للعاصي. فلا بد من البعث لتجزى كل نفس بما كسبت.
وقرأ عمرو بن عبيد و «ما بينهن» وقرأ الجمهور «بينهما» باعتبار النوعين ما خَلَقْناهُما وما بينهما إِلَّا بِالْحَقِّ أي إلا بسبب الحق الّذي هو الإيمان والطاعة والبعث والجزاء وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ أي أهل مكة لا يَعْلَمُونَ (39) انا خلقنا الخلق بسبب إقامة الحق عليهم إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) أي أن يوم تمييز المحق من المبطل وقت موعد الناس أجمعين. وقرئ «ميقاتهم» بالنصب على إنه اسم و «يوم» خبرها أي إن ميعادهم جزاؤهم البر والفاجر في يوم فصل الله بين عباده
يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً أي لا ينفع قريب عن قريب شيئا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) أي يمنعون من العذاب إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ أي إلا المؤمنين فإنهم يمنعون من العذاب أو فإنهم يؤذون لهم في الشفاعة فيشفعون في بعضهم وتشفع لهم الملائكة والأنبياء إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) أي أن الله هو الغالب بتعذيب الكافرين الرحيم بالمؤمنين إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) أي الكثير الآثام وهو الكافر كَالْمُهْلِ وهو دردى الزيت، وعكر القطران، ومذاب النحاس، وسائر الفلزات يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) . وقرأ حفص وابن كثير «يغلي» بالياء التحتية فهو حال من طعام، أو الزقوم، والباقون بالتاء الفوقية فهو خبر ثالث لأن أي «تغلي» الشجرة في البطون غليانا كغلي الماء الشديد الحرارة. يقول الله للزبانية: خُذُوهُ أي الأثيم فَاعْتِلُوهُ أي جروه بعنف وقوده إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) أي إلى وسط النار العظيمة. وقرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر، بضم التاء، ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) أي صبوا على رأسه عذابا شديدا يشبه الماء الحار بعد ما يضرب رأسه بمقامع الحديد، فقد شبه العذاب، ثم خيّل له بالصب، ويقال له على سبيل الاستهزاء: ذُقْ يا أبا جهل إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) . وقرأ الكسائي «أنك» بفتح الهمزة على معنى العلة أي لأنك، أو على تقدير مضاف أي «ذق» عذابا إنك أنت المتعزز في قومك المتكرم عليهم. روي ان أبا جهل قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما بين جبليها أي مكة أعز ولا أكرم مني فو الله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا إِنَّ هذا العذاب ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) أي تشكون في الدنيا.
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) أي مكان مأمون من الزوال والآفات، وقرأ نافع، وابن عامر «مقام» بضم الميم أي موضع الإقامةي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
(52) أي أنهار الخمر، والماء، واللبن، والعسل يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ والسندس ما رق من الحرير، والإستبرق ما ثخن منه مُتَقابِلِينَ (53) في المجالس ليستأنس بعضهم ببعض كَذلِكَ أي أتيناهم مثل ذلك، أو هكذا مقام المؤمنين في الجنة وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) أي قرناهم في الجنة بجوار بيض حسان الوجوه.
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال مهور الحور العين قبضات التمر وفلق الخبز وعهن أبي قرصافة سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إخراج القمامة من المسجد مهور الحور(2/396)
العين»
«1» ،
وعن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كنس المساجد مهور الحور العين»
يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ أي يأمرون الخدم في الجنة بإحضار ما يشتهونه ويتناولون فيها بألوان كل فاكهة آمِنِينَ (55) من التخم والأمراض لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى أي لا يذوقون في الجنة الموت إلّا الذوق الحاصل بسبب تذكر الموتة التي في الدنيا بعد حياتهم فيها، أو يقال: لكن الموتة الأولى قد ذاقوها وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) أي وقى الله المتقين في أول الأمر من عذاب الجحيم، ورفع الله العذاب عن عصاة المؤمنين بعد دخولهم النار، وقرئ «ووقاهم» بتشديد القاف فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ أي تفضل ربك بذلك الثواب تفضلا، وقرئ «فضل» بالرفع أي ذلك فضل ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فإن الفضل أعلى من درجات الثواب المستحق فإن الملك العظيم إذا أعطى الأجير ثم خلع على إنسان آخر فإن تلك الخلعة أعلى حالا من إعطاء تلك الأجرة فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ أي إنما أنزلنا الكتاب المبين بلغتك لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) أي لكي يتعظوا به فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59) أي فانتظر هلاكهم إنهم منتظرون هلاكك.
__________
(1) رواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (7: 71) .(2/397)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10)
سورة الجاثية
مكية، سبع وثلاثون آية، أربعمائة وثمان وثمانون كلمة، ألفان ومائة وواحد وتسعون حرفا
حم (1) أي هذه السورة مسماة بحم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) أي تنزيل هذا الكتاب واقع من الله العزيز في ملكه الحكيم في أمره وقضائه إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) لأنه حصل في ذوات السموات والأرض أحوال دالة على وجود الله تعالى مثل مقاديرها وكيفياتها وحركاتها، ولأن الشمس، والقمر، والنجوم، والجبال، والبحار موجودة في السموات والأرض وهي دلالات على وجود الإله القادر الفاعل المختار. وَفِي خَلْقِكُمْ من نطفة، ثم من علقة متقلبة في أطوار مختلفة إلى تمام الخلق وَما يَبُثُّ أي وفيما ينشره مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) فإن الأجسام متساوية فاختصاص كل واحد من الأعضاء لا بد وأن يكون بتخصيص القادر المختار، وكذا انتقاله من حال إلى حال آخر. وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي وفي تعاقبهما وتفاوتهما طولا وقصرا وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ أي وفيما أنزله من السحاب من مطر فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي بعد يبوستها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ أي وفي تقليبها من جهة إلى أخرى، ومن حال إلى حال آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) .
وقرأ حمزة والكسائي «آيات لقوم» في الموضعين بالنصب بالكسرة معطوف على «آيات» الأول الذي هو اسم «إن» والباقون بالرفع على أنه مبتدأ وخبره الظرف المقدم، وقرئ «آية» بالتوحيد، وقرأ حمزة والكسائي و «تصريف الريح» بالتوحيد. وحاصل ما ذكر هنا من الدلائل ستة على ثلاث فواصل، الأولى: للمؤمنين، الثانية: يوقنون، الثالثة: يعقلون. وسبب هذا الترتيب أنه قيل: إن كنتم من المؤمنين فافهموا هذه الدلائل، وإن كنتم لستم من المؤمنين، بل أنتم من طلاب اليقين فافهموا هذه الدلائل، وإن كنتم لستم من المؤمنين ولا من الموقنين فكونوا من العاقلين، فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل. وأبدى بعض المفسرين معنى لطيفا فقال: إن المصنفين إذا نظروا في السموات والأرض، وإنه لا بد لهما من صانع، آمنوا. وإذا نظروا في خلق أنفسهم ونحوها ازدادوا إيمانا فأيقنوا، فإذا نظروا في سائر الحوادث عقلوا. تِلْكَ أي الآيات(2/398)
هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)
المذكورة آياتُ اللَّهِ أي حججه الدالة على وحدانيته نَتْلُوها أي نقصها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ أي أن صحتها معلومة بالدلائل العقلية وهذا من أعظم الدلائل على الترغيب في تقرير المباحث العقلية فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) أي إن من لم ينتفع بهذه الآيات فلا شيء بعدها يجوز أن ينتفع به.
وقرأ ابن عامر، وشعبة، والكسائي بتاء الخطاب مناسبة لقوله تعالى: و «في خلقكم» وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أي كذاب أَثِيمٍ (7) أي مبالغ في اقتراف الآثام وهو النضر بن الحرث يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ أي القرآن تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ أي يقيم على كفره إقامة بقوة مُسْتَكْبِراً عن الإيمان بآيات الله معجبا بما عنده- كان النضر يشتري من أحاديث العجم ويشغل بها الناس عن استماع القرآن- كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها أي حال كونه مثل غير السامع فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) على إصراره، واستكباره، وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أي أنه إذا سمع كلاما وعلم أنه من آياتنا بادر إلى الاستهزاء بالآيات كلها ولم يقتصر على الاستهزاء بما سمعه فقط. أُولئِكَ أي كل أفاك أثيم لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) أي ذو إهانة مِنْ وَرائِهِمْ أي قدامهم بعد الموت جَهَنَّمُ فإنهم متوجهون إلى ما أعد لهم أو من خلفهم جهنم لأنهم مقبلون على الدنيا معرضون عما أعد لهم وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ أي ولا ينفعهم ما ملكوه في الدنيا، ولا أصنامهم التي عبدوها وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10) إلى أقصى الغايات في كونه ضررا.
هذا أي القرآن هُدىً أي في غاية الكمال في الهداية وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) .
وقرأ ابن كثير وحفص بالرفع أي لهم عذاب أليم من تجرع ماء صديد، والباقون بالجر أي لهم عذاب شديد الإيلام. اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ أي بإذنه وأنتم راكبوها فجريان السفن على وجه البحر لا يحصل إلّا بسبب ثلاثة أشياء، أحدها: الرياح التي توافق المراد، وثانيها: الماء، وثالثها: خشبة طافية لا تغوص في الماء، وهذه الثلاثة لا يقدر عليها أحد من البشر فلا بد من موجود قادر عليها وهو الله تعالى، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ. إما بسبب التجارة، أو بالغوص على اللؤلؤ والمرجان، أو باستخراج اللحم الطري وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) أي ولكي تشكروا نعمته تعالى وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ أي وسخر الله لكم الشمس، والقمر، والنجوم، والسحاب، والشجر، والدواب، والجبال، والبحار كائنة منه تعالى وحاصلة من عنده، فإنه تعالى موجدها بقدرته وحكمته، ثم مسخرها لخلقه.
وقرأ سلمة بن محارب «منه» على أنه فاعل «سخر» أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ذلك منه، وقرئ «منه» على أنه مفعول له. إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر لَآياتٍ كثيرة لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) في بدائع صنع الله تعالى فإنهم يطلعون بذلك على جلائل نعمه تعالى ودقائقها(2/399)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30)
ويوفقون لشكرها قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا اغفروا للكفار يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ أي لا يرجون ثواب الله، ولا يخافون عقابه، ولا يخشون مثل عقاب الأمم الخالية كما قاله ابن عباس، وهذا محمول على ترك المنازعة في المحقرات وعلى التجاوز عما يصدر عنهم من الكلمات المؤذية، والأفعال الموحشة، وقال المهدوي، والنحاس، ومقاتل: شتم رجل من كفار قريش عمر بن الخطاب بمكة قبل الهجرة، فأراد أن يبطش به، فأمره [رسول] الله بالعفو والتجاوز، وأنزل هذه الآية لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) أي لكي يجازي الله يوم القيامة قوما يعملون الخير، وقيل ليجزي الله الكفار بما كانوا يكسبون من الإثم والمعنى: لا تكافئوهم أنتم حتى نكافئهم نحن، وقرأ ابن عامر، وحمزة والكسائي «لنجزي» بالنون، وقرئ «ليجزي قوم» و «ليجزي قوما» أي وليجزي الجزاء قوما مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها أي أن العمل الصالح يعود بالنفع العظيم على فاعله، والعمل الرديء يعود بالضرر على فاعله، وهذا ترغيب منه تعالى في العمل الصالح، وزجر عن العمل الباطل، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) فيجازيكم على أعمالكم خيرا كان، أو شرا، وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ أي التوراة، وَالْحُكْمَ أي معرفة أحكام الله تعالى وفصل الحكومات بين الناس، وَالنُّبُوَّةَ حيث كثر الله فيهم الأنبياء وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فإنه تعالى وسع عليهم في الدنيا فأورثهم أموال قوم فرعون وديارهم، ثم أنزل عليهم المن والسلوى وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) حيث آتيناهم ما لم نؤت من عداهم من فلق البحر واظلال الغمام ونظائرهما، وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ أي أدلة على أمور الدنيا وعلى أمور الدين فَمَا اخْتَلَفُوا في الأمر إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ، ومجيء العلم لهم كان ببعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم بَغْياً بَيْنَهُمْ أي حسدا منهم إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) من أمر الدين بالجزاء ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) أي ثم اخترناك على طريقة واضحة من أمر الدين فاتبع شريعتك الثابتة بالدلائل ولا تتبع ما لا حجة عليه من أهواء الجهال، وأديانهم المبنية على الأهواء. قال الكلبي:
إن رؤساء قريش قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة: ارجع إلى ملة آبائك فهم كانوا أفضل منك، وأسن فانزل الله تعالى هذه الآية إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي أنك لو ملت إلى أديانهم الباطلة صرت مستحقا للعذاب فهم لا يقدرون على دفع عذاب الله عنك، وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي أن الكافرين يتولى بعضهم بعضا في الدنيا أما في الآخرة فلأولى لهم ينفعهم في إيصال الثواب وإزالة العقاب، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) أي والله ناصر المهتدين هذا أي القرآن بَصائِرُ لِلنَّاسِ فإن ما فيه من معالم الدين بمنزلة البصائر في القلوب وَهُدىً من ورطة الضلالة وَرَحْمَةٌ عظيمة لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أي يطلبون اليقين
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
أي أظن هؤلاء المكتسبون للسيئات أن(2/400)
نصيرهم في الحكم والاعتبار وهم على مساوئ الأحوال أمثال المؤمنين وهم في محاسن الأعمال سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ.
وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص بنصب «سواء» فهو حال من الضمير المستتر في كالذين و «محياهم ومماتهم» مرتفعان على الفاعلية، والمعنى: أحسب الكفار أن نجعل المؤمنين كائنين مثلهم حال كون الكل مستويا محياهم ومماتهم. كلا، لا يستوون في شيء منهما فإن هؤلاء في شرف الإيمان والطاعة في المحيا، وفي رضوان الله تعالى في الممات، وأولئك في ذل الكفر والمعاصي في المحيا، وفي العذاب الخالد في الممات. وقرئ «محياهم ومماتهم» بالنصب على انهما ظرفان أي حال كون كل الفريقين مستويين في محياهم ومماتهم، وقيل: إنهما بدلان من الضمير المنصوب في «نجعلهم» فيصير التقدير أن نجعل محياهم ومماتهم سواء، وقرأ الباقون برفع «سواء» على أنه خبر و «محياهم» مبتدأ والجملة في حكم المفرد في محل النصب هو بدل من المفعول الثاني وهو الكاف. ساءَ ما يَحْكُمُونَ
(21) قال الكلبي: إن عتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة بارزوا يوم بدر عليا، وحمزة، وعبيدة بن الحرث، فقتلوا أولئك وقالوا للمؤمنين: والله ما أنتم على شيء ولو كان ما تقولون حقا لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة كما أنا أفضل حالا منكم في الدنيا فأنكر الله عليهم هذا الكلام وأنزل الله هذه الآية وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي لأجل إظهار الحق وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22) بنقص ثواب، أو بزيادة عقاب، والمعنى: أن المقصود من خلق هذا العالم إظهار العدل والرحمة، وذلك لا يتم إلّا إذا حصل البعث والقيامة، وحصل التفاوت في الدرجات والدركات بين المحقين والمبطلين، وقوله: «لتجزي» معطوف على «بالحق» لأن معنى الباء هنا للتعليل أو معطوف على علة محذوفة، والتقدير خلقها بالحق ليدل بها على قدرته ولتجزى إلخ، وجوز ابن عطية أن تكون هذه اللام لام الصيرورة أي وصار الأمر من حيث اهتدى بها قوم وضل بها آخرون، ولا وقف على قوله تعالى: «بالحق» . وعند أبي حاتم فالوقف عليه تام بجعل لام «لتجزي» لام قسم أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أي أنظرت يا أشرف الخلق فرأيت من ترك متابعة الهدى وأقبل على متابعة الهوى فكان يعبد الهوى فذلك من العجب، وقرئ «آلهته هواه» لأنه كلما مال طبعه إلى شيء اتبعه فكأنه اتخذ هواه آلهة شتى يعبد كل وقت واحدا منها. روي عن أبي رجاء العطاردي انه أدرك الجاهلية، وهو ثقة- مات سنة خمس ومائة وعمره مائة وعشرون سنة- قال: كنا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجرا أحسن منه ألقيناه وأخذنا الآخر فإذا لم نجد حجرا جمعنا حشوة من تراب فحلبنا عليها ثم طفنا بها. وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وهذا إما حال من الفاعل أي عالما بأن جوهر روحه لا يقبل الصلاح أو من المفعول والمعنى وأضله وهو عالم بالحق وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ فلا يقبل المواعظ ولا يتفكر في النذر وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً أي غطاء مانعا عن الاعتبار.(2/401)
وقرأ حمزة، والكسائي «غشوة» بفتح الغين وسكون الشين، والأعمش، وابن مصرف بكسر الغين، والباقون «غشاوة» بكسر الغين، وابن مسعود، والأعمش أيضا
بفتحها وعبد الله بضمها، فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أي من بعد إضلال الله إياه وهذه الجملة مفعول ثان ل «رأيت» أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) أي ألا تلاحظون فلا تذكرون، وقرئ «تتذكرون» بالتاءين على الأصل، وَقالُوا من غاية ضلالهم ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا أي ما الحياة إلا الحياة التي نحن فيها نَمُوتُ وَنَحْيا أي يصيبنا الموت والحياة في الدنيا، وليس وراء ذلك حياة وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ أي إلا مرور الزمان، والمعنى: أن تولد الأشخاص إنما كان بسبب حركات الأفلاك الموجبة لامتزاجات الطبائع، وإذا وقعت تلك الامتزاجات على وجه خاص حصلت الحياة، وإذا وقعت على وجه آخر حصل الموت، فالموجب للحياة والموت تأثيرات الطبائع وحركات الأفلاك ولا حاجة في هذا الباب إلى إثبات الفاعل المختار فهذه الطائفة جمعوا بين إنكار الإله والقيامة وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) أي ما لهم باقتصار الحياة على ما في الدنيا واستناد الحياة والموت إلى الدهر مستند إلى نقل، أو عقل صحيح ما هم الأقوم أمرهم الظن والتقليد وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا الدالة على قدرتنا بَيِّناتٍ أي مبيّنات لما يخالف معتقدهم
ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) في أنّا نبعث بعد الموت «وحجتهم» بالنصب خبر «كان» وإلا قالوا اسمها، فالمعنى: ما كان متمسكا لهم على إنكار البعث شيء من الأشياء إلّا هذا القول الباطل، وهو قولهم: لو صح ذلك البعث، فأتوا بآبائنا الذين ماتوا ليشهدوا لنا بصحة البعث.
وقرئ برفع «حجتهم» على أنه اسم «كان» فالمعنى: ما كان حجتهم شيئا من الأشياء إلّا هذا القول الباطل. قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ابتداء ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انقضاء آجالكم لا كما تزعمون من أنكم تحيون وتموتون بحكم الدهر، ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ أحياء بعد الموت إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ للجزاء لا رَيْبَ فِيهِ أي في جمعكم، فإن من قدر على البدء قدر على الإعادة، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ وهم القائلون ما ذكر لا يَعْلَمُونَ (26) دلالة حدوث الإنسان وغيره على وجود الإله الحكيم، وإن الله تعالى لما كان قادرا على الإيجاد ابتداء وجب أن يكون قادرا على الإعادة ثانيا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي لله التصرف فيهما كما أراد وله القدرة على جميع الممكنات فيلزم كونه تعالى قادرا على الإحياء في المرة الثانية، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) أي ولله ملك يوم قيام الساعة يومئذ يظهر غبن المبطلين لأن الحياة والعقل، والصحة كلها رأس المال، والتصرف فيها لطلب سعادة الآخرة يجري مجرى تصرف التاجر في رأس المال لطلب الربح، والكفار قد أتعبوا أنفسهم في هذه التصرفات وما وجدوا منها إلّا الحرمان فكان ذلك في الحقيقة نهاية الخسران وَتَرى أيها المخاطب كُلَّ أُمَّةٍ أي كل أهل دين جاثِيَةً أي مجتمعين لا يخالطهم غيرهم، وهو حال.(2/402)
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
وقرئ «جاذية» أي جالسة على أطراف الأصابع فالوقف هنا حسن، كالوقف على «كتابها» . كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا أي إلى قراءة صحائف أعمالها والعامة على رفع كل على الابتداء، وقرأ يعقوب ككل بالنصب على البدل من كل الأولى وتدعى حال أو صفة وعلى هذا فلا وقف على «جاثية» ، ويقال لهم حالة الدعاء: الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) من خير أو شر هذا كِتابُنا أي كتاب الملائكة الذي أمرناهم بكتبه يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ خبر ثان أي يشهد عليكم بما عملتم من غير زيادة ونقصان. إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) أي إنا كنا فيما قبل نأمر الملائكة بإثبات أعمالكم في الكتابة
وورد في الحديث: «أن الملك إذا صعد بالعمل يؤمر بالمقابلة على ما في اللوح»
«1» فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ في ذلك اليوم رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ أي في جنته ذلِكَ أي الإدخال في رحمته هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) أي الظاهر لخلوص الجنة من الأكدار
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فيقال لهم بطريق التوبيخ: أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ أي ألم تأتكم رسلي في الدنيا فلم تكن آياتي تقرأ عليكم، فَاسْتَكْبَرْتُمْ عن الإيمان بتلك الآيات وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) أي مذنبين بإصرار الكفر وَإِذا قِيلَ لكم أي وكنتم إذا قيل لكم أيها الكفار من أي قائل كان إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالثواب والعقاب حَقٌّ أي واقع بلا شك، وقرأ الأعرج وعمرو بن فائد بفتح الهمزة على اجراء القول مجرى الظن، وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها وقرأ حمزة بالنصب عطف على «وعد الله» أي وإن الساعة آتية لا شك في وقوعها، والباقون بالرفع على الابتداء والمعنى: وقيل «والساعة لا ريب فيها» . قال الأخفش: والرفع أجود في المعنى وأكثر في كلام العرب إذا جاء بعد خبران لأنه كلام مستقل بنفسه بعد مجيء الأول بتمامه. قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ أي أي شيء هي إنكارا لها إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا أي ما نقول في أمر الساعة كما قلتم إلّا بالظن لإمكانه وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) بقيام الساعة والقوم كانوا في أمر البعث فرقتين: فرقة جازمة بنفيه. وهم المذكورون في قوله تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وفرقة كانت تشك وتتحير فيه لكثرة ما سمعوه من الرسل عليهم الصلاة والسلام، ولكثرة ما سمعوه من دلائل القول بصحته، وهم المذكورون في هذه الآية وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا أي ظهر لهم في الآخرة سيئات أعمالهم في الدنيا فتصورت لهم بصورة هائلة فيعرفوا مقدار جزائها وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) أي أحاط بهم عقوبة استهزائهم بالرسل وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي قيل لهم اليوم نترككم في العذاب كما تركتم الإقرار بهذا اليوم والعدة للقائه وَمَأْواكُمُ النَّارُ أي ومستقركم نار جهنم وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) أي وما لكم أحد يخلصكم منها
__________
(1) رواه البخاري في (9: 73) ، وابن حجر في فتح الباري (13: 79) ، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5447) ، وابن أبي شيبة في المصنف (14: 128) .(2/403)
ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أي ذلكم العذاب العظيم بسبب استهزائكم بآيات الله وغروركم بما في الحياة الدنيا وحسبناكم أن لا حياة سواها فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها أي من النار.
وقرأ حمزة، والكسائي بفتح الياء وضم الراء والباقون بضم الياء وفتح الراء، وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) أي ولا يطلب منهم أن يرضوا بهم التوبة لفوات أوانه فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) أي فاحمدوا الله الذي هو خالق كل العالمين من الأجسام، والأرواح، والذوات، والصفات. فإن هذه الربوبية توجب الحمد على كل أحد من المخلوقين، وقرأ العامة «رب» في الثلاثة بالجر، وقرئ بالرفع على المدح بإضمار هو وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وهذا إشارة إلى أن التكبير لا بد وأن يكون بعد التحميد، وإشارة إلى وجوب كون الحامدين أن يعرفوا أنه تعالى أكبر من حمد الحامدين وأن عطاياه أجل من شكر الشاكرين، وأن الكبرياء له تعالى لا لغيره تعالى، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37) أي هو الذي يضع الأشياء في مواضعها.(2/404)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
سورة الأحقاف
مكية، إلا قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الآية وإلا ثلاث آيات من قوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ- إلى قوله تعالى- فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، أربع وثلاثون آية ستمائة وأربع وأربعون كلمة، ألفان وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفا
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ أي القوي بالنقمة لمن لا يؤمن به الْحَكِيمِ (2) أي المتقن للأمور ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ أي إلّا لأجل الفضل والرحمة والإحسان وَأَجَلٍ مُسَمًّى أي وإلا لأجل مسمى أي إلا لوقت معين لإفناء الدنيا، فإن إله العالم ما خلق هذا العالم ليبقى مخلدا سرمدا، بل إنما خلقه ليكون دارا للعمل فيقع الجزاء في الدار الآخرة ولو لم توجد القيامة لتعطل استيفاء حقوق المظلومين من الظالمين، ولتعطل توفية الثواب على المطيعين وتوفية العقاب على الكافرين وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا أي خوفوا به مما في يوم القيامة مُعْرِضُونَ (3) فلا يؤمنون به ولا يستعدون له قُلْ توبيخا لهم: أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي أخبروني ما تعبدون من الأوثان. وقرئ «أرأيتكم» أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أي أخبروني أي شيء خلقه الأوثان مما في الأرض أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ ف «أم» بمعنى الهمزة أي ألهم شركة مع الله تعالى فِي السَّماواتِ أي في خلقها، أو ملكها ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أي بكتاب دال على صحة دينكم كائن من قبل هذا القرآن الناطق بالتوحيد
وإبطال الشرك، أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ أي أو بمنقولة عن الأنبياء من علم سوى ما جاء في الكتب، وقرأ علي، وابن عباس، وزيد بن علي، وعكرمة «أثرة» دون ألف، وقرأ الكسائي «أثرة» بضم الهمزة وكسرها مع سكون الثاء، وقتادة، والسلمي بفتح فسكون أي أو ائتوني بخبر واحد يشهد بصحة قولكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4) في دعواكم، وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي لا امرأ أبعد عن الحق وأقرب إلى الجهل ممن يعبد الأصنام، وهي إذا دعيت لا تصح منها الإجابة لا في الحال ولا بعده إلى يوم القيامة، وإنما جعل غاية لأنه قيل: إن الله تعالى يحييها يوم القيامة وتقع بينها وبين من يعبدها مخاطبة، وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) أي والأصنام عن دعاء من يعبدهم لا يسمعون وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً أي وإذا قامت القيامة، وحشر الناس كانت(2/405)
هذه الأصنام تعادي هؤلاء العابدين، وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6) أي وكانت الأصنام مكذبين بكونهم معبودين يقولون: إنهم إنما عبدوا في الحقيقة أهواءهم لأنها الآمرة لهم بالإشراك. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أي وإذا يتلى على كفار أهل مكة القرآن واضحا قالوا من غير تأمل في شأن القرآن حين جاءهم هذا المتلو خيال ظاهر بطلانه أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أي بل يقولون افترى محمد القرآن من عند نفسه. قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي قل لهم يا أشرف الخلق: إن اختلقت القرآن من تلقاء نفسي كما تقولون فإن الله تعالى يعاجلني بالعقوبة حينئذ، وأنتم لا تقدرون على دفعه عن معالجته إياي بالعقوبة، فكيف أجترئ على هذه الفرية وأعرض نفسي للعقوبة هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ أي أعلم بما تتكلمون فيه من التكذيب بالقرآن وتسميته سحرا تارة وفرية تارة أخرى كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أي كفى بالله شهيدا بيني وبينكم يشهد لي بالصدق والبلاغ، وعليكم بالكذب والإنكار، أو كفى بالقرآن شهيدا بيني وبينكم وقد شهد بصدقي وبعجزكم عن معارضة شيء منه، وَهُوَ الْغَفُورُ لمن رجع عن الكفر الرَّحِيمُ (8) بعباده فلم يعالجكم بالعقوبة مع عظم ما ارتكبتوه من الذنوب قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ أي قل يا أكرم الرسل لهم لست أول الرسل فلا ينبغي أن تنكروا أخباري بأني رسول الله إليكم مع أن صفتي كصفة من سبق من الرسل، ولا أن تنكروا دعائي لكم إلى التوحيد ونهي لكم عن عبادة الأصنام، فإن كل الرسل إنما بعثوا بهذا الطريق.
وقرأ عكرمة، وأبو حيوة، وابن عبلة «بدعا» بفتح الدال، وقرأ أبو حيوة أيضا ومجاهد بفتح الباء وكسر الدال وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ أي ما أدرى ما يفعل بي أأموت، أم أقتل كما قتل الأنبياء قبلي ولا أدري ما يفعل بكم أيها المكذبون أترمون بالحجارة من السماء، أم يخسف بكم، أم يفعل بكم ما فعل بسائر الأمم كالمكذبين قبلكم إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ أي ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إلي وهو جواب عن اقتراحهم الأخبار عما لم يوح إليه من الغيوب، وقال ابن عباس في رواية الكلبي: لما اشتد البلاء بأصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم بمكة رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء فقصها على أصحابه فاستبشروا بذلك، ورأوا أن ذلك فرج مما هم فيه من أذى المشركين، ثم إنهم مكثوا برهة من الدهر لا يرون أثر ذلك، فقالوا: يا رسول الله، ما رأينا الذي قلت ومتى تهاجر إلى الأرض التي رأيتها في المنام فسكت النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله تعالى: وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ وهو شيء رأيته في المنام وأنا لا أتبع الا ما أوحاه الله إليّ اه. وقرأ ابن أبي عبلة وزيد بن علي ما يفعل مبنيا للفاعل أي الله تعالى، وقرئ ما يوحي على البناء للفاعل وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) أي أنهم كانوا يطالبونه صلّى الله عليه وسلّم بالمعجزات العجيبة وبالأخبار عن الغيوب فقال تعالى: قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ عقاب الله تعالى حسب ما يوحى إلي من الإنذار وليس القادر على الأعمال الخارجة عن قدرة البشر والعالم بالغيوب إلّا الله قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ(2/406)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ أي قل يا أشرف الخلق لليهود أخبروني يا معشر اليهود إن كان القرآن من عند الله، وكفرتم به. وشهد شاهد من بني إسرائيل هو عبد الله بن سلام على صفة القرآن من كونه من عند الله وكونه معجزا للخلق عن معارضته فآمن هذا الشاهد بالقرآن، وتكبرتم يا معشر اليهود عن الإيمان به ألستم كنتم ظالمين أنفسكم؟ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
روي أنس أنه لما سمع عبد الله بن سلام بمجيء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة أتاه فنظر إلى وجهه فعلم أنه ليس بوجه كذاب، وتأمله فتحقق أنه هو النبي المنتظر، فقال له: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلّا نبي، ما أول أشراط الساعة، وما أول طعام يأكله أهل الجنة، وما ينزع الولد إلى أبيه أو أمه فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزع له، وإذا سبق ماء المرأة نزع لها» «1» فقال: أشهد أنك لرسول الله حقا، ثم قال: يا رسول الله إن اليهود قوم بهت وإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك فجاءت اليهود فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أي رجل عبد الله فيكم» فقالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، فقال: «أرأيتم ان أسلم عبد الله» «2» فقالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أإن محمدا رسول الله، فقالوا: شرنا وانتقصوه، فقال: هذا ما كنت أخاف يا رسول الله،
قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ما سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام، وفيه نزل وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ على مثله وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بنو عامر، وغطفان، وأسد، وأشجع
لِلَّذِينَ آمَنُوا أي لأجل إسلام من أسلم وهم جهينة، ومزينة، وأسلم، وغفار لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ أي أن الكفار لما سمعوا أن جماعة آمنوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاطبوا جماعة من المؤمنين الحاضرين وقالوا لهم زعما منهم أن الرئاسة الدينية ما ينال بأسباب دنيوية: لو كان هذا الدين خيرا ما سبقنا إليه أولئك الأراذل، فإن أكثرهم فقراء وموال ورعاة وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) أي وإذ لم يهتدوا بالقرآن وظهر عنادهم فسيقولون هذا القرآن كذب قديم ولم يكتفوا بنفي خيريته، وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى أي قالوا ذلك والحال أنه كان كتاب موسى من قبل القرآن أي كيف يصح كون القرآن إفكا قديما وقد رجعوا إلى حكم كتاب موسى. وقرئ «ومن قبله كتاب
__________
(1) رواه ابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق (5: 167) ، والبيهقي في دلائل النبوّة (2:
531) ، وابن حجر في فتح الباري (7: 250) ، وابن كثير في البداية والنهاية (3: 211) ، وأبو نعيم في دلائل النبوة 114. [.....]
(2) رواه الألباني في السلسلة الصحيحة (3: 14) .(2/407)
موسى» أي وآتينا من قبل محمد التوراة إِماماً أي قدوة يقتدى به في دين الله تعالى وشرائعه، وَرَحْمَةً من الله تعالى لمن آمن به وعمل بما فيه. وَهذا أي القرآن كِتابٌ مُصَدِّقٌ لكتاب موسى في أن محمدا رسول الله لِساناً عَرَبِيًّا حال من «كتاب» . وقيل: مفعول ل «مصدق» على حذف مضاف، أي مصدق ذا لسان عربي، وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم، لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي لينذر ذلك الكتاب مشركي مكة. وقرأ نافع وابن عامر بالتاء لخطاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) أي المؤمنين بأن لهم الجنة، و «هو» في محل نصب معطوف على محل «لينذر» ، لأنه مفعول له، أو في محل رفع معطوف على «مصدق» ، أو «كتاب» ، ولا يوقف على «ظلموا» ، أما إذا جعل مبتدأ وخبره للمحسنين فالوقف على «ظلموا» كاف. إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ وحده ثُمَّ اسْتَقامُوا على أداء فرائض الله تعالى واجتناب معاصيه، فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من لحوق مكروه وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) ، من فوات محبوب، أي إن الذين جمعوا بين التوحيد والاستقامة في أمور الدين فهم يوم القيامة آمنون من الأهوال، وزائل عنهم خوف العقاب، أما خوف الجلال والهيبة فلا يزول عن العبد ألبتة، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14) في الدنيا، وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «إحسانا» ، وهي قراءة ابن عباس أي أمرناه بأن يوصل إليهما إحسانا وهو ضد الإساءة، والباقون «حسنا» بضم فسكون، أي أمرناه بأن يوصل إليهما فعلا حسنا، وهو ضد القبح فعلا ذا حسن.
وقرئ بضم الحاء والسين. وقرأ عيسى والسلمي بفتحهما، نزلت هذه الآية في عبد الرحمن، وفي أبيه وأمه، وهما أبو بكر الصديق وأم رومان. وقالت عائشة. نزلت في خلال بن قلال حَمَلَتْهُ أُمُّهُ في بطنها كُرْهاً أي على مشقة وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً أي في مشقة.
قرأ عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر، وابن ذكوان بضم الكاف. والباقون بالفتح وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً أي ومدة حمله ورضاعه ثلاثون شهرا، فإن أقل مدة الحمل ستة أشهر وإن مدة إتمام الرضاع أربعة وعشرون شهرا، ولما كان الرضاع يليه الفصال، لأنه يتم به سمي فصالا حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ. وقرئ «إذا استوى وبلغ أشده» . وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً. والأصح أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق وأبيه عثمان بن عامر وأمه أم الخير سلمى بنت صخر. وذلك أن أبا بكر صحب النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو ابن ثمان عشرة سنة، والنبي ابن عشرين سنة في تجارة إلى الشام، فلما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أربعين سنة أكرمه الله تعالى بالنبوة، واختصه بالرسالة، فآمن به أبو بكر الصدّيق وهو ابن ثمان وثلاثين سنة، ثم أسلم أبواه وأسلم ابنه عبد الرحمن، ثم ابنه محمد كلهم أدركوا النبي، ولم يكن أحد من أصحاب رسول الله أسلم هو وأبواه وأولاده وبناته كلهم، إلّا أبو بكر ووالده أبو قحافة، وأمه سلمى بنت صخر، فلما بلغ أبو بكر أربعين سنة دعا به وقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي، أي ألهمني ووفقني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ بها عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ، وهي نعمة(2/408)
الدين. قال الذين قالوا: إن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق أن أبا بكر أسلم والداه ولم يتفق لأحد من الصحابة والمهاجرين إسلام الأبوين إلّا له، وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ.
قال ابن عباس: فأجاب الله دعاء أبي بكر، فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله ولم يترك شيئا من الخير إلّا أعانه الله عليه، وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي أي واجعل الصلاح راسخا في ذريتي.
قال ابن عباس: لم يبق لأبي بكر ولد من الذكور والإناث إلا وقد آمنوا إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ عما يشغلني عن ذكرك وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) الذين أخلصوا لك أنفسهم، أُولئِكَ أي أهل هذا القول الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا من الطاعات، فالمباح حسن لا يثاب عليه وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ. وقرأ الأخوان وحفص الفعلين بفتح النون. والباقون بياء مضمومة ببنائهما للمفعول، ورفع «أحسن» . وقرأ الحسن والأعمش وعيسى بياء مفتوحة فيهما، والفاعل الله تعالى. فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ أي كائنين في جملتهم وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16) أي وعدهم الله وعدا صادقا في الدنيا على لسان الرسول صلّى الله عليه وسلّم وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ عند دعوتهما له إلى الإيمان: أُفٍّ لَكُما أي قذرا لكما. وقرئ «أف» بفتح الفاء وكسرها بغير تنوين وبالحركات الثلاث مع التنوين لكن القراءات السبعية ثلاثة: كسر الفاء مع التنوين وتركه وفتحها من غير تنوين وهو صوت إذا صوت الإنسان به علم أنه متضجر كما إذا قال: أوه، علم أنه متوجع واللام في لكما لبيان المؤفف له معناه هذا التأفيف لأجلكما خاصة دون غير كما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ أي أن أبعث من القبر.
وقرأ هشام بإدغام النون الأولى في الثانية. وقرأ بعضهم بفتح النون كأنه استثقل اجتماع النونين والكسرين، والياء ففتح الأولى تحريا للتخفيف. وقرئ «أن أخرج» بفتح الهمزة وضم الراء. وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي أي وقد مضت الأمم من قبلي ولم يبعث منهم أحد، وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ أي ووالداه يدعوان الله أو يستغيثان بالله من كفره وإنكاره للبعث قائلين له:
وَيْلَكَ وهو دعاء بالهلاك. والمراد به التحريض على الإيمان آمِنْ أي صدق بالبعث إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث بعد الموت حَقٌّ أي كائن. وقرئ «أن» بفتح الهمزة، أي آمن بأن وعد الله حق فَيَقُولُ مكذبا لهما ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) ، أي ما هذا الذي تسميانه وعد الله إلّا أكاذيب الأولين التي كتبوها في كتبهم من غير أن يكون لها حقيقة، أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي ثبتت عليهم كلمة العذاب فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ أي مع أمم قد مضت مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أي من كفارهم، إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18) أي قد ضيّعوا أعمارهم في الضلال.
قال ابن عباس والسدي: نزل قوله تعالى: وَالَّذِي قالَ إلخ في عبد الله ابن أبي. وقيل:
في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه كان أبواه يدعوانه إلى الإسلام فأبى وقال: أف لكما إلخ، ثم أسلم وحسن إسلامه وصار من أفاضل المسلمين فالّذين قالوا: والمراد بقوله تعالى: والّذي قال لوالديه: أف كل عاق لوالديه فأجر لربه قالوا: إن الوعيد في قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ(2/409)
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)
عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ
الآية مختص بهم فاسم الإشارة عائد إلى القائلين هذه المقالات الباطلة أما من قال المراد بنزول الآية سيدنا عبد الرحمن ابن سيّدنا أبي بكر فيقولون: إن اسم الإشارة عائد إلى القرون التي قبله، فالمراد أجداده والوعيد عليهم كان له جدان ماتا في الجاهلية جدعان، وعثمان ابنا عمرو، وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أي ولكل واحد من الفريقين درجات من الإيمان، والطاعة، والكفر، والمعصية قال ابن زيد: درج أهل الجنة يذهب علوا ودرج أهل النار ينزل هبوطا، وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وهشام، وعاصم بالياء التحتية أي وجازاهم الله بذلك ليوفيهم أجزية أعمالهم، والباقون بالنون أي ونجازيهم «لنوفيهم» جزاء أعمالهم وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19) بنقص ثواب الأولين وزيادة عقاب الآخرين قدر الله جزاءهم على مقادير أعمالهم، فجعل الثواب درجات والعقاب دركات وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أي يوم يعذبون بالنار يقال لهم: أَذْهَبْتُمْ قرأ ابن كثير بهمزة ومدة، وابن عامر بهمزتين بلا مد، وهشام بهمزتين ومد بينهما، والباقون بهمزة محققة طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها أي قد أخذتم ما قدر لكم من الراحات في الدنيا، وتمتعتم بالّلذات، واتبعتم الشهوات، فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم في الدنيا شيء منها في الآخرة فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ أي بالعذاب الشديد.
وقرئ «عذاب الهوان» بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) أي بسبب استكباركم بغير استحقاق لذلك، أو بسبب خروجكم عن طاعة الله تعالى فالترفع ذنب القلب، والفسق ذنب الجوارح
وَاذْكُرْ يا أكرم الرسل لكفار مكة أَخا عادٍ هود بن عبد الله بن رباح إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بدل اشتمال أي وقت حذرهم عقاب الله إن لم يؤمنوا بِالْأَحْقافِ أي نازلين على رمال مشرفة على البحر في أرض الشحر من بلاد اليمن، وقال ابن عباس: هو واد بين عمان ومهرة. وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أي وقد مضت الرسل من قبل هود ومن بعده، أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ وهذا تفسير للإنذار وإنما كان هذا إنذار لأن النهي عن الشيء تخويف من مضرته أي صورة إنذار هود أن قال: لا تعبدون إلخ ف «أن» مخففة من الثقيلة وباء التصوير مقدرة معها ولا ناهية. إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) أي هائل بسبب شرككم قالُوا أَجِئْتَنا يا هود لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا أي لتصرفنا عن عبادة آلهتنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من معالجة العذاب على الشرك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) في وعدك بنزول العذاب بنا قالَ لهم هود إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ أي لا علم لي بوقت عذابكم إنما علم وقت إتيان العذاب عند الله تعالى، وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ من التحذير عن العذاب، وأما العلم بوقته فما أوحاه الله إلي، وأما الإتيان بالعذاب فليس بمقدوري، بل هو من مقدورات الله تعالى وقرأ أبو عمرو بسكون الباء وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) حيث تصرون على طلب العذاب فإن لم يظهر لكم كوني صادقا لم يظهر لكم كوني كاذبا، فالإقدام على طلب العذاب جهل عظيم، فَلَمَّا رَأَوْهُ أي رأوا ما(2/410)
يوعدون به عارِضاً أي سحابا يعرض في أفق السماء، وهو بدل من الضمير العائد على ما في «بما تعدنا» . مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ أي سائر إلى أوديتهم استبشروا وقالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا أي هذا المرئي سحاب يأتينا بالمطر. قال هود: ليس الأمر كذلك، بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ من العذاب رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها أي تهلك كل شيء من الناس، والحيوان، والنبات بقدرة الله تعالى لأجل تعذيبكم.
وروي أن هودا لما أحس بالريح خط على نفسه وعلى المؤمنين خطا إلى جنب عين تنبع فكانت الريح التي تصيبهم ريحا لينة هادئة طيبة، والريح التي تصيب قوم عاد
ترفعهم من الأرض وتطير بهم إلى السماء وتضربهم على الأرض، وروي أنهم رأوا ما كان في الصحراء من رحالهم ومواشيهم يطير به الريح بين السماء والأرض، فدخلوا بيوتهم، وغلقوا أبوابهم، فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم، وأحال الله عليهم الرمال، فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام لهم أنين، ثم كشفتها الريح عنهم فاحتملتهم فطرحتهم في البحر، فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ أي فصاروا بعد الهلاك لا ترى إلّا آثار مساكنهم، وقرأ حمزة، وعاصم يرى بضم الياء التحتية ورفع «مساكنهم» ، والباقون «لا ترى» بفتح تاء الخطاب، ونصب «مساكنهم» أي لا ترى أنت أيها المخاطب، وقرأ الجحدري، والأعمش، وابن أبي اسحق، والسلمي، وأبو رجاء بضم التاء الفوقية ورفع «مساكنهم» . كَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء الهائل نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وهذا تخويف لكفار مكة، وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ أي ولقد قررنا عادا في أمر عظيم لم نقرركم يا أهل مكة فيه من قوة الأبدان، وطول الأعمار، وكثرة الأموال، ومع ذلك ما نجوا من عقاب الله فكيف يكون حالكم وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ أي وأعطيناهم سمعا فما استعملوه في سماع الدلائل، وأبصارا فما استعملوها في تأمل العبر وأفئدة فما استعملوها في طلب معرفة الله تعالى، بل صرفوا كل هذه القوى إلى طلب الدنيا ولذاتها فما دفع عنهم هذه القوى شيئا من عذاب الله تعالى إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ أي لأجل أنهم كانوا ينكرون دلائل الله تعالى، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26) أي ونزل بهم العذاب الذي كانوا يطلبونه بطريق الاستهزاء، وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ يا أهل مكة مِنَ الْقُرى كحجر ثمود، وعاد أرض سذوم، وسبأ، ومدين، والأيكة، وقوم لوط، وفرعون، وأصحاب الرس وَصَرَّفْنَا الْآياتِ أي كررناها لهم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) أي لكي يرجعوا عن الكفر والمعاصي فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً أي فهلا خلصهم من العذاب الأصنام التي اتخذوها آلهة حال كونها متقربا بها إلى الله تعالى، بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ أي بل غابوا عنهم فنصرة آلهتهم لهم أمر ممتنع، وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28) وذلك أي امتناع نصرهم أثر كذبهم الذي هو اتخاذهم الأصنام آلهة وأثر افترائهم الكذب على الله تعالى إثبات(2/411)
يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
الشركاء له تعالى، وقرأ ابن عباس «أفكهم» بفتح الهمزة وسكون الفاء، وقرأ عكرمة، والصباح «أفكهم» على صيغة الماضي أي، وذلك الاتخاذ الذي هو ضياع آلهتهم عنهم ثمرته صرفهم عن الحق، وقرأ أبو عياض، وعكرمة أيضا «أفكهم» بتشديد الفاء، وابن الزبير، وابن عباس أيضا «آفكهم» بمد الهمزة أي جعلهم آفكين، وقرأ ابن عباس أيضا «آفكهم» على صيغة اسم الفاعل بمعنى صارفهم وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ أي واذكر لقومك إذ وجهنا إليك جماعة كائنة من جن نصيبين في الجزيرة، وهي بين الشام والعراق يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ أي القرآن عند تلاوته قالُوا أي قال بعضهم لبعض أَنْصِتُوا أي اسكتوا لنسمعه.
روي أن الجن كانت تسترق السمع، فلما حرست السماء، ورجموا بالشهب قالوا: ما هذا إلّا لنبأ حدث، فنهض سبعة من نفر من أشراف جن نصيبين منهم: زوبعة، فسافروا حتى بلغوا تهامة، ثم اندفعوا إلى وادي نخلة فوافوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو قائم في جوف الليل يصلي، فاستمعوا لقراءته وذلك عند رجوعه من الطائف وذلك في السنة الحادية عشرة من النبوة، فَلَمَّا قُضِيَ أي فرغ من تلاوة القرآن، وقرأ أبو مجلز، وأبو حبيب بن عبد الله «قضى» بالبناء للفاعل أي أتم الرسول قراءته، وَلَّوْا أي رجعوا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) . روى محمد بن جرير الطبري عن ابن عباس: أن أولئك الجن كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رسلا إلى قومهم. قالُوا عند رجوعهم إلى قومهم يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أي قرآنا يقرأ أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى. روي عن عطاء، والحسن: إنما قالوا ذلك لأنهم كانوا يهودا، وعن ابن عباس أن الجن ما سمعت أمر عيسى عليه السلام مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي لما قبله من كتب الأنبياء يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ من العقائد وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) أي موصل إلى المقصود وهي الأعمال الصالحة
يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ محمدا صلّى الله عليه وسلّم أو كتابه، وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ أي يغفر الله بعض ذنوبكم، وهو حق الله تعالى، وحق الحربيين، فهو يغفر بمجرد إسلام الظالم ولا يتوقف على الاستحلال من المظلوم الحربي، أما مظالم العباد غير الحربيين فلا تغفر إلّا برضا أصحابها وهذه الآية تدل على أنه صلّى الله عليه وسلّم كان مبعوثا إلى الجن كما كان مبعوثا إلى الإنس.
قال مقاتل: ولم يبعث الله نبيا إلى الإنس، والجن قبله صلّى الله عليه وسلّم، وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) أي ويمنعكم الله من عذاب أليم معد للكفرة. قال ابن عباس: فاستجاب لهم من قومهم نحو سبعين رجلا من الجن، فرجعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوافوه في البطحاء، فقرأ عليهم القرآن وأمرهم ونهاهم، وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ محمدا أو من يبلغ عنه فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ له تعالى فِي الْأَرْضِ بهرب وإن هرب كل مهرب من أقطارها، أو دخل في أعماقها، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أي من غير الله أَوْلِياءُ أي أنصار يدفعون عنه العذاب بالاستشفاع له، أو الافتداء به أُولئِكَ أي من لا يجيبون داعي الله فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32) أي ظاهر، وهذا آخر كلام الجن الذين سمعوا القرآن،(2/412)
أَوَلَمْ يَرَوْا أي ألم يتفكر كفار مكة ولم يعلموا علما جازما أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ابتداء من غير مثال وَلَمْ يَعْيَ أي لم يتعب بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى وإنما جاز إدخال الباء على خبر «أن» لأنه في تأويل خبر «ليس» فكأنه قيل أليس الله بقادر؟ ولذلك أجيب عنه بقوله تعالى: بَلى هو قادر على إحياء الموتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) فإن تعلّق الروح بالجسد أمر ممكن إذ لو لم يكن ممكنا في نفسه لما وقع أولا، والله تعالى قادر على جميع الممكنات، فوجب كونه تعالى قادرا على إعادة الروح إلى الجسد، وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أي يوم يعذبون بالنار يقال لهم: أَلَيْسَ هذا أي العذاب بِالْحَقِّ أي بالعدل. قالُوا بَلى وَرَبِّنا إنه الحق أكدوا جوابهم بالقسم كأنهم يطمعون في الخلاص من العذاب بالاعتراف بحقيقة عذاب النار كما في الدنيا، وأنّى لهم ذلك. قالَ الله لهم: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) أي بسبب كفركم في الدنيا فَاصْبِرْ أي إذا كان عاقبة أمر الكفار ما ذكر، فاصبر على أذى قومك كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ أي كما صبر أصحاب الشرائع الذين اجتهدوا في تقريرها، وصبروا على تحمل مشاق معاداة الطاعنين فيها، وهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى عليهم الصلاة والسلام، وقد ذكرهم الله على التعيين في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وفي قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ الآية وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ أي لكفار مكة بالعذاب فإنه نازل بهم لا محالة كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ أي وعند نزول العذاب بهم في الآخرة يستقرون مدة لبثهم في الدنيا حتى يحسبونها ساعة من نهار، لطول مدة العذاب ولهول ما عاينوه من شدة العذاب، والمعنى: أنهم إذا عاينوا العذاب صار طول لبثهم في الدنيا والبرزخ كأنه ساعة يسيرة من النهار، أو كأنه لم يكن (بلغ) أي هذا الّذي وعظمتم به كفاية في الموعظة، أو هذا القرآن كفاية فيها.
وقرأ زيد بن علي، والحسن، وعيسى «بلاغا» نصبا إما على المصدر أي بلّغ أيها الرسول بلاغا، كما يؤيده قراءة أبي مجلز بلغ أمرا وإما على النعت «لساعة» ، وقرأ الحسن أيضا «بلاغ» بالجر على أنه وصف «لنهار» على حذف مضاف أي ذي بلاغ أي أجل، فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35) أي فلا يهلك بالعذاب إلّا الخارجون عن الاتعاظ به، والعمل بموجبه، وقرأ ابن محيصن «يهلك» بفتح الياء وكسر اللام وبفتحهما، وقرأ زيد بن ثابت «يهلك» بضم الياء وكسر اللام، والفاعل الله وبنصب «الفاسقين» و «نهلك» بنون العظمة، ونصب «القوم» ووصفه، قال ابن عباس: إذا عسر على المرأة ولدها تكتب هاتين الآيتين والكلمتين في صفحة، ثم تغسل وتسقى منها وهي: بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلّا الله العظيم الحليم الكريم سبحان الله، ورب السموات، ورب الأرض، ورب العرش العظيم كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلّا عشية، أو ضحاها كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ الآية والله أعلم.(2/413)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10)
سورة القتال
وتسمى سورة محمد وسورة الّذين كفروا، مكية، تسع وثلاثون آية، خمسمائة وتسع وثلاثون كلمة، ألفان وثلاثمائة وتسعة وأربعون حرفا
الَّذِينَ كَفَرُوا من قريش وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي أعرضوا عن الإسلام ومنعوا عقولهم من اتباع الدليل كالمطعمين الجيش يوم بدر منهم: أبو جهل، والحرث ابنا هشام،
وعتبة، وشيبة ابنا ربيعة، ومنبه وغيرهم أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) أي أبطل الله أعمالهم فلم يبق لهم عمل بر لأنها لم تكن لله، ولا بأمره إنما فعلوها من عند أنفسهم وَالَّذِينَ آمَنُوا بالله ورسوله واليوم الآخر وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فيما بينهم وبين ربهم وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ أي بجميع الأشياء الواردة في كلام الله ورسوله وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ أي الحق النازل من ربهم، كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي ستر الله أعمالهم السيئة بالإيمان والعمل الصالح وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) أي حالهم ونياتهم، وذلك حيث يأتي المؤمن بسيئة، ثم يتنبه، ويندم، ويقف بين يدي ربه معترفا بذنبه مستحقرا لنفسه، فصار الذنب شرطا للندم، والثواب ليس على السيئة وإنما هو على الندم ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ أي ذلك إضلال الأعمال، وتكفير السيئات، وإصلاح البال كائن بسبب أن الكفار اتبعوا الشيطان، وبسبب أن المؤمنين اتبعوا أمر الله، وقوله: مِنْ رَبِّهِمْ أما متعلق ب «اتبعوا» الأخير أي من فضل ربهم أو من هدايته، أو متعلق بالأمرين جميعا أي اتبع هؤلاء الحق من حكم ربهم.
كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3) أي مثل هذا البيان يبين الله للناس أحوالهم العجيبة بإحباط الأعمال للكفر، ويغفر الذنوب بالإيمان والفعلان قد يتحدان صورة وحقيقة، وأحدهما يورث إبطال الأعمال والآخر يورث تكفير السيئات بسبب أن أحدهما يكون فيه اتباع الباطل، والآخر يكون فيه اتباع الحق كإطعام الطعام، وقد يختلفان في الظاهر والباطن كمن يؤمن ظاهرا وهو يسر الكفر، ومن يكفر ظاهرا بالإكراه وقلبه مطمئن بالإيمان فإبطال الأعمال لمن أظهر الإيمان بسبب الباطل من جانبه فكأنه تعالى قال الكفر والإيمان مثلان يثبت فيهما حكمان، وقد علم سبب ثبوت الحكم، وهو اتباع الحق والباطل فكل أمر اتبع فيه الحق كان مقبولا مثابا عليه،(2/414)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20)
وكل أمر اتبع فيه الباطل كان مردودا معاقبا عليه، فصار هذا عاما في الأمثال فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ أي فإذا لقيتم الكفار في المحاربة يوم بدر، فاضربوا أعناقهم أي فاقتلوهم بأي طريق أمكنكم حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ أي حتى إذا أضعفتموهم بالجراح فاستوثقوا الأسر فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً أي فإما تمنون منا عليهم بإرسالهم من غير فداء بعد أسرهم وشد وثاقهم، وإما تفدون فداء بمال، أو أسرى مسلمين حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها أي حتى تضع أهل الحرب آلات الحرب أي حتى تنقرض الحرب بالكلية بحيث لا يبقى في الدنيا حزب من أحزاب الكفر يحارب حزبا من أحزاب الإسلام ذلِكَ أي ذلك المذكور واجب وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ أي لانتقم من الكفار من غير قتالكم ببعض أسباب الهلكة كالخسف، وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ أي ولكن لم يشأ ذلك، بل يكلفهم بالقتال ليحصل لكم شرف باختياره إياكم لهذا الأمر، ويختبركم بالكفار لتجاهدوهم لاستحقاق العظيم، وليختبرهم بكم ليعالجهم ببعض العذاب على أيديكم كي يرتدع بعضهم عن الكفر، وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) ، قرأ أبو عمرو، وحفص «قتلوا» مبينا للمجهول أي والذين استشهدوا في طاعة الله يوم بدر فلن يضيع الله أعمالهم أي لا تخافوا القتل، فإن من يقتل في سبيل الله له من الأجر ما لا يمنع المقاتل من القتال، بل يحثه عليه، وقرأ الباقون قاتلوا أي جاهدوا لإعلاء دين الله سواء قتلوا أو لم يقتلوا، سَيَهْدِيهِمْ في الدنيا إلى أرشد الأمور إن لم يقتلوا وفي الآخرة إلى طريق الجنة من غير وقفة من قبورهم إلى موضع حبورهم وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) أي حالهم في الدنيا والآخرة بأن يقبل الله أعمالهم ويرضي خصماءهم يوم القيامة، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) أي إذا دخلوها يقال لهم: تفرقوا إلى منازلكم فهم أعرف بمنازلهم من أهل الجمعة إذا انصرفوا إلى منازلهم، وقال ابن عباس: أي طيبها لهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ أي إن تنصروا دين الله وحزب الله يَنْصُرْكُمْ على أعدائكم، وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) أي يثبتكم في مواضع الحرب وعلى محجة الإسلام وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ أي فألزمهم الله هلاكا وعثارهم واجب لأن آلهتهم جمادات لا قدرة لها على النصرة، وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8) أي أبطل نفقاتهم يوم بدر ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ أي ذلك الهلاك وإبطال الأعمال بسبب أنهم كرهوا القرآن لما فيه من بيان التوحيد وبيان أمر الآخرة فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9) أي فأبطل حسناتهم فلو عملوها مع الإيمان لأثبتوا عليها أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي أقعد كفار مكة في أماكنهم ولم يسافروا في الأرض فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم المكذبة دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي أهلك الله ما يختص بهم من أنفسهم، وأهليهم، وأموالهم وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10) أي ولقوم محمد أمثال تلك العاقبة، فأهلكوا بأيدي أمثالهم الذين كانوا لا يرضون بمجالستهم وأسروا بأيدي من كانوا يستضعفونهم، وذلك الألم من الهلاك بسبب عام
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا أي ثبوت هلاك أمة محمد كالأمم السالفة بسبب أن الله تعالى ناصر المؤمنين على(2/415)
أعدائهم. وقرئ «ولي الذين» إلخ وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) أي وأن الكافرين اتخذوا آلهة لا تنفع ولا تضر وتركوا الله فلا ناصر لهم إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فالأنهار يتبعها الأشجار، والأشجار يتبعها الثمار، والماء سبب حياة العالم والمؤمنون ينظرون إليه وينتفعون به، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ أي ينتفعون في الدنيا بمتاعها وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ فلا يهمهم إلا أكل الملاذ ولا يستدلون بالمأكولات على خالقها ولا يعلمون عاقبة أمرهم كالأنعام، فإنها لا تعلم أنها كلما كانت أسمن كانت أقرب إلى الذبح وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12) فيتقلبون في النار ويتضررون بها وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ أي وكم من أهل قرية كذبوا رسلهم أهلكناهم وهم أشد قوة من أهل قريتك الّذين كانوا سببا لخروجك من بينهم فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) من إهلاكنا كذلك نفعل بأهل مكة فاصبر كما صبر رسل أولئك أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14) أي أليس الأمر كما ذكر؟ فمن كان مستقرا على حجة ظاهرة من مالك أمره وهو القرآن وسائر الحجج العقلية كمن زيّن له سوء عمله فرآه حسنا واتبعوا أهواءهم الزائغة وانهمكوا في فنون الضلالات مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ و «مثل» مبتدأ وخبره «فيها أنهار» ، وهو عين المبتدأ لأن اشتمال الجنة على أنهار من كذا وكذا صفة لها، وقيل: والخبر مقدر والتقدير: وفيما نقص عليكم مثل الجنة، وعلى هذا فالوقف على «المتقون» كاف والجملة بعده مفسرة لمثل مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ أي غير متغيّر ريحه وطعمه حتى في البطون، وقرأ ابن كثير بقصر الهمزة والباقون بمدها، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ فلا يعود حامضا ولا قارصا ولا ما يكره من الطعوم، فلو أراد تغيره من أصل خلقته لشهوة اشتهوها تغير، وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ بأسرهم فليس فيها كراهة الطعم لهم وهي لمجرد الالتذاذ فقط وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى من شمع وغيره.
روي عن كعب الأحبار أنه قال: نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة، ونهر الفرات نهر لبنهم، ونهر مصر، نهر خمرهم، ونهر سيحان وجيحان نهر عسلهم، وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر، وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي ولأهل الجنة في الجنة زوجان من كل الثمرات، وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ أي ولهم فيها رفع تكليف عنهم فيأكلون، ويشربون من غير حساب، ولا عقاب، ورفع قبيح، ومكروه فلا يحتاجون إلى غائط، ولا يمرضون بسبب تناول المأكولات والمشروبات بخلاف الدنيا، فإن للأكل توابع ولوازم لا بد منها كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ أي أمن هو خالد في هذه الجنة حسب ما جرى به الوعد كمن هو خالد في النار كما نطق به قوله تعالى: وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً أي حارا فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15) أي مباعرهم لحدة تكون في ذلك الماء من فرط الحرارة، وقوله تعالى: عَلى بَيِّنَةٍ في مقابلة زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وقوله تعالى: مِنْ رَبِّهِ في مقابلة وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ والْجَنَّةِ في مقابلة النار والثمار في الجنة في مقابلة الزقوم في(2/416)
النار والماء الحميم في مقابلة الأنهار وقطع الأمعاء في مقابلة المغفرة لأن المغفرة التي في الجنة على أحد الوجوه هي تعرية أكل الثمرات عما يلزمه من قضاء الحاجة، والأمراض كأنه تعالى قال للمؤمن: أكل وشرب لا يجتمع في جوفهم، فيؤذيهم ويحوجهم إلى قضاء الحاجة، وللكافر ماء حميم. ففي أول ما يصل إلى جوفهم يقطع مصارينهم ويشتهون خروجه من جوفهم فخرجت المصارين من أدبارهم، ثم الوجه في توحيد الضمير العائد إلى «من» وجمعه أن يقال المسند إلى «من» إذا كان متصلا فرعاية اللفظ أولى لأنه مسموع، وإذا كان مع انفصال فرعاية المعنى أولى لأنه لا يسمع، بل يبقى في ذهن السامع فالحمل في الانفصال على المعنى، وهو جمع الضمير أولى، وحمل الاتصال على اللفظ، وهو إفراد الضمير أولى. وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أي ومن الخالدين في النار قوم يستمعون إلى خطبتك يوم الجمعة فإذا خرجوا من المسجد قالوا للعلماء من الصحابة منهم ابن مسعود، وابن عباس استهزاء بما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم:
أي شيء قال محمد على المنبر الساعة الماضية القريبة منّا لا نعمل بقوله لأنه قول ساقط لا يعتد به، وقرأ البزي بخلاف عنه بقصر الهمزة أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) أي أولئك التاركون اتباع الحق هم الذين أمات الله قلوبهم فلم تفهم فعند ذلك اتبعوا أهواءهم في الباطل وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) أي والذين اهتدوا بالإيمان زادهم الله تعالى على الاهتداء هدى حتى ارتقوا من درجة المهتدين إلى درجة الهادين، وخلق الله فيهم كمال التقوى فلا يخافون معها لومة لائم ويتنزه العارفون عما يشتغل أسرارهم عن الحق ويتبتلون إليه، فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18) و «أن» تأتيهم بدل اشتمال من «الساعة» و «أني» خبر مقدم و «ذكراهم» مبتدأ مؤخر والمعنى:
أنهم لا يتذكرون بذكر أهوال الأمم الخالية، ولا بالإخبار بإتيان الساعة، وعظائم الأهوال فيها فما ينتظرون للتذكر إلا إتيان نفس الساعة فجأة إذ قد جاءت علاماتها فلم يرفعوا لها رأسا ولم يعدوها من مبادئ إتيانها فيكون إتيانها بطريق المفاجأة لا مجالة فمن أين لهم التذكر والتوبة إذا جاءتهم الساعة فجأة، أي لا تنفعهم الذكرى إذ لا تقبل التوبة ولا يحسب الايمان حينئذ.
وقرئ «إن تأتيهم» على أن «إن» شرط مستأنف جزاؤه فإني لهم إلخ والمعنى أن تأتيهم الساعة بغتة لأنه قد ظهرت أماراتها كرسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وانشقاق القمر ونحوهما فكيف لهم اتعاظهم إذا جاءتهم، فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ أي إذا علمت أن مدار السعادة هو التوحيد والطاعة. ومناط الشقاوة هو الإشراك والعصيان فاثبت على العلم بالوحدانية والعمل بموجبه، وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وهو ترك الأفضل أو ضرب اليهودي زيد بن السمين، وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وللنبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاث حالات: حال مع الله، وحال مع نفسه، وحال مع غيره، والمعنى:
فوحد الله، واطلب العصمة من الله لنفسك، واطلب الغفران من الله للمؤمنين والمؤمنات، ومعنى(2/417)
طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)
طلب الغفران طلب عدم الافتضاح، ولذلك قد يكون بالعصمة من القبيح كما كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد يكون بالستر على القبيح بعد وجوده كما هو في حق المؤمنين والمؤمنات وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19) أي يعلم أحوالكم في الدنيا ومواطن إقامتكم في الآخرة إما في الجنة أو في النار وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا إذ تأخر عنهم التكليف خوفا من أن لا يؤهلوا للعبادة لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ أي هلا نزلت سورة فيها تكليف بمحن المؤمن والمنافق، فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ أي لم تنسخ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ أي وذكر فيها الأمر بالقتال فإنه أشق تكليف، وقرئ و «ذكر فيها القتال» على بناء الفعل للفاعل وهو الله تعالى، وعلى نصب «القتال» ، رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي نفاق يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ أي تشخص أبصارهم نحوك عند ذكرك للقتال شخوصا مثل شخوص من أصابته غشية الموت من كراهية قتالهم مع العدو، فَأَوْلى لَهُمْ (20) أي قاربهم ما يهلكهم، أو فالهلاك لهم وهذا تهديد لهم من عذاب الله تعالى، أو يقال فالموت أولى لهم، فإن الموت خير من الحياة التي ليست في طاعة الله ورسوله
طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ أي طاعة مخلصة وقول حسن خير لهم، وقيل: هذا حكاية لقولهم ويدل عليه قراءة أبيّ «يقولون طاعة وقول معروف» أي يقول المنافقون أمرنا طاعة وكلام حسن لمحمد عليه الصلاة والسلام فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ أي فإذا جد الأمر خالفوا موعدهم وتأخروا عنه فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) أي فلو صدقوا الله تعالى في إيمانهم واتباعهم الرسول لكان الصدق خيرا لهم، أو فلو صدقوا الله في ذلك القول، وأطاعوا الله ورسوله لكان الصدق خيرا لهم، وقيل: إن جملة «فلو صدقوا الله» إلخ جواب إذا مثل قولك: إذا حضرني طعام، فلو جئتني لأطعمتك. فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) أي إن كنتم تتركون القتال وتعرضون عنه وتقولون: إن في القتال إفسادا وقطع الأرحام لكون الكفار أقاربنا فلا يقع منكم إلّا ذلك حيث تقاتلون على أدنى شيء هو عادة العرب، وهذه الآية إشارة إلى فساد قولهم: كيف نقاتل والقتال إفساد، العرب من ذوي أرحامنا، فقال تعالى: إن أعرضتم عن القتال فلا يقع منكم إلّا الفساد في الأرض، فإنكم تقتلون من تقدرون عليه وتنبهونه، والقتال واقع بينكم أليس قتلكم البنات إفسادا وقطعا للرحم، فلا يصح تعللكم بذلك مع أنه خلاف ما أمر الله به وهذا القتال مع الكفار طاعة، وقيل: إن توليتم من الولاية، والمعنى: فلعلكم يا معشر المنافقين تتمنون إن صرتم أمراء على الناس وصاروا بأمركم أفسدتم في الأرض بالقتل والمعاصي، وقطعتم الأرحام بإظهار الكفر ويؤكد هذا القول قراءة من قرأ «وليتم» على البناء للمفعول أي وإن جعلتم ولاة ظلمتم بأخذ الرشا، ونحوه، وقراءة علي رضي الله عنه «توليتم» والمعنى ان تولاكم والمعنى: إن تولاكم ولاة ظلمة خرجتم معهم ومشيتم تحت لوائهم وساعدتموهم في الإفساد وقطيعة الرحم.
وقرئ تقطعوا بحذف إحدى التاءين من التقطع فانتصاب أرحامكم، حينئذ على نزع الجار(2/418)
أي في أرحامكم وقرئ و «تقطعوا» من القطع أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أي أبعدهم الله عن الخير فَأَصَمَّهُمْ فلا يسمعون الكرم المستبين وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23) فلا يتبعون الصراط المستقيم، فمن حيث إنهم استمعوا الكلام العلمي ولم يفهموه فهم صم وعند الأمر بالعمل تركوه وعللوا بكونه إفسادا وقطعا للرحم، وهم كانوا يتعاطونه عند النهي فتركوا اتباع النبي الّذي يأمرهم بالإصلاح وصلة الأرحام ولو دعاهم من يأمر بالإفساد وقطيعة الرحم لاتبعوه فهم عمي أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) أي فلا يتدبرون القرآن لكونهم مبعدين منه، ومن كل خير أم على قلوب أقفال فيتدبرون ولا يفهمون فلا تدخل معانيه في قلوبهم إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ أي أن الذين رجعوا إلى الكفر من بعد ما ظهرت لهم الدلائل وسمعها، وهم جماعة منعهم حب الرياسة عن اتباع الرسول صلّى الله عليه وسلّم، الشيطان زيّن لهم الرجوع إلى دينهم، وسهل لهم اقتراف الكبائر.
وقرئ «سول» مبنيا للمفعول على حذف المضاف أي كيد الشيطان زيّن لهم وَأَمْلى لَهُمْ (25) أي ومد الشيطان لهم في الآمال فيقول لهم: إن في آجالكم فسحة فتمتعوا بدنياكم ورئاستكم إلى آخر أعماركم، وقيل: أمهلهم الله تعالى، ولم يعاجلهم بالعقوبة، وقرأ أبو عمرو «وأملى لهم» على البناء للمفعول أي أمهلوا ومد في أعمارهم، والباقون على البناء للفاعل، والفاعل إما الشيطان، فإن الله قدر على لسانه ويده ذلك التزيين، أو الله تعالى كما تقدم. وقرئ «وأملى لهم» على صيغة المتكلم فالمعنى أن الشيطان يغويهم، وأنا أنظرهم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ أي ذلك الارتداد بسبب أن المنافقين قالوا سرا لليهود الكارهين لنزول القرآن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع علمهم بأنه من عند الله تعالى حسدا وطمعا في نزوله عليهم:
سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ كالقعود عن الجهاد، والموافقة في الخروج معكم عن الديار إن خرجتم منها، ولا نطيعكم في إظهار الكفر قبل قتالكم، وإخراجكم من دياركم، وهذا عبارة عما حكى عنهم بقوله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ [الحشر: 11] وهم بنو قريظة والنضير الذين كان المنافقون يوادونهم، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26) ، قرأ حمزة، والكسائي، وحفص بكسر الهمزة أي إخفاءهم لما يقولونه، والباقون بفتحها أي جميع أسرارهم، فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27) أي فكيف يصنعون إذا قبضتهم الملائكة في حال أنهم يضربون وجوههم وظهورهم بمقامع من حديد، فإنهم يفعلون في حياتهم ما يفعلون من الحيل، وقرأ الأعمش «توفاهم» على أنه ماض أو مضارع حذف إحدى تاءيه ذلِكَ أي الضرب بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ من الكفر والمعاصي وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ من الإيمان والطاعة أي تضرب وجوههم لأنهم أقبلوا على سخط الله كإنكار الرسول(2/419)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
وإدبارهم لأنهم تولوا عما فيه رضا الله كالإقرار بالرسول وبدين الإسلام وعن ابن عباس رضي الله عنهما: «لا يتوفى أحد على معصية إلا تضرب الملائكة وجهه ودبره» . فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28) أي فأبطل الله حسناتهم يقال: نزلت الآيات من قوله تعالى: الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ إلى هاهنا في شأن المنافقين الذين رجعوا من المدينة
إلى مكة مرتدين عن دينهم، ويقال نزلت في شأن الحكم بن أبي العاص المنافق وأصحابه الذين شاوروا فيما بينهم، والنبي صلّى الله عليه وسلّم، يخطب يوم الجمعة في أمر الخلافة بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم وقالوا إن ولينا أمر هذه الأمة نفعل كذا وكذا ولا يستمعون إلى خطبته صلّى الله عليه وسلّم حتى قالوا بعد ذلك لعبد الله بن مسعود: ماذا قال محمد الآن على المنبر استهزاء منهم أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي نفاق أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) أي أحسب المنافقون أنه لن يعلم الله أسرارهم أم حسبوا أنه لن يظهر الله أحقادهم على المؤمنين لرسوله، وللمؤمنين فتبقى أمورهم مستورة ف «أم» استفهامية والمعنى: أن ذلك الإظهار ما لا يكاد يدخل تحت الشك، وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ أي ولو أردنا لعرفناكهم تعريفا معه المعرفة فتعرفهم بعلامتهم القبيحة، وعن أنس رضي الله عنه قال: ما خفي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد هذه الآية شيء من المنافقين، كان يعرفهم بسيماهم في بعض الغزوات وفيها تسعة من المنافقين يشكوهم الناس فناموا ذات ليلة وأصبحوا وعلى كل واحد منهم مكتوب هذا منافق، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ أي والله إنك يا محمد لتعرفن المنافقين في وجه خفي من القول فيفهمه النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا يفهمه غيره، ولكن لم يظهره إلى أن أذن الله تعالى في إظهار أمرهم وفي المنع من الصلاة على جنائزهم والقيام على قبورهم، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) فيجازيكم بحسب قصدكم، وهذا وعد للمؤمنين، وبيان لكون حالهم على خلاف حال المنافقين، فكان للمنافق قول بلا عمل، وللمؤمن عمل ولا يقول به، وكان المؤمن يعمل الصالحات ويتكلم في السيئات مستغفرا، وكان المنافق يتكلم في الصالحات ويعمل السيء والله تعالى يسمع الأقوال الفارغة من المنافقين ويعلم الأعمال الصالحة منكم ولا يضيع،
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بالأمر بالجهاد والتكاليف الشاقة حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ أي حتى نعلم المقدمين على الجهاد وَالصَّابِرِينَ على مشاق الجهاد أي الذين لا يولون الأدبار وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31) أي ونظهر أخباركم من حسن أعمالكم وقبحها.
وقرأ شعبة في الأفعال الثلاثة بالياء التحتية مسندا لضمير راجع إلى الله، وقرئ ونبلو بسكون الواو على تقدير ونحن نبلو. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل الكتاب قريظة والنضير أو من كفار قريش وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي أعرضوا عن دين الله وصرفوا الناس عن طاعة الله وَشَاقُّوا الرَّسُولَ أي خالفوه وعادوه مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى وهو نعت محمد في التوراة وما ظهر على يديه من المعجزات، وما نزل عليه من الآيات لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً تنزه الله تعالى عن أن يتضرر بكفر كافر وفسق فاسق، وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32) أي مكايدهم في القتال وفي إبطال دين الله(2/420)
تعالى فيكون النصر للمؤمنين يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد والقرآن أَطِيعُوا اللَّهَ فيما أمركم من الفرائض والصدقة، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فيما أمركم من الجهاد والسنة وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33) بالكفر، والنفاق، والعجب، والرياء، والسمعة، والمن، والأذى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) أي إن الله لا يغفر الشرك ويغفر غيره إن شاء فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ أي إذا علمتم وجوب الجهاد فلا تضعفوا بالقتال مع العدو ولا تدعوا الكفار إلى الصلح وأنتم الأعلون أي الغالبون وهذه جملة حالية فتدعوا إما معطوف على المجزوم، أو جواب النهي منصوب بإضمار أن، وقرأ حمزة، وشعبة «السلم» بكسر السين، وَاللَّهُ مَعَكُمْ وهذا إرشاد يمنع المكلف من الإعجاب بنفسه وذلك لأن الله تعالى لما قال: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ كان ذلك سبب الافتخار، فقال تعالى: وَاللَّهُ مَعَكُمْ أي ليس ذلك العلو على الكفار من أنفسكم، بل من الله تعالى وأيضا لما كان المؤمنون يرون ضعف أنفسهم وقلتهم وشوكة الكفار وكثرتهم قال تعالى: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وما كان الأمر بما يقع في نفس بعضهم أنهم كيف يكون لهم الغلبة فقال تعالى: وَاللَّهُ مَعَكُمْ أي والله ناصركم فلا يبقى لكم شك في أن الغلبة لكم، وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) أي ولن يضيعها والمعنى: أن الله ينصركم ومع ذلك لا ينقص من أعمالكم شيئا أي فكأن النصرة جعلت بكم ومنكم فكأنكم مستقلون في ذلك النصر فيعطيكم أجوركم بالتمام. إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ أي أن الاشتغال بالدنيا أعمال ضائعة ومشغلة عن طاعة الله تعالى وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ أي يعطكم ثواب إيمانكم وتقواكم وثواب كل أعمالكم وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) أي ولا يطلب منكم إخراج أموالكم كلها بحيث يخل الإخراج بمعاشكم، بل يطلب منكم إنفاق القليل من الأموال في طاعته تعالى ليرجع ثوابه إليكم إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37) أي لو طلب الله جميع أموالكم وألح عليكم في الطلب لما تعطونها، وأخرج الله أو الطلب أو البخل أحقادكم كيف وأنتم تبخلون باليسير لا فكيف لا تبخلون بالكثير ومن نوزع في حبيبه ظهرت طويته التي كان يسرها.
وقرئ «ونخرج» بنون العظمة، وقرئ «ويخرج» بالياء والتاء وفاعله «أضغانكم» أي ويخرج بسبب البخل الضغائن فيفضي إلى قتال الطالبين، وهم النبي وأصحابه ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي أنتم الذين تطلبون لتنفقوا في طاعة الله من الزكاة ونفقة الغزو وغيرهما فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ أي فمنكم ناس يبخلون، ومنكم من يجود، وَمَنْ يَبْخَلْ بالإنفاق في طاعة الله فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ أي فإنما يمسك الثواب عن نفسه فإن من يبخل وهو مريض بأجرة الطبيب، وبثمن الدواء فلا يبخل إلا على نفسه، وَاللَّهُ الْغَنِيُّ فلا يحتاج إلى مالكم، وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ فلا تقولون: نحن أغنياء عن القتال ودفع حاجة الفقراء فإنهم لا غنى لهم عن ذلك، لأنهم لولا القتال لقتلهم الكفار، ولولا دفع حاجة الفقراء لقصدوهم بسوء وكيف(2/421)
لا يكونون فقراء وهم يوم القيامة موقوفون مسؤولون؟! وَإِنْ تَتَوَلَّوْا أي وإن تعرضوا عن الإيمان والتقوى يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ أي يخلق الله قوما آخرين بدلكم ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38) في التولي عن الإيمان والتقوى بل يكونون راغبين فيهما.
روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلا هذه الآية فقالوا: يا رسول الله من هؤلاء؟ فضرب صلّى الله عليه وسلّم بيده على كتف سلمان الفارسي ثم قال: «هذا وقومه ولو كان الدين عند الثريا لتناوله الرجال من الفرس»
«1» .
وحكي عن أبي موسى الأشعري أنه لما نزلت هذه الآية فرح بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: «هي أحب إلي من الدنيا»
. والله أعلم.
__________
(1) رواه البيهقي في دلائل النبوة (4: 158) ، وابن أبي شيبة في المصنّف (14: 501) ، والسيوطي في الدر المنثور (6: 17) .(2/422)
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)
سورة الفتح
مدنية، تسع وعشرون آية، خمسمائة وستون كلمة، ألفان وأربعمائة وثمانية وثلاثون حرفا
وسبب نزول هذه السورة أنه صلّى الله عليه وسلّم في السنة السادسة خرج بألف وأربعمائة من أصحابه قاصدين مكة للاعتمار فأحرموا بالعمرة من ذي الحليفة، وساق صلّى الله عليه وسلّم سبعين بدنة هديا للحرم، وساق القوم سبعمائة، فلما وصلوا الحديبية- وهي قرية بينها وبين مكة مرحلة- منعه المشركون من دخول مكة، وصالحوه على أن يأتي في العام القابل ويدخلها، ويقيم فيها ثلاثة أيام، فتحلل هو وأصحابه هناك بالحلق، وذبح ما ساقوه من الهدى ثم رجعوا يخالطهم الحزن، فأراد الله إذهاب الحزن عنهم فأنزل الله تعالى عليه صلّى الله عليه وسلّم هذه السورة، وهو سائر ليلا في رجوعه، وهو بكراع الغميم (وهو واد أمام عسفان بين مكة والمدينة) فبشر بفتح مكة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه عند انصرافه من الحديبية وقال صلّى الله عليه وسلّم:
«نزلت عليّ آية هي أحب إليّ من الدنيا جميعها» «1» . فلما تلاها قال المسلمون: هنيئا مريئا لك يا رسول الله لقد بيّن الله لك ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله تعالى عليه
: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ حتى بلغ فَوْزاً عَظِيماً [الفتح: 5] .
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) أي ظاهر الأمر فارقا بين الحق والباطل، أي إن الله فتح مكة عنوة وصلحا، وفتح الإسلام بالحجة والبرهان والسيف والسنان، فإن أسفل مكة فتحها خالد عنوة وأعلاها فتحه الزبير صلحا، ودخل النبي صلّى الله عليه وسلّم من جهته رضي الله عنه فصار الحكم له صلّى الله عليه وسلّم.
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ أي لكي يغفر الله لك ما سلف من ترك الأفضل قبل الوحي وما يكون بعد الوحي إلى الموت، وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بإعلاء الدين، وضمّ الملك إلى النبوة بإخلاء مكة عن معانديك، وباستجابة دعائك في طلب الفتح، وبقبول شفاعتك في الذنوب في
__________
(1) رواه البيهقي في دلائل النبوة (4: 158) ، وابن أبي شيبة في المصنّف (14: 501) ، والسيوطي في الدر المنثور (6: 17) .(2/423)
الآخرة، وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) في تبليغ الرسالة، وإقامة علامات الرياسة، فلا يبقى من يقدر على الإكراه على الكفر وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3) أي نفيسا قليل النظير، وهو أخذ بيت الله من الكفار المتمكنين فيه، فإن فتح مكة كان سببا لتطهير بيت الله تعالى من رجس الأوثان، وسببا لتطهير العباد من العصيان، وبالفتح يحصل الحج، ثم بالحج يحصل الغفران.
وقال الشعبي: المراد من هذا الفتح صلح الحديبية. لقد أصاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في تلك الغزوة ما لم يصب في غزوة غيرها، حيث بويع بيعة الرضوان، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبلغ الهدى محله، وأطعموه نخل خيبر، وظهرت الروم على فارس، ففرح المسلمون بظهور أهل الكتاب على المجوس. وكان في فتح الحديبية آية عظيمة هي أنه نزح ماؤها حتى لم يبق فيها قطرة، فتمضمض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم مجه فيها فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه وشبع، ولذلك
قال صلّى الله عليه وسلّم: «صلح الحديبية أعظم الفتوح»
. هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ أي الله وحده هو الذي أنزل الطمأنينة في يوم الحديبية وغيره في قلوب الراسخين في الإيمان وهم أهل الحديبية بسبب ذكرهم الله تعالى تحقيقا للنصر، لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ أي ليزدادوا إيمانا بشرائع الدين مع ايمانهم بالله ورسوله، وليزدادوا إيمانا بالفروع مع إيمانهم بالأصول، فإنهم آمنوا بأن محمدا رسول الله، وأن الله واحد، والحشر كائن، وآمنوا بأن كل ما يأمر الله به واجب، وبأن كل ما يقوله النبي صلّى الله عليه وسلّم صدق، وهو الّذي قد قال لهم: «لا بد من أن تدخلوا مكة وتطوفوا بالبيت» . وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الملائكة أو الأسباب، كالصاعقة والزلازل. فكان تعالى قادرا على إهلاك عدوه بجنوده، ولكن لم يفعل ذلك بل أنزل على المؤمنين ثبات قلوبهم ويقينها مع الله ورسوله ليكون إهلاك أعدائهم بأيديهم فيكون لهم الثواب. وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بجميع الأمور حَكِيماً (4) في تدبيره تعالى لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها لا يخرجون منها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ، أي يغطيها ولا يظهرها وَكانَ ذلِكَ أي المذكور من الإدخال والتفكير عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) . والظرف حال من فوزا أي كائنا في علم الله تعالى، فجاء عبد الله بن أبيّ بن سلول حين سمع بكرامة الله للمؤمنين فقال: يا رسول الله، والله ما نحن إلّا كهيئتهم فما لنا عند الله؟ فأنزل الله تعالى قوله: وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ، أي ظن الأمر السوء فإنهم ظنوا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه حين خرجوا إلى الحديبية لا يرجعون إلى المدينة وأن المشركين يستأصلونهم، والتعذيب مذكور لكونه مقصودا للمؤمنين كأن الله تعالى يقول:
بسبب ازديادكم في الإيمان يدخلكم الله جنات في الآخرة ويعذب الكافرين والمنافقين بأيديكم في الدنيا يكون تعذيبهم بإيصال الله الهموم إليهم بسبب علو كلمة المسلمين، وبتسليط النبي وأصحابه عليهم قتلا وأسرا واسترقاقا. عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ أي عليهم دائرة الفساد، فيحيط بهم حيث لا خروج لهم منه. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بضم السين والباقون بالفتح. وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وهذا إشارة إلى أن الّذي نزل بهم يكون على وجه التعذيب، فإن من كان به بلاء قد يكون مصابا على وجه(2/424)
الامتحان ليصير مثابا، وقد يكون مصابا على وجه التعذيب وَلَعَنَهُمْ أي طردهم من كل خير فإن المغضوب عليه قد يقنع الغاضب بالعتب والشتم، أو الضرب ولا يقتضي غضبه إلى إبعاد المغضوب عليه من جنابه، ولا إلى طرده من بابه، وقد يفضي غضبه إلى ذلك لكون الغضب شديدا، وَأَعَدَّ لَهُمْ في الآخرة جَهَنَّمَ وَساءَتْ أي جهنم مَصِيراً (6) أي مرجعا وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فإنزالهم قد يكون للرحمة وقد يكون للعذاب، وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً أي شديدا بنقمة الكافرين والمنافقين، حَكِيماً (7) بكرامة المؤمنين المخلصين بإيمانهم إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً أي يشهد أن لا إله إلّا الله، وأن دينه هو الحق، وأحق أن يتبع، وَمُبَشِّراً لمن يوافقك في تلك الشهادة وَنَذِيراً (8) لمن يخالفك فيها لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ لأن كون النبي مرسلا من الله يستلزم أن يؤمن المكلّف بالله وبالمرسل وَتُعَزِّرُوهُ أي تنصروه بتقوية دينه ورسوله. وقرئ شاذا «تعززوه» بزاءين مع الفوقانية. وقرئ بضم التاء وسكون العين وبفتح التاء، وضم الزاي وكسرها، وهاتان مع الراء. وَتُوَقِّرُوهُ أي تعظموه، لأن الله يعظمكم بالبشارة. وقرئ بسكون الواو. وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) أي تنزهوه عن السوء في الدوام مخافة عقابه الشديد. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء على الغيبة في الأفعال الأربعة. والباقون بالتاء على الخطاب، والكنايات الثلاثة راجعة إلى الله تعالى لتكون على وتيرة واحدة، ويصح رجوعها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحينئذ إن معنى يسبحونه ينزهونه صلّى الله عليه وسلّم عن كل وصمة بإخلاف وعده بدخول مكة والطواف بالبيت الحرام، وبنحو ذلك، ويصح أن يكون أمرهم بالتنزيه في أوقات يذكرون فيها الفحشاء والمنكر، إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ أي إن الذين بايعوا نبي الله على أن لا يفروا من قتال قريش تحت الشجرة السمرة في الحديبية، وهم مقدار ألف وخمسمائة رجل كأنهم يبايعون الله. والمعنى: إن عقد الميثاق مع الرسول كعقده مع الله تعالى من غير تفاوت بينهما، لأن من بايع النبي على أن لا يفر من موضع القتال إلى أن يقتل، أو أن يفتح الله لهم وإن كان يقصد ببيعته رضا الرسول ظاهرا لكن إنما يقصد بها حقيقة رضا الرحمن فإن المقصود توثيق العهد بمراعاة أوامره ونواهيه. وهذا يسمى بيعة الرضوان لقول الله تعالى في شأن هذه البيعة، لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يُبايِعُونَكَ الآية. وقرئ «إنما يبايعون لله» ، أي لأجله يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ أي نعمة الله، عليهم في الهداية فوق إحسانهم إلى الله وهو ما صنعوا من البيعة أو نصرة الله تعالى إياهم أعلى من نصرتهم إياه. ويقال: حفظ الله إياهم على البيعة أقوى من وضع يد ثالث على أيدي المتبايعين لحفظ أيديهما إلى أن يتم العقد، فإن كل واحد من المتبايعين مدّ يده إلى صاحبه في البيع والشراء، وبينهما ثالث متوسط يضع يده على يديهما فيحفظ يديهما إلى أن يتم العقد، فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ أي فمن نقض عهده فإنما يعود ضرر نقضه على نفسه، لأنه فوت على نفسه الإحسان الجزيل في مقابلة العمل القليل فقد خسر، أو يقال:
من يبايعك أيها النبي إذا نكث لا يكون نكثه عائدا إليك، لأن البيعة مع الله ولا عائد إلى الله لأنه لا يتضرر بشيء فضرره لا يعود إلّا إليه. وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10) أي ومن(2/425)
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20)
وفي بعهده بالله بالصدق فسوف يعطيه جنة، فلم ينقض منهم أحد حتى ماتوا على بيعة الرضوان إلّا رجل منهم يقال له: جد بن قيس- وكان منافقا- اختبأ يومئذ تحت إبط بعيره ولم يدخل في بيعتهم، فأماته الله على نفاقه. وقرأ حفص بضم هاء «عليه» وتفخيمه. والباقون بالكسر والترقيق. وقرأ أبو عمرو والكوفيون بالياء التحتية والباقون بالنون.
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ من غزوة الحديبية مِنَ الْأَعْرابِ أي من بني غفار، وأسلم، وأشجع، وديل، وقوم من مزينة وجهينة فإنهم امتنعوا عن الخروج مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لظنهم أنه يهزم، فإنهم قالوا: أهل مكة يقاتلون في باب المدينة فكيف يذهب إلى قوم قد غزو في عقر داره بالمدينة، وقتلوا أصحابه في أحد، وكيف
يكون حالهم إذا دخل عدوهم بلادهم وأحاطوا بهم؟! فأوحى الله إليه صلّى الله عليه وسلّم بأنهم سيقولون: شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا أي النساء والذراري عن الخروج معك إلى الحديبية. وعن إجابتك في هذه المرة فإنا لو تركناهم لضاعوا لأنه لم يكن لنا من يقوم بمصالحهم وأنت قد نهيت عن ضياع المال، وعن التفريط في العيال فَاسْتَغْفِرْ لَنا الله، يا رسول الله بتأخرنا عنك إلى غزوة الحديبية، فكذبهم الله تعالى في الاعتذار والاستغفار بقوله: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ لهم يا أكرم الخلق عند اعتذارهم:
فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أي فمن يمنعكم من قضاء الله على شيء من النفع إن أراد بكم ما يضركم من هلاك الأهل والمال حتى تتخلفوا عن الخروج إلى الحديبية لحفظهما.
وقرأ حمزة والكسائي بضم الضاد والباقون بفتحها. أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً أي ومن يمنعكم من مشيئة الله على شيء من الضرر إن أراد بكم ما ينفعكم من حفظ أموالكم وأهليكم، فأيّ حاجة إلى التخلف عن الخروج لأجل حفظهما بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) ، أي ليس الأمر كما تقولون فإنكم أظهرتم أنكم تعتقدون أنهم بالتخلف مسيئون حتى استغفرتم بل كان الله عالما بأن ما في قلوبكم ليس حاجة في ذلك الاستغفار، لأنكم تعتقدون أنكم بالتخلف محسنون، وليس تخلفكم لخوف ضياع المال والأهل، بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً بل ظننتم أن لا يرجع من الحديبية إلى المدينة أبدا محمد وأصحابه- لأن المشركين تستأصلهم بالمرة- فخشيتم إن خرجتم معهم أن يصيبكم ما أصابهم، فلأجل ذلك تخلفتم لما في قلوبكم من عظمة المشركين، وحقارة المؤمنين حتى حملكم ذلك على أنكم قلتم ما هم في قريش إلّا أكلة رأس، وَزُيِّنَ ذلِكَ أي الظن فِي قُلُوبِكُمْ فمن ذلك تخلفتم وقلتم ما لا ينبغي.
وقرئ «زين» للفاعل وإسناده إلى الله تعالى، أو إلى الشيطان، أي فزين الشيطان ظنكم عندكم حتى قطعتم به، وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ كظن أن لا ينصر الله نبيه، وظن أن الرسول كاذب في قوله، وأن الله يخلف وعده وأن محمدا غير رسول، وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) ، أي هلكى عند الله تعالى بهذا الظن وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13) أي ومن لم يصدق بالله ورسوله فهو من الكافرين وإنا أعتدنا لهم نارا شديدة في التوقد، وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وما فيهما يتصرف في الكل كيفما يشاء، ومن عظم ملكه يكون أجره في غاية العظم وعذابه في غاية(2/426)
الألم، يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ أن يغفر له من المبايعين بيعة الرضوان وغيرهم، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ أن يعذبه من الظانين ظن السوء وغيرهم، وفي هذا حسم لأطماعهم الفارغة في استغفار النبي صلّى الله عليه وسلّم لهم.
وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14) أي مبالغ في المغفرة والرحمة لمن يشاء من المؤمنين سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها أي سيقول المتأخرون عن غزوة الحديبية عند انطلاقكم إلى مغانم خيبر لتغتنموها: ذَرُونا أي اتركونا نَتَّبِعْكُمْ إلى خيبر، وقد أوضح الله كذبهم بهذا حيث يقولون من تلقاء أنفسهم دعونا نشهد معكم في قتال أهل خيبر، فإذا كان أموالهم وأهلوهم شغلتهم يوم دعوتكم إياهم إلى أهل مكة فما بالهم لا يشتغلون بذلك يوم أخذ الغنيمة يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ.
وقرأ حمزة والكسائي «كلم الله» بفتح الكاف وكسر اللام، أي يريدون أن يغيروا وعد الله الّذي وعده لأهل الحديبية، فإن الله وعد أهل الحديبية فتح خيبر، وأن غنيمتها لهم خاصة من غاب منهم ومن حضر، ولم يغب عنها منهم غير جابر بن عبد الله، فقسم له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كسهم من حضر، فالله تعالى جعل غنائم خيبر لمن شهد الحديبية خاصة عوضا عن غنائم أهل مكة حيث رجعوا من الحديبية على صلح من غير قتال، ولم يصيبوا من الغنائم شيئا. وقيل: والمعنى يريدون أن يبدلوا كلام الله وهو قوله تعالى: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [الفتح: 6] وذلك لأنهم لو اتبعوكم لكانوا في حكم بيعة أهل الرضوان الموعودين بالغنيمة، فيكونون من الذين رضي الله عنهم فلا يكونون من الذين غضب الله عليهم، فيلزم تبديل كلام الله قُلْ يا أشرف الخلق لهم إقناطا لهم: لَنْ تَتَّبِعُونا أي لا تتبعونا في الخروج إلى خيبر كَذلِكُمْ أي مثل هذا القول الصادر منّي قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ أي من قبل مرجعنا إليكم، أي حكم الله عند انصرافنا من الحديبية بأن لا تتبعونا، وبأن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ليس لغيرهم منها نصيب فَسَيَقُولُونَ للمؤمنين عند سماع هذا النهي ليس ذلك النهي حكم الله بَلْ تَحْسُدُونَنا على أن نشارككم في الغنائم فقلتم: إن الله حكم بتخصيص أهل الحديبية بغنائم خيبر وبمنعنا منها بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) أي لا يفهمون إلا فهما قليلا وهو فطنتهم لأمور الدنيا، ولا يفهمون من قولك: لا تخرجوا إلى خيبر إلّا ظاهر النهي، ولم يفهموا من حكمه فحملوه على مرادهم وعللوه بالحسد، فإن حب الدنيا ليس من شيمة العالم العاقل. قُلْ يا أشرف الرسل- لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ أي أهل غلظ الأكباد: ديل، وأشجع، وقوم من مزينة وجهينة-: سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أي إلى قتال قوم أصحاب سلاح من آلة الحديد وقوة شديدة في القتال- وهم بنو حنيفة- هم تابعو مسيلمة الكذاب وغزاهم أبو بكر. وقال رافع بن خديج: كنّا نقرأ هذه الآية ولا نعلم من هم حتى دعانا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم أو هم هوازن وثقيف، غزاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم دعا المخلفين عام الحديبية إلى الحرب، فامتنعوا فقال: ستدعون إلى حرب قوم مسلحين محاربين فهم أكثر بأسا من يكون على خلاف ذلك، تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ أي إن أحد الأمرين يقع إما المقاتلة أبدا، أو سلام لا غير.(2/427)
وقرئ «أو يسلموا» بالنصب بإضمار «أن» على معنى تقاتلونهم إلى أن يسلموا. فَإِنْ تُطِيعُوا أي توافقوا الداعي على القتال يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً أي يعطكم الله الغنيمة في الدنيا والجنة في الآخرة، وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ أي وإن تعرضوا عن إجابة الدعوة إلى قتال المرتدين كمسيلمة أو المشركين كهوازن كما أعرضتم عن غزوة الحديبية من قبل هذا الوقت بناء على الظن الفاسد يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16) لتضاعف جرمكم، ثم جاء أهل الزمانة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله قد أوعد الله بعذاب أليم لمن يتخلف عن الغزو، فكيف لنا ونحن لا نقدر على الخروج إلى الغزو؟! فأنزل الله فيهم قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ أي ليس على من في عضوه أو قوته خلّل مأثم في التخلف عن الغزو، وكذا فقير لا يمكن من استصحاب ما يحتاج إليه من مصالح الجهاد، وإنما قدّم الأعمى على الأعرج، لأن عذره مستمر لا يمكن الانتفاع به في حراسة وغيرها ولا يعود بصيرا أما الأعرج فإنه يمكن الانتفاع به في الحراسة ونحوها وقد يقدر على القتال بالرمي وغيره، وقدّم الأعرج على المريض لأن عذره أشد من المريض لإمكان زوال المرض عن قرب، فالعذر في محل الآلة أتم من الآفة في القوة. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في الأوامر والنواهي من المعذورين وغيرهم يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فطاعة الله تعالى في طاعة رسوله وكلامه تعالى يسمع من رسوله، وَمَنْ يَتَوَلَّ عن الطاعة بقلبه يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17) . وقرأ نافع وابن عامر «ندخله» ، و «نعذبه» بالنون فيهما. والباقون بالياء التحتية، لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ.
روي أنه صلّى الله عليه وسلّم لما نزل الحديبية بعث خراش بن أمية الخزاعي إلى أهل مكة، وحمله على جمله صلّى الله عليه وسلّم ليبلغ أشرافهم أنه صلّى الله عليه وسلّم جاء معتمرا ولم يجيء محاربا، فعقروا جمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأرادوا قتله. فمنعهم الأحابيش، فخلوا سبيله، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عثمان بن عفان، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يأت لحرب، وإنما جاء زائر لهذا البيت معظما لحرمته، فوقروه وقالوا: إن شئت أن تطوف بالبيت فافعل فقال: ما كنت لأطوف قبل أن يطوف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واحتسبته قريش عندها، فبلغ رسول الله والمسلمين أن عثمان قد قتل فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا نبرح حتى نناجز القوم» . أي نقاتلهم، ودعا الناس إلى البيعة فبايعوه تحت الشجرة على أن يقاتلوا قريشا، ولا يفروا، ووضع النبي صلّى الله عليه وسلّم شماله في يمينه فقال: «هذه بيعة عثمان» وقد علم بنور النبوة أن عثمان لم يقتل حتى بايع عنه فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أنتم اليوم خير أهل الأرض»
«1» وكانوا ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين، ولما سمع المشركون بهذه البيعة خافوا،
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه 3: 257، وأبو داود في كتاب الجهاد، باب: 167، وأحمد في (م 4/ ص 331) ، والبيهقي في السنن الكبرى (5: 215) ، والبيهقي في دلائل النبوة (4: 106) ، ابن حجر في
الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف 153، وابن الجارود في المنتقى 505، -(2/428)
وبعثوا بعثمان وجماعة من المسلمين، وكانوا عشرة دخلوا مكة بإذنه صلّى الله عليه وسلّم فَعَلِمَ. الله ما فِي قُلُوبِهِمْ من الإخلاص عند مبايعتهم له صلّى الله عليه وسلّم كما علم ما في قلوب المنافقين من المرض. وهذا معطوف على يبايعونك، لأن رضاه تعالى عنهم كان عند المبايعة التي كان معها علم الله بصدقهم لا عند المبايعة فقط، فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وهذا معطوف على «رضي» أي فأنزل عليهم سكون النفس بالربط على قلوبهم، وقد جعل الله تعالى طاعة الله والرسول علامة لإدخال الله تعالى الجنة، وبيّن أن تلك الطاعة وجدت من أهل بيعة الرضوان، وأشار إلى طاعة الله بقوله لقد رضي الله عن المؤمنين وإلى طاعة الرسول بقوله: إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وأشار إلى الموعود به- وهو إدخال الجنة- بقوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ لأن الرضا يكون معه إدخال الجنة، وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) أي وجزاهم على الطاعة فتح خيبر عقب انصرافهم من الحديبية في ذي الحجة، فأقام صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة بقيته، وبعض المحرم، ثم خرج إلى خيبر في بقية المحرم سنة سبع.
وقال السدي: هو فتح مكة. وقرئ و «آتاهم» بالمد، أي أعطاهم. وَمَغانِمَ كَثِيرَةً من خيبر- وهي أرض ذات عقار وأموال- يَأْخُذُونَها.
وقرأ الأعمش وطلحة ونافع بالتاء على طريق الالتفات إلى الخطاب لتشريفهم في مقام الامتنان. وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً أي غالبا غنيا عن إعانتكم إياه حَكِيماً (19) حيث جعل هلاك أعدائه على أيديكم ليثيبكم عليه، فإنه تعالى يذل من يشاء بعزته، ويعز من يشاء بحكمته وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً من بلدان شتى لا تدخل تحت حصر فيما يأتي إلى يوم القيامة، تَأْخُذُونَها والخطاب لأهل الحديبية، فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ أي غنائم خيبر فليست كل الثواب بل الجزاء قدامكم، وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ أي كف الله أيدي بني أسد وغطفان، وهم حلفاء أهل خيبر عنكم حيث جاءوا لنصرتهم، فقذف الله في قلوبهم الرعب فنكصوا عن عيالكم لما خرجتم إلى خيبر، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قصد خيبر وحاصر أهلها، همت قبائل من بني أسد وغطفان أن يغيروا على عيال المسلمين وذراريهم بالمدينة، فكف الله تعالى أيديهم بإلقاء الرعب في قلوبهم، فنكصوا.
وقال قتادة: كف أيدي يهود خيبر عن المدينة بعد خروج النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الحديبية، أما كف أيدي أهل مكة بالحديبية فمذكور بقوله تعالى وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ إلخ. وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وهذا معطوف على مفهوم «فعجل لكم هذه» ف «اللام» يدل على النفع كما أن «على» يدل على الضر، أي فجعل الله هذه الغنائم وفتح خيبر لتنفعكم، ولتكون أمارة يعرف المؤمنون بها صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم في وعده إياهم عند رجوعه من الحديبية ما ذكر من المغانم،
__________
- وعبد الرزاق في المصنف 9720، والألباني في إرواء الغليل (1: 58) ، وابن حجر في فتح الباري (4: 10) ، والبغوي في شرح السنة (1: 177) ، والسيوطي في الدر المنثور (6: 77) ، والطبري في التفسير (26: 63) ، وابن كثير في التفسير (7: 334) ، وابن كثير في البداية والنهاية (4: 176) .(2/429)
وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
وفتح مكة أي لتنفعكم في الظاهر وتنفعكم في الباطن حيث يزداد يقينكم إذا رأيتم صدق الرسول في أخباره عن الغيوب، فيكمل اعتقادكم أي عجل الله فتح خيبر ليكون ذلك الفتح، وهو عزيمة أهل خيبر وسلامتكم عبرة للمؤمنين، لأنكم كنتم ثمانية آلاف، وإن أهل خيبر كانوا سبعين ألفا، وكف أيدي الناس عنكم وعن عيالكم ليكون ذلك الكف علامة للمؤمنين، فيعلموا أن الله يحرسهم في مشهدهم ومغيبهم، وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20) أي طريق التوكل عليه تعالى والثقة بفضله تعالى في كل ما تأتون وما تذرون،
وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها. وقوله: وَأُخْرى إما مبتدأ «ولم تقدروا» صفته، وقد أحاط الله خبره أي وغنيمة أخرى لم تقدروا عليها قد أعدها الله لكم فأنتم وإن لم تقدروا عليها في الحال، فهي محبوسة عليكم لا تفوتكم وهي مغانم هوازن في غزوة حنين، وإما معطوف على مغانم كثيرة، فكأنه تعالى قال: وعدكم الله مغانم تأخذونها ومغانم لا تأخذونها أنتم ولا تقدرون عليها، وإنما يأخذها من يجيء بعدكم من المؤمنين قد حفظها الله لهم لا يجري عليها هلاك إلى أن يأخذها المسلمون كإحاطة الحراس بالخزائن وهي غنائم فارس والروم، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21) ، لأن قدرته تعالى ذاتية لا تختص بشيء دون شيء وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ أي ولو اجتمع بنو أسد وغطفان مع أهل خيبر كما زعموا، وقاتلوكم لانهزموا ولا ينصرون بل إنما الغلبة واقعة للمسلمين، فليس أمرهم أمرا اتفاقيا بل هو أمر إلهي محتوم، ثُمَّ بعد انهزامهم لا يَجِدُونَ وَلِيًّا ينفع باللطف وَلا نَصِيراً (22) يدفع بالعنف، بل الهلاك لا حق بهم بعد الانهزام، سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ أي سن الله غلبة أنبيائه سنة قديمة فيمن مضى من الأمم حين خرجوا على الأنبياء، وَلَنْ تَجِدَ أيها السامع لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) أي إن الله فاعل مختار يفعل ما يشاء ويقدر على إهلاك أحبائه من الأنبياء. ولكن لا يغير عادته وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ أي أيدي كفار مكة عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ أي في داخل الحرم وهو الحديبية غير أن كان فيها رمى بالحجارة بين الفريقين مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ أي أن غلبكم عليهم، وذلك أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة إلى الحديبية، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد على جند، فهزمهم حتى أدخلهم حيطان مكة، ثم عاد.
وروى الترمذي وثابت عن أنس بن مالك: أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على النبي صلّى الله عليه وسلّم من جبل التنعيم ليقتلوه، فأخذهم سلمان، فاستحياهم، فنزلت هذه الآية. وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24) وقرأ أبو عمرو بالياء التحتية أي بما يعمل الكفار. والباقون بالتاء الفوقية أي بما تعلمون أنتم فإن الله يرى فيما تعملون من المصلحة. وإن كنتم لا ترون ذلك هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي عن وصولكم إلى البيت الحرام عام الحديبية، وَالْهَدْيَ أي وصدوا الهدي الذي ساقه النبي وأصحابه. وقرأ أبو عمرو وفي رواية بالجر عطفا على المسجد بحذف المضاف، أي وعن نحر الهدي. وقرئ بالرفع بفعل مقدر مبني للمجهول، أي وصد الهدى.
وروي عن أبي عمر وعاصم وغيرهما كسر الدال وتشديد الياء مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ فقوله:(2/430)
أَنْ يَبْلُغَ إما في محل رفع على أنه نائب الفاعل، أي ممنوعا بلوغ الهدي محل نحره المعتاد- وهو منى- وإما في محل جر على إسقاط الجار أي ممنوعا من أن يبلغ منحره، فإن الكفار لم يتركوا المسلمين أن يبلغوا الهدي محله الذي يعتاده الناس بذبحه فيه، وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ وقوله: أَنْ تَطَؤُهُمْ بدل من «رجال» و «نساء» وجواب «لولا» محذوف أي لولا إهلاك أناس مؤمنين في مكة- كالوليد وسلمة بن هشام، وعياش بن ربيعة، وأبي جندل- غير معروفين لكم فأصابه إثم إياكم من جهتهم من غير أن تعلموا أنهم مؤمنون مانع، لما كف الله أيديكم عن كفار مكة، ولسلطكم عليهم بالقتل عام الحديبية فإنكم إن قتلتم المؤمنين لزمتكم الكفارة، وهو دليل الإثم بتقصيركم في عدم تمييز المسلم من الكافر ولزمكم تعيير الكفار لكم بأنكم فعلتم بإخوانكم ما فعلتم بأعدائكم لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ أي هم الذين كفروا، الذين استحقوا التعجيل في إهلاكهم، ولولا مؤمنون مختلطون بهم لعجل الله بهم، ولكن كف الله أيديكم عنهم لكي يكرم الله المؤمنين بزيادة الخير والطاعة لله تعالى والمشركين بدخولهم في دين الإسلام، أي ليخرج المؤمنون من مكة ويهاجروا إلى المدينة، وليؤمن من المشركين من علم الله أنه يؤمن في تلك السنة، لأنهم إذا شاهدوا رحمة الله في شأن طائفة من المؤمنين بأن منع الله من تعذيب أعداء الدين بعد الظفر بهم لأجل اختلاطهم بهم رغبوا في مثل هذا الدين، لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25) أي لو تميز المؤمنون عن الكفرة وخرجوا من عندهم لعذبنا كفار مكة بتسليط المؤمنين عليهم بقتلهم، وبسبي ذراريهم. إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ ف «إذ» ظرف ل «عذبنا» أي لعذبناهم حين جعلوا في قلوبهم التكبر، تكبر الملة الجاهلية وهو منعهم رسول الله وأصحابه عن البيت الّذي الناس فيه سواء. وقالوا: إن المسلمين قتلوا أبناءنا وإخواننا، ثم دخلوا علينا على إهانتهم إيانا، واللات والعزى لا يدخلون مكة، فهذا تكبر الجاهلية التي دخلت في قلوبهم، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وهذا عطف على «جعل» والمراد: تذكير حسن صنيع الرسول
والمؤمنين، وسوء صنيع الكفرة.
وروي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما نزل الحديبية بعثت قريش سهيل بن عمرو القرشي، وحويطب بن عبد العزى، ومكرز بن حفص بن الأحنف على أن يعرضوا على النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يرجع من عامه ذلك على أن تخلي له قريش مكة من العام القابل ثلاثة أيام، وعلى وضع الحرب عشر سنين.
وقال البراء: صالحوهم على ثلاثة أشياء على أن من أتاهم من المشركين إلى المدينة مسلما ردوهم إليهم، ومن أتاهم من المسلمين إلى مكة لم يردوه إلى المدينة، وعلى أن يدخل النبي صلّى الله عليه وسلّم مكة من عام قابل، ويقيم فيها ثلاثة أيام، وعلى أن يدخلها بسلاح. فقال صلّى الله عليه وسلّم لعلي رضي الله عنه «اكتب، بسم الله الرحمن الرحيم» . فقالوا: ما نعرف هذا! اكتب باسمك اللهم. ثم قال صلّى الله عليه وسلّم:
«اكتب، هذا ما صالح عليه محمد رسول الله أهل مكة» . فقالوا: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما(2/431)
صددناك عن البيت، وما قاتلناك، اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة. فقال صلّى الله عليه وسلّم:
«اكتب ما يريدون» . فهمّ المؤمنون أن يبطشوا بهم، وكان في نفس المؤمنين أن لا يرجعوا إلّا بأحد الثلاثة بالنحر في المنحر، وأبوا أن لا يكتبوا محمدا رسول الله، وبسم الله، فأنزل الله السكينة عليهم، فلمّا سكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سكن المؤمنون، فلمّا فرغ من قضية الكتاب قال صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «قوموا فانحروا ثم احلقوا» «1» . فما قام منهم أحد حتى قال ذلك ثلاث مرات لما حصل لهم من الغم.
فقام صلّى الله عليه وسلّم ودخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس من عدم امتثال أمره صلّى الله عليه وسلّم فقالت له: يا نبي الله اخرج ولا تكلّم أحدا منهم حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج، ففعل ذلك، فلما رأوا ذلك منه صلّى الله عليه وسلّم قاموا، فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا
، وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى أي ألهم الله المؤمنين كلمة الشهادة وهي: «لا إله إلّا الله» حتى لا يلتفتوا إلى ما سوى الله تعالى، وَكانُوا أَحَقَّ بِها أي كانوا أحق بكلمة التوحيد في علم الله تعالى، وَأَهْلَها أي وكانوا متصفين بكلمة التقوى في الدنيا، لأن الله تعالى اختارهم لصحبة نبيه، وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26) فيسوق كل شيء إلى مستحقه، لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ أي لقد جعل الله رؤيا رسوله صادقة صدقا، ولم يجعلها أضغاث أحلام. وقوله: بِالْحَقِّ إما صفة لمصدر محذوف أي صدقا، ملتبسا بالحكمة البالغة وهي التمييز بين الراسخ في الإيمان والمتزلزل فيه، أو حال من «الرؤيا» ، أي ملتبسة بالصدق ليست من نوع أضغاث الأحلام حيث قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه وقت خروجه إلى الحديبية: والله لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ تعالى آمِنِينَ من العدو، فلا تخافون عدوكم من أن يخرجكم في المستقبل مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ. فقوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ إشارة إلى أداء الحج، ومُحَلِّقِينَ إشارة إلى تمام الحج لا تَخافُونَ من العدو فيبقى أمنكم بعد خروجكم عن الإحرام، لأن الإنسان إذا خرج عن الإحرام بالحلق لا يحرم عليه القتال، وكان عند أهل مكة يحرم قتال من أحرم ومن دخل الحرم، أي رأى عام الحديبية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل خروجه إلى الحديبية كأنه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين، وقد حلقوا رؤوسهم وقصروا فقصّ الرؤيا على أصحابه، ففرحوا، وحسبوا أنهم دخلوا مكة في عامهم، فلمّا خرجوا معه صلّى الله عليه وسلّم وصدّهم الكفار
__________
(1) رواه أبو نعيم في تاريخ أصفهان، والشجري في الأمالي (1: 205) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (5: 204) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (2139) ، وابن ماجة في السنن (1333) ، والسيوطي في الحاوي للفتاوي (2: 48) ، وابن كثير في التفسير (7: 342) ، والقرطبي في التفسير (16: 293) ، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (1: 341) ، والعقيلي في الضعفاء (1: 176) ، وابن العراقي في تنزيه الشريعة (2: 106) ، والعجلوني في كشف الخفا (2: 378) ، وعلي القاري في الأسرار المرفوعة 357، والفتني في تذكرة الموضوعات 48، والشوكاني في الفوائد المجموعة 35، والسيوطي في اللئالئ المصنوعة (2: 17) ، وابن الجوزي في الموضوعات (2: 109) ، وابن القيسراني في تذكرة الموضوعات 876.(2/432)
بالحديبية ورجعوا، وشق عليهم ذلك قال عبد الله بن أبي، وعبد الله بن نفيل، ورفاعة بن الحرث:
والله ما حلقنا، ولا قصّرنا، ولا رأينا المسجد الحرام فنزلت هذه الآية. فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا أي فعلم الله ما لم تعلموا في الصلح في الحديبية من المصلحة المتجددة، فإن دخولكم في سنتكم سبب لهلاك المؤمنين والمؤمنات فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) أي فجعل الله من قبل ذلك الدخول في مكة، أو جعل الله في المنع عن الوصول إلى مكة، أو جعل الله لأجل صالح الحديبية فتحا سريعا- وهو فتح خيبر- فيقويكم به فإنه كان سببا لإسلام ناس كثيرة تقوى بهم المسلمون فتكون تلك الكثرة سببا لهيبة الكفار، ولمنعهم من قتال المسلمين حين رجعوا إلى مكة في العام القابل، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى أي بالقرآن وَدِينِ الْحَقِّ أي وبدين الإسلام لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أي ليعلي الله أو رسوله الدين الحق على كل الأديان بنسخ بعض الأحكام وبإظهار بطلان الباطل، وبتسليط المسلمين على أهل الباطل وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) على نبوة رسوله بإظهار المعجزات. مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ف «محمد» خبر مبتدأ محذوف، أي هو، أي الرسول المرسل بذلك محمد، و «رسول الله» عطف بيان، أو هو مبتدأ و «رسول الله» نعت له مفيد للمدح والموصول بعده عطف عليه، وخبره «أشداء» ، و «رحماء» ، و «تراهم» ، وعلى هذا فلا يحسن الوقف على رسول الله بل على «بينهم» بخلاف الإعراب الأول، فالوقف على «رسول الله» حسن كما إذا جعل خبرا ل «محمد» . وَالَّذِينَ مَعَهُ، أي الذين قاموا معه يدعون الكفار إلى دين الله أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ أي هم يظهرون الصلابة لمن خالف دينهم، والرأفة لمن وافقهم في الدين، فإنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تمس ثياب الكفار، ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم، ولا يرى مؤمن مؤمنا إلّا صافحه وعانقه.
وقرئ «أشداء» و «رحماء» بالنصب على المدح، أو على الحال، فالخبر حينئذ قوله تعالى:
تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً أي تشاهدهم أيها السامع حال كونهم راكعين ساجدين في الصلاة يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً أي يطلبون من الله ثوابا ورضا لتمييز ركوعهم وسجودهم عن ركوع الكفار، وسجودهم، وعن ركوع المرائين وسجودهم. سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ أي علامة سهرهم كائنة في وجوههم كائنة من أثر كثرة السجود بالليل ف «في وجوههم» خبر و «من أثر» حال.
وقرئ «سيمياؤهم» بالياء بعد الميم وبالمد. وقرئ من «آثار السجود» بمد الهمزة والثاء. وقرئ من «إثر السجود» بكسر الهمزة
قال صلّى الله عليه وسلّم: «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار»
«1» . أي وهذا محقق لمن يعقل ويفرق بين الساهر في الشرب واللعب، والساهر في الذكر واستفادة العلم، ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ ف «ذلك» مبتدأ و «مثلهم» خبره، و «في التوراة» حال من «مثلهم» والعامل معنى الإشارة، والوقف هنا تام، أي ذلك المذكور من أنهم أشداء على الكفار إلخ صفتهم
__________
(1) رواه السيوطي في الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة 36.(2/433)
في التوراة وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ و «مثلهم» مبتدأ، وخبره «كزرع» ، فهذان مثلان كما ذهب إليه ابن عباس أي وصفتهم الكائنة في الإنجيل كزرع، أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ، أي مثل زرع أخرج فراخه، فقوى الفراخ بكثافتها الزرع، فَاسْتَغْلَظَ أي فصار الزرع غليظا بعد ما كان دقيقا، فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ أي فاستقام الزرع على قصبه، يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ. وهذا مثل صربه الله تعالى لأصحابه صلّى الله عليه وسلّم في الإنجيل أنهم قلّوا في بدء الإسلام، ثم كثروا فترقى أمرهم يوما فيوما بحيث أعجب الناس.
قيل: مكتوب في الإنجيل سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ. وقال بعضهم: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أبو
بكر الصديق، فإنه أول من آمن به. أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ: عمر بن الخطاب. رُحَماءُ بَيْنَهُمْ: عثمان بن عفان. تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً: علي بن أبي طالب. يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ: بقية المبشرين بالجنة: طلحة، والزبير، وسعد، وسعيد، وأبو عبيدة، وعبد الرحمن. سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ. سلمان وبلال وصهيب وأصحابهم. كَزَرْعٍ: محمد. أَخْرَجَ شَطْأَهُ: أبا بكر.
فَآزَرَهُ: عمر فَاسْتَغْلَظَ عثمان بالإسلام فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ: علي بن أبي طالب أي استقام الإسلام بسيفه يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ أي المؤمنين لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ أي بقول عمر لأهل مكة بعد ما أسلم: لا يعبد الله سرا بعد اليوم.
روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أرحم أمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم علي، وأفرضهم زيد، وأقرؤهم أبيّ، وأعلمهم بالحرام والحلال معاذ بن جبل، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح»
. ويقال: نزلت الآية من قوله تعالى:
وَالَّذِينَ مَعَهُ إلى هاهنا في مدحة أهل بيعة الرضوان، وبعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم المخلصين لله وقوله تعالى: لِيَغِيظَ تعليل لمحذوف دل عليه تشبيههم بالزرع، كأنه قيل: إنما قوّاهم الله تعالى وكثّرهم ليغيظ بهم الكفار، أو تعليل لوعد الله الذين آمنوا إلخ، لأن الكفار إذا سمعوا بعزة المؤمنين في الدنيا، وبما أعد لهم في الآخرة غاظهم ذلك أشد غيظ، أو تعليل محذوف دلّ عليه قوله تعالى: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ إلخ أي جعلهم الله تعالى بهذه الصفات الجليلة ليغيظ بهم الكفار. وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29) وضمير «منهم» راجع للصحابة ف «من» لبيان الجنس، كلهم بتلك النعوت الجليلة أو للكفار ف «من» للتبعيض.(2/434)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
سورة الحجرات
مدنية، هي ثمان عشرة آية وثلاثمائة وثلاث وأربعون كلمة، ألف وأربعمائة وستة وسبعون حرفا
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وقرأ العامة بضم التاء وفتح القاف، وتشديد الدال المكسورة، أي لا تقدموا أنفسكم في حضرة النبي صلّى الله عليه وسلّم، أي لا تجعلوا لأنفسكم تقدما في الرأي عنده صلّى الله عليه وسلّم وذكر لفظ الله تعظيما للرسول، وإشعارا بأنه عند الله في منزلة عظيمة توجب إجلاله. وقرأ ابن عباس والضحاك «لا تقدموا» بالفتح في الأحرف الثلاثة. وقرئ «لا تقدموا» بضم التاء وكسر الدال، أي لا تقدموا على شيء من أمور الدين بغير إذن الله ورسوله، وَاتَّقُوا اللَّهَ في كل ما تأتون وما تذرون من الأقوال والأفعال، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ (1) بأفعالكم.
نزلت هذه الآية في ثلاثة نفر من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم قتلوا رجلين من بني سليم في صلح النبي صلّى الله عليه وسلّم، بغير أمره، فنهاهم الله تعالى وقال: لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي لا تجرؤوا على إتيان أمر من غير إذن من له الإذن وَاتَّقُوا اللَّهَ في مخالفة الحكم المنهي عنه إن الله سميع لمقالة الرجلين، عليم بما اقترفا، وكان قولهم: لو كان هكذا لكان كذا. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس بن شماس، يرفع صوته عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قدم وفد بني تميم، فنهاه الله عن ذلك فقال: يا أيها الذين آمنوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ، فإن رفع الصوت دليل قلّة الاحتشام وترك الاحترام، وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ، أي لا تجهروا له كما تجهرون لأقرانكم بل اجعلوا كلمته عليا، ولا تكثروا الكلام عنده، وقلّلوا غاية التقليل، فلا تخاطبوه صلّى الله عليه وسلّم كما تخاطبون غيره، أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ أي خشية حبوط أعمالكم. فقوله تعالى:
لا تَرْفَعُوا إلخ نهي عن زيادة صوتهم على صوت الرسول وقوله تعالى ولا تجهروا ألخ نهى عن مساواة صوتهم لصوته وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) بحبوط الأعمال إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أي يخفضونها عنده مراعاة للأدب، أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى أي الذين امتحن الله قلوبهم ليعلم منها التقوى، فإن من يعظم واحدا من أبناء جنسه لكونه رسولا مرسلا يكون تعظيمه للمرسل أعظم، وخوفه منه أقوى، فالاختبار بالمحن والتكاليف الشاقة سبب(2/435)
لظهور التقوى، ويقال: أولئك الذين أخلص الله قلوبهم للتوحيد، وصفاها من المعصية، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) .
قيل: لما جرى الكلام بين أبي بكر وعمر في تأمير القعقاع بن معبد، أو الأقرع بن حابس على وفد بني تميم نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الآية، ولما رفعا أصواتهما في تلك القضية نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ الآية، ولما خفضا أصواتهما بعد ذلك نزل إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ الآية، ولما دخل أعراب بني تميم المسجد ونادوا النبي صلّى الله عليه وسلّم من وراء الحجرات أن اخرج إلينا فإن مدحنا زين وذمنا شين، وكانوا سبعين رجلا قدموا لفداء ذراري لهم، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم نام للقائلة نزل: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ الآيتين.
وقال ابن عباس: بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم سرية إلى قوم من بني عنبر، جماعة من خزاعة، وأمر عليهم عينة بن حصن الفزاري، فسار إليهم، فلما بلغهم أنه خرج إليهم، فروا، وتركوا عيالهم وأموالهم فسبى ذراريهم، وجاء بهم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فجاءوا ليفادوا ذراريهم، فدخلوا المدينة عند القيلولة، فنادوا النبي صلّى الله عليه وسلّم: يا محمد اخرج إلينا، وكان نائما، حتى أيقظوه من نومه، فخرج إليهم، فقالوا: يا محمد، فادنا عيالنا، فنزل جبريل عليه السلام فقال: إن الله تعالى يأمرك أن تجعل بينك وبينهم رجلا، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أترضون أن يكون بيني وبينكم شبرمة بن عمرو وهو على دينكم» . فقالوا: نعم. فقال شبرمة: أنا لا أحكم وعمي عمرو شاهد- وهو الأعور ابن بسامة- فرضوا به. فقال الأعور: أرى أن تفادي نصفهم وتعتق نصفهم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قد رضيت» ففادى نصفهم، وأعتق نصفهم، ولو صبروا لأعتق جميعهم بغير فداء، فأنزل الله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) أي إن الذين يدعونك من خلف حجرات، نسائك كلهم لا يعقلون، إذ لو كان لهم عقل، لما تحاسروا على سوء الأدب، فكان لكل امرأة من نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حجرة، ومناداتها من خارج الحجرات إما بأنهم أتوها حجرة حجرة فنادوه صلّى الله عليه وسلّم من خارجها، أو بأنهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له، فنادى كل واحد على حجرة وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ ولو ثبت صبرهم، وانتظارهم إلى الصلاة حتى تخرج إليهم، لكان الصبر حسنا لهم وخيرا من استعجالهم إيقاظك في الهاجرة، ومما لو قرعوا الباب بالأظافر كما كان يفعل غيرهم من الصحابة، ولو راعوا حسن الأدب، وتعظيم الرسول لزادهم في الفضل، فأطلق ذراريهم ونساءهم كلهم بلا فداء، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) لهؤلاء إن تابوا وأصلحوا. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا نزلت هذه الآية في الوليد بن عقبة أخي عثمان لأمه، بعثه النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى بني المصطلق ليجيء بصدقاتهم، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، فلما سمعوا به تلقوه تعظيما لأمر رسول(2/436)
الله صلّى الله عليه وسلّم، فجاء من الطريق إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: إنهم منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي، فغضب الرسول، فأراد هو أن يغزوهم، فنهاه الله عن ذلك فقال: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بخبر فتفحصوا. وقرئ فتثبتوا، أي قفوا حتى يتبين لكم ما جاء به من صدقه أو كذبه أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ أي حذر أن تصيبوا قوما بالقتل والسبي ملتبسين بجهالة حالهم، فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) أي فتصيروا بعد ظهور براءتهم عما نسب إليهم نادمين على ما فعلتم في حقهم في إصابتهم بالقتل وغيره. وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ هو مرشد لكم فارجعوا إليه، واعتمدوا على قوله لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ، أي لو يتبعكم رسول الله في كثير من الحوادث لوقعتم في شدة وهلاك، وقد يوافق الناس ويفعل بمقتضى مصلحتهم تحقيقا لفائدة قوله تعالى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران، الآية: 159] وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ أي بيّنه وقربه إليكم، وأدخله في قلوبكم، وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ بالبرهان اليقيني بحيث لا تفارقونه، ولا يخرج من قلوبكم وَكَرَّهَ
إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ
. وهذه الثلاثة في مقابلة الإيمان الكامل فإنه يجمع التصديق بالجنان والإقرار باللسان، والعمل بالأركان، فالكفر هو التكذيب بالجنان، والفسوق هو كذب اللسان- كما قاله ابن عباس- فقد قال تعالى: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فسمى من كذب فاسقا، والعصيان هو ترك الأمر، أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) أي الموافقون للرشد يأخذون ما يأتيهم الله وينتهون عما ينهاهم، فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً مفعول من أجله منصوب ب حبّب، و «كره» أو ب الراشدون» وَاللَّهُ عَلِيمٌ بما في خزائن رحمته من الخير، وكانت النعمة هو ما يدفع به حاجة العبد، حَكِيمٌ (8) ينزل الخير بقدر ما يشاء على وفق الحكمة، وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما.
قيل: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق وأصحابه، وعبد الله بن رواحة المخلص وأصحابه، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ركب حمارا ومرّ على ابن أبيّ وكان من الخزرج، فبال الحمار، فسد ابن أبي أنفه وقال: إليك عني والله لقد آذاني نتن حمارك، وذلك قبل أن يسلم بالظاهر. فقال ابن رواحة: وكان من الأوس لبول حماره صلّى الله عليه وسلّم أطيب ريحا من مسك، فكان بين قومهما وهما الأوس والخزرج ضرب بالأيدي والنعال والسيف.
وعن قتادة نزلت في رجلين من الأنصار كان بينهما مدارأة في حق فقال أحدهما للآخر:
لآخذن حقي منك عنوة، وطلب الآخر منه أن يحاكمه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأبى أن يتبعه، فلم يزل الأمر بينهما حتى تدافعوا، وتناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال، ولم يكن قتال بالسيوف.
وعن سفيان عن السدي قال: كانت امرأة من الأنصار يقال لها: أم زيد تحت رجل وكان بينها وبين زوجها شيء فرقى بها إلى علية وحبسها، فبلغ ذلك قومها فجاءوا وجاء قومه واقتتلوا بالأيدي والنعال، فنزلت هذه الآية، أي وإن تقاتل فرقتان من المؤمنين فأصلحوا بينهما بالنصح(2/437)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
والدعاء إلى حكم الله تعالى فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما أي ظلمت عَلَى الْأُخْرى بأن أبت الإجابة إلى حكم كتاب الله تعالى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي أي تظلم حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ أي حتى ترجع تلك الطائفة التي لم تقبل النصيحة إلى الصلح، وهو مأمور به فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ، أي فإن رجعت إلى الصلح حذرا من قتالكم فاحكموا بينهما بعد تركهما القتال بالحق، ولا تكتفوا بمجرد متاركتهما، عسى أن يكون بينهما قتال في وقت آخر، وَأَقْسِطُوا أي واعدلوا في كل أمر، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) أي العادلين في كل ما يأتون، وما يذرون فيفضي إلى أشرف درجة وأرفع منزلة، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ في الدين فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وإن لم تكن الفتنة عامة، وإن لم يكن الأمر عظيما كالقتال، بل لو كان بين رجلين من المسلمين أدنى اختلاف، فاسعوا في الإصلاح.
وقيل المراد بالأخوين: الأوس والخزرج. وقرئ بين «إخوتكم وأخواتكم» . وَاتَّقُوا اللَّهَ بالصون عن التشاجر، فإن من اتقى الله شغله تقواه عن الاشتغال بغيره.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «المسلم من سلم الناس من لسانه ويده»
«1» .
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «المؤمن من يأمن جاره بوائقه»
. لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) على تقواكم.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ أي رجال منكم مِنْ قَوْمٍ آخرين منكم.
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس بن شماس، حيث ذكر رجلا من الأنصار بسوء ذكر أم رجل كانت في الجاهلية.
وقال الضحاك: نزلت في وفد تميم كانوا يستهزئون بفقراء أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم مثل: عمار وخبيب، وابن فهيرة، وبلال، وصهيب، وسلمان، وسالم مولى أبي حذيفة لما رأوا من رثاثة حالهم، ومعنى الآية: لا تحتقروا إخوانكم ولا تستصغروهم عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ تعليل للنهي، أي عسى أن يكون المسخور منهم خيرا عند الله تعالى من الساخرين، وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ.
روي عن أنس أن هذه الآية نزلت في نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، عيرن أم سلمة بالقصر. وروى عكرمة عن ابن عباس أنها نزلت في صفية بنت حيي بن أخطب قالت لها بعض نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم:
يهودية بنت يهودي فنهاهنّ الله عن ذلك وقال: وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ أي ولا تسخر نساء من المؤمنات من نساء منهن عَسى أَنْ يَكُنَّ أي المسخور منهن خَيْراً مِنْهُنَّ أي من الساخرات عند
__________
(1) رواه أحمد في (م 2/ ص 224) ، والهيثمي في موارد الظمآن 25، والهيثمي في مجمع الزوائد (3: 268) ، وابن حجر في فتح الباري (1: 54) ، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (2: 78) .(2/438)
الله وأفضل نصيبا، وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ، أي ولا يعب بعضكم بإشارة أو نحوها، فصرتم عائبين من وجه معيبين من وجه وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ، أي ولا يدع بعضكم بعضا بلقب السوء بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ أي بئس الذكر المرتفع للمؤمنين أن يذكروا بالفسق بعد دخولهم في الإيمان واشتهارهم به. ويقال: هذا إتمام للزجر، ويصير التقدير: بئس الفسوق بعد الإيمان، وبئس أن تسموا بالفاسق بسبب السخر واللمز والتنابز بعد ما سميتم مؤمنين. وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) أي ومن يجعل ذلك عادة، ولم يتركه، ولم يتب عما مضى فهو ظالم. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ فيجب الاحتياط والتأمل في كل ظن حتى يعلم أنه من أي نوع، فإن من الظن ما يجب اتباعه، كالظن فيما لا قاطع فيه من العمليات، وظن الخير من الله تعالى،
ففي الحديث القدسي «أنا عند ظن عبدي بي فلا يظن بي إلّا خيرا»
، وظن الخير في المؤمن، كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ظنوا بالمؤمن خيرا»
ومنه ما يحرم كالظن في الإلهيات والنبوات، وظن السوء بالمؤمن، ومنه ما يباح كالظن في الأمور المعاشية. إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ أي ذنب يستحق العقوبة وَلا تَجَسَّسُوا أي ولا تبحثوا عن عورات المسلمين. والمعنى: ولا تتبعوا الظن ولا تجتهدوا في طلب اليقين في معايب الناس، وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي لا يذكر بعضكم بعضا بالسوء في غيبته. أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً.
وقرأ نافع بتشديد الياء وهو حال من «اللحم» ، أو من «الأخ» ، فالاغتياب كأكل لحم الآدمي ميتا، ولا يحل أكله إلّا للمضطر بقدر الحاجة، فالمغتاب إن وجد لحاجته مدفعا غير الغيبة فلا يباح له الاغتياب، ففي هذه الآية نهى عن اغتياب المؤمن دون الكافر. أما الفاسق فيجوز أن يذكر بما فيه عند الحاجة، فمن نقص مسلما أم ثلم عرضه فهو كآكل لحمه، حيا ومن اغتابه فهو كآكل لحمه ميتا، لأن الميت لا يعلم بأكل لحمه كما أن الحي لا يعلم بغيبة من اغتابه.
فَكَرِهْتُمُوهُ؟ أي الأكل، فالاستفهام في قوله تعالى: أَيُحِبُّ للإنكار، فكأنه تعالى قال: لا يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه إذا. وقرئ «كرهتموه» بغير فاء أي جبلتم على كراهته، وَاتَّقُوا اللَّهَ بترك ما أمرتم باجتنابه، وبالندم على ما صدر عنكم من قبل، إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) ذكر الله تعالى في هذه الآية أمورا ثلاثة مرتبة، فكأنه تعالى قال: لا تقولوا في حق المؤمنين ما لم تعلموه فيهم، بناء على الظن، ثم إذا سئلتم عن المظنونات فلا تقولوا: نحن نكشف أمورهم لنستيقنها قبل ذكرها، ثم إن
علمتم منها شيئا من غير تجسس فلا تقولوه، ولا تفشوه عنهم، ففي الأول نهي عن التكلم بما لم يعلم، ثم نهي عن طلب علم عيب الناس، ثم نهي عن ذكر ما علم منه.
روي أن رجلين من الصحابة بعثا سلمان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يطلب منه لهما طعاما فقال له:
«انطلق إلى أسامة بن زيد واطلب منه فضل طعام وإدام إن كان عنده» . فأتاه فقال ما عندي شيء،(2/439)
فرجع سلمان إليهما فأخبرهما فقالا: كان عند أسامة ولكن بخل، فبعثا سلمان إلى بعض الصحابة، فلم يجد عندهم شيئا، فلما رجع قالا: لو بعثنا سلمان إلى بئر سمحة لغار ماؤها، فلما راحا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لهما: «ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما؟» «1» فقالا: ما تناولنا لحما في يومنا هذا! فقال صلّى الله عليه وسلّم: «اغتبتما سلمان وأسامة» فنزلت هذه الآية
، ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى أي من آدم وحواء، ومن أب وأم، فالكل سواء في ذلك، فلا وجه للتفاخر بالنسب، وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ وطبقات النسل التي عليها العرب سبعة: الشعب، والقبيلة، والعمارة، والبطن، والفخذ، والفصيلة، والعشيرة. وكل واحد يدخل فيما قبله، فالعشائر تحت الفصائل، وهي تحت الأفخاذ، وهي تحت البطون، وهي تحت العمائر، وهي تحت القبائل، وهي تحت الشعوب. فخزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصي بطن، وعبد مناف فخذ، هاشم فصيلة، والعباس عشيرة. لِتَعارَفُوا أي ليعرف بعضكم بعضا بأصل الإنسان فلا ينتسب أحد إلى غير آبائه لا لتتفاخروا بالآباء والقبائل، ولا لتدعوا التفاوت في الأنساب، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ.
قال صلّى الله عليه وسلّم: «من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله»
«2» . وعن ابن عباس قال: كرم الدنيا الغنى وكرم الآخرة التقوى.
قال الرازي: سمعت أن بعض الشرفاء في بلاد خراسان كان في النسب أقرب الناس إلى علي رضي الله عنه، غير أنه كان فاسقا، وكان هناك مولى أسود تقدم بالعلم والعمل، ومال الناس إلى التبرك به، فاتفق أنه خرج يوما من بيته يقصد المسجد، فاتبعه خلق، فلقيه الشريف سكران، وكان الناس يطردون الشريف ويبعدونه عن طريقه، فغلبهم وتعلق بأطراف الشيخ. وقال له: يا أسود الحوافر والشوافر، يا كافر بن كافر، أنا ابن رسول الله أذل، وتجل، وأذم وتكرم، وأهان وتعان، فهمّ الناس بضربه. فقال الشيخ: لا، هذا محتمل منه لجده، وضربه معدود بحده، ولكن يا أيها الشريف بيّضت باطني وسوّدت باطنك، فيرى الناس بياض قلبي فوق سواد وجهي، فحسنت وأخذت سيرة أبيك وأخذت سيرة أبي، فرآني الخلق في سيرة أبيك ورأوك في سيرة أبي، فظنوني ابن أبيك وظنوك ابن أبي، فعملوا معك ما يعمل مع أبي وعملوا ما يعمل مع أبيك. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بأنسابكم وبأعمالكم. خَبِيرٌ (13) ببواطن أحوالكم، لا تخفى عليه أسراركم، فاجعلوا التقوى عملكم وزيدوا في التقوى.
__________
(1) رواه القرطبي في التفسير (16: 331) .
(2) رواه العجلوني في كشف الخفاء (1: 373) ، وابن عدي في الكامل في الضعفاء (7:
2565) .(2/440)
قال الزهري: نزلت هذه الآية في أبي هند خاصة. قال أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم فقالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: نزوّج بناتنا موالينا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قال ابن عباس: لما كان فتح مكة أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلالا حتى علا على ظهر الكعبة فأذن فقال عتاب بن أسيد بن أبي الفيض: الحمد لله الّذي قبض أبي حتى لا يرى هذا اليوم. وقال الحرث بن هشام: ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا وقال سهل بن عمرو: إن يرد الله شيئا يغيره. وقال أبو سفيان: أنا لا أقول شيئا أخاف أن يخبره به رب السموات. فأتى جبريل النبي صلّى الله عليه وسلّم وأخبره بما قالوا، فدعاهم، وسألهم عما قالوا فأقروا، فأنزل الله تعالى هذه الآية زاجرا لهم عن التفاخر بالأنساب، والتكاثر بالأموال، والازدراء بالفقراء. فإن مدار كمال النفوس وتفاوت الأشخاص هو التقوى. قالَتِ الْأَعْرابُ أي أهل البادية: آمَنَّا نزلت هذه الآية في بني أسد أصابتهم سنة شديدة قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأظهروا له الإسلام ولم يكونوا مؤمنين في السر طالبين الصدقة، وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات، وأغلوا أسعارها، وكانوا يغدون ويروحون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويقولون: أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها، ونحن قد جئناك بالأطفال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان أطمعنا، وأكرمنا يا رسول الله فإنّا صدقناك بجميع ما جئت به. فأنزل الله هذه الآية: قُلْ يا أشرف الخلق لهم: لَمْ تُؤْمِنُوا أي لم تصدق قلوبكم، لأنكم لو آمنتم لم تمنوا عليّ فلا تقولوا آمنا. وَلكِنْ أسلمتم أي أظهرتم الانقياد واستسلمتم من السيف والسبي بل قُولُوا أَسْلَمْنا فإن الإسلام انقياد ودخول في السلم وإظهار الشهادة، وهذا قد حصل، أما الإيمان وهو التصديق المقارن للثقة وطمأنينة القلب لم يحصل لكم وإلّا لما مننتم علي ما ذكرتم، وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ أي ولم يدخل حب الإيمان في قلوبكم إلى هذا الوقت فلا يعد إقرار اللسان إيمانا إلّا بموافقة القلب وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بالإخلاص وترك النفاق في السر كما أطعتموهما في العلانية لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ أي لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئا من النقص.
وقرأ الدوري عن أبي عمر «ولا يألتكم» بهمزة ساكنة بعد الياء التحتية وأبدلها السوسي ألفا. وقرأ الباقون بغير همزة ولا ألف. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لكم ما قد سلف ان تبتم رَحِيمٌ (14) بما أتيتم به من الطاعة بالتفضل عليكم، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا أي لم يشكوا في إيمانهم وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعة الله على تكثر أنواعها من العبادات البدنية المحصنة والمالية الصرفة والمشتملة عليهما معا، كالحج والجهاد أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) ، أي أولئك الموصوفون بما ذكرهم الذين صدقوا في دعوى الإيمان لا غيرهم.
روي أنه لما نزلت هذه الآية جاءوا وحلفوا أنهم مؤمنون صادقون، فنزل لتكذيبهم قوله(2/441)
تعالى: قُلْ لهؤلاء الأعراب مبكتا لهم: أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ أي أتخبرون الله بدينكم بقولكم: آمنا وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فيعلم ما في قلوب أهلهما، ا «لواو» للحال وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) فلا يخفى عليه شيء، فالدين ينبغي أن يكون لله وأنتم أظهرتموه لنا لا لله، فلا يقبل منكم ذلك يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا أي يعدون إسلامهم من غير قتال منة عليك، وهي النعمة، التي لا يطلب معطيها ثوابا من أنعم إليه. قُلْ في جواب قولهم هذا: لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ أي لا تعدوا الإسلام الذي عندكم منة علي، فالله تعالى كذبهم في قولهم: آمنا ولم يصدقهم في الإسلام فإنهم انقادوا للحاجة وأخذ الصدقة بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ أي بسبب أن هداكم للإيمان حيث بينكم الطريق المستقيم ودعاكم إليه، فإن إرسال الرسول بالآيات البينات هداية. وقرئ «إن هداكم» بالكسر و «إذ هداكم» ، أي في زعمكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) في قولكم: آمنا فالله هو المان عليكم إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فلا يخفى عليه أعمال قلوبكم الخفية وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) من ظاهر إسلامكم. وقرأ ابن كثير بالياء التحتية على الغيبة نظرا لقوله تعالى: يَمُنُّونَ والباقون بالتاء على الخطاب نظرا إلى قوله تعالى: لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ.(2/442)
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10)
سورة ق
مكية، خمس وأربعون آية، ثلاثمائة وخمس وتسعون كلمة، ألف وأربعمائة وأربعة وتسعون حرفا
ق. قال ابن عباس: هو جبل أخضر محدق بالدنيا وخضرة السماء منه، وهو قسم أقسم الله به.
قال الرازي: المنقول عن ابن عباس أن «ق» اسم جبل وأما أن المراد في هذا الموضع به ذلك فلا. وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) أي العظيم، لأن القرآن عظيم الفائدة، أو لأنه كلام
الله تعالى، أو كثير الكرم، لأن كل من طلب مقصوده من القرآن وجده، فإنه مغنى كل من لاذ به، أو ذي الشرف، فإن من علم معانيه وعمل بما فيه شرف عند الله تعالى وعند الناس. بَلْ عَجِبُوا وهذا إضراب عن جواب القسم المحذوف، أي ما آمن كفار مكة بمحمد والقرآن بل جعلوا كلا منهما عرضة للتعجب، مع كونهما أقرب شيء إلى التلقي بالقبول، وإنما عجبوا من ذلك لكون محمد من جنسهم لا من جنس الملائكة، ولكون القرآن أخبر بالبعث بعد الموت وذلك قوله تعالى.
أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أي عجبوا من أن جاءهم رسول من جنسهم يخوفهم بالنار بعد البعث فقال كفار مكة منهم أبي، وأمية ابنا خلف ومنبه ونبيه ابنا الحجاج هذا أي كون المنذر منا، وكون المنذر به هو البعث بعد الموت أمر يتعجب منه، أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً أي أحين نموت ونصير ترابا رميما نبعث ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) أي ذلك الخبر برجوعنا إلى ما كنا عليه بعد موتنا رجع بعيد من الأوهام والإمكان. وقرأ نافع وحفص، وحمزة والكسائي بكسر ميم «متنا» . والباقون بالضم قال الله تعالى ردا لاستبعادهم قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ أي ما تأكل الأرض من لحومهم وعظامهم فلا تخفى علينا أجزاؤهم بسبب تشتتها في الأرض، أي إن الله تعالى عالم بجميع أجزاء كل واحد من الموتى لا يشتبه عليه جزء أحد على الآخر، وقادر على الجمع والتأليف فليس الرجوع منه ببعيد، وكما يعلم أجزاءهم يعلم أعمالهم فذلك قوله تعالى:
وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4) أي حافظ لأجزائهم وأعمالهم بحيث لا ننسى شيئا منها، أي فالعلم(2/443)
عندي كما يكون في الكتاب أعلم جزءا جزءا وشيئا شيئا، بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ أي بالنبوة الثابتة بالمعجزات الباهرة لَمَّا جاءَهُمْ أي حين جاءهم منذر هو محمد صلّى الله عليه وسلّم من غير تأمل وتفكر.
وقرئ «لما جاءهم» بكسر اللام على أن اللام للتوقيت، أي وقت مجيء المنذر إياهم فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) ، أي فهم في شأن المنذر في قول مختلف فإنهم تارة يقولون: إنه ساحر، وأخرى شاعر، وأخرى كاهن وأخرى مجنون.
قال الرازي: نقول كان الواجب أن ينتقلوا من الشك إلى الظن بصدقه صلّى الله عليه وسلّم لعلمهم بأمانته واجتنابه الكذب طول عمره بينهم، ومن الظن إلى القطع بصدقه لظهور المعجزات القاهرات على يديه ولسانه، فلما غيّروا الترتيب حصل عليهم المرج ووقع الدرك مع المرج أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ أي أعموا فلم يشاهدوا السماء كل وقت وهي ظاهرة فوق رؤوسهم غير غائبة عنهم، كَيْفَ بَنَيْناها أي رفعناها بغير عمد، وَزَيَّنَّاها بالكواكب وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) أي والحال ليس لها فتوق.
وهذا إشارة إلى وجه الدلالة فالإنسان له أساس وهي العظام التي هي كالدعامة، وله قوى وأنوار كالسمع والبصر فبناء السماء أرفع من أساس البدن، وزينة السماء أكمل من زينة الإنسان بلحم وشحم وليس للسماء فروج، وللإنسان مسام، فتأليف السماء أشد ولا شك أن التأليف الأشد كالنسج الأصفق، والتأليف الأضعف كالنسج الأسخف، والأول أصعب عند الناس وأعجب، فكيف يستبعدون الأدون مع علمهم بوجود الأعلى من الله تعالى؟! وَالْأَرْضَ مَدَدْناها أي بسطناها على الماء وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ أي جبالا ثوابت أوتادا لها وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) أي من لون حسن في المنظر. وهذا إشارة إلى دليل آخر يدفع قولهم ذلك رجع بعيد وهم قالوا: الإنسان إذا مات وفارقته القوى لا تعود إليه تلك القوى فنقول: الأرض أشد جمودا والله تعالى ينبت فيها أنواع النبات، فكذلك الإنسان تعود إليه الحياة وذكر الله في الأرض ثلاثة أمور، كما ذكر في السماء ثلاثة أمور فكل واحد في مقابلة واحد فالمد في مقابلة البناء وإثبات الرواسي في الأرض في مقابلة ركز الكواكب في السماء وشق الأرض بالإنبات في مقابلة سد الفروج إذا علمت هذا ففي الإنسان أشياء موضوعة وأشياء مرفوعة، وأشياء ثابتة، كالأنف والأذن، وأشياء متحركة كالمقلة واللسان، وأشياء مسدودة الفروج كدور الرأس، وأشياء لها فروج كالمناخر والصماخ والفم. فالقادر على هذه الأضداد في السبع الشداد غير عاجز عن خلق نظيرها في هذه الأجساد. تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) أي خلقنا السماء والأرض تبصيرا وتذكيرا لكل عبد مقبل إلى الله راجع إلى التفكر في بدائع صنائعه، فإن فيهما آيات مستمرة منصوبة على مرور الزمان، وآيات متجددة مذكرة عند التناسي ونصب الاسمين على المفعول من أجله أو على الحال أي مبصرين ومذكرين. وقرأ زيد بن علي «تبصرة وذكر» برفعهما، أي هي تبصرة(2/444)
رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20)
وذكر، أي عبرة وعظة وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً أي نافعا كثير الخير فَأَنْبَتْنا بِهِ أي بذلك الماء جَنَّاتٍ أي أشجارا كثيرة يقطف ثمارها والأصول باقية. وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) أي حب زرع يحصد كل عام وَالنَّخْلَ وهو جنس مختلط من الزرع والشجر، لأن الثمر فاكهة وقوت بخلاف غيره فإن بعض الثمار فاكهة ولا قوت فيه، وأكثر الزرع قوت، وأيضا إن من النباتات ما يبقى أصلها سنين ولا يحتاج إلى عمل عامل وما لا يبقى أصلها ويحتاج كل سنة إلى عمل عامل وما يبقى أصلها يحتاج كل سنة إلى عمل عامل. باسِقاتٍ أي طوالا أو حوامل. وهي حال مقدرة.
وقرئ «باصقات» بالصاد لأجل القاف لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) أي لتلك النخل كفرى مجتمعة بعضها فوق بعض،
رِزْقاً لِلْعِبادِ أي لنرزقهم. وهذا علة ل «أنبتنا» ، والحكمة في تعليل الإنبات بالرزق بعد تعليل الإنبات الأول بالتبصرة والتذكير إشارة إلى أن الواجب على العبد أن يكون انتفاعه بالنباتات من حيث الاستبصار والتذكر أقدم من تمتعه بها من حيث الرزق والحكمة في إطلاق العباد في الرزق، وفي تقييدهم بكونهم منيبين في التبصرة والتذكير، لأن الرزق حصل لكل أحد، والتذكرة لا تكون إلّا لكل منيب فهو يأكل ذاكرا شاكرا للإنعام، ثم التبصرة بالخلق هو الاستدلال بأن القادر على خلق السموات والأرض قادر على خلق الخلق بعد الفناء والتذكرة بالبقاء بالرزق بعد الإعادة هو الاستدلال بأن البقاء في الدنيا يكون بالرزق وبأن القادر على إخراج الأرزاق من النجم والشجر قادر على أن يرزق العبد في الجنة وأن يبقيه فيها، وَأَحْيَيْنا بِهِ أي بذلك الماء بَلْدَةً مَيْتاً أي أرضا جدبة لا نماء فيها أصلا كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11) أي مثل خروج النبات من الأرض بالماء خروجهم من القبور يوم القيامة بالمطر الذي كمني الرجال، ومثل تلك الحياة في النبات بالإخراج حياتهم بالبعث من القبور على ما كانوا عليه في الدنيا، كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي قبل قومك قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وهو بئر دون اليمامة، وهم قوم شعيب. وقيل: هم قوم عيسى الذين جاءهم من أقصى المدينة رجل يسعى. وقيل: هم أصحاب الأخدود وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ. وإنما نص عليه لأنه ليس في قادة قومه كافر غيره، لأنه استخف قومه فأطاعوه، فجعل الاعتبار له خاصة وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وإنما قال هاهنا ذلك، لأن لوطا كان مرسلا إلى طائفة من قوم إبراهيم معارف لوط وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ، أي الغيظة وهم قوم شعيب غير أهل مدين وَقَوْمُ تُبَّعٍ وهو كان معتمدا بقومه، كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ أي فالمذكورون كانوا منكرين للحشر، وكل واحد منهم كذب جميع الرسل، فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أي فثبت وعيدي من نصرة الرسل عليهم وإهلاكهم. أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ أي قصدنا إيجاد الإنسان وسائر الحيوان وإيجاد السموات والأرض، فعجزنا عنه حتى يتوهم عجزنا عن الإعادة بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) ، أي إنهم غير منكرين لقدرتنا على اختراع الخلق من العدم، بل هم في شك في إعادة الخلق إلى الحياة بعد(2/445)
وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)
الموت لما فيه من مخالفة العادة، وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ أي ما يخطر بباله، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) أي ونحن أقرب إلى الإنسان من العرق الذي يجري فيه الدم، ويصل إلى كل جزء من أجزاء البدن بعلمنا بحاله، وبنفوذ قدرتنا فيه يجري فيه أمرنا كما يجري الدم في عروقه إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ف «إذ» منصوب بأقرب، أي فالله أقرب إلى الإنسان من عرقه المخالط له في وقت أخذ الملكين الحافظين منه قوله وفعله، فلهما عن اليمين مقاعد وعن الشمال مقاعد. وفي هذا إشارة إلى أن المكلف غير متروك سدى. ويقال:
وقت ما يتلقاه المتلقيان يكون عن يمينه وعن شماله قعيد، فالملتقيان على هذا الوجه هما الملكان اللذان يأخذان روحه من ملك الموت، أحدهما يأخذ أرواح الصالحين وينقلها إلى السرور إلى يوم النشور، والآخر يأخذ أرواح الطالحين وينقلها إلى الثبور إلى يوم النشر من القبور، أي فهذان الملكان ينزلان إلى الإنسان وعنده ملكان
كاتبان لأعماله، قاعدن عن يمينه وشماله فوقت تلقيهما إياهما يسألانهما عن أيّ النوعين كان هذا الإنسان، فإن كان من الصالحين يأخذ روحه ملك السرور ويرجع إلى الملك الآخر مسرورا، وإن كان من الطالحين يأخذها ملك العذاب ويرجع إلى الآخر محزونا. ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ أي ما يرمي الإنسان المكلف به من فيه من خير أو شر، إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) أي إلّا لديه ملك يحفظ قوله ويكتبه، وملك يهيئ لكتابة ما أمر به من الخير أو الشر، فكل من كاتب الحسنات وكاتب السيئات يقال له: رقيب عتيد.
وقرئ «ما يلفظ» على البناء للمفعول. وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ أي جاءت شدة الموت الذاهبة بالعقل بالموت، كأن شدة الموت. تحضر الموت كما قرئ «وجاءت سكرة الحق بالموت» ، أو يقال: المراد من الحق هو الدين. فالمعنى وأظهرت سكرة الموت الدين إذ ما من أحد في تلك الحالة إلّا وهو يظهر الإيمان لكنه لا يقبل إلّا ممن سبق منه ذلك ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) أي ذلك الموت ما كنت تفر منه أيها السامع، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ هي نفخة البعث فقوله تعالى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ إشارة إلى الإماتة. وقوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ إشارة إلى الإحياء والإعادة. ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) أي ذلك الزمان يوم وقوع الوعيد، وهو العذاب الموعود،
وَجاءَتْ في ذلك اليوم كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ أي ملك يسوق البر إلى الجنة والفاجر إلى النار، وَشَهِيدٌ (21) أي كاتب فإنه يشهد عليها بعملها ويقال لَقَدْ كُنْتَ أيها الشخص في الدنيا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا أي اليوم فما من أحد إلّا وله غفلة ما عن الآخرة.
وقرئ «كنت» بكسر التاء باعتبار تأنيث النفس فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ أي أزلنا عنك غفلتك فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) ، أي نافذ، وكان من قبل كليلا.
وقرئ بكسر الكاف في المواضع الثلاثة. وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أي قال الشيطان الذي زيّن له العصيان: هذا العصيان هو الذي عندي معد لجهنم أو قال الملك الذي يكتب(2/446)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)
أعماله: هذا الكتاب مكتوب عندي مهيأ للعرض. قال تعالى خطابا للسائق والشهيق: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ.
وقرأ الحسن «ألقين» بنون التوكيد خطاب لواحد من خزنة النار. عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) أي ألقيا في جهنم كل كافر بالله معاند لآياته، مانع الناس من اتباع رسول الله ومن الإنفاق على من عنده ظالم بالإيذاء وكثرة الهذاء، شاك في اليوم الآخر فلا يظن أن الساعة قائمة، فكل كافر هو موصوف بهذه الصفات. الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) وقوله تعالى: الَّذِي مبتدأ يشبه الشرط في العموم، ولذا دخلت الفاء في خبره، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو الذي جعل ويكون «فألقياه» تأكيدا ل «ألقيا» الأول. قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ أي إن الكافر حين يلقى في النار يقول: ربنا أطغاني شيطاني فيقول الشيطان متبرئا منه: ربنا ما أضللته وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) ، أي عن الحق.
وقال ابن عباس: لما يقول الكافر: يا رب، إن الملك زاد علي في الكتابة، فكتب على ما لم أقل وما لم أفعل، وعجلني بالكتابة حتى نسيت. قال الملك الذي يكتب عليه سيئاته: ربنا ما زدت عليه وما كتبت إلّا ما قال وعمل وما أعجلته بالكتابة، ولكن كان في ضلال طويل لا يرجع عنه إلى الحق. قالَ تعالى خطابا للكافرين وقرنائهم: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ أي في موقف الحساب والجزاء وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) أي بالتهديد في دار الكسب في كتبي، وعلى ألسنة رسلي حيث قلت لكم: إذا اتبعتم الشيطان تدخلون النار وقد اتبعتموه، ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ أي ما يغير الوعيد بتخليد الكافر في النار ومجازاة العصاة على حسب استحقاقهم في هذا الموقف وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) ، أي وما أنا بمعذب للعبيد بغير ذنب من قبلهم، يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ- وقرئ «يقول» بالياء-: هَلِ امْتَلَأْتِ أي قد امتلأت كما وعدتك، وهو استفهام تقرير والمراد الإخبار عنه امتلاء جهنم وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) ، أي قد امتلأت فليس في مكان رجل واحد لم يمتلئ، فهو استفهام إنكار أي لما خاطب الله جهنم بصورة الاستفهام أيضا ومرادها الإقرار بامتلائها، أو استفهام لطلب الزيادة فهو بمعنى الأمر أي زدني يا رب،
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) أي قربت الجنة للمتقين عن الكفر والمعاصي قربا حقيقيا بحيث يشاهدونها من الموقف أو قربت تقريب حصول، لأنها تنال بكلمة طيبة وحسنة. هذا أي الجنة ما تُوعَدُونَ في الدنيا.
وقرأ ابن كثير بالياء على الغيبة. لِكُلِّ أَوَّابٍ أي مقبل إلى الله. و «هذا» بدل كل من «المتقين» . حَفِيظٍ (32) أي حافظ لأمر الله في الخلوات، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ حال من المفعول، أي غائبا عن الخاشي، و «من» بدل من «كل» أو خبر مبتدأ مضمر، أي هم من خشي إلخ، والخشية من عظمة المخشي والخوف من ضعف الخاشي. وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) أي(2/447)
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)
بريء من الشرك يقول الله تعالى لهم: ادْخُلُوها أي الجنة بِسَلامٍ أي بسلامة من عذاب الله تعالى أو بسلام على من فيها، فلا تتركوا حسن عادتكم ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) ، أي ذلك الزمان يوم خلود أهل الجنة في الجنة، لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها من فنون المطالب وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35) هو ما لا يخطر ببالهم ولا يندرج تحت مشيئتهم من معالي الكرامات.
وقيل: إن السحابة تمر بأهل الجنة فتمطرهم الحور، فتقول: نحن المزيد الذي قال تعالى:
وَلَدَيْنا مَزِيدٌ. وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ أي قبل قومك مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ أي من قومك بَطْشاً أي قوة فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ أي خرقوا فيها وجالوا في أكناف الأرض كل مجال حذر الموت، هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) أي هل لهم مخلص من أمر الله تعالى، إِنَّ فِي ذلِكَ أي في إهلاكهم لَذِكْرى أي لعظة لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أي قلب واع سليم، يتفكر في الأمور كما ينبغي بذكائه، أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ إلى ما يتلى عليه من الوحي الدال على ما جرى عليهم، وَهُوَ شَهِيدٌ (37) أي حاضر بفطنته لأن من لا يحضر ذهنه، فكأنه غائب وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما من أصناف المخلوقات فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أولها: يوم الأحد، وآخرها: يوم الجمعة وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) ، أي وما أصابنا من تعب. قيل: هذه الآية نزلت في اليهود حيث قالوا: خلق الله السموات والأرض في ستة أيام أولها: الأحد، وآخرها: الجمعة، ثم استراح يوم السبت، واستلقى على العرش. فأنزل الله هذه الآية تكذيبا لهم: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ من حديث التعب بالاستلقاء.
قال الرازي: والأقرب والظاهر أن المراد بهذه الآية الرد على المشرك في إنكار البعث والاستدلال بخلق السموات والأرض، وما بينهما في إثبات البعث، وعلى هذا فالمعنى فاصبر على ما يقولون: هذا شيء عجيب أي هذا الذي يقول محمد نبعث بعد الموت شيء عجيب فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (40) أي نزه الله تعالى عن الشرك، وعن العجز الممكن الذي هو البعث، وذكّرهم بعظمة الله تعالى في وقت اجتماعهم، وهو قبل الطلوع، وقبل الغروب وأول الليل أي عقب سجودك نزه ربك بالبرهان عند اجتماع القوم ليحصل لك العبادة بالسجود والهداية أدبار السجود ولا تسأم من تكذيبهم إياك وامتناعهم من استماع وعظك. ويقال: صل حامدا لربك الصلوات الخمس والنوافل بعد المكتوبات وشغل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمران: عبادة الله وهداية الخلق، فإذا هداهم ولم يهتدوا. قيل له: أقبل على شغلك الآخر وهو عبادة الله، واجعل كلامك بدل الدعاء عليهم التسبيح لله والحمد له.
وقرأ نافع وابن كثير وحمزة «إدبار» بكسر الهمزة والباقون بالفتح.
وَاسْتَمِعْ لما يوحى إليك من أحوال القيامة يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) بحيث يصل نداؤه إلى الكل على سواء(2/448)
قيل يقف المنادي إسرافيل أو جبريل على صخرة بيت المقدس.
من غير أن يشاركنا في ذلك أحد، وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) أي الرجوع في الآخرة للجزاء يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً أي مسرعين في خروجهم من الأرض والتشقق يكون عند الخروج منها ف «سراعا» ، حال من الضمير في «عنهم» ، و «يوم» بدل من «يوم» الأول. أو ظرف للمصير، أو ظرف للخروج.
وقرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر «تشقق» بتشديد الشين. والباقون بالتخفيف. وقرئ «تشقق» على البناء للمفعول. وقرئ «تنشق» . ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44) أي ذلك الإخراج بتشقيق الأرض إحياء وجمع هين علينا للحساب والجزاء فكيف ينكره منكر؟ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ من نفي البعث وتكذيب الآيات الناطقة بثبوت البعث، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ أي بمسلط أن تقسرهم على الإيمان وإنما أنت مذكر فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45) .
وقرأ «ورش» بإثبات الياء بعد الدال بالوصل. وقوله تعالى: فَذَكِّرْ إشارة إلى أن سيدنا محمدا صلّى الله عليه وسلّم مرسل مأمور بالتذكير وقوله تعالى: بِالْقُرْآنِ إشارة إلى أنه أنزل عليه القرآن.
وقوله تعالى: وَعِيدِ إشارة إلى اليوم الآخر، وضمير المتكلم في قوله تعالى: وَعِيدِ يدل على الوحدانية، أي إنما يقبل عظتك من يخاف عذابي في الآخرة.(2/449)
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10)
سورة الذاريات
مكية، ستون آية وثلاثمائة وستون كلمة، ألف ومائتان وتسعة وثمانون حرفا
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) أي والرياح التي تذر، والتراب وغيره، وتهب في منازل القوم.
فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) أي فالسحب الحاملة للمطر. فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) ، أي فالسفن الجارية في البحر جريا ذا يسر. فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4) أي فالملائكة التي تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرها. وهذا التفسير هو ما روي عن علي رضي الله عنه.
وقال الرازي: والأقرب أن هذه الأمور الأربعة صفات أربع للرياح.
فالذاريات: هي الرياح التي تنشئ السحاب أولا.
والحاملات: هي الرياح التي تحمل السحب التي هي بخار المياه، التي إذا سحت جرت السيول العظيمة، وهي أوقار أثقل من جبال.
والجاريات: هي الرياح التي تجري بالسحب بعد حملها الماء.
والمقسمات: هي الرياح التي تفرق الأمطار على الأقطار. إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) أي إن وعدكم بالبعث والحساب لوعد صادق، وَإِنَّ الدِّينَ أي الحساب والجزاء لَواقِعٌ (6) ، أي لحاصل، فالحساب يستوفى والعقاب يوفى، وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) أي ذات الحسن أو ذات الزينة، أو ذات الطرائق، وهي مسير الكواكب ومسلك النظار. إِنَّكُمْ يا معشر قريش لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) ، أي منعكس وظنكم غير مجازين في اعتقادكم، فإنهم قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إنك تعلم أنك غير صادق في قولك وإنما تجادل ونحن نعجز عن الجدل، فكأنه تعالى قال لنبيه: إنك صادق ولست معاندا بل هم جازمون بأنك صادق، وإنما يظهرون الجزم بأمر لشدة عنادهم، فانعكس الأمر عليهم يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قيل: هذا مدح للمؤمنين أي يصرف عن القول، المختلف من صرف عن ذلك القول ورشد إلى القول المستوي.
وقيل إن هذا ذم، أي يصرف عن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن والحشر من قد صرف عن الهدى، وهو الوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، وأبي بن خلف، وأمية بن خلف ومنبه(2/450)
الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)
ونبيه قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) أي لعن الكذابون الذين لا يجزمون بأمورهم أصحاب القول المختلف. وهذا دعاء عليهم.
وقرئ «قتل الخراصين» بالبناء للفاعل، أي قتل الله المقدرين ما لا صحة له،
الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ أي في جهالة بأمر الآخرة ساهُونَ (11) أي غافلون عما أمروا به، يَسْئَلُونَ أي بنو مخزوم بطريق الاستعجال استهزاء، أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) ؟ أي متى يكون يوم الجزاء الذي نعذب فيه؟ قال تعالى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) أي يكون ذلك يوم هم يعرضون على النار ويحرقون بها، ويجوز أن يكون «يوم هم» خبرا لمبتدأ محذوف، وهو مبني على الفتح لإضافته إلى مبني ويؤيده أنه قرئ بالرفع، أي هو يوم هم إلخ. وتقول لهم الزبانية: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ أي حرقكم هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) بالقول بطريق الاستهزاء، أو بالفعل وهو الإصرار على العناد وإظهار الفساد. وقوله تعالى هذه الآية داخل تحت القول المضمر، وهو إما مبتدأ أو بدل من فتنتكم، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) جارية في خلال الجنات آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ أي قابلين لما أعطاهم ربهم راضين من الجنات والعيون، إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ أي قبل إعطاء الله الجنات لهم مُحْسِنِينَ (16) في الدنيا بالقول والفعل كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) ف «ما» زائدة. وهذا تفسير للإحسان، أي كانوا ينامون في جزء قليل من الليل. وقيل: «ما» مصدرية و «يهجعون» بدل اشتمال من الواو، أي كان هجوعهم من الليل قليلا، أو فاعل ل «قليلا» ، أي كانوا قليلا من الليل هجوعهم. وقيل: «ما» نافية، و «قليلا» خبر «كان» وعلى هذا فالوقف عليه صالح كالوقف على يهجعون. والمعنى: كان عددهم قليلا لا ينامون من الليل وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) أي هم مع قلة نومهم وكثرة صلاتهم يداومون على الاستغفار في الأسحار، ويعدون أنفسهم مذنبين لوفور علمهم بالله تعالى. وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) أي هم لا يجمعون الأموال إلّا ويجعلونها ظرفا للحق، فيرون في أموالهم حقا للذي يسأل العطاء من الناس وللمتعفف الذي يحسبه بعض الناس غنيا، فلا يعطيه شيئا، فهو الّذي لا يسأل ولا يعطى، أي هم أوجبوا على أنفسهم بمقتضى الكرم أن يصلوا بأموالهم الأرحام والفقراء والمساكين، وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) ، أي وفي جهة السفل دلائل واضحة للموقنين على شؤونه تعالى، فإن الموقن لا يغفل عن الله تعالى في حال، ويرى في كل شيء آيات دالة على قدرته تعالى ووحدانيته، أما الغافل فلا يتنبّه إلّا بأمور كثيرة فيكون الكل له كآية واحدة،
وَفِي أَنْفُسِكُمْ أي وفي أنفسكم آيات دالة لكم على وحدانية الله تعالى وقدرته، إذ ليس في العالم شيء إلّا وفي الأنفس له نظير، أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) أي ألا تنظرون الأرض وما فيها، والأنفس وما فيها، فلا تبصرون بعين البصيرة، وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) أي رزقكم ووعدكم بالجنة والنار مكتوبة مقدرة في السماء.
ويقال: هذا الخطاب مع الكفار فكأنه تعالى قال: وفي الأرض آيات للموقنين كافية، وأما أنتم(2/451)
أيها الكافرون ففي أنفسكم آيات تكفرون بها لحب الرئاسة، وحطام الدنيا، وفي السماء الأرزاق، فلو تأملتم حق التأمل لما تركتم الحق لأجل الرزق، فإنه واصل إليكم بكل طريق، ولاجتنبتم الباطل اتقاء لما توعدون من العذاب النازل من السماء، فأسباب الرزق من المطر والرياح، والحر والبرد، وغير ذلك مما هيّأ الله تعالى به لمنافع العباد هي من جهة العلو، فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) ، أي إن ما ذكر من أمر الرزق والوعد بالثواب، والعقاب لحق مثل نطقكم، فكما لا شك لكم في أنكم تنطقون ينبغي لكم أن تشكوا في حقيقة ذلك.
وقرأ حمزة والكسائي وشعبة «مثل» بالرفع. والباقون بالنصب لإضافته إلى مبني وهو «أنكم» ، و «ما» مزيدة. هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) أي ألم يأتك حديث ضيف إبراهيم الذي أكرمهم بخدمته لهم، وبالعجل.
قال عثمان بن محصن: كانوا أربعة من الملائكة: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل أخرجه أبو نعيم. إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ أي إبراهيم ظرف للحديث أو لما في الضيف من معنى الفعل، أو للمكرمين إن فسر بذلك المذكور. فَقالُوا سَلاماً أي نسلم سلاما أو نبلغك سلاما، قالَ أي إبراهيم: سَلامٌ أي سلام عليكم أو جوابه سلام أو أمري سلام،
بمعنى مسالمة لا تعلق بيني وبينكم، لأني لا أعرفكم، أو قولكم سلام يدل على السلامة. وقرئا مرفوعين. وقرأ حمزة والكسائي «سلما» بكسر السين وسكون اللام بالنصب. قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) قال ابراهيم ذلك في نفسه- كما قاله ابن عباس- والمعنى: هؤلاء قوم غرباء لا أعرفهم وإنما أنكرهم إبراهيم عليه السلام، لأنهم ليسوا ممن عرف من الناس فَراغَ إِلى أَهْلِهِ أي ذهب إبراهيم إلى أهله في سرعة على خفية من ضيفه فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) ، أي فذبح فتى من أولاد البقر، فحنذه، فجاء به إلى أضيافه فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ بأن وضعه عندهم ليأكلوا، فلم يأكلوا.
قالَ أي إبراهيم: أَلا تَأْكُلُونَ (27) من الطعام! فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً أي فأضمر في نفسه خيفة منهم لظن أنهم لصوص، فلما عرفوا خوف إبراهيم قالُوا لا تَخَفْ منا يا إبراهيم إنا رسل ربك. قيل: مسح جبريل العجل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه، فعرفهم، وأمن منهم، وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) أي بولد عليم في صغره حليم وهو: إسحاق أو إسماعيل كما قاله مجاهد، فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ أي أقبلت سارة على أهلها صائحة، لأنها كانت في خدمتهم، فلما تكلموا مع زوجها بولادتها استحيت، وأعرضت عنهم فَصَكَّتْ وَجْهَها أي لطمته من الحياء، كما جرت عادة النساء عند الاستحياء، أو التعجب وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) . أي قالت سارة: أنا عجوز عاقر فكيف ألد؟ قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ أي قالت الملائكة، حكم ربك في الأزل مثل ذلك القول الذي أخبرناك به يا سارة فلا تعجبين منه، ف «كذلك» منصوب ب «يقال»(2/452)
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)
الثانية على المصدر. إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) فيكون قوله حقا وفعله متقنا، إذ الحكيم هو الذي فعله كما ينبغي لعلمه مع قصد ذلك.
قالَ أي إبراهيم: فَما خَطْبُكُمْ أي فما أمركم العظيم الذي لأجله أرسلتم سوى البشارة فلعظمتكم لا ترسلون إلّا في عظيم، أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) أتى إبراهيم عليه السلام بما هو آداب المضيف حيث يقول لضيفه إذا استعجل في الخروج: ما هذه العجلة وما شغلك الذي يمنعنا من التشرف بالاجتماع بك ولا يسكت عند خروجهم، لأن سكوته يوهم استثقالهم قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) أي كافرين من قوم لوط، لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) أي لننزل عليهم من السماء حجارة من طين، مطبوخ كالآخر بعد ما قلبنا قراهم.
قال السدي ومقاتل: كانوا ستمائة ألف، فأدخل جبريل جناحه تحت الأرض، فاقتلع قراهم، وكانت أربعة، ورفعها حتى سمع أهل السماء أصواتهم، ثم قلبها بأن جعل عاليها سافلها، ثم أرسل عليهم الحجارة، فتتبعت الحجارة مسافريهم وشذاذهم، أي المنفردين عن الجماعة مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) أي مكتوبا على كل واحد من الحجارة اسم واحد من المجاوزين الحد في الفجور، وذلك إنما يعلمه الله تعالى، فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها أي في قرى قوم لوط مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) بلوط، لإهلاك الكافرين فإن القرية ما دام فيها المؤمن لم تهلك، فببركة المحسن ينجو المسيء. فَما وَجَدْنا فِيها أي في تلك القرى غَيْرَ بَيْتٍ واحد مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) .
قال مجاهد: كان الناجون لوطا وابنته. وقال قتادة: كانوا أهل بيته. وقال سعيد بن جبير:
كانوا ثلاثة عشر وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37) ، أي وتركنا في قريات قوم لوط علامة للمنتفع بها قيل: هي حجارة منضودة في ديارهم، وهي بين الشام والحجاز. وقيل: هي ماء أسود منتن خرج من أرضهم. وقيل: هي نفس القرى الخربة وَفِي مُوسى وهذا إما معطوف على «فيها» ، والمعنى وتركنا في قصة موسى آية، أو يقال: وجعلنا في قصة قوم لوط عبرة للخائفين حلول العذاب فلا يقتدون بفعلهم، وجعلنا في قصة موسى آية، وإما معطوف على قوله تعالى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ وتقديره وفي موسى حديث وهذا مناسب إذ جمع الله كثيرا بين ذكر إبراهيم وذكر موسى عليهما السلام، إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) أي ببرهان قاطع حاج به فرعون، أو بمعجزة فارقة بين سحر الساحر وأمر المرسلين كاليد والعصا، فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ أي فأعرض فرعون عن الإيمان به مع جنوده، أو فتقوى فرعون بأقوى جنده، وهو هامان، فإنه كان وزيره. وَقالَ في شأن موسى: هذا ساحِرٌ تأتيه الجن بسحره باختياره، أَوْ مَجْنُونٌ (39) تقصده الجن من غير اختياره، كأن فرعون نسب الخوارق العجيبة إلى الجن وتردد في أنها حصلت باختيار موسى أو بغيره، أَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ
أخذ غضب وقهر، نَبَذْناهُمْ فِي(2/453)
وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)
الْيَمِ
أي فأغرقناهم في البحر هُوَ مُلِيمٌ
(40) ، أي والحال أن فرعون آت بما يلام عليه من الطغيان،
وَفِي عادٍ أي وفي قوم هود حديث، إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) أي المهلك وقاطع النسل وهو الدبور، ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) أي ما تترك هذه الريح شيئا مرت عليه مقصودا وهو عاد وأبنيتهم وعروشهم إلّا جعلته مثل التراب، أو مثل الشيء الهالك وَفِي ثَمُودَ، أي وفي قوم صالح حديث إِذْ قِيلَ لَهُمْ. وقرأ هشام والكسائي بإشمام القاف والباقون بكسرها: تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) أي عيشوا وانتفعوا بالزرع والأبنية، وبلبن الناقة إلى أواخر آجالكم فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ أي فجاوزوا الحد في الاستكبار عن الامتثال بأمر الله تعالى، فقتلوا ناقته، وأرادوا قتل نبيه صالح عليه السلام فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ أي النار التي فيها الصوت الشديد التي حملتها الريح فأوصلتها إلى مسامعهم.
وقرأ الكسائي «الصعقة» بإسكان العين بعد الصاد بدون ألف بينهما وهي المرة من الصيحة المهلكة، وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) أي وهم يعاينون النار التي تنزل من السماء فيها رعد شديد، ولا يقدرون على دفعها. ويقال: أتاهم العذاب بعد إنذارهم بمجيئه بثلاثة أيام وهم ينتظرون مجيئه، فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ أي فعجزوا عن فرار من العذاب وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) أي ممتنعين من العذاب بأبدانهم وبغيرهم، وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالجر عطفا على، وفي ثمود على معنى، وفي قوم نوح عبرة لكم من قبل ثمود وعاد وغيرهم، ويقويه قراءة عبد الله، وفي قوم نوح. والباقون بالنصب على تقدير: وأهلكنا قوم نوح من قبل، لأن ما تقدم دل على الهلاك. وقرأ أبو السماك وابن مقسم وأبو عمرو في رواية الأصمعي بالرفع على الابتداء وخبر المبتدأ إما مقدر، أي أهلكناهم أو ما بعده وهو قوله تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46) أي خارجين عن الحدود في الكفر والمعاصي، وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ أي بقوة، وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) أي لقادرون ويحتمل أن يقال:
إن هذا إشارة إلى المقصود الآخر وهو البعث للموتى من القبور، كأنه تعالى يقول: بنينا السماء وإنا لقادرون على أن نخلق مثلها. وقيل: إنا لموسعون الرزق على الخلق وَالْأَرْضَ فَرَشْناها، أي بسطناها على الماء ليستقروا عليها، فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) أي فنعم الفارشون نحن وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ أي وخلقنا من كل جنس نوعين من الجوهر متضادين كالذكر والأنثى، أو متشاكلين، فإن كل شيء له نظير، كالعرش والكرسي، واللوح والقلم. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) أي لكي تتعظوا فيما خلقه الله فتعلمون أن خالق الأزواج فرد لا كثرة فيه فتعبدونه، وأنه لا يعجز عن حشر الأجساد والأرواح، فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ أي إذا علمتم أن الله تعالى فرد لا نظير له وأن هذه المذكورة شؤونه، فاهربوا إليه بالطاعة كي تنجوا من عقابه وتفوزوا بثوابه، إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ أي من الله تعالى نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) ، ففي الرسالة أمور ثلاثة: المرسل، والرسول، والمرسل إليه. فقوله(2/454)
وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
تعالى: لَكُمْ إشارة إلى المرسل إليهم. وقوله تعالى: مِنْهُ إشارة إلى المرسل. وقوله تعالى:
نَذِيرٌ بيان للرسول وقوله تعالى: مُبِينٌ إشارة إلى ما تعرف به الرسالة، لأن كل حادث له سبب، فلا بد للرسول من علامة يعرف بها وهي البرهان أو المعجزة،
وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ بل وحدوا الله، فإن التوحيد بين التعليل والتشريك، فالمعطل يقول: لا إله أصلا والمشرك يقول:
في الوجود آلهة. تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ أثبت وجود الله. وقوله تعالى: وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ نفى الأكثر من الواحد فصح التوحيد بالآيتين. ولهذا قال الله تعالى مرتين: إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) أي لا أقول شيئا إلّا بدليل ظاهر، فالرسول نذير من الله في المقامين عند الأمر بالطاعة، وعند النهي عن الشرك، وذلك ليعلم أن العمل لا ينفع إلّا مع الإيمان، وأنه لا يفوز عند الله إلّا الجامع بينهما، كَذلِكَ خبر مبتدأ محذوف، وقد فسر هذا الإبهام بما بعده، أي الشأن مثل ما ذكر من تكذيبهم الرسول وتسميتهم له ساحرا، أو مجنونا، ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أي ما أتى الأمم الأولين رسول من رسل الله، إلّا وقد قالوا في
حقه هو ساحر أو مجنون أَتَواصَوْا بِهِ. وهذا الاستفهام للتعجيب والتوبيخ والإنكار، أي أتواصى بهذا القول بعضهم بعضا حتى اتفقوا عليه، كأن بعضهم قال لبعض: لا تقولوا إلّا هذا القول، أي كيف اتفقوا على قول واحد كأنهم توافقوا عليه، أي ما وقع منهم وصية بذلك لأنهم لم يتلاقوا في زمان واحد، بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) أي لم يكن ذلك عن التواطؤ وإنما كان لمعنى جامع هو أن الكل استغنوا بالأموال، فنسوا الله وجاوزوا الحد في العصيان، فكذبوا رسلهم، فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي فأعرض يا أشرف الخلق عن جدالهم بعد ما كررت عليهم الدعوة، فأبوا إلّا العناد فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) أي لا تحزن فإنك لست بملوم بسبب التقصير منكم وانما هم الملومون بالإعراض والعناد، وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) ، أي ولا تدع العظة فإنها تزيد المؤمنين قوة في يقينهم وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) أي إلّا ليقروا بالعبودية طوعا أو كرها كما قاله ابن عباس، أي فإن الكافرين يقرون للعبودية، وهو إظهار التذلل بالخلقة الدالة على وحدانية الله تعالى وانفراده بالخلق، واستحقاق العبادة دون غيره، فالخلق كلهم عابدون بهذا الاعتبار، أو إلّا لآمرهم بالعبادة كما نقل عن علي بن أبي طالب وهي التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله فإن هذين النوعين لم يخل شرع منهما، واللام لام الحكمة، والسبب شرعا.
وقال مجاهد: «إلّا ليعرفوني» أي لأنه تعالى لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده وتوحيده.
روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال عن ربه: «كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف»
«1» . اه وعبر بالعبادة عن المعرفة لأنها وسيلة إلى المعرفة أي أن الله خلق الخلق
__________
(1) رواه السيوطي في الدر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة 126، وعلي القاري في الأسرار-(2/455)
مستعدين لمعرفته مع كونها مطلوبة منهم، ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) أي لست كالسادة في طلب العبادة بل هم الرابحون في عبادتهم والعبيد على قسمين: قسم منهم يكون للعظمة كمماليك الملوك، فالملك يطعمهم ويسقيهم ويعطيهم الأطراف من البلاد، والطراف بعد التلاد وقسم منهم للانتفاع بهم في تحصيل الأرزاق ولإصلاحها، فليتفكروا في أنفسهم في كونهم مخلوقين للعبادة، هل هم من نوع أن يطلب منهم تحصيل رزق، أو هم ممن يطلب منهم إصلاح قوت، كالطباخ والخواني الذي يقرب الطعام وليسوا من هذا القسم بل هم عبيد من القسم الأول، فينبغي أن لا يتركوا التعظيم لأمر الله، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) أي الثابت الذي لا يتزلزل، فلا يطلب الرزق لغناه عبد من عباده فإنه يرزقهم ولا يطلب منهم أن يعينوه على الأرزاق، لأنه تعالى قوي وقرئ أني أنا الرزاق. وقرأ ابن محيصن «هو الرازق» ، كما قرأ «وفي السماء رازقكم» . وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش المتين بالجر، فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ بفتح الذال، أي إذا عرفت حال الكفرة المتقدمين من عاد وثمود، وقوم نوح فإن لهؤلاء المكذبين من كفار مكة نصيبا وافرا من العذاب، مثل نصيب نظرائهم من الأمم السابقة، فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) أي فلا يطلبوا مني أن أعجل في المجيء بالعذاب، فلا يأتي الأجل ما لم يفرغ الرزق، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60) أي فالشدة من العذاب لكفار مكة من أجل يومهم الذي يوعدون العذاب فيه، وهو يوم بدر كما هو الأوفق لما، تقدم أو يوم القيامة، وهو الأنسب بما في أول السورة الآتية.
__________
- المرفوعة 273، والفتني في تذكرة الموضوعات 11. وفيه «فأحببت أن أعرف فخلقت خلقا» .(2/456)
وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)
سورة الطور
مكية، تسع وأربعون آية، ثمانمائة واثنتا عشرة كلمة، ألف وخمسمائة حرف
وَالطُّورِ (1) أي طور سينين، وهو جبل بمدين سمع فيه موسى عليه السلام كلام الله تعالى، واسمه زبير أقسم الله به، وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) أي كتاب مكتوب في كاغد مبسوط، غير مطوي، وغير مختوم عليه- وهو القرآن- يقرؤه المؤمنون من المصاحف ويقرؤه الملائكة من اللوح المحفوظ، أو هو التوراة المكتوبة في الألواح التي أنزلت على موسى، وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وهو إما الكعبة أو بيت معمور بالناس الطائفين به، العاكفين، يعمره الله كل سنة بستمائة ألف، فإن عجز الناس عن ذلك أتمه الله بالملائكة، أو الضراح، وهو في السماء بحيال الكعبة، يدخل فيه كل يوم سبعون ألف ملك يطوفون به ويصلون فيه، ثم لا يعودون إليه أبدا، وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) فوق كل شيء وهو السماء. وقيل: العرش، فإنه سقف الجنة، وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) أي الممتلئ وهو بحر فوق السماء السابعة تحت عرش الرحمن، يسمى بحر الحيوان، يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحا فينبتون في قبورهم. ويقال: هو بحر حار يصير نارا.
روي أن الله تعالى يجعل البحار يوم القيامة نارا يسجر بها نار جهنم. إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) أي لنازل بشدة على مستحقه يوم القيامة، ما لَهُ أي العذاب مِنْ دافِعٍ (8) عنه يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9) أي يوم تخرج السماء عن مكانها وتدور بأهلها دورانا كدوران الرحا وتموج الخلائق بعضهم في بعض من الهول فيوم معمول لواقع، أو لدافع، أي ليس له دافع يوم تمور السماء وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) ، أي تزول الجبال عن وجه الأرض، وتطير في الهواء، ثم تقع على الأرض مفتتة كالرمل، ثم تصير كالصوف المندوف، ثم تطيرها الرياح فتصير هباء منثورا.
فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) ، أي إذا علم أن عذاب الله واقع وأنه ليس له دافع، فشدة عذاب إذا للمكذبين للرسل الذين هم يلهون في أباطيل، فأفعالهم مثل أفعال الخائض في الماء فهو لا يدري أين يضع رجله. يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13)(2/457)
و «يوم» إما ظرف لقول مقدر بعده، أي يوم يدفعون إليها دفعا عنيفا يقال لهم: هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14) في الدنيا. وذلك أن خزنة جهنم يغلون أيديهم إلى أعناقهم ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم، ثم يدفعون دفعا على وجوههم وزجا أقفيتهم ويقولون لهم توبيخا: هذِهِ النَّارُ إلخ. وإما بدل من يومئذ والمعنى: فويل يوم يقع العذاب للمكذبين وهو يوم يدعون أي المكذبون إلى النار والعامة على فتح الدال وتشديد العين مضمومة.
وقرأ علي والسلمي وأبو رجاء، وزيد بن علي بسكون الدال وفتح العين فيكون دعا حالا من الواو، أي يوم ينادون مدعوين بأن يقال لهم: هلموا إلى نار جهنم فادخلوها وتقول لهم الخزنة: هذه النار، أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) ؟ أي فهذا العذاب الذي ترونه سحر كما كنتم تقولون في الدنيا للأنبياء هم سحرة أم أنتم عمي عن المخبر عنه كما كنتم عميا عن الخبر، أي هل في المرئي شك أم هل في بصركم خلل؟ فالذي ترونه حق وقد كنتم تقولون إنه ليس بحق.
اصْلَوْها أي ادخلوا النار وقاسوا شدائدها، فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا أي فافعلوا ما شئتم من الصبر على عذاب النار وعدمه، سَواءٌ عَلَيْكُمْ أي صبركم عليه وتركه سواء عليكم في عدم النفع إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) ، فإن الجزاء حيث كان واجب الوقوع بحسب الوعد كان الصبر وعدمه سواء في عدم النفع، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) دائم فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ، أي متلذذين بما أعطاهم ربهم.
وقرأ الحسن وغيره «فكهين» بغير ألف، أي معجبين وقرئ «فاكهون» على أنه خبر إن أي ذوو فاكهة كثيرة بسبب إعطاء ربهم إياهم تلك، وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) عطف على ما آتاهم أي إنهم ناعمون بأمرين بما آتاهم ربهم، وبأنه وقّاهم، أو عطف على «في جنات» . فالمعنى إن المتقين أدخلهم ربهم جنات ونعيما ووقاهم عذاب الجحيم فيقول الله لهم: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً أي بلا تعب في تحصيل الطعام والشراب، وبلا داء في تناولهما وبلا خوف نفاد وبلا إثم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19)
فلا من عليكم في هذا اليوم وإنما منتي عليكم في الدنيا إذ هديتكم ووفقتكم للأعمال الصالحة لأن هذا إنجاز الوعد، مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ حال من الضمير المستكن في خبر إن أي كائنون في جنات حال كونهم متكئين على نمارق على سرر موصولة بعضها إلى بعض وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) أي بنساء بيض عظام الأعين. فقوله تعالى: وَزَوَّجْناهُمْ عطف على خبر «إن» وهو إشارة إلى أن المزوج هو الله تعالى يتولى الطرفين يزوّج عبيده بإمائه، ومن يكون كذلك لا يفعل إلّا ما فيه راحة العبيد والإماء فهو إشارة إلى أن الحور العين في الجنات مملوكات بملك اليمن لا بملك النكاح، وإنما عدي بالباء إشارة إلى أن المنفعة في التزويج هنا للرجال فقط وإنما زوجوا للذتهم بالحور لا للذة الحور بهم، وأيضا إن في التزويج معنى الإلصاق، وفي الباء كذلك، فكأن المعنى جعلناهم ملصقين بحور من غير عقد منهم.(2/458)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30)
وقرئ «بحور عين» على إضافة الموصوف إلى صفته. وقرئ «بعيس عين» .
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ والموصول مبتدأ خبره ألحقنا بهم. وقرأ أبو عمرو «وأتبعناهم ذرياتهم» بإسناد الفعل إلى المتكلم المعظم نفسه وبقطع الهمزة. والباقون «واتبعتهم» بإسناد الفعل إلى الذرية، وبهمزة وصل. قرأ نافع «ذريتهم» بالإفراد في الأولى والجمع في الثانية. وقرأ ابن كثير والكوفيون بالإفراد فيهما وأبو عمرو بالجمع فيهما مع النصب بالكسرة، وابن عامر بالجمع فيهما والرفع في الأولى والنصب بالكسرة في الثانية، والذرية هنا محمولة على الآباء والأبناء معا، أي إن المؤمن إذا كان عمله أكثر ألحق به من دونه في العمل ابنا كان أو أبا بسبب الإيمان كما هو منقول عن ابن عباس وغيره، والله تعالى أتبع الولد الوالدين في الإيمان ولم يتبعه أباه في الكفر بدليل أن من أسلم من الكفار حكم بإسلام أولاده الصغار، ومن ارتد من المسلمين لا يحكم بكفر ولده، كما
روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنه تعالى يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه لتقر بهم عينه» ثم تلا هذه الآية
. فالآباء داخلون في اسم الذرية، ويلحق بالذرية من النسب الذرية بالسبب وهو المحبة، فإن كان معها أخذ علم أو عمل كانت أجدر، فتكون ذرية الإفادة كذرية الولادة
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «المرء مع من أحب»
«1» . وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ أي وما نقصنا شيئا من درجة الأعلى لأجل إلحاق الأدنى به وهذا لإزالة وهم المتوهم أن ثواب الأعلى يوزع على من دونه. وقرأ ابن كثير «ألتناهم» بكسر اللام. والباقون بفتحها. وقرأ ابن هرمز «آلتناهم» بمد الهمزة. وقرئ «لتناهم» بكسر اللام و «لتناهم» بالفتح كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) أي كل امرئ مرهون عند الله تعالى بعمله فإن عمل صالحا فك نفسه، وإلا أهلكها فالعمل بمنزلة الدين الثابت حيث إن العبد مطالب بذكر العمل خيرا أو شرا ويقال: كل امرئ بما كسب دائم فإن أحسن ففي الجنة مؤبدا، وإن أساء ففي النار مخلدا، وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) أي زدناهم على ما كان لهم وقتا بعد وقت بأنواع الفواكه، وأنواع اللحمان مما يشتهون فكل واحد من أهل الجنة يعطى في الجنة ما يشتهي وإن لم يطلبه يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً أي يتعاطون في الجنة خمرا هم وجلساؤهم بكمال الاشتياق، أو بتجاذب بعضهم إناء الخمر من بعض في شربها تجاذب ملاعبة لا تجاذب مخاصمة، وهو المؤمن وزوجاته وخدمه، لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23) أي لا كلمة لغو ولا إثم بسبب شربها، أي بسبب زوال العقل ونهوض الغضب.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالبناء على الفتح في الاسمين. والباقون بالرفع. وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ
__________
(1) رواه أبو داود في السنن (5127) ، ومسلم (2034) ، وابن عدي في الكامل في الضعفاء (2: 59) .(2/459)
قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40)
بالكؤوس وغيرها من التحف للخدمة غِلْمانٌ لَهُمْ وهؤلاء الغلمان يخلقهم الله في الجنة كالحور، ولذلك لم يقل تعالى غلمانهم وإنما قال: غِلْمانٌ لَهُمْ لئلا يظن أنهم الذين كانوا يخدمونهم في الدنيا، فيخاف كل من خدم أحدا في الدنيا أن يكون خادما له في الجنة فيحزن بكونه لا يزال تابعا، كَأَنَّهُمْ في بياضهم وشدة صفائهم لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) مخزون مصون من الحر والبرد، وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ في الزيارة يَتَساءَلُونَ (25) ، أي يسأل كل بعض منهم بعضا آخر عن أمر الدنيا، وعن نعيم الجنة قالُوا أي قال كل منهم: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ أي قبل دخول الجنة فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26) ، أي خائفين على فوات الدنيا والخروج منها ومفارقة الإخوان فأخطأنا في ذلك. وقوله تعالى: فِي أَهْلِنا متعلق بمحذوف حال من الضمير في مشفقين أي حال كوننا بين أهلينا في الدنيا، أو بيان ل «قبل» ، أي في وقت اجتماعنا مع أهلنا فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بالمغفرة ودخول الجنة، وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) أي عذاب النار.
وقال ثعلب السموم: شدة الحر، أو شدة البرد في النهار إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ أي من قبل هذه الرحمة أي في الدنيا نَدْعُوهُ أي نسأله الحفظ من العذاب ونعبده، إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ أي الصادق في وعده لنا المحسن إلينا، الرَّحِيمُ (28) بعباده المؤمنين.
وقرأ نافع والكسائي بفتح همزة «أنه» على تقدير كون اللام ملفوظا بها. والباقون بكسرها استئنافا على معنى التعليل، فَذَكِّرْ أي عظ يا أشرف الخلق فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بالنبوة ورجاحة العقل، بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أي فلا تتغير ولا تتبع أهواءهم لقولهم لك: أنت كاهن تخبر بما في الغد، ومجنون. أَمْ يَقُولُونَ أي بل أيقولون أي كفار مكة هو شاعِرٌ يتقول الكلام من تلقاء نفسه نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) أي ننتظر بذلك الشاعر تقلبات الزمان ونزول الموت، فإنه إن كان شاعرا فصروف الزمان قد تضعف ذهنه، فيتبين كساد شعره. وقالوا أيضا:
نتربص موته فإن أباه مات شابا، ونحن نرجو أن يكون موته كموت أبيه، فلا نعارضه الآن مخافة أن يغلبنا بقوة شعره، وجملة «نتربص» نعت ل «شاعر» .
قُلْ يا أشرف الخلق لهؤلاء الكفار:
تَرَبَّصُوا أي انتظروا موتي- وهذا أمر تهديد- فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أي فإني أتربص هلاككم، وقد أهلكوا في يوم بدر وفي غيره من الأيام ويقال إن معنى هذه الآية أني أخاف الموت ولا أتمناه لا لنفسي ولا لأحد وإنما أنا نذير، فتربصوا موتي وأنا متربصة ولا يسركم ذلك لعدم حصول ما تتمنون بعدي، أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أي أتأمرهم عقولهم بهذا المقال المتناقض فإنهم قالوا في حق الرسول: هو كاهن مجنون شاعر، فإن الكاهن ذو دقة نظر في الأمور، والمجنون مختل فكره، والشاعر ذو كلام موزون متسق، فكيف يجتمع أوصاف هؤلاء في واحد! بل هم قوم مجاوزون الحدود في العناد لا يحومون حول السداد. ولذلك يقولون: أكاذيب خارجة عن دائرة العقول. وقرئ «بل هم» . أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ أي بل يقولون:(2/460)
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
كذب محمد في القرآن من عند نفسه وليس بشعر ولا كهانة ولا جنون، بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) بالقرآن استكبارا فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ أي فليجيئوا بكلام مثل القرآن في البلاغة، وصحة المعاني، والإخبار بالمغيبات من تلقاء أنفسهم، فإنهم مثل محمد في البشرية والعربية، إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) فيما قالوا فإن صدقهم في ذلك يستلزم قدرتهم على الإتيان بمثله، ففيهم الشعراء البلغاء، والكهنة الأذكياء، ومن يرتجل القصائد، ويقص القصص. أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ؟! أي أوجدوا من غير خالق، فلذلك ينكرون القول بالتوحيد لانتفاء الإيجاد، وينكرون الحشر لانتفاء الخلق الأول.
وقال ابن كيسان: أم خلقوا لغير شيء من عبادة وجزاء، فخلقوا عبثا، وتركوا سدى فلا إعادة. وقيل: أي من غير أب وأم، فهم كالجماد لا يعقلون ولا يقيم الله عليهم حجة، أليس قد خلقوا من نطفة وعلقة ومضغة؟! أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) لأنفسهم فلا يأتمرون لأمر الله ولا يعبدون الله، وهم لا يقولون ذلك، فإذا أقروا أن تمّ خالقا غيرهم فما الذي يمنعهم من الإقرار له بالعبادة ومن الإقرار بأنه قادر على البعث! أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) ف «أم» للاستفهام الإنكاري بمعنى النفي، أي ما خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون بأن الله واحد، فإذا سئلوا من خلقكم ومن خلق السموات والأرض؟ قالوا: الله وهم غير موقنين بما قالوا، وإلّا لما
أعرضوا عن عبادته، أي لما لم ينشأ من إيقانهم بالله أثر وهو الإقبال على عبادته جعل إيقانهم كالعدم فنفي عنهم. وفي هذا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم أي إنهم كما طعنوا فيك يا أشرف الخلق طعنوا في خالقهم. أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ، و «أم» استفهام إنكاري أي أعندهم خزائن رحمة الله حتى يرزقوا النبوة من شاءوا، أم عندهم خزائن علم الله بالغيب حتى يختاروا للنبوة من شاءوا، أم هم الغالبون على الأمور يدبرونها كيف شاءوا، أم لهم مصعد إلى السماء يستمعون ما يوحى إلى الملائكة من علم الغيب حتى يعلموا أن محمد ليس برسول، وأن كلامه ليس بمرسل، أي أنتم لستم بخزنة الله، ولا بكتبة الخزانة المسلطين عليها، ولا أنتم اجتمعتم بهم لأنهم ملائكة ولا صعود لكم إليهم. فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) أي إذا ادعوا الاستماع من الملائكة فليأت مدعي الاستماع بحجة واضحة تصدق دعواه، أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أي أتزعمون أن لله تعالى البنات ولكم البنون خاصة لتكونوا أقوى منه تعالى، فتكذبوا رسوله وتردوا قوله من غير حجة، فتكونوا آمنين من عذاب يأتيكم منه لضعفه وقوتكم! أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً أي أجر الدنيا من مال، أو غيره على تبليغ الرسالة فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أي فهم لذلك الأجر من التزام غرامه محملون الثقل فلذلك لا يتبعونك!
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أي هل عندهم علم ما غاب عنهم فهم يكتبون ما غاب عنهم حتى يمكنهم منازعة محمد، أي هل صاروا في درجة محمد حتى استغنوا عنه وأعرضوا أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ(2/461)
كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ
(42) ! والمعنى: أتهديهم لوجه الله أم تسألهم أجرا، فتثقلهم عن الاتباع، أم عندهم الغيب فلا يحتاجون إليك، فيعرضون عنك أم ليس لهم شيئا من هذين الأمرين بل يريدون العذاب بغتة من حيث لا يشعرون، فالذين كفروا معذبون. أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يمنعهم من عذاب الله سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) أي عن الذي يشركون من الولد ومن مثل الآلهة، لأنهم كانوا يقولون: البنات لله، وكانوا يقولون: هو تعالى مثل ما يعبدونه، وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) أي لو عذبنا كفار مكة بنزول قطع من السماء عليهم لم ينتهوا عن طغيانهم، ولم يرجعوا عن عنادهم ولقالوا في هذا النازل إغاظة لمحمد: هذا سحاب تراكب بعضه على بعض يمطرنا ولم يصدقوا أنه قطعة نازلة للعذاب، فَذَرْهُمْ أي إذا تبين أنهم لا يرجعون عن الكفر فاتركهم على شر أحوالهم، حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) أي يهلكون بالقتل يوم بدر.
وقرئ «يلقوا» . وقرأ ابن عامر وعاصم «يصعقون» بضم الياء مبنيا للمفعول، وباقي السبعة بفتحها مبينا للفاعل. وقرأ أبو عبد الرحمن بضم الياء وكسر العين. يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً أي يوم لا يدفع عنهم مكرهم- في مناصبتهم يوم بدر- شيئا من الهلاك وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) أي ولا يمنعون من القتل والأسر النازلين بهم في ذلك اليوم، وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أي إن لهؤلاء الظلمة بعبادتهم الأوثان عَذاباً دُونَ ذلِكَ أي قبل ما لاقوه من القتل يوم بدر، وهو القحط الذي أصابهم سبع سنين. وقرئ دون ذلك قريبا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) أن العذاب يلاقوه. وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ بإبقائك فيما بينهم مع مقاساة الأحزان فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا أي بمنظر منا وفي حفظنا، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) من موضعك أي حين تعزم على القيام وقد
ورد في الخبر: «إن من قال سبحان الله من قبل أن يقوم من مجلسه يكتب ذلك كفارة لما يكون قد صدر منه من اللغط واللغو في ذلك المجلس»
. وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ فإن العبادة فيه أشق على النفس وأبعد عن الرياء وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49) أي وقت الصبح حين يذهب ضياؤها بضوء الشمس.(2/462)
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)
سورة النجم
مكية، اثنتان وستون آية، ثلاثمائة وستون كلمة، ألف وأربعمائة وخمسة أحرف
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) أي والقرآن إذا نزل. وهذا استدلال بمعجزة النبي صلّى الله عليه وسلّم الدالة على صدقه، أو والنجوم التي هي ثابتة للاهتداء إذا سقطت إلى أسفل، وفائدة تقييد القسم بالنجم بوقت هويه أنه إذا كان في وسط السماء لا يهتدي به الساري، لأنه لا يعلم به المشرق من المغرب ولا الجنوب من الشمال، فإذا زال تبين بزواله جانب المغرب من المشرق والجنوب من الشمال، ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ أي ما عدل سيدكم يا معشر قريش عن الطريق المستقيم، أو ما جن مصاحبكم محمد، وَما غَوى (2) أي وما أعتقد باطلا قط بل هو رشيد مرشد، دال على الله تعالى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) أي ولم يتكلم بالقرآن عن هوى نفسه، وعن رأيه أصلا، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4) أي ما القرآن إلّا وحي من الله يوحى أي يجدد إيحاؤه إليه صلّى الله عليه وسلّم وقتا بعد وقت. ويقال في معنى هذه الآية: ما جن محمد وما مسه الجن، فليس بكاهن، وليس بينه وبين الغواية تعلق، فليس بشاعر، وما قوله إلّا وحي، وليس بقول كاهن ولا شاعر، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) أي علم النبي الوحي ملك شديد القوة بالبدن، وهو جبريل عليه السلام.
روي أنه جاء النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا محمد ما بعثت إلى نبي قط أحب إلي منك، ألا أعلمك أسماء الله عز وجل هن أحب أسمائه أن يدعى بهن قل: يا نور السموات والأرض، يا جبار السموات والأرض، يا عماد السموات والأرض، يا بديع السموات والأرض، يا قيام السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا صريخ المستصرخين، يا غياث المستغيثين، يا منتهى العابدين، ويا أرحم الراحمين، فيزول بك كل حاجة» . ذُو مِرَّةٍ أي قوة في العقل، فَاسْتَوى (6) و «الفاء» للسببية أي فاستقام جبريل على صورته الحقيقية التي خلقه الله تعالى عليها، فرآه النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو بحراء فخرّ مغشيا عليه دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالوحي وذلك أن رسول الله أحب أن يراه في صورته التي جبل عليها، فإن التشكل بشكله الذي فطر عليه يتسبب من شدة قوته وقدرته على الخوارق، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) أي والحال أن جبريل في الجانب الشرقي فسد المشرق لعظمته.(2/463)
مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)
وقال الرازي: والظاهر أن المعنى ارتفع محمد بالمكان وهو بالمكان الأعلى رتبة في رفعة القدر، لا حقيقة في الحصول في المكان، فإنه صلّى الله عليه وسلّم بلغ الغاية وصار نبيا وهو واصل إلى الأفق الأعلى الفارق بين المنزلتين، ثُمَّ دَنا أي بعد ما مدّ جبريل جناحه وهو بالأفق الأعلى عاد إلى الصورة التي كان يعتاد النزول عليها، وقرب من النبي صلّى الله عليه وسلّم فَتَدَلَّى (8) أي فنزل من الأفق الأعلى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فضمه إلى نفسه وجعل يمسح الغبار عن وجهه حتى أفاق وسكن روعه صلّى الله عليه وسلّم، ويقال: دنا جبريل من النبي فبقي متدليا من الهواء واقفا بين السماء والأرض، فإن التدلي هو التعلق من الهواء، فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) أي فكان مقدار جبريل والنبي مقدار قوسين، بل أقرب من ذلك بنصف قوس، فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
(10) ، أي فأوحى الله إلى جبريل ما أوحى جبريل إلى كل رسول، فإن جبريل أمين لم يخن في شيء مما أوحي إليه.
ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أي صدق فؤاد محمد فيما رأى شيئا من صورة جبريل، ومن الله تعالى ليلة المعراج، ومن الآيات العجيبة الإلهية أي إن قلبه صلّى الله عليه وسلّم لم يقل إن المرئي خيال لا حقيقة له، ولم يقل: إنه جني أو شيطان، ويحتمل أن يقال: لم يكذب جنس الفؤاد ما رأى صلّى الله عليه وسلّم ببصره بأن يقول كيف يرى الله وهو ليس في مكان ولا جهة، وليس على هيئة، أو كيف يرى جبريل مع أنه ألطف من الهواء، والهواء لا يرى، فرؤية الله تعالى رؤية جبريل على ما رآه محمد صلّى الله عليه وسلّم جائزة عند من له قلب، فالفؤاد لا ينكر ذلك وإن كانت النفس المتوهمة تنكره.
بفتح التاء وسكون الميم، أي أفتنكرونه. وقرأ عبد الله بن مسعود والشعبي بضم التاء وسكون الميم أي أفتجدونه شاكا فيما رأى، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) أي وبالله لقد رأى محمد جبريل على صورته الحقيقة مرة أخرى عند شجرة نبق في السماء السابعة عن يمين العرش، وهو موضع لا يتعداه ملك ولا روح من الأرواح.
قال مقاتل: وهي شجرة تحمل الحلي والحلل والثمار من جميع الألوان، لو وضعت ورقة منها في الأرض لأضاءت لأهلها، وهي شجرة طوبى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) أي الجنة التي يأوي إليها المتقون وأرواح الشهداء إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) ، و «إذ» ظرف ل «رآه» ، أي ولقد رآه عند السدرة وقت علاها ما علاها من فراش من ذهب، أو من ملائكة يأتونها كأنها طيور، أو من أنوار الله تعالى، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما وصل إليها تجلى ربه لها، وظهرت الأنوار، ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) أي ما التفت محمد إلى الجراد ولا إلى غيره، وما جاوز إلى ما سوى الله تعالى، أو ما(2/464)
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)
محمد عن الأنوار وما طلب شيئا غيرها، بل اشتغل بمطالعتها مع أن في ذلك العالم من العجائب ما يحير الناظر، لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18) أي والله لقد رأى من عجائب الملك والملكوت ما لا تحيط به العبارة أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أي ومناة المتأخرة الذليلة، أي الوضيعة المقدار. وذلك لأن اللات كان وثنا على صورة آدمي وهو لثقيف بالطائف أو لقريش بنخلة والعزى صورتها صورة شجرة سمرة لغطفان، ومناة صورتها صورة صخرة كانت لخزاعة ولهذيل بقديد. فالآدمي أشرف من النبات، وهو أشرف من الجماد وهو متأخر، فالمناة في أخريات المراتب. والمعنى: لما ذكر الله تعالى عظمة آياته في ملكوته وهي أن رسول الله إلى الرسل الذي يسد الآفاق ببعض أجنحته، ويهلك المدائن بقوته لا يمكنه أن يتعدى السدرة في مقام جلال الله وعزته. قال: أفرأيتم هذه الأصنام مع حقارتها شركاء الله مع ما تقدم ويقال: أفتظنون أن عبادتكم اللات والعزى الأخرى، ومناة الثالثة في الدنيا تنفعكم في الآخرة.
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) أي كيف جعلتم لله تعالى بنات وقد اعترفتم في أنفسكم أن البنات ناقصات والبنين كاملون، والله كامل العظمة، فكيف جعلتموه ناقصا ونسبتم إلى أنفسكم الكامل، فنسبتكم البنات إلى الله تعالى قسمة جائزة على طريقتكم حيث نسبتم إلى أنفسكم الأعظم من الثقلين، وأبغضتم البنات ونسبتموهن إلى الأعظم وهو الله تعالى، وكان على عادتكم أن تجعلوا الأعظم للعظيم وإلا نقص للحقير، فإذا أنتم خالفتم الفكر والعقل والعادة التي هي لكم، إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ أي ما هذه الأصنام المذكورات إلّا أسماء خالية عن المسميات وضعتموها أنتم وآباؤكم فإنكم قلتم: إنها آلهة وليست بآلهة ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي ما أنزل الله بهذه الأسماء من حجة فوضع الاسم لا يجوز إلّا بدليل نقلي أو عقلي، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ أي ما يتبع الكافرون في تسمية الأصنام آلهة إلا توهم أن ما هم عليه حق، وإلّا ما دونه مما تشتهيه أنفسهم الأمارة بالسوء وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23) أي البيان بالكتاب المنزل والمرسل أن الأصنام ليست بآلهة، وأن العبادة لا تصلح إلّا لله الواحد القهار أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24) أي الإنسان ما اشتهاه من شفاعة الأصنام وغيرها أو هل له أن يعبد بالاشتهاء فيعبد ما لا يستحق العبادة! فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25) أي إن اختار الإنسان معبودا على ما اشتهاه فيعاقبه على فعله في الدنيا وإلّا فيعاقبه في الآخرة وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26) أي وكثير من الملائكة مع علو منزلتهم لا تنفع شفاعتهم شيئا إلّا من بعد أن يأذن الله في الشفاعة فيمن يشاء ويرضى، وهو العابد الشاكر، لا المعاند الكافر، فإذا كان حال الملائكة في باب الشفاعة كما ذكر فكيف تقبل شفاعة الجمادات، إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي بأحوال يوم القيامة لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) ومناسبة هذه الآية لما قبلها هي أنهم لما بين لهم أن أعظم أجناس الخلق لا شفاعة لهم إلّا بالإذن قالوا: نحن لا نعبد(2/465)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40)
الأصنام لأنها جمادات وإنما نعبد الملائكة بعبادتها فإنها على صورها ننصبها بين أيدينا ليذكرنا الشاهد الغائب، فنعظم الملك الذي ثبت أنه مقرب عظيم. الشأن فقال تعالى ردا عليهم: كيف تعظمونهم وأنتم تسمونهم تسمية الإناث حيث قلتم: الملائكة بنات الله. وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وهذه الجملة حال من فاعل «ليسمون» ، أي ليسمون الملائكة بالبنات والحال أنه لا علم لهم بما كانوا يقولون أصلا. وقرئ «بها» أي بالتسمية، أو بالملائكة. إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ في أن الملائكة إناث، وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) أي لا ينفع شيئا من العلم بحقيقة الشيء والظن يتبع في الأمور المصلحية والأفعال العرفية أو الشرعية عند عدم الوصول إلى اليقين، ومدح من حاله لا يعلم، فالظن فيه معتبر، والأخذ بظاهر حال العاقل واجب، وأما في الاعتقاديات فلا يغني الظن شيئا من الحق، فإن المكلف يحتاج إلى يقين يميز الحق من الباطل ليعتقد الحق ويميز الخير من الشر ليفعل الخير، ففي الحق ينبغي أن يكون جازما، والظان لا يكون جازما، ويحتمل أن المراد من الحق هو الله تعالى. والمعنى: وأن الظن لا يفيد شيئا من الله تعالى، فإن الأوصاف الإلهية لا تستخرج بالظنون فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا (29) أي اترك مجادلة من أعرض عن القرآن المنطوي على علوم الأولين والآخرين المذكور لأمور الآخرة قاصرا نظره إلى الدنيا. وهذه الآية غير منسوخة، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان مأمورا بالدعاء بالحكمة، والموعظة الحسنة فلما عارضوه بأباطيلهم أمر بالجواب عنها بالمجادلة، ثم لما لم ينفع أمر بالإعراض عنهم وعدم مقابلتهم بالبرهان، أي وأمر بالإعراض عن المناظرة بشرط جواز المقاتلة ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ أي ذلك الظن غاية ما يبلغون به من الإدراك المتظلم للظن الفاسد، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30) أي إن الله أعلم بمن لم يرجع إلى الهدى أصلا، وبمن يقبل الاهتداء في بعض الأحوال، وقد علم الله أنه لا يؤمن بمجرد الدعاء أحد من المكلفين وإنما ينفع فيهم أن يقع السيف والقتال، فأعرض عن الجدال وأقبل على القتال.
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي خلقا وملكا والوقف هنا تام عند أبي حاتم لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا أي بعقاب ما عملوا من الضلال وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا أي اهتدوا بِالْحُسْنَى (31) أي بالمثوبة الحسنى التي هي الجنة. وقوله تعالى: لِيَجْزِيَ متعلق بقوله: ضَلَّ واهْتَدى» كأنه تعالى قال: هو يعلم بمن ضلّ واهتدى ليجزيهما، أو متعلق بقوله تعالى فأعرض، أي أعرض عنهم ليقع الجزاء الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ. وهذا الموصول بدل من الموصول الثاني، وقرأ حمزة والكسائي «كبير الإثم» وَالْفَواحِشَ.
قيل: الكبائر: ما وعد الله عليه بالنار صريحا وظاهرا، والفواحش: ما أوجب الله عليه حدا في الدنيا إِلَّا اللَّمَمَ وهو ما يقصده المؤمن ولا يحققه، أو ما يأتي به المؤمن ويندم في الحال، إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ حيث يغفر الصغائر باجتناب الكبائر، وهذا تنبيه على أن إخراج اللحم عن(2/466)
ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50)
حكم المؤاخذة به ليس لخلوه عن الذنب في نفسه بل لسعة المغفرة الربانية هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ أي هو تعالى أعلم بأحوالكم يعلمها حين ابتدأ خلقكم من تراب، فإن كل واحد أصله من التراب فإنه يصير غذاء، ثم يصير دما، ثم يصير نطفة وحين صوّركم في الأرحام. وهذا تنبيه على كمال العلم والقدرة فإن بطن الأم في غاية الظلمة ومن علم بحال الجنين في بطن الأم لا يخفى عليه ما ظهر من حال العباد اتَّقى (32) أي إذا كان الأمر كذلك فلا تثنوا على أنفسكم بالطهارة عن المعاصي بالكلية على سبيل الإعجاب أو الرياء ولا تقولوا لمن لا تعرفون حقيقته نحن خير منك، ولا تقطعوا أيها المؤمنون بخلاصكم من العذاب فإن الله أعلم بمن أطاع وأخلص العمل، أما على سبيل الاعتراف بالنعمة فجائز، وذلك بأن أعتقد أن ما عمله من الأعمال الصالحة بتوفيق الله ولم يقصد بذلك الاعتراف بالمدح. وهذا لم يكن من المزكين أنفسهم، فإن المسرة بالطاعة طاعة، وذكرها شكر أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى (34) أي أفرأيت الذي أدبر عن الإيمان وأعطى شيئا قليلا من المال المسمى وقطع العطاء.
قيل: نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة كان يجلس عند النبي صلّى الله عليه وسلّم وسمع وعظه وأثرت الحكمة فيه تأثيرا قويا: فقال له رجل من المشركين لم تركت دين آبائك؟ فقال: أخشى عذاب الله. فقال له: لا تخف وأعطني كذا، وأنا أتحمل عنك العذاب، فتولى الوليد عن الوعظ وسماع الكلام من النبي صلّى الله عليه وسلّم
وأعطاه الوليد بعض المشروط وبخل بالباقي فلا يبقى بالعهد ولا يحصل بذلك حمل الوزر، أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35) أي أعنده علم بالأمور الغيبية فهو يعلم أن صاحبه يتحمل عنه ذنوبه يوم القيامة أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) أي بل لم يخبر بالخبر الذي كان في التوراة وفي صحف إبراهيم الذي بالغ في الوفاء بما عاهد الله تعالى أنه لا تحمل نفس حمل نفس أخرى، أي أنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره. وعن ابن عباس قال: كانوا قبل إبراهيم يأخذون الرجل بذنب غيره، فكان أهل المقتول إذا ظفروا بأبي القاتل أو ابنه، أو أخيه أو عمه، أو خاله قتلوه حتى نهاهم إبراهيم عن ذلك وبلغهم عن الله أن لا تزر وازرة وزر أخرى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (39) أي وأنه ليس الإنسان يوم القيامة إلّا ما عمل في الدنيا من خير وشر، فإن حسنة الغير لا تفيد نفعا وإن المسيء لا يجد حسنة الغير ثوابا ولا يتحمل عنه أحد عقابا، وَأَنَّ سَعْيَهُ أي عمله من خير وشر سَوْفَ يُرى (40) أي يعرض عليه ويكشف له يوم القيامة في ديوانه وميزانه،
ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41) ثم يجزي الإنسان سعيه بالجزاء الأتم. وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42) أي المرجع بعد الموت، وعند ذلك يجازي الرب الشكور ويجزي الكفور، والقراءة المشهورة فتح الهمزة على العطف على ما، فهذا في الصحف أيضا وهو الحق، فالمخاطب به موسى وإبراهيم على التوزيع. وقرئ بالكسر على الابتداء، فالمخاطب بهذا إما عام وهو كل سامع فهو تهديد للمسيء وحث للمحسن، أو خاص وهو(2/467)
وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60)
النبي صلّى الله عليه وسلّم، ففي هذا تسلية لقلبه كأنه تعالى قال: لا تحزن فإن المنتهى إلى الله وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) فكل ما يعمله الإنسان بخلقه حتى الضحك والبكاء.
قيل: إن الله تعالى خصّ الإنسان بالضحك والبكاء، والقرد يضحك ولا يبكي، والإبل تبكي ولا تضحك، وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44) أي خلق الموت والحياة فلا يقدر على الإماتة والإحياء غيره تعالى وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46) أي تهراق في رحم الأنثى، وَأَنَّ عَلَيْهِ تعالى النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47) أي نفخ الروح كما قال تعالى هنالك: أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ أي نفخ الروح بعد خلق النطفة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو النشاءة بفتح الشين وبعدها ألف ممدودة قبل الهمزة، وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى أي أغنى الناس بلبن الأم وبنفقة الأب في صغره، وَأَقْنى (48) أي وأعطاه الأموال بالكسب بعد كبره، فكل ما دفع الله به الحاجة فهو إغناء، وكل ما زاد عليه فهو إقناء وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49) وهي نجم مضيء وتسمى الشعرى العبور وهي تطلع بعد الجوزاء في شدة الحر وتسمى الشعرى اليمانية، وكانت خزاعة تعبدها وتعتقد تأثيرها في العالم، وهي المرادة في هذه الآية دون الشعرى الشامية المسماة بالشعرى الغميصاء وهي التي في الذراع. وهذا إشارة إلى فساد قول قوم، فإن بعض الناس قال: إن الفقر والغنى بكسب الإنسان واجتهاده فمن كسب استغنى ومن كسل افتقر، وبعضهم قال: إن ذلك بالبخت وذلك بالنجوم، فردهم الله تعالى بقوله هو تعالى محرك النجوم ورب معبودهم الشعرى العبور، وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وهي قوم هود. وسميت أولى لتقدمها في الزمان على عاد الثانية، التي هي ثمود، قوم صالح.
وقرأ نافع وأبو عمرو بإسقاط نون التنوين لالتقاء الساكنين، وبنقل حركة همزة أولى إلى اللام. وقرأ قالون كذلك لكن بقلب الواو همزة ساكنة. وقرأ الباقون بكسر نون التنوين لالتقاء الساكنين وسكون اللام وبعدها همزة مضمومة،
وَثَمُودَ عطف على عاد. وقرأ عاصم وحمزة بغير تنوين للدال في الوصل وبسكون الدال في الوقف. والباقون بالتنوين في الوصل وبالوقف على الألف فَما أَبْقى (51) أي فما أبقى من عاد وثمود أحدا، وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ أي أهلكهم من قبل الفريقين إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52) من الفريقين حيث يبتدئون بالكفر ويتجاوزون في المعاصي فإنهم كانوا يؤذون نوحا عليه السلام، ويضربونه حتى يغشى عليه، وينفرون الناس عنه، ويحذرون صبيانهم أن يسمعوا منه، والبادئ أظلم
و «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل عمل بها»
«1» وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) أي أسقط قريات لوط، وسدوم، وصادوم، وعمورا، وصوائم إلى الأرض بعد أن رفعها إلى السماء على جناح جبريل عليه السلام بأمره
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (3: 109) . [.....](2/468)
وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
جبريل بذلك. فَغَشَّاها ما غَشَّى (54) أي فكساها الله تعالى أمرا عظيما من فنون العذاب، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) أي تتشكك في أي أنعم ربك أيها الإنسان أي لما عد الله تعالى من أنواع النعم وهو الخلق من النطفة، ونفخ الروح فيه والإغناء والإقناء وذكر أن الكافرين أهلكهم، قال: فبأي آلاء ربك تتمارى فيصيبك مثل ما أصاب الذين تماروا من قبل، هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56) أي هذا النبي رسول كالرسل قبله يرسل إليكم كما أرسلوا إلى أقوامهم، والله تعالى لما بيّن الوحدانية بقوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى أشار إلى اثبات رسالة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم بقوله تعالى:
هذا نَذِيرٌ إلخ، ثم أشار إلى القيامة بقوله: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) أي قربت الساعة التي يزداد كل يوم قربها، فهي كائنة قريبة وازدادت في القرب، لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58) أي ليس للساعة نفس قادرة على إظهار وقتها إلّا الله تعالى، أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) أي أتعجبون إنكارا من هذا القرآن أو من حديث حشر الأجساد بعد الفساد، وَتَضْحَكُونَ استهزاء من القرآن، أو أتضحكون وقد سمعتم أن القيامة قريب، وَلا تَبْكُونَ (60) مما في القرآن من الزجر والتخويف وكان حالقكم أن تبكوا منه،
وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61) أي معرضون أو مستكبرون، فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62) أي وإذا كان الأمر كذلك فاسجدوا لله الذي أنزل القرآن، واعبدوه ولا تعبدوا غيره، لأن عبادة غيره تعالى ليست بعبادة.(2/469)
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)
سورة القمر
وتسمى سورة اقتربت، مكية، خمس وخمسون آية، ثلاثمائة واثنتان وأربعون كلمة، ألف وأربعمائة وثلاثة وعشرون حرفا
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ أي دنا قيام الساعة بخروج محمد صلّى الله عليه وسلّم، وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) نصفين من علامات قرب الساعة.
روى أنس بن مالك أن أهل مكة سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يريهم آية، فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما وَإِنْ يَرَوْا آيَةً أي عظيمة يُعْرِضُوا عن الإيمان بها وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) أي هذا سحر دائم يأتي به محمد على مر الزمان، أو قوي لا يمكن إزالته. وقيل:
أي مار يزول ولا يبقى. وقيل: أي شديد المرارة فلا نقدر أن نسيغه كما لا نسيغ المر. وقرئ «وإن يروا» على البناء للمفعول، وَكَذَّبُوا بالآية بكونها دالة على صدق الرسول، وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ أي فقالوا: إنه سحر القمر أو سحر أعيننا، وَكُلُّ أَمْرٍ من الخير والشر مُسْتَقِرٌّ (3) فكل عامل يرى في الآخرة أثر عمله. وقرئ «مستقر» بالجر صفة ل «أمر» ف «كل» عطف على الساعة، أي اقتربت الساعة وكل أمر مستقر، وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) أي وبالله لقد جاءهم في القرآن كائنا من أخبار الأمم الماضية المهلكين ما فيه ازدجار. وقرئ «مزجر» بقلب تاء الافتعال زايا وإدغامها فيه. وقرأ زيد بن علي «مزجر» بصيغة اسم الفاعل ذو زجر. حِكْمَةٌ بالِغَةٌ أي لا خلل فيها بدل من «ما» . وقرئ بالنصب حالا منها فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) و «ما» إما نافية. والمعنى: إن الرسل لم يبعثوا ليلجأوا قومهم إلى الحق وإنما أرسلوا مبلغين وإما استفهامية، والمعنى: إنك يا أشرف الرسل أتيت بما عليك من الدعوة وإظهار الآية عليها، فكذبوك، فأنذرتهم بما جرى على المكذبين، فلم يفدهم إنذارك فهذه حكمة بالغة، فأيّ شيء من الأمور النافعة غير هذا تحصله فلم يبق عليك شيء آخر، فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي لا تناظرهم بالكلام- وهذه الآية غير منسوخة- يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) و «يوم» منصوب ب «يخرجون» ، و «خشعا» حال من فاعل «يخرجون» ، وكذا جملة «كأنهم» إلخ وقرأ(2/470)
فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20)
ابن كثير «نكر» بسكون الكاف. والباقون بالضم. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي «خاشعا» بفتح الخاء، وبألف بعدها والباقون بضم الخاء وفتح الشين مشددة. وقرئ «خاشعة» بالتأنيث على الأصل وقرئ «خشع أبصارهم» على الابتداء، والخبر والجملة حال، والمعنى: يخرج الناس من القبور حال كونهم مثل جراد منتشر في كثرتهم واجتماع بعضهم على بعض يوم يدعو إسرافيل أو جبريل إلى شيء فظيع تنكره النفوس، وهو هول القيامة أذلة أبصارهم من شدة الهول، مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ أي مسرعين إليه مادي أعناقهم إليه يَقُولُ الْكافِرُونَ في ذلك اليوم: هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) أي صعب شديد، ثم شرع في ذكر بعض الأنباء الموجبة للازدجار فقال: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي قبل أهل مكة، قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا نوحا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) عطف على «قالوا» ، أي قالوا لنوح: هو مجنون وزجروه عن مقالته بأنواع الأذية، فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) أي بأني غلبني قومي بالقوة فانتقم لي منهم، والعامة على فتح همزة «أني» . وقرأ الأعمش وابن أبي إسحاق بالكسر، أي فقال نوح: يا إلهي إن نفسي غلبتني بحكم البشرية، وقد أمرتني بالدعاء عليهم، فأهلكهم
فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) ، أي بمطر منصب من السماء على الأرض أربعين يوما. وقرأ ابن عامر بتشديد التاء لكثرة الأبواب، وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً أي جعلنا الأرض كلها، كأنها عيون منفجرة، فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) أي فارماء الأرض بقوة حتى ارتفع والتقى بماء السماء على حال قد قدّرها الله تعالى كما شاء. وقرئ «الماءان» بالتثنية وتحقيق الهمزة «والماوان» بقلب الهمزة واوا، أي ماء السماء وماء الأرض. وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13) أي وحملنا نوحا على سفينة ذات أخشاب عريضة ومسامير، تَجْرِي بِأَعْيُنِنا أي تسير السفينة محفوظة بحفظنا، جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) أي حملناه جزاء لنوح على صبره على كفرانهم، لأنه كان نعمة كفروها فإن كل نبي نعمة على أمته. وقرئ «جزاء» بكسر الجيم، أي مجازاة، وقرئ «كفر» بالبناء على الفاعل، أي أغرقنا الكفار جزاء لهم، وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً أي ولقد جعلنا السفينة آية يعتبر بها من يقف على خبرها، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) أي فهل من معتبر يعتبر بما صنع الله بقوم نوح موجود فيترك المعصية ويختار الطاعة، فَكَيْفَ كانَ عَذابِي الذي عذبتهم به، وَنُذُرِ (16) أي وكيف كان عاقبة إنذاري؟ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ أي وبالله لقد سهلنا القرآن لقومك، بأن نزلناه على لغتهم للاتعاظ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) أي فهل من طالب علم فيعان عليه؟ كَذَّبَتْ عادٌ هودا فاسمعوا، فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18) أي إنذاراتي لهم، إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً أي باردة وهو ريح الدبور فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) ، أي إلى نفاذ المراد، وهو من يوم الأربعاء لثمان بقين من شوال إلى غروب شمس الأربعاء آخره، ومستمر، وصف ليوم مضاف إلى «نحس» بسكون الحاء. وقرئ بتنوين «يوم» وكسر حاء «نحس» ، ومن جعل نحسا اسم معنى أو مصدرا كان مستمر وصفا لنحس أي مستمر النحوسة. تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ(2/471)
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)
أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ
(20) أي تقلع قوم هود من أماكنهم فيلقون أمواتا وهم جثث عظام طوال كأنهم نخل قطعت رؤوسه منقلع عن مغارسه،
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) أي انظر كيف كان عذابي عليهم وكيف كان حال إنذاراتي، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ أي هيأناه للتذكر فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) أي فهل من متعظ يتعظ بما صنع بقوم هود فيترك المعصية؟ كَذَّبَتْ ثَمُودُ قوم صالح بِالنُّذُرِ (23) أي بالإنذارات، فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أي فقالوا: أنتبع آدميا مثلنا واحدا من آحادنا لا من أشرافنا في دينه وأمره إنا وقتئذ لفي خطأ بيّن وتعب، أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا أي أألقي الوحي على صالح وهل خصّ بالنبوة منفردا من بيننا وفينا من هو أكثر مالا وأحسن حالا، بَلْ هُوَ كَذَّابٌ في قوله، أَشِرٌ (25) أي متكبر مرح، سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) .
وقرأ ابن عامر وحمزة بتاء الخطاب وهو حكاية عن قول صالح عليه السلام لقومه، أي ستعلمون وقت نزول العذاب بكم في الدنيا عن قريب من شديد الكذب المتكبر. والباقون بياء الغيبة وهو حكاية لقوله تعالى لصالح عليه السلام وعدا له ووعيدا لقومه أي سيعلمون عن قريب وهو وقت نزول العذاب بهم في الدنيا من الذي حمله كذبه وبطره على الترفع أصالح هو أم من كذبه؟ وقرئ «الأشر» أي الأبلغ في الشرار فقال الله لصالح: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ أي إنا مخرجو الناقة من الجبل المنبسط على الأرض حسب ما سألوا فِتْنَةً لَهُمْ مفعول لأجله، أي امتحانا لهم ليتميز حال من يثاب ممن يعذب فإخراج الناقة من الصخرة كان معجزة لصالح، لأنها تصديق له وبعده يتميز المصدق عن المكذب وإرسالها إليهم ودورانها فيما بينهم وقسمة الماء كان فتنة، فَارْتَقِبْهُمْ أي انتظرهم بالعذاب وتبصر ما يصنعون، وَاصْطَبِرْ (27) على أذيتهم، أي فإن كانوا يؤذونك فلا تستعجل لهم العذاب، وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ أي أخبرهم بأن ماء بئرهم مقسوم بين قوم صالح والناقة فيوم لهم ويوم لها كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) أي كل نصيب من الماء يحضره صاحبه في نوبته، فبقوا على ذلك مدة، ثم سئموا من ضيق الماء والمرعى عليهم، وعلى مواشيهم فأجمعوا على قتلها فَنادَوْا صاحِبَهُمْ قدار بن سالف، ويلقب بالأجهر بعد ما رماها مصدع بن دهر بسهم، فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) أي تناول قدار السيف فقتل الناقة به موافقة لهم، فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) أي إنذاري لهم بالعذاب قبل نزوله،
إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً صيحة جبريل بالعذاب بعد ثلاثة أيام من قتلهم الناقة، لأنه كان في يوم الثلاثاء، ونزول العذاب بالصيحة بهم كان يوم السبت، فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) بكسر الظاء، أي فصاروا كالشيء اليابس من الحطب والشوك لمن يعمل الحظيرة في إهلاكهم. وقرئ بفتح الظاء أي فصاروا كالشيء الذي داسته الغنم في الحظيرة، وهي زريبة الغنم تتخذ من دقاق الشجر وضعيف النبات تقيها عن الحر أو البرد، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ أي هوّنا القرآن للعظة والحفظ والقراءة.(2/472)
وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)
قال سعيد بن جبير: ليس من كتب الله كتاب يقرأ كله ظاهرا، أي بغير نظر إلّا القرآن. وقال غيره: ولم يكن هذا لبني إسرائيل ولم يكونوا يقرءون التوراة إلّا نظرا غير موسى وهارون ويوشع بن نون وعزير صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) أي فهل من طالب لحفظه فيعان عليه؟ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) أي بالأمور المخوفة لهم على لسانه إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً، أي عذابا بحجارة من سجيل، عليها علامة كل واحد، فالملائكة حركوا الريح، فالريح رمت الحجارة عليهم إِلَّا آلَ لُوطٍ أي إلّا لوطا وابنتيه زاعورا ورينا. نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) أي في آخر الليل. وقيل عند السدس الأخير من الليل نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا مفعول له، أي كان ذلك الإنجاء فضلا منا كما أن ذلك الإهلاك كان عدلا منا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) ، أي كما أنعمنا على من آمن بالله تعالى وأطاعه بالإنجاء ننعم عليهم يوم الحساب. وقيل: أي مثل ذلك الإنجاء ننجي من آمن بالله من عذاب الدنيا، ولا نهلكه بالهلاك العام، وعلى هذا فهو وعد لأمة محمد المؤمنين وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا أي ولقد خوفهم لوط عذابنا الأكبر يوم القيامة لئلا يكون مقصرا في التبليغ، فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) أي شكوا في الإنذارات وكذبوا لوطا، وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ أي طلبوا من لوط المرة بعد المرة أن يخلي بينهم وبين أضيافه من الملائكة التي في صورة شبان مرد للفاحشة، فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ أي أذهبنا صورة أعينهم بالكلية حتى صارت وجوههم كالصفحة الملساء.
روي أنهم لما دخلوا داره عليه السلام عنوة صفقهم جبريل عليه السلام صفقة فتركهم يترددون لا يهتدون إلى الباب حتى أخرجهم لوط عليه السلام. فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37) أي فقلنا لهم على ألسنة الملائكة: ذوقوا عذابي الذي هو طمس العين وثمرة إنذاري.
وقال القرطبي: والمراد من هذا الأمر خبر، أي فأذقتهم عذابي الذي أنذرهم به لوط عليه السلام، وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) أي ولقد أتاهم وقت الصبح أول جزء منه عذاب دائم، فإنهم لما أهلكوا نقلوا إلى الجحيم، فكان ما أتاهم عذاب لا يندفع بموتهم، أي فقلع جبريل بلادهم فرفعها، ثم قلبها وأمطر الله عليها حجارة من النار، وخسفها وغمرها بالماء المنتن الذي لا يعيش به حيوان.
وقرئ «بكرة» غير منون على أن المراد بها أول نهار مخصوص، فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) أي فقلنا لهم: ذوقوا عذابي وفائدة تخويفي وهي فنون هذا العذاب، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ أي هوّنا القرآن للحفظ والكتابة فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) ؟ أي فهل متعظ يتعظ بما صنع بقوم لوط فيترك المعصية؟
وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) أي ولقد جاء فرعون وهامان وقارون الإنذار على لسان موسى وهارون، كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها السمعية والعقلية، فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أي أخذ غالب غير عاجز أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أي الذين يصرون على الكفر منكم أهل مكة خير في(2/473)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
القوة فلا تهلكون أم الذين أصروا عليه من أولئكم المذكورين، قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وفرعون، وآله وهم من يؤول إليهم خيره وشره؟ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) ! أي هل حصل لكم براءة من غوائل الكفر والمعاصي في الكتب السماوية تأمنون العذاب بسببها فلذلك تصرون على ما أنتم عليه؟ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) ؟ أي بل أيقولون: نحن كثير منتقمون على من خالفنا، قويون على من عادانا سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ أي يهزم جمعهم بأيسر أمر بوعد لا خلف فيه، وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) .
قال سعيد بن المسيب: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لما نزلت: سيهزم الجمع ويولون الدبر، كنت لا أدري أي جمع يهزم، فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبس الدرع ويقول: «سيهزم الجمع ويولون الدبر»
. فعرفت تأويلها اه. وقرئ «سيهزم الجمع» بالبناء للفاعل، أي سيهزم الله تعالى الجمع بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ أي ليس ما وقع لهم في بدر تمام عقوبتهم، بل السلعة موعد أصل عذابهم، وهذا من مقدماته وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46) ، والساعة أشد من أنواع عذاب الدنيا وآلم وأدوم، إِنَّ الْمُجْرِمِينَ من الأولين والآخرين فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) في ضلال وجنون لا يعقلون ولا يهتدون يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) أي يوم يجرون على وجوههم إلى النار يقال لهم: قاسوا حر جهنم وألمها، إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) ، أي إنا خلقنا كل شيء ملتبسا بقدر معين، والمعنى: أن الله تعالى قدر الأشياء في القدم وعلم أنها ستقع في أوقات معلومة عنده تعالى، وعلى صفات مخصوصة فهي تقع على حسب ما قدرها الله تعالى، وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) أي وما أمرنا في كل شيء أردنا إيجاده إلّا كلمة واحدة وهي: كن كطرف البصر في السرعة.
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ أي أشباهكم في الكفر من الأمم الماضية فاحذروا أن يصيبكم مثل ما أصابهم.
فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) أي متعظ يتعظ بما صنع بهم فيترك المعصية؟ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) أي وكل شيء فعله الأشياع في الشرك بالله من المعاصي والجفاء بالأنبياء مكتوب عليهم في ديوان الحفظة، وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ من الأعمال مُسْتَطَرٌ (53) أي مكتوب بتفاصيله في اللوح المحفوظ إِنَّ الْمُتَّقِينَ من الكفر والمعاصي فِي جَنَّاتٍ أي رياض واسعة عظيمة الشأن، وَنَهَرٍ (54) أي عند أنهار.
وقرئ «نهر» بضم النون والهاء فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ أي في مكان مرضي، أو في مجلس لا كذب فيه. وقرئ «مقاعد» . عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) أي مقربين عند من له ملك عظيم قادر لا يعجزه شيء ولا شيء إلّا وهو تحت ملكوته، والقربة من الملوك لذيذة كلما كان الملك أشد قدرة كان المتقرب منه أشد التذاذا. والمراد من القرب: قرب المنزلة والشأن لا قرب المعنى والمكان.(2/474)
الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20)
سورة الرحمن
وتسمى عروس القرآن مكية، سبع وسبعون آية، ثلاثمائة وإحدى وخمسون كلمة، ألف وستمائة وستة وثلاثون حرفا
الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) أي علم الإنسان القرآن، فإن الله بعث جبريل بالقرآن إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم، وبعث محمدا إلى أمته. خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) أي أنشأه على ما هو عليه من القوى الظاهرة والباطنة. عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4) أي النطق. فيمتاز الإنسان به عن غيره من سائر الحيوانات وألهمه الله أسماء كل شيء وكل دابة تكون على وجه الأرض. الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) أي الشمس والقمر يجريان بحساب مقدر في بروجها بحيث ينتظم بذلك أمور الكائنات السفلية، وتختلف الفصول، وتعلم السنون والأوقات. وَالنَّجْمُ وهو كل نبت لا يقوم على الساق.
وَالشَّجَرُ وهو ما يقوم على الساق يَسْجُدانِ (6) أي يخضعان الله تعالى، ويخرجان من الأرض، ويثبتان عليها بإذن الله تعالى فشبه الثبات في المكان بالسجود، لأن الساجد يثبت.
وَالسَّماءَ رَفَعَها فوق كل شيء وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) ، أي وضع آلة الوزن في الأرض وبين العدل أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) ، أي لئلا تتجاوزوا الإنصاف في الوزن وفي إعطاء المستحقين حقوقهم.
وقرئ «لا تطغوا» بدون «أن» على إرادة القول، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ أي بالعدل وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9) أي ولا تنقصوا الموزون، فالطغيان في الوزن أخذ الزائد والإخسار إعطاء الناقص والقسط المتوسط بين الطرفين، وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) أي بسطها على الماء لمنافع الإنس والجن
فِيها أي الأرض، فاكِهَةٌ أي أنواع كثيرة مما تطيب به النفس وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) ، وهي أوعية الثمر، وهي جمع «كم» بكسر الكاف، أو هي كل ما يغطى من ليف وسعف وكفرى، فإنه مما ينتفع به كالمكموم من ثمره وجماره وجذوعه، وهي جمع «كم» بضم الكاف، وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) .
قرأ ابن عامر بنصب الثلاثة بخلق مضمرا، أي وخلق الحبوب كالحنطة والأرز ذا الأوراق(2/475)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30)
وخلق الريحان المعروف الذي بزره ينفع في الأدوية، أو المشمومات. وقرأ حمزة والكسائي برفع «الحب» و «ذو» عطفا على فاكهة وجر «الريحان» عطفا على العصف، أي وفيها الحب ذو الساق وذو الأوراق. وقرأ الباقون برفع الثلاثة عطفا على فاكهة، أي وفيها الحب ذو الأوراق الخارجة من جوانب الساق، كأوراق السنبلة من أعلاها إلى أسفلها وفيها مشمومات، أو ريحان معروف، ويجوز أن يراد عند رفع الريحان، ونصبه حذف المضاف وإقامة المضاف، إليه مقامه، والمعنى: وذو السنبلة والثمر أو وخلق ذا الرزق وهو الثمر. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) أي فبأي فرد من أفراد نعم ربكما أيها الجن والإنس تنكران أنها ليست من الله أبتلك النعم المذكورة هنا أم بغيرها، ويسن لسامع القارئ لهذه السورة أن يجيبه كلما قرأ هذه الآية وهي مكررة في أحد وثلاثين موضعا بأن يقول، ولا بشيء من نعمك، ربنا نكذب فلك الحمد، لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقر الجن على ذلك الجواب. خَلَقَ الْإِنْسانَ أي آدم مِنْ صَلْصالٍ أي من طين منتن يابس له صوت، كَالْفَخَّارِ (14) أي كالخزف المشوي بالنار المجوف كالإناء في أن كل منهما يسمع له صوت إذا نقر ليعلم هل فيه عيب أو لا؟ وَخَلَقَ الْجَانَّ أي الجن نفسه مِنْ مارِجٍ أي من لهب صاف مِنْ نارٍ (15) لا دخان لها وهو بيان ل «مارج» ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) أيها الجن والإنس أبما أفاض عليكما في حالات شتى لخلقتكما حتى صيّركما خلاصة الكائنات أم بغيره؟ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) أي الذي فعل ما ذكر رب مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما. وقرأ ابن أبي عبلة «رب» بالجر بدلا، أو بيانا ل «ربكما» . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18) أي أبما في ذلك من الفوائد العظيمة التي لا تحصى، كاعتدال الهواء، واختلاف الفصول، وحدوث ما يناسب كل فصل فيه أم بغير ذلك، مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي أرسل الرحمن البحر الملح والبحر العذب، يَلْتَقِيانِ (19) أي يتماسان ولا يمتزجان، بَيْنَهُما بَرْزَخٌ أي حاجز من قدرة الله تعالى، لا يَبْغِيانِ (20) أي لا يتجاوز كل واحد منهما ما حده الله تعالى ولا يغير واحد منهما طعم صاحبه.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) فهلا اعتبرتم بأنواع الموجودات يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) ، فاللؤلؤ الدر، والمرجان الخرز الأحمر.
وقيل: اللؤلؤ كبار الدر، والمرجان شغاره. قيل: إن اللؤلؤ يتولد في ملتقى الملح والعذب، ثم يدخل الصدف في المالح عند انعقاد الدر فيه فيثقل هناك فلا يمكنه الدخول في العذب. وقيل: هما يخرجان من الملح في الموضع الذي يقع فيه العذب: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23) أبكثرة النعم من خلق المنافع في البحر، وإخراج الحلي العجيبة أم بغيرها، وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) . وقرأ حمزة وأبو بكر بكسر الشين، أي وله تعالى السفن الرافعات الشراع في البحر كالجبال. والباقون بالفتح أي المرفوعات القلع. وقرأ ابن أبي عبلة بتشديد الشين. وقرأ يعقوب «الجواري» بإثبات الياء في الوقف. وقرأ عبد الله والحسن «الجوار»(2/476)
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40)
برفع الراء ولا تثبت الياء في الرسم، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25) أي أبتلك النعم من خلق مواد السفن وأسباب لا يقدر على خلقها غيره تعالى أم بغيرها. كُلُّ مَنْ عَلَيْها أي على الأرض من الحيوانات والمركبات، فانٍ (26) أي هالك لا محالة وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ أيها السامع، أي ذاته عز وجل ذُو الْجَلالِ أي العظمة التي لا يسعها عقل وَالْإِكْرامِ (27) ، أي الفضل التام فالجلال مرتب على فناء غير الله تعالى والإكرام مرتب على بقائه تعالى.
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «الظوا بيا ذا الجلال والإكرام»
. أي الزموا في الدعاء ذلك.
وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم مر برجل وهو يصلي ويقول: يا ذا الجلال والإكرام فقال: «قد استجيب لك»
، والعامة على «ذو» بالواو صفة لوجه. وقرأ أبي وعبد الله «ذي» بالياء صفة ل «رب» فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28) أي أبتلك النعم من دفع البلاء، وإبقاء ما هو مخلوق إلى وقت فنائه أم بغيرها يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فيسأله كل أحد ما يحتاج إليه في دينه فكل أحد عاجز عن تحصيل ما يحتاج إليه ويسأله كل أحد عن عاقبة أمره، وعما فيه صلاحه وفساده فكل أحد جاهل بما عند الله من المعلومات، فالوجه الأول إشارة إلى كمال القدرة. والوجه الثاني إشارة إلى كمال العلم كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) أي كل وقت من الأوقات هو تعالى في شأن يغفر ذنبا ويفرج كربا، ويرفع من يشاء، ويضع من يشاء كما هو مروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. ويقال: يحتمل أن يكون هو عائدا إلى يوم و «كل يوم» ظرف ليسأله، أي يقع سؤالهم كل يوم هو في شأن يتعلق بهم فيطلبون ما يحتاجون إليه أو يستخرجون أمره بما يفعلون فيه، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30) مع مشاهدتكم لإحسانه تعالى، أبتلك النعم أم بغيرها،
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) ؟ أي سنقصد لحسابكم وجزائكم أيها الجن والإنس، أي سندبر لكم أمر الآخرة من الأخذ في الجزاء وإيصال الثواب والعقاب إليكم بعد تدبيرنا لأمر الدنيا بالأمر والنهي، والإماتة والإحياء، والمنع والإعطاء.
وقرأ حمزة والكسائي «سيفرغ» بالياء على الغيبة. وقرئ بالبناء للمفعول. وقرئ «سنفرغ إليكم» وترسم «أيه» بغير ألف. وقرأ أبو عمرو والكسائي بالألف في الوقف. والباقون بتسكين الهاء. وقرأ ابن عامر برفع الهاء في الوصل والباقون بالفتح، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) أبتلك النعم من التنبيه على ما سيلقونه يوم القيامة للتحذير عما يؤدي إلى سوء الحساب أم بغيرها.
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا أي يا جماعة الجن والإنس إن قدرتم أن تخرجوا من أطراف السموات والأرض، وأن تهربوا من قضائي وملكي، فاخرجوا منها، وخلّصوا أنفسكم من عقابي لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ (33) أي ما تنفذون إلّا ومعكم سلطان الله، أي فلا مهرب لكم ولا مخرج عن ملك الله تعالى، وأينما توليتم فثمّ ملك الله وأينما أتاكم حكم الله فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) أبتلك النعم من دفع البلاء وتأخير العذاب عن العصاة أم بغيرها، يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ أي لهب خالص لا دخان فيه مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ أي دخان لا لهب معه يسوقانكما إلى المحشر.(2/477)
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50)
قرأ ابن كثير بكسر شين «شواظ» . وقرأ ابن كثير وابن محيصن ومجاهد، وأبو عمرو بجر «نحاس» عطفا على «نار» ، ولا بد في هذه القراءة من كسر الشين أو إمالة «نار» ، وعلى هذا فالشواظ مركب من نار ومن دخان.
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهم: إذا خرجوا من قبورهم ساقهم شواظ إلى المحشر.
وقرئ «نحاس» بكسر النون. وقرئ «نرسل» بنون العظمة، ونصب «شواظا» و «نحاسا» . وقرئ نحس بضمتين جمع نحاس فَلا تَنْتَصِرانِ (35) أي فلا ينتصر أحدكما بالآخر ولا أنتما بغيركما فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36) أبتلك النعم من بيان عاقبة الكفر والمعاصي أم بغيرها، فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) ، أي فإذا انصدعت السماء وخربت يوم القيامة فصارت حمراء كالأديم المغربي، وهو ما فيه حمرة مع السواد يكون الأمر عسيرا في غاية العسر، أو يلقى المرء فعله ويحاسب حسابه، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38) مع عظم شأنها، فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) أي فالمذنب يوم إذ تنشق السماء وذلك أول ما يخرجون من القبور، ويحشرون إلى الموقف ذودا ذودا على اختلاف مراتبهم لا يسأل عن ذنبه إنسي ولا جني، لأنهم يعرفون بسيماهم فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) أبتلك النعم من الأخبار بما يزجر عن الشر أم بغيرها
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ أي بسواد وجوههم وزرقة أعينهم، فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41) أي يجمع نواصيهم وأقدامهم في سلسلة من وراء ظهورهم فيطرحون في النار، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) أي تجحدون والوقف هنا تام، هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) . وهذه إشارة إلى قربها أي جهنم التي يكذب بها المشركون هذه قريبة غير بعيدة عنهم، يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) أي يترددون بين النار وماء حار قد انتهى حره، فيحرقون بها، فيستغيثون منها، فيسعى بهم إلى الحميم، ويظهر لهم شيء مانع هو صديدهم المغلي، فيظنونه ماء، فيسقون منه ويصب فوق رؤوسهم، فإذا استغاثوا منه يسعى بهم إلى النار وهكذا، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45) مما أشرنا إليه من أول السورة، فتستحقان العذاب وتحرمان الثواب.
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) أي ولمن خاف المقام الذي يقوم هو فيه بين يدي ربه، وهو مقام عبادته، والمقام الذي اطلع الله على عباده، فانتهى عن المعصية جنتان، جنة لفعل الطاعات، وجنة لترك المعاصي، لأن التكليف لهذين النوعين. وقيل: هي جنة جزاء وجنة أخرى زيادة على الجزاء فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) أبتلك النعم أم بغيرها ذَواتا أَفْنانٍ (48) أي صاحبتا أغصان، فإن الجنات ذوات أشجار، والأشجار ذوات أغصان، والأغصان ذوات أزهار، وأثمار وهي لتنزه الناظر وتنكير أفنان للتعجب، أي على الأفنان أوراق عجيبة، وثمار طيبة من غير سوق غلاظ، فالجنة ذات فنن غير كائن على أصل وعرق بل هي واقفة في الجو وأهلها تحتها، فَبِأَيِّ(2/478)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70)
آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ
(49) أبتلك النعم من وصف الجنة أم بغيرها، فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50) أي في كل واحدة منهما عين جارية كيف يشاء صاحبها في الأعالي والأسافل،
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) أبتلك النعم التي ذكرها أم بغيرها؟ فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) أي في كل واحدة من الجنتين نوعان من الفواكه معروف وغريب، أو رطب ويابس وكلاهما حلو يستلذ به فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) أي بتلك النعم أم بغيرها، مُتَّكِئِينَ حال من فاعل «خاف» الذي هو عامل للحال، أو كان عامله وصاحبه ما تدل عليه «فاكهة» ، أي يتفكه المتفكون حال كونهم جالسين جلوس المتمكن المتربع، عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها أي التي تلي الأرض مِنْ إِسْتَبْرَقٍ أي ديباج ثخين، وكذا ظهائرها بخلاف أهل الدنيا فلا يجعلون البطائن كالظواهر، لأن غرضهم إظهار الزينة، والبطائن لا تظهر. أما في الآخرة فالأمر مبني على الإكرام والتنعيم فتكون البطائن كالظواهر. وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) أي ثمر الجنتين قريب يناله القاعد والقائم في وقت واحد ومكان واحد، فإن العجائب كلها من خواص الجنة، فكان أشجارها دائرة عليهم سائرة إليهم وهم ساكنون على خلاف ما كان في جنات الدنيا، فإن الإنسان فيها متحرك ومطلوبه ساكن، والولي قد تصير الدنيا له أنموذجا من الجنة، فإنه يكون ساكنا في بيته ويأتيه الرزق متحركا إليه دائرا حواليه، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55) أبقدرته على ثني الأغصان وتقريب الثمار أم بغيرها فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ أي في الجنان نساء مانعات أعينهن من النظر إلى غير بعلهن، وللجنة اعتبارات ثلاثة، فلاتصال أشجارها وعدم الأراضي الغامرة كأنها جنة واحدة ولاشتمالها على النوعين ما في الدنيا، وما ليس فيها وما يعرف وما لا يعرف، وما يقدر على وصفه، وما لا يقدر، ولذات جسمانية، ولذات روحانية، كأنها جنتان ولسعتها، وكثرة أماكنها، وأشجارها وأنهارها، كأنها جنات كثيرة، فالضمير هنا عائد إلى الجنتين لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) ، أي لم يجامع الإنسيات أحد من الإنس ولا الجنيات أحد من الجن قبل أزواجهن والمشهور أن الحور العين لسن من نساء أهل الدنيا، وإنما هن مخلوقات في الجنة، فإن أكثر نساء أهل الدنيا مطموثات فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ
(57) أي بأي نوع من أنواع هذا الإحسان تنكران كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) أي مشبهات بالياقوت في حمرة الوجنة وبالمرجان بمعنى صغار الدر في بياض البشرة وصفائها، فإن صغار الدر أنصع بياضا من كباره. قيل: إن الحوراء تلبس سبعين حلة فيرى مخ ساقها من ورائها كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) أي بما جعله مثالا لوصفهن أم بغيره، هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ (60) ؟ أي ما جزاء الإحسان في العمل إلّا الإحسان في الثواب فجزاء كل من أحسن إلى غيره أن يحسن هو إليه أيضا.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61) أبشيء من هذه النعم الجليلة أم بغيرها وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) أي ومن دون تينك الجنتين الموعودتين للخائفين المقربين جنتان أخريان لمن دونهم من أصحاب اليمين فَبِأَيِّ(2/479)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ
(63) ، أبشيء مما تفضل به عليكم من الجنات أم بغيره. مُدْهامَّتانِ (64) أي سودا، وإن من شدة الخضرة من الري، وهذه صفة لجنتان. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) أبشيء من تلك النعم الجليلة أم بغيرهايهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ
(66) أي فوارتان أي ماؤهما متحرك إلى جهة فوق فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) أبتلك النعم أم بغيرها فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) وأفردهما بالذكر مع دخولهما في الفاكهة بيانا لفضلهما، فإن ثمرة النخل فاكهة وغذاء، والرمان فاكهة ودواء، فيحنث بأكل أحدهما من حلف لا يأكل فاكهة، كما قاله الشافعي وأكثر العلماء خلافا لأبي حنيفة، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) أبتلك النعم أم بغيرها؟ فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) أي في الجنتين نساء في باطنهن خير وفي ظاهرهن حسن.
روى الحسن عن أمه عن أم سلمة قالت: قلت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله، أخبرني عن قوله تعالى: خَيْراتٌ حِسانٌ قال: «خيّرات الأخلاق حسان الوجوه»
. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71) أبنعمة الحور أم بغيرها، حُورٌ مَقْصُوراتٌ أي محبوسات على أزواجهن فِي الْخِيامِ (72) ، أي في خيام الدر المجوف، وهي فرسخ في فرسخ، لها أربعة آلاف مصراع من ذهب، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) أبهذه النعم أم بغيرها؟ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) أي لم يصبهن بالجماع قبل أزواجهن أحد، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) أبهذه النعم أم بغيرها؟
مُتَّكِئِينَ حال مما دل عليه «لم يطمثهن» إلخ فأزواجهم لم يطمثن حال كونهم متكئين عَلى رَفْرَفٍ أي رياض أو بسط، خُضْرٍ فالأخضر حصل فيه الألوان الثلاثة الأبيض والأسود والأحمر، فالأبيض: يفرق البصر والأسود: يجمع البصر كالأحمر، فلما اجتمع في الأخضر الأمور الثلاثة دفع بعضها أذى بعض ولما كان ميل النفس في الدنيا إلى الأخضر أكثر ذكره الله تعالى، وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) فالثياب المعمولة عملا جيدا يسمونها عبقريات مبالغة في حسنها، كأنها ليست من عمل الإنس، لأن العبقري منسوب إلى عبقر وهو موضع من مواضع الجن، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) أبشيء من هذه النعم أم بغيرها؟ تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78) أي تعالى اسمه الجليل وارتفع عما لا يليق بشأنه.
قرأ ابن عامر ذو الجلال بالواو. والباقون «ذي» بالياء صفة لرب. وهذا إشارة إلى أن أتم النعم عند الله تعالى وأكمل اللذات ذكر الله تعالى.(2/480)
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20)
سورة الواقعة
مكية، سبع وتسعون آية، ثلاثمائة وثمان وتسعون كلمة، ألف وسبعمائة وثلاثة أحرف
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) أي إذا قامت القيامة يعترف بها كل أحد ويبطل عناد المعاندين ولا يتمكن أحد من من إن كارها والعامل في «إذا» «ليس لوقعتها كاذبة» فاللام بمعنى في، أي ليس كاذبة توجد في وقت وقوعها، أو بمعنى عندي أي لا يكون عند وقوعها نفس تكذب في نفيها، وإنما سميت القيامة واقعة لشدة صوتها يسمع القريب والبعيد، خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) أي هي خافضة للكافرين في دركات النار والعذاب، ورافعة للمؤمنين في درجات الجنة والنعيم.
وقرئ «خافضة رافعة» بالنصب على الحال من «الواقعة» ، إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) ، أي إذا زلزلت الأرض زلزالا شديدا بحيث ينهدم ما فوقها من بناء وجبل، و «إذا» متعلقة ب «خافضة» رافعة أو بدل من «إذا وقعت» . وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) أي فتتت الجبال فتا، فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) أي فصارت الجبال غبارا منتشرا، وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) أي وصرتم في ذلك اليوم أيها الخلائق ثلاثة أصناف، اثنان في الجنة وواحد في النار، ثم بينهم الله تعالى بقوله:
فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) أي فأهل الجنة الذين يعطون كتابهم بيمينهم، أيّ شيء هم في حالهم، فهم في غاية حسن الحال في الكرامة والسرور وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) أي وأهل النار الذين يعطون كتابهم بشمالهم أيّ شيء هم في حالهم، فهم في غاية سوء الحال وهم في الهوان والعذاب، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أي والسابقون الذين لا حساب عليهم هم الذين اشتهرت أحوالهم وعرفت محاسنهم، فهم يسبقون الخلق إلى الجنة من غير حساب، فالسابقون إلى الخيرات في الدنيا هم السابقون إلى الجنة في العقبى،
أُولئِكَ أي السابقون الْمُقَرَّبُونَ (11) إلى الله تعالى فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) في أعلى عليين، فلهم قرب عند الله كما يكون الجلساء الملوك فهم لا يكون بيدهم شغل ولا يرد عليهم أمر، فيلتذون بالقرب ويتنعمون بالراحة، بخلاف قرب الملائكة الذين هم للأشغال، فهو قرب الخواص عند الملك، فهم ليسوا في نعيم وإن كانوا في لذة عظيمة، ولا يزالون خائفين قائمين بباب الله يرد عليهم الأمر(2/481)
وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30)
ولا يرتفع عنهم التكليف، ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) أي هم أي السابقون إلى الإيمان بالأنبياء عيانا، المجتمعون عليهم جماعة كثيرة من الأمم السالفة من لدن آدم إلى نبينا عليهم السلام وقليل من هذه الأمة، أي إن الذين عاينوا جميع الأنبياء وصدقوهم من الأمم الماضية أكثر ممن عاين النبي صلّى الله عليه وسلّم وآمن به، وهذا لا ينافي كون أمة محمد ثلثي أهل الجنة عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) أي موصولة بالذهب والفضة، منسوجة بالدر والياقوت ويقال: أرضها من الذهب الممدود وقوائمها من الجواهر النفيسة مُتَّكِئِينَ عَلَيْها أي السرر، مُتَقابِلِينَ (16) فلا ينظر بعضهم إلى قفا بعض. وهذا وصف لهم بحسن العشرة والآداب، وتهذيب الأخلاق.
ويقال: السابقون هم الذين أجسامهم أرواح نورانية وجميع جهاتهم وجه، يَطُوفُ عَلَيْهِمْ أي يدور حولهم للخدمة وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) أي مبقون أبدا على شكل الولدان، لا يكبرون ولا يلتحون بِأَكْوابٍ، أي بكيزان وهي أوان مستديرة الأفواه بلا عري ولا خراطيم، وَأَبارِيقَ وهي: أوان لها عري وخراطيم وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) أي إناء خمر طاهرة تجري من عيون لا يُصَدَّعُونَ عَنْها أي لا يصيبهم صداع بسبب شربها، وَلا يُنْزِفُونَ (19) .
قرأ عاصم وحمزة والكسائي بكسر الزاي، أي لا ينفذ شرابهم.
والباقون بفتحها أي «لا يكسرون» ، أي لا ينزف عقولهم وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) ، أي مما يختارونه ويأخذون أفضله،
وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) . وقرئ «ولحوم طير» .
وعن أبي الدرداء أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن في الجنة طيرا مثل أعناق البخت تصطف على يد ولي الله فيقول أحدهما: يا ولي، الله رعيت في مروج تحت العرش، وشربت من عيون التنسيم فكل مني، فلا يزلن يفتخرن بين يديه حتى يخطر على قلبه أكل أحدها فيخر بين يديه على ألوان مختلفة فيأكل منها ما أراد، فإذا شبع تجمع عظام الطير فطار يرعى في الجنة حيث شاء» . فقال عمر: يا نبي الله، إنها لناعمة. قال: «آكلها أنعم منها»
«1» . وَحُورٌ عِينٌ (22) أي نساء شديدات بياض أجسادهن وشديدات سواد العيون مع سعتها.
وقرأ حمزة والكسائي بالجر عطف على «جنات النعيم» كأنه قيل: هم في جنات وفاكهة، ولحم طير، ومصاحبة حور. والباقون بالرفع عطفا على «ولدان» فلأهل الجنة حور مقصورات معظمات، ولهن جوار وخوادم وحور تطوف مع الولدان السقاة. وقرئ «وحورا عينا» بالنصب، أي ويعطون حورا عينا، كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23)
أي المصون الذي لم تقع عليه الشمس
__________
(1) رواه أحمد في (م 3/ ص 236) ، والسيوطي في الدر المنثور (6: 156) ، والقرطبي في التفسير (17: 204) ، وابن مبارك في الزهد 525، وابن كثير في التفسير (7: 498) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (10: 498) وأبو نعيم في تاريخ أصفهان (2: 188) .(2/482)
وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
والهواء. وهذا إشارة إلى غاية صفائهن جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) أي يفعل بهم ذلك كله جزاء بأعمالهم لا يَسْمَعُونَ فِيها، أي الجنة لَغْواً أي شيئا لا ينفع، وَلا تَأْثِيماً (25) أي شيئا منسوبا إلى الإثم كالشتم، إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً (26) أي لكن يقولون ويسمعون قولا سلاما سلاما، أي يسلم بعضهم على بعض وتسلم الملائكة عليهم، ويرسل الرب السلام إليهم. وقرئ «سلام سلام» على الحكاية. وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ أي يتنعمون في شجر نبق مَخْضُودٍ (28) أي غير ذي شوك، وموقر من الحمل حتى لا يبين ساقه، والله تعالى جعل مكان كل شوكة ثمرة، فإنها تنبت ثمرا على اثنين وسبعين لونا من الطعام ما فيها لون يشبه الآخر- كما في الحديث- وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) أي وفي موز متراكب أوراقه وثمره لا يرى له ساق من كثرة ثمره الذي أحلى من العسل، وليس ثمر الجنة في غلاف كثمر الدنيا مثل الباقلا والجوز ونحوهما، بل كله مأكول ومشروب ومشموم منظور إليه.
واعلم أن الأشجار يجمعها نوعان أوراق صغار، وأوراق كبار، فالسدر في غاية الصغر وشجر الموز في غاية الكبر، فوقعت الإشارة إلى الطرفين جامعة لجميع الأشجار نظرا إلى أوراقها، كما ذكر الله النخل والرمان عند ذكر الثمار، لأن بينهما غاية الخلاف فوقعت الإشارة إليهما جامعة لجميع الأشجار نظرا إلى ثمارها، وكذلك النخيل والأعناب فإن النخل من أعظم الأشجار المثمرة، والكرم من أصغر الأشجار المثمرة وبينهما أشجار فوقعت الإشارة إليهما جامعة لسائر الأشجار، فإن البليغ يذكر طرفي أمرين يتضمن ذكرهما الإشارة إلى جميع ما بينهما، كما يقال: فلان ملك الشرق والغرب ويفهم منه أنه ملك ما بينهما، وكما يقال فلان أرضى الصغير والكبير، ويفهم منه أنه أرضى كل أحد. وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) أي منبسط لا تزيله الشمس أبدا، كظل ما بين الفجر وطلوع الشمس،
وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31) أي مصبوب من ساق العرش سائل يجري على الأرض في غير أخدود، ومثل الله حال السابقين بأقصى ما يتصور لأهل المدن، وحال أصحاب اليمين بأكمل ما يتصور لأهل البوادي إعلاما بالتفاوت بين الحالين وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) بحسب الأنواع والأجناس لا مَقْطُوعَةٍ في وقت من الأوقات، وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) عن متناوليها بوجه من الوجوه. وقرئ و «فاكهة» بالرفع أي وهناك فاكهة إلخ.
وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) على الأسرّة كما قاله علي، أو نساء مرفوعات على الأرائك ومرفوعات بالفضل والجمال، ويدل على هذا التأويل قوله تعالى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) .
روى النحاس أن أم سلمة سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن قوله تعالى إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فقال: هن اللواتي قبضن في الدنيا عجائز شمطا، عمشا، رمصا، جعلهن الله تعالى بعد الكبر أترابا على ميلاد واحد في الاستواء.
وعن المسيب بن شريك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال في قوله تعالى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً: «هن عجائز الدنيا أنشأهن الله تعالى خلقا جديدا كلما أتاهن أزواجهن(2/483)
وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60)
وجدوهن أبكارا» . فلما سمعت عائشة رضي الله عنها ذلك قالت: وا وجعاه، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم:
«ليس هناك وجع»
. عُرُباً أي حسناء محسنة لكلامها متحببات إلى أزواجهن أَتْراباً (37) أي مستويات في السن على مقدار ثلاث وثلاثين سنة لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) أي على سنهم. وفي هذا الإشارة إلى الاتفاق، لأن أحد الزوجين إذا كان أكبر من الآخر فالشباب يعيره، والجار والمجرور متعلق ب «أترابا» كقولك: هذا ترب لهذا أي مساو له في السن ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) أي هم أي أصحاب اليمين كثيرون من أوائل الأمم قبل أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم ومن أواخر الأمم، وهي أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم
وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ، أي في ريح متعفن يتحرك من جانب إلى جانب، فإذا شم الإنسان منه يفسد قلبه العفوية ويقتل الإنسان وَحَمِيمٍ (42) أي ماء حار إشارة بالأدنى إلى الأعلى، فالهواء والماء أنفع الأشياء في الدنيا، فهواؤهم الذي يهب عليهم سموم وماؤهم الذي يستغيثون به حميم فما ظنك بنارهم التي هي عندنا أحر، وكيف حالهم مع أحر الأشياء؟ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) أي من دخان جهنم أسود، لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) أي لا بارد يطلب الظل لبرده، ولا ذي كرامة قد أعد للجلوس فيه وحفظ عن القاذورات، إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ أي قبل سوء العذاب في الدنيا مُتْرَفِينَ (45) ، أي منعمين بأنواع النعم ولم يشكروها وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) أي كانوا في الدنيا يديمون على الذنب العظيم الذي هو الشرك، وَكانُوا يَقُولُونَ إذا كانوا في الدنيا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا أي صرنا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) . وهذه الآيات الثلاثة إشارة إلى الأصول الثلاثة فقوله تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ يدل على ذمهم بإنكار الرسل وعلى تكبرهم بغناهم، وهم كانوا يقولون: أبشرا منا واحدا نتبعه. وقوله تعالى: يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ إشارة إلى الشرك ومخالفة التوحيد. وقوله تعالى: وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً إلخ إشارة إلى إنكار الحشر.
وقرأ قالون وابن عامر بسكون الواو. والباقون بفتحها أي أإنا أو آباؤنا مبعثون أي أتبعث آباؤنا الأولون الذي قد فنيت عظامهم. قُلْ يا أشرف الخلق لمنكري البعث: إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) أي إنهم يساقون بعد البعث إلى عرصة الحساب، ويجمعون في وقت يوم معين عند الله تعالى وهو يوم القيامة،
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ عن سبيل الله وهو التوحيد، الْمُكَذِّبُونَ (51) أي المنكرون الحشر لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) أي لآكلون شجرا هو الزقوم، فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) أي كل واحد منكم يملأ بطنه من تلك الشجر، فَشارِبُونَ عَلَيْهِ أي عقب ذلك الأكل بلا ريث مِنَ الْحَمِيمِ (54) أي الماء الحار، فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) أي لا يكون شربكم منه شربا معتادا بل يكون مثل شرب الإبل العطاش. هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) أي ليس المذكور كل العذاب، بل هذا أول ما يلقونه من العذاب وهو جزء منه، وإذا كان هذا ما يعدّ لهم(2/484)
عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)
أول قدومهم فما ظنك بما لهم بعد استقرارهم في النار، نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) بالبعث أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) ؟ أي هل تشكون في أن الله خلقكم أولا أم لا؟ فإن لم تشكوا في ذلك فهلا تصدقون أيضا بخلقكم ثانيا، فإن من خلقكم أولا من لا شيء لا يعجز أن يخلقكم ثانيا من أجزاء معلومة عنده، فأخبروني أيّ شيء هو تصبون في أرحام النساء من المني إن كنتم تشكون وتقولون: الخلق لا يكون إلّا من مني وبعد الموت لا مني، أفهذا المني أنتم تخلقونه، أم الله فإن كنتم تعترفون بقدرة الله وإرادته وعلمه، فذلك يلزمكم القول بجواز البعث وصحته،
نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ أي وقتنا موت كل أحد بوقت معين. وقرأ ابن كثير بتخفيف الدال أي سوّينا بينكم بالموت فتموتون كلكم، وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ أي لا يغلبنا أحد على أن نذهبكم، ونأتي مكانكم أشباهكم من الخلق، أي وما نحن عاجزون عن خلق أمثالكم وإعادتكم بعد تفرق أوصالكم، وَنُنْشِئَكُمْ فِي
ما لا تَعْلَمُونَ
(61) أي إنا قادرون على أن نخلقكم في صور لا تعلمونها في جنسكم، ويقال: أن نجعل أرواحكم يوم القيامة فيما لا تصدقون وهي النار.
وقال بعضهم: أنجعل أرواحكم في حواصل طير تكون ببرهوت كأنها الزرازير كما أخرجه ابن أبي حاتم. وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى أي الخلق الأول في بطون الأمهات وهو من نطفة ثم من علقة، ثم من مضغة، فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) أي فهلا تتعظون بأن من قدر على النشأة الأولى قدر على النشأة الأخرى حتما.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الشين في النشأة، وبألف بعدها فهمزة. وقرأ حمزة والكسائي وحفص بتخفيف الذال في «تذكرون» . والباقون بالتشديد. وقرئ «تذكرون» من الثلاثي. وفي الخبر: «عجبا كل العجب للمكذب بالنشأة الآخرة وهو يرى النشأة الأولى وعجبا للمصدق بالنشأة الآخرة وهو يسعى لدار الغرور» . أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أي أخبروني يا أهل مكة ما تبذرون من الحبوب أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) ، أي أأنتم تنبتونه! بل نحن المنبتون لا أنتم، لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً أي لجعلنا الزرع متكسرا يابسا بعد خضرته، وقبل ظهور الحب، أي إن قلتم: نحن نلقي البذر في الأرض وهو بنفسه يصير زرعا لا بفعلنا ولا بفعل غيرنا، قال تعالى: ولو سلم لكم هذا الباطل فما تقولون في سلامة الزرع عن الآفات فيفسد قبل اشتداد الحب فهل تدفعون الآفات عنه، أو هذا الزرع بنفسه يدفعها عن نفسه كما تقولون إنه بنفسه ينبت؟ فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) أي فصرتم تعجبون من يبسه بعد خضرته. وقرئ «فظلتم» بكسر الظاء و «فظلتم» على الأصل بكسر اللام. وقرئ «تفكهون» أي تتندمون على ما أنفقتم عليه قائلين: إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) أي إنا لمعذبون بالجوع بهلاك الزرع، أو إنا لمكرهون بالغرامة. وقرأ شعبة أإنا على الاستفهام بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أي ممنوعون منفعة زروعنا، أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي(2/485)
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)
تَشْرَبُونَ
(68) عذبا فراتا، أَأَنْتُمْ يا أهل مكة أَنْزَلْتُمُوهُ عليكم مِنَ الْمُزْنِ أي السحاب الثقيل بالماء، أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) أي بل نحن المنزلون عليكم لا أنتم لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أي ذلك الماء أُجاجاً، أي حارا أو مرا من شدة الملوحة، فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أي فهلا تشكرون على هذه النعمة التامة، فإن النعمة لا تتم إلا عند الأكل والشرب، وذلك لأن الإنسان إذا كان في البراري التي لا يوجد فيها الماء لا يأكل شيئا مخافة العطش.
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أي تقدحونها عن كل عود غير العناب وهو الشجر الأحمر، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أي الشجرة التي تصلح لإيقاد النار أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) أي بل نحن المنشئون لها بقدرتنا لا أنتم؟ نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً لنار جهنم فيجب على العاقل إذا رأى النار الموقدة أن يخشى عذاب الله أو تذكرة لصحة البعث، لأن من قدر على إيداع النار في الشجر الأخضر لا يعجز عن إيداع الحرارة الغريزية في بدن الميت، وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) أي منفعة للذين ينزلون القوى وهي القفر البعيدة من العمران، وهم الذين أوقدوا النار، لأنهم أحوج إلى النار في الليل لتهرب السباع ويهتدي الضال، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) ولا تقل لغير الله تعالى انه إله فإن الاسم يتبع المعنى والحقيقة، أي إن الكفار اعترفوا بأن الأمور من الله، وإذا طولبوا بالوحدانية قالوا: نحن لا نشرك في المعنى وإنما نتخذ أصناما آلهة في الاسم، ونسميها آلهة والله هو الذي خلقها، فنحن ننزهه تعالى في الحقيقة فقال تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أي فكما أنت أيها العاقل اعترفت بعدم اشتراك الله مع غيره في الحقيقة اعترف بعدم اشتراكهما في الاسم. فَلا أُقْسِمُ قيل: «لا» مزيدة مؤكدة. وقيل: الأصل فلانا أقسم، فحذف المبتدأ، وأشبعت فتحة لام الابتداء، ويعضده قراءة من قرأ «فلأقسم» بلام التأكيد. وقيل: إن «لا» نافية، رد لكلام يخالف المقسم عليه، والتقدير:
والله لا صحة لقول الكفار أقسم بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) أي بمواضعها في السماء في منازلها.
وقرأ حمزة والكسائي «بموقع النجوم» بسكون الواو، أي بموضع سقوطها عند غروبها وَإِنَّهُ أي إن القسم بها لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) ، أي لو تعلمون عظمة القسم لعظمتم هذا القسم، لكنكم ما عظمتونا، لأنكم لا تعلمون ولا وقف هنا، لأن القسم وقع على ما بعده، إِنَّهُ أي إن الكلام الذي أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) أي كثير النفع لاشتماله على إصلاح المعاش والمعاد، فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) أي في كتاب محفوظ عن الباطل، وهو المصحف، الذي في أيدينا، لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) أي لا يمس ذلك الكتاب إلّا المطهرون من الأحداث، أي يحرم عليهم مسّه بدون الطهارة. وهذه الجملة صفة ثانية ل «كتاب» ، فالخبر بمعنى النهي ويؤيد هذا قراءة عبد الله بن مسعود «ما يمسه» ب «ما» النافية. وروى مالك وغيره أن كتاب عمرو بن حزم، وهو من أهل الظاهر لا يمس القرآن إلّا طاهر.(2/486)
أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
وقال ابن عمر. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تمس القرآن إلّا وأنت طاهر»
«1» تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) صفة ثالثة ل «قرآن» أي منزل من الله تعالى، وفي ذلك رد على قول من قال: إن القرآن شعر، أو سحر، أو كهانة، وفي هذا رد على الذين يقولون: إن القرآن في كتاب ولا يمسه إلا المطهرون- وهم الملائكة- ورد على الروافض الذي يقولون: إن جبريل أنزل على علي فنزل على محمد. فقال تعالى: هو من الله ليس باختيار الملك. وقرئ «تنزيلا» بالنصب حال من قرآن،
أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) أي أفبهذا القرآن أنتم يا أهل مكة متهاونون به. ويقال:
أفبهذا الكلام الذي تتحدثون به أنتم تلينونه لأصحابكم من شأن محمد والبعث، والحساب، والجنة، والنار تعلمونهم خلافه، وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) أي تجعلون معاشكم تكذيب محمد، لأنكم تخافون إن صدقتموه ومنعتم ضعفاءكم عن الكفر أن يفوت عليكم من كسبكم ما تربحونه بسببهم فتجعلون رزقكم أنكم تكذبون الرسل. وقرئ «وتجعلون شكركم أنكم تكذبون» ، أي تجعلون شكركم لنعمة القرآن أنكم تكذبون به، فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) أي فلم لا تكذبون الرسل إذا بلغت الروح الحلقوم، والحال أنكم وقت النزع تشاهدون الأمور وتعلمونها. وهذا إشارة إلى أن كل أحد يؤمن عند الموت لكن لم يقبل إيمان من لم يؤمن قبله، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) أي ونحن أقرب إلى الميت من أهله الحاضرين عنده بعلمنا وقدرتنا، ولكن لا تدركون ذلك لجهلكم بشئوننا، فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) ، أي فلم لا تردون الروح إلى الجسد عند بلوغها الحلقوم إن كنتم غير مجزيين وغير محاسبين إن كنتم صادقين في اعتقادكم أي إنكم إذا كنتم لستم تحت قدرة أحد فلم لا ترجعون أنفسكم إلى الدنيا مع أن ذلك مشتهى أنفسكم ومنى قلوبكم كما كنتم في الدنيا التي ليست دار جزاء، فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ أي فأما إن كان المجزى من المقربين السابقين فله راحة. وقرأ بعضهم بضم الراء، أي فله حياة دائمة، أو رحمة، لأنها كالحياة للمرحوم وَرَيْحانٌ، أي رزق عظيم أو زهرة فقد قيل: إن أرواح أهل الجنة لا تخرج من الدنيا إلّا ويؤتى إليهم بريحان من الجنة يشمونه، وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) أي بستان ذات تنعم ليس فيها غيره،
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) أي إن مكانة النبي صلّى الله عليه وسلّم بالنسبة إلى المقربين الذين هم في عليين، كأصحاب الجنة بالنسبة إلى أهل عليين فكأن الله تعالى
__________
(1) رواه الحاكم في المستدرك (3: 485) ، والطبراني في المعجم الكبير (3: 230) ، والدارقطني في السنن (1: 123) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (1: 276) ، والزيلعي في نصب الراية (1: 198) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (2829) ، والألباني في إرواء الغليل (1: 159) .(2/487)
قال: هؤلاء الذين هم أهل الجنة وإن كانوا دون الأولين، لكن لا تنقطع بينك يا أشرف الخلق وبينهم المكالمة والتسليم، بل هم يرونك ويصلون إليك وصول جليس الملك إلى الملك، والغائب إلى أهله وولده، وأما المقربون فهم يلازمونك ولا يفارقونك، وإن كنت أعلى مرتبة منهم وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ
حَمِيمٍ
(93) ، أي وأما إن كان المجزى من المنكرين للبعث الضالين عن سبيل الله، فله ضيافة من ماء حار يشربه بعد أكل الزقوم وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) أي وإدخال في النار واحتراق بها، إِنَّ هذا أي ما ذكر في هذه السورة لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) أي نهاية اليقين، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) لم بين الله تعالى الحق وامتنع الكفار قال لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: هذا هو حق فإن امتنعوا، فسبح ربك في نفسك وما عليك من قومك سواء صدقوك أو كذبوك.(2/488)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)
سورة الحديد
مدنية أو مكية، تسع وعشرون آية، خمسمائة وأربع وأربعون كلمة، ألفان وأربعمائة وستة وسبعون حرفا
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي أبعد الخلق ذات الله تعالى من أن يكون محلا للإمكان وصفاته من أن تكون متغيرة، وأفعاله من أن تكون موقوفة على مادة ومثال، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) أي وهو القادر الغالب الذي يفعل أفعاله على وفق الحكمة والصواب. لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي له التصرف فيهما وفيما فيهما من الموجودات يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) أي هو قادر على خلق الحياة والموت، ومنفرد بإيجادهما لا يمنعه تعالى عنهما مانع، ولا يرده عنهما راد. هُوَ الْأَوَّلُ أي ليس قبله شيء، وَالْآخِرُ أي ليس بعده شيء فهو الباقي بعد فناء سائر الموجودات، وَالظَّاهِرُ بحسب الدلائل، وَالْباطِنُ أي المحتجب عن الأبصار. وعن الحواس وعن إدراك حقيقة ذاته في الدنيا والآخرة وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) لا يعزب عن علمه شيء من المظاهر، والخفي، هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ من أيام الدنيا تعلما للعباد في التأني للأمور ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، أي تصرف في ملكة تصرفا تاما يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ من المياه والكنوز والأموات، وَما يَخْرُجُ مِنْها من النبات والمياه والمعادن والأموات، وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ من الأمطار والملائكة والمصائب والحر والبرد، وَما يَعْرُجُ فِيها من الحفظة والأعمال وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ بسبب القدرة والإيجاد والتكوين وبسبب العلم، فهو كونه تعالى عالما بظواهرنا وبواطننا لا بالمكان والجهة.
قال المحققون: ما رأيت شيئا إلّا ورأيت الله قبله. وقال المتوسطون: ما رأيت شيئا إلّا ورأيت الله معه. وقال الظاهريون: ما رأيت شيئا إلّا ورأيت الله بعده. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) فيجازيكم به لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) أي جميع الأمور في الآخرة حيث لا مالك سواه. وقرأ الأخوان وابن عامر بفتح التاء وكسر الجيم يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ، فيزيد النهار وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ، فيزيد الليل وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6) أي بمكنونات القلوب من(2/489)
نياتهم. آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وهذا خطاب مع من عرف الله، فالمقصود من هذا الأمر معرفة صفات الله، أما معرفة وجود الصانع فحاصلة للكل، وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ أي من الأموال التي في أيديكم التي جعلكم الله بمنزلة الوكلاء فيها، تحفظونها لمن يأتون بعدكم فلا ينبغي لكم البخل بها، فالصواب أن تصرفوها في الوجوه التي تنفعكم في المعاد، فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا أموالهم في طاعة الله لَهُمْ بسبب ذلك، أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) لا تبلغ عقولكم حقيقة كبره، وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ أيّ أي شيء يحصل لكم غير مؤمنين بالله، والحال أن الرسول يدعوكم للإيمان به، والحال أن الله قد نصب الدلائل الموجبة لقبول دعوة الرسول في العقول فقد تطابقت دلائل النقل والعقل، وسميت الدلائل المستلزمة وجوب القبول ميثاقا، لأنها أوكد من الحلف إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) ، أي إن كنتم تؤمنون بشيء لأجل دليل، فما لكم لا تؤمنون الآن فإنه قد تطابقت الدلائل النقلية والعقلية، وبلغت مبلغا لا يمكن الزيادة عليها. وقرأ أبو عمرو «أخذ ميثاقكم» بالبناء للمفعول، وبرفع ميثاقكم، أي مكن عقولكم من النظر في الأدلة، هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ محمد عليه الصلاة والسلام آياتٍ بَيِّناتٍ وهي القرآن، لِيُخْرِجَكُمْ أي الله أو العبد بتلك الآيات، مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي من الكفر إلى الإيمان، وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) حيث يهديكم إلى سعادة الدارين بإرسال الرسول وتنزيل الآيات بعد نصب الأدلة العقلية، وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي وأيّ شيء يحصل لكم يا معشر المؤمنين في أن لا تنفقوا فيما هو قربة إلى الله تعالى ما هو له في الحقيقة، والحال أنه لا يبقى لكم شيء منها، بل يبقى كله لله تعالى، فإنكم ستموتون فتورثون، أي وذلك لأن المال لا بد من خروجه عن اليد، إما بالموت وإما بالإنفاق في طاعة الله، فإن خرج عن اليد بغير الإنفاق في طاعة الله استعقبه اللعن والعقاب، وإن خرج عنها بالإنفاق في مرضاة الله استعقبه المدح والثواب، لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أي لا يستوي منكم يا معشر المؤمنين عند الله في الفضل من أنفق من قبل فتح مكة، وقاتل أعداء الله، ومن أنفق وقاتل من بعد فتح مكة وقوة الإسلام. وقرئ «قبل الفتح» بغير «من» ، أُولئِكَ أي المنعوتون بذينك النعتين الجميلين أَعْظَمُ دَرَجَةً، وأرفع منزلة عند الله مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا. وهذه الآية نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، فإنه من آمن وأنفق في سبيل الله وخاصم الكفار حتى ضرب ضربا شديدا، أشرف به على الهلاك.
قال عمر: كنت قاعدا عند النبي صلّى الله عليه وسلّم وعنده أبو بكر عليه عباءة قد خللها في صدره بخلال، فنزل عليه صلّى الله عليه وسلّم جبريل عليه السلام فقال: ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة خللها في صدره بخلال؟ فقال:
«أنفق ماله علي قبل الفتح» قال: فإن الله عز وجل يقول: اقرأ عليه السلام وقل له: أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال: أبو بكر أأسخط على ربي! إني عن ربي راض.
وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ(2/490)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)
الْحُسْنى
أي وكل واحد من الفريقين وعد الله المثوبة الحسنى- وهي الجنة- مع تفاوت الدرجات. وقرأ ابن عامر «وكل» بالرفع على الابتداء، أي وكل وعده الله الحسنى، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) فيوصل الثواب إليكم بحسب استحقاقكم له
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أي من ذا لذي ينفق ماله في طاعته تعالى بالصدق من قلبه رجاء أن يعوضه.
وقال بعض العلماء: لا يكون القرض حسنا حتى يجمع أوصافا عشرة:
الأول: أن يكون القرض من الحلال.
والثاني: أن يكون من أكرم ما تملكه دون أن تنفق الرديء.
والثالث: أن تصدق بما تملكه وأنت تحتاج إليه بأن ترجو الحياة.
والرابع: أن تصرف صدقتك إلى الأحوج.
والخامس: أن تكتم الصدقة ما أمكنك.
والسادس: أن لا تتبعها منا ولا أذى.
والسابع: أن تقصد بها وجه الله ولا ترائي.
والثامن: أن تستحقر ما تعطي وإن كثر.
والتاسع: أن يكون المعطى من أحب أموالك إليك.
والعاشر: أن لا ترى عز نفسك وذل الفقير بل ترى نفسك تحت دين الفقير، وترى الفقير كأن الله تعالى أحال عليك رزقه الذي قبله منك. يُضاعَفُ لَهُمْ أي فيعطيه الله أجره أضعافا.
وقرأ عاصم بالألف والنصب، ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي بالألف والرفع، وابن كثير بالتشديد في العين والرفع، وابن عامر بالنصب. فالرفع على العطف على «يقرض» أو على الاستئناف على تقدير مبتدأ، أي فهو يضاعفه، والنصب على جواب الاستفهام بالفاء. وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) أي وللقرض ثواب حسن في نفسه، حقيق
بأن يتنافس فيه المتنافسون، وإن لم يضعّف فكيف وقد ضعّف أضعافا كثيرة إلى أكثر من سبعمائة نزلت هذه الآية في أبي دحداح، يَوْمَ ظرف لقوله تعالى: فَيُضاعِفَهُ أو للاستقرار العالم في وله أجر، أي استقر له أجر يوم تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ، وهذا النور هو ما يكون سببا للنجاة وإنما قال تعالى: بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين، كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم وراء ظهورهم، فإذا مروا على الصراط يسعى معهم نور الإيمان والأعمال المقبولة أمامهم، ونور الإنفاق في جهة أيمانهم، لأن الإنفاق يكون بالإيمان ومراتب الأنوار مختلفة على قدر الأعمال، فمنهم من يضيء له نوره كما بين عدن وصنعاء ومنهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من لا يضيء له نوره إلّا موضع قدميه وأدناهم نورا من يكون نوره على إبهاميه ينطفئ مرة ويتقد أخرى، وهذا القول منقول عن ابن مسعود وقتادة وغيرهما. وقرأ(2/491)
سهل بن شعيب وأبو حيوة وبأيمانهم بكسر الهمزة أي وبسبب أيمانهم حصل سعي ذلك النور، بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ أي تقول لهم الملائكة على الصراط: بشارتكم العظيمة في هذا الوقت دخولكم جنات، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وهو حال من ضمير المخاطب المقدر، ذلِكَ أي ما تقدّم من النور والبشرى بالجنات المخلّدة هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) الذي لا غاية وراءه. وقرئ «ذلك الفوز العظيم» بإسقاط كلمة هو. يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا لما رأوهم يسرع بهم إلى الجنة و «يوم» بدل من «يوم ترى» ، أو أن العامل فيه «ذلك هو الفوز العظيم» . انْظُرُونا أي انظروا إلينا أي، لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم، والنور أمامهم فيستضيئون. به وقرأ حمزة «أنظرونا» بقطع الهمزة وكسر الظاء أي انتظرونا لنلحق بكم، نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ أي نستضيء بنوركم. قِيلَ أي قال لهم المؤمنون قول تنديم وتوبيخ:
ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً أي ارجعوا إلى الموقف حيث أعطينا النور فاطلبوا نورا هناك. وقيل:
ارجعوا إلى دار الدنيا، فالتمسوا هذه الأنوار هنالك. وقال أبو مسلم: المراد من قول المؤمنين ارْجِعُوا إلخ منع المنافقين عن الاستضاءة لا أمر لهم بالرجوع أي تنحّوا عنا، فلا سبيل لكم إلى وجدان هذا المطلوب ألبتة، فيرجعون في طلب النور فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ أي بني بين الفريقين بِسُورٍ الباء زائدة، أي حائط بين الجنة والنار كما قاله قتادة أو حجاب، كما في سورة الأعراف، كما قاله مجاهد. وقال: من قال: ارجعوا إلى دار الدنيا. والمراد من ضرب السور هو امتناع العود إلى الدنيا، لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ أي لذلك السور باب في باطن ذلك السور الجنة التي فيها المؤمنون، وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) أي وخارج السور من جهته النار، فالمؤمنون يدخلون الجنة من باب ذلك السور، والكافرون يبقون في العذاب، يُنادُونَهُمْ أي ينادي المنافقون المؤمنين من وراء السور أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ في الدنيا على الغزوات والعبادات؟ قالُوا بَلى، أي يقول المؤمنون: بلى، قد كنتم معنا في الظاهر، وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ أي أهلكتموها بكفر السر، واستعملتموها في المعاصي والشهوات، وَتَرَبَّصْتُمْ أي أخرتم أنفسكم عن التوبة من النفاق، وانتظرتم موت رسول الله وحوادث السوء على المؤمنين، وَارْتَبْتُمْ أي شككتم في نبوة محمد، وفي البعث، وفي وعيد الله، وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ أي الأباطيل وهي ما كانوا يتمنون من نزول الحوادث بالمؤمنين، ومن انتكاس أمر الإسلام حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ أي حتى جاءكم وعد الله بالموت على غير التوبة من النفاق، أي حتى أماتكم الله وألقاكم في النار وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) ، بفتح الغين، أي الشيطان لإلقائه إليكم أن لا خوف عليكم من محاسبة ومجازاة. وقرأ سماك بن حرب بضم الغين، والمعنى: وغركم عن طاعة الله سلامتكم من أباطيل الدنيا مع الاغترار بأمتعة الدنيا فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي فاليوم لا يقبل منكم يا معشر المنافقين فداء ولا من الذين أظهروا الكفر. وقرأ ابن عامر «تؤخذ» بالتأنيث.(2/492)
مَأْواكُمُ النَّارُ أي منزلكم النار، هِيَ مَوْلاكُمْ أي هي موضعكم الذي تصلون إليه وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) ، أي بئس المرجع هذه النار. أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ؟ قرأ نافع وحفص والمفضل عن عاصم بتخفيف الزاي، والمعنى: ألم يجيء وقت أن تخشع قلوب المؤمنين لذكرهم الله، ولما نزل من القرآن، وينقادوا لأوامره ونواهيه انقيادا تاما. وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم بتشديد الزاي، أي ولما نزّله الله من القرآن. وعن أبي عمرو «نزل» مبنيا للمفعول. وقرأ الحسن البصري «ألم يئن» بكسر الهمزة وسكون النون. وقرأ الحسن «ألما يأن» ، وعن الأعمش قال: إن الصحابة لما قدموا المدينة أصابوا لينا في العيش ورفاهية، ففتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا بهذه الآية. وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ، أي هذا إما معطوف على «تخشع» ، ف «لا» نافية، أي وألم يأن وقت أن لا يكونوا كاليهود والنصارى من قبل ما نزل إليكم، والمراد نهي المؤمنين عن مماثلة أهل الكتاب في قسوة القلوب، بعد أن وبخوا، وذلك أن بني إسرائيل كان الحق يحول بينهم وبين شهواتهم، وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا لله ورقت قلوبهم، وإما جزم «بلا» الناهية، ويدل على هذا الوجه قراءة من قرأ بالتاء على سبيل الالتفات، فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ أي طالت المدة بينهم وبين أنبيائهم. وقيل: أي طالت أعمارهم في الغفلة. وقيل: طال عليهم الزمان بطول الأمل.
وقال ابن عباس: أي مالوا إلى الدنيا وأعرضوا عن مواعظ الله. وروي عن ابن كثير الأمد بتشديد الدال، أي الوقت الأطول فزالت عنهم الروعة التي كانت تأتيهم من الكتابين. فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ للمواعظ بسبب الطول وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) ، أي خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين من أجل فرط قسوتهم. وهذا إشارة إلى أن عدم الخشوع في أول الأمر يفضي إلى الفسق في آخر الأمر، اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي أن الله يلين القلوب بالخشوع- الناشئ عن الذكر وتلاوة القرآن- بعد قساوتها كما يحيي الله الأرض بالغيث بعد يبوستها، كذلك يحيي الله الموتى من القبور بالمطر، وقَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ الدالة على قدرتنا على إحياء الموتى لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) أي لكي تكمل عقولكم فتصدقوا بالبعث بعد الموت، إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ. وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر بتخفيف الصاد من التصديق، أي إن الذين آمنوا من الرجال والنساء وتصدقوا صدقة واجبة، أو تطوعا عن طيبة النفس وخلوص النية على المستحق للصدقة يضاعف لهم إلى ألفي ألف إلى ما شاء الله من الأضعاف. وقرأ الباقون وحفص عن عاصم بتشديد الصاد من التصدق. وقرأ أبي «إن المتصدقين والمتصدقات» ، والمعنى: إن الذين أعطوا الصدقة من الرجال والنساء وعملوا الصالحات إلخ لأن إقراض الله من الأعمال الصالحة وهو تقديم الحسنات. وقرأ ابن كثير وابن عامر «يضعّف لهم» بتشديد العين، والجار والمجرور نائب الفاعل. وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) أي(2/493)
ثواب حسن في الجنة وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وهم الذين آمنوا بالرسل حين أتوهم، ولم يكذبوهم ساعة قط مثل آل ياسين، ومؤمن آل فرعون، وأما في أمة محمد فهم ثمانية سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام، أبو بكر، وعلي، وزيد، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وحمزة، وتاسعهم عمر بن الخطاب. ألحقه الله تعالى بهم لما عرف من صدق نيته- كما قاله الضحاك ومقاتل- ويقال: الصدّيق هو الذي يحمل الأمر على الأشق، ولا ينزل إلى الرخص، ولا يميل إلى التأويلات، وَالشُّهَداءُ وهذا إما معطوف على ما قبله ويجوز الوقف هنا، وهم عدول الآخرة الذين تقبل شهادتهم.
وقال الضحاك: هم التسعة الذين سميناهم رضي الله عنهم. وقال مقاتل ومحمد بن جرير:
هم الذين استشهدوا في سبيل الله. وقال الفراء والزجاج هم الأنبياء. ف «أولئك» مبتدأ ثان و «هم» مبتدأ ثالث، و «الصديقون» خبر «هم» ، وهو مع خبره خبر للثاني، وهو مع خبره خبر للأول، أي أولئك عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء بعلو الرتبة ورفعة المحل. وإما مبتدأ وخبره إما عِنْدَ رَبِّهِمْ وإما لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وعلى هذا فالوقف على الصدّيقون تام. والأظهر أن جملة لهم أجرهم من مبتدأ وخبر محلها رفع على أنه خبر ثان للموصول والضمير الأول للموصول والأخيران للصدّيقين والشهداء. وهذه الجملة بيان لثمرات ما وصفوا به من نعوت الكمال، أي للذين آمنوا مثل أجر الصدّيقين والشهداء ونورهم، المعروفين بغاية الكمال وعزة المنال، فالمماثلة بين تمام ما للأول من الأصل والأضعاف، وبين ما للآخرين من الأصل بدون الأضعاف، وقد حذف أداة التشبيه تنبيها على قوة المماثلة وبلوغها حد الاتحاد،
ولما ذكر الله تعالى حال المؤمنين أتبعه بذكر حال الكافرين فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا أُولئِكَ الموصوفون بتلك الصفة القبيحة، أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19) بحيث لا يفارقونها أبدا، ولما ذكر الله تعالى أحوال المؤمنين والكافرين ذكر ما يدل على حقارة الدنيا، وكمال حال الآخرة اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وهو فعل الصبيان الذي يتعبون أنفسهم جدا ثم إن تلك المتاعب تنقضي من غير فائدة، وَلَهْوٌ وهو فعل الشبان، فبعد انقضائه لا يبقى إلا التحزن، لأن العاقل يرى المال ذاهبا والعمر ذاهبا، وَزِينَةٌ وهو دأب النسوان، لأن المطلوب من الزينة تحسين القبيح وتكميل الناقص، وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ كتفاخر الأقران يفتخر بعضهم على بعض بالنسب، أو بالقوة، أو بالقدرة، أو بالعساكر وكلها ذاهبة، وَتَكاثُرٌ أي مبالغة في الكثرة فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ. فالحياة الدنيا غير مذمومة وإنما المذموم من صرف هذه الحياة إلى طاعة الشيطان، ومتابعة الهوى لا إلى طاعة الله تعالى، والمعنى: اعلموا أن شغل البال بالحياة الدنيا دائر بين هذه الأمور الخمسة، كَمَثَلِ غَيْثٍ أي صفة الدنيا في إعجابها كصفة مطر أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ أي أعجب الزراع النبات الحاصل بالمطر وسمي الزارع كافرا، لأنه يغطي(2/494)
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
البذر بتراب الأرض، ثُمَّ يَهِيجُ أي يجف النبات فَتَراهُ مُصْفَرًّا بعد ما رأيته ناضرا، وقرئ «مصفارا» ، ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً أي ثم يصير النبات متكسرا، وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ لمن كانت حياته بهذه الصفة وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ لأوليائه، وأهل طاعته والرضوان أعظم درجات الثواب، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ (20) لمن أقبل عليها وأعرض بها عن طلب الآخرة.
قال سعيد بن جبير: الدنيا متاع الغرور إن ألهتك عن طلب الآخرة، فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله وطلب الآخرة فنعم المتاع ونعم الوسيلة
سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي سارعوا إلى سائر ما كلفتم به، فإن المسارعة إلى ذلك تؤدي إلى مغفرة وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، أي لو جعلت السموات السبع والأرضون السبع وألزق بعضها ببعض، لكان عرض الجنة في عرض جميعها، أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أي هيئت الجنة للمؤمنين من جميع الأمم، ذلِكَ الموعود به من المغفرة والجنة، فَضْلُ اللَّهِ أي عطاؤه، يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ إيتاءه إياه وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) . وهذا تنبيه على عظم حال الجنة ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ هي قحط المطر، وقلة النبات، ونقص الثمار، وغلاء الأثمار، وتتابع الجوع وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ وهي الأمراض، والفقر، وذهاب الأولاد، وإقامة الحدود على الأنفس، إِلَّا فِي كِتابٍ أي مكتوب في اللوح المحفوظ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها أي أن نخلق هذه المصائب والأنفس والأرض، إِنَّ ذلِكَ أي إن إثبات كل ذلك مع كثرته في الكتاب عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) ، وإن كان عسيرا على العباد لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ أي أخبرناكم بذلك لئلا تحزنوا حزنا زائدا على ما في أصل الجبلة على ما فاتكم من نعم الدنيا، وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ أي بما أعطاكم الله تعالى منها، فإن من علم أن الكل مقدر لا يعظم جزعه على ما فات ولا فرحه بما هو آت. وقرأ أبو عمرو «أتاكم» بقصر الهمزة، أي بما جاءكم من الله. وقرئ «بما أوتيتم» ، والمراد: نفي الحزن المانع عن التسليم لأمر الله تعالى، ونفي الفرح الموجب للبطر والاختيال، الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بأداء حق الله تعالى وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ. وذلك نتيجة فرحهم عند إصابة النعم والموصول صفة لكل مختال فخور. وقيل: مستأنف لا تعلق بما قبله وهو مبتدأ خبره محذوف، وهو بيان لصفة اليهود، والمعنى. الذين يبخلون ببيان صفة النبي التي في كتبهم لئلا يؤمن به الناس فتذهب مأكلتهم، ويأمرون الناس بالبخل به لهم تهديد شديد، وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) أي ومن يعرض عن الإنفاق فإن الله غني عنه فلا يعود عليه ضرر ببخل البخيل، حميد في ذلك الإعطاء مستحق حيث فتح أبواب نعمته.
وقرأ نافع وابن عامر «فإن الله الغني» بحذف لفظ هو. لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا أي الأنبياء إلى الأمم بِالْبَيِّناتِ أي الدلائل القاهرة والمعجزات الظاهرة، وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ أي أنزلنا إليهم الكتاب وهو الذي يتوسل به إلى فعل ما ينبغي من الأفعال النفسانية، لأن به يتميز الحق من(2/495)
الباطل، والحجة من الشبهة، وَالْمِيزانَ هو الذي يتوسل به إلى فعل ما ينبغي من الأفعال البدنية، وهو الذي يتميز به العدل عن الظلم والزائد عن الناقص، لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ أي ليتعاملوا فيما بينهم بالعدل، وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ أي قوة شديدة وهو زاجر للخلق عما لا ينبغي. والحاصل أن الكتاب إشارة إلى القوة النظرية، والميزان إشارة إلى القوة العملية والحديد إشارة إلى دفع ما لا ينبغي. وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ أي لأمتعتهم مثل السكاكين، والفاس، والمبرد وغير ذلك، وما من صنعة إلا والحديد آلتها، وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ أي وليعلم الله من ينصر دينه ورسله باستعمال السيوف، والرماح، وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين، حال كونه تعالى غائبا عنهم، أي ينصرونه تعالى ولا يبصرونه، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ على الأمور قادر على إهلاك جميع أعدائه، عَزِيزٌ (25) أي لا يمانع ولا يفتقر إلى نصرة أحد بل وإنما ليصلوا بامتثال الأمر في الجهاد إلى الثواب، وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فما جاء بعدهما أحد بالنبوة، إلّا وكان من أولادهما، وكانت الكتب الأربعة في ذرية إبراهيم، وهو من ذرية نوح، فإنه الأب الثاني لجميع البشر، فَمِنْهُمْ أي الذرية مُهْتَدٍ إلى الحق وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) ، أي خارجون عن الطريق المستقيم ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ، أي نوح وإبراهيم ومن أرسلا إليهم بِرُسُلِنا أي أرسلنا بعضهم بعد بعض إلى أن انتهى إلى أيام عيسى عليه السلام، وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، أي جعلناه متأخرا عنهم في الزمان وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ أي أعطيناه الإنجيل. وقرأ الحسن بفتح همزة «أنجيل» تنبيها على كونه أعجميا، وأنه لا يلزم فيه مراعاة أبنية العرب وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ على دينه رَأْفَةً أي لينا وَرَحْمَةً، أي شفقة أي وفقناهم للتراحم والتعاطف بينهم. وقرئ «رآفة» على وزن فعالة، وَرَهْبانِيَّةً. وقرئ بضم الراء ابْتَدَعُوها، أي أحدثوها من عند أنفسهم ونذروها أي وفقناهم لاستحداث الرهبانية لينجوا من فتنة بولس اليهودي.
وروى ابن مسعود أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا ابن مسعود، أما علمت أن بني إسرئيل تفرقوا سبعين فرقة كلها في النار إلّا ثلاث فرق: فرقة آمنت بعيسى عليه السلام وقاتلوا أعداء الله في نصرته حتى قتلوا، وفرقة لم يكن لها طاقة بالقتال فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وفرقة لم يكن لها طاقة بالأمرين فلبسوا العباء وخرجوا إلى القفار والفيافي»
«1» . ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ أي لم نفرض الرهبانية عليهم. وهذه الجملة صفة ثانية لرهبانية، إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ أي ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله، فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها أي فما حفظوا الرهبانية حق حفظها، لأنهم أتوها
__________
(1) رواه الطبراني في المعجم الكبير (10: 212) ، وابن كثير في التفسير (8: 55) وفيه: «يا ابن مسعود، هل علمت ... اثنين وسبعين» .(2/496)
لطلب الدنيا والرياء والسمعة فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد مِنْهُمْ أي الرهبان أَجْرَهُمْ وهم الذين لم يخالفوا دين عيسى ابن مريم، وهم أربعة وعشرون رجلا في أهل اليمن، جاءوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وآمنوا به، ودخلوا في دينه أي لما بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يبق من الرهبان إلا قليل، انحط رجل من صومعته وجاء سائح من سياحته، وصاحب دير من ديره، فآمنوا به صلّى الله عليه وسلّم وصدقوه، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ي من الرهبان فاسِقُونَ (27) أي تاركون تلك الطريقة ظاهرا وباطنا، وهم الذين خالفوا دين عيسى، فقال الله تعالى في حق قوم عيسى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بعيسى وبالرسل المتقدمة، اتَّقُوا اللَّهَ فيما نهاكم عنه وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ محمد عليه الصلاة والسلام يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ، أي نصيبين مِنْ رَحْمَتِهِ لإيمانكم أولا: بعيسى عليه السلام، وثانيا: بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، ولا يبعد أن يثابوا على دينهم السابق، وإن كان منسوخا ببركة الإسلام وَيَجْعَلْ لَكُمْ يوم القيامة نُوراً تَمْشُونَ بِهِ على الصراط وبين الناس وَيَغْفِرْ لَكُمْ ما أسلفتم من الكفر والمعاصي، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) أي مبالغ في المغفرة والرحمة، لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ، لأنه قادر مختار يفعل بحسب الاختيار، و «لا» زائدة كما يدل عليه قراءة «ليعلم» و «لكي يعلم» ، و «لأن يعلم» . وقوله تعالى: وَأَنَّ الْفَضْلَ عطف على أَلَّا يَقْدِرُونَ، والمعنى: إنما بالغنا في هذا البيان وأطنبنا في الوعد والوعيد، ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على تخصيص فضل الله بقوم معينين، ولا يمكنهم حصر الرسالة والنبوة في قوم مخصوصين، وأن الفضل في تصرف الله تعالى يعطيه من يشاء، ولا اعتراض عليه في ذلك أصلا. والمقصود من هذه الآية أن يزيل الله عن قلوب بني إسرائيل اعتقادهم بأن النبوة مختصة بهم، وغير حاصلة إلّا في قومهم وقيل: إن لفظة «لا» غير زائدة والضمير في قوله تعالى: أَلَّا يَقْدِرُونَ عائد إلى الرسول وأصحابه: وقوله تعالى: وَأَنَّ الْفَضْلَ ألخ عطف على «أن لا يعلم» . والمعنى: أنا فعلنا ذلك لئلا يعتقد أهل الكتاب وهم بنو إسرائيل أنه لا يقدر النبي والمؤمنون به على شيء من فضل الله الذي هو سعادة الدارين، وليعتقدوا أن الفضل في ملكه تعالى على أن عدم علمهم بعدم قدرتهم على ذلك، كناية عن علمهم بقدرتهم عليه، فإنهم إذا لم يعلموا أنهم لا يقدرون عليه فقد علموا أنهم يقدرون عليه، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) فإن العظيم لا بد وأن يكون إحسانه عظيما.(2/497)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
سورة المجادلة
مدنية، ثنتان وعشرون آية، أربعمائة وثلاث وسبعون كلمة، ألف وسبعمائة، واثنان وسبعون حرفا، هذه السورة أول النصف الثاني من القرآن باعتبار عدد السور، فهي الثامنة والخمسون منها، وأول العشر الأخير من القرآن باعتبار عدد أجزائه، وليس فيها. آية إلا وفيها ذكر الجلالة مرة أو مرتين أو ثلاثا
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها أي قد أجاب الله دعاء المرأة التي تخاصمك أيها النبي في شأن زوجها وتلك المجادلة أنه صلّى الله عليه وسلّم كلما قال لها: «حرمت عليه» قالت: والله ما ذكر طلاقا بأن أنزل الله حكم الظهار على ما يوافق مطلوبها، وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ بأن قالت رافعة رأسها إلى السماء: أشكو إلى الله فاقتي ووجدي، وقالت: إن لي صبية صغارا، وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما أي مراجعتكما في الكلام، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) أي يسمع كلام من يناديه، ويبصر من يتضرع إليه.
روي عن خولة بنت ثعلبة بن مالك بن الدخشم الأنصارية كانت تحت أوس بن الصامت الأنصاري، رآها زوجها وهي ساجدة في الصلاة، وكانت حسنة الجسم، فنظر إلى عجيزتها، فأعجبه أمرها، فلما سلمت من الصلاة طلب وقاعها، فأبت، فغضب عليها، وكان به لمم، أي توقان إلى النساء. وقيل: مس من الجن، فأراد أن يأتيها على حال لا تؤتى عليها النساء، فأبت عليه، فغضب وقال: إن خرجت من البيت قبل أن أفعل بك، فأنت علي كظهر أمي، ثم ندم على ما قال. وكان الظهار والإيلاء من طلاق أهل الجاهلية، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله، إن أوسا تزوجني وأنا شابة مرغوب في فلما كبر سني وكثر ولدي، جعلني كأمه وإن لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا! فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلّم: «حرمت عليه» .
فقالت: أشكوا إلى الله فاقتي ووجدي، وكلما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «حرمت عليه» هتفت وشكت إلى الله، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول: اللهم إني أشكو إليك، فأنزل على لسان نبيك فرجي، فبينما هي كذلك إذ تربّد وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، ثم إنه صلّى الله عليه وسلّم أرسل إلى(2/498)
زوجها وقال: «ما حملك على ما صنعت؟» فقال الشيطان: فهل من رخصة؟ فقال: «نعم» . وقرأ عليه الأربع آيات وقال له: «هل تستطيع العتق؟» فقال: لا، والله. فقال: «هل تستطيع الصوم؟» فقال: لا والله، لولا أني آكل في اليوم مرة أو مرتين لكلّ بصري ولظننت أني أموت. فقال له:
«هل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟» «1» فقال: لا والله يا رسول الله إلا أن تعينني منك بصدقة، فأعانه رسول الله بخمسة عشر صاعا، وأخرج أوس من عنده مثله، فتصدق به على ستين مسكينا،
الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ أي الذين يحرمون نساءهم على أنفسهم، كتحريم الله عليهم ظهور أمهاتهم ليست نساؤهم أمهاتهم على الحقيقة، فهو كذب بحت.
قرأ ابن كثير ونافع، وأبو عمرو، ويعقوب «يظهرون» بفتح الياء وتشديد الظاء والهاء، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف «يظاهرون» بفتح الياء وتشديد الظاء وألف. وقرأ أبو العالية وعاصم وحسين يظاهرون بضم الياء وتخفيف الظاء وألف وكسر الهاء وفي قراءة أبيّ «يتظاهرون» . وقرأ عاصم في رواية المفضل «أمهاتهم» بالرفع. وقرئ «بأمهاتهم» . وجملة «ما هن أمهاتهم» خبر المبتدأ الذي هو الموصول إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ أي ما أمهاتهم في الحرمة إلا اللائي ولدنهم، فلا تشبه بهن في الحرمة إلا من ألحقها الشرع بهن من المرضعات، وأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، وَإِنَّهُمْ أي المظاهرين لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ عند الشرع وعند العقل والطبع، وَزُوراً أي كذبا، والظهار حرام اتفاقا، وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) إما من غير التوبة لمن شاء، أو بعد التوبة إذ جعل الكفارة عليهم مخلصة لهم من هذا القول المنكر، وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا إما بالسكوت عن الطلاق بعد الظهار زمانا يمكنه أن يطلقها فيه كما قال الشافعي- وإما باستباحة الوطء والملامسة، والنظر إليها بالشهوة- كما قاله أبو حنيفة وإما بالعزم على جماعها- كما قاله مالك- فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أي فالواجب إعتاق رقبة مؤمنة فلا تجزئ كافرة عند الشافعي.
وقال أبو حنيفة: تجزئ أي رقبة كانت سواء كانت مؤمنة أو كافرة. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا أي أن يستمتع كل من المظاهر المظاهر منها بشيء من جهات الاستمتاعات، فلا يباشر المظاهر امرأته، ولا يتلذذ منها بشيء حتى يكفر، فإن وطئها قبل أن يكفر استغفر الله وأمسك عنها حتى
__________
(1) رواه الترمذي في السنن 72، والبيهقي في السنن الكبرى (4: 227) ، والشافعي في المسند 105، ومالك في الموطّأ 297، والطبراني في المعجم الكبير (7: 47) ، وعبد الرزاق في المصنّف (7459) ، وابن عبد البر في التمهيد (7: 161) ، والبغوي في شرح السنة (6: 282) ، والطبراني في التفسير (28: 34) ، والسيوطي في الدر المنثور (6:
180) .(2/499)
يكفر كفارة واحدة، ذلِكُمْ أي التغليظ في الكفارة تُوعَظُونَ بِهِ أي تزجرون به عن إتيان ذلك المنكر كي تتركوه ولا تعاودوه، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) أي من التكفير وتركه، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أي رقبة فَصِيامُ شَهْرَيْنِ أي فعليه صيام شهرين مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا بجميع ضروب المسيس من لمس بيد وغيرها، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أي الصيام فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً لكل مسكين مدمن طعام بلده الذي يقتات منه حنطة، أو شعير، أو أرزا، أو تمرا بمد النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا يعتبر مد حدث بعده. وقال أبو حنيفة: لكل مسكين نصف صاع من بر، أو دقيق، أو سويق، أو صاع واحد من تمر، أو شعير، ولا يجزئه دون ذلك. ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي ذلك البيان للأحكام لتصدقوا بالله ورسوله في العمل بشرائعه ولا تستمروا على أحكام الجاهلية من جعل الظهار أقوى أنواع الطلاق، وَتِلْكَ أي هذه الأحكام المذكورة حُدُودُ اللَّهِ التي لا يجوز مجاوزتها، وَلِلْكافِرِينَ أي لمن جحد هذه الأحكام وكذب بها، عَذابٌ أَلِيمٌ (4) ، فإن عجز عن جميع خصال الكفارة لم تسقط عنه، بل هي باقية في ذمته إلى أن يقدر على شيء منها، ولا ينبغي للمرأة أن تدعه يقربها حتى يكفّر، فإن تهاون بالتكفير حال الإمام بينه وبينها، وأجبره على التكفير، وإن كان الإجبار بالضرب ولا شيء من الكفارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار وحدها، لأن ترك التكفير إضرارا بالمرأة، وامتناع من إيفاء حقها إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، أي يعاودونهما، وذلك بالمحاربة مع أولياء الله، أو بالصد عن دين الله وتكذيبه، كُبِتُوا أي أذلوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، أي كما أخزى كفار الأمم الماضية المعادين للرسل عليهم الصلاة والسلام، وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ، أي والحال أنا قد أنزلنا آيات واضحات في شأن من خالف الله ورسوله ممن قبلهم من الأمم من إهلاكهم، وَلِلْكافِرِينَ بتلك الآيات عَذابٌ مُهِينٌ (5) أي يذهب بعزهم وكبرهم. يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً أي مجتمعين في حال واحدة فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا تخجيلا لهم وتشهيرا لحالهم الذي يتمنون عنده المسارعة بهم إلى النار لما يلحقهم من الخزي على رؤوس الأشهاد، أَحْصاهُ اللَّهُ أي أحاط الله بجميع أحوال تلك الأعمال من الكمية والكيفية، والزمان والمكان. وَنَسُوهُ أي والحال أنهم قد نسوا أعمالهم، لأنهم تهاونوا بها حيث فعلوها، ولم يبالوا بها لجراءتهم على المعاصي، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) لا يغيب عنه أمر من الأمور قط، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ؟ أي ألم تعلم علما يقينيا أنه تعالى يعلم ما فيهما من الموجود سواء كان ذلك بالاستقرار فيهما أو بالجزئية منهم! ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ أي ما يوجد من متناجين ثلاثة إلا الله رابعهم، ولا متناجين خمسة إلا الله سادسهم، وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا أي من الأماكن ولو كانوا تحت الأرض.
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في ربيعة وحبيب ابني عمرو وصفوان بن أمية، كانوا يوما(2/500)
يتحدثون فقال أحدهم: هل يعلم الله ما نقول؟ وقال الثاني: يعلم البعض دون البعض. وقال الثالث: إن كان يعلم البعض فيعلم الكل. وفي مصحف عبد الله: «ما يكون من نجوى ثلاثة إلا الله رابعهم، ولا أربعة إلا الله خامسهم، ولا خمسة إلا الله سادسهم ولا أقل من ذلك ولا أكثر إلا الله معهم، إذا أخذوا في التناجي» ، أي فالله تعالى عالم بكلامهم وضميرهم، وسرهم وعلنهم، فكأنه تعالى حاضر معهم ومشاهد لهم.
قرأ ابن عبلة «ثلاثة» و «خمسة» بالنصب على الحال بإضمار «يتناجون» . وقرأ الحسن والأعمش وابن أبي إسحاق وأبو حيوة ويعقوب «ولا أكثر» بالرفع إما معطوف على محل «نجوى» ، أو هو مبتدأ لعطفه على مبتدأ وهو أدنى، وجملة «إلا هو معهم» خبره. وقرئ «ولا أكبر» بالباء المنقوطة من تحت. ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ أي يحاسب على ذلك ويجازى على قدر الاستحقاق. وقرأ بعضهم «ينبئهم» بسكون النون. إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) . وهذا تحذير من المعاصي وترغيب في الطاعات، أَلَمْ تَرَ أي ألم تنظر يا أشرف الخلق إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ أي بما هو إثم في نفسه كالكذب، وَالْعُدْوانِ للمؤمنين وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ أي مخالفته نزلت في اليهود، كانوا ينتاجون فيما بينهم، ويوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يحزنهم، فلما أكثروا وذلك شكا المؤمنون ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأمرهم أن لا يتناجوا دون المؤمنين فلم ينتهوا عن ذلك، وعادوا إلى مناجاتهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقرأ حمزة وحده «ينتجون» ، أي ويخص اليهود المنافقين بمناجاتهم. وقرئ «والعدوان» بكسر العين. وقرئ «ومعصيات الرسول» ، وَإِذا جاؤُكَ يا أشرف الخلق حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ أي أنهم كانوا يجيئون إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويقولون في تحيتهم إياك: السام عليك يا محمد وهم يوهمون أنهم يقولون: السلام عليك فيرد النبي عليهم: وعليكم. والسام بلغتهم:
الموت والله تعالى يقول: وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى [النمل: 59] ويا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة: 41] ويا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأنفال: 64] وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ أي ويقولون:
فيما بينهم إذا خرجوا من عند رسول الله أن محمدا لو كان رسولا، فلم لا يعذبنا الله بما نقول لنبيه على هذا الاستخفاف. وقيل: إنهم قالوا: إن محمدا يرد علينا ويقول: وعليكم السام، فلو كان نبيا كما يزعم لكان دعاؤه علينا مستجابا ولمتنا، وهذا موضع تعجب منهم فإنهم كانوا أهل الكتاب يعلمون أن الأنبياء عليهم السلام كانوا يغضبون فلا يعاجل من يغضبهم بالعذاب فأنزل الله فيهم، حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ عذابا يَصْلَوْنَها أي يدخلونها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) جهنم أي إن تقديم العذاب إنما يكون بحسب المشيئة والمصلحة فإذا لم تقتض المشيئة والمصلحة تقديم العذاب في الدنيا، فعذاب جهنم يوم القيامة كافيهم في الردع عما هم عليه، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فيما بينكم فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وهو ما يقبح، وَالْعُدْوانِ وهو ما يؤدي إلى ظلم الغير،(2/501)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20)
وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وهو ما يكون خلافا عليه. وقرئ «فلا تنتجوا» وفلا تناجوا بحذف إحدى التاءين، وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وهو الذي يضاد العدوان، وَالتَّقْوى وهو ما يتقى به من النار من فعل الطاعات وترك المعاصي، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) ، أي اتقوا الله في أن تتناجوا دون المؤمنين الذي تجمعون بقهر إليه تعالى يوم القيامة، أي إلى مكان المحاسبة والمجازاة إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا، أي إنما النجوى السابقة- وهي نجوى المنافقين- مع اليهود ممتدة من الشيطان، أي إن الشيطان يأمرهم بأن يقدموا عل تلك النجوى التي هي سبب لحزن المؤمنين، وذلك لأن المؤمنين إذا رأوهم متناجين قالوا: ما نراهم إلا وقد بلغهم عن أقربائنا وإخواننا الذين خرجوا إلى الغزوات أنهم قتلوا، وهزموا، يقع ذلك في قلوبهم ويحزنون له. وقرأ نافع «ليحزن» بضم الياء وكسر الزاي، فحينئذ ففاعله ضمير يعود على «الشيطان» ، أي ليحزن الشيطان المؤمنين بتوهمهم أن النجوى في نكبة أصابتهم، وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي وليس مناجاة المنافقين بضارة المؤمنين شيئا من الضرر إلا بمشيئة الله، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) ، فإن من توكل عليه لا يخيب أمله ولا يبطل سعيه.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا أي إذا قيل لكم: ليتوسع بعضكم عن بعض فتوسعوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ في كل ما تريدون التوسع فيه من المكان، والرزق، والصدر، والقبر، والجنة. وهذه الآية تدل على أن كل من وسع على عباد الله أبواب الخير والراحة وسع الله عليه خيرات الدنيا والآخرة. والمراد: من هذا التوسيع إيصال الخير إلى المسلم وإدخال السرور في قلبه. وقرأ الحسن وداود بن أبي هند «تفاسحوا» . وقرأ عاصم «في المجالس» بصيغة الجمع، لأن لكل جالس موضع جلوس على حدة. والباقون «في المجلس» بالتوحيد على أن المراد به الجنس.
وقرئ «في المجالس» يفتح اللام. قيل: نزلت هذه الآية في نفر من أهل بدر منهم ثابت بن قيس بن شماس جاءوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان النبي جالسا في صفة صفية يوم الجمعة، فلم يجدوا مكانا يجلسون فيه، فقاموا على رأس المجلس.
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لمن لم يكن من أهل بدر: «يا فلان قم، ويا فلان قم مكانك ليجلس فيه من كان من أهل بدر»
. وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فعرف النبي صلّى الله عليه وسلّم الكراهية لمن أقامه من المجلس، فأنزل الله فيهم هذه الآية يوم الجمعة.
وروي عن ابن عباس أنه قال: نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس بن شماس وذلك أنه دخل المسجد، وقد أخذ القوم مجالسهم، وكان يريد القرب من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للوقر الذي كان في أذنيه فوسعوا له حتى قرب منه صلّى الله عليه وسلّم، ثم ضايقه بعضهم، وجرى بينه وبينهم كلام وذكر للرسول محبة القرب منه، ليسمع منه وأن فلانا لم يفسح له، فأمر القوم بأن يوسعوا، ولا يقوم أحد لأحد، فنزلت هذه الآية.(2/502)
مسألة: إذا أمر إنسان أن يبكر الجامع فيأخذ له مكانا يقعد فيه لا يكره، فإذا جاء الآمر يقوم من الموضع، أما إذا أرسل سجادة لتفرش له في المسجد حتى يحضر هو، فيجلس عليها فذلك حرام لما فيه من تحجير المسجد بلا فائدة وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا أي وإذا قيل: ارتفعوا عن مواضعكم حتى توسعوا لإخوانكم فارتفعوا وقوموا إلى الموضع الذي تؤمرون به. وقرئ «انشزوا» بكسر الشين وبضمها، يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ أي يرفع الله المؤمنين منكم أيها المأمورون بالتفسح والعالمين منه خاصة درجات بامتثال أوامره تعالى، وأوامر رسوله والموصول الثاني معطوف على الموصول الأول إما من عطف الخاص على العام، أو من عطف الصفات و «درجات» مفعول ثان كأنه قيل: يرفع الله المؤمنين العلماء درجات.
وقال ابن عباس: تم الكلام عند قوله تعالى: مِنْكُمْ وينتصب الذين أوتوا بفعل مضمر، أي ويخص الذين أوتوا العلم بدرجات أو يرفعهم إلى درجات.
قال ابن مسعود: مدح الله العلماء في هذه الآية، والمعنى أن الله تعالى يرفع الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات في دينهم إذ فعلوا بما أمروا به. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) وهذا تهديد لمن لم يمتثل الأمر. وقرئ «يعملون» بالياء التحتية. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً أي إذا أردتم مناجاة الرسول في بعض شؤونكم المهمة الداعية إلى مناجاته صلّى الله عليه وسلّم فتصدقوا قبل النجاة، وفائدة هذا التقديم تعظيم مناجاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإن الإنسان إذا وجد الشيء مع المشقة استعظمه وإن وجده بالسهولة استحقره، ونفع كثير من الفقراء بتلك الصدقة المقدمة على المناجاة، وتمييز محب الآخرة عن محب الدنيا بتلك الصدقة، فإن المال محك الدواعي. وقال أبو مسلم: إن المنافقين كانوا يمتنعون من بذل الصدقات وإن قوما من المنافقين تركوا النفاق وآمنوا ظاهرا وباطنا إيمانا حقيقيا، فأراد الله تعالى أن يميزهم عن المنافقين فأمر بتقديم الصدقة على النجوى ليتميز هؤلاء الذين آمنوا إيمانا حقيقيا عمن بقي على نفاقه الأصلي، وهذا التكليف كان مقدرا بغاية مخصوصة، فوجب انتهاؤه عند الانتهاء إلى الغاية المخصوصة فلا يكون هذا منسوخا. وقيل: نزلت هذه الآية في أهل الميسرة فإن منهم من كانوا يكثرون المناجاة مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم دون الفقراء حتى تأذى بذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم والفقراء، فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم بالصدقة قبل أن يتناجوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم بدرهم على الفقراء بكل كلمة ذلِكَ أي التصدق خَيْرٌ لَكُمْ في دينكم من الإمساك وَأَطْهَرُ لذنوبكم ولقلوبكم من حب المال، لأن الصدقة طهرة فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا ما تتصدقون به يا أهل الفقر، فتكلموا مع رسول الله بما شئتم بغير التصدق، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أي فطن من لم يجد ما يتصدق به كان معفوا عنه، أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ أي أخفتم تقديم الصدقات لما يخوفكم الشيطان به من الفقر وبخلتم يا أهل الميسرة، فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا ما أمرتم به من إعطاء الصدقات وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بأن أرخص(2/503)
لكم في أن لا تفعلوه فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات، أي إذا كنتم راجعين إلى الله تعالى وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة، وأطعتم الله ورسوله في سائر الأوامر، فقد كفاكم هذا التكليف، وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13) ظاهرا وباطنا، فهو محيط بأعمالكم ونياتكم أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي ألم تنظر يا أشرف الخلق إلى المنافقين الذين اتخذوا اليهود أولياء ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ أي ليس المنافقون منكم أيها المسلمون في السر، ولا من اليهود في العلانية، لأنهم منافقون مذبذبون بين ذلك، وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ أي ويقولون: والله إنا لمسلمون، أو إنا لا يشتمون الله ورسوله ولا يكيدون المسلمين. يروى أن عبد الله بن نبتل المنافق كان يجالس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم يرفع حديثه إلى اليهود، فبينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجرته إذ قال: يدخل عليكم اليوم رجل ينظر بعيني شيطان، فدخل رجل عيناه زرقاوان، وهو عبد الله بن نبتل، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لم تسبني أنت وأصحابك؟» فحلف بالله ما فعل، فانطلق وجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما سبوه، فأنزل الله هذه الآية قيل: نزلت في شأن عبد الله بن أبي وأصحابه بولايتهم مع اليهود، وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أنهم كاذبون في حلفهم فيمينهم يمين غموس لا عذر لهم فيها أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ أي للمنافقين بسبب ذلك عَذاباً شَدِيداً أي متفاقما لا طاقة لهم به في القبر، إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15) في نفاقهم فيما مضى من الزمان المتطاول، فتمرنوا على سوء العمل وأصروا عليه اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ أي حلفهم الكاذبة جُنَّةً أي سترة عن دمائهم وأموالهم. وقرأ الحسن «إيمانهم» بكسر الهمزة أي اتخذوا إظهار إيمانهم لأهل الإسلام وقاية عن ظهور نفاقهم وكيدهم للمسلمين، وسترة عن أن يقتلهم المسلمون، فلما أمنوا من القتل اشتغلوا بصد الناس عن الدخول في الإسلام بإلقاء الشبهات في القلوب وتقبيح حال الإسلام وذلك قوله تعالى: فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي صرفوا الناس في السر عن دين الله فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) ، أي يهانون به في الآخرة لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي
لن تدفع عنهم كثرة أموالهم ولا كثرة أولادهم من عذاب الله شيئا من الدفع، أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ أي ملاقوها هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) أي لا يخرجون منها أبدا.
روي أن واحدا منهم قال: لننصرن يوم القيامة بأنفسنا وأموالنا وأولادنا فنزلت هذه الآية.
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً قيل: هو ظرف لقوله تعالى: فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ، فَيَحْلِفُونَ لَهُ أي بين يدي الله ما كنا كافرين ولا منافقين، كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ في الدنيا وَيَحْسَبُونَ في الآخرة أَنَّهُمْ بتلك الأيمان الفاجرة عَلى شَيْءٍ من جلب منفعة، أو دفع مضرة، كما كانوا عليه في الدنيا أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18) ، عند الله في حلفهم أي أنهم لشدة توغلهم في النفاق ظنوا يوم القيامة أنه يمكنهم ترويج كذبهم بالأيمان الكاذبة على علام الغيوب، فكأن هذا الحلف الذميم يبقى معهم أبدا، اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ أي غلب على أمور المنافقين الشيطان، فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ فلا(2/504)
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
يذكرونه بقلوبهم ولا بألسنتهم، أُولئِكَ أي المنافقون حِزْبُ الشَّيْطانِ أي جنده، أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19) ، أي المغبونون بذهاب الدنيا والآخرة إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) ، أي إن الذين يخالفون الله ورسوله في الدين أولئك في جملة الكفار الخلص أو مع الأسفلين في النار وهم المنافقون.
كَتَبَ اللَّهُ أي أثبت الله في اللوح المحفوظ وقال: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي محمد عليه الصلاة والسلام بالحجة والسيف على فارس والروم واليهود والمنافقين، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ على نصر أنبيائه، عَزِيزٌ (21) بنقمة أعدائه لا يغلب عليه في مراده.
قال مقاتل: إن المسلمين قالوا: إنا لنرجو أن يظهرنا الله على فارس والروم. قال عبد الله بن أبي سلول لهم: أتظنون أن فارس والروم كبعض القرى التي غلبتموهم، فيكون لكم فتح فارس والروم كلا والله أنهم أكثر جمعا وعدة!؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية، ثم نزلت الآية في حاطب بن أبي بلتعة رجل من أهل اليمن الذي كتب كتابا إلى أهل مكة بسر النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإنه أخبر أهل مكة بمسير النبي إليهم لما أراد فتح مكة وكان هو بدريا. قال الله تعالى: لا تَجِدُ يا أشرف الخلق قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي يناصحون من خالف الله ورسوله في الدين بإرادة الخير لهم دينا ودنيا مع كفرهم، ولا منع فيما عدا ذلك، لأن الأمة أجمعت على جواز مخالفتهم ومعاملتهم. والمعنى: لا يجتمع الإيمان مع وداد أعداء الله، فإن من أحب أحدا امتنع أن يحب مع ذلك عدوه، وَلَوْ كانُوا أي من خالف الله ورسوله آباءَهُمْ أي آباء المتحابين أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أي جماعتهم من قوم شتى.
قال سعيد: نزلت هذه الآية في شأن أبي عبيدة حين قتل أباه يوم بدر. وعن عمر بن الخطاب قال: لو كان أبو عبيد حيا لاستخلفته.
أما تعلم أنك عندي بمنزلة سمعي وبصري؟ وروي أنه صك أباه أبا قحافة صكة أسقطت أسنانه حين سمعه يسب النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومصعب بن عمير قتل أخاه أبا عزيز عبيد بن عمير يوم أحد، ومحمد بن مسلمة الأنصاري قتل أخاه من الرضاع كعب بن الأشرف اليهودي رأس بني النضير وعليا وحمزة وعبيدة بن الحارث قتلوا يوم بدر بني عمهم، عتبة وشيبة ابني ربيعة، والوليد بن عتبة وقد أخبر الله تعالى: إن هؤلاء لم يوادوا أقاربهم وعشائرهم غضبا لله تعالى ولدينه، أُولئِكَ أي الذين لا يوادون الكفار كَتَبَ أي أثبت(2/505)
الله فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ، وشرح الله صدورهم بالإلطاف. وروي المفضل عن عاصم كتب على البناء للمفعول فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ أي قواهم بنور القلب من عند الله تعالى. وقيل: بنصر من الله على عدوهم، وسمى تلك النصرة روحا، لأن بها يحيا أمرهم كما قاله ابن عباس والحسن، وقال السدي. الضمير في قوله: مِنْهُ عائد إلى الإيمان. والمعنى: أعانهم بروح من الإيمان وسمى روحا لحياة القلوب به وَيُدْخِلُهُمْ في الآخرة جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أبد الآبدين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ونعمة الرضوان هي أعظم النعم وأجل المراتب، أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أي جنده أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) ، أي الفائزون بسعادة الدارين الناجون من العذاب والسخط.(2/506)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
سورة الحشر
وتسمى سورة النضير، مدنية، أربع وعشرون آية، سبعمائة وخمس وأربعون كلمة، ألف وتسعمائة وثلاثة عشر حرفا
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) نزلت هذه الآية إلى قوله تعالى:
وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ في بني النضير، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما دخل المدينة صالحه بنو النضير على أن لا يكونوا عليه ولا له، فلما غزا بدرا وظهر على المشركين قالوا: هو النبي المنعوت في التوراة بالنصر، فلما غزا أحدا وهزم المسلمون ارتابوا ونكثوا العهد فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا من اليهود إلى مكة وحالفوا أبا سفيان وأصحابه أربعين رجلا عند الكعبة على قتاله صلّى الله عليه وسلّم، ثم رجع كعب وأصحابه إلى المدينة، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم محمد بن مسلمة الأنصاري بقتل كعب بن الأشرف فقتله غيلة، ثم صبحهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالكتائب، وهو على حمار مخطوم بليف
فقال لهم: «اخرجوا من المدينة» . فقالوا: الموت أحب إلينا من ذلك، ثم تنادوا بالحرب
، فبعث إليهم خفية عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه وقالوا: لا تخرجوا من الحصن فإن قاتلوكم فنحن معكم، ولننصرنكم، ولئن أخرجتم لنخرجن معكم، فحصنوا الأزقة، فحاصرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم إحدى وعشرين ليلة، فلما قذف الله الرعب في قلوبهم وأيسوا من نصر المنافقين طلبوا الصلح، فأبى إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من متاعهم، وللنبي ما بقي، فجعلوا إلى الشام إلى أريحا وأذرعات، إلا أهل بيتين منهم آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب، فإنهم لحقوا بخيبر ولحقت طائفة منهم بالحيرة فذلك قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ هم بنو النضير من اليهود مِنْ دِيارِهِمْ أي مساكنهم بالمدينة لِأَوَّلِ الْحَشْرِ أي عند أول إخراج الجمع من مكان إلى مكان وهم أول من أخرجوا من جزيرة العرب إلى الشام لم يصبهم هذا الذل قبل ذلك، وأما آخر حشرهم فهو إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام، ما ظَنَنْتُمْ أيها المسلمون أَنْ يَخْرُجُوا من ديارهم بهذا الذل لعزتهم وقوتهم وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ أي من عذاب الله، أي كانت حصونهم منيعة فظنوا أنها(2/507)
تمنعهم من رسول الله و «حصونهم» إما مبتدأ و «مانعتهم» خبر مقدم، والجملة خبر «أن» وإما فاعل لمانعتهم وهي خبر «أن» . فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا أي فأتى أمر الله اليهود باذلا لهم من حيث لم يخطر ببالهم وهو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف على يد أخيه غيلة. وقرئ «فآتاهم الله» بمد الهمزة، أي فأعطاهم الله الهلاك. وقيل: الضمير للمؤمنين، أي فآتاهم نصر الله من حيث لم يرجوا وهو إخراج بني النضير من قرية يقال لها: زهرة إلى الشام وكان بين زهرة والمدينة ميلان وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ أي أثبت في قلوبهم الخوف من محمد وأصحابه، وكانوا قبل ذلك لا يخافون يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ أي يهدمون بعض بيوتهم بأيديهم من داخل الحصون ليسدوا بالخشب والحجارة أفواه الأزقة، ولئلا يبقى بعد جلائهم مساكن للمسلمين، ولينقلوا معهم بعض آلاتها مما يقبل النقل ويهدم المؤمنون بعض بيوت بني النضير من خارج توسيعا لمجال القتال، ونكاية لهم، ومنعا لتحصنهم بها. وقرأ أبو عمرو وحده «يخرجون» بفتح الخاء وتشديد الراء، وقال: الأخراب ترك الموضع خرابا، والتخريب الهدم، وبنو النضير خربوا وما أخربوا. يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) أي فاتعظوا بحالهم ولا تعتمدوا على شيء غير الله تعالى كما اعتمد هؤلاء على حصونهم، وعلى قوتهم وعلى المنافقين فليس للزاهد أن يعتمد على زهده فإن زهده لا يكون أكثر من زهد بلعام، وليس للعالم أن يعتمد علمه. انظر إلى ابن الراوندي مع كثرة ممارسته كيف صار فلا ينبغي لأحد أن يعتمد إلا على فضل الله ورحمته، وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ أي ولولا أن قضى الله على بني النضير الخروج عن أوطانهم على الوجه الفظيع لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا بالقتل والسبي كما فعل بإخوانهم بني قريظة من اليهود، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) وهذا استئناف غير متعلق بجواب لولا أي ولهم على كل حال سواء أجلوا أم لا عذاب النار في الآخرة، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي ذلك المذكور من العذابين بسبب أنهم خالفوا الله ورسوله في الدين، وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4) أي ومن يخالف الله يعاقبه الله في الدنيا والآخرة، فإن الله شديد العقاب.
وقرئ «ومن يشاقق الله» كما في الأنفال. روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما نزل ببني النضير وقد تحصنوا بحصونهم أمر أصحابه بقطع نخيلهم وإحراقها. قال بنو النضير: يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخل وتحريقها، فكان في أنفس المؤمنين شيء من قولهم وخشوا أن يكون ذلك فسادا واختلفوا في ذلك فقال بعضهم: لا تقطعوا فإنه مما أفاء الله علينا.
وقال بعضهم: بل نغيظهم بقطعه، فأنزل الله تعالى قوله: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أي أيّ شيء قطعتم أيها المسلمون من نخلة أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها كما كانت فَبِإِذْنِ اللَّهِ أي فذاك القطع والترك بإباحة الله تعالى ليعز المؤمنين، وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5) أي إنما جوز الله ذلك القطع ليسر المؤمنين ويزداد غيظ الكفار اليهود ويتضاعف تلهفهم بسبب نفاذ حكم أعدائهم(2/508)
في أعز أموالهم. وقرئ «قوما» على أصلها. وقرئ أيضا «قائما» على أصوله ذهابا إلى لفظ ما، وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ أي ما رده الله لرسوله من يهود بني النضير، فهو لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاصة دونكم فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ، أي لأنكم ما أجريتهم إلى تحصيل ذلك خيلا ولا ركابا وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ من أعدائهم، وقد سلط الله النبي صلّى الله عليه وسلّم على هؤلاء اليهود من غير أن تقاسوا أيها المسلمون شدائد الحروب فلا حق لكم في أموالهم، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) فيفعل ما يشاء، نزلت هذه الآية في بني النضير وقراهم، وليس للمسلمين يومئذ كثير خيل ولا ركاب، وإنما كانوا في زهرة على ميلين من المدينة، فمشوا إليها مشيا ولم يركب إلا رسول الله، وكان راكب جمل فلما كانت المقاتلة قليلة أجراه الله تعالى مجرى ما لم يحصل فيه المقاتلة أصلا، فخص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتلك الأموال، ثم روى أنه صلّى الله عليه وسلّم قسّمها بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة، وهم: أبو دجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف، والحرث بن الصمة، وأعطى سعيد بن معاذ سيف بن أبي الحقيق.
ومعنى الآية: أن الصحابة طلبوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقسم الفيء بينهم كما قسم الغنيمة بينهم فذكر الله الفرق بينهما، وهو أن الغنيمة ما اتبعتم أنفسكم في تحصيلها وأوجفتم الخيل والركاب والفيء ما ليس في تحصيله تعب، فكان الأمر فيه مفوضا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يضعه حيث يشاء، ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى
رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى
كقريظة والنضير، وفدك وخيبر، وعرينة، وينبع والصفراء، فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وهم بنو هاشم وبنو المطلب، وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ.
قيل: يصرف سهم الله إلى عمارة الكعبة والمساجد، ويصرف سهم رسول الله وفاته وهو أربعة أسهم إلى مصالح المسلمين من سد الثغور وحفر الأنهار، وبناء القناطر يقدم الأهم فالأهم أو إلى المجاهدين المرصدين للقتال في الثغور، لأنهم قائمون مقام رسول الله في رباط الثغور، كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ أي جعل الله الفيء لمن ذكر لأجل أن لا يكون الفيء شيئا يتداوله الأغنياء بينهم لا يخرجونه إلى الفقراء.
وقرأ هشام «تكون» بالتأنيث على خلاف عنه «دولة» بالرفع، أي كيلا يقع دور في يد الأغنياء. وقرأ علي بن أبي طالب والسلمي بفتح الدال فقيل: الضم والفتح بمعنى. وقيل:
«الدولة» بالفتح من الملك بضم الميم، و «الدولة» بضم من الملك بكسر الميم، وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا فإنه واجب الطاعة، لأنه لا ينطق عن الهوى، وهذا يوجب أن كل ما أمر به النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر من الله تعالى، وإن كانت الآية خاصة في الفيء، فجميع أوامره صلّى الله عليه وسلّم ونواهيه داخلة فيها وَاتَّقُوا اللَّهَ في مخالفته صلّى الله عليه وسلّم إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7) فيعاقب من يخالف أمره ونهيه لِلْفُقَراءِ بدل من لذي القربى، و «ما» عطف عليه كأنه قيل: أعني بأولئك الأربعة هؤلاء الفقراء، الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ حيث إن كفار مكة أحوجوهم إلى(2/509)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
الخروج منها وكانوا مائة رجل، يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً أي فخرجوا منها طالبين منه تعالى رزقا في الدنيا ومرضاة في الآخرة وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بأنفسهم وأموالهم، فإن خروجهم من بين الكفار مهاجرين إلى المدينة نصرة، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) في دينهم، لأنهم هجروا لذات الدنيا وتحملوا شدائدها لأجل الدين.
وعن ابن عباس: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال للأنصار: «إن شئتم قسمتم للمهاجرين من دوركم وأموالكم وأقسم لكم من الغنائم وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم وأقسم الغنيمة بين الفقراء المهاجرين خاصة دونكم» «1» . فقالت الأنصار: بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ولا نشاركهم في الغنيمة فأثنى الله عليهم فقال:
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي والذين هيئوا لدار الهجرة والإيمان وتمكنوا فيهما أشد تمكن من قبل مجيء المهاجرين إليهم، يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم لمحبتهم الإيمان، وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ أي في قلوبهم حاجَةً أي حزازة وحسدا مِمَّا أُوتُوا أي مما أعطي المهاجرين من الفيء وغيره دونهم، وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ، أي ويقدمون المهاجرين على أنفسهم في كل شيء من أسباب المعاش، ولو كان فيهم فقر وحاجة إلى ما يقدمون به غيرهم، حتى إن من كان عنده امرأتان كان ينزل عن إحداهما ويزوجها واحدا منهم.
روي عن أبي هريرة أن رجلا بات به ضيف ولم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته نوّمي الصبية، وأطفئي السراج، وقربي للضيف ما عندك فنزلت هذه الآية. وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ أي ومن يوق بتوفيق الله تعالى حرص نفسه على المال حتى يخالفها في حب المال وبغض الإنفاق، فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) أي الظافرون بما أرادوا.
قال ابن زيد: من لم يأخذ شيئا أمر الله بإعطائه فقد وقي شح نفسه. وقرئ «يوق» بالتشديد، وشح بكسر الشين وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد هجرة المهاجرين ومن بعد قوة إيمان الأنصار، يَقُولُونَ أي يدعون لهم: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذنوبنا وَلِإِخْوانِنَا في الدين الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وهو جميع من تقدمهم من المسلمين لا خصوص المهاجرين والأنصار، وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا أي حقدا.
وقرئ «غمرا» . لِلَّذِينَ آمَنُوا أيا كانوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10) فينبغي للمؤمن أن يذكر السابقين بالدعاء والرحمة، فمن لم يكن كذلك بل ذكرهم بسوء كان خارجا من جملة أقسام المؤمنين بحسب نص هذه الآية،
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا وهم عبد الله بن أبيّ، وعبد الله بن نبتل، ورفاعة بن زيد فإنهم كانوا من الأنصار، ولكنهم نافقوا في دينهم يَقُولُونَ
__________
(1) رواه القرطبي في التفسير وفيه: «إن شئتم قسمت للمهاجرين» .(2/510)
في السر لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ- وهم اليهود من بني قريظة والنضير، فهم مشتركون في الكفر وفي عداوة محمد صلّى الله عليه وسلّم- لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ من المدينة لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ ونذهبن في صحبتكم أينما ذهبتم، وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أي في شأنكم أَحَداً يمنعنا من الخروج معكم أَبَداً، أي وإن طال الزمان. وقيل: لا نعين عليكم أحدا من أهل المدينة، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ من أي مقاتل كان لَنَنْصُرَنَّكُمْ على عدوكم وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) في تلك المقالات الثلاثة المؤكدة بالأيمان الفاجرة، لَئِنْ أُخْرِجُوا أي اليهود من المدينة لا يَخْرُجُونَ أي المنافقون مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ، وكان الأمر كذلك، وفي هذا دليل على صحة النبوة وإعجاز القرآن حيث أخبر عما سيقع فوقع الأمر كما أخبر، وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) ، أي ولئن خرج المنافقون لقصد نصر اليهود لينهز من المنافقون، ثم يهلكهم الله ولا ينفعهم نصرة المنافقين لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ أي أن خوف المنافقين واليهود في السر من المؤمنين أشد من خوفهم من الله الذي يظهرونه للمؤمنين، وكانوا يظهرون لهم خوفا شديدا من الله، والمعنى: أنهم لا يقدرون على مقابلتكم، لأنكم أشد مرهوبية في صدورهم، وهم يظهرون خوفهم من الله، ذلِكَ أي كون خوفهم من المخلوق أشد من خوفهم من الخالق، بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) أي بسبب أنهم قوم لا يعلمون عظمة الله فيخشوه حق خشيته، لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ، أي لا يقدر اليهود والمنافقون على مقاتلتكم مجتمعين في موطن إلا إذا كانوا في قرى محصنة بالخنادق والدروب، أو إلا إذا كان بينكم وبينهم حائط، وذلك بسبب أن الله ألقى في قلوبهم الرعب وأن نصرة الله معكم.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «جدار» بكسر الجيم وفتح الدال بالإمالة في جدار كما هو قراءة أبي عمرو وبالصلة في بينهم بحيث يتولد منها واو كما هو قراءة ابن كثير والباقون «جدر» بضم الجيم والدال، بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ أي قتالهم فيما بينهم شديد إذا قاتلوا قومهم تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى أي تحسبهم في صورتهم مجتمعين على المحبة، متفقين على أمر واحد.
والحال أن قلوبهم مختلفة، لأن كل أحد منهم على مذهب آخر وبينهم عداوة وشديدة، ذلِكَ أي تشتت قلوبهم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14) أن تشتيت قلوبهم مما يوهن قواهم إذ لو عقلوا لاجتمعوا على الحق ولم يتفرقوا في العقائد والمقاصد، كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ أي صفة بني قريظة في نقض العهد كصفة الذين من قبلهم بسنتين، وهم بنو النضير ذاقوا عقوبة أمرهم من نقض العهد، وَلَهُمْ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ، أي ومثل المنافقين في إغرائهم إياهم على القتال وخذلانهم كمثل الأبيض مع برصيصا العابد، فالأبيض هو صاحب الأنبياء والأولياء، وهو الذي تصدّى للنبي صلّى الله عليه وسلّم وجاءه في صورة جبريل ليوسوس إليه(2/511)
على وجه الوحي، فدفعه جبريل إلى أقصى أرض الهند، إِذْ قالَ أي الشيطان الذي يقال له:
الأبيض لِلْإِنْسانِ- أي العابد الذي يقال له برصيصا- اكْفُرْ بالله فَلَمَّا كَفَرَ بالله خذله وقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ، أي ليس بيني وبينك محبة أصلا. وقرئ «أنا بريء منك» .
روى عطاء وغيره عن ابن عباس قال: كان راهب يقال له: برصيصا تعبد في صومعة له سبعين سنة، لم يعص الله تعالى فيها طرفة عين وأن إبليس أعياه في أمره الحيل،
فجمع ذات يوم مردة الشياطين، فقال الأبيض لإبليس أنا أكفيك أمره، فانطلق فتزيا بزي الرهبان، وحلق وسط رأسه، وأتى صومعة برصيصا، فناداه، فلم يجبه، وكان لا ينفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام مرة، ولا يفطر في كل عشرة أيام إلا مرة، فأقبل الأبيض يصلي في أصل صومعة برصيصا فلم يلتفت إليه برصيصا، أربعين يوما، فلما رأى برصيصا شدة اجتهاد الأبيض في العبادة قال له: ما حاجتك؟ قال: حاجتي أن تأذن لي أن أرتفع إليك، فأذن له، فارتفع إليه في صومعته، فأقام حولا يتعبد، فلا يفطر إلا في كل أربعين يوما مرة، ولا ينفتل من صلاته إلا كذلك، فلما حال الحول، قال الأبيض لبرصيصا: إن عندي دعوات أعلمكها تدعو بهن فهن خير مما أنت فيه، يشفي الله تعالى بها المريض، ويعافي بها المبتلى والمجنون. قال برصيصا: إني أكره هذه المنزلة وإني أخاف أن يشغلني الناس عن عبادة ربي، فلم يزل به الأبيض حتى علّمه الدعوات، ثم انطلق حتى أتى إبليس فقال: والله قد أهلكت الرجل، فانطلق الأبيض، فتعرض لرجل فجننه، ثم جاءه في صورة رجل مطبب فقال لأهله: إن لصاحبكم جنونا أفأعالجه؟ قالوا: نعم، فقال: إني لا أقوى على جنيته ولكن سأرشدكم إلى من يدعو الله تعالى فيعافيه، انطلقوا إلى برصيصا فإن عنده الاسم الذي إذا دعا به أجيب، فانطلقوا به إليه، فسألوه الدعاء، فدعا له، فذهب عنه الشيطان، فكان الأبيض يفعل ذلك بالناس ويرشدهم إلى برصيصا، فيدعو لهم، فيعافون، ثم تعرض الأبيض لبنت ملك من ملوك بني إسرائيل وكان لها ثلاثة أخوة، وكان ملك بني إسرائيل عمهم حينئذ، ثم جاء الأبيض إليهم في صورة رجل مطبب فقال: أفأعالجها؟ قالوا: نعم، قال: إن الذي عرض لها مارد لا يطاق ولكن سأرشدكم إلى رجل تثقون به تتركونها عنده إذا جاءها شيطانها دعا لها حتى تعلموا أنها قد عوفيت فتأخذونها منه صحيحة قالوا: ومن هو؟ قال: هو برصيصا فانطلقوا إليه، فسألوه ذلك، فأبى، فبنوا صومعة ألصقوها بصومعة برصيصا ووضعوا تلك البنت في صومعتها وقالوا: يا برصيصا هذه أختنا أمانة عندك، ثم انصرفوا، فلما انفتل برصيصا من صلاته عاين تلك البنت وما هي عليه من الجمال فوقعت في قلبه، فجاءها الشيطان، فخنقها، فكانت تكشف عن نفسها وتتعرض لبرصيصا، فجاءه الشيطان وقال: ويحك، واقعها، فلم تجد مثلها، وستتوب بعد ذلك، فلم يزل الشيطان به حتى واقعها، فلم يزل على ذلك حتى حملت البنت وظهر حملها، فقال له الشيطان: ويحك يا برصيصا فهل لك أن تقتلها وتتوب، فقتلها، فدفنها ليلا جانب(2/512)
الجبل، فجاء الشيطان وقتئذ، فأخذ بطرف إزارها فبقي خارجا من التراب، ثم رجع برصيصا إلى صومعته وأقبل على صلاته إذ جاء إخوتها الذين يتعهدونها، فلما لم يجدوها قالوا: يا برصيصا، ما فعلت أختنا؟ قال: قد جاء شيطانها فذهب بها ولم أطقه، فصدقوه وانصرفوا، فلما أمسوا مكروبين جاء الشيطان إلى أكبرهم في منامه فقال: ويحك، إن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا، وأنه دفنها في موضع كذا وكذا، فقال في نفسه: هذا حلم من عمل الشيطان، فتابع عليه ثلاث ليال، فلم يكترث، ففعل الشيطان بأوسطهم مثل ذلك فقال مثل قول أكبرهم، ولم يخبر بذلك الحلم أحدا، ففعل بأصغرهم مثل ذلك فقال: لأخويه: والله لقد رأيت كذا وكذا فقال الأوسط:
أنا والله رأيت مثل ذلك! وقال الأكبر: أنا والله رأيت مثله، فانطلقوا إلى برصيصا وقالوا له: ما فعلت بأختنا؟ فقال: أليس قد أعلمتكم بحالها فكأنكم قد اتهمتموني فقالوا: والله لا نتهمك، واستحيوا منه، وانصرفوا، فجاءهم الشيطان فقال: ويحكم، إنها مدفونة في موضع كذا وكذا، وإن طرف إزارها خارج من التراب، فانطلقوا، فرأوا أختهم على ما رأوا في النوم، فذهبوا إلى برصيصا ومعهم غلمانهم بالفوس والمساحي، فهدموا صومعة برصيصا، وأنزلوه منها، وكتفوه، ثم أتوا به إلى الملك فأقر على نفسه، فأمر الملك بقتله وصلبه على خشبة، فلما صلب أتاه الأبيض فقال: يا برصيصا أتعرفني؟ قال: لا، قال: أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات، فاستجيب لك، فلم يزل الأبيض يعيره قال برصيصا له: فكيف أصنع؟ قال: تطيعني في خصلة واحدة حتى أنجيك مما أنت فيه من العذاب، وأخرجك من مكانك. قال: وما هي؟ قال تسجد لي. قال: أفعل، فسجد له، فقال: يا برصيصا هذا الذي أردت منك، قد صارت عاقبة أمرك إلى أن كفرت بربك إني بريء منك. إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) . وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «إني» بفتح الياء. فَكانَ عاقِبَتَهُما أي الشيطان والراهب أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها و «عاقبتهما» بالنصب خبر «كان» مقدم. وقرئ شاذا بالرفع. وقرأ ابن مسعود «خالدان فيها» على أنه خبر «أن» و «في النار» لغو. وَذلِكَ أي الخلود في النار جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17) أي المشركين. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ في كل ما تأتون وما تذرون، وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ برة أو فاجرة ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ، أي ما تريد أن تحصله ليوم القيامة فتفعله، وَاتَّقُوا اللَّهَ بأداء الواجبات وترك المعاصي، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) من الخير والشر، فلا تعملون عملا إلا كان بمرأى منه تعالى، ومسمع، فاستحيوا منه تعالى، وَلا تَكُونُوا يا معشر المؤمنين كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ أي نسوا حق الله كالمنافقين واليهود، فإن المنافقين تركوا طاعة الله في السر، واليهود تركوا طاعة الله في السر والعلانية، فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أي فجعلهم الله ناسين حق أنفسهم حتى لم يعملوا لأنفسهم ما ينفعهم عنده تعالى، أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) أي الكاملون في الفسوق، أي الخروج عن دائرة الطاعة، لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ الذين نسوا الله تعالى وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ(2/513)
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
الذين اتقوا الله تعالى، لا في الدنيا ولا في الآخرة بوجه من الوجوه- واحتج بهذه الآية أصحابنا على أن المسلم لا يقتل بالذمي- أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20) بكل مطلوب، الناجون عن كل مكروه.
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أي لو جعلنا في الجبل على قساوته عقلا كما جعلنا العقل فيكم، ثم أنزلنا عليه هذا القرآن المنطوي على فنون القوارع لخشع وتشقق خشية من الله وخوفا أن لا يؤدي حقه في تعظيم القرآن وأنتم أيها المعترفون بإعجازه لا ترغبون في وعده ولا ترهبون من وعيده، وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ أي نبينها لهم في القرآن لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) ، أي لكي يتأملوا مواعظ القرآن فإنه لا عذر في ترك التدبر، فإنه لو خوطب بهذا القرآن الجبال مع تركيب العقل فيها لانقادت لمواعظه ولرأيتها ذليلة متشققة من خشية الله. هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وحده عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ، أي عالم ما غاب عن العباد، وما شاهدوه.
وقال ابن عباس: عالم السر والعلانية. وقال سهل: عالم بالآخرة والدنيا. وقيل: عالم ما غاب عن الوجود وهو المعدوم وعالم الموجود، هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) أي هو العاطف على العباد، البر والفاجر بالرزق لهم، المنعم- على المؤمنين خاصة- بالمغفرة ودخول الجنة. هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي لا معبود بحق إلا هو وحده، الْمَلِكُ أي المتصرف بالأمر في جميع خلقه، الْقُدُّوسُ أي البليغ في النزاهة في الذات، والصفات، والأفعال، والأحكام، والأسماء.
قال الحسن: أي الذي كثرت بركاته. السَّلامُ أي الذي لا يطرأ عليه شيء من العيوب في الزمان المستقبل، الْمُؤْمِنُ أي واهب الأمن، الْمُهَيْمِنُ أي الحافظ لكل شيء، الْعَزِيزُ أي الذي لا يوجد له نظير، أو الغالب الْجَبَّارُ أي الملك العظيم- كما قاله ابن عباس- أو مصلح أحوال العباد، أو الذي يقهرهم على ما أراد، الْمُتَكَبِّرُ بربوبيته- كما قاله ابن عباس- أو المتعظم عن كل سوء- كما قاله قتادة- أو الذي تعظم عن ظلم العباد سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) ، أي تنزيها له تعالى عما يشركون به. هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ أي المقدر لما يوجده، فيرجع إلى تعلق الإرادة التنجيزي القديم، الْبارِئُ أي المبرز للأعيان من العدم إلى الوجود، فيرجع لتأثير القدرة الحادث في خصوص الأعيان، الْمُصَوِّرُ أي مصور الأشياء على هيئات مختلفة مما يريد تعالى، فالتصوير آخر، والتقدير أولا، والبرء بينهما.
وقرأ علي بن أبي طالب والحسن بفتح الواو وبالنصب مفعول ل «البارئ» . لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى أي له تعالى الأسماء الدالة على معاني الصفات الحسنة، يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ينطق ما فيهما بتنزهه تعالى عن جميع النقائص تنزها ظاهرا، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) الجامع للكمالات كافة، فإنها راجعة إلى الكمال في القدرة والعلم.(2/514)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)
سورة الممتحنة
وتسمى سورة براءة والمبعثرة، والفاضحة، مدنية، ثلاث عشرة آية، ثلاثمائة وثمان وأربعون كلمة، ألف وخمسمائة وعشرة أحرف
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي في الدين وَعَدُوَّكُمْ في القتل، وهم كفار مكة أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، أي توصلون المودة بينكم وبينهم.
روي أن حاطب بن أبي بلتعة كتب إلى أهل مكة كتابا: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريد أن يغزوكم، فخذوا حذركم، ثم أرسله مع سار مولاة أبي عمرو بن صيفي، فأتاها حاطب وأعطاها عشرة دنانير، وكساها بردا، واستحملها ذلك الكتاب إلى أهل مكة، فخرجت سائرة، فأطلع الله رسوله على ذلك، فبعث عليا، وعمارا، وطلحة، والزبير، والمقداد، وأبا مرثد وقال: انطلقوا حتى تألوا روضة خاخ- موضع بينه وبين المدينة اثنا عشر ميلا- فإن فيها ظعينة معها كتاب حاطب إلى أهل مكة، فخذوه منها، واتركوها، فإن أبت فاضربوا عنقها فأدركوها ثمة، وسألوا عن ذلك فأنكرت وحلفت ما معها كتاب، فسل على سيفه وقال: والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخرجته من عقاص شعرها، فخلوا سبيلها، فجاءوا بالكتاب إلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فاستحضر رسول صلّى الله عليه وسلّم حاطبا وقال له: «هل تعرف هذا الكتاب؟» قال: نعم، قال «ما حملك على هذا؟» «1» قال: إن لي بمكة أهلا ومالا، فأردت أن أتقرب منهم، وقد علمت أن الله تعالى ينزل بأسه عليهم وأن كتابي لا يغني عنهم شيئا، وأن الله ناصرك عليهم، فصدقه، وقبل عذره فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنه شهد بدرا وما يدريك يا عمر لعل الله تعالى اطلع على أهل بدر» فقال لهم: «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» «2»
__________
(1) رواه النسائي في السنن (8: 240) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (4: 79) ، وعبد الرزاق في المصنف (17932) ، وابن حجر في المطالب العالية (2206) ، وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق (5: 387) ، وأبو نعيم في تاريخ أصفهان (1: 107) .
(2) رواه البخاري في الصحيح (6: 186) ، ومسلم في فضائل الصحابة 162، والسيوطي في الدر المنثور (6:
203) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتّقين (7: 136) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (20193) .(2/515)
ففاضت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم فنزلت هذه الآية.
وروي أن سارة عاشت إلى خلافة عمر وأسلمت وحسن إسلامها، وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ أي وحالهم أنهم كفروا بما جاءكم من الدين الحق. وقرئ «لما جاءكم» أي كفروا لأجل ما جاءكم من الرسول والقرآن، أي جعلوا ما هو سبب الإيمان سببا للكفر يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ من مكة إلى المدينة، أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ وهذا تعليل للإخراج أن يخرجوكم لإيمانكم بالله إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ من مكة إلى المدينة جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي وهذا مرتبط بلا تتخذوا، أي لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، أي بالنصيحة. وهذه الجملة بدل من «تلقون إليهم» بدل بعض لأن إلقاء المحبة يكون سرا وجهرا وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ أي والحال إني أعلم منكم بما أخفيتم في صدوركم، وما أظهرتم بألسنتكم، فأي فائدة لكم في إسرار النصيحة وقد علمتم أن الإخفاء والإعلان سيان في علمي؟ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) أي ومن يفعل إسرار النصيحة للكفار فقد أخطأ طريق الصواب، هذا كله معاتبة لحاطب، وهذا يدل على فضله وصدق إيمانه، فإن المعاتبة لا تكون إلا من محب لحبيب كما قال القائل من الوافر:
إذا ذهب العتاد فليس ود ... ويبقى الود ما بقي العتاب
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً أي إن يغلب عليكم أهل مكة يظهروا ما في قلوبهم من غاية العداوة، وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ أي يمدوا إليكم أيديهم بالضرب والقتل وألسنتهم بالشتم والطعن وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) ، أي وتمنوا كفركم بعد إيمانكم، فحينئذ لا ينفعكم إلقاء المودة إليهم، لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ أي قراباتكم وَلا أَوْلادُكُمْ الذين تتقربون إلى المشركين لأجلهم، يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ والظرف إن علق ب «يفصل» فالوقف على «أولادكم» وقف بيان، أو وقف تام عند أبي حاتم، والوقف على «بينكم» وإن علق ب «تنفعكم» فالوقف على «يوم القيامة» وهو وقف صالح. وقرأ ابن عامر «يفصل» بضم وفتح الفاء وتشديد الصاد مع فتحها، ونائب الفاعل ظرف مبني على الفتح وحمزة والكسائي كذلك، إلا أنهما يكسران الصاد، أي يفرق الله بينكم وبين أقاربكم وأولادكم، فيدخل أهل الإيمان الجنة وأهل الكفر النار، وعاصم بفتح الياء وسكون الفاء وكسر الصاد. والباقون وهم نافع وابن كثير وأبو عمرو بضم الياء وسكون الفاء، وفتح الصاد.
وروي أن ابن كثير قرأ أيضا بالبناء للمفعول كعاصم. وقرئ «نفصل» و «نفصل» بالنون وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) فيجازيكم عليه، ولم يقل تعالى خبير مع أنه أبلغ في العلم، لأن البصير أظهر من خبير في العلم، لأنه تعالى يجعل عملهم كالمحسوس بحس البصر، قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ أي قدوة حسنة فِي إِبْراهِيمَ، أي في جميع أحواله من قول وفعل وَالَّذِينَ مَعَهُ من أصحابه المؤمنين.(2/516)
وقرأ عاصم «أسوة» بضم الهمزة في الموضعين. والباقون بكسرها، إِذْ قالُوا بدل اشتمال من «إبراهيم والذين معه» ، لِقَوْمِهِمْ أي لقرابتهم الكفار، مع أنهم أكثر من عدوكم وأقوى وقد كان من آمن بإبراهيم أقل منكم وأضعف: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي إنا متبرئون من قرابتكم إيانا ومن معبودكم من الأوثان كَفَرْنا بِكُمْ أي أنكرنا دينكم فلا نعتد بشأنكم وبآلهتكم، وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ أي ظهر بيننا وبينكم العداوة، وهي المباينة في الأفعال، وَالْبَغْضاءُ وهي المباينة بالقلوب أَبَداً أي على الدوام، حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، وتتركوا الشرك، فتنقلب العداوة حينئذ ولاية، والبغضاء محبة، أمر الله تعالى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقتدوا بسيدنا إبراهيم ومن معه من الأنبياء والأولياء، إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ أي فليس لكم الاقتداء بإبراهيم في ذلك، لأنه لما استغفر لأبيه لأجل موعدة وعدها إياها، لأنه ظن أنه أسلم، فلما مات على الكفر تبرأ منه وأنتم لا تظنون إسلام الكفار الذين اتخذتموهم أولياء، وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، وهذا حال من فاعل «لأستغفرن» ، أي لأستغفرن لك والحال أني لا أدفع عنك شيئا من عذاب الله إن أشركت به، أي وما علي إلا بذل الوسع في الاستغفار فوعده الاستغفار، رجاء الإسلام.
وقال ابن عباس: كان من دعاء إبراهيم وأصحابه: رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا أي في جميع أمورنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا أي رجعنا بالتوبة عن المعصية وأقبلنا إلى طاعتك وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) إذ المصير ليس إلا إلى حضرتك، رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي مفتونين بهم.
قال ابن عباس: لا تسلط علينا أعداءنا فيظنوا أنهم على الحق. وقال مجاهد: لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولوا: لو كان هؤلاء على الحق لما أصابهم ذلك، وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) أي أنت الذي تغلب في ملكك الحكيم في صنعك، لَقَدْ كانَ لَكُمْ يا أمة محمد فِيهِمْ أي في إبراهيم والذين معه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.
قال ابن عباس: كانوا يبغضون من خالف الله ويحبون من أحب الله، وهذا هو الحث على الائتساء بإبراهيم وقومه، لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ أي لمن يخاف الله، ويخاف عذاب الآخرة وقوله: لِمَنْ إلخ بدل من «لكم» بدل بعض من كل، وَمَنْ يَتَوَلَّ أي يعرض عن الائتساء بهم ويمل إلى مودة الكفار، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ عنه وعن سائر خلقه، الْحَمِيدُ (6) أي المحمود في فعاله.
قال مقاتل: لما أمر الله تعالى المؤمنين بعداوة الكفار شددوا في عداوة آبائهم وأبنائهم، وجميع أقاربهم، فأنزل الله تعالى قوله تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ أي من كفار مكة مَوَدَّةً أي صلة بمخالطتهم مع أهل الإسلام، وَاللَّهُ قَدِيرٌ أي مبالغ في القدرة فيقدر على تسهيل أسباب المودة، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) بهم إذا تابوا وأسلموا، ورجعوا إلى حضرة الله(2/517)
تعالى، فتزوج النبي صلّى الله عليه وسلّم عام فتح مكة أم حبيبة بنت أبي سفيان فلانت عند ذلك عريكة أبي سفيان، واسترخت شكيمته في العداوة، وكانت هي قد أسلمت وهاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى الحبشة، فتنصّر وراودها على النصرانية، فأبت، وصبرت على دينها، ومات زوجها، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى النجاشي، فخطبها عليه، وساق عنه إليها أربعمائة دينار، وبلغ ذلك أباها فقال: ذلك الفحل لا يقرع أنفه. والمراد بقوله تعالى: الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ نفر من قريش آمنوا بعد فتح مكة منهم: أبو سفيان بن حرب، وأبو سفيان بن الحرث، والحرث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وحكيم بن حزام. لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ
يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ
، أي لأجل دينكم وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ أي تصلوهم وهو بدل من «الذين لم يقاتلوكم» وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ أي تفضوا إليهم بالصلة وغيرها، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) أي أهل البر والتواصل عن عبد الله بن الزبير أن هذه الآية نزلت في أسماء بنت أبي بكر، فإن أمها فتيلة بنت عبد العزى، وهي مشركة قدمت عليها بهدايا، فلم تقبلها، ولم تأذن لها بالدخول، فنزلت هذه الآية فأمرها النبي صلّى الله عليه وسلّم أن تدخلها وتكرمها وتحسن إليها. وقيل: نزلت في خزاعة- قوم هلال بن عويمر- وخزيمة، وبني مدلج، فإنهم صالحوا النبي قبل عام الحديبية على أن لا يقاتلوه، ولا يخرجوه من مكة ولا يعينوا أحدا على إخراجه. وقيل: نزلت في قوم من بني هاشم أخرجوا يوم بدر كرها، وهذه الآية تدل على جواز الإحسان بين المشركين والمسلمين وإن كانت المناصرة منقطعة، إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ أي لأجل دينكم، وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وهم عتاة أهل مكة، وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أي عاونوا عليه من سائر أهل مكة، أَنْ تَوَلَّوْهُمْ أي أن تناصروهم.
هذا بدل اشتمال من «الذين قاتلوكم» وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ أي ومن يحبهم ويناصرهم فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) لأنفسهم بإقبالها للعذاب لوضعهم المحبة في موضع العداوة. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ أي المقرات بالله مُهاجِراتٍ من مكة من بين الكفار، فَامْتَحِنُوهُنَّ أي فاختبروهن بما يغلب على ظنكم بالتحليف، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول للممتحنة: «بالله الذي لا إله إلا هو ما خرجت من بغض زوج بالله، ما خرجت رغبة من أرض إلى أرض، بالله ما خرجت التماس دنيا، بالله ما خرجت إلا حبا لله ولرسوله» . اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ أي بحقيقة إيمانهن فإن ذلك مما تفرد الله بعلمه فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ، أي فإن ظننتموهن بعد الامتحان مؤمنات بالعلائم فلا تردوهن إلى أزواجهن المشركين، لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ أي ليست المؤمنات حلا لأزواجهن الكفار، وهذا بيان لزوال النكاح الأول، وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ أي وليس الكفار حلا للمؤمنات. وهذا بيان لامتناع النكاح الجديد وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا أي وأعطوا أزواجهن مثل ما دفعوا إليهن من المهور، فإن المهر في نظير أصل العشرة ودوامها، وقد فوتها المهاجرة فلا يجمع على الرجل خسارتان: الزوجية والمالية. وذلك أن الصلح عام الحديبية كان على أن من(2/518)
وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
جاءكم من أهل مكة يرد إليهم ومن أتى مكة منكم لم يرد إليكم، وكتبوا بذلك العهد كتابا وختموه، فجاءت سبيعة بنت الحرث الأسلمية، مسلمة، والنبي صلّى الله عليه وسلّم بالحديبية، فأقبل زوجها مسافر المخزومي فقال: يا محمد، اردد علي امرأتي فإنك قد شرطت لنا شرطا أن ترد علينا من أتاك منا، وهذه طية الكتاب لم تجف، فنزلت هذه الآية لبيان أن الشرط إنما كان في الرجال دون النساء، فاستحلفها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فحلفت، فأعطى زوجها ما أنفق، ثم تزوجها عمر رضي الله عنه وأخرج الطبراني عن عبد الله أن هذه الآية نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط.
وعن الزهري: كانت هربت من زوجها عمرو بن العاص ومعها أخواها: عمارة والوليد، فحبسها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورد أخويها. وأخرج بن أبي حاتم عن يزيد بن أبي حبيب أنها نزلت في أمية بنت بشر امرأة أبي حسان ابن الدحداحة. وعن مقاتل: أنها نزلت في سعيدة امرأة صيفي بن الواهب. وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ يا معشر المؤمنين أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ بعد الاستبراء إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي إذا التزمتم مهورهن، فالمهر المدفوع للكفار لا يقوم مقام المهر الذي يجب على المسلم، إذا تزوجهن إذ المهر أجر البضع.
قال ابن عباس: أيما امرأة أسلمت وزوجها كافر فقد انقطع ما بينها وبين زوجها من عصمة ولا عدة عليها من زوجها الكافر وجاز لها أن تتزوج إذا استبرأت، وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ أي لا تأخذوا بعقود الكافرات غير أهل الكتاب.
قال ابن عباس: أيما امرأة كفرت بالله فقد انقطع ما بينها وبين زوجها المؤمن من العصمة.
وقرئ في السبعة «تمسكوا» بضم التاء وسكون الميم وبفتح الميم وتشديد السين. وقرئ «تمسكوا» بفتح التاء والميم وتشديد السين، وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ أي اطلبوا أيها المؤمنون من أهل مكة ما اتفقتم على أزواجكم من مهورهن إن دخلن في دينهم، وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا أي وليطلبوا منكم ما أنفقوا على أزواجهم من المهور إن دخلن في دينكم ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) .
روي أنه لما نزلت هذه الآية أدى المؤمنون مهور المؤمنات المهاجرات إلى أزواجهن المشركين وأبى المشركون أن يؤدوا شيئا من مهور الكوافر إلى أزواجهن المسلمين، فنزل قوله تعالى: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا أي وإن انفلت منكم أحد من أزواجكم، ورجع إلى الكفار الذين ليس بينكم وبينهم عهد، فغنمتم من العدو، فأعطوا الذين ذهبت أزواجهم إلى الكفار من الغنيمة قبل الخمس مثل ما أنفقوا عليهن من مهر المهاجرة التي تزوجتموها، ولا تعطوه زوجها الكافر، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) ، وجميع من ارتدت من نساء المؤمنين ست نسوة: أخت أم سلمة فاطمة بنت أبي أمية، وأم كلثوم(2/519)
بنت جرول- وهما تحت عمر بن الخطاب- وأم الحكم بنت أبي سفيان، كانت تحت عباد بن شداد العمري، وبروع بنت عقبة، كانت تحت شماس بن عثمان من بني مخزوم، وعبدة بنت عبد العزى، كانت تحت عمرو بن عبد ود، وهند بنت أبي جهل كانت تحت هاشم بن العاص، فأعطاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مهر نسائهم من الغنيمة. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ أي نساء أهل مكة بعد فتح مكة يُبايِعْنَكَ أي قاصدات المشارطة عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً من الإشراك، وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ.
وقرئ «ولا يقتلن» بتشديد التاء، وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ، كانت المرأة تلتقط المولود من الزنا فتقول لزوجها: هو ولدي منك كني عن هذا بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها، لأن بطنها الذي تحمله فيه بين يديها، ومخرجه بين رجليها، وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ أي فيما تأمرهن به من معروف، وهو ما عرف حسنه من جهة الشرع. وهذا تنبيه على نفي جواز طاعة مخلوق في معصية الخالق، وذلك كترك النوح وجز الشعر، ونتفه، وحلق الرأس، وخمش الوجه، وشق الجيوب، وتمزيق الثياب، وأن لا يخلون مع رجل غير محرم وأن لا يسافرن مع غير ذي محرم، فَبايِعْهُنَّ أي فشارطهن على ذلك، وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ فيما سلف منهن في الجاهلية إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) ، أي مبالغ في المغفرة والرحمة.
روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما فرغ من بيعة الرجال يوم فتح مكة جلس على الصفا، ومعه عمر أسفل منه، فجعل يبايع النساء، وكانت جملتهن إذ ذاك أربعمائة وسبعا وخمسين امرأة، ولم يصافح في البيعة امرأة، وإنما بايعهن وقيل: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء، فغمسن يده فيه فغمس أيديهن فيه وكانت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنقبة، متنكرة مع النساء خوفا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يعرفها لما صنعت بحمزة يوم أحد، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا» فرفعت هند رأسها وقالت: لقد عبدنا الأصنام وأنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال تبايع الرجال على الإسلام والجهاد فقط، ولما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ولا تسرقن» . قالت هند: إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصبت من ماله هناة فما أدري أتحل لي أم لا؟ فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر، فهو لك حلال، فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعرفها فقال لها: «وإنك لهند بنت عتبة» قالت: نعم، فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك، فلما قال: «ولا تزنين» ، فقالت: أو تزني الحرة؟ فلما قال: «ولا تقتلن أولادكن» . قالت: ربيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا وكان ابنها حنظلة قتل يوم بدر، فضحك عمر حتى استلقى وتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما قال: «ولا تأتين ببهتان» «1» إلخ قالت: والله إن البهتان لقبيح وما تأمرنا إلا
__________
(1) رواه أحمد في (م 6/ ص 365) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (6: 38) ، وابن كثير في-(2/520)
بالرشد ومكارم الأخلاق ولما قال: «ولا تعصينني في معروف» فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء، فأقر النسوة بما أخذ عليهن من البيعة
. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي لا تحبوا اليهود فإنهم قوم غضب الله عليهم.
روي أن جمعا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود أخبار المسلمين لحاجتهم إليهم من إصابة ثمارهم، فنهوا عن ذلك بهذه الآية، قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ أي قد حرموا من ثواب الآخرة كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13) أي كما حرم من ذلك الذين ماتوا منهم.
وقال أبو إسحاق: يئس اليهود الذين عاندوا النبي صلّى الله عليه وسلّم كما يئس الكفار الذين لا يؤمنون بالبعث من موتاهم.
__________
- التفسير (8: 123) ، والسيوطي في الدر المنثور (6: 210) والمتقي الهندي في كنز العمال 473.(2/521)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10)
سورة الصف
مدنية، أربع عشرة آية، مائتان وإحدى وعشرون كلمة، تسعمائة وستة وعشرون حرفا
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي شهد له تعالى بالربوبية والوحدانية وغيرهما من الصفات السنية جميع ما في السموات والأرض، وَهُوَ الْعَزِيزُ أي الذي يغلب على غيره، الْحَكِيمُ (1) أي الذي يضع الأشياء في أتقن مواضعها. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) .
روي أن المسلمين قالوا: لو علمنا أحب الأعمال إلى الله تعالى لبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا، فلما نزل الجهاد كرهوه، فنزلت هذه الآية، أي لم تعدون ما لا توفون. وقيل: إنها نزلت فيمن يتمدح كاذبا حيث كان الرجل يقول: قتلت ولم يقتل، وطعنت ولم يطعن، وهذا أي لم تتكلمون بما لا تعملون. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) .
قال الزجاج: أي كبر قولكم ما لا تفعلون بغضا عند الله، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ، أي في طاعته تعالى صَفًّا في القتال.
قرأ زيد بن علي «يقاتلون» بفتح التاء. وقرئ «يقتلون» ، أي يصفون وصفا حال من فاعل «يقاتلون» ، أي صافين أنفسهم أو مصفوفين كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4) أي مشبهين ببنيان ألصق بعضه على بعض حتى صار شيئا واحدا، وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ أي واذكر لهؤلاء المعرضين عن القتال وقت قول موسى لبني إسرائيل، يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم، ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين فلم يمتثلوا بأمره، يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي أي بالمخالفة فيما أمرتكم به، وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ لأرشدكم إلى خير الدنيا والآخرة، وقضية علمكم بذلك موجبة للتعظيم والمسارعة إلى الطاعة، فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ أي لما مالوا عن الحق وكذبوا موسى زاد الله زيغ قلوبهم حتى صرفها عن قبول الحق.
وقال مقاتل: أي لما عدلوا عن الحق بأبدانهم أمال الله قلوبهم عن الحق جزاء ما عملوا، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) ، أي لا يهدي من سبق في علمه تعالى أنه خارج عن منهاج الحق(2/522)
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
مصر على الغواية، وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ، أي مصدقا لما قبلي مِنَ التَّوْراةِ، ومن كتب الله ومن أنبيائه جميعا وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ.
قرأ نافع وابن كثير، وأبو عمرو، وشعبة بفتح الياء على الأصل وهو الاختيار عند الخليل وسيبويه في كل موضع تذهب فيه الياء لالتقاء ساكنين. والباقون بالسكون وهو حذف الياء من اللفظ لالتقاء الساكنين، وهما الياء والسين كما قاله المبرد وأبو علي، فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) أي فلما جاء عيسى بني إسرائيل بالمعجزات الظاهرة قالوا: هذا المأتي به سحر بيّن وقرأ حمزة والكسائي «ساحر» بفتح السين مع الألف، ويقال: فلما جاءهم أحمد بالتي تبين أن الذي أتى به عند الله قالوا: هذا الآتي بالبينات ساحر بين، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ أي أيّ الناس أشد ظلما ممن يدعوه ربه على لسان نبيه إلى الإسلام الذي فيه سعادة الدارين، فيجعل مكان إجابته افتراء الكذب على الله من نسبة الولد إليه ووصف أنبيائه بالسحرة، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) أي لا يوفقهم الله للطاعة عقوبة لهم، يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ أي يريدون رد رسالة الرسول ليبطلوا دين الله بقولهم: إن الرسول ساحر، وليبطلوا كتاب الله بقولهم: إنه سحر، وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ بالإضافة وتركها، أي والله مبلغ نوره إلى غايته بنشره في الآفاق، وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) أي ولو كره المشركون واليهود والنصارى إتمام النور.
وعن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أبطأ عليه الوحي أربعين يوما فقال كعب بن الأشرف:
يا معشر اليهود أبشروا فقد أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه، وما كان ليتم أمره، فحزن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله هذه الآية، واتصل الوحي بعدها هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ. وقرئ «نبيه» أي محمدا صلّى الله عليه وسلّم بِالْهُدى أي بالقرآن، وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أي ليعليه على جميع الأديان المخالفة له وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) إعلاءه عليها. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) وهي التجارة بين أهل الإيمان وحضرة الله تعالى.
وقرأ ابن عامر بفتح النون وتشديد الجيم.
قال مقاتل: نزلت هذه الآية في عثمان بن مظعون، وذلك أنه قال لرسول الله: لو أذنت لي فطلقت خولة، وترهبت، واختصيت، وحرمت اللحم، ولا أنام الليل أبدا، ولا أفطر نهارا أبدا فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن من سنتي النكاح، ولا رهبانية في الإسلام، إنما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله، وخصاء أمتي الصوم، ولا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم، ومن سنتي أنام، وأقوم، وأفطر، وأصوم، فمن رغب عن سنتي فليس مني» «1» . فقال
__________
(1) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (5: 286) ، وابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف 118.(2/523)
عثمان: والله لوددت يا رسول الله أن أعلم أي التجارات أحب إلى الله فأتجر فيها، فنزلت:
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وهذا استئناف كأنهم قالوا: كيف نعمل؟ فقال تعالى: تؤمنون أي تدومون على الإيمان، وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعته بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ أي بنفقة أموالكم وبخروج أنفسكم. والجهاد بعد هذين الوجهين ثلاثة: جهاد فيما بينه وبين نفسه وهو قهر النفس ومنعها عن اللذات والشهوات، وجهاد فيما بينه وبين الخلق، وهو أن يدع الطمع منهم، ويشفق عليهم، ويرحمهم. وجهاد فيما بينه وبين الدنيا، وهو أن يتخذها زادا لمعاده، فيكون الجهاد على خمسة أوجه. وقرئ «آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا» . وقرئ «تؤمنوا وتجاهدوا» على إضمار لام الأمر ذلِكُمْ أي الذي أمرتم به من الإيمان والجهاد خَيْرٌ لَكُمْ من أن تتبعوا أهواءكم إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) ، أي إن كنتم تنتفعون بما علمتم فهو خير لكم، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ. وهذا جواب قوله: تُؤْمِنُونَ إلخ لما فيه من معنى الأمر وهو بمنزلة الثمن الذين يدفعه المشتري، وقوله:
يَغْفِرْ لَكُمْ إلخ بمنزلة المبيع الذي يأخذه المشتري من البائع في مقابلة الثمن المدفوع له، وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وهي قصبة الجنان والمساكن الطيبة، قصر من لؤلؤة في الجنة، في ذلك القصر سبعون دارا من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتا من زبرجدة خضراء، في كل بيت سبعون سريرا في كل سرير سبعون فراشا من كل لون، على كل فراش سبعون امرأة من الحور العين، في كل بيت سبعون مائدة، على كل مائدة سبعون لونا من الطعام، في كل بيت سبعون وصيفا ووصيفة، فيعطي الله تعالى المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك كله. ذلِكَ أي الجزاء الذي هو المغفرة وإدخال الجنات الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) ، أي الذي لا فوز وراءه وَأُخْرى وهو إما مرفوع أي ولكم تجارة أخرى في العاجل مع ثواب الآجل، أو منصوب بفعل مضمر إما من نوع الاشتغال أي وتحبون خصلة أخرى في الدنيا مع ثواب الآخرة، أو من نوع معطوف على الجوابين، أي ويعطكم نعمة أخرى، أو مخفوض عطفا على تجارة، تُحِبُّونَها أي تشتهون أن
تكون لكم نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ بمحمد على كفار قريش، وَفَتْحٌ قَرِيبٌ أي عاجل وهو فتح مكة. وقرئ «نصرا من الله وفتحا قريبا» . وقوله: نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ إلخ مفسر لأخرى وهو ربح للتجارة وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) عطف على «تؤمنون» ، لأنه في معنى الأمر، كأنه قيل: آمنوا وجاهدوا يثبكم الله وينصركم، وبشر المؤمنين يا رسول الله بذلك. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ. قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «أنصارا» منونا و «لله» جارا ومجرورا.
والباقون «أنصار الله» مضافا للجلالة. وقرأ ابن مسعود «كونوا أنتم أنصار الله» . كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ والتشبيه باعتبار المعنى، أي كونوا أنصار دين الله كما كان الحواريون أنصاره حين قال لهم عيسى: من أنصاري إلى الله؟ أي من أعواني مع الله على أعدائه، أو المعنى: قل لهم كونوا أنصار دين الله كما قال عيسى لأصفيائه وهم أول من(2/524)
آمن به وكانوا اثني عشر رجلا فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ بعيسى ابن مريم وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ وهم الذين أضلهم بولس، أي لما رفع عيسى إلى السماء تفرق قومه ثلاث فرق: فرقة قالت كان عيسى الله فارتفع. وفرقة قالت: كان ابن الله فرفعه إليه. وفرقة قالت: كان عبد الله ورسوله فرفعه إليه. فاقتتلوا وظهرت الفرقتان الكافرتان على الفرقة المؤمنة حتى بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم، فظهرت الفرقة المؤمنة على الفرقة الكافرة، فذلك قوله تعالى: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ أي فأعنا الذين لم يخالفوا دين عيسى على الذين خالفوه، فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14) أي فصاروا غالبين على أهل الأديان بالحجة.(2/525)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)
سورة الجمعة
مدنية، إحدى عشرة آية، مائة وثمانون كلمة، سبعمائة وثمانية وأربعون حرفا
يُسَبِّحُ لِلَّهِ أي يذكر الله بالتنزيه ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي ما في جهة العلو والسفل من الخلق، الْمَلِكِ فكلهم تحت تصرفه وفي قبضة قدرته، الْقُدُّوسِ أي المنزه عما يخطر ببال أوليائه- كما نقل عن الغزالي- وقيل: أي المبارك أو الطاهر بلا ولد ولا شريك، الْعَزِيزِ أي الغالب في ملكه بالنقمة لمن لا يؤمن به الْحَكِيمِ (1) أي الذي يضع الأشياء مواضعها وقد قرئت هذه الصفات الأربع بالرفع على المدح. هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ أي هو الذي أرسل إلى العرب رسولا من جملتهم، وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم، فهو من جنسهم.
قال ابن عباس: المراد بالأميين الذين ليس لهم كتاب ولا نبي بعث فيهم. يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ التي تبين رسالته، وتظهر نبوته مع كونه أميا مثلهم، لم يعتد منه قراءة، ولا تعلم، وكونه بهذه الصفة أبعد من توهم الاستعانة بالكتابة على ما أتى به من الوحي، وتكون حاله مشابهة لحال أمته الذين بعث فيهم، وَيُزَكِّيهِمْ أي يطهرهم من خبث الشرك وخبث الأقوال والأفعال، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ أي آيات القرآن، وَالْحِكْمَةَ أي وجه التمسك بها.
وقيل: الكتاب: هو الآيات نصا، والحكمة: ما أودع فيها من المعاني. وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) أي والحال أنهم كانوا من قبل مجيء محمد إليهم بالقرآن لفي ضلال ظاهر، لأنهم كانوا عبدة الأصنام. وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ «وآخرين» معطوف على الأميين، ولما يلحقوا الآخرين، أي وبعثه إلى غير العرب من أي طائفة كانت، لم يلحقوا بالعرب الأول وهم كل من دخل في الإسلام بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى يوم القيامة، ويجوز أن يكون معطوفا على الضمير المنصوب في «ويعلمهم» أي ويعلم آخرين من الأميين لم يلحقوا بهم وهم كل من يعلم شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم إلى آخر الزمان، فرسول الله معلمهم بالقوة، أي في المعنى والحكم لأنه أصل الخير والفضل، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) حيث جعل في كل واحد من البشر أثر الفقر إليه، وجعل في كل مخلوق ما يشهد بوحدانيته، ذلِكَ أي تفضيل رسول الله على غيره وإلحاق أبناء العجم الذين آمنوا وشاهدوا الرسول بقريش في درجة الفضل، فَضْلُ اللَّهِ وهو ما لم يكن مستحقا(2/526)
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ، وهم رسول الله والأميون والآخرون وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) على جميع خلقه في الدنيا بتعليم الكتاب والحكمة، وفي الآخرة بتفخيم الجزاء على الأعمال مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً، أي صفة الذين أمروا بأن يعملوا بما في التوراة، ثم لم يعملوا بما أمروا فيها كصفة الحمار يحمل كتبا كبارا في عدم انتفاعه بها.
وقال أهل المعاني: هذا المثل مثل من يفهم معاني القرآن، ولم يعمل به، وأعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه. بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ أي بئس صفة القوم الذين كذبوا بالتوراة حين تركوا الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) لأنفسهم بتكذيب الأنبياء. قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا أي الذين تهودوا وقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ أي إن قلتم أنكم أحباء لله من دون محمد وأصحابه فتمنوا من الله أن يميتكم وينقلكم سريعا من دار البلية إلى دار الكرامة التي أعدها الله لأحبابه. وقوله تعالى: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ جواب الشرط، والعامة بضم الواو. وقرأ ابن السميقع وابن يعمر وابن أبي إسحاق بكسرها. وقرأ ابن السميقع أيضا بفتحها للتخفيف، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) في زعمكم فتمنوا الموت فإن من أيقن بأنه من أهل الجنة أحب أن يتخلص إليها وطريقها الموت، وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي ويأبون التمني للموت بسبب ما عملوا من الكفر وتحريف الآيات الموجب لدخول النار، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) أي بظلم الظالمين من تحريف الآيات وعنادهم لها، قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ أي إن الموت الذي تخافون من أن تتمنوه بلسانكم بسبب ما قدمتموه تحريف الآيات وغيره ملاقيكم ألبتة، والفاء في فإنه لتضمن الاسم معنى الشرط باعتبار الوصف. وقرأ زيد بن علي أنه بدون فاء، وفي قراءة ابن مسعود «تفرون منه ملاقيكم» من غير «فإنه» ، ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فالله تعالى عالم بما غيبتم عن الخلق من نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم بما أسررتم في أنفسكم من تكذيبكم رسالته، فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) إما عيانا مقرونا بلقائكم يوم القيامة، أو بالجزاء إن كان خيرا فخير وإن كان شرا فشر. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ أي إذا نودي لوقت الصلاة من يوم الجمعة، فاذهبوا إلى الخطبة والصلاة، وَذَرُوا الْبَيْعَ أي اتركوا المعاملة، ذلِكُمْ أي الذهاب إلى ذكر الله وترك المعاملة خَيْرٌ لَكُمْ في الآخرة من التكسب في ذلك الوقت، إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) أي إن كنتم أهل العلم فأنتم ترون ذلك خيرا فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أي إذا أديت الصلاة فاخرجوا من المسجد إن شئتم لإقامة مصالحكم، واطلبوا الرزق إن شئتم، فهذه رخصة بعد النهي بقوله تعالى: وَذَرُوا الْبَيْعَ.
وعن عراك بن مالك: أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد قال:(2/527)
وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
أللهم أجبت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين، وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً على كل حال بالقلب واللسان.
قال مجاهد: لا يكون من الذاكرين الله كثيرا حتى يذكره قائما وقاعدا ومضطجعا.
وعن عمر رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أتيتم السوق فقولوا: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير فإن من قالها كتب الله له ألف ألف حسنة وحط عنه ألف ألف خطيئة ورفع له ألف ألف درجة»
. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) أي كي تفوزوا بخير الدارين، أي لما جعل يوم الجمعة يوم شكر وإظهار سرور وتعظيم نعمة احتيج فيه إلى الاجتماع الذي به تقع شهرته، فجمعت الجماعات له، واحتيج فيه إلى الخطبة تذكيرا بالنعمة، وهي ما أنعم الله تعالى به عليهم من نعمة الوجود والعقل وغير ذلك مما لا يحصى، ولما كان مدار التعظيم إنما هو على الصلاة جعلت الصلاة لهذا اليوم وسط النهار ليتم الاجتماع ولم تجز هذه الصلاة إلا في مسجد واحد ليكون أدعى إلى الاجتماع،
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً وهو الطبل، أي وإذا سمعوا صوتا يدل على قدوم التجارة انْفَضُّوا إِلَيْها أي تفرقوا إلى التجارة. وقرئ «إليهما» وَتَرَكُوكَ قائِماً على المنبر تخطب.
قال مقاتل: إن دحية بن خليفة الكلبي قبل أن يسلم أقبل بتجارة من الشام، وكان معه من أنواع التجارة، وكان يتلقاه أهل المدينة بالطبل والصفق، وكان ذلك في يوم الجمعة، والنبي صلّى الله عليه وسلّم قائم على المنبر يخطب، فخرج الناس إليه وتركوا النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يبق إلا اثنا عشر رجلا أو أقل، كثمانية أو أكثر كأربعين، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لولا هؤلاء لسومت لهم الحجارة» «1» . ونزلت هذه الآية
وكان من الذين معه أبو بكر وعمر.
قال قتادة: فعلوا ذلك ثلاث مرات. وقال مقاتل بن حبان: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي الجمعة قبل الخطبة كالعيدين فلما خرج الناس لقدوم دحية بتجارة وظنوا أنه ليس في ترك الخطبة شيء من الإثم أنزل الله تعالى هذه الآية فقدّم النبي صلّى الله عليه وسلّم الخطبة وأخر الصلاة. قُلْ يا أشرف الخلق للمؤمنين زجرا عن العود لمثل ذلك الفعل: ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ أي ما عند الله من ثواب الثبات مع النبي صلّى الله عليه وسلّم خير من لذة لهوكم وفائدة تجارتكم. وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11) أي أفضل المعطلين فمنه اطلبوا الرزق.
__________
(1) رواه السيوطي في الدر المنثور (6: 221) .(2/528)
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10)
سورة المنافقون
مدنية، إحدى عشرة آية، مائة وثمانون كلمة، سبعمائة وستة وسبعون حرفا
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ أي إذا حضر مجلسك منافقو أهل المدينة عبد الله بن أبي، ومعتب بن قشير، وجد بن قيس، وكانوا بني عم قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وقولهم: «نشهد» نفي للنفاق عن أنفسهم.
روى زيد بن أرقم قال: كنت مع عمي فسمعت عبد الله بن أبي ابن سلول يقول: لا تنفقوا علي من عند رسول الله حتى ينفضوا وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فذكرت ذلك لعمي فذكر ذلك عمي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأرسل رسولا إلى عبد الله بن أبي وأصحابه، فحلفوا ما قالوه، فصدقهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكذبني، فأصابني همّ لم يصبني مثله، فجلست في بيتي، فأنزل الله عز وجل: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ إلى قوله: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا إلى قوله: لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ فأرسل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: إن الله قد صدقك. وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ سواء أشهد المنافقون بذلك أم لا. وهذه جملة معترضة بين قولهم: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وبين قوله تعالى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إلخ لإماطة توهم توجه التكذيب إلى منطوق كلامهم وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) من إخبارهم عن أنفسهم أنهم يشهدون، فإن ضمير قلوبهم على غير تلك الشهادة اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ الكاذبة جُنَّةً أي سترة عما خافوا على أنفسهم من القتل.
وقرأ الحسن بكسر همزة «إيمانهم» فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي أعرضوا بأنفسهم عن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله وقد منعوا الضعفة عن اتباع رسول الله في السر وعن الإنفاق في سبيل الله، إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2) حيث آثروا الكفر على الإيمان وأظهروا خلاف ما أضمروا ذلِكَ أي سوء أعمالهم، بِأَنَّهُمْ آمَنُوا في الظاهر وشابهوا المسلمين في نطق كلمة الشهادة وفي الأفعال، ثُمَّ كَفَرُوا أي ثم ظهر كفرهم بعد ذلك بقولهم: إن كان ما يقول محمد حقا فنحن حمير. وبقولهم في غزوة تبوك: أيطمع هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى وقيصر هيهات(2/529)
فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ لسوء أفعالهم وقصدهم الإعراض عن الحق. وقرئ على البناء للفاعل.
وقرئ «فطبع الله» أي تركهم الله في أنفسهم الجاهلة وأهوائهم الباطلة فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) شيئا، فلا يميزون صوابا من خطأ ولا حقا من باطل، وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ لضخامتها، ولصباحة وجوههم، فهم أشباح وقوالب ليس وراءها ألباب وحقائق، وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم وحلاوة كلامهم. وقرئ «يسمع» على البناء للمفعول كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ، أي مشبهين بأخشاب منصوبة مسندة إلى الحائط في كونهم أشباحا خالية عن العلم والخير، يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ أي واقعة عليهم والوقف هنا تام فقوله: عَلَيْهِمْ مفعول ثان.
قال مقاتل: إذا نادى مناد في العسكر أو انفلتت دابة، أو نشدت ضالة مثلا ظنوا أنهم يرادون بذلك لما في قلوبهم من الرعب، وذلك لأنهم على وجل من أن يهتك الله أستارهم ويكشف أسرارهم، هُمُ الْعَدُوُّ أي هم الكاملون في العداوة، فَاحْذَرْهُمْ أن تأمنهم على السر ولا تلتفت إلى ظاهرهم فإن أعدى الأعادي العدو المكاشر الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوي، قاتَلَهُمُ اللَّهُ أي أهلكهم الله، فإن أصل المعنى أحلهم الله محل من قاتله عدو قاهر يهلكه، لأن الله تعالى قاهر لكل معاند فإذا قاتلهم أهلكهم، أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) أي كيف يصرفون عن الحق إلى الكفر والضلال؟ وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إلى رسول الله وتوبوا من الكفر والنفاق، يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ أي حركوها إعراضا وإباء.
روي أنه لما نزل القرآن في فضيحة المنافقين أتاهم عشائرهم من المؤمنين، وقالوا لهم: ويلكم افتضحتم بالنفاق، وأهلكتم أنفسكم، فأتوا رسول الله وتوبوا إليه من النفاق واسألوه أن يستغفر لكم، فأبوا ذلك، فنزلت هذه الآية وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ أي يعرضون عن الاعتذار، وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) عن استغفار الرسول لهم، سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ أي استغفارك لهم وعدمه سواء، والسبعة بهمزة قطع مفتوحة من غير مد ووصلها قوم على حذف حرف الاستفهام، لأن أم المعادلة تدل عليه. وقرئ شاذا «أاستغفرت» بهمزة ثم ألف، لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ لرسوخهم في الكفر إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6) أي الذين سبق ذكرهم، وهم الكافرون والمنافقون والمستكبرون، هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ والقائل عبد الله بن أبي لأصحابه المؤمنين الأنصار في غزوة تبوك: لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ وهم فقراء المهاجرين، حَتَّى يَنْفَضُّوا أي لأجل أن يتفرقوا عنه. وقرئ «حتى ينفضوا» بضم الياء وسكون النون، أي لأجل أن تفنى أزوادهم، وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مفاتيح الرزق يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) أن الله يرزقهم وأن أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، يَقُولُونَ في تبوك: لَئِنْ رَجَعْنا من غزوة بني المصطلق إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ.
قال المفسرون: اختلف أجير عمر وهو جهجاه بن سعيد مع أجير عبد الله بن أبي، وهو(2/530)
وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
سنان الجهني في بعض الغزوات، فأسمع أجير عمر عبد الله بن أبي المكروه، واشتد عليه لسانه، فغضب عبد الله وعنده رهط من قومه فقال: أما والله لئن رجعنا من غزوتنا هذه إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، وأراد عبد الله بالأعز نفسه، وبالأذل رسول الله والمؤمنين، ثم أقبل على قومه فقال: لو أمسكتم النفقة عن هؤلاء المهاجرين لأوشكوا أن يتحولوا عن دياركم وبلادكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد، فنزلت هذه الآية، وسبب غزوة بني المصطلق أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلغه أن بني المصطلق- وهم حي من هذيل- يجتمعون لحربه، وقائدهم الحارث بن أبي ضرار وهو أبو جويرية زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم، فخرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له: المر يسيع من ناحية قديد إلى الساحل، فوقع القتال، فهزم الله بني المصطلق وكان سبيهم سبعمائة، فلما أخذ النبي جويرية من السبي لنفسه أعتقها وتزوجها فقال المسلمون: صار بنو المصطلق أصهار رسول الله فأطلقوا ما بأيديهم من السبي إكراما لرسول الله، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها:
وما أعظم امرأة كانت أعظم بركة على قومها من جويرية ولقد أعتق بتزويج رسول الله لها مائة أهل بيت من بني المصطلق اه. وإسناد القول المذكور إلى المنافقين لرضاهم به فرد الله عليهم ذلك بقوله تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ أي القوة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ فعزة الله قهره لأعدائه، وعزة رسوله إظهار دينه على الأديان كلها، وعزة المؤمنين نصر الله إياهم على أعدائهم وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) أن الله معز أولياءه ومذل أعداءه، ولو علموه ما قالوا مقالتهم.
روي أن عبد الله بن أبي لما أراد أن يدخل المدينة اعترضه ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي وكان مخلصا وقال: لئن لم تقر لله ولرسوله بالعز لأضربن عنقك، فلما رأى منه الجد قال: أشهد أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين،
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لابنه: «جزاك الله عن رسوله وعن المؤمنين خيرا»
. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ أي لا يشغلكم الاعتناء بمصالحها والتمتع بها عن فرائض الله تعالى نحو الصلاة والزكاة والحج وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي ومن ألهاه ماله وولده عن طاعة الله تعالى فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) أي في تجارتهم حيث باعوا الشريف الباقي بالخسيس الفاني، وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ أي بعض ما أعطيناكم مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي مقدمات الموت فَيَقُولَ عند تيقنه بحلول الموت: رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أي هلا أمهلتني إلى أمد قصير بقدر ما استدرك فيه ما فاتني فَأَصَّدَّقَ من مالي بتشديد الصاد والدال.
وقرأ أبي «فأتصدق» على الأصل. وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) أي أكن من الحاجين.
عن ابن عباس قال: من كان له مال يبلغه حج بيت ربه أو تجب عليه فيه زكاة فلم يفعل إلا سأل الله الرجعة عند الموت. وقرأ أبو عمرو «وأكون» بالنصب عطفا على لفظ جواب التمني. والباقون «وأكن» بالجزم عطفا على محله. وقرئ «وأكون» بالرفع «وأنا أكون» .
وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً أي عن الموت إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11) فمجاز لكم عليه. وقرأ شعبة بالياء التحتية.(2/531)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)
سورة التغابن
مدنية. أو مكية، ثماني عشرة آية، مائتان وإحدى وأربعون كلمة، ألف وسبعون حرفا
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي ينزهه تعالى جميع ما فيهما من المخلوقات عما لا يليق بجناب كبريائه تنزيها مستمرا، لَهُ الْمُلْكُ فهو متصرف في ملكه، وَلَهُ الْحَمْدُ على أهل السموات والأرض، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من أمر الدنيا والآخرة قَدِيرٌ (1) ، لأن نسبة الكل إلى قدرته تعالى سواء، هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ، أي فبعضكم مختار للكفر كاسب له وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ، أي وبعض منكم مختار للإيمان كاسب له.
وقال عطاء والزجاج: أي فمنكم جاحد بأنه تعالى خلقه وهو من أهل الطبائع والدهرية، ومنكم مصدق بأنه تعالى خلقه، والمعنى: أنه تعالى تفضل عليكم بأصل النعم التي هي الخلق فانظروا النظر الصحيح، وكونوا بأجمعكم عبادا شاكرين فما فعلتم ذلك بل تفرقتم فرقا، فمنكم كافر ومنكم مؤمن، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) من الكفر والإيمان فيجازيكم على ذلك، خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي بالإرادة القديمة على وفق الحكمة وَصَوَّرَكُمْ في الأرحام فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ فمن نظر في قد الإنسان ومناسبته بين أعضائه فقد علم أن صورته أحسن صورة، وقد وجد فيه القوى الدالة على وحدانية الله تعالى وربوبيته دلالة مخصوصة لحسن هذه الصورة وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) أي المرجع يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الأمور الكلية والجزئية والأحوال الجلية والخفية، وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ أي ما تسرونه فيما بينكم وما تظهرونه من الأمور، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4) أي بجميع المضمرات المستكنة في صدور الناس. أَلَمْ يَأْتِكُمْ أيها الكفرة نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ أي من قبلكم، كقوم نوح ومن بعدهم فَذاقُوا من غير مهلة وَبالَ أَمْرِهِمْ أي شدة أمرهم في الدنيا، وَلَهُمْ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ أي العذاب في الدنيا والآخرة بِأَنَّهُ أي الشأن كانَتْ أي القصة تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالحجج الظاهرات، فأنكروا أن يكون الرسول بشرا ولم ينكروا أن يكون معبودهم حجرا فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا بالرسل، وَتَوَلَّوْا أي أعرضوا عن الإيمان، وَاسْتَغْنَى اللَّهُ أي أظهر الله(2/532)
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
تعالى غناه عن إيمانهم وطاعتهم حيث أهلكهم ولم يلجئهم إلى ذلك وَاللَّهُ غَنِيٌّ عن عبادتهم من الأزل حَمِيدٌ (6) ، أي مستحق للحمد بذاته وإن لم يحمده أحد زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا أي أنهم لن يبعثوا بعد موتهم أبدا، قُلْ يا أشرف الخلق لهم: بَلى تبعثون وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ أي لتحاسبن ولتجزون على أعمالكم، وَذلِكَ أي البعث والجزاء عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) لثبوت قدرته التامة فلا يصرفه صارف، فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي إذا كان الأمر كذلك، فآمنوا بالله ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم، وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وهو القرآن، فإنه يهتدى به في الشبهات كما يهتدى بالنور في الظلمات، وذلك لئلا ينزل بك ما نزل بالكفار الماضية من العقوبة، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) فمجاز لكم عليه يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ أي لأجل ما في يوم القيامة من الحساب والجزاء. وسمي بالجمع لأن الله تعالى يجمع فيه الأولين والآخرين من أهل السموات وأهل الأرض، و «يوم» ظرف ل «لتنبؤن» . وقرئ «نجمعكم» بنون العظمة ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ أي يوم ظهور غبن كل كافر بترك الإيمان، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان، وفي الحديث «ما من عبد يدخل الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكر، أو ما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة» . وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ مع ما جاءت به الرسل من الحشر والنشر والجنة وغير ذلك. وَيَعْمَلْ صالِحاً إلى أن يموت في إيمانه يُكَفِّرْ، أي الله عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ أي تكفير السيئات وإدخال الجنات الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) الذي لا فوز وراءه.
وقرأ نافع وابن عامر «نكفر عنه» و «ندخله» بالنون فيهما. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بوحدانية الله وبقدرته وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أي بالقرآن، أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) النار
ما أَصابَ أحدا مِنْ مُصِيبَةٍ دينية أو دنيوية في بدن وأهل ومال، إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بتقديره وإرادته و «من مصيبة» فاعل بزيادة من قيل: وسبب نزول هذه الآية أن الكتاب قالوا: لو كان ما عليه المسلمون حقا لصانهم الله تعالى عن المصائب في الدنيا، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ بأن يرى المصيبة من الله يَهْدِ قَلْبَهُ عند المصيبة للتسليم لأمر الله فيسترجع.
وقرئ «يهد قلبه» على البناء للمفعول ورفع «قلبه» . وقرئ بنصبه على نهج سفه نفسه وقرئ «يهدأ» بالهمزة على وزن يقطع ويخضع، أي يسكن فيسلم لقضاء الله تعالى ويصبر على المصيبة، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) فيعلم اطمئنان القلب عند المصيبة، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ أي هونوا المصائب على أنفسكم، واتبعوا الأوامر الصادرة من الله تعالى ومن الرسول فيما دعاكم إليه، فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) أي فإن أعرضتم عن إجابة الرسول فيما دعاكم إليه فلا بأس عليه إذ ما عليه إلا التبليغ الظاهر، وقد فعل ذلك. اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي الله المستحق للمعبودية لا مستحقا للمعبودية يصح أن يوجد إلا هو وجملة «لا إله إلا(2/533)
هو» خبر لاسم الجلالة، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) في كل باب لأنه لا مقصود إلا هو، فإن المؤمن لا يعتمد إلا عليه ولا يتقوى إلا به. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) .
قال عطاء بن يسار: نزلت هذه الآية في عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد، فأراد أن يغزو، فبكوا إليه، ورققوه وقالوا له: إلى من تدعنا؟ فرق عليهم وأقام في البلد وترك الغزو، وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه الآية فقال: هؤلاء رجال من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يأتوا المدينة، فمنعهم أزواجهم وأولادهم وقالوا لهم: صبرنا على إسلامكم فلا صبر لنا على فراقكم، فأطاعوهم، وتركوا الهجرة، فلما هاجروا بعد ذلك ورأوا المهاجرين الأولين قد تفقهوا في الدين هموا أن يعاقبوا
أزواجهم وأولادهم وإن لحقوا بهم في دار الهجرة لم ينفقوا عليهم ولم يصيبوهم بخير، فنزل قوله تعالى: وَإِنْ تَعْفُوا عن ذنوبهم وَتَصْفَحُوا بترك التثريب والتعيير وَتَغْفِرُوا بإخفائها بعد ما هاجروا من مكة إلى المدينة فإن الله يعاملكم بمثل ما عملتم، وهذه العداوة إنما هي للكفر والنهي عن الإسلام فإنهم من الكفار، أما أزواجهم وأولادهم المؤمنون فلا يكونون عدوا لهم نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
أي بلاء وشغل عن الآخرة إذ منعوكم عن الهجرة والجهاد فلا تطيعوهم في معصية الله تعالى، اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
(15) لمن آثر محبة الله تعالى وطاعته على محبة الأموال والأولاد فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ أي ابذلوا في تقوى الله غاية طاقتكم. وهذا مثل قوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: 102] فإنه لا يراد به الاتقاء فيما لا يستطيعونه فوق الطاقة، وَاسْمَعُوا مواعظه وَأَطِيعُوا أوامره، وَأَنْفِقُوا مما رزقكم في الوجوه التي أمركم خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ، أي وأتوا خيرا لأنفسكم وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) أي من يكفه الله بخل نفسه فيفعل في ماله جميع ما أمر به مطمئنا إليه حتى ترتفع عن قلبه الأخطار، فأولئك هم الفائزون بكل مرام إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ أي إن تنفقوا في طاعة الله تعالى من حلال بطيب نفس متقربين إليه يجزكم بالضعف إلى ألفي ألف إلى ما شاء الله من الأضعاف. وقرئ «يضعفه» بتشديد العين. وَيَغْفِرْ لَكُمْ ما فرط منكم من بعض الذنوب ببركة الإنفاق وَاللَّهُ شَكُورٌ يشكر اليسير ويجزي الجزيل من صدقاتكم، حَلِيمٌ (17) لا يعجل بالعقوبة على من يمن بصدقته، أو يمتنع من التصدق عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ لا يخفى عليه شيء من الخشية والمن الْعَزِيزُ، أي الذي لا يعجزه شيء، الْحَكِيمُ (18) أي الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير، فالعزيز يدل على القدرة، والحكيم يدل على الحكمة.(2/534)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10)
سورة الطلاق
مدنية، ثنتا عشرة آية، مائتان وتسع وأربعون كلمة، ألف ومائة وسبعون حرفا
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ أي إذا أردتم تطليق النساء فطلقوهن مستقبلات لزمان- عدتهن وهو الطهر- وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ أي احفظوا القروء للعدة لتعرفوا زمان الرجعة، والنفقة، والسكنى، وحل النكاح لأخت المطلقة ونحو ذلك من الفوائد وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ في الإضرار بهن لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ أي من مساكنهن عند الفراق إلى أن تنقضي عدتهن وَلا يَخْرُجْنَ ولو بإذن منكم لأن في العدة حقا لله تعالى فلا يسقط بتراضيهما، إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ أي إلا في حال كونهن آتيات بزنا ظاهر، أو مشهود عليه بأربعة شهود فيخرجن لإقامة الحد عليهن، ثم يرددن إلى منزلهن كما قاله ابن مسعود، أو إلا في حال أن يبذون على الأزواج أو على أهلهم فيحل لهم حينئذ إخراجهن لسوء خلقهن كما قاله ابن عباس ويؤيده قراءة إلا أن يفحش عليكم.
وقال ابن عمر: الفاحشة: خروجهن قبل انقضاء العدة. وقرأ ابن كثير وأبو بكر «مبينة» بفتح الياء التحتية. والباقون بكسرها وَتِلْكَ أي الأحكام حُدُودُ اللَّهِ وهي الموانع عن المجاوزة وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ أي من يتجاوز الحدود فقد ضر نفسه لأنه وضعها في غير موضعها لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) أي فإنك لا تدري أيها المتعدي عاقبة الأمر لعل الله يحدث في قلبك بعد ذلك التعدي أمرا يقتضي الرجعة بأن يبدل الله ببغض المرأة محبة، وبالإعراض عنها إقبالا إليها، فإن العدة إذا لم تكن مضبوطة أو انتقلت المرأة من منزل زوجها أشكل أمر الرجعة فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي قاربن انقضاء أجل العدة فأنتم بالخيار فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أي إن شئتم فراجعوهن بحسن معاشرة وإنفاق لائق أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أي وإن شئتم فاتركوهن من غير مراجعة بإيفاء بالحق واتقاء الضرار، وهو أن يراجعها في آخر العدة، ثم يطلقها تطويلا للعدة وتعذيبا لها، وَأَشْهِدُوا يا أيها الأزواج ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ عند التطليق وعند الرجعة قطعا للنزاع، فهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة وهو عند الشافعي واجب في(2/535)
الرجعة مندوب إليه في الفرقة، وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ أي أدوا الشهادة التي تحملتموها عند الحكام يا أيها الشهود لوجه الله تعالى ذلِكُمْ أي الإشهاد وإقامة الشهادة يُوعَظُ بِهِ أي يؤمر به، مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، يقال: نزلت الآيات من أول السورة إلى هاهنا في شأن النبي صلّى الله عليه وسلّم حين طلق حفصة، وفي ستة نفر من أصحابه طلقوا نساءهم غير طواهر، فنهاهم الله عن ذلك، لأنه لغير السنة، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ أي يصبر على المصيبة يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) من الشدة.
وقرأ النبي صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية
فقال: «مخرجا من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة»
. نزلت هذه الآية في عوف بن مالك الأشجعي أسر العدو ابنا له يسمى سالما، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: أسر ابني وشكا إليه الفاقة فقال: «اتق الله واصبر وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله» ، ففعل ذلك
، فبينما هو في بيته إذ أتاه ابنه سالم ومعه مائة من الإبل غفل عنها العدو فاستاقها فذلك قوله تعالى: وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ أي من وجه لا يخطر بباله وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ أي ومن يثق بالله فيما ناله فهو كافيه في جميع أموره، إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ.
وقرأ حفص بالإضافة أي منفذ أمره. والباقون بالتنوين ونصب أمره أي يبلغ مراده في جميع خلقه. وقرئ برفع أمره أي نافذ تدبيره. وقرأ المفضل «بالغا» أمره على أن قوله: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ خبران و «بالغا» حال من اسم الجلالة قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ من الشدة والرخاء قَدْراً (3) أي أجلا ينتهي إليه.
وروي أن معاذ بن جبل قال: يا رسول الله قد عرفنا عدة التي تحيض فما عدة التي لم تحض فنزل وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ لكبرهم، وقد قدروه بستين سنة وبخمس وخمسين إِنِ ارْتَبْتُمْ أي إن أشكل عليكم حملهن في العدة، أو إن جهلتم بمقدار عدتهن فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ فقام رجل فقال: يا رسول الله فما عدة الصغير التي لم تحض فنزل، وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ لصغرهن هن بمنزلة الكبيرة التي قد يئست، وهذه معطوفة على «واللائي يئسن» عطف المفردات فقام رجل آخر وقال: وما عدة الحوامل يا رسول الله فنزل وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ أي والحبالى منتهى عدتهن وأجل انقطاع ما بينهن وبين الأزواج وضع الحمل سواء كن مطلقات أو متوفى عنهن أزواجهن لخبر سبيعة بنت الحرث أنها وضعت حملها بعد وفاة زوجها بخمسة عشر يوما، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تتزوج فإباحة النكاح قبل مضي أربعة أشهر وعشر دليل على أن عدة الحامل تنقضي بوضع الحمل في جميع الأحوال، والحمل اسم لجميع ما في بطنهن فلا تنقضي العدة بوضع بعض حملهن. وقرئ أحمالهن، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ في شأن أحكامه يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) أي ييسر الله عليه في أمره ويوفقه للعمل الصالح.
وقال عطاء: يسهل الله عليه أمر الدنيا والآخرة ذلِكَ أي الذي ذكر من الأحكام أَمْرُ(2/536)
اللَّهِ، أي فرائضه أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ أي بينه لكم في القرآن، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ بطاعته ويعمل بما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم، يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ من الصلاة إلى الصلاة، ومن الجمعة إلى الجمعة فإن الحسنات يذهبن السيئات وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) في الآخرة بالمضاعفة، أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ أي أسكنوا المعتدات مسكنا من بعض مكان سكناكم على قدر طاقتكم ووجدكم بضم الواو باتفاق القراء السبعة. وقرئ بفتح الواو وكسرها. وَلا تُضآرُّوهُنَّ في السكنى والنفقة لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ بهما حتى تلجئوهن إلى الخروج من المسكن أو إلى تفتدي الرجعية نفسها منكم، وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ أي وإن كن المطلقات حبالى، فَأَنْفِقُوا أيها الأزواج عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فيخرجن من العدة. وهذا بيان حكم المطلقة البائنة، أما الحوامل المتوفى عنهن أزواجهن فلا نفقة لهن، وأما الرجعية فإنها تستحق النفقة، وإن لم تكن حاملا ومذهب مالك والشافعي أنه ليس للمبتوتة إلا السكنى، ولا نفقة لها إلا أن تكون حاملا. وعن الحسن وحماد لا نفقة لها ولا سكنى لحديث فاطمة بنت قيس أن زوجها بت طلاقها
فقال لها رسول الله: «لا سكنى لك ولا نفقة» ،
وأما عند الحنفية فلكل مطلقة حق النفقة والسكنى لأن
عمر قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول في شأن المطلقة: «لها النفقة والسكنى»
، ولأن ذلك جزاء الاحتباس وهو مشترك بين المبتوتة وغيرها، ولو كان جزاء للحمل لوجب في ماله إذا كان له مال ولم يقولوا به، ونحن معشر الشافعية نقول: إن الحامل قد يتوهم أنها لا نفقة لها لطول مدة الحمل، فأثبت لها النفقة ليعلم أن غيرها بطريق الأولى فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ أولادكم منهن بعد انقضاء علقة النكاح، فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ على ذلك الإرضاع ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه للرجل استئجار امرأته للرضاع إذا كان الولد منها ما لم تبن، ويجوز عند الشافعي مطلقا وفي هذه الآية دليل على أن حق الرضاع والنفقة على الأزواج في حق الأولاد وحق الإمساك والتربية على الزوجات، وفيها دليل على أن اللبن ملك لها وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ أي تشاوروا بتراضي الأب والأم، ولا يكن من الأب مماكسة، ولا من الأم معاسرة، ولا من الرجل تقصير في حق المرأة ونفقتها ولا من المرأة في حق الولد ورضاعه، وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ كأن أبى الزوج أن يعطي المرأة أجرة رضاعها وأبت الأم أن ترضع الولد مجانا فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) ، أي فسترضع الولد لوالده امرأة أخرى فليس له إكراهها على إرضاعه بل يستأجر الأب للصبي مرضعا غير أمه لِيُنْفِقْ على المرضعات المطلقات وعلى خلافها، ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ أي ذو غني على قدر غناه وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ، أي ومن ضيق عليه معيشته فلينفق على الزوجة والولد الصغير على قدر ما أعطاه الله من المال وإن قل لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها أي إلا بقدر ما أعطاها من الرزق جل أو قل فإنه تعالى لا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) أي بعد ضيق سعة وبعد شدة رخاء عاجلا أو آجلا وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ أي وكم من أهل قرية أبوا عن قبول أمر(2/537)
رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
ربهم وعن إجابة أمر رسله، فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً أي فحاسبناهم في الآخرة على أعمالها بالمناقشة في كل نقير وقطمير، وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) أي وعذبناهم عذابا عظيما وهو عذاب نار جهنم، فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها أي فذاقوا عقوبة كفرهم، وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أي وكان عاقبة عتوها هلاكا بعذاب الدنيا وعذاب النار،
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ في الآخرة عَذاباً شَدِيداً لونا بعد لون فَاتَّقُوا اللَّهَ عن أن تكفروا به وبرسوله يا أُولِي الْأَلْبابِ أي يا ذوي العقول من الناس، الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولًا والوقف على «ذكرا» تام إن نصب «رسولا» بالإغراء أي عليكم رسولا، أو بفعل مقدر، أي وأرسل رسولا فحينئذ فالذكر هو القرآن والرسول هو النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا وقف على «ذكرا» إن جعل «رسولا» بدلا منه فحينئذ فالذكر الرسول هو جبريل عليه السلام، سمي بالذكر لأنه مذكور في السموات أو في الأمم، أو لشرفه، ويؤيده قراءة رسول بالرفع، أي هو رسول يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ أي القرآن مُبَيِّناتٍ.
وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بكسر الياء، لأن الآيات تبين الأحكام من الأمر والنهي والحلال والحرام. والباقون بالفتح لأن الله تعالى أوضح الآيات وبين أنها من عنده، لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ومن ظلمة الشبهة إلى نور الحجة، ومن ظلمة الجهل إلى نور العلم، وقوله تعالى: لِيُخْرِجَ إما متعلق بأنزل والضمير فيه راجع إلى اسم الجلالة، أو ب «يتلو» فالضمير فيه راجع للرسول، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً فيما بينه وبين ربه يُدْخِلْهُ في الآخرة جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وقرأ نافع وابن عامر «ندخله» بالنون قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11) .
قال الزجاج: أي قد رزقه الله الجنة التي لا ينقطع نعيمها وقيل: قدر رزقه الله طاعة في الدنيا وثوابا في الآخرة، وجملة «قد أحسن الله» إلخ حال ثانية من مفعول «يدخله» . اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ بعضها فوق بعض مثل القبة، وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ أي في العدد لكنها منبسطة، والعامة بنصب مثلهن عطفا على سبع سموات. وقرأ عاصم في رواية برفعه على الابتداء وخبره من الأرض.
روى البخاري وغيره أن كعبا حلف بالذي فلق البحر لموسى أن صهيبا حدثه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها: «اللهم رب السموات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما أذرين، إنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر من فيها»
«1» . يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ أي ينفذ تصرفه فيهن، ويجري قضاؤه بينهن.
__________
(1) رواه الحاكم في المستدرك (1: 446) ، والقرطبي في التفسير (8: 175) ، والسيوطي في الدر المنثور (4: 224) .(2/538)
قال عطاء: أي يتنزل الوحي إلى الخلق في كل أرض، وفي كل سماء، وقال مقاتل: يتنزل الوحي من السماء العليا إلى الأرض السفلى، وقال مجاهد: يتنزل الأمر بينهن بحياة بعض وموت بعض، وسلامة هذا وهلاك ذاك مثلا. وقرئ «ينزل الأمر بينهن» ، لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي لكي تعلموا إذا تفكرتم في خلق السموات والأرض أن من بلغت قدرته هذا المبلغ الذي لا يمكن أن يكون لغيره كانت قدرته ذاتية، لا يعجزه شيء عما أراده وقوله تعالى: لِتَعْلَمُوا متعلق ب «خلق» أو ب «يتنزل» ، وقرئ «ليعلموا» بالياء وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ من الكليات والجزئيات عِلْماً (12) لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض، ولا في السماء، فتبارك الله رب العالمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(2/539)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
سورة التحريم
وتسمى سورة النبي صلّى الله عليه وسلّم. مدينة، ثنتا عشرة آية، مائتان وتسع وأربعون كلمة، ألف وستون حرفا
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ أي لم تمتنع عن الانتفاع بما أحل الله تعالى لك من ملك اليمين أو من العسل.
روي أنه صلّى الله عليه وسلّم خلا بمارية في يوم حفصة وعلمت بذلك عائشة فقال لها: «اكتمي علي فقد حرمت مارية على نفسي وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي» ، فأخبرت بذلك عائشة وكانتا متصادقين فطلق حفصة، واعتزل نساءه، ومكث تسعا وعشرين ليلة في بيت مارية.
وروي أن عمر قال لها: لو كان في آل الخطاب خير لما كان رسول الله طلقك، فنزل جبريل عليه السلام وقال له صلّى الله عليه وسلّم: راجعها فإنها صوامة قوامة وإنها من نسائك في الجنة وهذا قول الحسن ومجاهد، وقتادة، والشعبي، ومسروق، ورواية ثابت عن أنس ورواية البزار من حديث ابن عباس، ورواية الطبراني من حديث هريرة، ورواية الضياء من حديث عمرو الذي في الصحيحين أن الذي حرمه النبي صلّى الله عليه وسلّم على نفسه هو شرب العسل، فقد روي أنه صلّى الله عليه وسلّم شرب عسلا في بيت زينب بنت جحش، فتواطأت عائشة وحفصة فقالتا له: إنا نشم منك ريح المغافير، وهو صمغ حلو له رائحة كريهة، فحرم العسل على نفسه فنزلت هذه الآية تَبْتَغِي أي تطلب بتحريم مارية أو العسل، مَرْضاتَ أَزْواجِكَ عائشة وحفصة وَاللَّهُ غَفُورٌ قد غفر لك هذه الزلة رَحِيمٌ (1) قد رحمك في تلك اليمين. وقد نقل جماعة من المفسرين: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حلف أن لا يطأ جاريته، فذكر الله له ما أوجب من كفارة اليمين، وأيضا أن أبا حنيفة يرى تحريم الحلال يمينا في كل شيء، فإذا حرم شخص طعاما فقد حلف على أكله أو أمة، فعلى وطئها أو زوجة فعلى الإيلاء منها، إذا لم يكن له نية وإن نوى الظهار وإن نوى الطلاق فطلاق بائن، وإن نوى عددا كأن نوى ثنتين أو ثلاثا، فكما نوى، وإن قال: كل حلال علي حرام فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو، وإلا فعلى ما نوى، ولا يراه الشافعي يمينا، ولكن سببا في الكفارة في النساء فقط وإن نوى الطلاق فهو رجعي عنده، قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ أي أوجب الله عليكم كفارة ككفارة أيمانكم أو قد بيّن الله(2/540)
لكم تحليل أيمانكم بالكفارة، فإذا كفر الحالف صار كمن لم يحلف. وقرئ كفارة أيمانكم، وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ أي حافظكم وناصركم وَهُوَ الْعَلِيمُ بما يصلحكم الْحَكِيمُ (2) أي المتقن في أفعاله وأحكامه فلا يأمركم ولا ينهاكم إلا ما تقتضيه الحكمة، وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً أي واذكر إذ أخبر النبي حفصة في السر بكلام استكتمها ذلك.
قال ابن عباس: لما رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم الغيرة في وجه حفصة أراد أن يترضاها فأسر إليها بشيئين، تحريم مارية على نفسه والبشارة بأن الخلافة بعده صلّى الله عليه وسلّم في أبي بكر وأبيها عمر، فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ.
قرأ الجمهور بتشديد الراء، أي فلما أخبرت حفصة بسر النبي صلّى الله عليه وسلّم عائشة ظنا منها أنه لا حرج عليها في ذلك، وأطلع الله نبيه على ما أخبرت حفصة عائشة بين النبي لحفصة بعض ما قالت لعائشة من خلافة أبي بكر وعمر وعاتبها على ذلك خوفا من أن ينشر في الناس، فربما أثار حسد بعض المنافقين.
وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال لها: «ويلك ألم أقل لك اكتمي علي!» قالت: والذي بعثك بالحق نبيا ما ملكت نفسي فرحا بالكرامة التي خصّ الله تعالى بها أبي
. وقرأ الكسائي بالتخفيف أي جازى على ذلك البعض بأن طلق حفصة مجازاة على بعض ما فعلت، وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ أي وسكت عن بعض من تحريم مارية القبطية على نفسه، ولم يلم حفصة على ذكر ذلك حياء وحسن عشرة، فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ أي فلما أخبر النبي حفصة بما قالت لعائشة قالَتْ أي حفصة: مَنْ أَنْبَأَكَ هذا أي من أخبرك بأني أفشيت السر لعائشة، وقد ظننت أن عائشة هي التي أخبرته.
قالَ أي النبي صلّى الله عليه وسلّم: نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) بقولك لعائشة وبقولي لك. إِنْ تَتُوبا يا حفصة ويا عائشة من إيذائكما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إِلَى اللَّهِ تاب الله عليكما فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما أي فقد وجد منكما ما يوجب التوبة، إذ قد مالت قلوبهما عن الحق وأحبت ما كرهه النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو اجتنابه جاريته. وقرئ «فقد زاغت» . وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ أي وإن تتعاونا أنتما على النبي صلّى الله عليه وسلّم بالإيذاء لم يضره ذلك التعاون منكما، فإن الله ناصره، وجبريل رئيس الكروبيين وأبو بكر وعمر، كما أخرجه الطبراني عن ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس وبه قال عكرمة ومقاتل، وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ أي بعد نصر من ذكر ظَهِيرٌ (4) أي أعوان له صلّى الله عليه وسلّم فقوله: جِبْرِيلُ عطف على محل اسم «إن» قبل دخولها وكذا «وصالح المؤمنين» ، ف «مولاه» خبر عن الكل فيقدر بعد كل واحد منهما، ويجوز أن يكون الكلام عند قوله تعالى:
مَوْلاهُ ويكون «جبريل» مبتدأ وما بعده عطف عليه، و «ظهير» خبرا لجميع. وقرأ الكوفيون «تظاهرا» بتخفيف الظاء وإسقاط إحدى التاءين. والباقون بتشديدها. وقرئ على الأصل أي بالتاءين، وقرئ «تظهرا» . عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ. وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الباء وتشديد الدال. والباقون وهم أهل الكوفة بسكونها.(2/541)
وقال ابن عرفة: و «عسى» هنا للتخويف لا للوجوب، وجملة «عسى» واسمها وخبرها جواب الشرط أي إن طلقكن فعسى ربه أن يبدله مُسْلِماتٍ أي مقرات بالألسن، مُؤْمِناتٍ أي مصدقات بالقلوب بتوحيد الله تعالى، قانِتاتٍ أي مطيعات لله ولأزواجهن.
وقيل: قائمات بالليل للصلاة تائِباتٍ من الذنوب، عابِداتٍ أي كثيرات العبادات متذللات لأمر الرسول عليه السلام، سائِحاتٍ أي صائمات كما قاله ابن عباس، أو مهاجرات كما قاله الحسن. وقرئ «سيحات» . ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5) فالثيب: تمدح من جهة أنها أكثر تجربة وعقلا، وأسرع حبلا غالبا، والبكر: تمدح من جهة أنها أطهر وأطيب وأكثر مداعبة غالبا، وسميت الثيب ثيبا، لأنها ثابت أي رجعت إلى بيت أبويها، وسميت العذراء بكرا لأنها على أول حالتها التي خلقت بها. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً أي علموا أنفسكم ونساءكم وأولادكم الخير، وأدبوهم بأن تأمروهم بالخير وتنهوهم عن الشر تقوهم بذلك نارا، وقرئ «وأهلوكم» عطفا على «واو قوا» فيكون أنفسكم عبارة عن أنفس الكل، أي قوا أنتم وأهلوكم أنفسكم نارا، وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أي حطبها الكفار وحجارة الكبريت. وقرئ «وقودها» بضم الواو عَلَيْها، أي النار مَلائِكَةٌ تسعة عشر وهم الزبانية، غِلاظٌ أي غلاظ القلوب لا يرحمون، إذا استرحموا خلقوا من الغضب وحبب إليهم عذاب الخلق كما حبب لبني آدم أكل الطعام والشراب، شِدادٌ أي شداد الخلق، أقوياء على الأفعال الشديدة، لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ بدل اشتمال من الله، أي لا يعصون أمره، أو منصوب على نزع الخافض. أي فيما أمرهم به من عذاب أهل النار، وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) أي يؤدون ما يؤمرون به من غير توان ويقولون للكفار عند ادخالهم النار: يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إذ الاعتذار هو التوبة، وهي غير مقبولة بعد الدخول في النار فلا ينفعكم الاعتذار، إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) ، أي جزاء أعمالكم، أي إنما أعمالكم السيئة ألزمتكم العذاب. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً أي بالغة في النصح بأن يتوبوا عن القبائح نادمين عليها غاية الندامة، لا يعودون إليها، وقرأ شعبة بضم النون وهو مصدر، أي ذات نصوح أو تنصح نصوحا، أو توبوا لينصح أنفسكم. والباقون بفتحها فهو صفة مشبهة، عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ أي أن يغفر لكم ذنوبكم بالتوبة وَيُدْخِلَكُمْ في الآخرة جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ ظرف «ليدخلكم» ، وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ أي صاحبوه في وصف الإيمان، والموصول إما معطوف على النبي وإما مبتدأ خبره جملة قوله تعالى: نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ عند المشي على الصراط، وَبِأَيْمانِهِمْ أي ويسعى عنن إيمانهم عند الحساب، لأنهم يؤتون التاب بإيمانهم وفيه نور يَقُولُونَ أي المنافقين خائفين من أن يطفأ نورهم رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا أي أبق لنا نورنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) . وقيل: الذين يمرون على الصراط حبوا وزحفا هم(2/542)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
الذين يقولون: رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ بالسيف والسنان وَالْمُنْفِقِينَ بالحجة واللسان، وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ أي واشدد على كلا الفريقين فيما تجاهدهما من القتال والمحاجة، وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) مصيرهم ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي جعل الله مثلا لحال هؤلاء الكفار، امْرَأَتَ نُوحٍ والهة وَامْرَأَتَ لُوطٍ والعة «1» كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما بالكفر، كما قاله عكرمة والضحاك. وعن ابن عباس ما بغت امرأة نبي قط. وعن ابن عباس كانت امرأة نوح تقول للناس: إنه مجنون، وإذا آمن به أحد أخبرت الجبابرة من قومه وكانت امرأة لوط تخبر بأضيافه، فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي فلم يدفع نوح ولوط مع كرامتهما عند الله تعالى عن زوجتيهما لما عصتا من عذاب الله شيئا، وذلك تنبيه على أن العذاب يدفع بالطاعة لا بالوسيلة، وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) أي وتقول لهما خزنة النار: ادخلا النار مع الداخلين في النار
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ أي جعل الله حالها مثلا لحال المؤمنين في أن وصلة الكفرة لا تضر مع الإيمان، واسمها آسية بنت مزاحم آمنت حين سمعت قصة إلقاء موسى عصاه، وتلقف العصا، فعذبها فرعون عذابا شديدا بسبب الإيمان، فإنه أوتدها بأربعة أوتاد، واستقبل بها الشمس، وألقى عليها صخرة عظيمة فقالت: رب نجني من فرعون، فرقى بروحها إلى الجنة، فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه، إِذْ قالَتْ- ظرف ل «مثلا» -: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ أي رب ابن لي بيتا قريبا من رحمتك، وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ أي من نفسه الخبيثة، وَعَمَلِهِ السيئ، وهو شركه أو جماعه، كما قاله ابن عباس، وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) أي من القبط التابعين له في الظلم، وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها من الفواحش فإنها قذفت بالزنا فَنَفَخْنا فِيهِ أي في فرجها، كما قاله البقاعي. وقرئ فيها أي في مريم. وقال الرازي: وقوله تعالى فيه أي في عيسى ومن قرأ فيها في نفس عيسى، مِنْ رُوحِنا أي من روح خلقناه بلا توسط أصلا. والمعنى: أوصلنا إلى فرجها الريح الخارج من نفس جبريل لما نفخ في جيب قميصها، فوصل إليه، فحملت بعيسى، وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها أي بالصحف المنزلة على إدريس وغيره. قال مقاتل: أي بعيسى ويدل عليه قراءة الحسن بكلمة ربها بالإفراد وقرئ «بكلمة الله» . وَكُتُبِهِ، وقرأ أبو عمرو وحفص بصيغة الجمع أي بالكتب الأربعة، والباقون و «كتابه» بالإفراد أي وبكتابه المنزل عليه وهو الإنجيل، وقوله تعالى:
وَصَدَّقَتْ بالتخفيف والتشديد على أن مريم جعلت الكلمات والكتب صادقة بمعنى وصفتها بالصدق، وهو معنى التصديق بعينه وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12) أي من القوم المطيعين لله في الشدة والرخاء.
__________
(1) راجع مراح لبيد، النووي (ج 1/ ص 506) .(2/543)
وقال عطاء: من المصلين، وهم رهطها، لأنهم أهل بيت صالحين، لأنها من أعقاب هارون أخي موسى، وضرب هذه الأمثال مشتمل على فوائد: منها: التنبيه على الثواب العظيم والعذاب الأليم. ومنها: العلم بأن صلاح الغير لا ينفع المفسد، وفساد الغير لا يضر المصلح.
ومنها: أن الرجل وإن كان في غاية الصلاح فلا يأمن المرأة ولا يأمن نفسه. ومنها: العلم بأن إحصان المرأة مفيد غاية الإفادة. ومنها: التنبيه على أن التضرع بالصدق في حضرة الله تعالى وسيلة إلى الخلاص من العقاب وإلى الثواب بغير حساب، وأن الرجوع إلى الحضرة الأزلية لازم في كل باب.(2/544)
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)
سورة الملك
وتسمى الواقية والمنجية، لأنها تقي وتنجي قارئها من عذاب القبر. وعن ابن عباس أنه كان يسميها المجادلة، لأنها تجادل عن قارئها في القبر، وتدعى في التوراة المانعة، مكية، ثلاثون آية، ثلاثمائة وخمس وثلاثون كلمة، ألف وثلاثمائة وثلاثة عشر حرفا
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ أي تنزه الذي في قدرته سائر الكائنات عن أن يكون جسما أو في مكان غير ذلك من صفات الحوادث، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الأشياء قَدِيرٌ (1) يتصرف فيه حسب ما تقتضيه مشيئته يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويحيي ويميت، ويغني ويفقر، ويعطي ويمنع، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ فالموت صفة وجودية مضادة للحياة. والمراد به الموت الطارئ، وبالحياة ما قبله وما بعده. وروى الكلبي عن ابن ابن عباس: أن الله تعالى خلق الموت في صورة كبش أملح لا يمر بشيء، ولا يجد رائحته شيء إلا مات وخلق الحياة في صورة فرس بلقاء فوق الحمار، ودون البغل، لا تمر بشيء ولا يجد رائحتها شيء إلا حيي اه.
وهذا كلام وارد على منهاج التمثيل والتصوير. لِيَبْلُوَكُمْ وهو متعلق بخلق، أي خلق موتكم وحياتكم ليعاملكم معاملة من يختبركم، أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي أخلص عملا وأصوبه كما قاله الفضيل ابن عياض اه.
وقال قتادة: أي أيكم أحسن عقلا، أي أتمكم عقلا، وأشدكم لله خوفا، وأحسنكم فيما أمر الله به ونهى عنه نظرا.
وقال الحسن: أيكم أزهد في الدنيا وأشد تركا لها. وقال السدي: أيكم أكثر للموت ذكرا وأحسن استعدادا وأشد خوفا وحذرا. وَهُوَ الْعَزِيزُ أي الغالب الذي لا يعجزه من أساء العمل، الْغَفُورُ (2) لمن تاب من أهل الإساءة الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً أي مطابقة بعضها فوق بعض، والسماء الدنيا محيطة بالأرض إحاطة قشر البيضة من جميع الجوانب، والثانية محيطة بالسماء الدنيا، وهكذا إلى أن يكون العرش محيطا بالكل، ما تَرى أيها المخاطب فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ للسموات ولغيرها مِنْ تَفاوُتٍ، أي من عدم تناسب.(2/545)
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20)
قرأ حمزة والكسائي «من تفوت» بتشديد الواو، فَارْجِعِ الْبَصَرَ أي رد بصرك إلى السماء هَلْ تَرى فيها مِنْ فُطُورٍ (3) ، أي شقوق وعيوب، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ أي ارجع البصر إلى السماء رجعة بعد رجعة وإن كثرت يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً، أي بعيدا من إصابة ما التمسه من العيب، وَهُوَ حَسِيرٌ (4) أي كليل لكثرة المراجعة، وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا أي القربي من الناس بِمَصابِيحَ أي بكواكب مضيئة بالليل إضاءة السرج، وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ أي جعلنا الكواكب رجم أعدائكم بانقضاض الشهب المقتبسة من نار الكواكب، إذا أرادوا استراق السمع، وَأَعْتَدْنا لَهُمْ في الآخرة عَذابَ السَّعِيرِ (5) بعد الإحراق في الدنيا بالشهب، وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ من الشياطين وغيرهم، عَذابُ جَهَنَّمَ.
وقرئ بالنصب على أنه عطف على عذاب السعير، كما أن «للذين» عطف على «لهم» ، فهو عطف المفرد على المفرد وعلى هذا، فالوقف على «السعير» جائز. وإن قرئ عذاب جهنم بالرفع كما هو قراءة الجمهور فالوقف على «السعير» تام، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) جهنم إِذا أُلْقُوا أي الكفار فِيها سَمِعُوا لَها أي لجهنم شَهِيقاً أي صوتا كصوت الحمار، وَهِيَ تَفُورُ (7) أي والحال أن جهنم تغلي بهم غليان المرجل بما فيه، تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ أي تقرب جهنم تتفرق من شدة الغضب على الكفار.
وقرئ شاذا «تتميز» على الأصل، كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ أي جماعة من الكفرة سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها بطريق التوبيخ والتقريع، أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) يتلو عليكم آيات ربكم وينذركم لقاء يومكم هذا؟ قالُوا اعترافا منهم بعدل الله وإقرارا بأن الله أزاح عللهم ببعثة الرسل: بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا ذلك النذير في كونه نذيرا من جهة الله تعالى وَقُلْنا في حق ما تلاه من الآيات: ما نَزَّلَ اللَّهُ على أحد مِنْ شَيْءٍ أي من كتاب، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) أي ما أنتم أيها النذر- في ادعاء أنه تعالى نزّل عليكم آيات- إلا في ضلال كبير أي بعيد عن الصواب، ويجوز أن يكون الخطاب من كلام الخزنة للكفار. والمعنى: ما أنتم أيها الكفار إلا في ضلال كبير في الدنيا، وهو الشرك بالله، وفي هلاك عظيم في العذاب. وَقالُوا للخزنة: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) أي لو كنا نسمع الإنذار سماع من كان طالبا للحق أو نعقله عقل من كان متفكرا لما كنا اليوم مع أهل الوقود في النار،
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ أي أقروا بتكذيبهم الرسل وبكفرهم بآيات الله، فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11) وهو منصوب إما على المفعول به أي ألزمهم الله سحقا، أي بعدا من رحمته أو على المصدر والتقدير: سحقهم الله سحقا أي باعدهم الله من رحمته مباعدة.
وقرأ الكسائي بضم الحاء إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أي حال كونهم في الخلوة حيث لا يراهم الناس، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) في الجنة وَأَسِرُّوا أيها الناس قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) ، أي عليم بالقلوب وأحوالها، فاحذروا من المعاصي سرا(2/546)
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
كما تحترزون عنها جهرا، فإنه لا يتفاوت ذلك بالنسبة إلى علم الله تعالى.
قال ابن عباس: كانوا ينالون من رسول الله، فيخبره جبريل فقال بعضهم لبعض: أسروا قولكم لئلا يسمع إله محمد، فأنزل الله هذه الآية أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ أي ألا يعلم السر والجهر من أوجد جميع الأشياء، فمن خلق شيئا لا بد وأن يكون عالما بمخلوقه وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) ، أي والحال أنه تعالى الفاعل للأشياء اللطيفة، العالم ببواطن الأمور هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا، أي لينة يسهل عليكم السلوك فيها، فَامْشُوا فِي مَناكِبِها أي فاسلكوا في جوانبها، وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ أي كلوا مما خلقه الله رزقا لكم في الأرض، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أي المرجع بعد البعث، فبالغوا في شكر نعمه، أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ ف «أن يخسف» بدل اشتمال من «من» ، أي أتأمنون يا أهل مكة من قد أقررتم بأنه في السماء، واعترفتم له بالقدرة على ما يشاء، وهو متعال عن المكان أن يغور بكم الأرض بعد ما جعلها لكم لينة، فَإِذا هِيَ أي الأرض تَمُورُ (16) أي تضطرب وتتقلب، أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أي بل أأمنتم أيها المكذبون من تزعمون أنه في السماء، وهو منزه عن المكان أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً أي ريحا فيها حجارة، فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) أي فستعلمون عاقبة إنذاري إياكم وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من قبل كفار مكة من كفار الأمم السالفة، فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أي إنكاري وتغييري عليكم أليس وجدوا العذاب حقا، أَوَلَمْ يَرَوْا أي أغفلوا ولم ينظروا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ أي باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها وَيَقْبِضْنَ أي يضممنها إذا ضربن بها جنوبهن حينا فحينا ما يُمْسِكُهُنَّ في الجو عند البسط والقبض إِلَّا الرَّحْمنُ أي الواسع رحمته كل شيء، وهذه الجملة مستأنفة، فالوقف على يقبضن تام كالوقف هنا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) فيكون الله رائيا لنفسه ولجميع الموجودات، أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ أي بل من هذا الحقير الذي هو في زعمكم جند لكم ف «أم» بمعنى بل و «من» اسم استفهام مبتدأ خبره اسم الإشارة. وقرأ طلحة بتخفيف الميم هنا وتشديده، ثم والمعنى: أهذا الذي هو جند لكم أم الذي يرزقكم، يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أي ما الكافرون إلا في غرور من الشيطان، فهو يغرهم بأن العذاب لا ينزل بهم، أعلم أن الكافرين كانوا يمتنعون عن الإيمان ولا يلتفتون إلى دعوة الرسول معتمدين على شيئين: أحدهما: قوتهم بمالهم وجندهم. وثانيهما: اعتقادهم أن الأوثان توصل إليهم جميع الخيرات وتدفع عنهم جميع الآفات وقد أبطل الله عليهم الأول بقوله تعالى: أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ الآية.
ورد عليهم الثاني بقوله تعالى: أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ أي بل من الذي يرزقكم من آلهتكم إن أمسك الله الرزق عنكم بل لو كان الرزق موجودا سهل التناول، فوضع الآكل لقمة في فيه، فأمسك الله تعالى عنه قوة الازدراد لعجز أهل السموات والأرض عن أن يسوغوا تلك اللقمة، بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أي بل تمادوا في أباء عن الحق(2/547)
وشراد عن الإيمان، ثم ضرب الله مثلا للمشرك والموحد فقال: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) ، أي أفمن يمشي في مكان غير مستو فيعثر كل ساعة ويخر على وجهه في كل خطوة أهدى إلى المقصد، أم من يمشي معتدلا على طريق مستو لا عوج فيه ولا انحراف سالما من العثور والخرور؟ قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ أي أوجدكم إيجادا بديعا، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ لتسمعوا به الآيات القرآنية، وَالْأَبْصارَ لتنظروا بها إلى الآيات التكوينية، وَالْأَفْئِدَةَ لتتفكروا بها فيما تسمعونه من الآيات التنزيلية، وفيما تشاهدونه من الآيات التكوينية، قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (23) لأن شكر نعمة الله تعالى هو أن يصرف تلك النعمة إلى وجه رضاه، وأنتم لما صرفتم السمع والبصر والعقل إلى غير طلب مرضاته، فأنتم ما شكرتم نعمته ألبتة قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ، أي خلقكم وكثركم فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) في الآخرة للجزاء، وَيَقُولُونَ أي كفار مكة من فرط عنادهم، مَتى هذَا الْوَعْدُ أي الحشر الموعود إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) أي إن كنتم صادقين بما تخبرونه من مجيء الساعة والحشر فبينوا وقته، قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ بوقت مجيئه عِنْدَ اللَّهِ لا يطلع عليه غيره، وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) أنذركم وقوع الموعود، فإن العلم بالوقوع غير العلم بوقت الوقوع، فالعلم الأول كاف في الإنذار، العلم الثاني ليس إلا الله، فَلَمَّا رَأَوْهُ أي العذاب بعد الحشر زُلْفَةً أي ذا قرب سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي اسودت وجوههم، وعلتها الكآبة، وصارت كوجه من يقاد إلى القتل، وَقِيلَ أي قال لهم الخزنة توبيخا: هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) أي تطلبونه في الدنيا وتستعجلونه استهزاء، أو هذا الذي كنتم تدعون أنه باطل لا يأتيكم.
وقرأ الحسن وقتادة وأبو رجاء والضحاك، ويعقوب، وأبو زيد، وأبو بكر، وابن أبي عبلة، ونافع في راوية الأصمعي بسكون الدال من الدعاء وهي مؤيدة للقول بأن تدعون مثقلة من الدعاء في قراءة العامة. وقيل: من الدعوى. قُلْ أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ، أي إن أماتني الله وَمَنْ مَعِيَ من المؤمنين أَوْ رَحِمَنا بتأخير آجالنا، فأيّ راحة لكم في ذلك، وأي منفعة لكم فيه.
يروى أن كفار مكة كانوا يدعون على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى المؤمنين بالهلاك حين خوّفهم النبي بعذاب الله، فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) أي من الذي يجيركم من عذاب الله إذا نزل بكم أتظنون أن الأصنام تجيركم، فإذا علمتم أن لا مجير لكم منه سواء متنا أو بقينا فهلا تمسكتم بما يخلصكم من العذاب وهو العلم بالتوحيد والنبوة والبعث، قُلْ هُوَ أي الذي أدعوكم إلى عبادته الرَّحْمنُ أي معطي النعم كلها آمَنَّا بِهِ ولم نكفر به كما كفرتم، وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا لا على غيره كما فعلتم حيث توكلتم على رجالكم وأموالكم وهو لا يقبل دعاءكم، لأنكم أهل الكفر، فَسَتَعْلَمُونَ عند معاينة العذاب في الآخرة مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) أي ظاهر، أنحن أم أنتم.(2/548)
وقرأ الكسائي «فسيعلمون» بالياء التحتانية. قُلْ أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً أي إن صار ماؤكم ذاهبا في الأرض بالكلية أو بحيث لا تناله الدلاء، فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30) أي ظاهر، سهل المأخذ تراه العيون فلا بدلهم، وأن يقولوا: لا يأتينا به إلا الله فقل لهم حينئذ: فلم تجعلون من لا يقدر على شيء أصلا شريكا له في المعبودية؟ وكان ماؤهم من بئر زمزم، وبئر ميمون. ويستحب أن يقول القارئ عقب مَعِينٍ: الله رب العالمين، كما ورد في الحديث.(2/549)
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10)
سورة القلم
وتسمى سورة ن، مكية، اثنتان وخمسون آية، ثلاثمائة كلمة، ألف ومائتان وستة وخمسون حرفا
ن أقسم الله بالنون، وهي السمكة التي تحمل الأرضين على ظهرها، واسمها:
ليواش، وهي في الماء تحت الأرض السفلى وتحتها الثور، واسمه: يهموت وتحته الصخرة، وتحتها الثرى، ولا يعلم ما تحته إلا الله تعالى وهذا مروي عن ابن عباس. وقيل: إنه تعالى أقسم بالحوت الذي احتبس يونس عليه السلام في بطنه، وقيل: إنه تعالى أقسم بالحوت الذي لطخ سهم نمروذ بدمه. والقول الثاني: وهو مروي أيضا عن ابن عباس أن النون هو الدواة، وعلى هذا أقسم الله تعالى بالدواة والقلم، فإن المنفعة بهما عظيمة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أول ما خلق الله القلم ثم خلق النون وهي الدواة»
«1» . وَالْقَلَمِ أقسم الله بالقلم وهو قلم من نور، طوله كما بين السماء والأرض، وَما يَسْطُرُونَ (1) أي وما كتب الملائكة في صحفهم يكتبون فيها المقادير التي تنفع في العالم، ينتسخون ذلك من اللوح المحفوظ، ما أَنْتَ يا أكرم الخلق بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) أي أنت بريء من الجنون ملتبسا بنعمة الله التي هي النبوة والرئاسة العامة.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلّى الله عليه وسلّم غاب عن خديجة إلى حراء، فطلبته، فلم تجده، فإذا به وجهه متغير فقالت له: ما لك؟ فذكر نزول جبريل عليه السلام وأنه قال له: اقرأ باسم ربك، قال صلّى الله عليه وسلّم: «ثم نزل بي إلى قرار الأرض فتوضأ، ثم توضأت، ثم صلى وصليت معه ركعتين، وقال: هكذا الصلاة يا محمد» فلما ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك لخديجة ذهبت إلى ورقة بن نوفل وهو ابن عمها، فسألته فقال: أرسلي إلي محمدا، فأرسلته، فأتاه فقال: هل أمرك جبريل أن تدعو إلى الله أحد فقال: لا، فقال: والله لئن بقيت إلى دعوتك لأنصرنك نصرا عزيزا، ثم مات
__________
(1) رواه ابن كثير في التفسير (5: 448) ، والحاكم في المستدرك (2: 454) ، وابن حبيب في مسند الربيع (3: 10) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (7: 318) . [.....](2/550)
هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)
قبل دعاء الرسول، فلما دعا صلّى الله عليه وسلّم كفار قريش إلى الله قالوا: إنه لمجنون، فأقسم الله تعالى على أنه ليس بمجنون،
وَإِنَّ لَكَ يا أكرم الخلق على ما تحملت من أثقال الرسالة ومن ألوان الشدائد من جهة قومك لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) أي غير مقطوع، وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) كانت نفسه صلّى الله عليه وسلّم شديدة النفرة عن اللذات البدنية والسعادات الدنيوية بالطبع، ومقتضى الفطرة عن عائشة قالت:
ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال:
لبيك، وقال أنس: خدمت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشر سنين، فما قال لي في شيء فعلته: لم فعلت؟ ولا في شيء لم أفعله: هلا فعلت. فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) أي فستعلم يا محمد ويعلم المشركون يوم القيامة حين يتبين الحق من الباطل، أو فسترى يا محمد ويرون في الدنيا أنك تصير معظما في القلوب وأنهم يصيرون ذليلين، بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) والباء إما زائدة أي أيكم الذي فتن بالجنون، أو بمعنى في أي الفريقين المجنون، أفي فرقة الإسلام، أم في فرقة الكفار ويؤيده قراءة ابن أبي عبلة في «أيكم» . وقيل: إن المفتون مصدر جاء على مفعول والتقدير: بأيكم الفتون؟ أي الجنون. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ، أي هو أعلم بالمجانين على الحقيقة وهم الذين ضلوا عن سبيله تعالى المؤدي إلى سعادة الدارين، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) أي وهو أعلم بالعقلاء وهو المهتدون إلى سبيله، الفائزون بكل مطلوب، الناجون عن كل محذور، فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وهم رؤساء أهل مكة الذين دعوه صلّى الله عليه وسلّم إلى دين آبائهم، وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) أي تمنوا إن تترك بعض ما أنت عليه مما لا يرضونه مصانعة لهم فيفعلوا مثل ذلك وإن يتركوا بعض ما لا ترضى به فتلين لهم ويلينون لك، و «لو» مصدرية، أي ودوا ادهانك فهم الآن يدهنون لطمعهم في ادهانك، وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ أي كثير الحلف في الحق والباطل، مَهِينٍ (10) أي ضعيف في دين الله، حقير في التدبير والتمييز،
مُعْتَدٍ
أي ظلوم أَثِيمٍ (12) ، أي مبالغ في الإثم، عُتُلٍّ أي شديد الخصومة أو واسع البطن بَعْدَ ذلِكَ، أي مع تلك المثالب زَنِيمٍ (13) ، أي دعي ملصق بالقوم وليس منهم، والظرف متعلق «بزنيم» .
قيل: هو الوليد ادعاه المغيرة بعد ثماني عشرة سنة من ولادته ونسبه لنفسه بعد أن كان لا يعرف له أب، ولما نزلت هذه الآية قال لأمه: إن محمدا وصفني بتسع صفات أعرفها غير التاسع منها، فإن لم تصدقيني الخبر ضربت عنقك. فقالت له: إن أباك أي المغيرة عنين، فخفت على المال، فمكنت الراعي من نفسي، وكان للوليد عشرة من البنين، وكان يقول لهم ولأقاربه: لئن تبع دين محمد أحد منكم لا أنفعه بشيء أبدا، فمنعهم من الإسلام، وكان ينفق في الحجة الواحدة عشرين ألفا وألفا، ولا يعطي المسكين درهما واحدا. وهذه الآية عند أكثر المفسرين نزلت في(2/551)
فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30)
الوليد بن المغيرة، وعند ابن عباس في أبي جهل، وعند مجاهد في الأسود بن عبد يغوث، وعند السدي في الأخنس بن شريق أصله من ثقيف وعداده في زهرة. أَنْ كانَ أي لأجل أن كان هذا الموصوف، ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) ، وهذا إما متعلق بما قبله أي لا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ الآية، لكثرة ماله وأولاده أو بما دل عليه ما بعده، أي إنه كفر بآياتنا، لأن كان ذا مال وبنين وفي قراءة سبعية «أأ» بهمزتين مفتوحتين أي ألأن كان ذا مال وبنين تطيعه أو ألأن كان ذا مال وبنين يكفر ويستكبر، وكان مال الوليد بن المغيرة نحو تسعة آلاف مثقال من فضة وبنوه عشرة، إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا أي القرآن قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) ، أي هي أحاديث الأولين في كذبهم، سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) أي سنجعل له في الآخرة علامة على أنفه، يعرف بها أهل القيامة أنه كان في عداوة الرسول وفي إنكار الدين الحق. كما قاله قتادة.
قال ابن عباس: أي سنخطمه بالسيف فنجعل ذلك علامة باقية على أنفه ما عاش. وروي أنه قاتل يوم بدر فخطم بالسيف في القتال، إِنَّا بَلَوْناهُمْ أي أهل مكة بالقحط بدعوة محمد صلّى الله عليه وسلّم عليهم بعد يوم بدر سبع سنين كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أي أهل البساتين كانت بصروان.
روي أن واحدا من ثقيف وكان مسلما كان يملك ضيعة فيها نخل وزرع بقرب صنعاء، وكان يجعل من كل ما فيها عند الحصاد نصيبا وافرا للفقراء، فلما مات ورثها منه بنوه وقالوا:
عيالنا كثير والمال قليل، ولا يمكننا أن نعطي المساكين مثل ما كان يفعل أبونا، فأحرق الله جنتهم، وكانوا بعد عيسى ابن مريم بزمن يسير، إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) أي حين حلفوا بالله ليقطعن ثمر نخليهم في وقت الصباح، وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) أي لا يقولون: إن شاء الله أو ولا يستثنون حصة المساكين كما كان يفعله أبوهم، فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) ، أي فطرقها في الليل طارق من عذاب الله.
قال الكلبي: أرسل الله عليها نارا من السماء فاحترقت وهم نائمون، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) أي فصارت البساتين بالاحتراق شبيهة بالبستان الذي صرمت ثماره بحيث لم يبق منها شيء، أو صارت كالليل في اسودادها، أو كالنهار في ابيضاضها من فرط اليبس
فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) أي فنادى بعضهم بعضا عند طلوع الفجر، أي اذهبوا إلى الثمار والزروع والأعناب، فاصرموها إن كنتم قاصدين للصرم ولا تخبروا المساكين، فَانْطَلَقُوا إلى البساتين وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) ، أي والحال أنهم يتسارون فيما بينهم كلاما خفيا أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) ، و «أن» مفسرة أي لا تدخلوا مسكينا في البساتين. وقرأ ابن مسعود بطرح «أن» على إضمار القول. والمعنى: «يتخافتون» يقولون: لا تمكنوا المسكين من الدخول في البساتين حتى يدخل وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) أي وصاروا قاصدين إلى بساتينهم قادرين على صرامها، ومنع منفعتها على المساكين في ظنهم، أو أرادوا أن يحرموا المساكين وهم(2/552)
قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40)
ظنوا أنهم قد أخطئوا الطريق فقالوا: إنا لضالون طريق بستاننا، ثم لما تأملوا وعرفوا أنها هي قالوا:
لسنا ضالين بل نحن محرومون منفعة جنتنا بشؤم عزمنا على البخل، ومنع الفقراء، ويحتمل أنهم لما رأوا جنتهم محترقة قالوا: إنا لضالون في الاعتقاد حيث كنا نعتقد كوننا قادرين على الانتفاع بها، وحيث كنا عازمين على منع الفقراء بل الأمر انقلب علينا فصرنا محرومين، قالَ أَوْسَطُهُمْ أي أفضلهم: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) أي هلا تذكرون الله تعالى وتتوبون إليه من خبث نيتكم حيث عزمتم على منع الزكاة؟ قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا عن أن يجري في ملكه ما لا يشاؤه، إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) بالإقسام على جذ الجنة في الصباح ومنع المساكين وترك الاستثناء. فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) أي يلوم بعضهم بعضا يقول واحد منهم: أنت أشرت علينا بهذا الرأي ويقول الآخر: أنت الذي خوفتنا بالفقر ويقول الثالث: أنت الذي رغبتني في جمع المال.
قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31) أي يا هلاكنا هذا وقت منادمتك لنا إنا كنا متجاوزين حد الله بمنعنا المساكين، عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها أي أن يعطينا خيرا من جنتنا بدلا منها ببركة التوبة والاعتراف بالذنوب.
وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الباء وتشديد الدال إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) أي طالبون منه الخير، راجون عفوه وروي أنهم قالوا: إن أبدلنا الله خيرا منها لنصنعن كما صنع أبونا، فتضرعوا إلى الله تعالى بالدعاء، فأبدلهم الله تعالى من ليلتهم ما هو خير منها، فإن الله أمر جبريل عليه السلام أن يقتلع تلك الجنة المحترقة، فيجعلها بزعر من أرض الشام، ويأخذ من الشام جنة فيجعلها مكانها.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إن القوم أخلصوا، وعرف الله منهم الصدق، فأبدلهم الله جنة يقال لها: الحيوان، فيها عنب يحمل البغل منه عنقودا واحدا كم كبره. وقال أبو خالد اليماني: دخلت تلك الجنة، فرأيت فيها كل عنقود منها كالرجل الأسود القائم، كَذلِكَ الْعَذابُ أي مثل الذي بلونا به أهل مكة وأصحاب الجنة في صروان عذاب الدنيا لمن منع حق الله من ماله، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ لمن لا يتوب أَكْبَرُ من عذاب الله في الدنيا، لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33) أنه أكبر لاحترزوا عما يؤديهم إليه، إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي في الآخرة جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) ، أي جنات ليس لهم فيها إلا التنعم الخالص، لا يشويه ما ينغصه كما يشوب جنات الدنيا.
قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية قال كفار مكة للمسلمين: إن الله تعالى فضلنا عليكم في الدنيا فلا بد وأن يفضلنا عليكم في الآخرة، فإن لم يحصل التفضيل فأقصى أمركم أن تساوونا فأجاب الله عن هذا الكلام بقوله: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) أي أنحيف في الحكم فنجعل المسلمين كالكافرين أي مساوين لهم في العطاء، ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أي أيّ شيء يحصل لكم يا أهل مكة، وأيّ حال يدعوكم إلى هذا الحكم هل هو صادر عن اختلال فكر أو اعوجاج(2/553)
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)
رأي، أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38) أي بل ألكم كتاب نازل من السماء فيه تقرأون أن لكم في ذلك الكتاب ما تشتهون في الآخرة. وقرأ طلحة والضحاك «أن لكم» بفتح الهمزة، وهو منصوب ب «تدرسون» إلا أن في اسمها زيادة لام التأكيد، أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا أي أم لكم عهود مؤكدة بالأيمان، بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ والجار والمجرور إما متعلق ببالغة، أي أيمان تبلغ ذلك اليوم، وإما بالمقدر أي ثابتة لكم إلى يوم القيامة، ويكون معنى بالغة مؤكدة. وقرأ زيد بن علي والحسن «بالغة» بالنصب على الحال من «أيمان» ، أو من الضمير في الظرف، إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) وهذا جواب القسم، لأن المعنى أقسمنا لكم أيمانا موثقة أن لكم ما تحكمون به لأنفسكم في الآخرة، وهو أن تسووا بين المسلمين والكافرين، سَلْهُمْ يا أشرف الرسل:
أَيُّهُمْ بِذلِكَ الحكم الخارج عن العقول زَعِيمٌ (40) أي قائم
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ أي أو هل لهم ناس يساعدونهم على صحة ذلك القول فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ أي بمن يشاركونهم في ذلك القول ويكفلونه لهم بصحته، إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41) في دعواهم ويقال: المعنى: أم لهم أشياء يعتقدون أنها شركاء الله يجعلونهم في الآخرة مثل المؤمنين في الثواب والخلاص من العقاب، فليأتوا بآلهتهم إن كانوا صادقون
أن لهم ما قالوا، يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ أي يوم يشتد الأمر.
قال أبو سعيد الضرير: أي يوم يكشف عن أصل الأمر أي تظهر يوم القيامة حقائق الأشياء وأصولها بحيث تصير عيانا. وقرئ «تكشف» بالتاء الفوقية على البناء للفاعل، أو المفعول والفعل للحال، أو للساعة أي يوم تشتد الحال، أو الساعة عن أمر. وقرئ «تكشف» بالتاء المضمومة وكسر الشين، أي يوم تدخل الحال في الكشف عن أمر كانوا في عمى منه في الدنيا.
وقرئ «نكشف» بالنون وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ توبيخا على تركهم إياه في الدنيا بعد ما قالوا: والله ربنا ما كنا مشركين، فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) السجود، تبقى أصلابهم فقارة واحدة مثل حصون الحديد، خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ حال من واو «يدعون» ، تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ أي تلحقهم ذلة شديدة بسبب أنهم ما كانوا مواظبين على خدمة مولاهم، وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ أي إلى الصلوات بالأذان والإقامة في الدنيا دعوة تكليف، وَهُمْ سالِمُونَ (43) أي أصحاء قادرون على الصلاة فلا يجيبون الداعي، وفي هذا وعيد لمن قعد عن الجماعة ولم يجب المؤذن إلى إقامة الصلاة في الجماعة فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ أي خل يا أشرف الخلق بيني وبينهم فإني أكفيك أمرهم، سَنَسْتَدْرِجُهُمْ أي سننزلهم إلى العذاب درجة فدرجة، مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) أي كلما أذنبوا ذنبا جددنا لهم نعمة، وأنسيناهم الاستغفار، وَأُمْلِي لَهُمْ أي أمهلهم ليزدادوا إثما إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أي إن ستري لأسباب الهلاك عمن أريد إهلاكه، قوي لا يدفعه شيء ولا يطلع عليه أحد أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً أي أم تلتمس من أهل مكة أجرا دنيويا على الإيمان، فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أي فهم لأجل ذلك مكلفون حملا ثقيلا من غرامة مالية يعطونكها، فيعرضون عنك أَمْ عِنْدَهُمُ(2/554)
وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
الْغَيْبُ
أي أم عندهم علم ما غاب عنهم، كأنه حضر في عقولهم فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) على الله، أي يحكمون عليه بما شاءوا فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ في إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم، وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ أي ولا يكن حالك يا أشرف الخلق كحال يونس عليه السلام من الضجر والمغاضبة فتبتلي ببلائه، إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) إذ نادى في بطن الحوت بقوله: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، وهو مملوء غما- كما قاله ابن عباس ومجاهد- أو كربا- كما قاله عطاء وأبو مالك- والفرق بين الغم والكرب أن الغم في القلب والكرب في الأنفاس، لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) أي لولا هذه النعمة التي هي توفيقه للتوبة وقبولها منه لطرح بالأرض الخالية من الأشجار مع وصف المذمومية. وقرئ «رحمة من ربه» . وقرأ ابن هرمز والحسن «تداركه» بتشديد الدال. وقرأ ابن عباس وابن مسعود «تداركته» ، فَاجْتَباهُ رَبُّهُ أي رد عليه الوحي بعد أن انقطع عنه وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون، فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) أي الكاملين في الصلاح بأن عصمه من أن يفعل فعلا يكون تركه أولى.
روي أن هذه الآية نزلت في أحد حين حل برسول الله ما حل، فأراد أن يدعو على الذين انهزموا. وقيل: حين أراد أن يدعو على ثقيف.
وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ أي أنهم من شدة عداوتهم لك ينظرون إليك شزرا، بحيث يكادون يزلون قدمك فيرمونك. وقرئ في السبعة «ليزلقونك» بضم الياء وفتحها. وقرئ «ليزهقونك» .
روي أنه كان في بني أسد عيانون فأراد بعضهم أن يعين رسول الله، فنزلت هذه الآية. لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ أي وقت سماعهم بالقرآن، وَيَقُولُونَ لغاية حيرتهم في أمره صلّى الله عليه وسلّم إِنَّهُ أي محمدا لَمَجْنُونٌ (51) فأجابهم الله تعالى بقوله: وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52) ، أي وما هذا القرآن الذي يزعمون أنه دلالة جنونه صلّى الله عليه وسلّم إلا عظة للجن والإنس.(2/555)
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10)
سورة الحاقة
مكية، إحدى وخمسون آية، مائتان وست وخمسون كلمة، ألف وأربعمائة وثمانون حرفا
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) أي أيّ شيء هي وَما أَدْراكَ أي وأيّ شيء أعلمك مَا الْحَاقَّةُ (3) أي إنك لا علم لك يا أشرف الخلق بكنهها، ومدى عظمها، والحاقة هي الساعة الثابتة الوقوع، الواجبة المجيء، أو التي تحق فيها الأمور، أي تعرف على الحقيقة، كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4) أي بالحالة التي تقرع قلوب الناس بالإفزاع وهي القيامة، وقوارعها انفطار السماء، وانشقاقها، ودك الأرض، ونسف الجبال، وطمس النجوم وانكدارها، فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) أي بالصيحة المجاوزة للحد في القوة، وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ، أي باردة عاتِيَةٍ (6) ، أي مجاوزة للحد في شدة عصفها، سَخَّرَها أي سلطها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً، أي متتابعة من صبيحة أربعاء لثمان بقين من شوال إلى غروب الأربعاء الآخر، فكان آخرها هو اليوم الأخير منه، فَتَرَى الْقَوْمَ أي قوم هود إن كنت حاضرا وقتئذ فِيها أي في مهاب الريح صَرْعى، أي موتى مجندلين على الأرض، كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) أي كأنهم أصول نخل ساقطة بالية، فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) ؟ قال قوم: أي لم يبق من نسل أولئك القوم أحد.
وقال ابن جريج: كانوا سبع ليال وثمانية أيام، أحياء في عقاب الله من الريح، فلما أمسوا اليوم الثاني ماتوا، فاحتملتهم الريح، فألقتهم في البحر، فذلك قوله تعالى: فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ. وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ قرأه أبو عمرو والكسائي بكسر القاف وفتح الباء، أي ومن عنده من أتباعه وجنوده، ويؤيده قراءة ابن مسعود، وأبيّ وأبي موسى «ومن تلقاءه» . وقرأ أبي أيضا ومن معه، والباقون بفتح القاف وسكون الباء أي من تقدمه من الأمم. وَالْمُؤْتَفِكاتُ أي أهل القريات الخمسة المنقلبات قوم لوط، وهي صنعة، وصعرة، وعمرة، ودوما، وسذوم بِالْخاطِئَةِ (9) أي بالخطإ، كتكذيب البعث، وكاللواط والصفع والضراط، وغير ذلك من أنواع المعاصي، فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ موسى ولوطا وغيرهما، فَأَخَذَهُمْ أي الله تعالى أَخْذَةً رابِيَةً (10) ، أي زائدة في(2/556)
إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20)
الشدة على عقوبات سائر الكفار، كما أن أفعالهم كانت زائدة في القبح على أفعال سائر الكفار
إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ أي ارتفع الماء وزاد أعلى جبل خمسة عشر ذراعا، وذلك في زمن نوح حَمَلْناكُمْ في أصلاب آبائكم فِي الْجارِيَةِ (11) أي في سفينة نوح عليه السلام، لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً
أي لنجعل هذه القصة التي هي نجاة المؤمنين وإغراق الكفرة عظة لكم، تتعظون بها وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ
(12) ، أي ليحفظها قلب حافظ ويقال: تسمع هذا الأمر أذن سامعة، فتنتفع بما سمعت.
وقرأ نافع بسكون الذال وقرأ العامة «وتعيها» بكسر العين. وروي عن ابن كثير ساكنة العين، وذلك مثل «ويتقه» في قراءة من سكن القاف، فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وهي نفخة البعث. وقرأ أبو السماك بنصب «نفخة واحدة» على المصدر وبإسناد الفعل إلى الجار والمجرور وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ أي وبعد خروج الناس من قبورهم رفعت الأرض والجبال من أماكنها إما بالزلزلة أو بريح، أو بملك من الملائكة، أو بقدرة الله من غير سبب فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) . أي ضربت إحدى الجملتين بالأخرى ضربة واحدة، فتفتت وصارت كثيبا مهيلا فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) أي قامت القيامة الكبرى. وهذا جواب «إذا» ، وَانْشَقَّتِ السَّماءُ لنزول الملائكة، فَهِيَ أي السماء يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) أي ساقطة القوة بعد ما كانت محكمة شديدة، وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها أي والملائكة واقفون على أطراف السماء التي لم تسقط، فهؤلاء من جملة المستثنى ممن يموتون في الصعقة الأولى.
وقيل: إنهم يقفون لحظة على أطراف السماء ثم يموتون، وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ أي حال كون العرش فوق الملائكة الواقفين على جوانب السماء يَوْمَئِذٍ أي يوم وقعت الواقعة، ثَمانِيَةٌ (17) من الأملاك
وفي الحديث أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن حملة العرش اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة أمدهم الله تعالى بأربعة أخرى، فكانوا ثمانية على صورة الأوعال»
«1» ، أي تيوس الجبل.
وفي حديث آخر: «لكل ملك منهم وجه إنسان ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر وكل وجه منها يسأل الله الرزق لذلك الجنس»
. قال بعضهم: واسم أحدهم روقيل ولبنان.
وقال ابن عباس: هم ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله تعالى يَوْمَئِذٍ أي يوم قامت القيامة تُعْرَضُونَ على الله، أي تسئلون وتحاسبون.
وروي أن في يوم القيامة ثلاث عرضات: عرض للحساب والمعاذير، وعرض للخصومات والقصاص، وعرض لتطاير الكتب وقراءتها. لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) أي لا يخفى يوم القيامة ما كان مخفيا منكم في الدنيا فإنه تظهر أحوال المؤمنين فيتكامل بذلك سرورهم،
__________
(1) رواه القرطبي في التفسير (18: 266) .(2/557)
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37) فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)
وتظهر أحوال أهل العذاب، فيظهر بذلك حزنهم وفضيحتهم. وقرأ حمزة والكسائي «لا يخفى» بالياء التحتية فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ كأبي سلمة بن عبد الأسد. فَيَقُولُ لأصحابه تبجحا وابتهاجا: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) أي خذوا كتابي وانظروا ما فيه من الثواب والكرامة، إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) أي إني في الدنيا تيقنت أني ألقى حسابي في الآخرة ولم أنكر البعث.
وروى أبو هريرة أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الرجل يؤتى به يوم القيامة ويؤتى كتابه، فتكتب حسناته في ظهر كفه، وتكتب سيئاته في بطن كفه فينظر إلى سيئاته فيحزن فيقال له: اقلب كفك فينظر فيه فيرى حسناته فيفرح، ثم يقول: هاؤم اقرؤا كتابيه إني ظننت عند النظرة الأولى أني ملاق حسابيه على سبيل الشدة، وأما الآن فقد فرج الله عني ذلك الغم»
. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) أي منسوبة إلى الرضا فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) في المكان والدرجة قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) أي ثمارها قريبة يتناولها القاعد يقول الله لهم: كُلُوا من الثمار وَاشْرَبُوا من الأنهار هَنِيئاً، أي بلا تعب في تحصيل الأكل والشراب وبلا داء في تناولهما بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) ، أي بمقابلة ما قدمتم من الأعمال الصالحة في الأيام الماضية وهي أيام الدنيا، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ كالأسود بن عبد الأسد فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) ، أي لم أعط كتابي هذا الذي ذكرني قبائح أفعالي حتى لا أقع في هذه الخجالة، وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) أي أيّ شيء حسابي من ذكر العمل وذكر الجزاء، يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) أي ليت هذه الحالة كانت موتة انتهيت إليها، أو ليت الموتة التي مت بها في الدنيا كانت قطعة لأمري فلم أبعث بعدها ولم ألق ما ألقى، ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) ، و «ما» إما نافية و «مالية» كلمة واحدة، أي ما دفع عني من عذاب الله مالي الذي جمعته في الدنيا أو استفهامية، و «ما ليه» كلمتان. أي أيّ شيء نفعني مما كان لي من المال والأتباع هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29) أي ضلت عني حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا أو ذهب ملكي وتسلطي على الناس وبقيت فقيرا ذليلا، فيقول الله تعالى يومئذ لخزنة النار: خُذُوهُ أيتها الزبانية فَغُلُّوهُ (30) أي شدوه بالأغلال، فيبتدر إليه مائة ألف ملك وتجمع يده إلى عنقه ورجله إلى وراء قفاه إلى ناصيته،
ثُمَّ الْجَحِيمَ أي النار العظمى صَلُّوهُ (31) أي شووه، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها أي قدرها بذراع الملك سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) أي أدخلوه.
قال ابن عباس: تدخل السلسلة من دبره وتخرج من حلقه، ثم يجمع بين ناصيته وقدميه، ثم يجعل في عنقه سائرها. وقال نوف البكالي: كل ذراع سبعون باعا كل باع أبعد مما بين مكة والكوفة، إِنَّهُ كانَ في الدنيا لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34) ، أي ولا يحث على بذل طعام المسكين. وعن أبي الدرداء أنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين ويقول: خلعنا نصف السلسلة بالإيمان أفلا نخلع النصف الباقي! فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) أي فليس له في ذلك الوقت في مجمع القيامة قريب يدفع عنه ويحزن عليه، وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) .(2/558)
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50)
قال الكلبي: هو ما يسيل من أهل النار إذا عذبوا من القيح والدم والصديد، لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ (37) أي المتعمدون للذنوب وهم المشركون. وقرأ الزهري، والعتكي، وطلحة، والحسن «الخاطيون» بياء مضمومة بدل الهمزة. وقرأ نافع- في رواية- وشيبة بطاء مضمومة بدون همز، أي الذين يتخطون الحق إلى الباطل ويتعدون حدود الله فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) ، و «لا» مزيدة أو أصلية رد لإنكارهم البعث، أي أقسم بما تبصرون يا أهل مكة من شيء، كالسماء والأرض، والشمس والقمر، ومحمد صلّى الله عليه وسلّم، وما لا تبصرون من شيء، كالجنة والنار، والعرش، والكرسي وجبريل عليه السلام، فالأشياء لا تخرج من قسمين مبصر وغير مبصر. فالأقسام يعم جميع الأشياء على الشمول، إِنَّهُ أي القرآن لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) على الله وهو النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، وإنما نسب القرآن هنا لرسول الله سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم لأنه الذي أظهره للخلق، ودعا الناس إلى الإيمان به، وجعله حجة لنبوته، ونسب في سورة إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير: 1] إلى سيدنا جبريل عليه السلام، لأنه الذي أنزله من السموات إلى الأرض وهو كلام الله تعالى بمعنى أنه تعالى هو الذي أظهره في اللوح المحفوظ، وهو الذي رتبه، ولذا قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: إن القرآن قول الله نزل به جبريل على رسول كريم محمد صلّى الله عليه وسلّم
وَما هُوَ أي القرآن بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (42) أي ليس هذا القرآن قولا من رجل شاعر، لأنه مباين لصنوف الشعر إلا أنكم لا تقصدون الإيمان به، فلذلك تعرضون عن التدبر ولو قصدتم الإيمان لعلمتم كذب قولكم أنه شعر، 3 وليس بقول رجل كاهن، لأنه وارد بشتم الشياطين، إلا أنكم لا تتذكرون اشتماله على سب الشياطين، فلذلك تقولون: إنه من باب الكهانة و «ما» مزيدة لتأكيد معنى القلة وانتصب قليلا على أنه نعت لمصدر محذوف، أي تؤمنون إيمانا قليلا وتذكرون تذكرا قليلا فإنهم قد يؤمنون في قلوبهم ويتذكرون بها، إلا أنهم يرجعون عن ذلك سريعا، ولا يتمون الاستدلال كما أشار تعالى إلى ذلك بقوله تعالى: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ [المدثر: 18] وقال في آخر الأمران: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ [المدثر: 24] ، وإما نافية فينتفي إيمانهم وتذكرهم ألبتة، أي لا يؤمنون أصلا بأن القرآن من الله ولا يتذكرون أصلا كيفية نظم القرآن.
قال مقاتل: وسبب نزول هذه الآية أن الوليد بن المغيرة قال: إن محمدا ساحر.
وقال أبو جهل: شاعر.
وقال عقبة: كاهن. فرد الله تعالى عليهم بذلك. وقرأ ابن كثير وكذا ابن عامر على خلاف عن ابن ذكوان بالياء التحتية في «يؤمنون» ، و «يذكرون» وخفف ذال «تذكرون» حمزة والكسائي وحفص. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) أي بل هو تنزيل من موجدهم على محمد على وجه التنجيم.
وقرأ أبو السماك «تنزيلا» أي نزل تنزيلا، وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) أي ولو نسب محمد إلينا قولا لم نقله، لأخذنا يمينه، ثم لضربنا رقبته، فإن الوتين(2/559)
وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
هو عرق متصل بالرأس من القلب، وهذا تمثيل بما يفعله الملوك بمن يكذب عليهم، والمراد أنه لو كذب علينا لأمتناه ويقال: لو نسب محمد إلينا قولا لم نأذن له في قوله لسلبنا عنه القوة، ثم لقطعنا نياط قلبه بضرب عنقه، ويقال: لو افترى محمد علينا قولا من الكذب لأخذناه بقوة منا.
وقال مقاتل: لانتقمنا منه بالحق فاليمين بمعنى الحق كقوله تعالى: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ أي من قبل الحق. وقرئ «ولو تقول» على البناء للمفعول فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) أي فليس منكم أيها الناس أحد يمنعنا عن محمدا وعن عقابه، وَإِنَّهُ أي القرآن لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) لأنهم المنتفعون به، وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ أيها الناس مُكَذِّبِينَ (49) بالقرآن بسبب حب الدنيا فنجازيهم على تكذيبهم، وَإِنَّهُ أي القرآن لَحَسْرَةٌ أي ندامة عَلَى الْكافِرِينَ (50) عند مشاهدتهم لثواب المؤمنين يوم القيامة، وكذا
في دار الدنيا إذا رأوا دولة المؤمنين.
قال مقاتل: أي وإن تكذيبهم بالقرآن لحسرة عليهم،
وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) أي وإن القرآن لحق يقين إنه كلامي نزل به جبريل على رسول كريم. ويقال: وإن الحسرة على الكافرين يوم القيامة حق يقين، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) أي اذكر توحيد ربك العظيم تنزيها له عن الرضا بنسبة ما هو بريء منه وشكرا على ما جعلك أهلا لإيحائه إليك.(2/560)
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)
سورة المعارج
وتسمى سورة سأل سائل، مكية، أربع وأربعون آية، مائتان وست عشرة كلمة، ثمانمائة وأحد وستون حرفا
سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ أي طلب طالب عذابا هو واقع بالكافرين في الدنيا والآخرة ليس لذلك العذاب من يدفعه عنهم من جهة الله تعالى، لأنه إذا أوجبت الحكمة وقوعه امتنع أن لا يفعله الله.
قال ابن عباس: هو النضر بن الحارث حيث قال إنكارا واستهزاء: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم، فقتل يوم بدر صبرا هو وعقبة ابن أبي معيط. وقال الربيع: هو أبو جهل حيث قال: أسقط علينا كسفا من السماء. وقيل: وهو الحارث بن النعمان الفهري وذلك أنه لما بلغه قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في علي رضي الله عنه: «من كنت مولاه فعلي مولاه» «1» ، قال: اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء، فما لبث حتى رماه الله تعالى بحجر، فوقع على دماغه، فخرج من دبره، فمات من ساعته، فنزلت هذه الآية.
وقال الحسن وقتادة: لما بعث الله محمدا وخوف المشركين بالعذاب قال المشركون بعضهم لبعض: سلوا محمد لمن هذا العذاب، وبمن يقع؟ فأخبره الله عنهم بقوله: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ أي عن عذاب، فعلى هذا فقوله تعالى: سَأَلَ سائِلٌ حكاية لسؤالهم المعتاد على طريقه قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ [الأعراف: 187] وقوله تعالى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ [يس: 48] .
قال أبو السعود: ولعل هذا القول أقرب وقرأ نافع وابن عامر «سال» بألف محضة. وقرأ ابن عباس: «سال سيل بعذاب واقع للكافرين» أي اندفع عليهم واد من أودية جهنم بعذاب واقع،
__________
(1) رواه أحمد في (م 1/ ص 84، 118) ، وابن ماجة في المقدّمة، باب: في فضائل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.(2/561)
وهذا قول زيد بن ثابت وعبد الرحمن بن زيد. وقرأ أبي «على الكافرين» . ذِي الْمَعارِجِ (3) أي ذي السموات فهو خالقها كما قاله ابن عباس، وسميت معارج، لأن الملائكة يعرجون فيها.
وقال قتادة أي ذي الفواضل والنعم وهي تصل إلى الناس على مراتب مختلفة. وقيل: أي ذي الدرجات التي يعطيها أولياءه في الجنة، تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ وهو جبريل إِلَيْهِ أي إلى انتهاء موضع كرامته تعالى وهو الموضع الذي لا يجري لأحد سواه تعالى فيه حكم. وقيل:
إلى عرشه.
وقرأ الكسائي «يعرج» بالياء التحتية فِي يَوْمٍ من أيامكم كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) من سني الدنيا أي يقطعون في يوم ما يقطعه الإنسان إلى خمسين ألف سنة لو فرض ذلك. وقال وهب: ما بين أسفل العالم إلى أعلى شرفات العرش مسيرة خمسين ألف سنة ومن أعلى السماء الدنيا إلى الأرض مسيرة ألف سنة، لأن عرض كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وما بين أسفل السماء إلى قرار الأرض خمسمائة أخرى.
وقال محمد بن إسحاق: لو سار بنو آدم من الدنيا إلى موضع العرش ساروا خمسين ألف سنة. وقوله تعالى: فِي يَوْمٍ متعلق بتعرج كما عليه الأكثرون.
وقال مقاتل: هو متعلق ب «واقع» وقيل: متعلق ب «سال» بغير همزة وهو الذي من السيلان، وعلى هذا فالمراد بذلك اليوم يوم القيامة، والمراد أن موقفهم للحساب حتى يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سني الدنيا، ثم يستقر أهل النار في دركات النيران. قال بعضهم:
وهذه المدة واقعة في الآخرة لكن على سبيل التقدير، والمعنى: لو اشتغل بتلك الحكومة والمحاسبة أعقل الخلق وأذكاهم لبقي فيه خمسين ألف سنة، ثم إنه تعالى يتمم ذلك القضاء والحساب في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا، فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا (5) أي فاصبر صبرا بلا جزع على استهزاء النضر وأمثاله بك، وعلى تكذيب الوحي، وعلى تعنت كفار مكة في السؤال عليك، فهذا متعلق بقوله تعالى: سَأَلَ ومن قرأ «سال» بألف محضة فمعناه جاء العذاب لقرب وقوعه، فاصبر، فقد جاء وقت الانتقام، إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) أي إن الكفار يستبعدون اليوم الذي كان مقداره خمسين ألف سنة من الإمكان على جهة الإحالة، ونعلمه قريبا من الإمكان هينا في قدرتنا غير متعذر علينا، ويقال: إن كفار مكة يعتقدون العذاب غير واقع يوم القيامة، ونعلمه واقعا لا بد من وقوعه، وهذا تعليل للأمر بالصبر، يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) أي تصير السماء كدردي الزيت، وهذا الظرف متعلق ب «ليس له دافع» أو بما في معناه كيقع، أي يقع العذاب يوم تكون إلخ، أو متعلق ب «قريبا» إذا كان الضمير في نراه للعذاب، وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9) أي تصير الجبال كالصوف المصبوغ ألوانا، وإنما وقع التشبيه به، لأن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، فإذا بست وطيرت في الجو أشبهت العهن المنفوش(2/562)
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30)
إذا طيرته الريح، وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) أي لا يسأل قريب قريبه عن أحواله كيف حالك، ولا يكلمه، لأن لكل أحد ما يشغله عن هذا الكلام، أو لا يسأل حميم عن حميمه ليتعرف شأنه من جهته فلا يقال: لحميم أين حميمك؟
يُبَصَّرُونَهُمْ أي يعرف الحميم الحميم حتى يعرفه وهو مع ذلك لا يسأله عن شأنه لشغله بنفسه.
وقرئ «يبصرونهم» أي يرونهم ولا يعرفونهم اشتغالا بأنفسهم، يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، أي يتمنى المشرك أن يفدي نفسه من عذاب يوم القيامة بأولاده وزوجته وأخيه، وأقاربه الأقربين الذين فصل عنهم، وينتهي إليهم التي تضمه في النسب وتحميه في النوائب ومن في الأرض جميعا من الخلائق وقرأ نافع والكسائي «يومئذ» بفتح الميم على البناء لإضافة يوم إلى مبني. والباقون بكسرها على الإعراب على الأصل في الأسماء. وقرئ «من عذاب يومئذ» بتنوين «عذاب» ونصب «يومئذ» ب «عذاب» لأنه في معنى تعذيب، ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) معطوف على يفتدي، أي يتمنى الكافر أن يفتدي نفسه بهذه الأشياء ثم أن ينجيه ذلك الافتداء، كَلَّا وهذا هنا إما بمعنى حقا، فحينئذ كان الوقف على «ينجيه» وهو وقف تام. وإما بمعنى لا فحينئذ كان الوقف على «كلا» وهو وقف تام، وهذا أولى، ولا يجمع بينهما في الوقف بل الوقف في أحدهما فقط أي لا ينفعه ذلك الافتداء ولا ينجيه من العذاب، إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) .
وقرأ حفص بالنصب على الاختصاص، أو على حال مؤكدة، والكناية عائدة على النار لدلالة لفظ العذاب عليها، وقرأ الباقون بالرفع فتجعل الكناية حرف عماد و «لظى» اسم «إن» و «نزاعة» خبرها، كأنه قيل: إن لظى نزاعة، أو تجعل ضمير القصة وهو اسم إن و «لظى» مبتدأ و «نزاعة» خبرا، والجملة خبر عن «إن» والتقدير: أن القصة لظى نزاعة للشوى أي قلاعة للأعضاء التي في أطراف الجسد، ثم تعود كما كانت وهكذا أبدا فلا تترك لحما ولا جلدا إلا أحرقته تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ عن الطاعة وَتَوَلَّى (17) عن الإيمان وَجَمَعَ فَأَوْعى (18) أي جمع المال فجعله في وعاء ولم يؤد حقوقه، أي إن النار تدعوهم بلسان الحال أو أن الله تعالى يخلق الكلام في جرم النار حتى تقول
صريحا: إلي يا كافر إلي يا منافق، ثم تلتقطهم الحب فقوله تعالى: أدبر وتولى، إشارة إلى الإعراض عن معرفة الله تعالى وطاعته وقوله: وَجَمَعَ إشارة إلى الحرص وقوله: فَأَوْعى إشارة إلى طول الأمل وهذه مجامع آفات الدين. إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) أي جبل جبلة هو فيها قلة الصبر وشدة الحرص إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) ، أي إذا أصابه الفقر والمرض ونحوهما صار جازعا شاكيا،
وإذا أصابه السعة والصحة صار مانع المعروف شحيحا بماله، غير ملتفت إلى الناس، وإنما ذم الله الإنسان على ذلك، لأنه قاصر النظر عن الأحوال الجسمانية العاجلة، فالواجب عليه أن يكون مشغولا بأحوال(2/563)
فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40)
الآخرة، فإذا وقف في مرض أو فقر كان راضيا به لعلمه أنه فعل الله تعالى، وإذا وجد المال والصحة صرفهما إلى طلب السعادات الأخروية، إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23) بأن لا يتركوها في وقت من الأوقات ولا يشغلهم عنا شاغل، وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) أي نصيب معين يستوجبونه على أنفسهم تقربا إلى الله تعالى وإشفاقا على الناس، لِلسَّائِلِ أي الذي يسأل وَالْمَحْرُومِ (25) أي الذي يتعفف عن السؤال فيحسب غنيا، فيحرم، وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) حيث يتعبون أنفسهم في الطاعات البدنية والمالية طمعا في التوبة الأخروية، فيستدل بذلك على تصديقهم بيوم الجزاء، وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) أي خائفون على أنفسهم مع مالهم من الأعمال الفاضلة استعظاما لجنابه تعالى واستقصارا لأعمالهم الحسنة. إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) فلا ينبغي لأحد أن يأمن عذابه تعالى وإن بالغ في الطاعة، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أي الأربع أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ من الولائد بغير عدد، فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) بالاستمتاع بهن
فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ أي فمن، طلب لنفسه وراء ما ذكر من الأزواج والمملوكات، فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) أي المجاوزون للحدود، فدخل في هذا حرمة وطء الذكور والبهائم والزنا، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ أي لما ائتمنوا عليه من أمر الدين والدنيا، وَعَهْدِهِمْ فيما بينهم وبين ربهم أو فيما بينهم وبين الناس راعُونَ (32) ، أي حافظون بالوفاء.
وقرأ ابن كثير «لأمانتهم» بالإفراد. وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33) . وقرأ حفص بألف بعد الدال على الجمع. والباقون على التوحيد، أي يقومون بالشهادات بالحق عند الحكام ولا يكتمونها، وهذا الشهادات من جملة الأمانات إلا أنه تعالى خصها من بينها إظهارا لفضلها، لأن في إقامتها إحياء الحقوق، وفي تركها تضييعها.
وروى عطاء عن ابن عباس قال: والمراد الشهادة بأن الله واحد لا شريك له، وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أي يهتمون بحالها حتى يؤتى بها على أكمل الوجوه أُولئِكَ أي الموصوفون بتلك الصفات الثمانية فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) بالثواب والتحف فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) أي أيّ شيء ثبت لكفار مكة مسرعين جهتك، مادي أعناقهم إليك، مقبلين بأبصارهم عليك عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) ، أي مجتمعين فهذه الأربعة أحوال من الموصول.
روي أن المشركين كانوا يحتفون حول النبي صلّى الله عليه وسلّم حلقا حلقا وفرقا فرقا يستمعون منه ويستهزئون بكلامه ويقولون: إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد: فلندخلنها قبلهم فنزلت هذه الآية، أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كما يدخلها المسلمون كَلَّا أي لا يكون ما طمعوا فيه أصلا، لأن ذلك تمن فارغ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) وهو النطفة المذرة فمن أين يتشرفون ويدعون التقدم؟ ويقولون: لندخلن الجنة قبلهم فكيف يليق دخولهم الجنة لو(2/564)
عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
لم يتصفوا بالإيمان والمعرفة؟ فَلا أُقْسِمُ، أي إذا كان الأمر كما ذكر من أنا خلقناهم مما يعلمون فأقسم بِرَبِّ الْمَشارِقِ أي مشارق الشتاء والصيف، وَالْمَغارِبِ أي مغارب الشتاء والصيف فلمشرق الشتاء والصيف مائة وثمانون منزلا، وكذلك للمغربين
إِنَّا لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ، أي بطريق الإهلاك ولم يحصل ذلك وإنما هدد الله تعالى القوم بهذا لكي يؤمنوا وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) أي بعاجزين على أن نبدل خيرا منهم، وليس تأخير عقابهم لعجز بل لحكمة داعية إليه، فَذَرْهُمْ أي اتركهم فيما هم فيه من الأباطيل يَخُوضُوا في باطلهم، وَيَلْعَبُوا في دنياهم، أو يهزئوا في كفرهم حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) وهو يوم البعث عند النفخة الثانية، يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ أي القبور بدل من يومهم بدل كل من كل. وقرئ «يخرجون» على البناء للمفعول سِراعاً إلى جهة صوت الداعي كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ. وقرأه ابن عامر وحفص بضم النون والصاد وهي التي تنصب فتعبد من دون الله تعالى، والباقون بفتح النون وإسكان الصاد، وهي رواية وقرأ أبو عمران الجوني ومجاهد بفتحتين أي منصوب كالعلم. وقرأ الحسن وقتادة بضمة فسكون وهو الصنم المنصوب للعبادة يُوفِضُونَ (43) أي يسرعون خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ فلا يرفعونها ولا يرون خيرا تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ أي يعلوهم سواد الوجوه، ذلِكَ أي وقوع الأحوال الهائلة الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44) في الدنيا إن لهم فيه العذاب، وهذا هو العذاب الذي سألوا عنه.(2/565)
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10)
سورة نوح
مكية، ثمان وعشرون آية، مائتان وأربع وعشرون كلمة، تسعمائة وتسعمائة وعشرون حرفا
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ وكانوا جميع أهل الأرض أهل عصره أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ وأن حرف مصدري والمعنى: أرسلناه بأن قلنا له: «أنذر» أي أرسلناه بالأمر بالإنذار، ويجوز أن تكون مفسرة. وقرأ ابن مسعود «أنذر» بغير «أن» على إرادة القول والتقدير: أنا أرسلناه وقلنا له: أنذر، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) على ما هم عليه من الأعمال الخبيثة، فلما جاءهم قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أي موضح لحقيقة الأمر بلغة تعلمونها، أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ فالأمر بالعبادة يتناول جميع الواجبات والمندوبات من أفعال القلوب وأفعال الجوارح، والأمر بالتقوى، ويتناول الزجر عن جميع المحظورات والمكروهات، وَأَطِيعُونِ (3) فالأمر بطاعة نوح يتناول أداء جميع المأمورات وترك جميع المنهيات، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ أي بعض ذنوبكم وهو ما سلف في الجاهلية فالإسلام يجبه، وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي إلى أمد قدره الله تعالى لهم بشرط الإيمان أي إن الله قضى على قوم نوح مثلا إن آمنوا عمرهم الله ألف سنة، وإن بقوا على كفرهم أهلكهم الله على رأس تسعمائة سنة، إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ أي إن ما قدر الله لكم على تقدير بقائكم على الكفر إِذا جاءَ وأنتم على ما أنتم عليه من الكفر لا يُؤَخَّرُ فبادروا إلى الإيمان والطاعة قبل مجيئه، لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) شيئا لسارعتم إلى ما أمرتكم به، فلما أيس نوح منهم بعد ما دعاهم ألف سنة إلا خمسين عاما، فلم يؤمنوا ولم يقبلوا نصيحته. قالَ أي نوح: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي إلى الإيمان والطاعة لَيْلًا وَنَهاراً (5) أي دائما، من غير فتور فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً (6) مما دعوتهم إليه وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ إلى الإيمان والتوبة لِتَغْفِرَ لَهُمْ بسببهما، جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ أي سدوا مسامعهم لكيلا يسمعوا دعوتي وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ أي غطوا رؤوسهم بثيابهم لكي لا يسمعوا صوتي ولا يروني، وَأَصَرُّوا على الكفر والمعاصي وَاسْتَكْبَرُوا عن الإيمان والتوبة اسْتِكْباراً (7) عظيما بالغا إلى النهاية القصوى، ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ إلى التوحيد والتوبة جِهاراً (8) أي بأعلى صوتي، ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ(2/566)
يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
إِسْراراً
(9) ، فمراتب دعوة نوح عليه السلام ثلاثة فبدأ بالمناصحة في السر، فجازوه بالأمور الأربعة، ثم ثنى بالمجاهرة، وهي أشد من الإسرار، ثم جمع بين الإعلان والإسرار والجمع بينهما أغلظ من الإفراد فَقُلْتُ لهم: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ بالتوبة عن الكفر والمعاصي إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) في حق كل من استغفره
يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) أي مطرا دائما، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ، أي يعطكم أموالا إبلا وبقرا وغنما وبنين ذكورا وإناثا، وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ أي بساتين وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) تجري لمنافعكم. قيل: لما كذبوا نوحا عليه السلام حبس الله عنهم المطر أربعين سنة، وقطع نسل دوابهم ونسائهم أربعين سنة وأهلك جناتهم،
وأيبس أنهارهم قبل ذلك بأربعين سنة فوعدهم نوح أنهم إن آمنوا أن يرزقهم الله تعالى الخصب ويدفع عنهم ما كانوا فيه ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) أي أيّ سبب حصل لكم حال كونكم غير معتقدين لله تعالى عظمة موجبة لتعظيمه بالإيمان به والطاعة له وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14) ، أي والحال أن الله خلقكم على حالات شتى نطفا، ثم علقا ثم مضغا ثم خلقكم عظاما ولحما، ثم أنشأكم خلقا آخر وهو إلقاء الروح فيه ويقال: والحال أنه تعالى خلقكم أصنافا مختلفين يخالف بعضكم بعضا، أَلَمْ تَرَوْا أي ألم تخبروا يا كفار مكة كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) أي متوازية بعضها فوق بعض مثل القبة، ملتزقة أطرافها، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً أي منورا لوجه الأرض في ظلمة الليل ونسبته للكل مع أنه في السماء الدنيا، لأن كل واحدة من سبع سموات شفافة لا يحجب ما وراءها، فيرى الكل كأنها سماء واحدة، وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) يزيل الظلمة ويبصر أهل الدنيا في ضوئها وجه الأرض، كما يبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى أبصاره. وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) أي أنبتكم من الأرض، فنبتم نباتا عجيبا، والمعنى: والله أنشأكم منها فنشأتم نشأة عجيبة، فإنه تعالى إنما يخلقنا من النطف وهي متولدة من الأغذية المتولدة من النبات، المتولد من الأرض ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها بالدفن عند موتكم، وَيُخْرِجُكُمْ منها عند البعث والحشر، إِخْراجاً (18) محققا لا ريب فيه، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19) تتقلبون عليها تقلبكم على بسطكم في بيوتكم لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً (20) أي لتأخذوا فيها طرقا واسعة.
قالَ نُوحٌ مناجيا له تعالى: رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي فيما أمرتهم به من التوحيد والتوبة، وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً (21) وهم رؤساؤهم الذين يدعونهم إلى الكفر. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم «ولده» بفتح الواو واللام. والباقون بضم الواو وإسكان اللام وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) معطوف على صلة من أي واتبعوا من مكروا إلخ، أي كأن الرؤساء قالوا لأتباعهم: إن آلهتكم خير من إله نوح، لأن آلهتكم يعطونكم المال والولد، وإله نوح لا يعطيه شيئا، لأنه فقير فبهذا المكر صرفوهم عن طاعة نوح أو قالوا لأتباعهم هذه الأصنام آلهة لكم، وكانت آلهة لآبائكم فلو قبلتم قول نوح لاعترفتم على أنفسكم بأنكم كنتم جاهلين ضالين وعلى آبائكم بأنهم كانوا كذلك. وهذه(2/567)
الإشارة صارفة لهم عن الدين وقرأ العامة كبارا بضم الكاف وتشديد. الباء وقرأ عيسى وأبو السماك وابن محيصن بالضم والتخفيف. وقرأ زيد بن علي وابن محيصن أيضا بكسر الكاف وتخفيف الباء. وَقالُوا أي الرؤساء للسفلة معطوف على الصلة أيضا، أي واتبعوا من قالوا:
لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ أي لا تتركوا عبادتها إلى عبادة رب نوح، وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) أي ولا تتركن عبادة هؤلاء. وقرأ نافع «ودا» بضم الواو والباقون بفتحها وقرأ العامة «يغوث ويعوق» بغير تنوين للعلمية والوزن، أو للعلمية والعجمة. وقرأهما الأعمش مصروفين للتناسب أو على لغة من يصرف غير المنصرف مطلقا ولعل هذه الأسماء الخمسة أسماء أولاد آدم، فلما ماتوا قال إبليس لمن بعدهم: لو صورتم صورهم فكنتم تنظرون إليهم ففعلوا فلما مات أولئك قال لمن بعدهم: إنهم كانوا يعبدونهم فعبدوهم حتى بعث الله نوحا عليه السلام، ولهذا السبب نهى الرسول عن زيارة القبور أولا، ثم أذن فيها وقال: كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإن زيارتها تذكرة، وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً معطوف على صلة من أي واتبعوا من قد أضلوا خلقا كثيرا وهم الرؤساء، أو الأصنام أجريت مجرى الآدميين كقوله تعالى: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ.
وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ أي المشركين إِلَّا ضَلالًا (24) أي عذابا أو ضلالا في أمر دنياهم، وهذا معطوف على قوله تعالى: رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي على حكاية كلام نوح بعد «قال» ، وبعد «الواو» النائبة عنه، قالوا: وليست من كلام نوح لئلا يعطف الإنشاء على الإخبار لكن الظاهر أن المراد بالأخبار طلب للنصرة عليهم، فيجوز أن تكون الواو من كلام نوح، أي قال نوح: رب إنهم عصوني وقد عجزت وأيست عنهم فانصرني عليهم وقال: لا تزد الظالمين إلا ضلالا، مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا و «ما» صلة و «من» تعليلية أي من أجل خطيئاتهم وبسببها أغرقوا بالطوفان لا بسبب آخر، وقرأ أبو عمرو «خطاياهم» . وقرأ ابن مسعود «من خطيئاتهم ما أغرقوا» فأخّر كلمة «ما» فعلى هذه القراءة ف «ما» مع ما بعده في تقدير المصدر. وقرئ «خطياتهم» بقلب الهمزة ياء وإدغام الياء فيها. وقرئ «خطيئتهم» بالتوحيد على إرادة الجنس، أو إرادة الكفر فقط والخطيئات والخطايا كلاهما جمع خطيئة إلا أن الأول جمع سلامة، والثاني جميع تكسير فَأُدْخِلُوا ناراً في القبر فإن عذاب القبر عقب الإغراق وإن كانوا في الماء، لأن الفاء تدل على أن إدخالهم في النار حصل عقب الإغراق فلا يمكن حمل النار على عذاب جهنم في الآخرة.
قال الضحاك: إنهم كانوا في حالة واحدة يغرقون من جانب ويحرقون في الماء من جانب بقدرة الله تعالى، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25) . وهذا تعريض بأنهم إنما واظبوا على عبادة الأصنام لتكون دافعة للآفات عنهم جالبة للمنافع إليهم، فلما جاءهم عذاب الله لم ينتفعوا بتلك الأصنام، وما قدرت هي على دفع عذاب الله تعالى عنهم. وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) أي أحدا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ عن دينك من آمن بك ومن أراد أن(2/568)
يؤمن بك، وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً (27) أي إلا من سيفجر ويكفر، رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ أي أبوي لمك وشمخا بنت أنوش، فإنهما كانا مؤمنين وأخرج ابن أبي حاتم أن المراد: والده وجده، فاسم أبيه لمك واسم جده متوشلخ بفتح الميم وتشديد المثناة الفوقية المضمومة بعدها واو ساكنة وفتح الشين المعجمة واللام بعدها خاء معجمة. وقرأ الحسن بن علي رضي الله عنهما، ويحيى ابن يعمر والنخعي ولولدي، أي ابني سام وحام. وقرأ ابن جبير والجحدري ولوالدي بكسر الدال، أي أبي فيحتمل أن يريد عليه السلام أباه الأقرب الذي ولده وأن يريد جميع من ولده، من لدن آدم إلى من ولده وكان بينه وبين آدم عشرة آباء ولم يكن منهم كافر كما قاله عطاء، وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ أي منزلي، أو مسجدي أو سفينتي. وقيل: لمن دخل دخولا مع تصديق القلب مُؤْمِناً خرجت بهذا القيد امرأته وابنه كنعان، وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ الذين يكونون من بعدي إلى يوم القيامة وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ أي الكافرين إِلَّا تَباراً (28) أي إلّا هلاكا فاستجاب الله دعاءه عليه السلام فأهلكهم بالكلية.(2/569)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)
سورة الجن
وتسمى قل أوحى، مكية، ثمان وعشرون آية ومائتان وخمس وثمانون كلمة، ثمانمائة وسبعون حرفا
قُلْ يا أشرف الخلق: أُوحِيَ إِلَيَّ وقرأ أبو عمرو في رواية يونس وهارون وحي بضم الواو بغير ألف. وقرئ «أحي» بالهمزة من غير واو، أي أنزل إلى جبريل فأخبرني أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ، أي أن الشأن استمع القرآن تسعة نفر من جن نصيبين باليمن، فَقالُوا بعد ما آمنوا ورجعوا إلى قومهم: يا قومنا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً أي كتابا مقروءا عَجَباً (1) ، أي خارجا عن عادة أمثاله من الكتب الإلهية مباينا لكلام الناس في حسن النظم ودقة المعنى يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ أي إلى الصواب وهو لا إله إلا الله، فَآمَنَّا بِهِ أي بذلك القرآن، أو بالرشد الذي في القرآن- وهو التوحيد- وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) ولن نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك به وذكر الحسن أن منهم يهودا ونصارى ومجوسا ومشركين، وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا أي وأن الحديث ارتفع عظمة ربنا، أي عظم سلطانه، أو ارتفع غناه، أي وصفه بالاستغناء عن الزوجة والولد، أو تعالى حقيقته عن جميع جهات التعلق بالغير. وقرئ «جد ربنا» بكسر الجيم أي تعالى صدق ربوبيته عن اتخاذ الصاحبة والولد. وقرئ «جدا ربنا» بنصب «جدا» على التمييز مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) .
هذه الجملة مفسرة لما قبلها وبعضهم جعل «ما» مصدرية متعلقة بتعالى، فحينئذ تكون «لا» زائدة، أي تعالى صفة ربنا ما اتخذ زوجة وولدا كما نسبه الكفار، وَأَنَّهُ أي الحديث كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا أي جاهل منا وهو إبليس عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) أي قولا مجاوزا للحد بعيدا عن الصدق وهو وصفة تعالى بإثبات الشريك والصاحبة والولد، وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) أي كنا نظن أنه لن يكذب على الله تعالى أحد أبدا، ولذلك اتبعنا قوله. وهذا اعتذار منهم تقليدهم لسفيههم إبليس، وَأَنَّهُ أي الحديث كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ في الجاهلية يَعُوذُونَ أي يلتجئون بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) أي ظلما وذلك أنهم إذا سافروا سفرا، أو اصطادوا صيدا، أو
نزلوا واديا خافوا من الجن لأنها تعبث بهم في بعض الأحيان فقالوا: نعوذ(2/570)
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20)
بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فيأمنون بذلك ولا يرون إلا خيرا فتزيد الجن والإنس إضلالهم حتى استعاذوا بهم، وَأَنَّهُمْ أي الإنس ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أيها الجن أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) بعد الموت أو أنه لن يبعث الله أحدا للرسالة على ما هو مذهب البراهمة، وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وأنا قبل أن آمنا طلبنا بلوغ السماء لاستماع كلام أهلها فصادفناها قد ملئت من جهة الحراس الأقوياء، وهم الملائكة الذين يمنعون من الاستماع ومن شعل منقضة من نار الكواكب، وَأَنَّا كُنَّا قبل مبعث محمد نَقْعُدُ مِنْها أي السماء مَقْعَدِ خالية من الحرس لِلسَّمْعِ أي لأجل الاستماع، فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ أي بعد مبعث محمد في مقعد من المقاعد يَجِدْ لَهُ أي لأجله شِهاباً رَصَداً (9) أي شهابا قد أرصد له ليرجم به، وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) أي وأنا لا نعلم أشر أريد بمن في الأرض حين منعنا عن الاستماع، أم أراد بهم ربهم خيرا، أي ولما سمعوا قراءة النبي صلّى الله عليه وسلّم علموا أنهم منعوا من صعود السماء حراسة للوحي،
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ أي المتقون، وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ أي ومنا قوم غير صالحين كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) . أي كنا قبل هذا ذوي مذاهب مختلفة.
قال السدي: الجن أمثالكم فيهم مرجئة، وقدرية، وروافض، وخوارج وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ أي وأنا علمنا الآن أن الشأن لن نعجز الله أينما كنا من أقطار الأرض، وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) أي هاربين من الأرض إلى السماء، فليس لنا مهرب إلا في قبضته، وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى أي القرآن من النبي صلّى الله عليه وسلّم آمَنَّا بِهِ أي بالقرآن، فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) ، أي فمن يؤمن بربه فهو لا يخاف نقصا في جزاء حسناته، ولا ظلما بزيادة جزاء سيئاته، وهذا دليل على أن من حق من آمن بالله تعالى أن يجتنب المظالم. وقرأ الأعمش «فلا يخف» ، وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ أي وأنا بعد سماع القرآن مختلفون، فمنا المخلصون في صفة الإسلام، ومنا المائلون عن طريق الحق، فَمَنْ أَسْلَمَ أي أخلص بالتوحيد فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) أي وقصدوا طريق صواب، أَمَّا الْقاسِطُونَ
أي المائلون عن سنن الإسلام، كانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
(15) . والجن وإن خلقوا من النار توقد نار جهنم بهم، كما توقد بكفرة الإنس فإن النار القوية تأكل النار الضعيفة. وقيل: هاهنا آخر كلام الجن، وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا و «أن» مخففة من الثقيلة، والجملة معطوفة على أنه استمع والمعنى وأوحى إلى أن الحديث لو استقام الجن والإنس عَلَى الطَّرِيقَةِ أي على ملة الإسلام لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) أي ولوسعنا عليهم الرزق. وقرأ الأعمش بضم واو لو تشبيها بواو الضمير، لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أي في ذلك الماء الذي هو كناية عن العيش الواسع فإن من آمن بالله فأنعم الله عليه كان ذلك الإنعام اختبارا حتى يظهر أنه هل يشتغل بالشكر أم لا؟ وهل ينفق تلك النعم في طلب مراضي الله أو في مراضي الشيطان؟ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ أي عن طاعته وعن كتاب ربه القرآن يَسْلُكْهُ عَذاباً(2/571)
قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
صَعَداً
(17) أي يدخله في عذاب شديد. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالياء التحتية لإعادة الضمير على الله. والباقون بالنون.
روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن «صعدا» جبل في جهنم وهو صخرة ملساء، أو نحاس، فيكلف الكافر صعودها، ثم يجذب من أمامه بسلاسل ويضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاها في أربعين سنة، فإذا أعلاها جذب إلى أسفلها، ثم يكلف الصعود مرة أخرى فهذا دأبه أبدا، وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ أي وأوحي إلي أن المساجد لله فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) ، أي فلا تعبدوا مع الله أحد أحدا غيره، والمراد بالمساجد البيوت التي تبنيها أهل الملل للعبادة، فيدخل فيها الكنائس والبيع، ومساجد المسلمين، وذلك أن أهل الكتاب يشركون في صلاتهم في البيع والكنائس، فأمر الله المسلمين بالتوحيد والإخلاص، وَأَنَّهُ أي وأوحى إلى أن الحديث لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) ، أي لما قام النبي يعبد الله لصلاة الفجر ببطن نخل كاد الجن يزدحمون عليه متراكمين تعجبا مما رأوا من عبادته ومن اقتداء أصحابه به قائما، وراكعا، وساجدا وإعجابا بما تلا من القرآن، لأنهم رأوا ما لم يروا مثله، وسمعوا ما لم يسمعوا مثله، وقرأ نافع وشعبة بكسر الهمزة على الاستئناف بناء على أن هذا من كلام الجن لا من جملة الموحى، والمعنى: وأنه لما أقام النبي يعبد الله وحده مخالفا للمشركين في عبادتهم الأوثان كاد المشركون يزدحمون عليه متراكمين ليبطلوا الحق الذي جاء به ويطفئوا نور الله، فأبى الله إلا أن ينصره على من عاداه، وقرأ هشام «لبدا» بضم اللام. والباقون بكسرها.
واعلم أن «أن» المشددة في هذه السورة ستة عشرة، ثنتان منها يجب فيهما الفتح «أنه استمع» و «أن المساجد لله» . وواحدة يجب فيها الكسر «إنا سمعنا» . وثلاثة عشر يجوز فيها الوجهان فالاثنتا عشرة فتحها الأخوان وابن عامر، وحفص، وكسرها الباقون وهي: و «أنه تعالى جد ربنا» و «أنه كان يقول» و «أنا ظننا» ، و «أنه كان رجال» و «أنهم ظنوا» ، و «أنا لمسنا السماء» ، و «أنا منا» و «أنا لا ندري» ، و «أنا منا الصالحون» و «أنا ظننا» و «أنا لما سمعنا» ، و «أنا منا المسلمون» . والواحدة كسرها ابن عامر وأبو بكر، وفتحها الباقون وهي: و «أنه لما قام عبد الله» قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي أي أعبده وأدعو الخلق إليه، وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) أي ولا أشرك بربي في العبادة أحدا. قرأ العامة «قال» على الغيبة. وقرأ عاصم وحمزة «قل» ليكون نظير لما بعده، وسبب نزول هذه الآية أن كفار قريش قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إنك جئت بأمر عظيم، وقد عاديت الناس كلهم، فارجع عن هذا، ونحن نجيرك. فنزلت. وهذا حجة لعاصم وحمزة، ومن قرأ «قال» حمل ذلك على أن القوم لما قالوا ذلك أجابهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «إنما أدعو ربي» ، فحكى الله ذلك عنه بقوله قال: أو يكون ذلك من بقية حكاية الجن أحوال الرسول لقومهم،
قُلْ يا أشرف الخلق لهؤلاء الذين خالفوك: إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) ، أي إني لا أقدر أن(2/572)
أدفع عنكم ضرا وكفرا، ولا أسوق إليكم نفعا ولا هدى. وقيل: الضر الموت، والرشد الحياة.
ومعنى الكلام أن النافع والضار، والمرشد والمغوي هو الله وأن أحدا من الخلق لا قدرة له عليه، وقرأ أبيّ «غيا ولا رشدا» . قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ إن عصيته وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) أي ملجأ، وموضع الاختفاء إن أرادني بضر، إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ. وهذا استثناء من قوله:
لا أَمْلِكُ وقوله: وَرِسالاتِهِ عطف على بلاغا ومن الله صفته لا صلته، أي لا أملك لكم إلا تبليغا كائنا منه تعالى ورسالاته التي أرسلني بها، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في الأمر بالتوحيد فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ العامة على كسر همزة إن لأن ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء، ولذلك حمل سيبويه ومن عاد فينتقم الله منه، ومن كفر فأمتعه، ومن يؤمن بربه فلا يخاف، على أن المبتدأ فيها مضمر. وقرأ طلحة بفتحها على أنها مع ما في حيزها في تأويل مصدر واقع خبرا لمبتدأ مضمر تقديره: فجزاؤه أن له نار جهنم، أو فحكمه أن له نار جهنم كقوله تعالى: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [الأنفال: 41] أي فحكمه أن لله خمسه، خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) بلا نهاية حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ من فنون العذاب في الآخرة فَسَيَعْلَمُونَ حينئذ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24) ، أي أعوانا، فهناك يظهر أن القوة والعدد في جانب المؤمنين، أو في جانب الكفار، قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) ، أي أجلا بعيدا لما سمع المشركون ذلك قال النضر بن الحرث إنكارا له واستهزاء به: متى يكون ذلك الموعود؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية: قُلْ لمن تعجلوا بالعذاب إِنْ أَدْرِي فإن وقوعه متيقن، أما وقت وقوعه فغير معلوم، عالِمُ الْغَيْبِ خبر مبتدأ محذوف، أي هو عالم بنزول العذاب. وقرئ بالنصب على المدح. وقرأ السدي «علم الغيب» بصيغة الماضي ونصب «الغيب» ، فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) أي لا يطلع الله على غيبه اطلاعا كاملا ينكشف به جلية الحال انكشافا تاما موجبا لعين اليقين أحدا من خلقه، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ، أي إلا رسولا ارتضاه لاطلاعه على بعض غيوبه المتعلقة برسالته. وقرأ الحسن «يظهر» بفتح الياء والهاء و «أحد» فاعل به، فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) أي فإن الله تعالى يجعل من جميع جوانب ذلك الرسول عند اطلاعه على غيبه حرسا من الملائكة يحفظونه من الجن لئلا يستمعوا قراءة جبريل، فيلقوها إلى النكهة قبل الرسول، حتى يبلغ جبريل ما أطلعه الله عليه من بعض الغيوب.
وقال مقاتل وغيره: كان الله إذا بعث رسولا أتاه إبليس في صورة ملك يخبره، فيبعث الله من بين يديه ومن خلفه رصدا من الملائكة يحرسونه ويطردون الشياطين عنه، فإذا جاءه شيطان في صورة ملك أخبروه بأنه شيطان، فيحذره، فإذا جاءه ملك قالوا له: هذا رسول ربك لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ واللام متعلق ب «يسلك» ،
وضمير «أبلغوا» إما للرصد فالمعنى أنه تعالى يسلكهم من جميع جوانب المرتضى ليعلم الله أن الشأن قد أبلغ الرصد رسالات ربهم سالمة عن(2/573)
الاختطاف والتخليط علما حاصلا بالفعل، وإما لمن ارتضى فالمعنى: ليعلم أنه قد أبلغ الرسل الموحى إليهم رسالات ربهم إلى أممهم كما هي من غير اختطاف ولا تخليط بعد ما أبلغها الرصد إليهم كذلك، وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ حال من فاعل «يسلك» ، أي يسلكهم ليترتب على السلك علمه تعالى بما ذكر والحال أنه تعالى قد أحاط بما عند الرصد، أو عند الرسل من الأحوال جميعا، وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ مما كان وما سيكون عَدَداً (28) أي فردا فردا. وهو تمييز منقول من المفعول به. وقرئ «ليعلم» بالبناء للمفعول.(2/574)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)
سورة المزمل
وهي عشرون آية، مائتان وخمس وثمانون كلمة، ثمانمائة وثمانية وثلاثون حرفا
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) خوطب به النبي صلّى الله عليه وسلّم تهجينا لما كان عليه من الحالة حيث كان صلّى الله عليه وسلّم متلففا بقطيفة، مستعد للنوم كما يفعله من لا يهمه أمر، فأمر بأن يترك التزمل إلى التشمر للعبادة، والهجود إلى التهجد. وقرئ «يا أيها المتزمل» . قُمِ اللَّيْلَ أي قم إلى صلاة الليل إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ بدل من الليل، أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أي أو انقص القيام من النصف نقصا قليلا إلى نصف النصف، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ أي أو زد القيام على النصف إلى الثلثين، وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) أي بين القرآن في أثناء القيام تبيينا بأن يبين جميع الحروف، ويوفي حقها إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) ، أي سنوحي قرآنا منطويا على تكاليف شاقة على المكلفين، إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً بفتح الواو وسكون الطاء عند الجمهور. وقرأ قتادة وشبل بكسر الواو وسكون الطاء، والمعنى: أن قيام الليل بالصلاة هي أشد نشاطا وثبات قدم.
وقرأ أبو عمرو وابن عامر «وطاء» بكسر الواو وفتح الطاء، أي موافقة للخشوع والإخلاص وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) أي أصوب قراءة، وأحسن لفظا من النهار لسكون الأصوات، إِنَّ لَكَ يا سيد الرسل فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا (7) ، أي تقلبا طويلا في مهماتك فلا تتفرغ لخدمة الله إلا بالليل.
وقرئ «سبخا» بالخاء المنقطة من فوق، أي تفرق قلب بالشواغل ويقال المعنى: إن فاتك من الليل شيء فلك في النهار فراغ فاصرفه إليه، وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ أي دم على ذكر اسم ربك ليلا ونهارا على أيّ وجه كان من تسبيح وتهليل، وتحميد، ودعاء، وصلاة، وقراءة قرآن، ودراسة علم.
قال سهل: أي قل بسم الله الرحمن الرحيم في ابتداء قراءتك توصلك ببركة قراءتها إلى ربك وتقطعك عما سواه اه. أي سواء قرأت في الصلاة أو في خارجها، وهذا إذا قرأ من أول سورة، وأما إذا قرأ من أثناء سورة فإنه إن كان في غير الصلاة سن له أن يبسمل وإن كان فيها لم تسن له البسملة، لأن قراءة السورة بعد الفاتحة تعد قراءة واحدة، وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) أي انقطع إلى الله تعالى عن الدنيا بإخلاص العبادة، رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ.
قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بالجر على البدل من ربك، أو على القسم بإضمار حرف(2/575)
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
القسم، وعند ابن عباس، لكن قراءته «رب المشارق والمغارب» . والباقون بالرفع على المدح وهو خبر مبتدأ محذوف والتقدير: هو أو على الابتداء وخبره جملة، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) فالإنسان في مبدأ السير يكون طالبا للحصة فيكون تبتله إلى الله تعالى بسبب كونه مبدأ للتكميل ثم في آخر السير يترقى عن طلب الحصة فيكون في هذه الحالة بسبب كونه كاملا فقوله:
رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إشارة إلى الحالة الأولى التي هي أول درجات المتبتلين. وقوله: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إشارة إلى الحالة الثانية التي هي منتهى درجات المتبتلين. وقوله: فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا إشارة إلى مقدم التفويض وهو أن يرفع الاختيار ويفوض الأمر بالكلية إليه تعالى، فإن أراد الله أن يجعله متبتلا رضي بالتبتل، وإن أراد له عدم التبتل رضي الله به لا من حيث ذلك بل من حيث ذلك مراد الله تعالى وهاهنا آخر الدرجات، وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ مما لا خير فيه فمن أراد المخالطة مع الخلق فلا بد له من الصبر الكثير، وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا (10) بأن يجانبهم بقلبه ويخالفهم في الأفعال مع المداراة، وترك المكافأة وهذا هو الأخذ بإذن الله فيما يكون أدعى إلى القبول فلا يأتي النسخ بمثله،
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ أي اتركني وأرباب التنعم وكل أمرهم إلي، وهم صناديد قريش، وهذا بفتح النون فهو بمعنى الترفه، إما بكسرها فهي بمعنى الأنعام وإما بضمها فهي بمعنى المسرة، وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) أي زمانا قليلا أيام الحياة الدنيا فقتلوا ببدر، إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا أي إن لهم عندنا في الآخرة أمورا مضادة لتنعمهم قيودا تقيد بها أرجلهم وأغلالا تغل بها إيمانهم إلى أعناقهم وسلاسل توضع في أعناقهم، وَجَحِيماً (12) أي نارا عظيمة يدخلونها وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ، أي تمسك في الحلوق وهو الزقوم والضريع وَعَذاباً أَلِيماً (13) وهو أنواع العذاب يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ متعلق بالاستقرار الذي تعلق به لدينا، أي استقر لهم عندنا ما ذكر يوم تزلزل الأرض وأوتادها، وقرأ زيد بن علي «ترجف» مبنيا للمفعول، وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا (14) ، أي وصارت الجبال ترابا متناثرا بعضه على بعض لرخاوته، وسمي الكثيب كثيبا، لأن ترابه دقاق، إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ يا أهل مكة رَسُولًا- محمدا صلّى الله عليه وسلّم- شاهِداً عَلَيْكُمْ أي يشهد يوم القيامة بما صدر عنكم من الكفر التكذيب، كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ ملك مصر رَسُولًا (15) - وهو موسى عليه السلام- فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ الذي أرسلناه إليه، فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا (16) أي فعاقبناه عقوبة شديدة- وهي الغرق- فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) أي فكيف تقون أنفسكم إن بقيتم على الكفر في الدنيا عذاب يوم يصير ذلك اليوم الولدان شمطا، إذا سمعوا حيث يقول الله لآدم: ابعث بعثا من ذريتك إلى النار. قال آدم: يا رب، من كم؟ قال الله تعالى: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة. وقرأ زيد بن علي «يوم يجعل» بإضافة الظرف للجملة والفاعل ضمير راجع إلى الله تعالى، أي فكيف لكم يا أهل مكة بالتقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا، السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ، أي منشق بذلك(2/576)
اليوم لشدة هوله وهذه الجملة صفة ثانية ل «يوما» وقرئ «متفطر» أي متشقق، كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) والمصدر إما مضاف للمفعول أي كان وعد ذلك اليوم مفعولا، أي كان الوعد المسند إلى ذلك اليوم واجب الوقوع، لأن حكمة الله تعالى وعلمه يقتضيان إيقاعه، وإما مضاف إلى الفاعل أي كان وعد الله لمجيء ذلك اليوم واقعا لا محالة، لأنه تعالى منزه عن الكذب، إِنَّ هذِهِ أي الآيات تَذْكِرَةٌ أي موعظة مشتملة على أنواع الإرشاد فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) أي فمن شاء النجاة اشتغل بالطاعة واحترز عن المعصية، فإن ذلك هو المنهاج الموصل إلى مرضاته تعالى، إِنَّ رَبَّكَ يا أشرف الخلق يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ.
قرأهما ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي بنصبهما معطوفين على «أدنى» ، أي أنك تقوم أقل من الثلثين وتقوم النصف والثلث. والباقون بجرهما معطوفين على «ثلثي الليل» ، أي تقوم أقل من ثلثي الليل وأقل من النصف والثلث، وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ معطوف على ضمير «تقوم» ، أي ويقوم معك جماعة من أصحابك، وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ فلا يعلم مقادير أجزاء الليل والنهار إلا الله تعالى عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ، أي علم الله إن الحديث لن تقدروا على تقدير الأوقات، ولن تستطيعوا ضبط الساعات أبدا، فالضمير عائد إلى مصدر الفعل، أي علم أنه لا يمكنكم إحصاء مقدار كل واحد من أجزاء الليل والنهار على الحقيقة، ولا يمكنكم تحصيل تلك المقادير على سبيل الظن إلا مع المشقة التامة فَتابَ عَلَيْكُمْ أي فرجع الله بكم إلى ترخيص ترك القيام المقدر، فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ أي فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل ولو ركعتين. والصحيح أن أول ما فرض عليه صلّى الله عليه وسلّم بعد الدعاء إلى التوحيد: التهجد على التخيير المذكور أول السورة فعسر عليهم القيام به، فنسخ بما تيسر من التجهد، ثم نسخ بإيجاب الصلوات الخمس ليلة الإسراء إلى بيت المقدس، عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى أي علم الله أنه سيوجد منكم مرضى لا يستطيعون الصلاة بالليل وَآخَرُونَ
يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ
، أي وسيوجد آخرون يسافرون في الأرض يطلبون رزق الله يشق عليهم صلاة الليل، وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي وسيوجد آخرون يجاهدون في طاعة الله، فلو لم يناموا في الليل لتوالت أسباب المشقة عليهم، لأنهم مشتغلون في النهار بالأعمال الشاقة فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ، أي فصلوا ما تيسر لكم من التهجد. وهذا تأكيد للأول، فالأول مفرع على قوله تعالى:
عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ إلخ. وهذا مفرع على قوله: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ إلخ فكل واحد من المؤكد والمؤكد مفرع على حكمة وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي المفروضة وَآتُوا الزَّكاةَ أي أعطوا زكاة أموالكم وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً بأن تنفقوا سائر الإنفاقات في سبيل الخيرات عن طيب قلب وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ أي خير كان من عبادات البدن والمال تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً من الذي تؤخرونه إلى الوصية عند الموت كما قاله ابن عباس.
وقرأ أبو السمال «هو خير وأعظم أجرا» بالرفع على الابتداء والخبر، وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ في كافة أحوالكم فإن الإنسان لا يخلو من تفريط إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لجميع الذنوب رَحِيمٌ (20) للمؤمنين.(2/577)
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
سورة المدّثّر
ست وخمسون آية، مائتان وخمس وخمسون كلمة، ألف وعشرة أحرف.
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) أي يا من لبس الدثار وهو ما يلبس فوق الشعار الذي يلي الجسد.
روى جابر بن عبد الله أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «كنت على جبل حراء فنوديت: يا محمد، إنك رسول الله، فنظرت عن يميني ويساري فلم أر شيئا، فنظرت فوقي، فرأيت الملك قاعدا على عرش بين السماء والأرض، فخفت، ورجعت إلى خديجة فقلت: دثروني دثروني دثروني وصبوا علي ماء باردا فنزل عليه السلام فقال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ»
«1» .
وعن الزهري: إن أول ما نزل سورة: اقْرَأْ [العلق: 1] إلى قوله تعالى: ما لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 5] ، ثم انقطع الوحي، فحزن رسول الله وجعل يعلو شواهق الجبال، فأتاه جبريل عليه السلام وقال: إنك نبي الله، فرجع إلى خديجة فقال: «دثروني وصبوا علي ماء باردا» «2» فنزل جبريل فقال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ
. قُمْ فَأَنْذِرْ (2) أي قم من مضجعك، فحذر قومك من عذاب الله إن لم يؤمنوا وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) أي عظم ربك مما يقوله عبدة الأوثان، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) عن النجاسات ويقال: و «ثيابك فقصر» ، لأن العرب كانوا يطولون ثيابهم ويجرون أذيالهم، فكانت ثيابهم تتنجس، ولأن تطويل الذيل إنما يفعل للخيلاء والتكبير، فنهى الرسول عن ذلك.
وقال أكثر المفسرين: أي وقلبك فطهر عن الصفات المذمومة. وقال الحسن: وخلقك فحسن، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) .
قرأ عاصم في رواية حفص بضم الراء في هذه السورة، وقرأ الباقون وعاصم في رواية أبي بكر بالكسر. قال أبو العالية: «الرجز» بضم الراء: الصنم، وبالكسر النجاسة والمعصية.
وقال ابن عباس: أي المأتم فاترك ولا تقربنه أي دم على تركه، وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) مرفوع منصوب المحل على الحال، أي ولا تعط طالبا للكثير، وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) .
__________
(1) رواه أحمد في (م 3/ ص 392) ، والبخاري في كتاب تفسير القرآن، باب: سورة المدّثّر.
(2) رواه أحمد في (م 3/ ص 392) ، والبخاري في كتاب تفسير القرآن، باب: سورة المدّثّر.(2/578)
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)
روي أن الكفار لما اجتمعوا وبحثوا عن حال محمد صلّى الله عليه وسلّم قام الوليد ودخل داره، فقال القوم: إن الوليد قد صبا، فدخل عليه أبو جهل وقال: إن قريشا جمعوا لك مالا حتى لا تترك دين آبائك، فهو لأجل ذلك المال بقي على كفره، فقيل لمحمد صلّى الله عليه وسلّم: إن الوليد بقي على دينه الباطل لأجل المال، وأما أنت فاصبر على دينك الحق لأجل رضا الحق، لا لشيء غيره، وهذا الأمر كله تعريض بالمشركين كأنه قيل لرسول الله: وربك فكبر، لا الأوثان، وثيابك فطهر ولا تكن كالمشركين فهم نجس البدن والثياب، والرجز فاهجر ولا تقربه كما تقربه الكفار، ولا تمنن تستكثر كما أراد الكفار أن يعطوا الوليد قدرا من المال، وكانوا يستكثرون ذلك القليل، أي كانوا رائين لما يعطونه كثيرا، ولربك فاصبر على هذه الطاعات لا للأعراض العاجلة من المال والجاه، فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) أي فإذا نفخ في الصور نفخة البعث فوقت النقر يوم إذ نقر يوم عسير على الكل من المؤمنين والكافرين، كما روي أن الأنبياء يومئذ يفزعون، وأن الولدان يشيبون إلا أنه يكون هول الكفار فيه أشد وذلك قوله تعالى. عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) وعلى المؤمنين يسير،
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) منصوب على الذم والتقدير: أعني وحيدا أو حال من العائد المحذوف، أي اتركني ومن خلقته منفرد، أي بلا أب فهو زنيم، أو منفردا في الشرارة وهو الوليد بن المغيرة المخزومي، لأنه كان يزعم أنه وحيد قومه لرئاسته ويساره وتقدمه في الدنيا، وكان يلقب بالوحيد وكان يقول: أنا الوحيد ابن الوحيد ليس لي في العرب نظير ولا لأبي نظير، وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً (12) أي مبسوطا.
قال ابن عباس: هو ما كان للوليد بمكة والطائف من الإبل والبقرة، والغنم، والحجور، والجنان، والعبيد، والجواري.
وقال مقاتل: كان له بستان بالطائف لا تنقطع ثماره شتاء ولا صيفا، وَبَنِينَ ثلاثة عشر كما قاله أبو مالك وسعيد بن جبير، أسلم منهم ثلاثة: خالد وهو سيف الله وسيف رسوله وهشام وعمارة، شُهُوداً (13) أي حضورا معه بمكة لا يفارقونه ألبتة لأنهم كانوا أغنياء، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) أي وبسطت له الجاه والرياسة في قومه حتى لقب ريحانة قريش ووحيدا، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) على ما أوتيه. قيل: إنه كان يقول: إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة الأولى كَلَّا، أي لا تكون له زيادة على ذلك أصلا فليرتدع من هذا الطمع، فلم يزل الوليد بعد قوله تعالى: كَلَّا في نقصان ماله حتى افتقر ومات فقيرا، إِنَّهُ أي الوليد بن المغيرة كانَ لِآياتِنا الدالة على التوحيد والقدرة والعدل، وصحة النبوة، وصحة البعث عَنِيداً (16) أي رادا وهو يعرفها بقلبه وينكرها بلسانه، وكفر المعاند أفحش أنواع الكفر سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) أي سأكلفه مشقة من العذاب. وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم يكلف أن يصعد عقبة في النار كلما وضع يده عليها ذابت، فإذا رفعها عادت وإذا وضع رجله ذابت، فإذا رفعها عادت وعنه صلّى الله عليه وسلّم الصعود جبل من نار(2/579)
ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
يصعد فيه سبعين خريفا، ثم يهوي فيه كذلك أبدا، إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) أي إن العنيد فكر ماذا يقول في شأن القرآن وقدر في نفسه ما يقوله، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) أي فلعن في دنياه على أي كيفية أوقع تقديره، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) أي ثم لعن فيما بعد الموت في البرزخ والقيامة على أي حال كان تقديره، وهذا تعجيب من قوة خاطره،
ثُمَّ نَظَرَ (21) في ذلك المقدر في القرآن مرة بعد مرة ثُمَّ عَبَسَ أي قطب وجهه لما لم يجد فيه مطعنا، ولم يدر ماذا يقول، وَبَسَرَ (22) أي قبض جبينه، ثُمَّ أَدْبَرَ عن الحق وَاسْتَكْبَرَ (23) أي تعظم عن اتباعه، فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) أي ما هذا الذي يقوله محمد إلا سحر ينقل عن أهل بابل، إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) أي ما هذا الذي أتى به محمد إلا قول البشر جبر ويسار.
روي أن الوليد مر برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يقرأ حم السجدة، فلما وصل إلى قوله تعالى:
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت: 13] أنشده الوليد بالله وبالرحم أن يسكت، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم فقال لهم: والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وأنه يعلو ولا يعلى عليه،
ثم انصرف إلى منزله فقالت قريش: صبا الوليد ولو صبا لصبأت قريش كلها، فقال ابن أخيه أبو جهل: أنا أكفيكموه، ثم دخل عليه محزونا فقال: مالك يا بن أخي؟
فقال: إنك قد صبوت لتصيب من طعام محمد وأصحابه، وهذه قريش تجمع لك مالا ليكون ذلك عوضا مما تقدر أن تأخذ من أصحاب محمد. فقال: والله ما يشبعون فكيف أقدر أن آخذ منهم مالا! ولكني تفكرت في أمره كثيرا فلا أجد شيئا يليق به إلا أنه ساحر، ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه فقال لهم: تزعمون أن محمد مجنون فهل رأيتموه يخنق قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه كاهن، فهل رأيتموه يتكهن؟ فقالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعرا قط؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه شيئا من الكذب؟ قالوا: اللهم لا ثم قالوا: فما هو؟ ففكر، فقال: ما هو إلا ساحر أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه، وما الذي يقوله إلا سحر يأثره عن أهل بابل، فارتج النادي فرحا وتفرقوا معجبين بقوله، متعجبين منه، فلما أقر الوليد بذلك في أول الأمر علمنا أن الذي قاله في الآخر من أن القرآن سحر وقول البشر إنما ذكره على سبيل العناد لا على سبيل الاعتقاد، فإن السحر يتعلق بالجن، سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) أي سأدخله في الطبقة السادسة من جهنم المسماة بسقر وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) أي أيّ شيء أعلمك ما هي في وصفها، لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) أي لا تبقي من الدم واللحم والعظم شيئا إلا أكلته، فإذا أعيدوا خلقا جديدا فلا تذر أن تعاود إحراقهم بأشد مما كانت، وهكذا أبدا، وهذه رواية عطاء عن ابن عباس. لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) أي ظاهرة للبشر من مسيرة خمسمائة عام. وقرأ الحسن وابن أبي عبلة وزيد بن علي، وعطية «لواحة» بالنصب على الاختصاص، أو على الحال المؤكدة، أي مغيرة للأبشار عَلَيْها أي النار، تِسْعَةَ عَشَرَ (30) ملكا.(2/580)
وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40)
وحكى الواحدي عن المفسرين أن خزنة النار تسعة عشر مالك ومعه ثمانية عشر، أعينهم كالبرق، وأنيابهم كالصياصي، وأشعارهم تمس أقدامهم، يخرج لهب النار من أفواههم ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة يسع كف أحدهم مثل ربيعة ومضر، نزعت منه الرحمة والرأفة، يأخذ أحدهم سبعين ألفا في كفه، ويرميهم حيث أراد من جهنم، وحكمة هذا العدد أن أبواب جهنم سبعة، فستة منها للكفار، وواحد للفساق، ثم إن الكفار يدخلون النار لأمور ثلاثة: ترك الاعتقاد، وترك الإقرار، وترك العمل، فيكون لكل باب من تلك الأبواب الستة ثلاثة، والمجموع ثمانية عشر، وأما باب الفساق فليس هناك زبانية بسبب ترك الاعتقاد ولا بسبب ترك القول بل بسبب ترك العمل فقط، فلا يكون على بابهم إلا زبانية واحدة، فالمجموع تسعة عشر. ويقال: إن الساعات أربعة وعشرون وخمسة منها مشغولة بالصلوات الخمسة، فيبقى منها تسعة عشر مشغولة بغير العبادة، فحقا صار عدد الزبانية تسعة عشر،
وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ أي القائمين بتعذيب أهل النار، إِلَّا مَلائِكَةً فلا تقاس الملائكة بالسجانين.
روي أنه لما نزل قوله تعالى: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ، قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم. قال ابن أبي كبشة: إن خزنة النار تسعة عشر، وأنتم الشجعان أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي: أنا أكفيكم سبعة عشر، واكفوني أنتم اثنين، فنزلت وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة، أي ما جعلناهم رجالا من جنسكم فتغالبونهم، وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا فإنهم يقولون: هذا العدد القليل كيف يكونون وافين بتعذيب أكثر العالم من الجن والإنس من أول ما خلق الله تعالى إلى قيام القيامة، لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لأن هذا العدد موجود في التوراة والإنجيل، فلما أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم على وفق ذلك من غير سابقة تعلم، علموا أن ذلك حصل بسبب الوحي من السماء، فالذين آمنوا بمحمد استيقنوا أن ذلك العدد هو الصدق. وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً بما رأوا من تصديق أهل الكتاب ذلك، وعلموا أن في كتابنا مثل ما في التوراة، وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مثل عبد الله بن سلام وأصحابه، إذ لم يكن العدد خلاف ما في كتابهم، وَالْمُؤْمِنُونَ لانضمام إيمانهم بذلك إلى إيمانهم بسائر ما أنزل، وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، أي شك في صدق القرآن وَالْكافِرُونَ القاطعون بكذبه: ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا أي أيّ شيء أراد الله بهذا العدد القليل حال كونه عددا عجيبا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ أي يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء بهذا المثل إضلالا وهداية كائنين مثل ما ذكر من الإضلال والهداية، وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ أي إن الخزنة تسعة عشر ولهم جنود من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، خلقوا لتعذيب أهل النار وَما هِيَ أي سقر إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) ، أي إلا عظة للخلق ليتذكروا كمال قدرة الله تعالى وأنه لا يحتاج إلى أعوان. كَلَّا أي حقا أو تنبهوا إلى ما سيلقى إليكم. وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) .(2/581)
عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
قرأ نافع وحفص وحمزة بسكون الذال المعجمة، والدال المهملة، وبينهما همزة مفتوحة، أي وقت ذهب. والباقون بفتح الذال المعجمة والدال بينهما ألف. أي إذا جاء. وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) أي أضاء. وقرأ عيسى بن الفضل، وابن السميقع سفر ثلاثيا، أي طرح الظلمة إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) أي إن سقر لإحدى دركات جهنم نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) تمييز من «إحدى» أي إنها لإحدى الدواهي انذارا للبشر وفي قراءة أبي نذير بالرفع لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) وقوله تعالى: لِمَنْ شاءَ بدل من قوله تعالى: لِلْبَشَرِ أي نذير لمن شاء منكم أن يسبق إلى الخير فيهديه الله تعالى، أو يتأخر عن خير فيضله الله، كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) أي كل نفس مرهونة عند الله بكسبها غير مفكوكة، إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فإنهم فأكون رقابهم بأعمالهم الحسنة كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق، فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) أي يسأل أصحاب اليمين
حال كونهم في جنات الكافرين عن أحوالهم حال كونهم في النار قائلين، ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) أي أيّ شيء أدخلكم في هذه الدركة من النار، قالُوا مجيبين للسائلين: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) الصلوات الواجبة وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) أي لم نك نعطي المسكين ما يجب علينا إعطاؤه له كنذر وكفارة وزكاة، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) أي نشرع في الباطل مع الشارعين فيه، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) أي بيوم الجزاء حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) ، أي الموت، أي إنا بقينا على إنكار القيامة إلى وقت الموت قال تعالى: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) أي لا تنالهم شفاعة الملائكة والأنبياء والصالحين، فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) ، أي فأي شيء حصل لهم معرضين عن القرآن كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) .
قرأ نافع وابن عامر بفتح الفاء، أي مذعورة ذعرها القناص. والباقون بكسرها أي نافرة من صوت الناس، أو من ظلمة الليل
فَرَّتْ أي الحمر مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) أي أسد سمي بذلك لأنه يقهر السباع، بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) أي طرية لم تطو بأن تأتيهم وقت كتابتها، فإن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا: يا محمد لن نؤمن بك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه من رب العالمين، إلا فلان ابن فلان ونؤمر فيه باتباعك. وعن ابن عباس كانوا يقولون: إن كان محمدا صادقا فليصبح عند رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءته من النار، كَلَّا أي لا يؤتون الصحف فلا تقترحوا ذلك، بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) في زمن من الأزمان، فلذلك يعرضون عن التذكرة كَلَّا أي حقا إِنَّهُ أي القرآن، تَذْكِرَةٌ (54) أي عظمة عظيمة من الله توجب اتباعه، فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) أي فمن شاء أن يتعظ بالقرآن اتعظ به وجعله نصب عينيه، وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي ولا يذكرون في حال من الأحوال إلا حال أن يشاء الله ذلك. وقرأ نافع بتاء الخطاب. وقرئ بالياء والتاء مشددا هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) أي هو حقيق بأن يتقيه عباده، ويطيعوه وحقيق بأن يغفر لهم ما سلف من كفرهم إذا آمنوا وأطاعوا.(2/582)
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)
سورة القيامة
مكية، تسع وثلاثون آية، مائة وسبع وتسعون كلمة، ستمائة واثنان وخمسون حرفا
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أي النفوس الشريفة التي لا تزال تلوم نفسها في الدنيا والآخرة، فإذا اجتهدت في الطاعة تلوم نفسها على عدم الزيادة، وإذا قصرت تلوم نفسها على التقصير والمعنى: لا أقسم عليك بذلك اليوم ولا بتلك النفس، ولكني أسألك غير مقسم أتحسب أنا لا نجمع عظامك إذا تفرقت بالموت، فإن كنت تحسب ذلك فاعلم أنا قادرون على أن نفعل ذلك وذلك قوله تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أي المكذب بالبعث، أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) أي أن الحديث لن
نقدر على أن نجمع عظامه بعد تفريقها. وقرأ قتادة «أن لن تجمع عظامه» على البناء للمفعول.
روي أن عدي بن أبي ربيعة- ختن الأخنس بن شريق- قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا محمد حدثني عن يوم القيامة متى يكون وكيف أمره، فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد، ولم أومن بك، أو يجمع الله العظام بعد صيرورتها ترابا، فنزلت هذه الآية.
وقال ابن عباس: المراد بالإنسان هاهنا أبو جهل فإنه أنكر البعث بعد الموت. قال تعالى في جوابه: بَلى فهذه الكلمة أثبتت ما بعد النفي- وهو الجمع- أي بلى نجمعها والوقف هنا تام.
وقال أبو عمرو: كاف قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4) أي كنا قادرين أن نخلق أطراف أصابعه في الابتداء، فوجب أن نبقى قادرين على الإعادة في الانتهاء. وقرأ ابن أبي عبلة «قادرون» بالرفع، أي ونحن قادرون. بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) أي بل يريد الإنسان أن يكذب بيوم القيامة، وهو أمامه فمن كذب حقا كان فاجرا، يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) أي يسأل الإنسان سؤال متعنت ومستبعد متى يوم القيامة، فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) .
قرأ نافع بفتح الراء أي شخص البصر عند معاينة أسباب الموت والملائكة. والباقون بالكسر أي تحير البصر فزعا فلم يطرف. وقرأ أبو السمال «بلق» بمعنى انفتح، وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) أي ذهب ضوءه. وقرئ و «خسف القمر» على البناء للمفعول، أي ذهب بنفسه،(2/583)
كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) بأن يطلعهما الله تعالى من المغرب، يَقُولُ الْإِنْسانُ المنكر للقيامة يَوْمَئِذٍ أي إذا عاين هذه الأحوال: أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) أي أين الفرار من النار، وقرئ بكسر الفاء، أي أين موضع الفرار؟
كَلَّا أي حقا أو لا تتمن الفرار، لا وَزَرَ (11) أي لا ملجأ، أي فلا جبل يواريه من النار إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ
(12) ، أي موضع قرارهم يوم إذ كانت هذه الأمور مفوضة إلى مشيئته تعالى، فإنه تعالى يدخل من يشاء الجنة، ومن يشاء النار، يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
(13) أي يخبر كل امرئ عند وزن الأعمال بما عمل وبما ترك من عمل خيرا كان، أو شرا بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
(14) ، أي بل هو يومئذ عالم بتفاصيل أحواله، شاهد على نفسه، لأن جوارحه تنطق بذلك، وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
(15) أي ولو جاء بكل معذرة يمكن أن يعتذر بها عن نفسه، فإنه لا ينفعه ذلك، لأنه شاهد على نفسه لا تُحَرِّكْ بِهِ
أي بالقرآن لِسانَكَ
قبل فراغ جبريل من قراءته عليك لِتَعْجَلَ بِهِ
(16) ، أي لتأخذه على عجلة مخافة أن تنساه إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ
في صدرك وَقُرْآنَهُ
(17) أي إثبات قراءته في لسانك، فَإِذا قَرَأْناهُ
أي أتممنا قراءته، عليك بلسان جبريل فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
(18) أي فاقرأ أنت بعد فراغنا من قراءته أي لا ينبغي أن تكون قراءتك مقارنة لقراء جبريل، فإذا سكت جبريل فاشرع أنت في القراءة، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) أي بيان ما أشكل عليك من معاليه وأحكامه على سبيل التفضل، كَلَّا أي لا تعجل يا أشرف الخلق وكن على أناة بَلْ أنتم يا بني آدم، لأنكم خلقتم من عجل وطبعتم عليه تعجلون في كل شيء، ولذلك تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) أي الدنيا،
وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بياء الغيبة، أي إنهم يحبون العمل للدنيا ويتركون العمل لثواب الآخرة، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) ف «وجوه» مبتدأ و «ناضرة» نعت له، ويومئذ منصوب ب «ناضرة» و «ناظرة» خبره، و «إلى ربها» متعلق بالخبر والمعنى: أن الوجوه الحسنة يوم القيامة وهي وجوه المؤمنين ناظرة إلى الله تعالى لا يحجبون عنه، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25) أي ووجوه شديدة العبوس يوم القيامة وهي وجوه الكفرة، توقن أن يفعل بها أنواع العذاب في النار، كَلَّا أي تنبهوا لما أمامكم من الموت الذي ينقطع عنده المحبة بينكم وبين الدنيا، إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) أي إذا بلغت الروح أعالي الصدر، وهي العظام المكتنفة بثغرة النحر عن يمين وشمال، وقال: من حول المشرف على الموت على سبيل الطلب، أو على سبيل الإنكار من ينجيه مما هو فيه، وهل من طبيب فيداويه أو قال ملك الموت للملائكة: أيكم يرقى بروحه إلى السماء؟ وأيقن ذلك المحتضر أن ما نزل به فراق الدنيا واتصلت شدة آخر الدنيا بشدة أول الآخرة، فقد انقطعت عنه أحكام الدنيا ويساق في ذلك اليوم إلى حكم الله تعالى إذ إليه مرجع الخلائق،
فَلا صَدَّقَ وهو معطوف على قوله تعالى: يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ.(2/584)
قال مجاهد وغيره: نزلت هذه الآيات في أبي جهل، أي فهو ما صدق بالدين، وَلا صَلَّى (31) أي ما صلى أبو جهل صلاة شرعية، وَلكِنْ كَذَّبَ ما يجب تصديقه من الرسول والقرآن، وَتَوَلَّى (32) أي أعرض عن الطاعة، ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أي يتمدد ويختال في مشيته، لأن المتبختر يمد خطاه، فاستقبله النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأخذه، فهزه هزة أو هزتين وقال له: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ، أي ويل لك يا أبا جهل وهو دعاء عليه بأن يليه ما يكرهه، ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) ، أي وعيدا لك يا أبا جهل، احذر يا أبا جهل فقد قرب منك ما لا قبل لك به من المكروه.
وقال القاضي: المعنى: بعدا لك، بعدا لك، أي بعدا في أمر دنياك، وبعدا في أمر أخراك.
قال قتادة ومقاتل: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيد أبي جهل بالبطحاء وقال له: «أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى» «1» . فقال أبو جهل بأيّ شيء تهددني يا محمد؟ فو الله لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا، وإني والله لأعز أهل هذا الوادي، وأعز من مشى بين جبليها. ثم انسل ذاهبا.
فأنزل الله تعالى مثل ذلك: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أي مهملا لا يؤمر ولا ينهى ولا يكلف في الدنيا، ولا يحاسب بعمله في الآخرة، أَلَمْ يَكُ أي الإنسان نُطْفَةً أي ماء قليلا في صلب الرجل، وترائب المرأة مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) أي يصب في الرحم، ثُمَّ كانَ عَلَقَةً أي ثم صار المني دما عبيطا بقدرة الله تعالى، ثُمَّ كانَ عَلَقَةً، أي فنفخ الله في ذلك الإنسان الروح فكمل أعضاءه.
وهذا قول ابن عباس ومقاتل، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ أي فجعل الله من الإنسان الصنفين الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) ، يجتمعان تارة في الرحم، وينفرد كل منهما عن الآخر تارة، وكان لأبي جهل ابن اسمه عكرمة وبنت اسمها جويرية. أَلَيْسَ ذلِكَ الذي أنشأ هذه الأشياء بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40) للبعث، فالإعادة أهون من البدء في قياس العقل.
روي أنه صلّى الله عليه وسلّم كان إذا قرأ هذه السورة قال: «سبحانك اللهم بلى» «2» . رواه أبو داود والحاكم.
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: من قرأ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى: 1] إماما كان أو غيره فليقل سبحان ربي الأعلى ومن قرأ: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ إلى آخرها فليقل:
سبحانك اللهم بلى. إماما كان أو غيره.
__________
(1) رواه الطبري في التفسير (25: 80) .
(2) رواه البيهقي في السنن الكبرى (7: 235) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (21653) .(2/585)
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10)
سورة الإنسان
وتسمى سورة هل أتى، وسورة الأمشاج، وسورة الدهر، مكية، إحدى وثلاثون آية، مائتان وأربعون كلمة، ألف وأربعة وخمسون حرفا
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) أي قد أتى بني آدم طائفة محدودة من الزمن الطويل غير مقدر في نفسه، غير مذكور بالإنسانية أصلا،
وهي مدة الحمل. وقيل: وقد مرت على آدم أربعون سنة قبل أن تنفخ فيه الروح لم يكن شيئا مذكورا لا في السماء ولا في الأرض، بل كان جسدا مصورا ترابا وطينا لا يذكر ولا يعرف، ولا يدرى ما اسمه، ولا ما يراد به، ثم نفخ فيه الروح فصار مذكورا. إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ أي ولد آدم مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ أي من نطفة قد امتزج فيها الماءان: ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، فأيهما علا كان الشبه له، وما كان من عصب وعظم وقوة، فمن نطفة الرجل، وما كان من لحم ودم وشعر فمن ماء المرأة.
وقال مجاهد: نطفة الرجل بيضاء وحمراء، ونطفة المرأة خضراء وصفراء. نَبْتَلِيهِ أي نختبره بالخير والشر كما قاله الكلبي. وقال الحسن: أي نختبر شكره في السراء وصبره في الضراء. فَجَعَلْناهُ أي الإنسان سَمِيعاً بَصِيراً (2) ليتمكن من استماع الآيات التنزيلية ومشاهدة الآيات التكوينية، إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ أي بينا له سبيل الهدى والضلال بإنزال الآيات ونصب الدلائل، إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) ، أي ليكون الإنسان إما مؤمنا وإما كافرا. ويقال:
إنا هديناه السبيل، ثم جعلناه تارة شاكرا وتارة كفورا. وقرأ أبو السمال بفتح الهمزة في «أما» على حذف الجواب أي إما شاكرا فبتوفيقنا وإما كفورا فبسوء اختياره لا بمجرد إجبارنا من غير اختيار من قبله، إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً (4) أي إنا هيّأنا للكافرين سلاسل تشد بها أرجلهم، ويقادون بها، وأغلالا تشد بها أيديهم إلى رقابهم، ونارا موقدة يحرقون بها. وقرأ نافع وهشام وشعبة والكسائي «سلاسلا» بالتنوين. إِنَّ الْأَبْرارَ أي الصادقين في إيمانهم المطيعين لربهم، الموفين بنذرهم يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ أي إناء فيه خمر كانَ مِزاجُها(2/586)
فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)
كافُوراً
(5) ، أي كانت تلك الخمر ممزوجة بماء عين كافور، فإن الكافور: اسم عين في الجنة، ماؤها في بياض الكافور، ورائحته، وبرده، ولكن لا يكون فيه طعمه، ولا مضرته، ويبدل من «كافورا» قوله: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ أي يشرب عباد الله بماء تلك العين الخمر، لكونها ممزوجة بها، فالباء متعلقة بمحذوف حال من مفعول محذوف، أي يشرب المؤمنون الخمر ممزوجة بتلك العين، أو متعلقة ب «يشرب» والضمير يعود على «الكأس» ، أي يشربون العين بتلك الكأس والباء للإلصاق، أو مزيدة ويدل له قراءة ابن أبي عبلة يشربها عباد الله، يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) أي يقودون العين حيث شاءوا من منازلهم، وتتبعهم، فحيث مالوا مالت معهم أي إن الرجل منهم يمشي في بيوته ويصعد إلى قصوره وبيده قضيب يشير به إلى الماء فيجزي معه حيثما دار في منازله على مستوى الأرض في غير أخدود ويتبعه حيثما صعد إلى أعلا قصوره، يُوفُونَ بِالنَّذْرِ أي بما أوجبوه على أنفسهم لوجه الله تعالى فكيف بما أوجبه الله تعالى عليهم، وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ أي شدائده مُسْتَطِيراً (7) ، أي سريع الوصول إلى أهله من العصاة، وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ، أي مع حاجتهم إلى الطعام.
وقال الفضيل بن عياض: أي على حب إطعام الطعام، أي بأن يكون ذلك مع طيب النفس مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) ، أي مسجونا مسلما وهو قول مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير قائلين بلسان الحال: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ أي لطلب ثواب الله، لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً أي مكافأة وَلا شُكُوراً (9) ، أي محمدة بقول أو بفعل.
روي أن عائشة كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت، ثم تسأل المبعوث ما قالوا، فإن ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقى ثواب الصدقة لها خالصا عند الله تعالى، إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً أي تعبس فيه الوجوه قَمْطَرِيراً (10) أي شديدا.
روي أن الكافر يعبس حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران،
فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ أي شدائده بسبب خوفهم عنه، وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) أي وأعطاهم بسبب طلب رضا الله حسنا في وجوههم، وفرحا في قلوبهم، وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) أي وجزاهم بصبرهم على الإيثار وما يؤدي إليه من الجوع والعري بستانا فيه مأكل هني، وحريرا فيه ملبس بهي، مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ أي جالسين في الجنة على السرر في الحجال، لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) ، أي لا يصيبهم في الجنة حر محم، ولا برد مؤذ، لأن هواءها معتدل في الحر والبرد. ويقال: إن في الجنة من الضياء ما لا يحتاجون معه إلى شمس ولا قمر، فإن الزمهرير القمر في لغة طيئ- كما رواه ثعلب- ونورها من نور العرش وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها معطوف على محل «لا يرون» وهو في محل نصب حال من الضمير المستكن في «متكئين» ، أي بعداء عن الحر والبرد، وقريبة ظلال شجرها منهم. وقرئ «ودانية» بالرفع على أنه خبر ل «ظلالهما» ، والجملة(2/587)
عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)
موضع الحال والمعنى: لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا. والحال أن ظلالها دانية عليهم، أي أن ظلال أشجار الجنة قريبة من الأبرار مظلة عليهم، بمعنى أنه لو هناك شمس مؤذية لكانت أشجارها مظلة عليهم وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا (14) أي أدنيت منهم عناقيد ثمارها، فهم يتناولون منها كيف شاءوا، وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ أي بصحاف من فضة، وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ أي وبكيزان تكونت جامعة بين صفاء الزجاج وشفوفه، وبياض الفضة، ولينها، فنسبة قارورة الجنة إلى قارورة الدنيا، كنسبة فضة الجنة إلى رمل الدنيا، لأن أصل القوارير في الدنيا:
الرمل، وأصل قوارير الجنة هو فضة شفافة. وقرئ «قوارير» الثاني بالرفع، أي هي قوارير قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) أي قدروا القوارير في أنفسهم وأرادوا أن تكون على أشكال معينة موافقة لشهواتهم، فجاءت حسبما قدروها، وقيل: الضمير للطائفين بها، أي قدر الطائفون الشراب فيها على قدر اشتهائهم. وقرئ «قدروها» بالبناء للمفعول، أي جعلوا قادرين لها كما شاءوا، وَيُسْقَوْنَ فِيها أي الجنة كَأْساً أي خمرا كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا (17) ، أي ما يشبه الزنجبيل عَيْناً فِيها أي الجنة تُسَمَّى أي تلك العين سَلْسَبِيلًا (18) .
قال مقاتل وابن حبان: سميت سلسبيلا لأنها تسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم تنبع من أصل العرض من جنة عدن إلى أهل الجنان. ويقال: معناها سل الله سبيلا إليها. وسميت بذلك لأنه لا يشرب منها إلا من سأل الله إليها سبيلا بالعمل الصالح. وقرأ طلحة سلسبيل بغير تنوين للعلمية والتأنيث، وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ أي دائمون على ما هم عليه من الطراوة والبهاء.
وقيل: أي محلون كما رواء نفطويه عن ابن الأعرابي أو مسورون كما رواه الفراء وهم خلقوا في الجنة لخدمة أهل الجنة كالحور، ولم يخلقوا عن ولادة على الصحيح، إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) لصفاء ألوانهم وإشراق وجوههم وانعكاس أشعة بعضهم إلى بعض، وانتشارهم في مجالسهم ومنازلهم، وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ أي في أي مكان كان في الجنة رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20)
وفي الحديث: «أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه»
عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ وهو ما لطف من الديباج.
قرأ نافع وحمزة «عاليهم» بإسكان الياء مبتدأ، و «ثياب» خبره أي ما يعلوهم من لباسهم ثياب سندس. والباقون بفتح الياء على أنه ظرف خبر مقدم، و «ثياب» مبتدأ مؤخر، والجملة صفة ثانية ل «ولدان» ، أي يطوف عليهم ولدان فوقهم ثياب سندس إلخ. وقيل: «عاليهم» حال من ضمير «عليهم» أي ويطوف على الأبرار ولدان عاليا للمطوف عليهم ثياب إلخ أي فوق حجالهم المضروبة عليهم ثياب سندس، خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وهو ما ثخن من الديباج.
قرأ نافع وعاصم «كلاهما» بالرفع. وقرأ الكسائي وحمزة «كلاهما» بالخفض. وقرأ ابن كثير «خضر» بالخفض، و «إستبرق» بالرفع. وقرأ أبو عمرو، وعبد الله بن عامر «خضر» بالرفع،(2/588)
و «إستبرق» بالخفض وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وهذا معطوف على يطوف عليهم، فإن حلي أهل الجنة يختلف حسب اختلاف أعمالهم، وأيضا إن الطباع مختلفة فرب
إنسان يكون استحسانه لبياض الفضة فوق استحسانه لصفرة الذهب. وقيل: إنما تكون الأسورة من الفضة للولدان الذين هم الخدم، وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) أي يطهر شاربه عن دنس الميل إلى الملاذ الحسية والركون إلى ما سوى الحق، فيتجرد لمطالعة جماله، ملتذا بلقائه، باقيا ببقائه، وهي غاية منازل الصديقين، ولذلك ختم بها مقالة ثواب الأبرار.
وقال مقاتل: هو عين ماء على باب الجنة تنبع من ساق شجرة من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غل وغش، وحسد، وما كان في جوفه من قذر وأذى، إِنَّ هذا أي الذي ذكر من الطعام والشراب واللباس كانَ لَكُمْ جَزاءً أي ثوابا من الله بمقابلة أعمالكم الحسنة. وهذا إخبار من الله تعالى لعباده في الدنيا فكأن الله تعالى بيّن ثواب أهل الجنة إن هذا كان في حكمي جزاء لكم يا معشر عبادي لكم خلقتها ولأجلكم أعددتها.
وقال ابن عباس: المعنى: إنه يقال لأهل الجنة بعد دخولهم فيها ومشاهدتهم لنعيمها ليزداد سرورهم: إن هذا كان لكم جزاء، وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22) أي مرضيا، وكان الله راضيا عنهم بالقليل من الطاعات، ومعطيهم عليه ثوابا كثيرا، ومنتهى درجة العبد أن يكون راضيا من ربه مرضيا لربه، فقوله: إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً إشارة إلى الأمر الذي تصير النفس به راضية من ربه. وقوله: وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً إشارة إلى كون النفس مرضية لربه. وهذه الحالة أعلى الدرجات وآخر المقامات، ولذلك وقع الختم عليها في ذكر مراتب أحوال الأبرار والصديقين، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) أي متفرقا آية وآيتين، وسورة وهذه الآية تثبيت الرسول وشرح صدره فيما نسبوه إليه من كهانة وسحر، فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ في تأخير الأذان في القتال أو في أداء الرسالة وتحمل المشاق الناشئة من ذلك، وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أي مقدما على المعاصي، أيّ معصية كانت، أَوْ كَفُوراً (24) أي جاحدا للنعمة، ف «آثم» هو الوليد بن المغيرة، و «الكفور» هو عتبة بن ربيعة، كما قاله القفال وغيره، واختاره الرازي. يروى أن عتبة بن ربيعة قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ارجع عن هذا الأمر حتى أزوجك بنتي وأسوقها من غير مهر فإني من أجمل قريش ولدا. وقال الوليد: أنا أعطيك من المال حتى ترضى فإني من أكثرهم مالا وأرجع عن هذا الأمر، أي عن ذكر النبوة، فقرأ عليهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشر آيات من أول حم السجدة إلى قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت: 13] . فانصرفا عنه وقال أحدهما: ظنت أن الكعبة ستقع علي وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) أي صل الفجر والظهر والعصر، وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ أي وبعض الليل فصل لربك صلاة المغرب والعشاء، وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) أي صل له صلاة التهجد في جزء من ليل طويل. قال بعضهم: كان(2/589)
يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
ذلك من الواجبات على الرسول، ثم نسخ، فالأمر للوجوب لا سيما إذا تكرر على سبيل المبالغة، إِنَّ هؤُلاءِ أي الكفرة من أهل مكة، يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وينهمكون في لذاتها الفانية، وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا (27) ، أي ويتركون وراءهم مصالح يوم ثقيل، أي شديد هو له وعذابه، نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ، أي أحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب، وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) ، أي وإذا شئنا أهلكنا هؤلاء الكفرة وأتينا بأشباههم في الخلقة، فجعلناهم بدلا منهم، إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ أي إن هذه السورة عظة للخلق من الله، فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) ، أي فمن شاء الخير لنفسه في الدنيا والآخرة تقرب إلى الله بالعمل بما في هذه السورة، وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي وما تقدرون على تحصيل اتخاذ السبيل إلى الله في وقت من الأوقات إلا وقت مشيئة الله تحصيله لكم. وقرأ أبو عمرو وابن عامر وابن كثير «وما يشاءون» بالياء التحتية. وقرأ ابن مسعود «إلا ما يشاء الله» . إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) أي إنه تعالى مبالغ في العلم والحكمة فلا يشاء لهم إلا ما يستدعيه علمه وتقتضيه حكمته،
يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ بأن يوفقه للإيمان المؤدي إلى دخول الجنة وَالظَّالِمِينَ وهم الذين صرفوا مشيئتهم إلى غير اتخاذ السبيل إلى الله، أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31) ، أي متناهيا في الإيلام وقرأ عبد الله بن الزبير «والظالمون» بالرفع على الابتداء.(2/590)
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20)
سورة المرسلات
مكية، خمسون آية ومائة وإحدى وثمانون كلمة، ثمانمائة وستة عشر حرفا قال ابن مسعود: نزلت والمراسلات عرفا على النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة الجن ونحن معه نسير حتى أوينا إلى غار منى، فنزلت، فبينما نحن نتلقاها منه وإن فاه رطب بها، إذ وثبت حية فوثبنا عليها لنقتلها، فذهبت، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم «وقيتم شرها كما وقيت شركم»
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) .
وهذا إقسام من الله تعالى بطوائف من الملائكة أرسلهم بأوامره متتابعين، فهم عصفوا في طيرانهم عصف الرياح، ونشروا أجنحتهم عند انحطاطهم إلى الأرض، ففرقوا بين الحق والباطل، فألقوا ذكرا إلى الأنبياء ويقال: أقسم الله برياح عذاب أرسلها متتابعة كعرف الفرس، فعصفن، وبرياح رحمة نشرن السحاب في الجو ففرقن بعض أجزائه عن بعض، فإن العاقل إذا شاهد هبوب الرياح التي تقلع القلاع، وتهدم الجبال، وترفع الأمواج تمسّك بذكر الله، والتجأ إلى إعانة الله، فصارت تلك الرياح كأنها ألقت الذكر والإيمان والعبودية في القلب، ويمكن حمل هذه الكلمات الخمس على القرآن، أي والآيات المرسلة على لسان جبريل إلى محمد، النازلة بكل عرف، أي خير، فعصفت سائر الملل، فقهرت سائر الأديان، وجعلتها باطلة، ونشرت تلك الآيات آثار الهداية في قلوب العالمين شرقا وغربا، ففرقت بين الحق والباطل. عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) ، وهذا إما بدل من «ذكرا» ، أي فأقسم بالملائكة المنزلات وحيا أمرا أو نهيا. ويقال: وعدا أو وعيدا، وإما مفعول لأجله، أي إزالة أعذار المخلوقين وتخويفا لهم، إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) أي إن الذي توعدون به من مجيء يوم القيامة لكائن، ثم إنه تعالى ذكر علامات وقوع هذا اليوم فقال: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) أي محقت ذواتها وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9) أي فتحت فكانت أبوابا، وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) أي قلعت بسرعة من أماكنها،
وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) .
وقرأ أبو عمرو بالواو على الأصل أي حصل لهم الوقت وهو إما وقت يحضرون فيه للشهادة على أممهم، وإما وقت يجتمعون فيه للفوز بالثواب، وإما وقت سؤال الرسل عما أجيبوا به،(2/591)
فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30)
وسؤال الأمم عما أجابوهم لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) . أي يقال: لأي يوم أخرت الأمور المتعلقة بهؤلاء الرسل؟ وهذا القول المقدر إما جواب لإذا، وإما حال من مرفوع أقتت، أي مقولا فيهم، لأي يوم أخرت إليه أمور الرسل، وهو تعذيب الكفرة وتعظيم المؤمنين، وظهور ما كانت الرسل تذكر من أحوال الآخرة وأهوالها، وعلى هذا فجواب إذا مقدر وتقديره: فإذا طمست النجوم إلخ وقع ما توعدون أو بان الأمر، لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) بدل من «لأي» ، وهو اليوم الذي يفصل فيه بني الخلائق ويجوز أن يؤخذ من هذا جواب «إذا» ، أي وقع الفصل بين الخلائق، أو فحينئذ تقع المجازاة بالأعمال وتقوم القيامة، وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14) أي وما علمك يا أشرف الخلق بيوم الفصل وشدته، فالاستفهام الأول: للاستبعاد والإنكار. والاستفهام الثاني: للتعظيم والتهويل والمعنى: أنت الآن في الدنيا لا تعلم ما يوم الفصل أي لا تعلم عظمه وأهواله على سبيل التفصيل، وإن كنت تعلمها جمالا، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أي واد في جهنم من قيح ودم يوم إذ يفصل بين الخلائق للمكذبين بذلك اليوم وبكل ما أخبر الأنبياء عنه، و «ويل» مبتدأ سوغ الابتداء به كونه دعاء ونحوه، سلام عليكم وفائدة العدول إلى الرفع دلالة على دوام الهلاك للمدعو عليهم أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ، وهم جميع الكفار الذين كانوا قبل محمد صلّى الله عليه وسلّم والوقف هنا كاف، ثم استأنف الله بقوله: ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) ممن كذبوا الحق من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم بالإماتة بالتعذيب، وقد وقع ذلك في حق كفار قريش يوم بدر، واستعقبه اللعن في الدنيا والعقوبة الأخروية سرمدا، ويدل على هذا الاستئناف قراءة عبد الله، ثم
سنتبعهم بسين التنفيس، أما قراءة الأعمش والأعرج عن أبي عمرو، ثم نتبعهم بتسكين العين فهو تسكين للتخفيف لا للجزم، فهو مستأنف كالمرفوع لفظا، كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) أي مثل ذلك الفعل الشنيع نفعل بكل من أشرك بالله، فيما يستقبل إما بالسيف وإما بالهلاك فسنتنا جارية على ذلك، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أي هؤلاء وإن أهلكوا وعذبوا في الدنيا فالمصيبة العظمى معدة لهم يوم القيامة.
وقيل: هذا الويل لعذاب الدنيا، فالمعنى: شدة عذاب يوم إذ أهلكناهم للمكذبين بآيات الله وأنبيائه، أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) أي من نطفة قذرة منتنة.
فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) أي في مكان حريز رحم المرأة، إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) لله تعالى أي وقت الولادة، فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) أي قدرنا خلقه في رحم المرأة تقديرا فنعم المقدرون له نحن، فإن إيقاع الخلق على هذا التحديد نعمة من المحدد على المخلوق، أو فقدرنا على تصويره كيف شئنا، فنعم القادرون نحن حيث خلقناه في أحسن الهيئات.
قرأ نافع والكسائي «فقدرنا» بتشديد الدال. والباقون بالتخفيف. وقال علي كرم الله وجهه: «ولا يبعد أن يكون المعنى في التخفيف والتشديد واحد لأن العرب تقول: قدر وقدر عليه الموت» . أي فقدرنا بالتخفيف يكون بمعنى قدرنا بالتشديد، ومنه
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في الهلال: «إذا(2/592)
لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
غم عليكم فاقدروا له»
. أي قدروا له السير في المنازل وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) بقدرتنا على البدء والإعادة بعد الموت، أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) ، أي ألم نجعل الأرض موضعا يضم أحياء كثيرة على ظهره، وأمواتا غير محصورة في بطنه، فالأحياء يسكنون في منازلهم، والأموات يدفنون في قبورهم.
ونقل القفال عن ربيعة: أنه قال: دلت هذه الآية على وجوب قطع النباش، لأن الأرض كانت حرزا للميت. وَجَعَلْنا فِيها أي على ظهر الأرض رَواسِيَ، أي جبالا ثوابت لا تزول شامِخاتٍ أي عاليات وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) ، أي غاية في العذوبة وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) بأمثال هذه النعم العظيمة وتقول لهم الزبانية بعد الفراغ من الحساب: انْطَلِقُوا يا معشر المكذبين إِلى ما كُنْتُمْ في الدنيا بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) من العذاب.
روي أن الشمس تقرب يوم القيامة من رؤوس الخلائق وليس عليهم يومئذ لباس، ولا كنان، فتلفحهم الشمس، وتأخذ بأنفاسهم ويمتد ذلك اليوم، ثم ينجي الله برحمته من يشاء إلى ظل من ظله تعالى، فهناك يقولون: فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم وتقول: خزنة النار للمكذبين انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون من عقاب الله، انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ أي إلى دخان جهنم. وقرأ يعقوب «انطلقوا» على لفظ الماضي، أي فانقادوا للأمر لأجل أنهم لا يستطيعون امتناعا منه، ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) أي فرق، وهي كون النار من فوقهم ومن تحث أرجلهم ومحيطة بهم
لا ظَلِيلٍ، أي لا يمنع حر الشمس، وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) أي ولا يدفع من لهب النار شيئا، أو ولا يبعد من العطش- كما قاله قطرب- إِنَّها أي النار تَرْمِي بِشَرَرٍ وهو ما يتطاير من النار كَالْقَصْرِ (32) من البناء في عظمه كَأَنَّهُ جِمالَتٌ أي إبل صُفْرٌ (33) ، أي في الحركة واللون، فإن الشرار لما فيه من النار يكون أصفر، وهذا تنبيه على أن في كل واحد من تلك الشرارات أنواعا من البلاء والمحنة، فكأنه قيل:
تلك الشرارات كالجمالات الموقرة بأنواع المحنة والبلاء.
قرأ حمزة والكسائي وحفص «جمالة» بغير ألف بعد اللام. والباقون بالألف وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) بهذه الأمور، هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) فيه بحجة تنفعهم والسؤال قد انقضى قبل ذلك. وقرأ الأعمش بنصب «يوم» ، أي هذا الذي قص عليكم واقع يوم ينطقون، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) ، أي أنهم لم يؤذنوا في العذر، وهم لم يعتذروا أيضا لا لأجل عدم الإذن بل لأجل عدم العذر في نفسه وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) بهذا اليوم هذا، أي اليوم يَوْمُ الْفَصْلِ أي فصل حكومات جميع المكلفين جَمَعْناكُمْ يا معشر المكذبين من جميع هذه الأمة وَالْأَوَّلِينَ (38) من المكذبين، فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) ، أي فإن كان لكم حيلة في دفع الحقوق عن أنفسكم فافعلوها وغالبوني، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) بالبعث
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ أي في ظلال شجرة، وَعُيُونٍ (41) أي ماء ظاهر جار.(2/593)
وقرأ نافع وأبو عمرو وهشام وحفص بضم العين. والباقون بكسرها، وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) فمتى اشتهوا فاكهة وجدوها حاضرة فليست فاكهة الجنة مقيدة بوقت دون وقت، كما في أنواع فاكهة الدنيا، فيقول الله تعالى لهم: كُلُوا من الثمار وَاشْرَبُوا من الأنهار هَنِيئاً أي سائغا بلا داء ولا تعب بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) في الدنيا من الخيرات ذكر الله تعالى ثلاثة أنواع من النعم في مقابلة ثلاث شعب من النار، كأنه قيل: ظلال المكذبين ما كانت ظليلة، وما كانت مغنية عن اللهب والعطش، أما المتقون فظلالهم ظليلة حاجزة بينهم وبين اللهب، ومغنية لهم عن العطش ومعهم الفواكه التي يتمنونها في مقابلة شرار النار التي يخافها المكذبون، ولما قال تعالى للكفار: انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ قال المؤمنين: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) أي إنا نجزي المحسنين في العقيدة مثل ذلك الجزاء وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) يكون هذا النعيم للمتقين المحسنين، كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا أي كلوا يا معشر المكذبين وعيشوا يسيرا في الدنيا، إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) أي مشركون، مصيركم النار في الآخرة.
وقال أبو السعود: وهذا مقدر بقول هو حال من المكذبين، أي الويل ثابت لهم مقولا لهم ذلك تذكيرا لهم بحالهم في الدنيا، وبما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع الفاني عن قريب على النعيم الخالد، وعلّل ذلك بإجرامهم دلالة على أن كل مجرم مآله هذا، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) بما يجب تصديقه. وهذا هو النوع التاسع من أنواع تخويف الكفار، وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) ، أي وإذا قيل للمجرمين في الدنيا: اخضعوا لله بالتوحيدة، وأطيعوا، لا يقبلون ذلك. ويقال: نزلت هذه الآية في ثقيف حيث قالوا: لا نحني ظهورنا بالركوع والسجود.
ويقال: هذا في الآخرة وذلك لما يقول الكفار: والله ربنا ما كنا مشركين. قال الله تعالى لهم:
اسجدوا إن كنتم صادقين فيما تقولون، فلم يقدروا على السجود وبقيت أصلابهم كالصياصي.
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) بمن يرشدهم إلى المصالح الجامعة بين خيرات الدنيا والآخرة، وهذا هو النوع العاشر من أنواع تخويف الكفار، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) أي إذا لم يؤمنوا بهذه الدلائل اللطيفة مع وضوحها، فبأي كلام بعدها يؤمنون، لأن القرآن مصدّق للكتب القديمة، موافق لها في أصول الدين، فيلزم من تكذيبه تكذيب غيره من الكتب، لأن ما في غيره موجود فيه، فلا يمكن الإيمان بغيره مع تكذيبه.(2/594)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10)
سورة النبأ
وتسمى سورة التساؤل، وسورة عم، مكية، أربعون آية، مائة وثلاث وسبعون كلمة، سبعمائة وسبعون حرفا
عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) أي عن أيّ شيء يتساءل أهل مكة فيما بينهم إنكارا واستهزاء عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) قوله: عَمَّ يَتَساءَلُونَ سؤال، وقوله: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ جواب. فالسائل والمجيب هو الله تعالى، ونظيره قوله تعالى لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] .
الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) والخبر العظيم هو يوم القيامة، فمنهم من جزم باستحالته فيقول: إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، وما يهلكنا إلا الدهر، وما نحن
بمبعوثين. ومنهم من شك في وقوعه فيقول: ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا، وما نحن بمستيقنين. وقيل: الخبر العظيم هو القرآن فإن بعضهم جعله سحرا، وبعضهم جعله شعرا، وبعضهم قال: إنه أساطير الأولين.
روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما دعاهم إلى التوحيد، وأخبرهم بالبعث بعد الموت، وتلا عليهم القرآن، جعلوا يتساءلون بينهم فيقولون: ماذا جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم! ويسألون الرسول والمؤمنين عنه استهزاء. وقيل: النبأ العظيم هو نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وذلك لأنهم عجبوا من إرسال الله محمدا إليهم. وقرأ عكرمة وعيسى بن عمر عما بالألف على الأصل. وعن ابن كثير أنه قرأ عمه بها السكت. كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) ، أي ليرتدعوا عمّا هم عليه، فإنهم سيعلمون عمّا قليل حقيقة الحال، إذا حل بهم العذاب والنكال، وسيعلمون أن ما يتساءلون عنه ويضحكون منه حق لا دافع له، واقع لا ريب فيه. وقال القاضي: سيعلمون نفس الحشر والمحاسبة، وسيعلمون نفس العذاب إذا شاهدوه. وقال الضحاك: أي سيعلم الكفار عاقبة تكذيبهم، وسيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم. وروي عن ابن عامر «ستعلمون» بالتاء المنقطة من فوق، أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) أي فراشا. وقرئ «مهدا» أي مناما، وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) للأرض حتى لا تميد بأهلها وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) ذكورا وإناثا، وقبيحا، وحسنا، وطويلا، وقصيرا. وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) أي قطعا للتعب، أو نوما منقطعا، فإن النوم بمقدار الحاجة من أنفع الأشياء، أما(2/595)
وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)
دوامه فمن أضر الأشياء، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) فإن ظلمة الليل تستر الإنسان عن العيون إذا أراد هربا من عدو، أو إخفاء ما لا يحب الإنسان اطلاع غيره عليه، وأيضا بسبب ما يحصل فيه من النوم يندفع عنه أذى التعب الجسماني، وأذى الأفكار الموحشة النفسانية، فإن المريض إذا نام بالليل وجد الخفة العظيمة،
وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) أي وقت معاش تتقلبون فيه في مكاسبكم، وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) أي خلقنا فوق رؤوسكم سبع سموات غلاظا قوية الخلق، محكمة البناء، لا يؤثر فيها مر الدهور، وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) أي شمسا مضيئة لبني آدم، وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ، أي السحائب بالرياح ماءً ثَجَّاجاً (14) أي صبابا. ويروي عن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعكرمة أنهم قرءوا «وأنزلنا بالمعصرات» أي بالرياح المثيرة للسحاب، لِنُخْرِجَ بِهِ أي بذلك الماء حَبًّا يقتات، كالحنطة والشعير والأرز، وَنَباتاً (15) لا يكون له كمام كالحشيش، وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16) أي مجتمعة تداخل بعضها في بعض، إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) أي إن يوم فصل الله بين الخلائق كان في تقدير الله تعالى ميعاد الاجتماع كل الخلائق في قطع الخصومات، وميقاتا لما وعد الله من الثواب والعقاب، يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ نفخة البعث، أي تنفخ الأرواح في الأجساد، فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) ، أي فتبعثون من قبوركم، فتأتون إلى الموقف أمما، كل أمة مع إمامها حتى يتكامل اجتماعهم، وَفُتِحَتِ السَّماءُ لنزول الملائكة. قرأ عاصم وحمزة والكسائي خفيفة التاء. والباقون بتشديدها فَكانَتْ أَبْواباً (19) أي فصارت السماء ذات أبواب، وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ في الجو على هيئاتها بعد قلعها من مقارها، فَكانَتْ سَراباً (20) أي فصارت بعد تسييرها مثل السراب إذ ترى على صورة الجبال، ولم تبق على حقيقتها لتفتت أجزائها،
إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) أي طريقا، فخزنة الجنة يستقبلون المؤمنين عند جهنم يرصدون الكفار لِلطَّاغِينَ، أي للمتكبرين على الله مَآباً (22) أي مرجعا لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) ، أي حقبا بعد حقب. وقرأ حمزة «لبثين» بغير ألف لا يَذُوقُونَ فِيها، أي الأحقاب بَرْداً أي هواء باردا، ولا ماء باردا. وقال الأخفش والكسائي، والفراء، وقطرب، والعتبي:
أي نوما، سمي بذلك لأنه يقطع سورة العطش، وَلا شَراباً (24) إِلَّا حَمِيماً أي ماء حارا جدا، وَغَسَّاقاً (25) باردا منتنا لا يطاق، وهو المسمى بالزمهرير.
قرأ حمزة والكسائي وعاصم من رواية حفص عنه بتشديد السين، جَزاءً وِفاقاً (26) أي جوزوا بذلك جزاء موافقا لأعمالهم، إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) ، أي كانوا لا يخافون، أي يحاسبوا بأعمالهم أو إنهم كانوا غير مؤمنين وذلك لأن المؤمن لا بدّ وأن يرجو رحمة الله، لأنه قاطع بأن ثواب إيمانه زائد على عقاب جميع المعاصي سوى الكفر، وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أي بجميع دلائل الله تعالى في التوحيد والنبوة والمعاد كِذَّاباً (28) .
وقرئ بتخفيف الذال. وقرئ «كذابا» بضم الكاف وتشديد الذال جمع كاذب، أي كذبوا(2/596)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
بالقرآن والشرائع كاذبين، فكل من يكذب بالحق فهو كاذب، وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ أي ضبطناه كِتاباً (29) أي حال كونه مكتوبا في اللوح المحفوظ، أو كل شيء من أعمال بني آدم حفظناه مكتوبا في صحف الحفظة. وقرأ أبو السمال «وكل» بالرفع على الابتداء، فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً (30) أي فيقال لهم في الآخرة عند وقوع العذاب عليهم: ذوقوا جزاءكم فلن نزيدكم إلا عذابا، أي كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب، وكلما خبت زدناهم سعيرا،
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) أي فوزا بالمطلوب حَدائِقَ أي بساتين فيها أنواع الأشجار المثمرة، وَأَعْناباً (32) أي كروما وَكَواعِبَ، أي نساء تكعبت ثديهن أَتْراباً (33) ، أي مستويات في السن على ثلاث وثلاثين سنة وَكَأْساً دِهاقاً (34) ، أي ممتلئة، لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35) أي لا يجري بين المتقين كلام باطل وتكذيب من واحد لغيره بسبب الكأس التي يشربون منها.
وقرأ الكسائي بالتخفيف جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) أي جازى الله المتقين بمفاز جزاء كائنا منه تفضلا منه بقدر ما وجب له فيما وعده من الأضعاف، لأنه تعالى قدر الجزاء على ثلاثة أوجه:
وجه منها على عشرة أضعاف، ووجه على سبعمائة ضعف، ووجه على ما لا نهاية، والمعنى:
راعيت في ثواب أعمالكم الحساب لئلا يقع فيه نقصان. وقرأ ابن قطيب «حسابا» بالتشديد بمعنى محسب. رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو برفع «رب» و «الرحمن» . وقرأ عاصم وعبد الله بن عامر بجرهما. وقرأ حمزة والكسائي بجر الأول مع رفع الثاني. لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) أي لا يملك أهل السموات والأرض أن يخاطبوه تعالى من تلقاء أنفسهم خطابا ما، في شيء ما، والوقف هنا كاف. يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ.
قال الضحاك والشعبي: هو جبريل وعن ابن مسعود أنه ملك أعظم من السموات والجبال.
وعن ابن عباس هو ملك من أعظم الملائكة خلقا، وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ منهم في التكلم، وَقالَ صَواباً (38) أي وقال ذلك المأذون له بعد ورود الأذن له قولا صادقا حقا. وقيل: المعنى: لا يشفعون إلا في حق شخص أذن له الرحمن في شفاعته، وذلك الشخص كان ممن قال صوابا، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، و «يوم» ظرف لقوله تعالى: لا يَتَكَلَّمُونَ. ذلِكَ أي يوم قيامهم على الوجه المذكور، الْيَوْمُ الْحَقُّ أي الثابت من غير صارف فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) أي فمن شاء أن يتخذ مرجعا إلى ثواب ربه فعل ذلك بالإيمان والطاعة، نَّا أَنْذَرْناكُمْ
أي خوّفناكم يا أهل مكة بالقوارع الواردة في القرآن، ذاباً قَرِيباً
هو عذاب الآخرة، وكل ما هو آت قريب. وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ
و «ما» استفهامية، أي يوم يبصر كل امرئ أيّ شيء قدّمت يداه، مثبتا في صحيفته خيرا كان أو شرا وإما موصولة، أي يوم ينظر كل امرئ إلى الذي قدمته يداه، يَقُولُ الْكافِرُ
لما قطع بالعقاب الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
(40) أي ليتني لم أبعث للحساب في هذا اليوم، وبقيت ترابا كما كنت أوليتني(2/597)
كنت ترابا في الدنيا، فلم أخلق ولم أكلف، وقيل: يقول الكافر عند ما يقول الله للبهائم بعد محاسبته بينها كوني ترابا، يا ليتني أصير ترابا مثل تلك البهائم لأتخلص من عذاب الله تعالى.
وقيل: ويقول إبليس لما عاين ما في آدم من الثواب والراحة يوم القيامة: ليتني كنت مكان آدم، وذلك لأن إبليس عاب آدم بأنه خلق من تراب، وافتخر بأنه خلق من نار. وقال مقاتل: نزل قوله تعالى: وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ
في أبي سلمة، عبد الله بن عبد الأسد المخزومي.
وقوله: يَقُولُ الْكافِرُ
في أخيه الأسد بن عبد الأسد.(2/598)
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10)
سورة النازعات
مكية. خمس وأربعون آية، مائة وثلاث وسبعون كلمة وتسعمائة وثلاثة وخمسون حرفا
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) أي والملائكة الذين ينزعون روح الكافر من جسده من تحت كل شعرة، ومن تحت الأظافر، وأصول القدمين كما ينزع السفود الكثير الشعب من الصوف المبتل، فتخرج نفس الكافر كالغريق في الماء. وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) أي والملائكة التي تحل نفس المؤمن حلا رفيقا، فتقبضها كما ينشط العقال من يد البعير، وتنشط روح المؤمن بالخروج إلى الجنة. وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) أي والملائكة الذين ينزعون نفس الصالح يسلونها سلا رفيقا رويدا، ثم يتركونها حتى تستريح، ثم يستخرجونها بعد ذلك برفق ولطافة لئلا يصل إليه ألم وشدة، فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4) أي والملائكة الذين يسبقون بأرواح المؤمنين إلى الجنة، وبأرواح الكافرين إلى النار، فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) ، أي فالملائكة الذين يدبرون أمور العباد، قال عبد الرحمن بن سابط: يدبر الأمر في الدنيا أربعة من الملائكة: جبريل، وميكائيل، وملك الموت، وإسرافيل.
فأما جبريل: فهو موكل بالرياح والجنود.
وأما ميكائيل: فهو موكل بالقطر والنبات.
وأما عزرائيل: فهو موكل بقبض الأرواح.
وأما إسرافيل: فهو ينزل عليهم بالأمر من الله تعالى وليس في الملائكة أقرب منه. يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) و «يوم» منصوب بجواب القسم المضمر، أي لتبعثن يا كفار مكة يوم تتحرك النفخة الأولى مع ظهور الصوت، وسميت النفخة: بالراجفة، لأن الدنيا تتزلزل عندها وتصوت فإن تلك النفخة هي المحركة لكل شيء، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) أي النفخة الثانية والرادفة: رجفة أخرى تتبع الأولى، فتضطرب الأرض لإحياء الموتى، كما اضطربت في الأولى لموت الإحياء.
ويروى عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن بين النفختين أربعين عاما، ويروى أن في هذه الأربعين يمطر الله الأرض ويصير ذلك الماء عليها كالنطف، وأن ذلك كالسبب للإحياء، ولله أن يفعل ما يشاء(2/599)
أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)
ويحكم ما يريد. قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أي قلوب كثيرة وهي قلوب الكفار يوم إذ يقع النفختان شديدة الاضطراب، وهذه الجملة مبتدأ وخبر، أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9) أي أبصار أصحاب هذه القلوب ذليلة، يَقُولُونَ منكرين للبعث متعجبين منه: أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ بعد موتنا فِي الْحافِرَةِ (10) ، أي في الحالة الأولى. وقرأ أبو حيوة «في الحفرة» ، أي أنرد إلى ابتداء أمرنا فنصير أحياء كما كنا،
أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) أي متفتتة، نرد ونبعث مع كون تلك العظام أبعد شيء من الحياة. وقرأ حمزة وعاصم «ناخرة» بألف أي فارغة تمر بها الريح، فيسمع لها صوت. وقرأ نافع وابن عامر والكسائي «إذا» على الخبر، قالُوا تِلْكَ أي الرجعة إلى الحياة إِذاً أي إن رددنا إلى الحالة الأولى وصحّ ذلك كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) ، أي رجعة ذات هلاك أي إن الرجعة إن صحت، فنحن إذا خاسرون لتكذيبنا بها، وهذا استهزاء منهم فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) ، أي لا تحسبوا تلك الكرة صعبة على الله بل هي سهلة هينة في قدرته، لأنها حاصلة بصيحة واحدة من إسرافيل، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) أي فإذا هم أحياء على وجه الأرض البيضاء المستوية من أرض الآخرة بعد ما كانوا أمواتا في جوف أرض الدنيا، هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) أي أليس قد أتاك يا أشرف الخلق حديث موسى هذا إن اعتبر إتيانه قبل هذا الكلام، وإلا فالمعنى: هل أتاك يا أكرم الرسل حديثه؟ أنا أخبرك به: إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ ظرف ل «حديث» طُوىً (16) وهو اسم واد بالشام، وهو عند الطور بين أيلة ومصر، وإنما سميت «طوى» لكثرة ما مشت عليه الأنبياء.
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بضم الطاء غير منون. وقرأ الباقون بضم الطاء منونا.
وروي عن أبي عمرو بكسر الطاء. اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ. عن الحسن قال: كان فرعون علجا من همدان، وعنه أيضا كان من أصبهان، طوله أربعة أشبار، وهو أول من اتخذ القبقاب ليمشي فيه خوفا من أن يمشي على لحيته. وقال مجاهد: كان من أهل إصطخر. وقرأ عبد الله «أن اذهب» لأن في النداء معنى القول، إِنَّهُ طَغى (17) أي تجاوز الحد على الخالق، وعلى الخلق، فكفر بالله، وتكبر على بني إسرائيل، فاستعبدهم، فَقُلْ بعد ما أتيته: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) ؟ أي هل لك يا فرعون سبيل إلى أن تصلح فتوحد بالله؟ وقرأ نافع وابن كثير بتشديد الزاي، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ أي وهل أدعوك إلى معرفة ربك بالبرهان فتعرفه، فَتَخْشى (19) فإن الخشية لا تكون إلا بالمعرفة فمن خشي الله أتى منه كل خير، ومن أمن اجترأ على كل شر، فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) أي فذهب موسى إلى فرعون، فأراه قلب العصاحية،
فَكَذَّبَ فرعون موسى بالقلب واللسان وسمى معجزته سحرا، وَعَصى (21) الله تعالى بإظهار التمرد بعد ما علم صحة الأمر حيث اجترأ على إنكار وجود رب العالمين، ثُمَّ أَدْبَرَ أي انصرف عن موسى وأعرض عن الإيمان، يَسْعى (22) أي يجتهد في مكايدة موسى، وفي معارضة الآية، فَحَشَرَ، أي فجمع السحرة بالشرط للمعارضة فَنادى (23) في المجمع بنفسه، أو بواسطة المنادي فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24)(2/600)
أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40)
أي لا رب فوقي، فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) أي فعذبه الله في الآخرة بالإحراق بالنار، وفي الدنيا بالإغراق بالماء. وقيل: فعاقبه الله بكلمته الآخرة وهي قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى وبكلمته الأولى وهي قوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص: 38] وكان بينهما أربعون سنة، فالله تعالى يمهل ولا يهمل، إِنَّ فِي ذلِكَ أي في قصة فرعون لَعِبْرَةً أي لعظة لِمَنْ يَخْشى (26) ، وذلك أن يدع التمرد على الله تعالى، والتكذيب لأنبيائه خوفا من أن ينزل به ما نزل بفرعون، وعلما بأن الله تعالى ينصر رسله، فاعتبروا معاشر المكذبين لمحمد بما ذكرناه، أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ، أي أأنتم يا أهل مكة في خلقكم بعد موتكم أصعب في تقديركم أم خلق السماء على عظمها والوقف هنا تام، بَناها (27) وهذا تفصيل لكيفية خلقها، رَفَعَ سَمْكَها أي جعل مقدار ارتفاعها من الأرض، ومقدار ذهابها في سمت العلو مسافة خمسمائة عام.
واعلم أن امتداد الشيء إذا أخذ من أعلاه إلى أسفله سمي عمقا، وإذا أخذ من أسفله إلى أعلاه سمي سمكا، فَسَوَّاها (28) أي فجعلها مستوية ملساء ليس فيها ارتفاع، ولا انخفاض، ولا تفاوت، ولا فطور، وَأَغْطَشَ لَيْلَها أي جعل الليل مظلما وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) أي وأبرز نهارها، وإنما عبر عن النهار بالضحى، لأنها أكمل أجزاء النهار في الضوء، وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ بألفي سنة دَحاها (30) ، أي بسطها على الماء،
أَخْرَجَ مِنْها أي الأرض ماءَها، أي عيونها المنفجرة بالماء وأنهارها الجاري ماؤها، وَمَرْعاها (31) أي نباتها من العشب والشجر، والثمر، والحب، والعصف، والحطب، واللباس، والدواء حتى النار والملح، فإن النار من العيدان والملح من الماء، وإذا تأملت علمت أن جميع ما يتلذذ الناس به في الدنيا أصله الماء والنبات، وَالْجِبالَ أَرْساها (32) ، أي أثبتها على وجه الأرض لتسكن، مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33) أي إنا خلقنا هذه الأشياء منفعة لكم ولأنعامكم، فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) أي الداهية العظمى أعني يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35) ، أي يوم يتذكر كل أحد فيه ما عمله في الدنيا من خير أو شر بأن يشاهده مدونا في صحيفة أعماله وقد كان نسيه من فرط الغفلة، وطول الأمد ويجوز أن يكون يوم بدلا من الطامة الكبرى مبنيا على الفتح لإضافته إلى الفعل على رأي الكوفيين، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ عطف على جاءت، أي أظهرت الجحيم إظهارا بينا لِمَنْ يَرى (36) فيراها كل ذي بصر من المؤمنين والكفار. وقرأ أبو نهيك و «برزت» بالتخفيف. وقرأ ابن مسعود «لمن رأى» فعلا ماضيا. وقرأ زيد ابن علي وعائشة وعكرمة «برزت» مبنيا للفاعل مخففا، و «ترى» بالتاء وهي إما للتأنيث فالضمير ل «الجحيم» ، وإما للخطاب أي لمن ترى أنت يا محمد من الكفار الذين يؤذونك، وجواب «إذا» محذوف تقديره انقسم الناس قسمين، فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) أي تمرد عن الطاعة وجاوز الحد في العصيان، وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) أي انهمك فيها،
ولم يستعد للحياة الأخروية بالطاعة، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) له، ويقال: التقدير فإن الجحيم هي المأوى اللائق بمن كان(2/601)
فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
موصوفا بهذه الصفات. قيل: نزلت هذه الآية في النضر وأبيه الحرث، وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ أي مقام حضرة ربه وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) أي عن الميل إلى الحرام الذي يشتهيه
فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41) له، قيل: نزلت الآيتان في أبي عزيز بن عمير، ومصعب بن عمير، وقد قتل مصعب أخاه أبا عزيز يوم أحد، ووقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنفسه حتى استشهد رضي الله عنه.
وروى الضحاك عن ابن عباس قال: فَأَمَّا مَنْ طَغى فهو أخو مصعب بن عمير، أسر يوم بدر وأخذته الأنصار، فقالوا: من أنت؟ قال: أنا أخو مصعب بن عمير فلم يشدوه في الوثاق وأكرموه وبيّتوه عندهم، فلما أصبحوا حدثوا مصعب بن عمير حديثه فقال: ما هو بأخ له، شدوا أسيركم فإن أمه أكثر أهل البطحاء حليا ومالا، فأوثقوه حتى تبعث أمه فداءه وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ فمصعب بن عمير، وقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنفسه يوم أحد حين تفرق الناس عنه حتى نفذت المشاقص في جوفه، فلما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متشحطا في دمه قال صلّى الله عليه وسلّم: «عند الله أحتسبك» ، وقال صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما وإن شراك نعله من ذهب»
«1» .
يَسْئَلُونَكَ يا أشرف الخلق عَنِ السَّاعَةِ على سبيل الاستهزاء حين سمع المشركون وصفها بالأوصاف الهائلة مثل طامة وصاخة، وقارعة: أَيَّانَ مُرْساها (42) أي متى إقامتها، أي في أيّ وقت يوجدها الله تعالى، فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) أي في أيّ شيء أنت من أن تذكر وقتها لهم إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) ، أي إلى ربك يرجع منتهى علمها لم يؤته أحدا من خلقه، إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) أي إنما أنت مخوف من يخاف هولها، فالإنذار لا يتوقف على علم المنذر بوقت قيامها. وقرأ عمر بن عبد العزيز، وأبو جعفر، وطلحة، وابن محيصن «منذر» بالتنوين، وهو الأصل وحذف التنوين للتخفيف، وكلاهما يصلح للحال والاستقبال، فإذا أريد الماضي فلا يجوز إلا الإضافة، كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46) . وهذا إما تأكيد لما يدل عليه الإنذار من سرعة مجيء المنذر به، أي كأن كفار قريش يوم يعاينون الساعة لم يلبثوا بعد الإنذار بها إلا عشية يوم واحد أو ضحاه، وإما رد لما أدمجوه في سؤالهم فإنهم كانوا يسألون عن الساعة بطريق الاستبطاء مستعجلين بها، ويقولون: متى هذا الوعد؟ فالمعنى: كأنهم يوم يرون قيام الساعة لم يلبثوا بعد الوعيد بها إلا عشية هي من الزوال إلى الغروب، أو ضحى يومها واعتبار كون اللبث بعد الإنذار أو بعد الوعيد تحقيقا للإنذار وردا لاستبطائهم.
__________
(1) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (3: 46) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (6:
301) .(2/602)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)
سورة عبس
وتسمى سورة الأعمى، وسورة السفرة. مكية، إحدى وأربعون آية، مائة وثلاث وثلاثون كلمة، خمسمائة وثلاثة وثلاثون حرفا
عَبَسَ أي كلح النبي وجهه. وقرئ بالتشديد للمبالغة، وَتَوَلَّى (1) أي أعرض بوجهه لأجل أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) اسمه عبد الله ابن أم مكتوم، وهو عبد الله بن شريح بن مالك الفهري، وأم مكتوم كانت أم أبيه، واسمها عاتكة بنت عامر المخزومي، وهو ابن خالة خديجة بنت خويلد، أسلم قديما بمكة، أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعنده صناديد قريش: عتبة، وشيبة- ابنا ربيعة- وأبو جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم فقال له: يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله، وكرر ذلك، فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قطعه لكلامه، وعبس، وأعرض عنه، فنزلت هذه الآية،
فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكرمه ويقول إذ رآه: «مرحبا بمن عاتبني فيه ربي» ويقول له: «هل لك من حاجة؟»
«1» وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4) أي أيّ شيء يجعلك يا أشرف الخلق داريا بحال هذا الأعمى حتى تعرض عنه، لعله يتطهر بما يقتبس منك من الإثم، أو يتعظ، فتنفعه موعظتك، إن لم يبلغ درجة التطهر التام.
وقرأ عاصم بنصب «فتنفعه» على جواب «لعل» ، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) عن الإيمان والقرآن بماله من المال فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) أي تقبل عليه بوجهك وتميل إلى كلامه.
وقرأ نافع وابن كثير بتشديد الضاد وقرأ أبو جعفر بضم التاء، أي فأنت يدعوك داع إلى التصدي له من الحرص على إسلامه وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) و «ما» إما نافية، والجملة حال من ضمير «تصدى» ، أي والحال أنه ليس عليك بأس في عدم تطهره من الشرك بالإسلام، وإما استفهامية للإنكار أي وأيّ شيء عليك في كونه لا يتطهر من دنس الكفر، وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8)
__________
(1) رواه ابن ماجة في كتاب الزهد، باب: ذكر البعث.(2/603)
كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30)
أي حال كونه يسرع في طلب الخير وَهُوَ يَخْشى (9) من الله، أي وهو مسلم فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) أي تتشاغل بصناديد قريش. وقرأ طلحة بن مصرف «تتلهى» . وقرأ أبو جعفر «تلهى» ، أي يلهيك شأن الصناديد
كَلَّا أي لا تفعل مثل ذلك، أي وذلك محمول على ترك الأولى إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) أي إن القرآن موعظة فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) أي فمن رغب في القرآن اتعظ به، ومن لم يرده فلا حاجة إلى الاهتمام بأمره فِي صُحُفٍ أي ذلك القرآن مثبت في صحف منتسخة من اللوح المحفوظ مُكَرَّمَةٍ (13) عند الله تعالى، مَرْفُوعَةٍ في السماء السابعة، مُطَهَّرَةٍ (14) أي منزهة عن مساس أيدي الشياطين، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) أي ملائكة يكشفون الوحي بين الله ورسله، أو يكتبون الكتب ناقلين من اللوح المحفوظ كِرامٍ أي عند الله تعالى بَرَرَةٍ (16) أي صادقين لله في أعمالهم. وقال القرطبي: إن المراد بما في قوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة: 79] هؤلاء السفرة الكرام البررة، وقوله: بِأَيْدِي متعلق ب «مطهرة» .
قال القفال: لما لم يمس الصحف إلا الملائكة المطهرون أضيف التطهر إليها لطهارة من يمسها. قُتِلَ الْإِنْسانُ أي لعن الكافر ما أَكْفَرَهُ (17) أي أيّ شيء أكفره، وهو تعجب من إفراطه في الكفران، والتعجب بالنسبة للمخلوقين، والمعنى: اعجبوا من كفر الإنسان بجميع ما ذكرناه بعد هذا، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) وهذا استفهام تقرير في التحقير، أي فليتفكر الإنسان في نفسه من أيّ شيء خلقه الله، ثم بيّن الله له فقال: مِنْ نُطْفَةٍ أي ماء حقير، خَلَقَهُ فمن كان أصله مثل هذا الشيء الحقير، فالتكبر لا يكون لائقا به فَقَدَّرَهُ (19) أي فهيأه لما يصلح له ويليق به من الأعضاء، أو فقدره أطوارا نطفة، ثم علقة إلى أن تم خلقه، ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) أي ثم سهل الله خروجه من بطن أمه وكان رأس المولود في بطن أمه، من فوق ورجلاه من تحت، فإذا جاء وقت الخروج انقلب، فخروجه حيا من ذلك المنفذ الضيق من أعجب العجائب، أو ثم بين طريق الخير والشر التي تتعلق بالدنيا، والتي تتعلق بالدين،
ثُمَّ أَماتَهُ بعد ذلك، فَأَقْبَرَهُ (21) أي جعله الله ذا قبر يوارى فيه تكرمة له، ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) أي بعثه من القبر كَلَّا، أي لا تتكبر، ولا تصر على إنكار التوحيد، وعلى إنكار البعث، أو حقا يا محمد لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23) ، أي لم يعمل الإنسان الكافر بما أمره الله به من التأمل في دلائل الله والتدبر في عجائب خلقه وبينات حكمته، فَلْيَنْظُرِ
الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ
(24) الذي جعله الله سببا لحياته كيف دبر الله أمره، أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ أي الغيث على الأرض، صَبًّا (25) .
قرأ عاصم وحمزة والكسائي «أنا» بفتح الهمزة على أنه بدل اشتمال من طعامه، لأن الماء سبب لحدوث الطعام، فهو مشتمل عليه. والباقون بالكسر على الاستئناف. وقرئ «إني» بالإمالة، أي كيف صببنا الماء صبا عجيبا! ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ بالنبات شَقًّا (26) بديعا لائقا به فَأَنْبَتْنا فِيها أي الأرض حَبًّا (27) ، وهو كل ما حصد من نحو الحنطة والشعير وغيرهما،(2/604)
وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
وَعِنَباً وهو غذاء من وجه وفاكهة من وجه، وَقَضْباً (28) . قيل: هو كل ما يقطع من البقول.
وقال الحسن: هو العلف للدواب. وقال ابن عباس: هو الرطب فإنه يقطع من النخل، وَزَيْتُوناً وفيه إصلاح المزاج، وَنَخْلًا (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) أي بساتين ملتفة الأشجار، أو طوال الأشجار،
وَفاكِهَةً وهي ما تأكله الناس من ثمار الأشجار، وَأَبًّا (31) وهو ما تأكله الدواب من الكلأ، مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32) أي فعل الله ذلك تمتيعا لكم ولمواشيكم، فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) أي صيحة النفخة الثانية التي تصم الآذان لشدتها، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) و «يوم» إما منصوب بأعني تفسيرا ل «الصّاخة» ، أو بدل منها مبني على الفتح بالإضافة إلى الفعل على رأي الكوفيين، أي يعرض عن أخيه وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) وفائدة هذا الترتيب كأنه قيل يوم يعرض المرء عن أخيه، بل عن أبويه اللذين هما أقرب من الأخ، بل عن الزوجة والولد اللذين تعلق القلب بهما أشد من تعلقه بالأبوين، وجواب «إذا» محذوف تقديره: اشتغل كل امرئ بحال نفسه، ويدل عليه قوله تعالى: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ تكون هذه الداهية شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) ، أي شغل يكفيه في الاهتمام به، أو عمل يصرفه عن قرابته كما قاله ابن قتيبة.
وقرئ «يعنيه» بالياء المفتوحة والعين المهملة، أي يهمه، أي يوقعه في الهم، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) أي مضيئة من صلاة الليل- كما قاله ابن عباس- أو من آثار الوضوء- كما قاله الضحاك- أو بسبب الخلاص من علائق الدنيا والاتصال بالرحمة ومنازل الرضوان- كما قاله الرازي- ضاحِكَةٌ أي معجبة بكرامة الله أو مسرورة بالفراغ من الحساب، مُسْتَبْشِرَةٌ (39) أي فرحة بما تشاهد من النعيم الدائم والثواب الجسيم، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) أي كدورة
تَرْهَقُها أي تدركها عن قرب، قَتَرَةٌ (41) أي سواد كالدخان أُولئِكَ أي أصحاب هذه الوجوه هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) أي الجامعون بين الكفر بالله والكذب على الله.(2/605)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)
سورة التكوير
مكية، تسع وعشرون آية، مائة وأربع كلمات وخمسمائة وثلاثة وثلاثون حرفا
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) أي لفت أي صارت مختفية عن الأعين. وقيل: أي رميت عن الفلك. وعن ابن عباس رضي الله عنهما «تكويرها» إدخالها في العرش، وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) ، أي تساقطت على وجه الأرض. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إن النجوم قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور بأيدي ملائكة من نور، فإذا مات من في السموات ومن في الأرض تساقطت من أيديهم. وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) عن وجه الأرض بالرجفة، وَإِذَا الْعِشارُ أي النوق الحوامل التي هي أنفس ما يكون عند أهلها، عُطِّلَتْ (4) أي تركت من غير راع لاشتغال أربابها بأنفسهم. وقيل: أي وإذا السحب تعطلت عن الماء.
وقرئ «عطلت» بالتخفيف، وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) أي جمعت من كل جانب لا للقصاص.
وقيل: بعثت للقصاص إظهارا للعدل.
قال قتادة: يحشر كل شيء حتى الذباب للقصاص، فإذا قضي بينها ردت ترابا فلا يبقى منها إلا ما فيه سرور لبني آدم وإعجاب بصورته كالطاوس ونحوه. وقرئ «حشرت» بالتشديد، وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) أي ملئت من الماء، فيفيض بعضها إلى بعض، فتصير شيئا واحدا، ثم تيبس البحار من الماء، ثم تقلب نارا.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتخفيف الجيم، وهذه العلامات الستة يمكن وقوعها في أول زمان تخريب الدنيا. أما الستة الباقية فإنها مختصة بالقيامة وهي ما ذكر بقوله تعالى: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) أي ردت الأرواح إلى أجسادها.
وقال ابن عباس: زوجت نفوس المؤمنين بالحور العين، وقرنت نفوس الكافرين بالشياطين.
وقال الزجاج: قرنت النفوس بأعمالها، وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) أي وإذا البنت المدفونة حية سئلت تبكيتا لمن دفنها في القبر وهي حية بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) ، أي هي وذلك كأن قيل(2/606)
وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
للموءودة إن القتل لا يجوز إلا لذنب عظيم، فما ذنبك أيتها البنت، فكان جوابها: إني قتلت بغير ذنب، فيفتضح القاتل. وقرئ «قتلت» بكسر التاء للمخاطبة مع قراءة «سئلت» بقراءة الجمهور.
وقرئ «سألت» بالبناء للفاعل، أي خاصمت أباها، أو سألت الله تعالى. وهذه القراءة مع قراءة «قتلت» بضم التاء للمتكلم، وبسكونها على التأنيث فالقراءات الشاذة ثلاثة، وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) أي وإذا صحف الأعمال فرقت بين أصحابها عند الحساب، وتطايرت في الأكف.
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بتخفيف الشين. والباقون بتشديدها،
وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) أي أزيلت عما فوقها، وهي الجنة وعرش الله. وقرأ ابن مسعود «قشطت» ، وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) أي أوقدت إيقادا شديدا. وقرأ نافع وابن ذكوان وعاصم بتشديد العين. والباقون بتخفيفها وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) ، أي قربت من المتقين.
وقال عبد الله بن زيد: أي زينت عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14) أي ما قدمت من خير أو شر فإن الأعمال لما عملتها النفس فكأنها أحضرتها في الموقف، فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) «لا» زائدة، أي فأقسم بالكواكب الرواجع من آخر الفلك إلى أوله التي تجري مع الشمس والقمر التي تختفي تحت ضوء الشمس. وهي هذه الأنجم الخمسة: بهرام، وزحل، وعطارد، والزهرة، والمشتري، ليس في الكواكب شيء يقطع المجرة غيرها، كما أخرجه ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب. وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) ، أي ذهب، وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) أي أضاء إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) أي إن هذا الذي أخبركم به محمد من أمر الساعة على ما ذكر في هذه السورة ليس بكهانة، ولا ظن، ولا افتعال، إنما هو قول جبريل أتاه به وحيا من عند الله تعالى أو أن القرآن لقول جبريل نزل به إلى محمد من جهة الله تعالى، فهو رسول الله إلى الأنبياء، وهو كريم لأنه يعطي أفضل العطايا وهو الهداية ذِي قُوَّةٍ أي شدة.
روي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال لجبريل: «ذكر الله قوتك فماذا بلغت؟» قال: رفعت قريات قوم لوط الأربع على قوادم جناحي حتى إذ سمع أهل السماء نباح الكلاب وأصوات الدجاج قلبتها
. وذكر مقاتل أن الأبيض- وهو شيطان- قصد أن يفتن النبي صلّى الله عليه وسلّم فدفعه جبريل دفعة رفيقة وقع بها من مكة إلى أقصى الهند، عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) أي ذي جاه عند الله تعالى، فإنه يعطي ما يسأل، وهذه العندية عندية إكرام وتشريف، لا عندية مكان وجهة،
مُطاعٍ ثَمَّ أي في السموات فتطيعه الملائكة، فإنهم يصدرون عن أمره، ويرجعون إلى رأيه أَمِينٍ (21) على وحي الله ورسالته، قد عصمه الله من الخيانة والزلل، وَما صاحِبُكُمْ أي نبيكم محمد يا معشر قريش بِمَجْنُونٍ (22) ، كما زعمتم. والمقصود: من عدّ فضائل جبريل واقتصار النبي صلّى الله عليه وسلّم على نفي الجنون ردّ قول
الكفرة في حقه صلّى الله عليه وسلّم، إنما يعلمه بشر افترى على الله كذبا، أم به جنة لا الموازنة بينهما ولا تفضيل جبريل على النبي، ثم إنك إذا أمعنت النظر وقفت على أن إجراء تلك الصفات على جبريل في هذا(2/607)
المقام ادماج لتعظيم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنه صلّى الله عليه وسلّم بلغ من علو المنزلة عند الله تعالى بجعل السفير بينه وبينه تعالى، مثل هذا الملك المقرب، فهذه الصفات التي لجبريل رفع منزلة له صلّى الله عليه وسلّم، وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) أي وبالله لقد رأى رسول الله جبريل عليهما الصلاة والسلام بمطلع الشمس الأعلى على صورته التي خلق عليها، وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالظاء المشالة أي وما محمد بمتهم في القرآن، بل هو ثقة فيما يؤدى عن الله تعالى. وقرأ الباقون بالضاد أي وما محمد ببخيل بالقرآن، بل يخبر بما في القرآن من أخبار الغيب، ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ما عنده حتى يأخذ عليه حلوانا، وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) أي وما القرآن بقول مسترق للسمع اسمه مرمى، فيلقيه على محمد، وهذا نفي لقول أهل مكة، إن هذا القرآن يجيء به شيطان فيلقيه على لسان محمد وأنه كهانة وسحر، فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) أي فمن أيّ طريق تسلكون في إنكاركم القرآن أمن نسبته للجنون أو الكهانة، أو السحر، أو الشعر، وهذا استضلال لهم كما يقال لتارك الجادة اعتسافا أين تذهب؟ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) ، أي ما القرآن إلا عظة للإنس والجن، لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) أي لمن شاء منكم الاستقامة بتحري الحق وملازمة الصواب، فإن القرآن إنما ينتفع به من شاء أن يستقيم، وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29) ، أي إلا أن يشاء الله أن يعطيه تلك المشيئة، ففعل الاستقامة موقوف على إرادة الاستقامة، وهذه الإرادة موقوفة الحصول على أن يريد الله أن يعطيه تلك الإرادة، فأفعال العباد في طرفي ثبوتها وانتفائها موقوفة على مشيئة الله.(2/608)
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10)
سورة الانفطار
مكية، تسع عشرة آية، ثمانون كلمة، ثلاثمائة وسبعة وعشرون حرفا
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) أي انشقت لنزول الملائكة، وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) أي تساقطت متفرقة على وجه الأرض، وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) أي فتح بعضها إلى بعض، فاختلط العذب بالأجاج، وصارت البحار بحرا واحدا.
وقرأ مجاهد «فجرت» على البناء للفاعل والتخفيف، أي تجاوز بعضها إلى بعض. وقرأ مجاهد أيضا، والربيع بن خثيم، والزعفراني والثوري «فجرت» مبنيا للمفعول ومخففا، أي غير بعضها ببعض لزوال البرزخ، وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) أي قلب أسفلها أعلاها وأخرج ما فيها من الموتى أحياء عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ أي أدت من طاعة، وَأَخَّرَتْ (5) أي ضيعت، وذلك عند نشر الصحف. يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) أي ما الذي خدعك وسوّل لك الباطل، حتى تركت الواجبات، وأتيت بالمحرمات.
وقرأ سعيد بن جبير والأعمش «ما أغرّك» رباعيا، فاحتمل أن تكون «ما» استفهامية، وأن تكون تعجبية، أي أيّ شيء جعلك آمنا من عقاب ربك، أو شيء عظيم يتعجب منه أدخلك في غرة، أي أمن من العذاب؟ الَّذِي خَلَقَكَ نسمة من نطفة فَسَوَّاكَ أي جعلك سالم الأعضاء مهيأة لمنافعها فَعَدَلَكَ (7) .
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف الدال أي عدل بعض أعضائك ببعض حتى اعتدلت- كما قاله أبو علي الفارسي- أو فصرفك إلى أي صورة شاء. وقرأ الباقون بالتشديد أي صيّرك متناسب الأعضاء، فلم يجعل إحدى اليدين أطول، ولا إحدى العينين أوسع.
وقال عطاء عن ابن عباس: أي جعلك معتدل القامة حسن الصورة، لا كالبهيمة المنحنية فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) و «ما» زائدة، و «شاء» صفة ل «صورة» ، و «ركبك» بيان لقوله تعالى: فَعَدَلَكَ أي وضعك في صورة اقتضتها مشيئته من حسن وقبح، وطول، وقصر، وذكورة، وأنوثة كَلَّا، أي ارتدعوا عن الاغترار بكرم الله، وإنكم لا ترتدعون عن ذلك، بَلْ(2/609)
كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
تُكَذِّبُونَ
يا معشر قريش بِالدِّينِ (9) ، أي بالجزاء على الأعمال، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) حال من فاعل تكذبون، أي تكذبون بالجزاء والحال أن عليكم من قبلنا لحافظين لأعمالكم،
كِراماً عندنا كاتِبِينَ (11) لهذه الأعمال في الصحف، كما تكتب الشهود منكم العهود ليقع الجزاء على غاية التقويم، يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12) من الأفعال، قليلا وكثيرا، ويضبطونه نقيرا وقطميرا لتجازوا بذلك، إِنَّ الْأَبْرارَ أي الصادقين في إيمانهم لَفِي نَعِيمٍ (13) ، أي لفي جنة دائم نعيمها، وَإِنَّ الْفُجَّارَ أي الكافرين المكذبين بيوم الدين لَفِي جَحِيمٍ (14) أي في نار عظيمة، يَصْلَوْنَها أي يدخلونها يَوْمَ الدِّينِ (15) أي يوم الحساب، وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) طرفة عين حتى قبل الدخول فيها فإنهم يجدون سمومها في قبورهم كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران»
«1» . وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) أي أيّ شيء عجيب هو في الهول والفظاعة جعلك داريا يوم الدين، و «ما» الاستفهامية خبر ل «يوم الدين» ، فإن مدار الإفادة هو الخبر، يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع «يوم» وقرأ أبو عمرو في رواية «يوم» مرفوعا منونا على جعل الجملة بعده نعتا له، والعائد محذوف أي لا تملك فيه. وقرأ الباقون يوم بالفتح، وهي إما فتحة إعراب بإضمار اذكر، أو فتحة بناء وإنما بني لإضافته للفعل، وإن كان معربا على رأي الكوفيين ويكون خبرا لمبتدأ مضمر.
وقال أبو علي: إن اليوم لما جرى في أكثر الأمر ظرفا فاترك على حالة الأكثرية، ومما يقوى النصب قوله تعالى: وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ [القارعة: 2، 3] وقوله تعالى:
يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [الذاريات: 12، 13] .
قال الواحدي: والمعنى أن الله تعالى لم يملك في ذلك اليوم أحدا شيئا من الأمور كما ملكهم في دار الدنيا، وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) .
قال الواسطي: قوله: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً إشارة إلى فناء غير الله تعالى وهناك تذهب الرسالات والكلمات. وقوله: وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ إشارة إلى أن البقاء لله والأمر كذلك في الأزل، وفي اليوم وفي الآخرة، ولم يتغير من حال إلى حال فالتفاوت عائد إلى أحوال الناظر لا إلى أحوال المنظور إليه، فالكاملون لا تتفاوت أحوالهم بحسب تفاوت الأوقات.
__________
(1) رواه السيوطي في الدر المنثور (6: 325) ، بما معناه.(2/610)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10)
سورة التطفيف
وتسمى سورة المطففين، نزلت بين مكة والمدينة في مهاجرته صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة فاستتمت بالمدينة، هي ست وثلاثون آية، مائة وتسع وتسعون كلمة، سبعمائة وثمانون حرفا
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) أي شدة العذاب للناقصين في المكيال والميزان بالشيء القليل على سبيل الخفية.
روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قدم المدينة، وكان أهلها من أخبث الناس كيلا، فنزلت هذه الآية، فأحسنوا الكيل بعد ذلك.
بواحد ويعطي بآخر فنزلت:
الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) أي إذا اكتالوا من الناس مكيلهم بحكم الشراء ونحوه، يأخذونه وافيا وافرا حسب ما أرادوا بأي وجه تيسر من وجوه الحيل، وكانوا يفعلونه بكبس المكيل وتحريك المكيال، والاحتيال في ملئه. وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) ، أي وإذا كالوا مكيلهم أو وزنوا موزونهم للبيع ونحوه ينقصون في الكيل والوزن. ويروى عن عيسى بن عمر وحمزة أنهما كانا يجعلان الضميرين توكيدا لما في كالوا ووزنوا، ويقفان عند الواوين وقيفة يبينان بها ما أرادوا، أي إذا كالوا هم لغيرهم، أو وزنوا هم لغيرهم ينقصون، وإثبات الألف قبل هم لو لم يكن معتادا في زمان الصحابة لمنع من إثباتها في سائر الأعصار، أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أي ألا يوقن أولئك المطففون بالكيل والوزن أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) أي شديد هوله، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ من قبورهم لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) ، أي لحكمه.
روي عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه»
. وقرئ «يوم» بالنصب والجر، فالنصب منصوب بقوله تعالى: مَبْعُوثُونَ، أو بإضمار أعني والجر بدل من «يوم عظيم» ، أو هو حالة النصب مبني على الفتح لإضافته إلى الفعل وإن كان مضارعا كما هو رأي الكوفيين، فهو مرفوع المحل خبرا لمبتدأ مضمر، أو مجرور المحل بدلا من «يوم(2/611)
الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30)
عظيم» ويؤيده القراءة بالرفع والجر كَلَّا أي ارتدعوا عن التطفيف والغفلة عن ذكر البعث، وعلى هذا المعنى يوقف على «كلا» أو «كلا» بمعنى حقا فلا يوقف عليه، وكذا جميع ما يأتي من «كلا» في هذه السورة إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) ، أي إن كتابة أعمال الكفار لفي سجين، وهو موضع في الأرض السابعة السفلى، وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) وهذا تعظيم لأمر سجين، كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) أي إن كتاب الفجار كتاب معلم فيعلم من رآه أنه لا خير فيه،
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) أي الجزاء، وَما يُكَذِّبُ بِهِ أي بذلك اليوم إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أي متجاوز عن المنهج الحق، أَثِيمٍ (12) أي مبالغ في ارتكاب الإثم إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا أي القرآن قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) ، أي هذه إخبار الأولين فإن محمدا أخذ عنهم لا من الله تعالى فينكر النبوة، كَلَّا أي حقا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) أي ليس الأمر كما يقوله الكافر من أن ذلك أساطير الأولين، بل غطى على قلوبهم أفعالهم الماضية من الكفر والمعاصي
قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن العبد كلما أذنب ذنبا حصل في قلبه نكتة سوداء حتى يسود قلبه»
«1» . كَلَّا أي حقا يا محمد إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) أي إن المكذبين بيوم الدين لممنوعون يوم القيامة عن النظر إلى ربهم، والمؤمنون لا يحجبون عن النظر إلى ربهم، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) أي لداخلو النار العظيمة، ثُمَّ إذا دخلوها يُقالُ لهم من جهة الزبانية هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) أي هذا العذاب هو الذي كنتم تكذبون به في الدنيا، والآن قد عاينتموه فذوقوه، كَلَّا أي لا تكذبوا البعث وكتاب الله أو حقا، إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) أي إن كتابة أعمال الصادقين في إيمانهم لفي عليين، وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) وهذا تنبيه له صلّى الله عليه وسلّم على أنه معلوم له، كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) أي إن كتاب أعمالهم موضوع في عليين مكتوب في لوح من زبرجد أخضر، معلق تحت عرش الرحمن،
يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) أي يشهد الملائكة المقربون ذلك الكتاب إذا صعد به إلى عليين كرامة للمؤمنين، أو يشهدون بما فيه يوم القيامة لتعظيمه، إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) أي في جنة دائم نعيمها عَلَى الْأَرائِكِ أي الأسرة في الحجال، يَنْظُرُونَ (23) إلى ما شاءوا مدّ أعينهم إليه من أنواع النعيم والعذاب للكفار، تَعْرِفُ يا من يتأتى منك المعرفة فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) أي بهجة التنعم ورونقه من النور والضحك.
وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق، وشيبة، وطلحة، ويعقوب، والزعفراني تعرف مبنيا للمفعول ورفع نضرة وعلي بن زيد كذلك إلا أنه قرأ «يعرف» بالياء التحتية، يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ أي شراب خالص مَخْتُومٍ (25) ، أي يختم رأس قارورة ذلك الرحيق أوله ختام أي عاقبة
__________
(1) رواه ابن ماجة في كتاب الزهد، باب: مثل الدنيا، ومسلم في كتاب الزهد، باب: 1، وأحمد في (م 2/ ص 197) .(2/612)
وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
خِتامُهُ مِسْكٌ أي الذي يختم به رأس الإناء هو المسك، أو عاقبته المسك أي يختم له برائحة المسك. وقرأ الكسائي «خاتمه» بفتح التاء بعد الألف. وروي عنه أيضا كسر التاء، والمعنى:
خاتم رائحة ذلك الشراب مسك، وَفِي ذلِكَ أي الرحيق فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) أي فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة الله تعالى، وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) أي وما يمزج به ذلك الرحيق من ماء تسنيم. سميت هذه العين بالتسنيم لأنها أرفع شراب في الجنة، أو لأنها تأتيهم من فوق عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) ، وهم أفضل أهل الجنة، كما أن التسنيم هو أفضل أنهار الجنة.
قال ابن عباس: أشرف شراب أهل الجنة هو تسنيم، لأنه يشربه المقربون صرفا ويمزج لأصحاب اليمين، إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) أي إن أكابر المشركين كأبي جهل، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل السهمي، كانوا يضحكون من أجل فقراء المؤمنين كعمار، وصهيب، وبلال، وخباب، وَإِذا مَرُّوا
أي فقراء المؤمنين يأتون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بِهِمْ
، أي بالمشركين وهم في أنديتهم يَتَغامَزُونَ
(30) ، أي يشيرون إليهم بالأعين استهزاء، ويعيبونهم ويقولون: انظروا إلى هؤلاء يتعبون أنفسهم ويحرمونها لذاتها، ويخاطرون بأنفسهم في طلب ثواب لا يتيقنونه. قيل: جاء علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين فسخر منهم المنافقون، وضحكوا، وتغامزوا، ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا: رأينا اليوم الأصلع، فضحكوا منه، فنزلت هذه الآية قبل أن يصل علي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،
وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) أي وإذا رجع الكفار من مجالسهم إلى أهلهم رجعوا معجبين بما هم عليه من الشرك والتنعم بالدنيا، أو ملتذين بذكر المسلمين بالسوء. وقرأ عاصم في رواية حفص عنه «فكهين» بغير ألف في هذا الموضع وحده والباقون بالألف، وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33) أي وإذا رأى المجرمون المؤمنين أينما كانوا قالوا: إن هؤلاء المؤمنين على ضلال في تركهم التنعم الحاضر بسبب طلب ثواب لا يدري هل له وجود أم لا؟ والحال أن الله تعالى لم يبعث هؤلاء الكفار رقباء على المؤمنين يحفظون عليهم أحوالهم بل إنما أمروا بإصلاح أنفسهم، فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) أي فيوم القيامة يضحك المؤمنون على الكفار حين يرونهم مغلولين أذلاء عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) ، وهذا حال من فاعل «يضحكون» ، أي يضحك المؤمنون على الكفار ناظرين حال كونهم على سرر الحجال إليهم وإلى ما هم فيه من الهوان والصغار بعد العزة والكبر، هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) ؟ وهذا على سبيل التهكم، والمعنى: كأنه تعالى يقول للمؤمنين: هل جازينا الكفار على عملهم الذي كان من جملته ضحكهم بكم واستهزاؤهم بشريعتكم كما جازيناكم على أعمالكم الصالحة فيكون هذا القول زائدا في سرورهم.(2/613)
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)
سورة الانشقاق
مكية، خمس وعشرون آية، مائة وتسع كلمات، سبعمائة وثلاثون حرفا
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) من المجرة بالغمام، والمجرة: هي البياض المعترض في السماء وَأَذِنَتْ لِرَبِّها أي انقادت لتأثير قدرته، وَحُقَّتْ (2) أي وهي حقيقة بأن تنقاد، وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) مد الأديم العكاظي وزيدت في سعتها، وَأَلْقَتْ ما فِيها أي رمت بما في جوفها من الموتى والكنوز، وَتَخَلَّتْ (4) أي وخلت غاية الخلو حتى لم يبق في
باطنها شيء، وَأَذِنَتْ لِرَبِّها أي انقادت له في الإلقاء والتخلي، وَحُقَّتْ (5) أي وهي حقيقة بذلك وقوله تعالى: وَأَذِنَتْ لِرَبِّها يدل على نفوذ القدرة في شق السماء وبسط الأرض، وإخلاء ما فيها من غير ممانعة أصلا، وجواب «إذا» محذوف تقديره: علمت نفس عملها، أو ليذهب الوهم إلى كل شيء، وإن جعلت غير شرطية فهو منصوب باذكر مقدرا. يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) أي يا ابن آدم إنك متعب النفس في العمل في دنياك تعبا حتى ترجع به إلى ربك في الآخرة فملاق ذلك العمل خيرا كان أو شرا في الكتاب الذي فيه بيانه، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) أي فأما من أعطى كتاب عمله الذي كتبه الملائكة بيمينه من أمامه، فسوف يحاسب حسابا هينا، وهو العرض ويرجع إلى عشيرته المؤمنين مبتهجا بحاله قائلا: هاؤم اقرؤا كتابي. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) أي وأما من أعطي كتاب عمله بشماله من وراء ظهره
فسوف يتمنى الهلاك ويناديه بقوله: يا ثبوراه تعال وهذا أوانك وَيَصْلى سَعِيراً (12) ، أي ويدخل نارا وقودا. وقرأ أبو عمرو وعاصم بفتح الياء وسكون الصاد وتخفيف اللام. وقيل: قرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو بضم الياء وسكون الصاد. والباقون بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام، إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ أي فيما بين عشيرته في الدنيا مَسْرُوراً (13) بما هو عليه من الكفر بالله والتكذيب بالبعث يضحك ممن آمن بالله وصدق بالحساب. وقد
روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر»
«1» . إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) أي إنه ظن أنه لن يرجع في الآخرة إلى خلاف ما
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الزهد، باب: 73.(2/614)
وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
هو عليه في الدنيا من السرور والتنعم بَلى إن الله تعالى يبدل سروره بغم لا ينقطع وتنعمه ببلاء لا يزول، إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15) أي إن ربه كان عالما بما يعمله من الكفر والمعاصي فلم يهمله بأن لا يعاقبه على سوء أعماله. وقيل: نزلت هاتان الآيتان في أبي سلمة بن عبد الأسد وأخيه الأسود، فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وهو حمرة المغرب بعد غروب الشمس، وهي الأثر الباقي في الأفق من الشمس والفاء في جواب شرط مقدر، و «لا» زائدة أو نفي وهو رد لكلام قبل القسم، أي إذا عرفت هذا فلا تظن عدم الرجوع إلى الله في الآخرة، وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) أي جمع فإذا ستر الليل بظلمته الجبال والبحار والأشجار والحيوانات فقد جمعها وحملها، وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) أي تكامل وذلك في ثلاث ليال: ليلة ثلاثة عشر، وليلة أربعة عشر، وليلة خمسة عشر. لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) أي لتحولن يا أيها الإنسان حالا بعد حال، وذلك من حين خلقهم الله إلى أن يموتوا ومن حين موتهم إلى أن يدخلوا الجنة، أو النار.
وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بفتح الباء الموحدة على خطاب الإنسان في «يا أيها الإنسان» . والمعنى: كخطاب الجنس في قراءة العامة أو على خطاب الرسول، والمعنى:
لتصعدن يا أشرف الرسل طبقا مجاوزا لطبق في ليلة المعراج أي من سماء إلى سماء، أو لتركبن حال ظفر وغلبة بعد حال خوف وشدة. وقرئ بكسر الباء على خطاب النفس، أي لتركبن أيها النفس طريقة أمة من الناس بعد أمة. وقرئ «ليركبن» بالياء على المغايبة، وفتح الباء، أي ليركبن هذا المكذب بيوم الدين حالا بعد حال من حين يموت إلى أن يدخل النار، فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) أي إذا كان حالهم كما ذكر فأي شيء ثبت لكفار مكة حال كونهم غير مؤمنين ويقال:
فأيّ شيء لبني عبد ياليل الثقفي يمنعهم من الإيمان، وكانوا ثلاثة مسعود، وحبيب، وربيعة.
فأسلم منهم بعد ذلك حبيب وربيعة.
وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) أي لا يخضعون بأن يؤمنوا به، ولا يسجدون لتلاوته عند آيات مخصوصة.
روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ ذات يوم وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق: 19] . فسجد هو ومن معه من المؤمنين، وقريش تصفق فوق رؤوسهم وتصفر، فنزلت هذه الآية، واحتج أبو حنيفة بهذه على وجوب السجدة. وعن الحسن هي غير واجبة، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) بالقرآن الناطق بأحوال القيامة، ولذلك لا يخضعون عند تلاوته إما للحسد وإما لتقليد الأسلاف، وإما لخوف فوت مناصب الدنيا ومنافعها، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) أي بما يضمرون في قلوبهم من التكذيب، فهو مجازيهم عليه في الدنيا والآخرة، فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي أخبر يا أشرف الخلق من لا يؤمن بعذاب مؤلم إلا من تاب منهم لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) ، أي غير منقوص، ولا مكدر ولا مقطوع ويقال: غير منقوص حسناتهم بعد الهرم والموت.(2/615)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)
سورة البروج
مكية، ثنتان وعشرون آية، مائة وتسع كلمات، أربعمائة وثمانية وخمسون حرفا
وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) أي ذات المحال الاثني عشر، والطرق التي تسير فيها الكواكب السبعة وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) ، وهو يوم القيامة فإن الله تعالى وعد أهل السماء وأهل الأرض أن يجتمعوا فيه، وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) فالشاهد من يحضر في ذلك اليوم من الخلائق، والمشهود ما في ذلك اليوم من العجائب. قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) وهذا دليل جواب قسم محذوف، والتقدير: أقسم بهذه الأشياء إن كفار مكة ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود، وقيل: إن الجواب قوله تعالى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: 12] . والأخدود شق مستطيل في الأرض كالنهر، وذكر أن طوله أربعون ذراعا وعرضه اثنا عشر ذراعا. وأصحاب الأخدود هم أناس كانوا بمدارع اليمن كما قاله قتادة عن علي، أو هم الحبشة كما قاله الحسن عن علي أيضا. النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) من النفط، والزفت، والحطب.
وقرئ بضم الواو بمعنى الاتقاد وقوله: «النار» بدل اشتمال من الأخدود، ثم إن أصحاب الأخدود إما الجبابرة الذين قتلوا المؤمنين، فحينئذ إن قوله تعالى: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ إما خبر فالمعنى: أن أولئك القاتلين قتلوا بالنار على القول بأن الجبابرة لما أرادوا قتل المؤمنين بالنار عادت النار عليهم فقتلتهم فهم في تلك الحالة كانوا ملعونين، فالمعنى: أنهم خسروا الدنيا والآخرة، أو دعاء عليهم أي لعن أصحاب الأخدود، وإما المؤمنون المقتولون بالإحراق بالنار.
فيكون قوله تعالى: لعن أصحاب الأخدود خبرا لا دعاء. إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) ظرف ل «قتل» أي لعنوا حين كانوا جالسين على شفير النار يعذبون المؤمنين، فإن النار ارتفعت إليهم فهلكوا، أو يقال لعنوا إذ المؤمنون مطرحون على النار، وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) أي وهؤلاء الكفار مع ما يفعلون بالمؤمنين من الإحراق بالنار حضور لم تحصل في قلوبهم، شفقة ولا رأفة لغاية قسوة قلوبهم والوقف هنا تام إن جعل جواب القسم قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ بتقدير لقد وجائزا لطول الكلام إن جعل جواب القسم إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: 12] .
روى مسلم عن صهيب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كان الملك فيمن قبلكم ساحر فلما كبر قال(2/616)
للملك: إني قد كبرت فابعث إلي غلاما أعلمه السحر فبعث إليه غلاما ليعلمه، وكان في سلوك طريقه راهب فسمع كلامه فأعجبه فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب فقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه وإذا رجع من عند الساحر قعد إلى الراهب وسمع كلامه فإذا أتى أهله ضربوه فشكى ذلك إلى الراهب فقال: إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر، ثم رأى الغلام في طريقه ذات يوم حية قد حبست الناس فأخذ حجرا وقال: اللهم إن كان الراهب أحب إليك من الساحر فقوني على قتل هذه الحية بواسطة رمي الحجر إليها، ثم رمى الحجر فقتلها، ومضى الناس فاشتغل بطريقة الراهب، ثم صار إلى حيث يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء فسمع جليس للملك وكان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال: هذا لك إن شفيتني، فقال: إني لا أشفي أحد إنما يشفي الله تعالى، فإن آمنت بالله دعوت الله فشفاك، فآمن بالله فشفاه الله تعالى، فأتى الملك فجلس كما
كان يجلس، فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟
فقال: ربي قال: أولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فغضب فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجيء بالغلام فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب، فأحضر الراهب، فقال له: ارجع عن دينك، فأبى فقد بالمنشار من مفرق رأسه حتى وقع شقاه، ثم جيء بجليس الملك، فقال له:
ارجع عن دينك فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه، ثم جيء بالغلام، فقال له: ارجع عن دينك، فأبى، فقال لأصحابه: اذهبوا به فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته فاطرحوه إن لم يرجع عن دينه، فذهبوا به وصعدوا به الجبل، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل، فسقطوا وهلكوا ونجا ومشى إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك، فقال: كفانيهم الله، فقال لأصحابه اذهبوا به إلى البحر فاحملوه في قرقورة «1» فتوسطوا به البحر فاقذفوه إن لم يرجع عن دينه، فذهبوا به فلججوا به ليغرقوه فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة، فغرقوا ونجا ومشى إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك فقال:
كفانيهم الله، فقال للملك: لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد وتصلبني على جذع وتأخذ سهما من كنانتي، وتقول: باسم الله رب هذا الغلام، ثم ترميني به ففعل الملك ذلك فرماه بالسهم فوقع في صدغه فوضع يده عليه، ومات، فقال الناس آمنا برب هذا الغلام، فقيل للملك: نزل بك ما كنت تحذره، فأمر بأخاديد في أفواه السكك، وأوقدت فيها النيران فمن لم يرجع منهم عن دينه طرحه فيها حتى جاءت امرأة معها صبي فتقاعست أن تقع فيها، فقال الصبي: يا أماه، اصبري فإنك على الحق فاقتحمت»
«2» . وعن ابن عباس قال: كان بنجران بلد باليمن ملك من ملوك
__________
(1) القرقورة: وهي السبغة الطويلة [القاموس المحيط، مادة: قرقر] .
(2) رواه ابن ماجة في كتاب الصيام، باب: صيام العشر، وأحمد في (م 1/ ص 156) .(2/617)
حمير يقال له يوسف ذو نواس بن شرجيل في الفترة قبل أن يولد النبي صلّى الله عليه وسلّم بسبعين سنة، وكان في بلاده غلام يقال له عبد الله بن تامر، وكان أبوه سلمه إلى معلم يعلمه السحر فكره ذلك الغلام ولم يجد بدا من طاعة أبيه، فجعل يتردد إلى المعلم، وكان في طريقه راهب حسن الصوت، فأعجبه ذلك، فقعد إليه، وسمع كلامه ذاهبا، وراجعا فدعا الناس إلى دين عيسى عليه السلام، فأجابوه فسار إليه ذو نواس اليهودي بجنود من حمير فخيره بين النار واليهودية، فأبى إلى أن قال الغلام للملك: إنك لا تقدر على قتلي إلا أن تفعل ما أقول، قال: فكيف أقتلك؟ قال: تجمع أهل مملكتك وأنت على سريرك فترميني بسهم على اسم إلهي، ففعل الملك، فقتله، فقال الناس: لا إله إلا إله عبد الله بن تامر لا دين إلا دينه، فغضب الملك وأغلق باب المدينة وأخذ أفواه السكك وجعله أخدودا وملأه نارا فمن رجع عن الإسلام تركه، ومن قال ديني دين عبد الله بن تامر ألقاه في الأخدود وأحرقه، وكان في مملكته امرأة فأسلمت ولها أولاد ثلاثة أحدهم رضيع فقال لها الملك: ارجعي عن دينك وإلا ألقيتك وأولادك في النار، فأبت فأخذ ابنها الأكبر فألقاه في النار ثم قال لها: ارجعي فأبت، فأخذوا الصبي منها ليلقوه في النار فهمت المرأة بالرجوع فقال لها الملك: ارجعي عن دينك وإلا ألقيتك وأولادك في النار، فأبت أخذ ابنها الأكبر فألقاه في النار ثم قال لها: ارجعي فأبت، فأخذوا الصبي منها ليلقوه في النار فهمت المرأة بالرجوع فقال لها الصبي: يا أماه لا ترجعي عن الإسلام فإنك على الحق، ولا بأس عليك فألقى الصبي في النار وألقيت أمه عقبه. وعن وهب بن منبه: أحرق منهم اثني عشر ألفا في الأخاديد، ثم غلب أرياط على اليمن فخرج ذو نواس هاربا واقتحم البحر بفرسه، فغرق. وقال محمد ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر: إن خربة احترقت في زمن عمر، فوجدوا عبد الله بن تامر واضعا يده على ضربة في رأسه إذا أميطت يده عنها أنبعت دما وإذا تركت رجعت إلى مكانها، وفي يده خاتم من حديد فيه ربي الله فبلغ ذلك عمر، فكتب أن أعيدوا عليه الذي وجدتم عليه.
وروي عن علي أنه قال: حين اختلفوا في أحكام المجوس: هم أهل كتاب، وكانوا متمسكين بكتابهم، وكانت الخمر قد أحلت لهم، فتناولها بعض ملوكهم، فسكر، فوقع على أخته فلما صحا ندم وطلب المخرج، فقالت له: المخرج أن تخطب الناس فتقول يا أيها الناس إن الله تعالى قد أحل لكم نكاح الأخوات، ثم تخطبهم بعد ذلك فتقول: إن الله قد حرمه، فخطب فلم يقبلوا منه ذلك، فقالت: أبسط فيهم السوط، ففعل فلم يقبلوا، فقالت: أبسط فيهم السيف ففعل، فلم يقبلوا، فأمرته بالأخاديد وإيقاد النيران وطرح من أبى فيها. فهم الذين أرادهم الله تعالى بقوله تعالى: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ
، وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا أي وما عابوا من المؤمنين إلا إيمانهم بِاللَّهِ الْعَزِيزِ أي القادر الذي لا يغلب، والقاهر الذي لا يدفع الْحَمِيدِ (8) أي الذي يستحق الثناء على ألسنة عباده المؤمنين الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وخزائن المطر، والنبات وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) وهذا وعد عظيم للمطيعين ووعيد شديد للمجرمين إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي إن الذين أحرقوهم بالنار كما قاله(2/618)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20)
ابن عباس، ومقاتل أو أن الذين محنوهم في دينهم بالأذية والتعذيب ليرجعوا عنه، ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا عن كفرهم وفتنتهم فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) أي فلهم في الآخرة عذاب بسبب كفرهم، وعذاب زائد على عذاب الكفر بسبب إحراق المؤمنين بالنار، أو عذاب برد، وعذاب إحراق، أو فلهم في الآخرة عذاب جهنم، وفي الدنيا عذاب الحريق حيث ارتفعت عليهم نار الأخدود فاحترقوا بها، وكان هؤلاء قوما من نجران، وقيل: من أهل الموصل، وكان ملكهم يسمى يوسف، ويقال له ذو نواس
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ من المفتونين وغيرهم لَهُمْ بسبب الإيمان والعمل الصالح جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يتلذذون ببردها ويزول عنهم برؤية ذلك مع رؤية الأشجار جميع الأحزان والمضار ذلِكَ أي حيازتهم للجنات الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) وهو رضا الله تعالى إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ أي أن أخذه بالعذاب لمن لا يؤمن به لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) أي أنه تعالى يخلق خلقه، ثم يفنيهم، ثم يعيدهم أحياء ليجازيهم في القيامة، فذلك الإمهال لهذا السبب لا لأجل الإهمال ومن كان قادرا على الإيجاد والإعادة كان بطشه في غاية الشدة، وَهُوَ الْغَفُورُ لمن تاب من الكفر الْوَدُودُ (14) أي المحب لمن أطاع.
ذُو الْعَرْشِ أي خالقه ومالكه.
وقرئ «ذي العرش» على أنه صفة لربك. الْمَجِيدُ (15) قرأ حمزة، والكسائي بالجر على أنه صفة للعرش أو لربك، والباقون بالرفع على أنه خبر بعد خبر. قال العلماء: إن مجد الله عظمته بحسب الجود الذاتي، وكمال القدرة، والعلم، والحكمة، ومجد العرش: علوه في الجهة، وعظمة مقداره، وحسن صورته، وتركيبه. فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16) يدخل أولياءه الجنة لا يمنعه منه مانع، ويدخل أعداءه النار لا ينصرهم منه ناصر، ويمهل العصاة على ما يشاء إلى أن يجازيهم، ويعاجل بعضهم بالعقوبة إذا شاء، ويعذب من شاء منهم في الدنيا وفي الآخرة يفعل من هذه الأشياء، ومن غيرها ما يريد على ما يراه لا يعترض عليه معترض، ولا يغلبه غالب. قال الرازي:
«فعال» خبر مبتدأ محذوف وقال الطبري: رفع «فعال» وهو نكرة محضة على وجه الإتباع لإعراب «الغفور الودود» . هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) أي قد أتاك يا أشرف الرسل خبر الجموع فرعون وقومه، وثمود، وعرفت ما فعلوا من الكفر والضلال، وما فعل بهم من العذاب، والنكال، فأنذر قومك أن يصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم، «وفرعون» ، «وثمود» بدل من «الجنود» فذكر الله تعالى من المتقدمين ثمود ومن المتأخرين فرعون لأن ثمود كانوا في بلاد العرب، وقصتهم عندهم مشهورة، وأمر فرعون كان مشهورا عند أهل الكتاب وغيرهم فدل بهما على أمثالهما بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) أي ليست جناية قومك مجرد عدم الاتعاظ بما سمعوا من حديث أولئك، بل هم مع ذلك في تكذيب شديد للقرآن الناطق بذلك في أنه قرآن من عند الله تعالى مع ظهور حاله بالبينات الباهرة، والحال أن الله تعالى قادر على(2/619)
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
إهلاكهم ومعاجلتهم بالعذاب على تكذيبهم بالقرآن والنبوة وهم في قبضته تعالى كالمحاط إذا أحيط به من ورائه فسد عليه مسلكه فلا يجد مهربا،
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) أي ليس الأمر كما قالوا، بل هذا القرآن الذي يقرؤه محمد كتاب شريف عالي الطبقة فيما بين الكتب الإلهية في النظم والمعنى مكتوب في لوح محفوظ من وصول الشياطين إليه، ومن التحريف.
وقرأ نافع «محفوظ» بالرفع على أنه نعت ل «قرآن» ، والباقون بالجر على أنه نعت ل «لوح» ، وقرئ «قرآن مجيد» بالإضافة أي قرآن رب مجيد، وقرأ يحيى بن يعمر، وابن السميقع «في لوح» بضم اللام وهو الهواء الذي فوق السماء السابعة الذي فيه اللوح بفتح اللام، وهو عن يمين العرش مكتوب في صدره لا إله إلا الله وحده دينه الإسلام، ومحمد عبده ورسوله، فمن آمن بالله، وصدق بوعده، واتبع رسله أدخله جنته، وكونه محفوظا إما محفوظ عن أن يمسه إلا المطهرون، أو عن اطلاع الخلق عليه سوى الملائكة المقربين، أو عن أن يجري عليه تغيير وتبديل، فلما حكم فيه بسعادة قوم وشقاوة قوم وبتأذي قوم من قوم امتنع تغيره وتبدله فوجب الرضا به.(2/620)
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)
سورة الطارق
مكية، سبع عشرة آية، اثنتان وسبعون كلمة، مائتان وواحد وسبعون حرفا
وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) أي الظاهر في الليل وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) أي وأي شيء أعلمك يا أشرف الرسل ما الطارق قال سفيان بن عيينة: كل شيء في القرآن ما أدراك فقد أخبر الله الرسول به، وكل شيء فيه وما يدريك لم يخبره به النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) خبر مبتدأ محذوف والجملة استئناف وقع جوابا عن استفهام أي هو النجم المضيء في الغاية كأنه يثقب الأفلاك بضوئه، وينفذ فيها قيل: هو النجم الذي يقال له كوكب الصبح، وهو النجم الذي يهتدى به في ظلمات البر والبحر، ويوقف به على أوقات الأمطار، أو هو جنس الشهب الذي يرجم بها، ووصف النجم بكونه طارقا لأنه يبدو بالليل أو لأنه يطرق الجني أن يصكه، وقال محمد بن الحسين، والفراء: إنه زحل لأنه يثقب بنوره سمك سبع سموات، وقال ابن زيد: هو الثريا، وقال ابن عباس: هو الجدي، وقال علي: هو نجم في السماء السابعة لا يسكنها غيره من النجوم، فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء هبط فكان معها، ثم يرجع إلى مكانه من السماء السابعة، وهو زحل، فهو طارق حين ينزل وحين يصعد، وقال آخرون: إنه الشهب التي يرجم بها الشياطين لقوله تعالى: فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ [الصافات: 10]
روي أن أبا طالب أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم بخبز ولبن، فبينما هو جالس يأكل إذ انحط نجم فامتلأت الأرض نورا ففزع أبو طالب، وقال: أي شيء هذا؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«هذا نجم رمي به وهو آية من آيات الله» فعجب أبو طالب، فنزلت هذه السورة
إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4) ، وهذا جواب للقسم، و «إن» نافية و «لما» بمعنى إلا، أي ما كل نفس إلا عليها رقيب، وهو الله تعالى وهذا بالتشديد على قراءة عاصم، وحمزة، وابن عامر، والنخعي أما على قراءة ابن كثير، وأبي عمرو، ونافع، والكسائي، وهي بتخفيف الميم ف «إن» مخففة من الثقيلة واللام في «لما» مخلصة من «إن» النافية وما صلة أي إن الشأن كل نفس برة أو فاجرة لعليها من يحصي عليها ما تكسب من خير وشر وهم الملائكة. فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ أبو طالب وغيره مِمَّ خُلِقَ (5) أي من أي شيء خلق نفسه خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) ، وهو استئناف وقع جوابا عن استفهام أي خلق الإنسان من ماء ذي سيلان بسرعة في رحم المرأة يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7)(2/621)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
أي من صلب ماء الرجل، ومن عظام صدر المرأة، وقال الحسن: يخرج من صلب الرجل وترائبه، ومن صلب المرأة وترائبها، وحكى القرطبي أن ماء الرجل ينزل من الدماغ، ثم يتجمع في الأنثيين إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) أي إن الذي خلق الإنسان ابتداء قادر على رده حيا بعد موته.
يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9) أي يظهر ما أخفي من الأعمال، وما أسر في القلوب من العقائد، والنيات، وهو يوم القيامة. قال ابن عمر رضي الله عنهما: يبدي الله يوم القيامة كل سر فيكون زينا في الوجوه وشينا في الوجوه هذا إن أريد برجعه نشر الإنسان يوم القيامة، ف «يوم» ظرف نرجعه فلا يوقف على قوله تعالى: لَقادِرٌ وإن أريد برجعه رد الماء إلى الإحليل كما قاله مجاهد، أو إلى الصلب كما قاله عكرمة، والضحاك، أورد الإنسان ماء كما كان قبل كما قاله الضحاك أيضا ف «يوم» منصوب بمضمر أي واذكر «يوم» فالوقف على «لقادر» كاف كالوقف على «السرائر» إلا إذا جرينا على قول الرازي: إن «يوم» منصوب بقوله: فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ فلا وقف على السرائر فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10) أي فما للإنسان شيء من قوة يدفع به عن نفسه ما جاء من عذاب الله، ولا أحد من الأنصار ينصره في دفعه،
وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) أي ذات المطر بعد المطر حينا بعد حين، وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) أي ذات النبات لأن الأرض تنصدع بالنبات كما قاله الليث. إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) أي إن ما أخبرتكم به من قدرتي على إحيائكم في اليوم الذي تبلى سرائركم فيه لقول حق، وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) أي ليس ذلك الخبر بالباطل وهذا كما قاله القفال، لكن أكثر المفسرين قالوا: أي أن القرآن الذي أخبر بمبدأ حال الإنسان ومعاده لقول مبين، حق، وقاطع شر، وليس في شيء منه لعب، بل كله جد محض فمن حقه أن يهتدي به الغواة وتخضع له رقاب العتاة. إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) أي إن أهل مكة يمكرون في إبطال أمر القرآن وإطفاء نوره، وَأَكِيدُ كَيْداً (16) أي أقابلهم بكيد قوي لا يمكن رده حيث أمهلهم على كفرهم حتى آخذهم على غرة فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أي لا تستعجل يا أشرف الخلق بالدعاء عليهم بإهلاكهم أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17) أي أمهلهم على مهلة قريبة إلى يوم القيامة أو أمهلهم إمهالا قليلا إلى يوم بدر ف «رويدا» إما مصدر مؤكد لمعنى العامل، أو نعت لمصدره المحذوف.(2/622)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10)
سورة الأعلى
مكية، تسع عشرة آية، اثنتان وسبعون كلمة، مائتان وأربعة وثمانون حرفا
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) أي نزه اسمه تعالى عن الإلحاد فيه بالتأويلات الزائغة، وعن إطلاقه على غيره بوجه يشعر بتشاركهما فيه، فلا يجوز تفسير أسمائه تعالى بما لا يصح ثبوته في حقه تعالى نحو أن يفسر الأعلى بالعلو في المكان، والاستواء بالاستقرار، بل يفسر العلو بالقهر والاقتدار، والاستواء بالاستيلاء، ولا يجوز أن يذكر العبد ربه إلا بالأسماء التي ورد الإذن بها من الشرع قال الواحدي: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ أي نزه الاسم من السوء ومعنى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ نزه الله تعالى بذكر اسمه الدال على تنزيهه تعالى وعلوه عما يقول المبطلون، ومعنى الأعلى أن جلال كبريائه أعلى من معارفنا وإدراكاتنا وأصناف آلائه ونعمائه أعلا من حمدنا وشكرنا، وأنواع حقوقه أعلى من طاعاتنا وأعمالنا.
وقرأ علي، وابن عمر «سبحان ربي الأعلى» الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) أي الذي خلق كل ذي روح فكمل خلقه باليدين، والرجلين، والعينين، والأذنين، وسائر الأعضاء، وَالَّذِي قَدَّرَ قرأه الجمهور مشددا أي أوقع تقديره في كل شيء، فقدر خلقه حسنا أو دميما، طويلا أو قصيرا، وقدر أرزاقهم وآجالهم، وقرأه الكسائي على التخفيف أي تصرف في خلقه كيف أراد فَهَدى (3) أي لمنافع الخلق ومصالحه فألهم كيف يأتي الذكر الأنثى، ويروى أن الأفعى إذا بلغت ألف سنة عميت، وقد ألهمها الله تعالى أن تحك عينها بورق الرازيانج فيرد الله إليها بصرها، ويروى أن التمساح لا يكون له دبر وإنما يخرج فضلات ما يأكله من فمه حيث قيض الله له طائرا قدر غذاءه من ذلك فإذا رآه التمساح يفتح فمه فيدخله الطائر فيأكل ما فيه، وقد خلق الله تعالى له من فوق منقاره ومن تحته قرنين لئلا يطبق عليه التمساح فمه وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4) أي أنبت النبات والزروع، وقال ابن عباس: أي الكلأ الأخضر فَجَعَلَهُ بعد خضرته غُثاءً أَحْوى (5) أي درينا أسود بأن ألصق السيل أجزاء كدورة به فيسود سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) أي نجعلك قارئا للقرآن فتقرؤه فلا تنسى أي إنّا نشرح صدرك ونقوي خاطرك حتى تحفظ القرآن حفظا لا تنساه. قال مجاهد، ومقاتل، والكلبي: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل عليه القرآن أكثر تحريك لسانه مخافة أن ينسى، وكان جبريل لا يفرغ من آخر الوحي. فقال تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى أي سنعلمك(2/623)
وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
هذا القرآن حتى تحفظه إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أن ينسى النبي شيئا من القرآن، وهذا الاستثناء بيان أنه تعالى لو أراد أن يصير النبي ناسيا لذلك لقدر عليه، وبالجملة ففائدة هذا الاستثناء أن الله تعالى يعرفه قدرة الله حتى يعلم أن عدم النسيان من فضل الله لا من قوته صلّى الله عليه وسلّم، وقال الزجاج: أي إلا ما شاء الله أن ينسى فإنه ينسى ثم يتذكر بعد ذلك فلا ينسى، نسيانا كليا دائما، وقال مقاتل: إلا ما شاء الله أن ينسيه فيكون المعنى إلا ما شاء الله أن تنساه على الأوقات كلها، فيأمرك أن لا تقرأه ولا تصلي به فيصير ذلك سببا لنسيانه وزواله من الصدور. إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) أي أنه تعالى عالم بجهرك في القراءة مع قراءة جبريل عليه السلام، وعالم بالسر الذي في قلبك وهو أنك تخاف النسيان فلا تخف فأنا أكفيك ما تخافه، وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) أي نوفقك للطريقة اليسرى في كل أبواب من باب الدين علما وتعليما واهتداء وهداية، فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) أي عظ يا أشرف الرسل الناس بالقرآن واهدهم إلى ما فيه من الأحكام الشرعية كما كنت تفعله إن نفعت الموعظة، فالتذكير العام واجب في أول الأمر، فأما التكرير فإنما يجب عند رجاء حصول المقصود، فلهذا المعنى قيد التذكير بهذا الشرط وقيل «إن» بمعنى إذ كقوله تعالى: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، [آل عمران: 139] سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وهو من قطع بصحة المعاد، ومن جوز وجوده بخلاف من أصر على إنكاره وقطع بأنه لا يكون. قيل: نزلت هذه الآية في عثمان بن عفان، وقيل: نزلت في ابن أم مكتوم،
يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى
(11) أي ويتباعد عن الموعظة بالقرآن الأشقى، وهو المعاند الذي لا يلتفت إلى الدعوة ولا يصغي إليها فالفرق ثلاثة: العارف بصحة المعاد، والمتوقف فيه، والمعاند. فالعارف هو السعيد، والمتوقف له بعض الشقاء، والمعاند هو الأشقى، قيل: نزلت هذه الآية في الوليد، وعتبة، وأبي الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) أي الذي يدخل الطبقة السفلى من طبقات النار، ثُمَّ بعد دخوله النار لا يَمُوتُ فِيها حتى يستريح وَلا يَحْيى (13) حياة تنفعه قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) أي تطهر من دنس الشرك، كما قال ابن عباس أي من قال: لا إله إلا الله، وقال الزجاج: أي من تكثر من التقوى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ بقلبه ولسانه فَصَلَّى (15) فمراتب أعمال المكلف ثلاثة: إزالة العقائد الفاسدة عن القلب، واستحضار معرفة الله تعالى بذاته وصفاته وأسمائه، والاشتغال بخدمته، وقال بعضهم أي قد فاز من تصدق بصدقة الفطر قبل خروجه إلى المصلى، وكبر الله تعالى، ثم صلى صلاة العيد مع الإيمان فأثنى الله على من فعل ذلك، وإن لم يكن في مكة عيد ولا زكاة فطر لأن ذلك في علم الله سيكون، بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) أي أنتم يا كفار مكة لا تفعلون ذلك، بل أنتم ترضون اللذات الفانية وتطمئنون بها وتعرضون عن الآخرة بالكلية، أو أنتم أيها المسلمون لا تكثرون من التقوى، بل تستكثرون من الدنيا الدنية على الاستكثار من الثواب، وقرأ أبو عمرو «يؤثرون» بالياء أي الأشقون، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) أي والحال أن الآخرة خير في نفسها وأدوم لأنها مشتملة على السعادة الجسمانية والروحانية ولذاتها خالصة عن الغائلة إِنَّ هذا أي قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ، لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) أي لثابت معناه فيها صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19) .(2/624)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)
سورة الغاشية
مكية، ست وعشرون آية، اثنتان وتسعون كلمة، ثلاثمائة وأحد وثمانون حرفا
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) أي خبر القيامة التي تغشى الناس جميعا من الأولين والآخرين بشدائدها، و «هل» استفهام أريد به التعجب مما في ذلك الحديث، والتشويق إلى استماعه وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ غشيت خاشِعَةٌ (2) أي ذليلة بالعذاب عامِلَةٌ أعمالا شاقة ناصِبَةٌ (3) أي ذات تعب فيها، وهي جر السلاسل، والأغلال، وخوضهم في النار خوض الإبل في الوحل، وصعودهم في تلال النار وهبوطهم في وهادها وهم الرهبان وأصحاب الصوامع كما قاله ابن عباس، أو هم الخوارج كما قاله علي تَصْلى ناراً حامِيَةً (4) أي تدخل نارا متناهية في الحر.
وقرأ أبو عمرو، وعاصم بضم التاء الفوقية وقوله تعالى: وُجُوهٌ مبتدأ وخاشِعَةٌ وما بعده خبره، وقيل خبره «تصلى» وما قبله صفات ل «وجوه» ولا يوقف قبل الخبر، وقرئ «عاملة» ناصبة على الشتم تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) أي متناهية في الحر لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) وهو ما يبس من الشبرق وهو نبت يكون في طريق مكة إذا كان رطبا تأكل منه الإبل، وإذا يبس صار كأظفار الهرة، وهو سم قاتل، وهذا طعام لبعض أهل النار، والزقوم، والغسلين لآخرين لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) أي غير مسمن وغير مشبع لأنه ليس من جنس ضريع الدنيا.
روي أن كفار قريش قالت: إن الضريع لتسمن عليه إبلنا فنزلت هذه الآية، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) أي ذات حسن وجمال لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) أي لثواب عملها الذي عملته في الدنيا راضية حين رأت ذلك الثواب حتى لا تريد أكثر منه فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) مكانا ومنقبة
لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) .
قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، وحفص بفتح التاء ونصب «لاغية» أي لا تسمع أنت يا أكرم الرسل، أو يا مخاطب، أو لا تسمع الوجوه في الجنة كلمة ذات لغو، فإنما يتكلمون بالحكمة، وحمد الله على النعم، وقرأ نافع بضم التاء الفوقية ورفع «لاغية» ، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو بضم الياء التحتية ورفع «لاغية» ، وقرأ المفضل، والجحدري بفتح الياء التحتية ونصب «لاغية» أي لا يسمع فيها أحد يمينا لا برة ولا فاجرة فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) أي في الجنة عين شراب جارية على(2/625)
فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
وجه الأرض في غير أخدود، وتجري لهم كما أرادوا. فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) في الهواء لأجل أن يرى المؤمن إذا جلس عليها جميع ما أعطاه ربه في الجنة من النعيم، والملك. قال ابن عباس:
هي سرر ألواحها من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت مرتفعة في السماء وَأَكْوابٌ أي كيزان مَوْضُوعَةٌ (14) بين أيديهم لاستحسانهم إياها بسبب كونها من ذهب، أو فضة، أو من جوهر وتلذذهم بالشراب منها وَنَمارِقُ أي وسائد مَصْفُوفَةٌ (15) بعضها إلى جانب بعض أينما أراد أن يجلس جلس على واحدة واستند إلى أخرى وَزَرابِيُّ أي بسط فاخرة مَبْثُوثَةٌ (16) أي منشورة مفرقة في المجالس، فلما أخبرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك قال كفار مكة: ائتنا بآية بأن الله أرسلك إلينا رسولا فقال الله تعالى: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) أي أينكر كفار مكة البعث، ويستبعدون وقوعه من قدرة الله فلا ينظرون إلى الإبل نظر اعتبار كيف خلقت بشدة قوتها، وعجيب هيئتها، وصبرها على الجوع، والعطش، واحتمال المداومة على السير، وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) فوق الأرض بلا عماد ولا إمساك وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) نصبا رضيا على الأرض لا يتزلزل وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) أي بسطت على الماء.
وقرئ «سطحت» مشددا، وقرأ علي رضي الله عنه وكرم وجهه «خلقت» و «رفعت» و «نصبت» و «سطحت» على البناء للفاعل وبتاء المتكلم، فَذَكِّرْ أي فاقتصر على التذكير والحمل على النظر في هذه الأدلة
إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) فلا بأس عليك في أن لا ينظروا بالاعتبار ولا يتذكروا بالافتكار إنما عليك البلاغ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) أي لست يا أشرف الخلق بمتسلط عليهم بأن تجبرهم على الإيمان، وقرأ هشام بالسين، وحمزة بإشمام الصاد كالزاي، والباقون بالصاد الخالصة، وقرئ بفتح الطاء إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) ، وفي هذا الاستثناء قولان:
أحدهما:
إنه استثناء حقيقي وفي هذا احتمالان: إما أن يكون مستثنى من المفعول أي فذكر عبادي إلا من أعرض عن الإيمان وكفر بالقرآن فاستحق العذاب الأكبر، وإما أن يكون مستثنى من الضمير في «عليهم» أي لست عليهم بمسيطر إلا على من انقطع طمعك من إيمانه وتولى عنك وكفر بالله، فإن لله القهر، وسيأمرك بقتالهم، فإن جهاد
الكفار وقتلهم تسليط، فكأنه تعالى أوعدهم بالجهاد في الدنيا وبعذاب النار في الآخرة.
ثانيهما:
إن هذا الاستثناء منقطع عما قبله والتقدير لست بمستول عليهم، لكن من تولى منهم فإن الله تعالى يعذبه العذاب الأكبر الذي هو عذاب جهنم، وعلامة كون الاستثناء منقطعا حسن دخول «أن» في المستثنى به وإذا كان الاستثناء متصلا لم يحسن ذلك ألا ترى أنك تقول:
عندي مائتان إلا درهما، فلا يحسن عليه دخول أن، وهاهنا يحسن دخول أن فإنك تقول إلا أن من تولى وكفر، فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) وسمي العذاب بالأكبر لأنه قد بلغ حد عذاب(2/626)
الكفر، فإن ما عداه من عذاب الفسق دونه، وقرئ «ألا من تولى» بفتح الهمزة على التنبيه، وهذا مما يقوي القول بأن الاستثناء منقطع، وفي قراءة ابن مسعود «فإنه يعذبه الله» . إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) أي رجوعهم بالموت والبعث لا إلى أحد سوانا قرأ أبو جعفر المدني بتشديد الياء، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26) في المحشر على النقير والقمطير لا على غيرنا، والحساب واجب عليه تعالى بحكم الوعد الذي يمتنع الخلف فيه، وفي الحكمة فإنه تعالى لو لم ينتقم للمظلوم من الظالم لكان ذلك شبيها بكونه تعالى راضيا بذلك الظلم تعالى الله تعالى عنه، وذكر تعالى هذه الآية ليزيل بها عن قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم حزنه على كفرهم.(2/627)
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10)
سورة الفجر
مكية، تسع وعشرون آية، مائة وتسع وثلاثون كلمة، خمسمائة وسبعة وتسعون حرفا
وَالْفَجْرِ (1) وهو صبح النهار أقسم الله به لحصول انتشار الناس وسائر الحيوانات به في طلب الرزق، فهو مشاكل لنشور الموتى من قبورهم وفيه عبرة لمن تأمل، وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) من أول ذي الحجة
وفي الخبر: «ما من أيام العمل الصالح فيها أفضل من أيام العشر»
«1» ، وذلك لأنها أيام الاشتغال بالحج في الجملة، وقرئ و «ليال عشر» بالإضافة على أن المراد بالعشر الأيام، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) فالشفع يوم النحر، والوتر يوم عرفة، وقد روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم فسرهما بيوم النحر، ويوم عرفة، وقال أبو بكر الوراق «الشفع» صفات الخلق كالعلم والجهل، والقدرة، والعجز، والبصر، والعمى، والحياة، والموت، والوتر صفات الله تعالى وهي وجود بلا عدم، حياة بلا موت، علم بلا جهل، قدرة بلا عجز، عز بلا ذل، وقال مقاتل: «الشفع» : هو الليالي والأيام، و «الوتر» هو اليوم الذي لا ليل بعده، وهو يوم القيامة، وقرأ حمزة والكسائي «والوتر» بكسر الواو، والباقون بفتحها، والكسر قراءة الحسن، والأعمش، وابن عباس، وهي لغة تميم، والفتح قراءة أهل المدينة، وهي لغة حجازية، وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) أي يذهب وهي ليلة المزدلفة، فإنه يذهب ويجيء فيه الناس، وقال مقاتل: أي إذا يسار في ذلك الليل وهي ليلة المزدلفة، وقرأ نافع: وأبو عمرو بحذف ياء يسر وقفا وبإثباتها وصلا، وأثبتها ابن كثير في الحالين، وحذفها الباقون في الحالين لسقوطها في خط المصحف الكريم، وقرئ «يسر» بالتنوين كما قرئ به «والفجر» «والوتر» وهو التنوين الذي يقع بدلا من حرف الإطلاق هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أي هل في هذه الأشياء المذكورة مقسم به لذي عقل، والمراد من هذا الاستفهام التأكيد والتحقيق والمعنى: أن من كان ذا لب علم أن ما أقسم الله تعالى بهذه الأشياء فيه عجائب ودلائل على التوحيد والربوبية، فهو حقيق بأن يقسم به لدلالته على خالقه، وجواب القسم محذوف لدلالة المعنى عليه أي لنجازين كل أحد بما عمل بدليل تعديد ما فعل بالقرون الخالية، فالوقف هنا تام
__________
(1) رواه القرطبي في التفسير (20: 88) . [.....](2/628)
كما قاله أبو حاتم وغيره، وقال ابن الأنباري: جواب القسم قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ أي وإنما أجازوا الوقف هنا لطول الكلام، لكن ينبغي حينئذ أن يقال وقف صالح أو نحوه لا تام للفصل بين القسم وجوابه أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) أي ألم تعلم يا أشرف الخلق علما يقينا كيف أهلك الله قوم هود عند التكذيب إِرَمَ عطف بيان ل «عاد» للإعلام بأنهم عاد الأولى القديمة إن جعلنا إرم اسما للقبيلة بتقدير مضاف أي سبط إرم فإرم جد عاد فإن عادا هو ابن عوص بن إرم ابن سام بن نوح عليه السلام وإن جعلناه اسم البلدة كان التقدير بعاد أهل إرم ويدل عليه قراءة ابن الزبير «بعاد إرم» على الإضافة وقرأ الحسن «بعاد إرم» مفتوحتين ذاتِ الْعِمادِ (7) أي ذات الأساطين من ذهب وفضة أي ذات القدود الطوال الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها أي مثل تلك المدينة في الحسن، والجمال، أو مثل عاد في عظم الجثة وشدة القوة فِي الْبِلادِ (8) أي في جميع بلاد الدنيا.
وقرأ ابن الزبير و «لم يخلق مثلها» بالبناء للفاعل أي لم يخلق الله مثل إرم مدينة شداد. روي أنه كان لعاد ابنان شداد، وشديد فملكا بعده وقهرا البلاد والعباد، ثم مات شديد وخلص الملك لشداد فملك الدنيا ودانت له الدنيا، وكان يحب قراءة الكتب القديمة فسمع بذكر الجنة وصفتها ودعته نفسه إلى بناء مثلها عتوا على الله تعالى فبنى مدينة إرم في بعض صحاري عدن في ثلاثمائة سنة، وهي مدينة عظيمة قصورها من الذهب، والفضة، وأساطينها من الزبرجد، والياقوت، وفيها أصناف الأشجار والأنهار المطردة، فروى وهب بن منبه عن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له شردت فبينما هو يسير في صحارى عدن إذ وقع على مدينة في تلك الفلوات عليها حصن وحول الحصن قصور كثيرة فلما دنا منها ظن أن فيها أحدا يسأله عن إبله فلم ير خارجا ولا داخلا فنزل عن دابته وعقلها وسل سيفه ودخل من باب المدينة، فإذا هو ببابين عظيمين وهما مرصعان بالياقوت الأحمر فلما رأى ذلك دهش ففتح الباب ودخل، فإذا هو بمدينة لم ير أحد مثلها وإذا فيها قصور في كل قصر منها غرف وفوق الغرف غرف مبنية بالذهب والفضة وأحجار اللؤلؤ والياقوت، وإذا أبواب تلك القصور مثل مصاريع باب المدينة يقابل بعضها بعضا وهي مفروشة كلها باللؤلؤ وبنادق المسك والزعفران فلما عاين ذلك، ولم ير أحدا هاله ذلك، ثم نظر إلى الأزقة فإذا في تلك الأزقة أشجار مثمرة وتحت تلك الأشجار أنهار يجري ماؤها في قنوات من فضة، فقال الرجل في نفسه: هذه الجنة وحمل معه من لؤلؤها ومن بنادق مسكها وزعفرانها، ورجع إلى اليمن وأظهر ما كان معه وحدث بما رأى، فبلغ ذلك معاوية فأرسل إليه فقدم عليه فسأله عن ذلك فقص عليه ما رأى فأرسل معاوية إلى كعب الأحبار فلما أتاه وقال له: يا أبا إسحاق هل في الدنيا مدينة من ذهب وفضة قال: نعم هي إرم ذات العماد بناها شداد ابن عاد، قال:
فحدثني حديثها، فقال: لما أراد شداد بن عاد عملها أمر عليها مائة قهرمان مع كل قهرمان ألف(2/629)
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)
من الأعوان، وكتب إلى ملوك الأرض أن يمدوهم بما في بلادهم من الجواهر فخرجت القهارمة يسيرون في الأرض ليجدوا أرضا موافقة فوقفوا على صخرة نقية من التلال وإذا فيها عيون ماء ومروج فقالوا: هذه الأرض التي أمر الملك أن يبني فيها، فوضعوا أساسها من الجزع اليماني وأقاموا في بنائها ثلاثمائة سنة، وكان عمر شداد تسعمائة سنة فلما أتوه وقد فرغوا منها قال:
انطلقوا فاجعلوا حصنا أي سوار واجعلوا حوله ألف قصر وعند كل قصر ألف علم ليكون في كل قصر وزير من وزرائي، ففعلوا وأمر الملك وزراءه وهم ألف وزير أن يتهيئوا للنقلة إلى إرم ذات العماد، وكان الملك وأهله في جهازهم عشر سنين، ثم ساروا إليها فلما كانوا من المدينة على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليه وعلى من كان معه صيحة من السماء فأهلكتهم جميعا، ولم يبق منهم أحد، ثم قال كعب: وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عنقه خال يخرج في طلب إبل له، ثم التفت فأبصر عبد الله بن قلابة، فقال:
هذا والله هو ذلك الرجل، وَثَمُودَ أي وكيف أهلك الله قوم صالح، وثمود قبيلة مشهورة سميت باسم جدهم ثمود أخي جديس، وهما ابنا عامر بن إرم بن سام بن نوح
عليه السلام، وكانوا يسكنون الحجر بين الحجاز وتبوك يعبدون الأصنام كعاد الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9) أي الذين نقبوا صخر الجبال فاتخذوا فيها بيوتا بوادي القرى، وهو موضع بقرب المدينة قيل: هم أول من نحت الجبال والصخور والرخام وبنوا ألفا وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة، وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) سمي بذلك لأنه كان يعذب الناس ويشهدهم بأربعة أوتاد مطروحين على الأرض إلى أن يموتوا، وقيل: لكثرة جنوده وخيامهم التي ينصبونها في منازلهم، وقال ابن عباس أي ذي الجنود والعساكر التي تشد ملكه
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) والموصول منصوب على الذم أو مرفوع كذلك أي الذين تجبر كل واحد من عاد، وثمود، وفرعون في بلادهم على أنبياء الله والمؤمنين فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) بالقتل وعبادة الأوثان وسائر المعاصي فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) أي فأنزل الله إنزالا شديدا عقب طغيانهم وفسادهم على كل طائفة من أولئك الطوائف جزء عذاب فأهلك عادا بالريح، وثمود بالصيحة، وفرعون بالغرق، وذكر السوط إشارة إلى أن ما أنزله الله بهم في الدنيا من العذاب العظيم بالقياس إلى ما أعد لهم في الآخرة كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به إِنَّ رَبَّكَ يا أشرف الخلق لَبِالْمِرْصادِ (14) أي لفي الطريق عليه تعالى ممر سائر الخلق كما قاله ابن عباس أو إن إليه المصير كما قاله الفراء وهذا عام للمؤمنين والكافرين فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ أي إذا امتحنه ربه بالنعمة فَأَكْرَمَهُ بالمال والجاه والولد وَنَعَّمَهُ أي وسع عليه معيشته فَيَقُولُ رَبِّي أي فضلني بما أعطاني وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ أي وأما هو إذا اختبره ربه بالفقر فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ أي فضيق عليه معيشته فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) قوله تعالى: فأما الإنسان متصل من حيث المعنى بقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ فكأنه قيل: إن(2/630)
كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
الله لا يريد من الإنسان إلا الطاعة التي تنفعه في الآخرة، فإنه يراقب أحواله ويجازيه بأعماله خيرا وشرا في الآخرة، فأما الإنسان فلا يريد إلا الدنيا ولذاتها فإن وجد الراحة في الدنيا يقول: ربي أكرمني، وإن لم يجدها يقول: ربي أهانني وأما هنا لمجرد التأكيد لا لتفصيل المجمل مع التأكيد، و «الإنسان» مبتدأ خبره «فيقول» والظرف وهو «إذا» منصوب بالخبر لأن الظرف في نية التأخير ودخول الفاء في الخبر لما في أما من معنى الشرط، وما زائدة، والفاء في قوله تعالى:
فَأَكْرَمَهُ تفسيرية، والوقف في «أكرمن» مفهوم وفي «أهانن» حسن. وقال أبو عمرو والوقف فيهما كاف، وقيل: تام، وقال الكلبي: إن المراد من الإنسان أبي بن خلف، وقال مقاتل، وابن جرير: نزلت هذه الآية في أمية بن خلف وروي عن ابن عباس أن المراد بالإنسان عتبة بن ربيعة، وأبو حذيفة بن المغيرة، وقيل: إنه كافر جاحد ليوم الجزاء.
وقرأ نافع «أكرمن» و «أهانن» بإثبات الياء فيهما وصلا وحذفها وقفا، وقرأهما البزي عن ابن كثير بإثباتها في الحالين، وعن أبي عمرو: إن الحذف في الوصل أعدل، والباقون بالحذف في الحالين، وقرأ ابن عامر «فقدر عليه رزقه» بتشديد الدال أي جعله على مقدار البلغة كَلَّا رد على من ظن ذلك المذكور، والمعنى: ليس إكرامي بالمال والغنى، بالفقر، وقلة المال، ولكن إكرامي بالمعرفة والتوفيق وإهانتي بالنكرة والخذلان، والوقف هنا حسن وهو أحسن من الوقف على «أهانن» ، بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) أي قل يا محمد لهم: بل لكم أحوال أشد شرا من ذلك القول، وهو أن الله تعالى يكرمكم بكثرة المال فلا تؤدون ما يلزمكم فيه، فإنكم لا تحسنون إلى اليتيم ولا تعرفون حقه، وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) بحذف إحدى التاءين، وهو قراءة الكوفيين أي لا يحض بعضكم بعضا على إطعام المسكين، وقرئ «ولا تحضوا» أي لا تأمرون بإطعامه، وفي قراءة ابن مسعود «ولا تحاضون» بضم التاء أي لا يحض كل واحد منكم صاحبه، وهذا إشارة إلى ترك بر اليتيم. وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا (19) أي وتأكلون تراث اليتامى أكلا جامعا فإنكم تجمعون نصيبهم إلى نصيبكم، وهذا إشارة إلى دفع اليتيم عن حقه الثابت له في الميراث، وأكل ماله. وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) أي كثيرا وهذا إشارة إلى أخذ مال اليتيم منه، وقرأ أبو عمرو يكرمون وما بعده بالياء التحتية
كَلَّا أي لا ينبغي أن يكون الأمر هكذا في الحرص على الدنيا حتى إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) أي إذا انكسر كل شيء على وجه الأرض من جبل، وشجر، وبناء حين زلزلت فلم يبق على ظهرها شيء حتى صارت ملساء، وَجاءَ رَبُّكَ أي جاء ظهوره وقهره أي حصل تجليه تعالى على الخلائق أي زالت الشبهة، وارتفعت الشكوك وظهر سلطان قهره، وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) أي وتنزل ملائكة كل سماء فيصطفون صفا بعد صف بحسب مراتبهم محدقين بالجن والإنس فيكونون سبعة صفوف، وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ مزمومة بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها إلى(2/631)
المحشر ويكشف عنها حتى رآها الخلق، وعلم الكافر أن مصيره إليها يَوْمَئِذٍ بدل من «إذا دكت» . يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما فرط فيه ويتعظ الكافر، فيقول: يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا، وهذا جواب «إذا» ، وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) أي ومن أين له العظة وقد فاته أوانها يَقُولُ أي الإنسان الكافر يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فيا للتنبيه أي ليتني قدمت عملا يوجب نجاتي من النار حتى أكون من الأحياء، فَيَوْمَئِذٍ أي يوم إذ يقول الإنسان ذلك لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) أي لا يعذب أحد من الزبانية مثل تعذيب الكافر، وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) أي ولا يوثق أحد من الزبانية بالسلاسل والأغلال مثل إيثاق الكافر لتناهيه في كفره وفساده.
وقرأ الكسائي «لا يعذب ولا يوثق» بفتح الذال والثاء أي لا يعذب أحد مثل عذاب الكافر ولا يوثق أحد بالسلاسل والأغلال مثل وثاق الكافر. يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) بذكر الله وطاعته، وقرأ أبي بن كعب «يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة» وهي التي لا يستفزها خوف ولا حزن وهذه الخاصة قد تحصل عند الموت عند سماع البشارة من الملائكة وتحصل عند البعث وعند دخول الجنة بلا شك أي يقول الله للمؤمن إكراما له أو على لسان ملك يا أيتها النفس المطمئنة ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ أي إلى ثواب ربك راضِيَةً بما أوتيت من النعيم المقيم مَرْضِيَّةً (28) عند الله عز وجل في الأعمال التي عملتها في الدنيا، فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) أي في زمرة عبادي الصالحين المختصين بي، وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) معهم، وقرئ «فادخلي في عبدي» وقرئ في «جسد عبدي» وهذا يؤيد كون الخطاب عند البعث. قيل: نزلت هذه الآية في حمزة بن عبد المطلب، وروى الضحاك أنها نزلت في عثمان حين وقف بئر رومة، وقيل نزلت في خبيب بن عبد الذي صلبه أهل مكة وجعلوا وجهه إلى المدينة، فقال: اللهم إن كان لي عندك خير فحول وجهي نحو قبلتك فحول الله وجهه نحوها فلم يستطع أحد أن يحوله والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.(2/632)
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)
سورة البلد
مكية، هي عشرون آية، اثنتان وثمانون كلمة، ثلاثمائة وعشرون حرفا
لا قال الأخفش هي مزيدة أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وهو مكة وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) أي أنت نازل في هذا البلد، أو أنت في حل مما صنعت في هذا البلد، فإن الله فتح مكة عليه صلّى الله عليه وسلّم وما فتحت على أحد قبله، ولا أحلت له فأحل صلّى الله عليه وسلّم فيها ما شاء وحرم ما شاء. قتل عبد الله بن خطل، وهو متعلق بأستار الكعبة، ومقيس بن صبابة وغيرهما وحرم دار أبي سفيان، ثم قال: إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لم تحل لأحد قبلي، ولن تحل لأحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار فلا يعضد شجرها، ولا يختلي خلاها، ولا ينفر صيدها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد،
فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقيوننا وقبورنا وبيوتنا، فقال صلّى الله عليه وسلّم إلا الإذخر
وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) فالوالد آدم وما ولد بنوه، وقيل كل والد وولده لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4) أي في اعتدال القامة، أو في تعب فإنه لا يزال يقاسي فنون الشدائد من وقت نفخ الروح إلى حين نزعها، وما وراءه، وليس في هذه الدنيا لذة ألبتة فالذي يظن الإنسان أنه لذة فهو خلاص عن الألم، وما يتخيل من اللذة عند الأكل فهو خلاص عن ألم الجوع، وما يتخيل من اللذة عند اللبس، فهو خلاص عن ألم الحر والبرد، فليس للإنسان إلا ألم، أو خلاص عن ألم، فإذا لا بد بعد هذه الدار من دار أخرى لتكون تلك الدار دار اللذات والسعادات والكرامات أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) أي أيحسب الإنسان بقوته أنه لن يقدر على بعثه ومجازاته، أو على تغيير أحواله أحد
وهو الله تعالى يَقُولُ أي الإنسان كلدة بن أسيد أو الوليد بن المغيرة أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً (6) أي أنفقت مالا كثيرا في عداوة محمد عليه الصلاة والسلام، فلم ينفعني ذلك شيئا.
وقرأ أبو جعفر بتشديد الباء مفتوحة، وقرأ مجاهد وحميد بضم الباء واللام مخففا، والباقون بضم اللام وكسرها وفتح الباء مخففا، أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أي أيحسب هذا الإنسان أنه لم يره أحد، وهو الله تعالى حين كان ينفق وأنه تعالى لا يسأله عن إنفاقه ولا يجازيه(2/633)
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
عليه. أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) ينظر بهما وَلِساناً ينطق به وَشَفَتَيْنِ (9) يستر بهما فاه وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) أي بيّنا له الطريقين: طريق الخير، والشر، أو دللناه على الثديين لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه، فإن الله تعالى هدى الطفل الصغير إلى الثديين حتى ارتضعهما
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) أي فهلا تلبس من أنفق ماله بمجاهدة النفس والهوى والشيطان في أعمال البر، أو فلم يشكر تلك النعم الجليلة بتحصيل الأعمال الصالحة، وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) أي أي شيء أعلمك ما الدخول في صعاب الطريق فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أي هي إعتاق رقبة، أو إعطاء مكاتب ما يصرفه إلى جهة فكاك نفسه، أو تخليص شخص من قود، أو غرم، أو فك المرء رقبة نفسه باجتناب المعاصي وفعل الطاعات التي يصير بها إلى الجنة ويتخلص بها من النار، فهذه هي الحرية الكبرى أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) أي مجاعة يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أي ذا قرابة أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) أي ذا افتقار كأنه لصق بالتراب من ضره، فليس فوقه ما يستره، ولا تحته ما يفرشه.
قرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة بصيغة المصدر في «فك» و «إطعام» وهو خبر مبتدأ محذوف، والباقون بصيغة الفعل فيهما على الإبدال من «اقتحم» المنفي بلا كأنه قيل:
فلا فك رقبة ولا أطعم فلا مكررة في المعنى، فلا يقال: إن لا لا تدخل على الماضي إلا مكررة، ثُمَّ كانَ أي مكتسب الطاعات داخل الأمور الصعاب مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ أي أوصى بعضهم بعضا بالصبر على أداء الطاعات وعلى المرازي، وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أي بالرحمة على عباده فقوله: وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ إشارة إلى التعظيم لأمر الله وقوله: وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ إشارة إلى الشفقة على خلق الله ومدار أمر الطاعات ليس إلا على هذين الأصلين فإن الأصل في التصوف أمران صدق مع الحق، وخلق مع الخلق أُولئِكَ أي الموصوفون بتلك الصفة أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) أي الجانب الذي فيه البركة والنجاة من كل هلكة، وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا أي بما نصبناه دليلا على الحق من كتاب وحجة هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) أي الخصلة المكسبة للحرمان عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20) أي مطبقة فلا يخرجون منها أبدا. قرأ أبو عمرو، وحفص، وحمزة بالهمزة، والباقون بواو ساكنة.(2/634)
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
سورة الشمس
مكية، خمس عشرة آية، أربع وخمسون كلمة، مائتان وسبعة وأربعون حرفا
وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) أي ضوئها إذا ارتفعت وقام سلطانها، وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) أي تبع الشمس بأن طلع بعد غروبها وذلك في النصف الأول من الشهر، وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها (3) أي إذا أظهر الشمس فإنها تنكشف عند انبساط النهار فكأنه أظهرها مع أنها هي التي تبسطه، وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4) أي يغطي ضوء الشمس بظلمته وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) أي والذي خلقها وهو الله تعالى أقسم بنفسه، وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) أي بسطها على الماء، وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) أي وجسد كثير والذي أنشأها متناسبة الأعضاء، أو وقوة مدبرة، والذي أعطاها قوى كثيرة كالقوة السامعة، والباصرة، والمفكرة، والمذكرة فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) أي أفهمها حالاهما من الحسن والقبيح، وقيل: ألهم الله الكافر فجوره، وألهم المؤمن المتقي تقواه. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) أي قد أدرك من طهر نفسه من الذنوب مطلوبه بفعل الطاعة ومجانية المعصية، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) أي وقد خسر من أخفى نفسه في المعاصي حتى انغمس فيها
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) أي فعلت ثمود تكذيب الرسول بسبب مجاوزتها الحد في العصيان، أو كذبت ثمود بعذابها أي لم يصدقوا رسولهم فيما أنذرهم به العذاب فالطغوى على هذا اسم للعذاب الذي أهلكوا به إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) أي حين قام أشقى ثمود، وهو قدار بن سالف ومصدع بن دهو لعقر الناقة برضاهم، فَقالَ لَهُمْ أي لثمود رَسُولُ اللَّهِ صالح لما عرف منهم أنهم قد عزموا على عقر الناقة ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) أي ذروا عقر الناقة التي هي آية الله الدالة على توحيده وعلى نبوتي واحذروا شربها فلا تمنعوها عنه في نوبتها، فَكَذَّبُوهُ أي رسول الله صالحا في وعيده بالعذاب، فَعَقَرُوها قال الفراء: عقر الناقة اثنان، وقال قتادة: ذكر لنا إن قدار أبى أن يعقرها حتى بايعه صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم، فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ أي أهلكهم ربهم بِذَنْبِهِمْ أي بسبب قتلهم الناقة وتكذيبهم صالحا عليه السلام، فَسَوَّاها (14) أي سوى هذه الطائفة في إنزال العذاب بهم صغيرهم، وكبيرهم، ووضيعهم، وشريفهم، وذكرهم، وأنثاهم.
وقرأ ابن الزبير «فدهدم» بهاء بين الدالين، وَلا يَخافُ عُقْباها (15) أي ولا يخاف الله عاقبة(2/635)
هذه الفعلة كما تخاف الملوك عاقبة ما تفعله، وهذه إشارة إلى أنهم أذلاء عند الله تعالى، وقيل: لا يخاف رسول الله صالح عقبى هذه العقوبة ولا يخشى ضررا يعود عليه من عذابهم، وقيل: قام الأشقى لعقر الناقة والحال أنه غير خائف عاقبة هذه الفعلة الشنعاء أي فهو كالآمن من نزول الهلاك به وبقومه، ففعل مع هذا الخوف الشديد فعل من لا يخاف ألبتة فنسب في ذلك إلى الحمق. وقرأ نافع، وابن عامر «فلا يخاف» بالفاء، والباقون بالواو، وهي للحال، أو للاستئناف الإخباري، وقرئ «ولم يخف» وهو مروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.(2/636)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20)
سورة والليل
مكية، إحدى وعشرون آية، إحدى وسبعون كلمة، ثلاثمائة وعشرون حرفا، قال القفال رحمه الله: نزلت هذه السورة في أبي بكر وإنفاقه على المسلمين وفي أمية ابن خلف وبخله وكفره بالله، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) أي حين يغشى الشمس وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) أي ظهر بزوال ظلمة الليل وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) أي والذي خلق صنفي الذكر والأنثى من كل ما له توالد. قرأ النبي صلّى الله عليه وسلّم «والذكر والأنثى» ، وقرأ ابن مسعود «والذي خلق الذكر والأنثى» ، وعن الكسائي «وما خلق الذكر» بالجر والمعنى: وما خلقه الله تعالى أي ومخلوق الله، ثم يجعل الذكر بدلا منه أي ومخلوق الله الذكر والأنثى. إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) أي أن عملكم لمختلف في الجزاء لأن بعضه ضلال يوجب النيران وبعضه هدى يوجب الجنان، فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) أي فأما من أعطى من ماله في سبيل الله واجتنب المحارم وصدق بالشرائع فسنهيئه للخصلة التي تؤدي إلى راحة، كدخول الجنة، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) أي وأما من بخل بماله فلم يبذله في سبيل الخير واستغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة، وكذب بعدة الله من الخلف الحسن، فسنهيئه للخصلة المؤدية إلى الشدة كدخول النار،
وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) أي ولا ينفعه ماله الذي جمعه في الدنيا إذا مات، أو أي شيء ينفعه ماله الذي بخل به، ولم يصحبه معه إلى آخرته إذا سقط في حفرة قبر أو في جهنم. إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) أي إن الذي يجب علينا في الحكمة إذ خلقنا الخلق للعبادة أن نبين لهم وجوه التعبد فقد فعلنا ما كان فعله واجبا علينا في الحكمة، وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) أي إن لنا ملك الدارين نعطي من نشاء ما نشاء فمن طلبهما من غيرنا فقد أخطأ الطريق فليطلب سعادتهما منا فَأَنْذَرْتُكُمْ أي خوفتكم يا أهل مكة ناراً
تَلَظَّى
(14) أي تتوقد.
وقرئ شاذا بالتاءين لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) أي لا يدخلها دخولا لازما مؤبدا إلا الكافر الذي هو شقي لأنه كذب بآيات الله، وأعرض عن طاعة الله. قال ابن عباس:
نزلت هذه الآية في أمية بن خلف، وأمثاله الذين كذبوا محمدا والأنبياء قبله وَسَيُجَنَّبُهَا(2/637)
وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى
(18) أي وسيبعد عنها المبالغ في اتقاء المعاصي الذي يعطي ماله ويصرفه في وجوه الحسنات طالبا أن يكون ناميا عند الله تعالى لا يريد بذلك رياء ولا سمعة،
وروى الضحاك عن ابن عباس: عذب المشركون بلال بن رباح واسم أمه حمامة، وبلال يقول:
أحد أحد، فمر النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أحد ينجيك» ، ثم قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر: «يا أبا بكر إن بلالا يعذب في الله» «1» فعرف أبو بكر ما يريده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فانصرف إلى منزله فأخذ رطلا من ذهب ومضى به إلى أمية بن خلف، فقال له: أتبيعني بلالا قال: نعم، فاشتراه، فأعتقه، فقال المشركون ما فعل ذلك أبو بكر ببلال إلا ليد كانت لبلال عنده فأنزل الله تعالى قوله:
وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ أي الأتقى مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) أي لم يفعل أبو بكر ذلك مجازاة لأحد بيد كانت له عنده، لكن فعله ابتغاء وجه الله تعالى.
وقرأ يحيى بن وثاب برفع «الابتغاء» على البدل من محل «نعمة» ، فإنه رفع إما على الفاعلية، أو على الابتداء و «من» مزيدة، ويجوز أن يكون مفعولا له لأن المعنى لا يؤتي ماله إلا ابتغاء وجه ربه لا لمكافأة نعمة،
وَلَسَوْفَ يَرْضى (21) أي ما أنفق أبو بكر إلا لطلب رضوان الله، وبالله لسوف يرضى الله عنه، ولم يكن للنبي ولا لغيره عليه نعمة دنيوية، بل كان أبو بكر هو الذي ينفق على رسول الله، وإنما كان للنبي عليه نعمة الهداية إلى الدين إلا أن هذه نعمة لا يجزى الإنسان بها قال ابن الزبير: كان أبو بكر يشتري الضعفة من العبيد فيعتقهم، فقال له أبوه: يا بني لو كنت تشتري من يمنع ظهرك، فقال: منع ظهري أريد، فأنزل الله تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى إلى آخر السورة، وقرئ «يرضى» مبنيا للمفعول.
__________
(1) رواه السيوطي في الدر المنثور (6: 361) ، والقرطبي في التفسير (20: 93) وفيه: «في بيت رسول الله» .(2/638)
وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)
سورة الضحى
مكية، إحدى عشرة آية، أربعون كلمة، مائة وسبعون حرفا
وَالضُّحى (1) وهو أول النهار حين ترفع الشمس وتلقي شعاعها وتخصيصه بالإقسام به لأنه الساعة التي كلم الله موسى فيها، وألقي السحرة فيها سجدا وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) أي أظلم واسود، ونقل عن قتادة، ومقاتل، وجعفر الصادق أن المراد بالضحى هو الضحى الذي كلم الله تعالى فيه موسى عليه السلام، وبالليل ليلة المعراج، وقيل: إنما ذكر ساعة من النهار، وذكر الليل بكليته لأن النهار وقت السرور، والراحة، والليل وقت الوحشة، والغم، فهو إشارة إلى أن هموم الدنيا أدوم من سرورها، فإن الضحى ساعة والليل ساعات ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ أي ما قطعك ربك قطع المودع، والمفارق.
وقرأ عروة بن الزبير، وابنه هشام، وابن أبي عبلة بتخفيف الدال أي ما تركك ربك يا أشرف الرسل منذ أوحى إليك تركا تحصل به فرقة كفرقة المودع وَما قَلى (3) أي ما أبغضك ربك منذ أحبك. روى البخاري عن جندب بن سفيان قال: اشتكى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلتين أو ثلاثا، فجاءت أم جمل امرأة أبي لهب فقالت: يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث، فنزلت هذه الآية،
وروي أن خولة كانت تخدم النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: إن جروا دخل البيت فدخل تحت السرير، فمات فمكث النبي صلّى الله عليه وسلّم أياما لا ينزل عليه الوحي، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «يا خولة ما حدث في بيتي إن جبريل عليه السلام لا يأتيني» «1» . قالت خولة: فكنست فأهويت بالمكنسة تحت السرير فإذا جرو ميت فأخذته فألقيته خلف الجدار فجاء نبي الله صلّى الله عليه وسلّم ترعد لحياه، وكان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة، فقال: «يا خولة دثريني» «2» . فأنزل الله تعالى هذه السورة ولما نزل جبريل عليه السلام سأله النبي صلّى الله عليه وسلّم عن التأخر فقال: أما علمت أنّا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة
، وروي أن الوحي تأخر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أياما لزجره سائلا ملحا، فقال
__________
(1) رواه السيوطي في الدر المنثور (6: 361) ، والقرطبي في التفسير (2: 93) .
(2) رواه المتقي الهندي في كنز العمال (16253) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (3: 99) .(2/639)
المشركون: إن محمدا ودعه ربه وقلاه فنزلت، وروي أن سبب احتباس جبريل عليه السلام لأنه كان فيهم من لا يقلم الأظفار وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) أي وللأحوال الآتية خير لك من الماضية كأنه تعالى وعده بأنه سيزيد كل يوم عزا إلى عز، ومنصبا إلى منصب، فيقول: لا تظن أني قليتك، بل إني أزيدك منصبا وجلالا، ثم إن هذا التشريف وإن كان عظيما إلا أن مالك عند الله في الآخرة خير وأعظم، أو وللآخرة خير لك من الدنيا لأن الكفار في الدنيا يطعنون فيك، أما في الآخرة فأجعل أمتك شهداء على الأمم، وأجعلك شهيدا على الأنبياء، ثم أجعل ذاتي شهيدا لك كما قال تعالى: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح: 28، 29] وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ من خيرات الدنيا والآخرة فَتَرْضى (5) .
روي عن علي بن أبي طالب، وابن عباس أن هذا هو الشفاعة في الأمة
كما
يروى أنه صلّى الله عليه وسلّم لما نزلت هذه الآية قال: إذا لا أرضى وواحد من أمتي في النار
،
وعن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه قال: رضي جدي أن لا يدخل النار موحد،
وهذا أيضا وعده تعالى رسوله على أحوال الدنيا، فهو إشارة إلى ما أعطاه الله تعالى من الظفر بأعدائه يوم بدر، ويوم فتح مكة، ودخول الناس في الدين أفواجا، والغلبة على قريظة، والنضير وإجلائهم وبث عساكره في بلاد العرب، وما فتح على خلفائه الراشدين في أقطار الأرض من المدائن، وما هدم بأيديهم من ممالك الجبابرة، وما وهبهم من كنوز الأكاسرة، وما قذف في أهل الشرق والغرب من الرعب، وتهيب الإسلام وفشو الدعوة أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) بمد الهمزة أي ضمك إلى من يكفلك، وقرأ أبو الأشهب «فأوى» ثلاثيا أي فرحمك، روي أن عبد الله بن عبد المطلب توفي وهو صلّى الله عليه وسلّم جنين قد أتت عليه ستة أشهر، ثم ولد رسول الله فكان مع عبد المطلب، ومع أمه آمنة، فماتت وهو ابن ست سنين فكان مع جده، ثم مات بعد آمنة بسنتين ورسول الله ابن ثمان سنين، وكان عبد المطلب يوصي أبا طالب به فكان هو الذي يكفل رسول الله بعد جده إلى أن بعثه الله للنبوة، فقام بنصرته صلّى الله عليه وسلّم، ثم توفي أبو طالب فذكره الله هذه النعمة
روي أن أبا طالب قال يوما لأخيه العباس: ألا أخبرك عن محمد بما رأيت منه، فقال: بلى، فقال: إني ضممته إلي فكنت لا أفارقه ساعة من ليل ولا نهار ولا أأتمن عليه أحدا حتى إني كنت أنومه في فراشي، فأمرته ليلة أن يخلع ثيابه وينام معي فرأيت الكراهة في وجهه، لكنه كره أن يخالفني، وقال: «يا عماه اصرف بوجهك عني حتى أخلع ثيابي إذ لا ينبغي لأحد أن ينظر إلى جسدي» ، فتعجبت من قوله وصرفت بصري حتى دخل الفراش فلما دخلت معه في الفراش إذ بيني وبينه ثوب في غاية اللين وطيب الرائحة كأنه غمس في المسك، فجهدت لأنظر إلى جسده فما كنت أرى شيئا وكنت أفتقده من فراشي مرارا فإذا قمت لأطلبه ناداني ها أنا يا عم فأرجع ولقد كنت أسمع منه مرارا كلاما يعجبني، وذلك عند مضي بعض الليل
وكان يقول في أول الطعام: «باسم الله الأحد» ، فإذا فرغ من طعامه قال: «الحمد لله» ، فتعجبت(2/640)
منه، ثم لم أر منه كذبة، ولا ضحكا، ولا جاهلية، ولا وقف مع صبيان يلعبون
وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى (7) أي وجدك خاليا من الشريعة فهداك بإنزالها إليك، وقيل: وجدك ضالا عن عبد المطلب فردك إليه، كما
روي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «ضللت عن جدي عبد المطلب، وأنا صبي ضائع كاد الجوع يقتلني، فهداني الله»
وروي عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ضل في شعاب مكة وهو صبي فتعلق عبد المطلب بأستار الكعبة وقال:
يا رب رد ولدي محمدا ... اردده رب واصطنع عندي يدا
فما زال يردد هذا عند البيت حتى أتاه أبو جهل على ناقة ومحمد بين يديه، وهو يقول: لا تدري ماذا ترى من ابنك، فقال عبد المطلب ولم قال: إني أنخت الناقة وأركبته من خلفي فأبت الناقة أن تقوم، فلما أركبته أمامي قامت الناقة، وكانت تقول: يا أحمق هو الإمام فكيف يقوم خلف المقتدي، وقال ابن عباس: رده الله إلى جده بيد عدوه كما فعل بموسى حين حفظه على يد عدوه، وَوَجَدَكَ عائِلًا أي فقيرا كما روي أن في مصحف عبد الله «ووجدك عديما» ، وقرأ اليماني «عيلا» بكسر الياء المشددة كسيد، فَأَغْنى (8) أي أغناك بالقناعة، فصرت بحال يستوي عندك الحجر والذهب لا تجد في قلبك سوى ربك، وقيل أغناك بمال أبي بكر وبهيبة عمر.
روي أن عمر قال حين أسلم والأصحاب كانوا يعبدون الله سرّا: يا رسول الله ابرز أنعبد نحن اللات جهرا ونعبد الله سرا، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «حتى تكثر الأصحاب» فقال: حسبك الله وأنا، فقال تعالى:
حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
[الأنفال: 64] وقيل أغناه الله تعالى بتربية أبي طالب، ولما اختلت أحوال أبي طالب أغناه بمال خديجة، ولما اختل ذلك أغناه بمال أبي بكر، ولما اختل ذلك أمره بالهجرة، وأغناه بإعانة الأنصار، ثم أمره بالجهاد وأغناه بالغنائم، ثم
قال صلّى الله عليه وسلّم: «جعل رزقي تحت ظل رمحي»
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) أي لا تحتقر اليتيم فقد كنت يتيما كما قاله مجاهد، أو فلا تغلبه على ماله، وقرئ «فلا تكهر» أي فلا تعبس وجهك إليه، وروي أن هذه الآية نزلت حين صاح النبي صلّى الله عليه وسلّم على ولد خديجة وإذا كان هذا العتاب بمجرد الصياح أو العبوسة في الوجه، فكيف إذا أذل التيم أو أكل ماله؟ وروي أن موسى عليه السلام قال: إلهي بما نلت ما نلت قال الله تعالى: «أتذكر حيث هربت منك السخلة فلما قدرت عليها قلت أتعبت نفسك، ثم حملتها فلهذا السبب جعلتك وليا على الخلق، فلما نال موسى عليه السلام النبوة بالإحسان إلى الشاة فكيف بالإحسان إلى اليتيم، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) أي لا تغلظ له القول، بل رده ردا لينا برفق والمراد من السائل. مطلق السائل.
روي أنه صلّى الله عليه وسلّم كان جالسا فجاء عثمان بتمر فوضعه بين يديه، فأراد أن يأكل فوقف سائل بالباب فقال: رحم الله عبدا يرحمنا فأمر بدفعه إلى السائل فكره عثمان ذلك وأراد أن يأكله النبي صلّى الله عليه وسلّم، فخرج واشتراه من السائل، ثم رجع السائل وكان النبي يعطيه ففعل(2/641)
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
ذلك ثلاث مرات، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم أسائل أنت أم بائع فنزل
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ واختار الحسن أن المراد من السائل من يسأل العلم،
وروى الزمخشري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا رددت السائل ثلاثا فلم يرجع فلا عليك أن تزبره»
«1»
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) قال مجاهد: تلك النعمة هي القرآن فالتحديث به أن يقرأه ويقرئ غيره، وروي عنه أيضا أن تلك النعمة هي النبوة أي بلّغ ما أنزل إليك من ربك،
وروي عن الحسين بن علي رضي الله عنهما أنه قال: إذا عملت خيرا فحدث به إخوانك ليقتدوا بك إلا أن هذا إنما يحسن إذا لم يتضمن رياء، وظن أن غيره يقتدي به،
وروي أن شخصا كان جالسا عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فرآه رث الثياب فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ألك مال» قال:
نعم، فقال له صلّى الله عليه وسلّم: «إذا آتاك الله مالا فلير أثره عليك»
وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر النعمة على عبده»
«2» .
__________
(1) رواه مسلم في الإيمان 147، وأحمد في (م 4/ ص 133) ، والحاكم في المستدرك (1:
26) ، والطبراني في المعجم الكبير (8: 24) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (2: 213) ، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5108) ، والبغوي في شرح السنة (13: 165) ، وابن حجر في المطالب العالية (2170) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (6: 498) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (17165) ، والسيوطي في مجمع الجوامع (4777) ، والقرطبي في التفسير (1: 696) ، والألباني في السلسلة الصحيحة (1: 211) ، والسيوطي في الدر المنثور (3: 79) ، والعراقي في المغني عن محل الأسفار (4: 290) ، والشجري في الأمالي (2: 217) ، والمنذري في الترغيب والترهيب (3: 567) .
(2) رواه أبو داود في السنن (887) .(2/642)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
سورة ألم نشرح
مكية، ثمان آيات، وتسع وعشرون كلمة، ومائة وثلاثة أحرف
يروى عن طاوس وعمر بن عبد العزيز كانا يقولان: هذه السورة وسورة الضحى سورة واحدة، وكان يقرءانهما في الركعة الواحدة وما كانا يفصلان بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم. قال الجمل: ولما ذكر الله تعالى بعض النعم عليه صلّى الله عليه وسلّم بقوله تعالى: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ [الضحى: 3] إلخ أتبعه بما هو كالتتمة له وهو شرح الصدور فقال: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) قال في نور المقياس:
أَنْقَضَ ظَهْرَكَ
(3) أي خففنا عنك أعباء النبوة التي تثقل ظهرك من القيام بأمرها والمحافظة على حقوقها بأن يسرها الله عليه صلّى الله عليه وسلّم حتى تيسرت له، وقيل عصمناك عن الوزر الذي يثقل ظهرك، وقيل: لئن كان نزول السورة بعد موت أبي طالب وخديجة فلقد كان فراقهما عليه صلّى الله عليه وسلّم وزرا عظيما، فوضع عنه الوزر برفعه إلى السماء حتى لقيه كل ملك وحياه فارتفع له الذكر فلذلك قال تعالى: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4) أي رفع ذكره حيث قرن اسمه باسم الله تعالى في(2/643)
كلمة الشهادة والأذان والإقامة، وجعل طاعته من طاعته تعالى وصلى عليه هو وملائكته، وأمر المؤمنين بالصلاة عليه وسمي رسول الله، ونبي الله ولو أن رجلا عبد الله تعالى وصدق بالجنة والنار وكل شيء ولم يشهد أن محمدا رسول الله لم ينتفع بشيء وكان كافرا، فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) ف «أل» في «العسر» الأول للعهد الحضوري وفي الثاني للعهد الذكري فالعسر واحد وهو العسر الذي كانوا فيه، فهو هو وتنكير «يسرا» للتفخيم كأنه قيل: إن مع العسر يسرا عظيما ويسرا كاملا فتناول يسر الدارين ولذلك
قال صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده لو كان العسر في جحر ضب لتبعه اليسر حتى يخرجه لن يغلب عسر يسرين»
فقوله تعالى: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً تكرير للتأكيد أو عدة مستأنفة بأن العسر مشفوع بيسر آخر، وفي مصحف ابن مسعود جملة واحدة مرة واحدة قال الرازي: والمراد من اليسرين
في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لن يغلب عسر يسرين»
يسر الدنيا ويسر الآخرة وهما استفتاح البلاد، وثواب الجنة وهذه الآية تثبيت لما قبلها، ووعد كريم بتيسير كل عسير له صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين كأنه قيل خولناك ما خولناك من جلائل النعم فكن على ثقة بفضل الله تعالى ولطفه فإن مع العسر يسرا كثيرا، فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) أي فإذا فرغت من عبادة فأتبعها بعبادة أخرى بأن تواصل بين بعض العبادات وبعض وأن لا تخلي وقتا من أوقاتك منها. قال قتادة والضحاك ومقاتل: إذا فرغت من الصلاة المكتوبة فاتعب في الدعاء وارغب إلى ربك في المسألة يعطك، وقال الشعبي: إذا فرغت من التشهد فادع لدنياك وآخرتك، وقال مجاهد: إذا فرغت من أمر دنياك فاتعب وصل، وقال عبد الله بن مسعود: إذا فرغت من الفرائض فاتعب في قيام الليل، وقال ابن حبان عن الكلبي: إذا فرغت من تبليغ الرسالة فاتعب واستغفر لذنبك وللمؤمنين، وقال علي بن أبي طلحة: إذا كنت صحيحا فاجعل فراغك تعبا في العبادة، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إني أكره أن أرى أحدكم فارغا لا في عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة، وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) أي إلى ربك فارفع حوائجك واجعل رغبتك إليه خصوصا ولا تسأل إلا فضله متوكلا عليه، وقرئ «فرغب» أي رغب الناس إلى طلب ما عنده تعالى.(2/644)
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
سورة التين
مكية، ثمان آيات، أربع وثلاثون كلمة، مائة وخمسون حرفا
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) هما ثمران معلومات أقسم الله بهما لما فيهما من المصالح والمنافع، فإن التين فاكهة طيبة لا عجم له وغذاء لطيف سريع الهضم ودواء كثير النفع يلين الطبع ويحلل البلغم، ويسمن البدن، ويفتح سدد الكبد والطحال، ويقطع البواسير والزيتون فاكهة وآدام ودواء، وقال ابن زيد: التين مسجد دمشق والزيتون مسجد بيت المقدس، وقال محمد بن كعب: التين مسجد أصحاب أهل الكهف، والزيتون مسجد إيليا، وعن ابن عباس: التين مسجد نوح المبني على الجودي، والزيتون مسجد بيت المقدس، وقال الضحاك: التين المسجد الحرام، والزيتون المسجد الأقصى، وعن الربيع: هما جبلان بين همذان وحلوان، وقال كعب: التين دمشق والزيتون بيت المقدس، وقال شهر بن حوشب: التين الكوفة والزيتون الشام، وَطُورِ سِينِينَ (2) وهو جبل ثبير وهو جبل بمدين الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام، وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) وهو مكة فهو أمين من أن يهاج فيه على من دخل فيه. لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) أي كائنا في أحسن ما يكون من تعديل صوره ومعنى فإنه تعالى خلقه مستوي القامة متناسب الأعضاء متصفا بأكمل عقل، وفهم، وعلم، وأدب إذا تكامل شبابه، ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) أي حال كونه أسفل سافلين أي حيث لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا لضعف بدنه وسمعه وبصره وعقله، فلا يكتب له وقتئذ حسنة أو رددناه مكانا أسفل سافلين، وهو النار، وقرأ عبد الله أسفل «السافلين» معرفا، والسافلون هم الضعفاء والزمنى والصغار فالشيخ الكبير أسفل من هؤلاء جميعا إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) وهذا الاستثناء على القول الأول منقطع، والمعنى: ثم رددناه أسفل ممن سفل بعد ذلك التحسين في أحسن الصورة حيث نكسناه في خلقه فقوس ظهره وضعف بصره، وسمعه، ولكن الذين كانوا صالحين من الهرمى فلهم ثواب دائم أو فلهم أجر غير ممنون به عليهم، أما على القول الثاني فهو متصل من ضمير رددناه فإنه في معنى الجمع(2/645)
والمعنى: ثم رددناه أسفل ممن سفل أي أقبح من كل قبيح صورة وأسفل من كل سافل من أهل الدركات، وهم أهل النار إلا الذين كانوا صالحين فلا نردهم أسفل سافلين.
فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) و «ما» اسم استفهام على وجه الإنكار والتعجب والخطاب للإنسان على طريقة الالتفات أي فما الذي يحملك أيها الإنسان على التكذيب بالبعث بعد ظهور هذه الدلالة الناطقة بالجزاء، أي فإن خلق الإنسان من النطفة وتقويمه بشرا سويا وتحويله من حال إلى حال كمالا ونقصانا من أوضح الدلائل على قدرة الله تعالى على البعث والجزاء فمن شاهد تلك الحالة، ثم بقي مصرا على إنكار الحشر فلا شيء أعجب منه وقيل الخطاب للرسول، و «ما» إما اسم استفهام أو بمعنى من أي، فأي شيء يجعلك كاذبا بسبب إنكار الكافر الحساب بعد هذه الدلائل، أو فمن يكذبك بالحساب يا أيها الرسول بعد ظهور هذه الدلائل أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) يحكم على الكفار بما يستحقونه من العذاب، أو أليس الذي فعل ما ذكر بأتقن الحاكمين صنعا في كل ما خلق حتى يتوهم عدم الإعادة والجزاء، فإن عدم إمكانهما يقدح في القدرة وعدم وقوعهما يقدح في الحكمة، كما قال تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا «1» [ص: 27]
وفي الحديث: «من قرأ والتين إلى آخرها فليقل:
بلى وأنا على ذلك من الشاهدين»
أي سواء كان في الصلاة أو خارجها.
__________
(1) رواه مسلم صفات المنافقين (38) ، وابن حجر في فتح الباري (8: 724) ، والسيوطي في الدر المنثور (6: 370) ، وابن كثير في البداية والنهاية (3: 44) ، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5856) ، والبغوي في شرح السنة (7: 270) ، وأبو نعيم في دلائل النبوة (2:
189) ، وابن كثير في التفسير (8: 461) .(2/646)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10)
سورة العلق
وتسمى سورة القلم، وسورة اقرأ، مكية، تسع عشرة آية، اثنتان وسبعون كلمة، مائتان وسبعون حرفا
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ أي اقرأ القرآن مفتتحا باسم ربك أي قل باسم الله، ثم اقرأ القرآن الَّذِي خَلَقَ (1) كل شيء خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) أي من دم جامد اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) أي امض لما أمرت به، والحال أن ربك الذي أمرك بالقراءة هو الأكرم الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) أي علم الإنسان الخط بالقلم، وعلم ينصب مفعولين وقال قتادة: القلم نعمة من الله تعالى ولولا ذلك لم يقم دين، ولم يصلح عيش.
روى عبد الله ابن عمرو قال: «قلت يا رسول الله أأكتب ما أسمع منك من الحديث قال: «نعم فاكتب فإن الله تعالى علم بالقلم»
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تسكنوا نساءكم الغرف ولا تعلموهن الكتابة»
أي حذرا من تطلعهن إلى الرجال، وحذرا من الفتنة لأنهن قد يكتبن لمن يهوين عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) أي علمه بالقلم وبدونه من الأمور الجلية والخفية ما لم يخطر بباله كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) أي حقا يا محمد إن الكافر يتكبر على ربه لأن رأى نفسه مستغنيا عن الله بالمال نزلت الآيات من هاهنا إلى آخر السورة في أبي جهل. روي أن أبا جهل قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أتزعم أن من استغنى طغى فاجعل لنا جبال مكة فضة وذهبا لعلنا نأخذ منها فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك، فنزل عليه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إن شئت فعلنا ذلك، ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا بأصحاب المائدة فكف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الدعاء إبقاء عليهم. إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى
(8) أي إن إلى مالك أمرك رجوع الكل بالموت والبعث، فسترى حينئذ عاقبة تمردك أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) و «أرأيت» لحمل المخاطب وهو النبي على التعجب وهي تتعدى إلى مفعولين لأنها بمعنى أخبرني فالمفعول الأول «الذي» والمفعول الثاني محذوف وهو جملة استفهامية كالجملة الواقعة بعد «أرأيت» الثالثة أي أخبرني يا محمد الناهي من يصلي ألم يعلم أن الله يطلع على أحواله فيجازيه بها حتى اجترأ على ما فعل. روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل في ملأ من طغاة قريش: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم، فقالوا: نعم قال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن(2/647)
أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
على رقبته ولأعفرن وجهه في التراب، قال: فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلي ليطأ على رقبته فنكص على عقبيه وهو يتقي بيديه فقالوا له: ما لك يا أبا الحكم، فقال: إن بيني وبينه لخندقا من نار وهولا وأجنحة فأنزل الله هذه الآية:
أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) ومفعولا «أرأيت» محذوفان حذف الأول لدلالة المفعول الأول من «أرأيت» الأولى عليه وحذف الثاني لدلالة مفعول «أرأيت» الثالثة عليه وأو بمعنى الواو، والمعنى: أخبرني يا محمد ذلك الناهي إن صار على الهدى وأمر بالتقوى أما كان ذلك خيرا له من الكفر بالله والنهي عن خدمته كأنه تعالى يقول: تلهف يا مخاطب عليه كيف فوت على نفسه المراتب العالية، وقنع بالمراتب الدنيئة، وهو رجل عاقل ذو ثروة لا يليق به ذلك أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) والجملة الاستفهامية تكون في موضع المفعول الثاني ل «أرأيت» ومفعولها الأول محذوف وهو ضمير يعود إلى الموصول، أو اسم إشارة يشار به إليه أي أرأيته يا محمد إن كذب هذا الكافر بتلك الدلائل الواضحة وأعرض عن خدمة خالقه ألم يعلم يعقله أن الله يرى منه هذه الأعمال القبيحة أفلا ينزجر عنها كَلَّا أي لن يصل أبو جهل إلى ما يقول: إنه يقتل محمدا أو يطأ عنقه، بل تلميذ محمد هو الذي يقتله ويطأ صدره، وهو عبد الله بن مسعود لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ أي والله لئن لم ينته أبو جهل عن أذى النبي صلّى الله عليه وسلّم، لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) أي لنأخذن الناصية ولنجرن بها إلى النار في الآخرة أو لنقبضن على الناصية في الدنيا روي أن أبا جهل لما قال: إن رأيته يصلي لأطأن عنقه، فأنزل الله تعالى هذه السورة، وأمره جبريل عليه السلام بأن يقرأها على أبي جهل ويخر لله ساجدا في آخرها ففعل فعدا إليه أبو جهل ليطأ عنقه فلما دنا منه نكص على عقبيه راجعا فقيل له: ما لك قال: إن بيني وبينه فحلا فاغرا فاه لو مشيت إليه لا لتقمني،
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا»
«1»
وروي أنه لما نزلت سورة الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ قال صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «من يقرؤها منكم على رؤساء قريش» فقام ابن مسعود وقال: أنا يا رسول الله، ثم إنه وصل إليهم فرآهم مجتمعين حول الكعبة فافتتح قراءة السورة، فقام أبو جهل فلطمه فشق أذنه وأدماه فانصرف وعينه تدمع فلما رآه النبي صلّى الله عليه وسلّم رق قلبه وأطرق رأسه مغموما، فإذا جبريل عليه السلام يجيء ضاحكا مستبشرا فقال صلّى الله عليه وسلّم: «يا جبريل تضحك وابن مسعود يبكي» فقال: ستعلم فلما ظفر المسلمون يوم بدر التمس ابن مسعود أن يكون له حظ في الجهاد، فقال صلّى الله عليه وسلّم له: «خذ رمحك والتمس في الجرحى من كان به رمق فاقتله فإنك تنال ثواب المجاهدين» فأخذ يطالع القتلى فإذا أبو جهل مصروع يخور فخاف أن يكون به قوة فيؤذيه فوضع الرمح على منخره من بعيد فطعنه فلما عرف عجزه ارتقى إلى صدره بحيلة، فلما رآه أبو جهل قال: يا رويعي الغنم لقد ارتقيت مرتقى صعبا،
__________
(1) رواه الحاكم في المستدرك (1: 567) ، والسيوطي في الدر المنثور (6: 386) .(2/648)
فقال ابن مسعود: الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، فقال له أبو جهل: بلغ صاحبك أنه لم يكن أحد أبغض إلي منه في حياتي، ولا أحد أبغض إلي منه في حال مماتي ثم قال لابن مسعود: اقطع رأسي بسيفي هذا لأنه أحدّ فلما قطع رأسه لم يقدر على حمله فلما لم يطقه شق أذنه وجعل الخيط فيه وجعل يجره إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجبريل بين يديه يضحك، ويقول يا محمد: أذن بأذن، لكن الرأس هاهنا مع الأذن.
وقرئ «لنسفعن» بالنون المشددة فالفاعل لهذا الفعل هو الله والملائكة، وقرأ ابن مسعود لأسفعن أي يقول الله: يا محمد أنا الذي أتولى إهانة أبي جهل ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ في قولها خاطِئَةٍ (16) في فعلها لأن صاحبها متمرد على الله تعالى لأنه كان كاذبا على الله تعالى في قوله:
إنه تعالى لم يرسل محمدا وكاذبا على رسوله في قوله: إن محمدا ساحر، أو كذاب، أو ليس بنبي، و «ناصية» بدل من الناصية، وقرئ «ناصية» بالرفع والتقدير هي ناصية، وقرئ ناصية بالنصب وكلاهما على الشتم، فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) أي أهل مجلسه الذين يجتمعون فيه للتشاور، أو لأنه مجلس العطاء والجود سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) هم الملائكة الغلاظ الشداد كما قاله الزجاج.
قال ابن عباس: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلي فجاء أبو جهل فقال: ألم أنهك عن هذا فزبره النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال أبو جهل: والله إنك لتعلم بأني أكثر أهل الوادي ناديا فأنزل الله تعالى فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ قال ابن عباس: لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله فكأنه تعالى لما عرفه أنه مخلوق من علق فلا يليق به التكبر، فهو عند ذلك ازداد تعززا بماله ورئاسته في مكة، ويروى أنه قال: ليس بمكة أكرم مني، وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قرأ هذه السورة وبلغ إلى قوله تعالى: لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ قال أبو جهل: أنا أدعو قومي حتى يمنعوا عني ربك. قال الله تعالى: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ فلما ذكر الزبانية رجع فزعا فقيل له: خشيت منه قال: لا، ولكن رأيت عنده فارسا وهددني بالزبانية فلا أدري الزبانية، ومال إلى الفارس فخشيت منه، وقيل: كان جبريل وميكائيل عليهما السلام على كتفيه صلّى الله عليه وسلّم في صورة الأسد قال ابن عباس رضي الله عنهما: والله لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته معاينة، وقرئ «ستدعى الزبانية» على المجهول أي ليجروه إلى النار كَلَّا أي لن يصل أبو جهل إلى ما يتصلف به من أنه يدعو قومه لا تُطِعْهُ أي أبا جهل فيما يأمرك به من ترك الصلاة، بل دم على ما أنت عليه من مخالفته وَاسْجُدْ أي صل وتوفر على عبادة الله تعالى فعلا وإبلاغا، وقلل فكرك في هذا العدو، فإن الله مقويك وناصرك وَاقْتَرِبْ (19) أي ابتغ بسجودك قرب المنزلة من ربك.(2/649)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
سورة القدر
مدنية، قال الواحدي: إنها أول سورة نزلت بالمدينة، خمس آيات، ولاثون كلمة، مائة وأحد وعشرون حرفا
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) أي إنا أنزلنا القرآن جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ على كتبة ملائكة سماء الدنيا إلى بيت العزة منها، ثم نجمته السفرة على جبريل فكان جبريل ينزله على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نجوما في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع، والحاجة إليه ومعنى القدر التقدير، وسميت ليلة القدر بذلك لأن الله تعالى يقدر فيها ما يشاء من أمره إلى مثلها من السنة القابلة من أمر الموت، والأجل، والرزق وغير ذلك، ويسلمه إلى مدبرات الأمور وهم أربعة من الملائكة: إسرافيل، وميكائيل، وعزرائيل، وجبريل عليهم السلام، والجمهور على أنها مختصة برمضان واختلفوا في تعيينها، وقال بعضهم: إنها ليلة السابع والعشرين
لأن فيها أمارات ضعيفة منها: ما روي أن عمر سأل الصحابة عن ليلة القدر، ثم قال لابن عباس: غص يا غواص، فقال زيد بن ثابت: أحضرت أولاد المهاجرين، وما أحضرت أولادنا فقال عمر: لعلك تقول إن هذا غلام، ولكن عنده ما ليس عندكم، فقال ابن عباس: أحب الإعداد إلى الله تعالى الوتر وأحب الوتر إليه السبعة فذكر السموات السبع، والأرضين السبع، والأسبوع، ودركات النار، وعدد الطواف، والأعضاء السبعة فدل ذلك العدد على أنها السابعة والعشرون ومنها قول ابن عباس: إن هذه السورة ثلاثون كلمة، وقوله تعالى: هِيَ هو سابع وعشرون ومنها ما نقل عن ابن عباس أنه قال: ليلة القدر تسعة أحرف وهو مذكور ثلاث مرات فتكون الجملة سبعة وعشرين، ومنها ما روي أنه كان لعثمان بن أبي العاص عبد فقال: يا مولاي إن البحر يعذب ماؤه ليلة من الشهر، قال: إذا كانت تلك الليلة فاعلمني فإذا هي السابعة والعشرون، وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) أي ما غاية فضلها ومنتهى علو قدرها، ثم بين الله فضلها من ثلاثة أوجه، أو أربعة بقوله تعالى: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) وهي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر أي إن العبادة فيها خير من العبادة في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. قال مجاهد: كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح، ثم يجاهد حتى يمسي فعل ذلك ألف شهر فتعجب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم(2/650)
والمسلمون من ذلك، فأنزل الله هذه الآية أي ليلة القدر لأمتك خير من ألف شهر لذلك الإسرائيلي الذي حمل السلاح ألف شهر، وقيل كان ملك سليمان خمسمائة شهر، وملك ذي القرنين خمسمائة شهر، فجعل الله تعالى العمل في هذه الليلة لمن أدركها خيرا من ملكهما، وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى في منامه إن بني أمية يطئون منبره صلّى الله عليه وسلّم واحدا بعد واحد، وفي رواية ينزون على منبره نزو القردة، فشق ذلك عليه صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله هذه السورة، ثم قال القاسم بن فضل: فحسبنا ملك بني أمية فإذا هو ألف شهر فكأن الله تعالى يقول:
أعطيتك يا أشرف الخلق ليلة هي في السعادات الدينية أفضل من السعادات الدنيوية في أيام ملك بني أمية، ومن المعلوم أن الطاعة في ألف شهر أشق من الطاعة في ليلة واحدة لكن الفعل الواحد قد يختلف حاله في الحسن والقبح بسبب اختلاف الوجوه. ألا ترى أن صلاة الجماعة تفضل على صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة مع أن صلاة الجماعة قد تنقص صورة فإن المسبوق سقطت عنه ركعة واحدة وأيضا فأنت إذا قلت لمن يرجم بالزنا هذا زان فلا بأس، ولو قلته للنصراني فهو قذف يوجب التعزير ولو قلته للمحصن فهو قذف يوجب الحد، ولو قلته في حق عائشة كان ذلك القول كفرا، ثم القائل بقوله: هذا زان قد ظن أن هذه اللفظة سهلة مع أنها أثقل من الجبال، فثبت بهذا أن الأفعال تختلف آثارها في الثواب والعقاب لاختلاف وجوهها فلا يبعد أن تكون الطاعة القليلة في الصورة مساوية في الثواب للطاعات الكثيرة. تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) روي أنه إذا كان ليلة القدر تنزل الملائكة، وهم سكان سدرة المنتهى، وجبريل ومعه أربعة ألوية فينصب لواء على قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولواء على ظهر بيت المقدس، ولواء على ظهر المسجد الحرام، ولواء على ظهر طور سيناء ولا يدع بيتا فيه مؤمن أو مؤمنة إلا دخله وسلم عليه يقول: يا مؤمن أو يا مؤمنة السلام يقرئكم السلام إلا على مدمن خمر، وقاطع رحم، وآكل لحم خنزير، وقوله: بإذن ربهم متعلق ب «تنزّل» أو بمحذوف هو حال من فاعله أي متلبسين بأمر ربهم فإنهم لا يتصرفون تصرفا ما إلا بأمره، وقوله: «من كل أمر» متعلق ب «تنزّل» أي تنزل أولئك في تلك الليلة من أجل كل أمر قضاه الله تعالى لتلك السنة إلى عام قابل، فكل واحد منهم نزل لأمر آخر.
عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنه قال: «إن الله يقدر المقادير في ليلة البراءة»
أي وهو نصف شعبان فإذا كان ليلة القدر يسلمها إلى أربابها، وقرئ «من كل امرئ» أي من أجل كل إنسان فإن الملائكة يرون في الأرض أنواع الطاعات التي لم يروها في عالم السموات. سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) ف «سلام» خبر مقدم و «هي» مبتدأ مؤخر أي تلك الليلة سالمة عن الرياح والأذى والصواعق، ومن كل آفة كما قاله أبو مسلم، وابن عباس و «حتى» متعلق ب «تنزّل» أي أن الملائكة ينزلون فوجا فوجا من ابتداء الليل إلى طلوع الفجر فترادف النزول لكثرة سلامهم على أهل الصوم(2/651)
والصلاة من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم تلك الليلة، وقيل: إن «حتى» متعلق ب «سلام» بناء على إن الفصل بين المصدر ومعموله بالمبتدأ مغتفر في الجار والمجرور أي إن ليلة القدر سلام إلى طلوع الفجر أي تسليم الملائكة على المطيعين، ويقال: إن ليلة القدر من أولها إلى طلوع الفجر سالمة من التفاوت والنقصان، فإن العبادة في كل جزء من أجزاء أوقاتها خير من ألف شهر، فليست ليلة القدر كسائر الليالي في أنه يستحب للفرض الثلث الأول وللتطوع النصف وللدعاء السحر، بل هي متساوية الأوقات، وقيل: إن الوقف عند قوله تعالى: سَلامٌ فقوله تعالى: من كل أمر متعلق به وقوله: سَلامٌ خبر بعد خبر كقوله: تَنَزَّلُ وقوله تعالى: هِيَ مبتدأ وخبره ما بعده، والمعنى كما قاله ابن عباس: ليلة القدر سلامة من كل أمر مخوف، ومن كل شرور، وفضلها مستمر إلى طلوع الفجر، وقرأ الكسائي «مطلع» بكسر اللام.(2/652)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
سورة البيّنة
وتسمى سورة لم يكن وسورة القيمة، وسورة البرية، وسورة منفكين، مدنية، ثمان آيات، أربع وتسعون كلمة، ثلاثمائة وتسعون حرفا
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أي اليهود والنصارى وَالْمُشْرِكِينَ أي عبدة الأصنام مُنْفَكِّينَ عن كفرهم حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) وهي الرسول وسمي بالبينة لأن مجموع الأخلاق الحاصلة فيه كان بالغا إلى حد كمال الإعجاز أي أن الكفار من الفريقين كانوا يقولون قبل مبعث محمد صلّى الله عليه وسلّم لا ننفك عما نحن عليه من ديننا ولا نتركه حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة، والإنجيل وهو محمد عليه السلام فحكى الله تعالى ما كانوا يعدون اجتماع الكلمة، والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول، ثم ما أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول، وقيل: إن تقدير الآية لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم وإلى أن جاءتهم البينة أي التي كانت ذاته بينة على نبوته، وقيل: المعنى لم يكن الذين كفروا منفكين عن ذكر محمد بالمناقب والفضائل حتى أتاهم بيان ما سبق ذكره في التوراة والإنجيل على لسان موسى وعيسى من صفات محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وقرئ «والمشركون» عطفا على الموصول رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ بالرفع بدل كل من كل من البينة، وقرأ عبد الله «رسولا» بالنصب حالا من «البينة» يَتْلُوا صُحُفاً أي كتبا مُطَهَّرَةً (2) أي منزهة عن الباطل فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) أي في تلك الكتب أحكام مستقيمة تبين الحق من الباطل، وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) أي وما اختلفوا في وقت من الأوقات إلا من بعد ما جاءتهم الحجة الواضحة الدالة على أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو الموعود في كتابهم دلالة جلية، وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ و «الواو» للحال و «اللام» بمعنى الباء أي والحال أن هؤلاء الكفار ما أمروا في التوراة، والإنجيل إلا بأن يعبدوا الله جاعلين عبادتهم خالصة له تعالى لا يريدون رياء ولا سمعة، وقرأ عبد الله «إلا أن يعبدوا الله» بإبدال «اللام» ب «أن» حُنَفاءَ أي مائلين عن جميع العقائد الزائغة إلى الإسلام، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) أي وذلك المذكور من عبادة الله بالإخلاص وإقام الصلاة، وإعطاء الزكاة دين المستقيم و «الهاء» هاهنا قافية السورة، وقرئ الدين القيمة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ(2/653)
وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها
وبدأ الله بأهل الكتاب لأنهم كانوا يطعنون في نبوته صلّى الله عليه وسلّم فجنايتهم أعظم لأنهم أنكروا مع العلم به وأيضا إنه صلّى الله عليه وسلّم كان يقدم حق الله على حق نفسه فكأنه تعالى قال له: كما قدمت حقي على حقك فأنا أقدم حقك على حق نفسي فمن ترك الصلاة طول عمره لا يكفر ومن طعن في شعرة من شعراتك يكفر فأهل الكتاب طعنوا في الرسول والمشركون طعنوا في الله أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) أي الخليقة فهم شر من السراق لأنهم سرقوا من كتاب الله صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم وشر من قطاع الطريق لأنهم قطعوا طريق الحق على الخلق وشر من الجهال الأجلاف لأن الكبر مع العلم يكون كفر عناد فيكون أقبح إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) قرأ نافع، وابن ذكوان «البريئة» بالهمز في الموضعين، والباقون بياء مشددة جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ معدن النبيين والمقربين تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي الأربعة وهي الخمر، والماء، والعسل، واللبن خالِدِينَ فِيها أَبَداً و «خالدين» حال من مقدر فعامله
محذوف أي دخلوها، ولا يجوز أن يكون حالا من «هم» في جزاؤهم لئلا يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي وقوله: عِنْدَ رَبِّهِمْ حال من «جزاؤهم» أو ظرف له و «أبدا» منصوب ب «خالدين» .
لطيفة: قال بعض الفقهاء: لو قال لفلان: علي كذا فهو إقرار بالدين، ولو قال: لا شيء لي على فلان، فهذا يختص بالديون، وله أن يدعي الوديعة، ولو قال: لا شيء لي عند فلان انصرف إلى الوديعة دون الدين، ولو قال: لا شيء لي قبل فلان انصرف إلى الدين والوديعة معا إذا عرفت هذا، فقوله: عِنْدَ رَبِّهِمْ يفيد انه وديعة والوديعة عين، وهو أشرف من الدين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بأن يعظمهم ويمدحهم فإن الرضا عن العامل غير الرضا بعمله، وَرَضُوا عَنْهُ أي فرحوا بما جازاهم من الثواب وبما أعطاهم من أنواع الكرامات. ذلِكَ أي المذكور من الجزاء والرضوان لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) وصاحب الخشية هو العالم بشئون الله تعالى، فإن الخشية مناط لجميع الكمالات العلمية والعملية المستتبعة للسعادة الدينية والدنيوية.(2/654)
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
سورة الزلزلة
مدنية، تسع آيات، خمس وثلاثون كلمة، مائة وتسعة وأربعون حرفا
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) أي إذا تحركت الأرض حركة شديدة فانكسر ما عليها من الشجر والجبال والبنيان، وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) أي أحمالها من الأموال، أو الأموات، ثم إن كان المراد من هذه الزلزلة الزلزلة الأولى فالمعنى: أخرجت الأرض الكنوز في زمن بعد عيسى، أو عند النفخة الأولى، فيمتلئ ظهر الأرض ذهبا ولا يلتفت أحد إليه، فكأن الذهب يصيح ويقول: إما كنت تخرب دينك ودنياك لأجلي، وإن كان المراد منها الزلزلة الثانية عند النفخة الثانية، فالمعنى: أخرجت الأرض الموتى أحياء كالخروج من الأم وقت الولادة، أو لفظتهم ميتين كما دفنوا، ثم يحييهم الله تعالى، وذلك على الخلاف بين العلماء، وَقالَ الْإِنْسانُ أي الكافر بطريق التعجب والمؤمن بطريق الاستعظام ما لَها (3) أي أي شيء ثبت للأرض تزلزلت بهذه الزلزلة الشديدة ولفظت ما في بطنها يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ كان ما ذكر، وهو بدل من إذا تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) جواب إذا.
وقرأ ابن مسعود «تنبئ أخبارها» ، وقرأ سعيد بن جبير «تنبي» بسكون النون بأن يجعل الله الأرض عاقلا ناطقا، ويعرفها جميع ما عمل أهلها فحينئذ تشهد لمن أطاع وعلى من عصى بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) و «الباء» إما سببية متعلق ب «تحدّث» أي تحدث الأرض أخبارها بسبب أمره تعالى إياها بالتحديث بأخبارها، وإما تعدية ل «تحدّث» فتكون هذه الجملة بدلا من «أخبارها» فالمعنى: تحدث الأرض بأخبارها بأن ربك أذن لها في الكلام يَوْمَئِذٍ منصوب ب «يصدر» أي يوم إذ يقع ما ذكر يَصْدُرُ النَّاسُ من قبورهم إلى موقف الحساب أَشْتاتاً أي فرقا فرقا فريق يذهب إلى الموقف راكبا مع الثياب الحسنة أبيض الوجه والمنادي بين يديه ينادي هذا ولي الله، وفريق يذهب إليه حافيا عاريا مع السلاسل والأغلال أسود الوجه والمنادي ينادي بين يديه هذا عدو الله. لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) بضم الياء أي ليريهم الله تعالى أعمالهم مكتوبة في الصحائف وهي توضع بين أيديهم والمرئي هو الكتاب، وقرئ «ليروا» بفتح الياء، وهو مروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ أي وزن نملة صغيرة خَيْراً يَرَهُ (7) قال أحمد بن(2/655)
كعب القرظي: فمن يعمل مثقال ذرة من خير وهو كافر فإنه يرى ثواب ذلك في الدنيا حتى يلقى الآخرة، وليس له فيها شيء، ومن يعمل مثقال ذرة من شر من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في نفسه، وماله، وأهله، وولده حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله تعالى شر، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ أي ميزان أصغر النمل شَرًّا يَرَهُ (8) قال ابن عباس: ليس من مؤمن، ولا كافر عمل خيرا، أو شرا إلا أراه الله إياه، فأما المؤمن فيغفر الله سيئاته، ويثيبه بحسناته، وأما الكافر فترد حسناته ويعذب بسيئاته، وقوله تعالى: خَيْراً وشَرًّا منصوبان على التمييز من «مثقال» أو على البدل من «مثقال» ، و «يره» جواب الشرط مجزوم بحذف الألف، وقرأ ابن عباس، والحسين بن علي، وزيد بن علي، وكذا عاصم في رواية «يره» مبنيا للمفعول، وقرأ عكرمة «يراه» بالألف.(2/656)
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10)
سورة والعاديات
مكية، إحدى عشرة آية، أربعون كلمة، مائة وثلاثة وستون حرفا
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) أي والخيل الجارية بشدة في الغزو تصوت أنفاسهن من الجري، والضبح صوت يسمع من صدور الخيل عند شدة الجري، وليس بصهيل، ولا حمحمة، بل هو صوت نفس، وقال علي رضي الله عنه وكرم وجهه: أي وإبل الحاج الجارية من عرفة إلى مزدلفة، ومن مزدلفة إلى منى تمد أعضاءها في سيرها، و «ضبحا» حال بمعنى اسم الفاعل، فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) أي فالخيل التي تطأ الخصي صاكات بحوافرها ما يخرج النار كنار حباحب وهو رجل من العرب أبخل الناس الذي في العساكر لا يوقد نارا حتى ينام الناس، ثم يوقدها فإذا انتبه أحد أطفأها لئلا ينتفع بها أحد فشبهت هذه النار التي تنقدح من حوافر الخيل بتلك النار التي لم يكن فيها نفع، أو يقال فالجماعة الذين يركبون الإبل وهم الحجيج الموقدون نيرانهم بالمزدلفة، فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) أي فالجماعة الذين يركبون الخيل الذين يهجمون على الأعداء للنهب، أو للقتل في وقت صبح لير، وإما يأتون وما يذرون، أو فالجماعة الذين يندفعون من جمع إلى منى ركبانا بإسراع السير صبيحة يوم النحر فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) أي فهيجن في وقت الصبح، أو بالجري غبارا، أو فهيجن في المغار صباحا، فتوسطن في ذلك الوقت أو بالغبار جمعا من جموع الأعداء.
وقرأ أبو حيوة «فأثرن» بالتشديد أي أظهرن بجريهن غبارا وقرئ «فوسطن» بالتشديد أي جعلن جمع الأعداء في ذلك الوقت، أو في ذلك المكان، أو بجريهن، أو بالغبار في الوسط، أو قطعن جمع الأعداء نصفين. روي أنه صلّى الله عليه وسلّم بعث خيلا فمضى شهر لم يأته منهم خبر، فنزلت هذه الآيات، وعن محمد بن كعب قال: النقع ما بين مزدلفة ومنى الجمع مزدلفة، فالمعنى: فتحركن وقت الصبح أو بالجري في وادي محسر فصرن بجريهن وسط مزدلفة، أو يكون المعنى: فأظهرن في ذلك الوقت أو في جريهن صباحا بالتلبية فجعلن مزدلفة بجريهن في الوسط ويتأكد حمل الآيات على الإبل، أو مع خيول الحجاج بما
روى أبي في فضل هذه السورة مرفوعا: «من قرأها أعطي من الأجر بعدد من بات بالمزدلفة وشهد جمعا»
إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) أي إن طبع(2/657)
نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
جنس الإنسان لكفور بنعمة ربه كما قاله ابن عباس وغيره، وهذا بلسان ربيعة ومضر أو لربه لوّام فيعد المصائب، والمحن، وينسى النعم، والراحات كما قاله الحسن، ويقال: عاص بربه بلسان حضرموت، ويقال: بخيل بلسان بني مالك بن كنانة، وقيل: المراد بالإنسان الكافر كما قال ابن عباس: إن هذه الآية نزلت في قرط بن عبد الله بن عمرو بن نوفل القرشي، وقيل: في أبي حباحب أي وهما كافران وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) أي وإن الرب تعالى على ذلك الصنع لشهيد حافظ، وَإِنَّهُ أي الإنسان لِحُبِّ الْخَيْرِ أي المال لَشَدِيدٌ (8) أي قوي ولطلبه مطيق أو إن الإنسان وهو قرط أو أبو حباحب لأجل حب المال لبخيل ممسك، أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) أي أفلا يعلم الإنسان قرط، أو أبو حباحب في الدنيا أنه تعالى يجازيه إذا أخرج ما في القبور من الأموات، والعامل في «إذا» ما دل عليه قوله تعالى: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ ومعنى علم الله بهم يوم القيامة مجازاته لهم، وأتى ب «ما» لأن غير المكلفين الذين في الأرض أكثر، وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) أي بين ما في القلوب من الكفر، والإيمان، والبخل والسخاوة.
وقرئ «حصل» مبنيا للفاعل ومخففا أي ظهر ما في القلوب من الأسرار الخفية.
إِنَّ رَبَّهُمْ أي الإنسان بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) وقوله تعالى: بِهِمْ ويَوْمَئِذٍ متعلقان ب «خبير» وجمع الضمير العائد إلى الإنسان اعتبارا بمعناه لأنه اسم جنس أي أفلا يعلم
الإنسان أن ربهم عالم بهم يجازيهم في يوم البعث فلا حاكم يروج حكمه، ولا عالم تروج فتواه يومئذ إلا هو، وقرأ أبو السمال «أن ربهم بهم يومئذ خبير» بفتح همزة «أن» وإسقاط اللام من «لخبير» .
سورة القارعة
مكية، عشر آيات، ست وثلاثون كلمة، مائة واثنان وخمسون حرفا
الْقارِعَةُ (1) أي الصيحة التي تقرع القلوب مَا الْقارِعَةُ (2) أي أي شيء عجيب هي في الفخامة والفظاعة، وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) أي وأي شيء أعلمك يا أشرف الرسل ما شأن القارعة. يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ و «يوم» مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف وحركته الفتح لإضافته إلى الفعل وإن كان مضارعا كما هو رأي الكوفيين أي هي يوم يكون الناس فيه(2/658)
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4) أي المفرق فالله تعالى شبه الناس في وقت البعث بالفراش المنشور في الكثرة، والتطاير إلى الداعي لأنهم لما بعثوا يموج بعضهم في بعض كالفراش، وهو الحيوان الذي يتهافت في النار وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) أي وتصير الجبال كالصوف الذي ينفش باليد في تفرق أجزائها وتطايرها في الجو، فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) أي فمن ترجحت مقادير حسناته، فهو في عيشة ذات رضا يرضاها صاحبها أي فهو في الجنة بغير حساب أما من استوت حسناته وسيئاته فيحاسب حسابا يسيرا، وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) أي وأما من طاشت حسناته فترجحت السيئات على الحسنات فأم رأسه نازلة في النار أي فيهوى في النار على هامته، ثم إن كان مؤمنا فإما أن يعذب بقدر ذنوبه، ثم يخرج منها إلى الجنة، وإما أن يشفع فيه، وإن كان كافرا فيخلد في النار. وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) أي وأي شيء أعلمك يا أكرم الرسل ما هاويه والهاء للسكت.
وقرأ حمزة في الوصل بغير هاء ووقف بها، والباقون بإثباتها وصلا ووقفا لأنها ثابتة في المصحف نارٌ حامِيَةٌ (11) أي هي نار متناهية حرها فسائر النيران بالنسبة إليها كأنها ليست حارة نعوذ بالله منها ومن جميع أنواع العذاب.
سورة التكاثر
مكية، ثمان آيات، ثمان وعشرون كلمة، مائة وعشرون حرفا
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) أي شغلكم التغالب بالمناقب وبكثرة المال وعدد الرجال والتباهي بذلك عن التدبير في أمر القارعة والاستعداد لها قبل الموت.
روي أن بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا بالأشراف في الإسلام، فقال كل من الفريقين: نحن أكثر منكم سيدا، وأعز عزيزا، وأعظم نفرا، فكثرهم بنو عبد مناف، فقال بنو سهم: إن البغي أفنانا في الجاهلية، فعدوا أحياءنا، وأحياءكم، وأمواتنا، وأمواتكم ففعلوا فكثرهم بنو سهم فنزلت فيهم هذه السورة. وروى مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ أَلْهاكُمُ وقال ابن آدم يقول:
«مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت» .
وقرئ «أألهاكم» على الاستفهام التقريري حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) أي حتى أتاكم الموت(2/659)
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
فصرتم في المقابر زوارا تسيرون عنها إلى مكان الحساب. يقال لمن مات: قد زار قبره، وإنما يقال ذلك لأنه لا بد له من انتقال عنها إلى منزله من جنة أو نار. كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) أي حقا سوف تعلمون عند الموت حين يقال لكم لا بشرى وفي وقت سؤال القبر، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) عند النشور حين ينادي المنادي فلان شقي شقاوة لا سعادة بعدها أبدا، وحين يقال وامتازوا اليوم. كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) وجواب لَوْ محذوف أي حقا لو علمتم لأي أمر خلقتم لاشتغلتم به وما تفاخرتم في الدنيا، ويقال: إن المعنى لو تعلمون علم الموت وما يلقى الإنسان معه وبعده في القبر وفي الآخرة لم يلهكم التفاخر عن ذكر الله. لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) وهذا جواب قسم محذوف أي والله لترون عذاب الجحيم فإنها يراها المؤمنون أيضا فكان الوعيد في رؤية عذابها لا في رؤية نفسها.
وقرأ ابن عامر، والكسائي بضم التاء أي أنهم يحشرون إلى الجحيم فيرونها، ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) أي ثم لترون نفس الجحيم بعين اليقين فإنهم في المرة الأولى رأوا لهبا لا غير، وفي المرة الثانية رأوا نفس الحفرة وكيفية السقوط فيها وما فيها من الحيوانات المؤذية، ولا شك أن هذه الرؤية أجلى، والحكمة في النقل من العلم الأخفى إلى الأجلى، التقريع على ترك النظر لأنهم كانوا يقتصرون على الظن ولا يطلبون الزيادة، ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ أي يوم رؤية الجحيم عَنِ النَّعِيمِ (8) في الدنيا فسؤال المؤمن سؤال تشريف وتبشير بأن يجمع له بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة لأنه شكر النعم، وسؤال الكافر توبيخ وتقريع لأنه ترك الشكر حيث قابل نعيم الدنيا بالكفر والعصيان،
وروى الحاكم في الحديث: «ألا يستطيع أحدكم أن يقرأ ألف آية في كل يوم» قالوا: ومن يستطيع أن يقرأ ألف آية قال: «أو ما يستطيع أحدكم أن يقرأ ألهاكم التكاثر»
«1» .
سورة والعصر
مكية، ثلاث آيات، أربع عشرة كلمة، ثمانية وستون حرفا
وَالْعَصْرِ (1) أي الدهر أقسم الله به لأنه مشتمل على الأعاجيب لأنه يحصل فيه السراء، والضراء، والصحة، والسقم، والغنى، والفقر، بل فيه ما هو أعجب من كل عجيب، أو هو
__________
(1) رواه ابن كثير في البداية والنهاية (6: 173) ، والبيهقي في دلائل النبوّة (6: 32) .(2/660)
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
العشي أقسم تعالى بالعصر كما أقسم بالضحى، فإن كل عشية تشبه تخريب الدنيا بالموت وكل بكرة تشبه القيامة يخرجون من القبور وتصير الأموات أحياء، وقال الحسن: إنما أقسم الله بهذا الوقت تنبيها على أن الأسواق قد دنا وقت انتهائها، وقرب وقت انتهاء التجارة فيها، أو هو صلاة العصر أقسم الله بها لفضلها.
روي أن امرأة كانت تصيح في سكك المدينة وتقول: دلوني على النبي صلّى الله عليه وسلّم فرآها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسألها ماذا حدث فيك قالت: يا رسول الله إن زوجي غاب عني فزنيت فجاءني ولد من الزنا، فألقيت الولد في دن من الخل حتى مات، ثم بعنا ذلك الخل فهل لي من توبة، فقال صلّى الله عليه وسلّم:
«أما الزنا فعليك الرجم، وأما قتل الولد فجزاؤه جهنم، وأما بيع الخل فقد ارتكبت كبيرا، لكن ظننت أنك تركت صلاة العصر»
ففي هذا الحديث إشارة إلى تفخيم أمر هذه الصلاة.
إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) أي لفي غبن في مساعيهم وصرف أعمارهم في مباغيهم أو في نقصان عمله بعد الهرم والموت إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فإنهم في تجارة لن تبور حيث استبدلوا الباقيات الصالحات بالغاديات الرائحات، وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ أي تحاثوا بكل ما حكم الشرع بصحته من علم وعمل وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3) أي تحاثوا بالصبر على أداء فرائض الله واجتناب معاصيه وعلى المرازي.
سورة الهمزة
مكية، تسع آيات، أربع وثمانون كلمة، مائة وإحدى وستون حرفا
وَيْلٌ أي شدة عذاب أو واد في جهنم من قيح ودم لِكُلِّ هُمَزَةٍ أي مغتاب للناس من خلفهم لُمَزَةٍ (1) أي طعان في وجوههم نزلت هذه الآية في أخنس بن شريق، فإنه كان يلمز الناس ويغتابهم وخاصة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما قاله عطاء، والكلبي، والسدي، أو في الوليد بن المغيرة كان يغتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم من ورائه، ويطعن عليه في وجهه كما قاله مقاتل وجريج، أو في أبي بن خلف كما قاله عثمان بن عمر أو في أمية بن خلف كما قاله محمد بن إسحاق، أو في جميل بن فلال كما قاله مجاهد الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ (2) أي أحصاه، وقال الأخفش أي جعله ذخيرة لحوادث الدهر. وقال الضحاك أي أعد ماله لمن يرثه من أولاده، وقيل: أي فاخر بكثرة عدد.(2/661)
وقرأ حمزة، والكسائي، وابن عامر جمع بتشديد الميم على التكثير، وقرأ الحسن، والكلبي و «عدده» بتخفيف الدال وهو معطوف على مالا أي وجمع المال، وعدد ذلك المال، أو وجمع عدد نفسه من أقاربه وعشيرته الذين ينصرونه، وقيل: هو فعل ماض بفك الإدغام يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) أي يظن الكافر أن ماله جعله خالدا في الدنيا لا يموت لطول أمله ولفرط غفلته، ويعتقد أنه إن نقص ماله يموت لبخله.
قال الحسن: ما رأيت يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه كالموت، وقيل يظن أن المال يخلد صاحبه في الدنيا بالذكر الجميل وفي الآخرة في النعيم المقيم، وهذا تعريض بالعمل الصالح. كَلَّا أي ليس الأمر كما يظن أن المال يخلده، بل العلم، والصلاح وعلى هذا يجوز الوقف هنا أو بمعنى حقا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) أي والله ليطرحن في النار التي تحطم كل من وقع فيها أي تكسره.
وقرئ «لينبذان» بالمثنى أي هو وماله، وقرئ «لينبذن» بضم الذال أي هو وأنصاره وذلك لأن شأنه كسر أعراض الناس فإن الجزاء من جنس العمل، وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) التي هي جزاء الهمزة اللمزة نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) أي التي لا تخمد أبدا بقدرته تعالى الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) أي التي تعلو وسائط القلوب، فإنها محل العقائد الزائغة ومنشأ الأعمال السيئة إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) أي مطبقة أو مغلقة فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) أي حال كونهم موثقين في عمد ممددة مثل المقاطر التي تقطر فيها اللصوص اللهم أجرنا منها يا أكرم الأكرمين، والعمود كل مستطيل من خشب، أو حديد.
وقرأ حمزة، والكسائي، وشعبة «عمد» بضمتين جمع عمود أو عماد. وروي عن أبي عمر والضم والسكون، وقرأ الباقون بفتحتين وهو على القراءتين جمع كثرة لعمود.(2/662)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
سورة الفيل
مكية، خمس آيات، ثلاث وعشرون كلمة، ستة وتسعون حرفا
أَلَمْ تَرَ أي ألم تخبر يا أشرف الخلق، أو ألم تعلم علما رصينا باستماع الأخبار المتواترة ومعاينة الآثار الظاهرة كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) قال قتادة: إن قائد الجيش اسمه أبرهة الأشرم من الحبشة، فقال سعيد بن جبير: هو أبو الكيشوم أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) والهمزة للتقرير أي قد جعل ربك كيدهم في تخريب الكعبة في إبطال بأن دمرهم أشنع تدمير، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) أي طوائف.
روى ابن سيرين عن ابن عباس قال: كانت تلك الطير طيرا لها خراطيم كخراطيم الفيل، وأكف كأكف الكلاب، وروى عطاء عنه قال: طير سود جاءت من قبل البحر فوجا فوجا، وقيل:
كانت بلقاء كالخطاطيف كما قالته عائشة، وقال سعيد بن جبير: كانت طيرا من السماء لم ير قبلها ولا بعدها مثلها.
وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:
إنها طير بين السماء والأرض تعشش وتفرخ
تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) أي طين متحجر مصنوع للعذاب، وقيل بحجارة من جهنم فإن سجين اسم من أسماء جهنم، فأبدلت النون باللام فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) أي كورق زرع أكلته الدود، روي أن أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي بنى كنيسة بصنعاء وسماها القليس، وأراد أن يصرف ليها الحاج، فخرج من بني كنانة رجل وتغوط فيها ليلا فأغضبه ذلك فحلف ليهدمنّ الكعبة فخرج مع جيشه، ومعه فيل اسمه محمود كان قويا عظيما واثنا عشر فيلا غيره فلما بلغ قريبا من مكة وهو المغمس وهو في أرض الحل قريب من عرفة خرج إليه عبد المطلب وعرض عليه ثلث أموال تهامة ليرجع، فأبى وعبأ جيشه وقدم الفيل محمودا فكانوا كلما وجهوه إلى جهة الحرم برك ولم يبرح، وإذا وجهوه إلى غيرها من الجهات هرول، ثم رجع عبد المطلب وأتى البيت وأخذ بحلقته وهو يقول:
لا هم إن المرأ يمنع حله فامنع حلالك(2/663)
وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك
لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم عدوا محالك
إن كنت تاركهم وكعبتنا فأمر ما بدا لك ويقول أيضا:
يا رب لا أرجو لهم سواكا ... يا رب فامنع عنهم حماكا
إن عدو البيت من عاداكا ... امنعهم أن يخربوا قراكا
فالتفت وهو يدعو فإذا هو بطير من نحو اليمن، فقال: والله إنها لطير غريبة ليست بنجدية ولا تهامية، وكان مع كل طائر حجر في منقاره وحجران في رجليه أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة فكان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره وعلى كل حجر اسم من يقع عليه ففروا فهلكوا، ودوى أبرهة فتساقطت أنامله وأعضاؤه وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه وانفلت وزيره أبو يكسوم وطائر يحلق فوقه حتى بلغ النجاشي فقص عليه القصة فلما أتمها وقع عليه الحجر وخر ميتا بين يديه، وهذه القصة وقعت في السنة التي ولد فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.(2/664)
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
سورة قريش
مكية، أربع آيات، سبع عشرة كلمة، ثلاثة وسبعون حرفا
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) واللام إما متعلقة بالسورة التي قبل هذه السورة، وإما متعلقة بالآية التي بعد هذه اللام، وإما متعلقة بمحذوف فعلى الأول، فإن التقدير فجعلهم كعصف مأكول لحب قريش إلخ أي أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش وما قد ألفوا من رحلة الشتاء والصيف.
روي أن عمر رضي الله عنه قرأ في صلاة المغرب في الركعة الأولى والتين، وفي الثانية ألم تر، ولإيلاف قريش معا من غير فصل بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم وإن أبي بن كعب جعلهما في مصحفه سورة واحدة، وعلى الثاني فالتقدير فليعبدوا رب هذا البيت الذي قصده أصحاب الفيل، ثم إن رب البيت دفعهم عن مقصودهم لأجل إيلاف قريش ونفعهم أي ليجعلوا عبادتهم شكرا لهذه النعمة، وعلى الثالث فإن هذه اللام لام التعجب فكأن المعنى: أعجبوا لإيلاف قريش، وذلك لأنهم كل يوم يزدادون غيا وانغماسا في عبادة الأوثان، والله تعالى يؤلف شملهم ويدفع الآفات عنهم وينظم أسباب معايشهم وذلك لا شك أنه في غاية التعجب من عظيم حلم الله وكرمه. إِيلافِهِمْ بدل من إيلاف الأول لأن المبدل منه مطلق والبدل مقيد بالمفعول به، أو توكيد لفظي ف «رحلة» مفعول لإيلاف الأول.
وقرأ ابن عامر «لإلاف» قريش بغير ياء بعد الهمزة، والباقون بياء بعدها، وأجمع الكل على إثبات الياء في الثاني أي لمؤالفتهم. قال ابن عادل: ومن غريب ما اتفق في
هذين الحرفين أن القراء اختلفوا في سقوط الياء وثبوتها في الأول مع اتفاق المصاحف على إثباتها خطا، واتفقوا على إثبات الياء في الثاني مع اتفاق المصاحف على سقوطها منه خطا، فهذا أدل دليل على أن القراء متبعون الأثر والرواية لا مجرد الخط، وقرأ أبو جعفر «لإلف قريش إلفهم» بكسر الهمزة وسكون اللام بزنة حمل وعن ابن عامر «الافهم» بزنة كتابهم كما روي عن ابن كثير أيضا وروي عن ابن عامر أيضا، كما روي عن عكرمة «ليلاف» قريش بياء ساكنة بعد اللام، وقرأ عكرمة «ليألف» قريش فعلا مضارعا وعنه أيضا «ليألف» على الأمر رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) أي انتقالهما أي كانت لقريش رحلتان رحلة بالشتاء إلى اليمن لأنها أدفأ وبالصيف إلى الشام فكانت أشراف أهل(2/665)
مكة يرتحلون للتجارة هاتين الرحلتين، ويأتون لأهل بلدهم ما يحتاجون إليه من الأطعمة والثياب، وإنما كانوا يربحون في أسفارهم لأن ملوك النواحي كانوا يعظمون أهل مكة، ويقولون هؤلاء جيران بيت الله، وسكان حرمه، وولاة الكعبة حتى إنهم كانوا يسمون أهل مكة أهل الله، فلو تم للحبشة ما عزموا عليه من هدم الكعبة لزال عنهم هذا العز ولبطلت تلك المزايا من التعظيم والاحترام، ولصار سكان مكة كسكان سائر النواحي يتخطفون من كل جانب ويتعرض لهم في نفوسهم وأموالهم، فلما أهلك الله أصحاب الفيل ازدادت قيمة أهل مكة في القلوب وازداد تعظيم ملوك الأطراف لهم، فازدادت تلك المنافع والمتاجر حتى كان فقيرهم كغنيهم، فجاء الإسلام وهم على ذلك فلهذا قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ [الفيل: 1] لِإِيلافِ قُرَيْشٍ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ هذا وتعلق أول هذه السورة بما قبلها من قوله تعالى: فَعَلَ رَبُّكَ أو من قوله تعالى: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ [الفيل: 5] ليس بحجة على أنهما سورة واحدة لأن القرآن كله كالسورة الواحدة، وكالآية الواحدة يصدق بعضها بعضا، ويبين بعضها معنى بعض ألا ترى أن قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ [القدر: 1] متعلق بما قبله من ذكر القرآن وأما قراءة سيدنا عمر رضي الله عنه فإنها لا تدل على أنهما سورة واحدة لأن الإمام قد يقرأ سورتين في ركعة واحدة، وقيل: إن المراد رحلة الناس إلى أهل مكة فرحلة الشتاء والصيف عمرة رجب وحج ذي الحجة لأنه كان أحدهما شتاء والآخر صيفا، وموسم منافع مكة يكون بهما ولو كان ثمّ لأصحاب الفيل ما أرادوا لتعطلت هذه المنفعة.
وقرئ «رحلة» بضم الراء وهي الجهة التي يرحل إليها، لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
(3) قال الخليل وسيبويه: إن اللام في «لإيلاف» متعلقة بقوله: لْيَعْبُدُوا
ودخول الفاء فيه لما في الكلام من معنى الشرط وذلك لأن نعم الله عليهم لا تحصى، فكأنه قيل: إن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة وهي إيلافهم رحلتي الشتاء والصيف والمعنى لجعلهم محبين لهما مسترزقين بهما لتيسيرهما عليهم فليعبدوه تعالى الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ أي من بعد جوع بحمل الميرة إليهم من البلاد في البر والبحر بواسطة كونهم جيران البيت وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) أي من خوف دخول العدو عليهم، ومن خوف زحمة أصحاب الفيل، أو خوف التخطف في بلدهم ومسايرهم، وقال الضحاك والربيع: أي آمنهم من خوف الجذام فلا يصيبهم ببلدتهم جذام، وقيل: آمنهم من خوف الضلال بالإسلام، فقد كانوا في الكفر يتفكرون فيعلمون أن الدين الذي هم عليه ليس بشيء إلا أنهم ما كانوا يعرفون الدين الذي يجب على العاقل أن يتمسك به فكانت نعمة الأمانة دينية فلا تحصل إلا لمن كان تقيا أما نعمة الدنيا فهي تصل إلى البر والفاجر والصالح والطالح.(2/666)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
سورة الماعون
وتسمى سورة الدين، وسورة أرأيت، مكية ومدنية، سبع آيات، خمس وعشرون كلمة، مائة وثلاثة وعشرون حرفا
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فرأى إما بصرية فالمعنى أأبصرت المكذب بالجزاء، أو بالإسلام أو هل عرفته، وإما بمعنى أخبرني الذي يكذب بالحساب من هو، ويدل على هذا قراءة عبد الله بن مسعود أرأيتك بزيادة حرف الخطاب والكاف لا تلحق البصرية، وقرأ نافع بتسهيل الهمزة بعد الراء ولورش إبدالها ألفا، وأسقطها الكسائي ولم يصح عن العرب «ريت» ، ولكن لما كان حرف الاستفهام في أول الكلام سهل حذف الهمزة فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) والفاء جواب شرط محذوف أي إن أردت أن تعرف المكذب بالحساب فذلك الذي يدفع اليتيم بعنف عن حقه.
وقرئ «يدع اليتيم» أي يتركه ولا يدعوه أي يدعو جميع الأجانب ويترك اليتيم أي يترك المواساة معه، وإن لم تكن المواساة واجبة وقد يذم المرء بترك النوافل، وقرئ «يدعو اليتيم» أي يدعوه رياء، ثم لا يطعمه، وإنما يدعوه استخداما أو قهرا، وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) أي ولا يحث أهله وغيرهم من الموسرين على صدقة المساكين.
قال ابن جريج: نزلت هذه الآية في أبي سفيان كان ينحر جزورين في كل أسبوع فأتاه يتيم فسأله لحما فقرعه بعصاه، وقال مقاتل: نزلت في العاص بن وائل السهمي، وكان من صفته الجمع بين التكذيب بيوم القيامة والإتيان بالأفعال القبيحة، وحكى الماوردي أنها نزلت في أبي جهل.
روي أنه كان وصيا ليتيم فجاءه وهو عريان يسأله شيئا من مال نفسه فدفعه ولم يعبأ به فأيس الصبي، فقال له أكابر قريش: قل لمحمد يشفع لك وكان غرضهم الاستهزاء، ولم يعرف اليتيم ذلك فجاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم والتمس منه ذلك وهو صلّى الله عليه وسلّم ما كان يرد محتاجا فذهب معه إلى أبي جهل فرحب به وبذل المال لليتيم فعيره قريش، فقالوا: صبوت، فقال: لا والله ما صبوت، لكن رأيت عن يمينه وعن يساره حربة خفت إن لم أجبه يطعنها فيّ.(2/667)
وقال السدي: نزلت في الوليد بن المغيرة وقال الضحاك: نزلت في عمرو بن عائذ المخزومي، وقال عطاء عن ابن عباس نزلت في رجل من المنافقين فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) والنسيان عن الصلاة، هو أن يبقى الإنسان ناسيا لذكر الله في جميع أجزاء الصلاة وهذا لا يصدر إلا عن المنافق الذي يعتقد أنه لا فائدة في الصلاة أما المسلم الذي يعتقد أن فيها فائدة دينية يمتنع أن لا يتذكر أمر الدين والثواب والعقاب في شيء من أجزاء الصلاة. بلى، قد يحصل له السهو في الصلاة بمعنى أنه يصير ساهيا في بعض أجزاء الصلاة فثبت أن السهو في الصلاة من أفعال المؤمن، والسهو عن الصلاة من أفعال الكافر. الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) بصلاتهم فإذا فاتتهم مع الناس تركوها بالمرة، والمرائي من يظهر الأعمال عند الناس مع زيادة الخشوع ليعتقد فيه من يراه أنه من أهل الدين والصلاح أما من يظهر النوافل ليقتدى به ويأمن على نفسه من الرياء فلا بأس بذلك وليس بمراء، وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7) أي ويمنعون الناس الزكاة أو يمنعون الطالبين منافع البيت كالفأس، والقدوم، والإبرة، والقدر، والقصعة، والمغرفة، والمقدحة، والغربال، والدلو، والملح، والماء، والنار.(2/668)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
سورة الكوثر
وتسمى سورة النحر، مكية، ثلاث آيات، عشر كلمات، اثنان وأربعون حرفا
إِنَّا أَعْطَيْناكَ. وقرئ «أنطيناك» يا أشرف الخلق: الْكَوْثَرَ (1) أي الخير المفرط في الكثرة من شرف النبوة الجامعة لخيري الدارين، فإن كتاب محمد هو الكتاب المهيمن على كتاب آدم وصحف إبراهيم وموسى، وتحديه بالقرآن، وذلك أعلاه كما تحدى آدم بالأسماء.
وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان على شط ماء ومعه عكرمة بن أبي جهل فقال: لئن كنت صادقا، فادع ذلك الحجر الذي هو في الجانب الآخر فليسبح ولا يغرق، فأشار الرسول إليه، فانقلع الحجر الذي أشار إليه من مكانه وعام حتى صار بين يدي الرسول وسلم عليه، وشهد له بالرسالة فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يكفيك هذا؟» قال: حتى يرجع إلى مكانه، فأمره النبي صلّى الله عليه وسلّم، فرجع إلى مكانه، وهذا أعظم من إمساك سفينة نوح على الماء
. وعن محمد بن حاطب قال: كنت طفلا، فانصب القدر علي من النار، فاحترق جلدي كله فحملتني أمي إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم وقالت: هذا ابن حاطب احترق كما ترى، فتفل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على جلدي ومسح بيده على المحترق منه وقال:
أذهب البأس رب الناس، فصرت صحيحا لا بأس بي، وذلك أعظم من جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم، وأكرم الله محمدا، ففلق له القمر فوق السماء، وفجر له أصابعه عيونا وكان الغمام يظله، وأعطاه الله القرآن الذي وصل نوره إلى الشرق والغرب، ولما أراد أبو جهل أن يرميه بالحجر رأى على كتفه ثعبانين، فانصرف مرعوبا كما
أكرم الله موسى، ففلق له البحر في الأرض، وفجر له الماء من الحجر، وظلل عليه الغمام وأكرمه باليد البيضاء، وقلب عصا موسى ثعبانا وسبحت الأحجار في يد الرسول وأصحابه، وكان هو لما مسح الشاة الجرباء درت وأكرمه الله بالبراق، كما سبحت الجبال مع داود، وإذا مسح الحديد لان وأكرمه الله بالطير المحشورة، وأضاف الرسول اليهود بالشاة المسمومة، فلما وضع اللقمة في فيه أخبرته، وروي أن امرأة معاذ بن عفراء أتته وكانت برصاء، وشكت ذلك إلى الرسول فمسح عليها رسول الله بغصن، فأذهب الله عنها البرص، وحين سقطت حدقة الرجل يوم أحد فرفعها وجاء بها إلى الرسول فردها إلى مكانها، وعرف ما أخفاه عمه مع أم الفضل، فأخبره، فأسلم العباس لذلك، كما أكرم الله(2/669)
عيسى عليه السلام بإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، ومعرفة ما يخفيه الناس في بيوتهم وحين نام رسول الله ورأسه في حجر علي فانتبه وقد غربت الشمس فردها وصلى وردها مرة أخرى لعلي، فصلى العصر في وقته.
وروي أن طيرا فجع بولده، فجعل يرفرف على رأسه صلّى الله عليه وسلّم ويكلمه فقال: «أيكم فجع هذه بولدها؟» فقال رجل: أنا، فقال: «اردد إليها ولدها»
«1» . وأكرمه الله بالمسير إلى بيت المقدس في ساعة، وكان يرسل حماره يعفورا إلى من يريده، فيجيء به وأرسل معاذا إلى بعض النواحي، فلما وصل إلى المفازة فإذا أسد جاثم فهاله ذلك ولم يستجز أن يرجع، فتقدم وقال: أنا رسول رسول الله، فانصرف وانقاد الجن له صلّى الله عليه وسلّم، وحين جاء الأعرابي بالضب وقال: لا أؤمن بك حتى يؤمن بك هذا الضب، فتكلم الضب معترفا برسالته، وحين كفل الظبية حين أرسلها الأعرابي رجعت تعدو حتى أخرجته من الكفالة، كما رد الله لسليمان الشمس مرة، وعلم منطق الطير، وأكرمه الله بمسيره غدوة مسيرة شهر، وانقاد الجن له، فلما كانت رسالته صلّى الله عليه وسلّم كذلك جاز أن يسميها الله تعالى كوثرا فقال: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ.
قال: عطاء الكوثر حوض النبي صلّى الله عليه وسلّم في الموقف والمستفيض عند السلف والخلف أنه نهر في الجنة.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت، تربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج»
. وفي رواية أنس أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل فيه طيور خضر، لها أعناق كأعناق البخت من أكل من ذلك الطير، وشرب من ذلك الماء فاز بالرضوان.
وعن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «دخلت الجنة فإذا أنا بنهر يجري بياضه بياض اللبن، وأحلى من العسل، وحافتاه خيام الدر، فضربت بيدي إلى مجرى الماء فإذا الثرى مسك أذفر فقلت لجبريل: ما هذا؟ قال: الكوثر الذي أعطاكه الله تعالى»
«2» . فَصَلِّ لِرَبِّكَ أي فدم على الصلاة خالصا لوجه ربك الذي أفاض عليك
__________
(1) رواه أحمد في (م 3/ ص 103) ، والحاكم في المستدرك (1: 80) وابن أبي شيبة في المصنف (11: 437) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (10: 498) ، والآجري في الشريعة (396) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (39153) ، وابن كثير في التفسير (8:
520) ، والسيوطي في الدر المنثور (6: 403) ، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (11:
45) .
(2) رواه مسلم في الجهاد باب: 31، وأبو داود في الخراج باب: 25، وأحمد (م 2/ ص 292) ، والبيهقي في السنن الكبرى (6: 34) ، والطبراني في المعجم الكبير (8: 9) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (6: 169) ، وابن أبي شيبة في المصنّف (14:
475) ، والبغوي في شرح السنة (11: 152) ، وعبد الرزاق في المصنف (9739) ، -(2/670)
هذه النعمة الجليلة خلاف الساهين عنها المرائين فيها أداء لحقوق شكرها، فإن الصلاة جامعة لجميع أقسام الشكر، وَانْحَرْ (2) أي استقبل القبلة بنحرك كما قاله ابن عباس، والفراء، والكلبي، وأبو الأحوص كأنه تعالى يقول: الكعبة بيتي، وهي قبلة صلاتك، وقلبك قبلة رحمتي، ونظر عنايتي، فلتكن القبلتان متناحرتين أي متقابلتين، إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) أي إن مبغضك هو المنقطع عن كل خير، وهو أبو جهل كما قاله ابن عباس.
روي أن أبا جهل اتخذ ضيافة لقوم، ثم إنه وصف رسول الله بالأبتر، ثم قال: قوموا حتى نذهب إلى محمد وأصارعه وأجعله ذليلا حقيرا، فلما وصلوا إلى دار خديجة، وتوافقوا على ذلك، أخرجت خديجة بساطا، فلما تصارعا جعل أبو جهل يجتهد في أن يصرعه وبقي صلّى الله عليه وسلّم واقفا كالجبل، ثم بعد ذلك رماه النبي صلّى الله عليه وسلّم على أقبح وجه، فلما رجع أخذه باليد اليسرى، فصرعه على الأرض مرة أخرى، ووضع قدمه على صدره، أو هو أبو لهب كما قاله عطاء فإنه صلّى الله عليه وسلّم لما شافهه بقوله: تبا لك، كان أبو لهب يقول في غيبته أنه صلّى الله عليه وسلّم أبتر، فنزلت هذه الآية أو هو العاص بن وائل السهمي، كما قاله عكرمة.
روي أن العاص بن وائل كان يقول: إن محمدا أبتر لا ابن له يقوم مقامه بعده، فإذا مات انقطع ذكره واسترحتم منه، وكان قد مات ابنه عبد الله من خديجة، وهذا قول ابن عباس ومقاتل والكلبي، وعامة أهل التفسير، أو هو عقبة بن أبي معيط، كما قاله شمر بن عطية، فإنه هو الذي كان يقول ذلك، ووصف الله تعالى العدو بكونه شانئا، إشارة إلى وعده تعالى لرسوله بقهر العدو كأنه تعالى يقول: هذا الذي يبغضك لا يقدر على شيء آخر سوى أنه يبغضك، فيحترق قلبه غيظا وحسدا.
__________
- والزيلعي في نصب الراية (3: 439) ، والدارقطني في السنن (3: 60) ، والتبريزي في مشكاة المصابيح (6210) .(2/671)
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
سورة الكافرون
وتسمى أيضا سورة المنابذة، أو المعابدة، وسورة الإخلاص، أي إخلاص العبادة، وسورة المقشقشة، أي المبرئة من النفاق. ست آيات وستة وعشرون كلمة، أربعة وسبعون حرفا
قُلْ يا أشرف الرسل: يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) .
روي أن الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب، وأمية بن خلف قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا محمد هلم حتى نعبد إلهك مدة، وتعبد آلهتنا مدة، فيحصل الصلح بيننا وبينك، وتزول العداوة من بيننا، فإن كان أمرك رشيدا أخذنا منه حظا، وإن كان أمرنا رشيدا أخذت منه حظا، فنزلت هذه السورة فلما نزلت وقرأها على رؤوسهم شتموه وأيسوا منه، لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) أي لا أعبد الذي تعبدونه في المستقبل والمعنى: لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم من دون الله من الأوثان، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) أي ولا أنتم عابدون في المستقبل عبادتي، أي مثل عبادتي، أي ولا أنتم فاعلون في المستقبل ما أطلبه منكم من عبادة إلهي وهو الله الواحد، وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) أي وما كنت قط عابدا فيما مضى الذين عبدتم فيه، أي لم يعتد مني عبادة صنم في الجاهلية، فكيف ترجى مني في الإسلام وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) ، أي وما عبدتم في وقت من الأوقات مثل عبادتي، وإنما أخبر صلّى الله عليه وسلّم أولا عن الاستقبال، لأنه هو الذي دعوه إليه، فهو الأهم، فبدأ به، أما حكايته صلّى الله عليه وسلّم عن نفسه فلئلا يتوهم الجاهل أنه صلّى الله عليه وسلّم يعبد الأوثان سرا، خوفا منها، أو طمعا إليها، وأما نفيه صلّى الله عليه وسلّم عبادتهم، فلأن فعل الكافر ليس بعبادة أصلا، وإن كان يعبد الله في بعض الأحوال وإنما قال: ما أَعْبُدُ في الرابعة ولم يقل: ما عبدت ليوافق ما عَبَدْتُّمْ في الثالثة، لأن عبادته صلّى الله عليه وسلّم قبل البعثة لم تظهر لأحد بخلافها بعدها أما عبادة الكافر قبل البعثة وبعدها فظاهرة عند الناس، لَكُمْ دِينُكُمْ وهذا تثبيت لقوله
تعالى: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ولقوله تعالى: وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ، وَلِيَ دِينِ (6) وهذا تقرير لقوله تعالى: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ والمعنى: إن دينكم الذي هو الإشراك مقصور لكم، وإن ديني الذي هو التوحيد مقصور لي، كأنه صلّى الله عليه وسلّم يقول: إني نبي مبعوث(2/672)
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
الشرك. وقيل: معنى الآية لكم حسابكم ولي حسابي، ولا يرجع إلى كل واحد منا من عمل صاحبه أثر ألبتة وقيل لكم: العقوبة من ربي ولي العقوبة من أصنامكم، لكن أصنامكم جمادات، فأنا لا أخشى عقوبة الأصنام. وقيل لكم: عادتكم المأخوذة من أسلافكم والشياطين حتى تلقوا الشياطين والنار ولي عادتي المأخوذة من الملائكة والوحي حتى ألقى الملائكة والجنة.
وقرأ نافع وهشام وحفص بفتح ياء «ولي» وحذف ياء الإضافة من «دين» وقفا ووصلا السبعة. وجمهور القراء وأثبتها في الحالين سلام ويعقوب.
سورة النصر
وتسمى سورة التوديع لما فيها من الدلالة على توديع الدنيا وهي آخر سورة نزلت- قاله ابن عباس- مدنية، هي ثلاث آيات وثلاث، عشرون كلمة، تسعة وسبعون حرفا
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ إن كان نزول هذه السورة قبل فتح مكة، ف «إذا» ظرف مستقبل جوابه فسبح، فإن كان النزول بعد الفتح ف «إذا» بمعنى إذ التي للماضي، فهي على هذا متعلقة بمقدر، أي أكمل الله الأمر وأتم النعمة إذ حصل إعانة الله تعالى على عدوك، وَالْفَتْحُ (1) أي فتح مكة، وهو الفتح الذي يقال له: فتح الفتوح، وكان لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان،
فقد خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة ومعه عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار، وطوائف العرب إلى أن نزل بمر الظهران، وقدم العباس وأبو سفيان إليه، فاستأذنا، فأذن لعمه خاصة، فقال أبو سفيان: إما أن تأذن لي، وإلا أذهب بولدي إلى المفازة، فنموت جوعا وعطشا، فرق قلبه، فأذن له وقال له: «ألم يأن أن تسلم وتوحد؟» فقال: أظن أنه واحد ولو كان هاهنا غير الله لنصرنا، فقال:
«ألم يأن أن تعرف أني رسوله؟» فقال: إن لي شكا في ذلك، فقال العباس: أسلم قبل أن يقتلك عمر فقال: وماذا أصنع بالعزى؟ فقال عمر: لولا أنك بين يدي رسول الله لضربت عنقك، فقال:
يا محمد، أليس الأولى أن تترك هؤلاء الأوباش، وتصالح قومك وعشيرتك، فسكان مكة عشيرتك وأقاربك وتعرضهم للشن والغارة، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «هؤلاء نصروني وأعانوني وذبوا عن حريمي، وأهل مكة أخرجوني وظلموني فإن هم أسروا فبسوء صنيعهم» . وأمر العباس بأن يذهب به ويوقفه على المرصاد ليطالع العسكر، ثم تقدم أبو سفيان ودخل مكة وقال: إن محمدا جاء(2/673)
بعسكر لا يطيقه أحد ولما سمع أبو سفيان أذان القوم للفجر وكانوا عشرة آلاف فزع من ذلك فزعا شديدا، وسأل العباس، فأخبره بأمر الصلاة، ودخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة على راحلته ولحيته على قربوس سرجه، كالساجد تواضعا وشكرا، ثم التمس أبو سفيان الأمان فقال: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» . فقال: ومن تسع داري فقال: «ومن دخل المسجد فهو آمن» فقال: ومن يسع المسجد فقال: «من ألقى سلاحه فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن» ، ثم وقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على باب المسجد وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده» ثم قال: «يا أهل مكة ما ترون أني فاعل بكم» ، فقالوا: خيرا، أخ كريم، وابن أخ كريم فقال: «اذهبوا، فأنتم الطلقاء»
«1» ، فأعتقهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد كان الله تعالى أمكنه من رقابهم عنوة، وكانوا له فيئا، فلذلك سمي أهل مكة الطلقاء، ثم بايعوه على الإسلام، وأقام صلّى الله عليه وسلّم في مكة خمس عشرة ليلة، ثم خرج إلى هوازن.
وقرئ «فتح الله» و «النصر» . وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) ، أي وأبصرت الناس يدخلون في ملة الإسلام جماعات كثيفة كأهل مكة، والطائف، واليمن، وهوازن، وسائر قبائل العرب، وكانوا قبل ذلك فيه واحدا واحدا، واثنين اثنين. وقرئ «يدخلون» على البناء للمفعول فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ. أي فقل سبحان الله حامدا له، وَاسْتَغْفِرْهُ أي واطلب غفرانه هضما لنفسك واستقصارا لعملك، واستعظاما، لحقوق الله، واستدراكا لما فرط منك من ترك الأولى، وكأنه تعالى يقول: إذا جاء نصر الله إياك والمؤمنين، والفتح، ودخول الناس في دينك فاشتغل أنت بالتسبيح والحمد والاستغفار إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3) أي إنه تعالى يكثر قبول التوبة لكثير من التائبين، والتوبة اسم للرجوع والندم، والإنسان قد يقول: أستغفر الله وليس بتائب، فيكون كاذبا وكان تقدير الكلام: واستغفره بالتوبة، وفي هذا تنبيه على أن خواتيم الأعمال يجب أن تكون بالتوبة والاستغفار، وكذا خواتيم الأعمار.
وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يجلس مجلسا إلا ختمه بالاستغفار.
وعن عائشة: كان نبي الله في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد، ولا يذهب، ولا يجيء إلا قال: «سبحان الله وبحمده» فقلت: يا رسول الله إنك تكثر من قول سبحان الله وبحمده؟ قال: «إني أمرت بها» وقرأ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ.
وعن ابن مسعود لما نزلت هذه السورة كان صلّى الله عليه وسلّم يكثر أن يقول: «سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي إنك أنت التواب الغفور»
«2» .
__________
(1) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (2: 127) .
(2) رواه أحمد في (م 1/ ص 281) ، والبيهقي في السنن الكبرى (9: 7) ، وابن كثير في التفسير (8: 534) ، والبغوي في شرح السنة (5: 128) ، والطبري في التفسير (30: -(2/674)
قال مقاتل: لما نزلت هذه السورة قرأها النبي صلّى الله عليه وسلّم على أصحابه، وفيهم أبو بكر وعمر، وسعد بن أبي وقاص والعباس، ففرحوا، واستبشروا، وبكى العباس فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما يبكيك يا عم» قال: نعيت إليك نفسك، أي أخبرت بموتك قال: «إنه كما قلت» ، فعاش بعدها ستين يوما ما رؤي فيها ضاحكا مستبشرا
، وعن ابن عمر نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع، ثم نزل الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة: 3] فعاش النبي صلّى الله عليه وسلّم بعدها ثمانين يوما، ثم نزلت آية الكلالة، فعاش بعدها خمسين يوما، ثم نزل لقد جاءكم رسول من أنفسكم، فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوما، ثم نزل وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:
281] فعاش بعدها أحدا وعشرين يوما، وقيل: أحد عشر يوما، وقيل: سبعة أيام والله أعلم، وتوفي صلّى الله عليه وسلّم في ربيع الأول لاثني عشر خلت منه من هجرته إلى المدينة والهجرة، كانت لاثني عشر خلت من ربيع الأول كما أن مولده كذلك على المشهور.
__________
- 218) ، والسيوطي في الدر المنثور (5: 96) ، وابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف (123) . [.....](2/675)
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
سورة أبي لهب
وتسمى سورة تبت، مكية، خمس آيات، ثلاث وعشرون كلمة، سبعة وسبعون حرفا
تَبَّتْ أي هلكت يَدا أَبِي لَهَبٍ هو عبد العزى بن عبد المطلب، وَتَبَّ (1) أي هلك هو، فالأولى: مشت تمشية الدعاء عليه. والثانية: أخرجت مخرج الخبر، أي وقد حصل الهلاك عليه، فهذه الجملة على هذا على تقدير: قد، ويؤيده قراءة ابن مسعود وقد تب بالتصريح بقد، وقيل: كل واحد من الجملتين أخبار ولكن أريد بالجملة الأولى هلاك عمله، وبالثانية هلاك نفسه، فإن المرء إنما يسعى لمصلحة نفسه وعمله، فأخبر الله تعالى أنه محروم من الأمرين.
روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صعد الصفا ذات يوم وقال: «يا صباحاه» فاجتمعت إليه قريش فقالوا: ما لك؟ قال: «أرأيتم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أما كنتم تصدقونني؟» قالوا: بلى، قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد»
«1» ، فقال: عند ذلك أبو لهب: تبا لك ألهذا دعوتنا! فنزلت هذه السورة.
وروي أنه قال: فما لي إن أسلمت؟ فقال: «ما للمسلمين» فقال: أفلا أفضل عليهم؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «بماذا تفضل؟» فقال: تبا لهذا الدين أستوي فيه أنا وغيري.
روي أنه صلّى الله عليه وسلّم لما دعاه نهارا فأبى، فلما جن الليل ذهب إلى داره مستنا بسنة نوح ليدعوه ليلا كما دعاه نهارا فلما دخل عليه قال له: جئتني معتذرا، فجلس النبي صلّى الله عليه وسلّم أمامه كالمحتاج وجعل يدعوه إلى الإسلام وقال: «إن كان يمنعك العار فأجبني في هذا الوقت واسكت» . فقال: لا أؤمن بك حتى يؤمن بك هذا الجدي. فقال صلّى الله عليه وسلّم للجدي: «من أنا؟» «2» فقال: رسول الله. وأطلق لسانه يثني عليه صلّى الله عليه وسلّم، فاستولى الحسد على أبي لهب، فأخذ بيدي الجدي ومزقه وقال: تبا لك أثر فيك السحر! فقال الجدي: بل تبا لك. فنزلت هذه السورة على وفق ذلك تبت يدا أبي لهب لتمزيقه
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (14: 345) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (8: 293) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (35632) .
(2) رواه ابن حجر في تلخيص الحبير (4: 9) .(2/676)
يدي الجدي
، وقد حصل له وجود الاعتقاد الباطل، والقول الباطل، والعمل الباطل ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) أي أيّ تأثير كان لماله وكسبه في دفع البلاء عنه، فإنه لا أحد أكثر مالا من قارون، فهل دفع الموت عنه؟ ولا أعظم ملكا من سليمان فهل دفع الموت عنه؟ أو لا ينفع أبا لهب ماله وكسبه عند ذلك، ف «ما» في «ما أغنى» للنفي؟ أو للاستفهام و «ما» في «ما كسب» إما مصدرية أو موصولة حذف عائدها، أو استفهامية أي أيّ شيء كسب فينفعه. روي أن أبا لهب كان يقول: إن كان ما يقول ابن أخي حقا فأنا أفتدي منه نفسي بمالي وولدي فاستخلص منه، وقد خاب مرجاه وما حصل ما تمناه، فافترس أسد ولده عتيبة بالتصغير في طريق الشام فأنزل الله تعالى هذه الآية. والكسب: هو أرباح ماله. وقيل: نتاج ماشيته. وقال ابن عباس: وما كسب هو ولده والدليل عليه
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه»
«1»
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «أنت ومالك لأبيك»
«2» . ومات أبو لهب بالعدسة بعد وقعة بدر لسبع ليال. والعدسة: بثرة تخرج بالبدن فتقتل، سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) أي سيدخل أبو لهب في الآخرة نارا عظيمة ذات اشتعال. وقرئ بضم الياء وفتح اللام مخففا ومشددا، وَامْرَأَتُهُ معه أم جميل العوراء بنت حرب أخت أبي سفيان صخر بن حرب، واسمها العواء. وقيل: اسمها أروى. وقرئ و «مريئته» بالتصغير للتحقير، حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) وماتت مخنوقة بحبلها وكانت لشدة عداوتها للنبي صلّى الله عليه وسلّم تحمل بنفسها الشوك والحطب، فتنثره بالليل في طريق النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان عليه السلام يطؤه كما يطأ الحرير. وقرأ عاصم بالنصب على الشتم، أو على الحال إذا أريد بحمل الحطب في مطلق الزمن، وقرأ الباقون بالرفع على أنه نعت لامرأته إذا أريد به المضي. وقرئ «حمالة للحطب» بالتنوين نصبا ورفعا فالرفع على الخبر لامرأته، والنصب على الشتم أو على الحال من «امرأته» إن جعلناها مرفوعة بالعطف على الضمير المستتر، فإنها تحمل يوم القيامة حزمة من حطب النار كما كانت تحمل الحطب في الدنيا لأذية الرسول، وحينئذ فجملة «في جيدها» في موضع الحال من «امرأته» وإن جعلناها مرفوعة بالابتداء فجملة «في جيدها» إلخ هو الخبر. فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) أي من حديد في الآخرة، فقد قال ابن عباس: هو سلسلة من حديد ذرعها سبعون ذراعا تدخل من فيها، وتخرج من دبرها، ويكون سائرها في عنقها،
__________
(1) رواه أبو داود في السنن (3530) ، وابن ماجة في السنن (2291) ، وأحمد في (م 2/ ص 204) ، والبيهقي في السنن الكبرى (7: 480) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (4:
154) ، وابن حجر في تلخيص الحبير (3: 189) ، وعبد الرزاق في المصنف (16628) ، والسيوطي في الدر المنثور (1: 347) ، والقرطبي في التفسير (5: 412) .
(2) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (3: 82) ، والحاكم في المستدرك (3: 74) ، وأحمد في (م 4/ ص 161) .(2/677)
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
قتلت من حديد قتلا محكما ويقال: أي في عنقها رسن من ليف المقل وهو شجر الدوم الذي اختنقت به وماتت.
قال قتادة والضحاك: إن العواء كانت تعيّر رسول الله بالفقر فعيّرها الله بأنها كانت تحتطب في حبل من ليف تجعله في جيدها، فخنقها الله تعالى به، فأهلكها.
سورة الإخلاص
وتسمى سورة المعرفة، وسورة الجمال، وسورة التوحيد، وسورة النجاة، وسورة النور، وسورة المعوذة، وسورة المانعة، لأنها تمنع فتنة القبر ولفحات النار، وسورة البراءة، لأنها براءة من الشرك، مكية، أربع آيات، خمس عشرة كلمة، سبعة وأربعون حرفا
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) إن هذه السورة نزلت بسبب سؤال المشركين.
قال الضحاك: إن المشركين أرسلوا عامر بن الطفيل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: سببت آلهتنا وخالفت دين آبائك! فإن كنت فقيرا أغنيناك، وإن كنت مجنونا داويناك، وإن هويت امرأة زوجناكها! فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لست بفقير، ولا مجنون، ولا هويت امرأة، أنا رسول الله أدعوكم من عبادة الأصنام إلى عبادته» .
فأرسلوه ثانية وقالوا: قل له بين لنا جنس معبودك أمن ذهب أو فضة؟ فأنزل الله هذه السورة فقالوا له: ثلاثمائة وستون صنما لا تقوم بحوائجنا، فكيف يقوم الواحد بحوائج الخلق؟! فنزلت وَالصَّافَّاتِ [الصافات: 1] إلى قوله تعالى: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ [الصافات: 4] فأرسلوه أخرى وقالوا: بين لنا أفعاله، فنزل إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
[الأعراف: 54]
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أتيا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال عامر: إلى من تدعونا يا محمد؟ فقال: «إلى الله تعالى» قال: صفه لنا أمن ذهب هو، أم من فضة، أم من حديد، أم من خشب؟ فنزلت هذه السورة، وأهلك الله تعالى أربد بالصاعقة، وعامر بن الطفيل بالطاعون وقيل: نزلت بسبب سؤال النصارى.
روي عن ابن عباس قال: قدم وفد نجران فقالوا: صف لنا ربك، أمن زبرجد، أو ياقوت، أو ذهب، أو فضة؟ فقال: «إن ربي ليس من شيء لأنه خالق الأشياء» فنزل قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ قالوا: هو واحد، وأنت واحد، فقال: ليس كمثله شيء، زدنا من الصفة، فقال: «اللَّهُ(2/678)
الصَّمَدُ
» فقالوا: وما الصمد؟ فقال: «الذي يصمد إليه الخلق في الحوائج» . فقالوا: زدنا، فنزل لَمْ يَلِدْ كما ولدت مريم وَلَمْ يُولَدْ كما ولد عيسى وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ أي ليس له نظير من خلقه.
وقال الضحاك وقتادة ومقاتل: جاء ناس من أحبار اليهود إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: صف لنا ربك لعلنا نؤمن بك، فإن الله تعالى أنزل صفته في التوراة، فأخبرنا من أيّ شيء هو؟ وهل يأكل ويشرب؟ ومن ورث؟ ومن يرثه؟ فنزلت هذه السورة وصفات الله تعالى إما أن تكون إضافية، وإما أن تكون سلبية.
أما الإضافية: فكقولنا: عالم قادر مريد خلاق.
وأما السلبية: فكقولنا: ليس بجسم ولا بجوهر، ولا بعرض، وقولنا: الله يدل على مجامع الصفات الإضافية وقولنا: أحد يدل على مجامع الصفات السلبية، وذلك لأن الله تعالى هو الذي يستحق العبادة، واستحقاق العبادة ليس إلا لمن يستبد بالإيجاد فالاستبداد بالإيجاد، لا يحصل إلا لمن كان موصوفا بالقدرة التامة، والإرادة النافذة، والعلم المتعلق بجميع المعلومات من الكليات والجزئيات، والمراد من الأحدية كون تلك الحقيقة في نفسها مفردة منزهة عن أنحاء التراكيب. اللَّهُ الصَّمَدُ (2) أي السيد المصمود إليه في الحوائج.
وقال ابن مسعود والضحاك: الصمد هو السيد الذي قد انتهى سؤدده. وقيل: الصمد هو الذي ليس فوقه أحد فلا يخاف من فوقه، ولا يرجو من تحته، ترفع الحوائج إليه. وقال قتادة:
الصمد الباقي بعد فناء خلقه، والذي لا يأكل ولا يشرب، وهو يطعم ولا يطعم.
وقال أبيّ بن كعب: هو الذي لا يموت ولا يورث، وله ميراث السموات والأرض.
وقال ابن كيسان: هو الذي لا يوصف بصفة أحد.
قال مقاتل بن حبان: هو الذي لا عيب فيه لَمْ يَلِدْ أي لم يصدر عنه ولد لأنه لم يجانسه شيء، وَلَمْ يُولَدْ (3) أي لم يصدر عن شيء لاستحالة نسبة العدم إليه تعالى سابقا ولاحقا. ويقال: لم يلد، أي ليس له ولد فيرث ملكه، ولم يولد أي ليس له والد فيرث عنه الملك، فلم يرث ولم يورث، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) أي لم يشاكله أحد من صاحبة وغيرها، فيمتنع أن يكون شيء من الموجودات مساويا له تعالى في شيء من صفات الجلال والعظمة، ثم الآية الأولى: تبطل مذهب الثنوية القائلين: بالنور والظلمة، والنصارى: في التثليث. والصائبين: في الأفلاك والنجوم.
والآية الثانية: تبطل مذهب من أثبت خالقا سوى الله، لأنه لو وجد خالق آخر لما كان الحق مصمودا إليه في طلب جميع الحاجات.(2/679)
والآية الثالثة: تبطل مذهب اليهود في عزير، والنصارى في المسيح والمشركين في أن الملائكة بنات الله.
والآية الرابعة: تبطل مذهب المشركين حين جعلوا الأصنام شركاء له تعالى.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن لكل شيء نورا ونور القرآن قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» .
وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم دخل المسجد، فسمع رجلا يدعو ويقول: أسألك يا الله يا أحد، يا صمد، يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال: «غفر لك، غفر لك، غفر لك» «1» ، ثلاث مرات.
وعن سهل بن سعد جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وشكا إليه الفقر فقال: «إذا دخلت بيتك فسلم إن كان فيه أحد وإن لم يكن فيه أحد فسلم على نفسك واقرأ قل هو الله أحد مرة واحدة» «2» . ففعل الرجل فأدر الله عليه رزقا حتى أفاض على جيرانه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قرأ قل هو الله أحد بعد صلاة الصبح اثنتي عشر مرة فكأنما قرأ القرآن أربع مرات وكان أفضل أهل الأرض يومئذ إذا اتقى»
«3» .
وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قرأ قل هو الله أحد في مرضه الذي يموت فيه، لم يفنن في قبره وأمن من ضغطة القبر وحملته الملائكة بأكفها حتى تجيزه من الصراط إلى الجنة»
«4» .
__________
(1) رواه الطبراني في المعجم الصغير (2: 20) ، وابن حجر في لسان الميزان (4: 557) ، وابن كثير في التفسير (6: 95) ، والبخاري في التاريخ الكبير (1: 266) ، والسيوطي في الدر المنثور (5: 6) ، والعقيلي في الضعفاء (3: 224) .
(2) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (7: 146) ، والسيوطي في الدر المنثور (6: 415) .
(3) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (7: 145) ، والسيوطي في الدر المنثور (6: 412) ، والقرطبي في التفسير (20: 249) ، والألباني في السلسلة الضعيفة (301) .
(4) رواه ابن عدي في الكامل في الضعفاء (6: 2416) .(2/680)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
سورة الفلق
مدنية، خمس آيات، ثلاث وعشرون كلمة، أربعة وسبعون حرفا
قيل: إن الله تعالى أنزل المعوذتين عليه صلّى الله عليه وسلّم ليكونا رقية من العين. وروي أن جبريل عليه السلام أتاه وقال: إن عفريتا من الجن يكيدك فقال: إذا أويت إلى فراشك قل: أعوذ برب السورتين.
وقال ابن عباس: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعلمنا من الأوجاع كلها والحمى هذا الدعاء «بسم الله الكريم أعوذ بالله العظيم من شر كل عرق نعار ومن شر حر النار»
. قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) أي الصبح، فإنه وقت دعاء المضطرين، وإجابة الملهوفين، فكأنه يقول: قل أعوذ برب الوقت الذي يفرج فيه عن كل مهموم، ولأنه أنموذج من يوم القيامة، لأن الخلق كالأموات والدور كالقبور، ثم منهم من يخرج عن داره مفلسا عريانا، ومنهم من كان مديونا فيجر إلى الحبس، ومنهم من كان ملكا مطاعا، فتقدم إليه المراكب ويقوم الناس بين يديه، وكذا في يوم القيامة بعضهم مفلس عن الثواب، عار عن لباس التقوى. فيجر إلى الملك الجبار، وبعضهم كان مطيعا لربه في الدنيا، فصار ملكا مطاعا في العقبى يقدم إليه البراق.
وقيل: الفلق واد في جهنم أوجب فيها.
روي عن بعض الصحابة أنه قدم الشام فرأى دور أهل الذمة وما هم فيه من خصب العيش فقال: لا أبالي ألبس من ورائهم الفلق. فقيل: وما الفلق؟ قال: بيت في جهنم إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدة حره، وإنما خصه الله بالذكر هاهنا، لأنه القادر على مثل هذا التعذيب وفد ثبت أن رحمته تعالى أعظم من عذابه فكأنه يقول: يا صاحب العذاب الشديد أعوذ برحمتك التي هي أعظم وأقدم من عذابك.
الفرخ، والقلوب عن المعارف، فكأن الله تعالى هو الذي فلق بحار ظلمات العدم بأنوار الإيجاد وكأنه(2/681)
تعالى قال: قل أعوذ برب جميع الممكنات وبمكون المحدثات، فيكون التعظيم فيه أعظم ويكون الصبح وجبّ النار أحد الأمور الداخلة في هذا المعنى، مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) أي من شر كل ذي شر خلقه الرب من إبليس، ومن جهنم، ومن أصناف الحيوانات المؤذيات كالسباع والهوام وغيرهما، وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) أي ومن شر قمر إذا طلع، كما أخرجه الترمذي من حديث عائشة قالت: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيدي، فأشار إلى القمر فقال: «نعوذ بالله من شر هذا، فإنه الغاسق إذا وقب» ، ومعنى غسوق القمر: امتلاؤه فوقوبه دخوله في الخسوف، أو من شر شمس إذا غربت كما قاله ابن شهاب، وإنما سميت غاسقا، لأنها في الفلك تسبح، فسمي جريانها بالغسق ووقوبها دخولها تحت الأرض، أو من شر ثريا إذا سقطت، لأن الأسقام تكثر عند سقوطها وترتفع عند طلوعها، كما قاله عبد الرحمن بن زيد، وعلى هذا تسمى الثريا غاسقا لانصبابه عند وقوعه في المغرب، ووقوبه دخوله تحت الأرض وغيبوبته عن الأعين، أو من شرحية إذا لدغت وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) أي ومن شر النساء اللاتي يبطلن عزائم الرجال بالحيل كما اختاره أبو مسلم، فمعنى الآية: أن النساء لأجل كثرة حبهن في قلوب الرجال يتصرفن فيهم ويحوّلنهم من رأي إلى رأي، ومن عزيمة إلى عزيمة، فأمر الله رسوله بالتعوذ من شرهن وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5) أي إذا أظهر ما في نفسه من الحسد، وعمل بمقتضاه كتهيئة مبادي الإضرار بالمحسود قولا أو فعلا.(2/682)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
سورة الناس
مدنية، ست آيات، عشرون كلمة، تسعة وتسعون حرفا
قُلْ يا أشرف المرسلين أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) أي ألتجئ بمصلح الناس والقائم بتدبيره، وذكر الله أنه رب الناس على التخصيص مع أنه رب جميع المحدثات، لأن الاستعاذة وقعت من شر الموسوس في صدور الناس، فكأنه قيل: أعوذ من شر الموسوس إلى الناس بربهم، وهو معبودهم.
وقرئ في السورتين بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام، مَلِكِ النَّاسِ (2) عطف بيان، جيء به لبيان أن تربيته تعالى إياهم بطريق الملك الكامل والتصرف الكلي لا بطريق تربية سائر الملاك لمماليكهم، ولا يجوز هاهنا «مالك الناس» بإثبات الألف بخلاف مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ في سورة الفاتحة [الآية: 4] والفرق أن قوله: بِرَبِّ النَّاسِ أفاد كونه مالكا لهم فلا بد وأن يكون المذكور عقبه هذا الملك ليفيد أنه تعالى مالك وملك معا، فإن قيل: أليس قال تعالى في سورة الفاتحة: رَبِّ الْعالَمِينَ [الآية: 2] ثم قال: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الآية: 4] فيلزم وقوع التكرار هناك قلنا: اللفظ دل على أنه رب العالمين، وهي الأشياء الموجودة في الحال، وعلى أنه مالك ليوم الدين، فهناك «الرب» مضاف إلى شيء موجود الآن، و «المالك» مضاف إلى شيء يوجد في الآخرة، فلم يلزم التكرير، فظهر الفرق، وأيضا فإن جواز القراءات يتبع النزول لا القياس، إِلهِ النَّاسِ (3) عطف بيان جيء به لبيان أن ملكه تعالى بطريق المعبودية المؤسسة على الألوهية المقتضية للقدرة التامة على التصرف الكلي فيهم إحياء وإماتة، وإيجادا وإعداما، فوصف الله أولا بأنه رب الناس، ثم الرب قد يكون ملكا وقد لا، فبين بقوله ملك الناس، ثم الملك قد يكون إلها وقد لا، فبين بقوله إِلهِ النَّاسِ لأن الإله خاص بالله تعالى لا يشركه فيه غيره، وأيضا إن أول ما يعرف العبد من معبوده كونه معطيا لما عنده من النعم الظاهرة والباطنة، وهذا هو الرب، ثم ينتقل من معرفة هذه الصفة إلى معرفة استغنائه عن الخلق، فيحصل العلم بكونه ملكا، لأنه هو الذي يفتقر إليه غيره ويستغني عن غيره، ثم عرف العبد أنه هو الذي ولهت(2/683)
العقول في عزته وعظمته، فيعرف أنه إله حقيقة مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ بفتح الواو هو بمعنى الموسوس وهو الشيطان الْخَنَّاسِ (4) أي الذي يتأخر عند ذكر الإنسان ربه والوقف هنا كاف لمن رفع ما بعده أو نصبه على الشتم، ولا وقف هنا لمن جعل ما بعده نعتا للوسواس، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) أي في قلوب الغافل عن ذكر الله، وسقوط الياء عن الناس كسقوطها في قوله تعالى: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ [القمر: 6] مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) بيان للناسي عن ذكر الله فإنهما النوعان الموصوفان بنسيان حق الله تعالى، وعلى هذا لا يحتاج إلى تكلف بعض العلماء من جعل قوله: مِنَ الْجِنَّةِ بيانا للوسواس، وجعل قوله: وَالنَّاسِ عطفا عليه، فكأنه قيل: من شر الوسواس الذي يوسوس، وهو الجن ومن شر الناس اه. ومن جعل قوله تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ عطفا على الْوَسْواسِ بتقدير حرف العطف. فالمعنى: قل أعوذ برب الناس من الوسواس الخناس ومن الجنة والناس، كأنه استعاذ بربه من الشيطان الواحد، ثم استعاذ بربه من جميع الجنة والناس، وفي هاتين السورتين لطيفة وهي أن المستعاذ به في السورة الأولى مذكور بصفة واحدة، وهي أنه رب الفلق والمستعاذ منه ثلاثة أنواع من الآفات:
وهي الغاسق، والنفاثات، والحاسد. أما في هذه السورة المستعاذ به مذكور بصفات ثلاثة: وهي الرب والملك والإله والمستعاذ منه آفة واحدة، وهي الوسوسة، والفرق بين الموضعين أن الثناء يجب أن يتقدر بقدر المطلوب، فالمطلوب في السورة الأولى: سلامة النفس والبدن، والمطلوب في السورة الثانية: سلامة الدين.
وهذا تنبيه على أن مضمرة الدين وإن قلت أعظم من مضار الدنيا، وإن عظمت، والله أعلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقد انتهى ما منّ الله به علينا من المعاني الميسّرة والألفاظ المسهّلة في خامس ربيع الآخر ليلة الأربعاء عام سنة 1305 ألف وثلاثمائة وخمسة على يد الفقير إلى الله تعالى محمد نووي غفر الله له ولوالديه، ولمشايخه، ولإخوانه المسلمين، وصلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين آمين(2/684)