سنة. وقد وعد من نفسه الصبر على الذبح فوفى به، وَكانَ رَسُولًا إلى جرهم- وهم قبيلة من عرب اليمن نزلوا في وادي مكة- بشريعة أبيه، فإن أولاد إبراهيم كانوا على شريعته. نَبِيًّا (54) ، يخبر عن الله، وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ، أي قومه، بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ، أي الصدقات الواجبة، وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) ، أي فائزا في كل طاعاته بأعلى الدرجات. وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ، وهو سبط شيث وجدّ أبي نوح إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً، أي ملازما للصدق في جميع أحواله، نَبِيًّا (56) ، وهذا مخصص للخبر الأول، إذ ليس كل صديق نبيا. وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57) ، وهو السماء الرابعة.
وكان سبب رفعه إليها، أنه سار ذات يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس، فقال: يا ربّ إني قد مشيت فيها يوما فأصابني منها ما أصابني، فكيف من يحملها مسيّرة خمسمائة في يوم واحد؟
اللهم خفف عنه من ثقلها، وحرّها، فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس وحرها، ما لا يعرف، فقال: يا ربّ خففت عني حرّ الشمس، فما الذي قضيت فيه؟ قال: إن عبدي إدريس، سألني أن أخفف عنك حملها وحرها فأجبته، قال: يا ربّ اجعل بيني وبينه خلة، فأذن الله تعالى له حتى أتى إدريس ورفعه إلى السماء. أُولئِكَ العشرة المذكورون في هذه السورة، الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، بفنون النعم الدينية والدنيوية، مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، وهو إدريس، وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ أي ومن ذرية من مع نوح في السفينة وهو إبراهيم فإنه من ذرية سام بن نوح، وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ، وهم إسماعيل وإسحاق ويعقوب، وَإِسْرائِيلَ، أي ومن ذرية يعقوب، وهم يوسف، وإخوته، وموسى، وهارون، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وَمِمَّنْ هَدَيْنا، أي ومن جملة من هديناهم إلى الحق. وَاجْتَبَيْنا أي اصطفيناهم للإسلام، كعبد الله بن سلام، وأصحابه واسم الموصول خبر اسم الإشارة، ومن النبيين بيان للموصول، ومن ذرية بدل بإعادة الجار، ومن للتبعيض. إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ وهي ما خصهم الله تعالى به من الكتب المنزلة عليهم، خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58) ، من مخافة الله تعالى.
قال العلماء: ينبغي أن يدعو الساجد للتلاوة في سجدته بما يليق بآياتها، فههنا يقول:
اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم، المهديين، الساجدين لك، الباكين عند تلاوة آياتك، اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك، المسبحين بحمدك، وأعوذ بك من أن أكون من المستكبرين عن أمرك. فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ، أي حدث من بعد النبيين جماعة سوء ويقال لعقب الخير: «خلف» بفتح اللام ولعقب الشر: «خلف» بالسكون. أَضاعُوا الصَّلاةَ، أي تركوها، وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: هم اليهود، تركوا الصلاة المفروضة، وشربوا الخمر، واستحلوا نكاح الأخت من الأب.
وعن علي رضي الله عنه: هم من بني المشيد، وركب المنظور، ولبس المشهور
. فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) أي واديا في جهنم، بعيدا قعره، تستعيذ منه(2/13)
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)
أوديتها، أعد للزناة، وشربة الخمر، وشهّاد الزور، وأكلة الربا، والعاقّين لوالديهم. إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ أي من اتصف بهذه الأمور الثلاثة: يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ، أي لا ينقصون من جزاء أعمالهم، شَيْئاً (60) .
وتوقّف الأجر على العمل الصالح هو الغالب، لأنه لا تناط الأحكام إلا بالأعم الأغلب، ولا تناط بالنادر، كمن تاب عن كفره ولم يدخل وقت الصلاة، أو وجد الحيض، فإنه لا يجب عليه العمل قبل وجود سببه وشرطه، فلو مات في ذلك الوقت كان من أهل النجاة، مع أنه لم يصدر عنه عمل صالح، من صلاة وزكاة وصوم، وعلى هذا لا يتوقف الأجر على وجود العمل الصالح.
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ، حال من المفعول أي وهم غائبون عنها لا يرونها، وإنما آمنوا بها بمجرد الإخبار منه تعالى، أي وعدهم بها وهم في الدنيا، ومن في الدنيا لا يشاهدها. إِنَّهُ تعالى أو إن الشأن، كانَ وَعْدُهُ تعالى، مَأْتِيًّا (61) ، أي مفعولا منجزا أي الوعد منه تعالى لا بد من وقوعه فهو وإن كان بأمر غائب، فكأنه حاصل مشاهد. لا يَسْمَعُونَ فِيها أي الجنة لَغْواً أي فضول كلام لا فائدة فيه إِلَّا سَلاماً من بعضهم على بعض، أو من الملائكة عليهم. فإن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة. فأهل الجنة لا يحتاجون إلى هذا الدعاء لأنهم في دار السلام، فهذا من فضول الحديث لولا ما فيه من فائدة الإكرام. وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها أي طعامهم في الجنة، بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) أي لهم رزق واسع ودائم، فلهم ما يشتهون متى شاءوا، إذ لا ليل فيها، ولا بكرة، ولا عشيّ. وإنما ذكرهما ليرغب كل قوم بما أحبوه، لأنه لا شيء أحب إلى العرب من الغداء والعشاء، فوعدهم بذلك. ولذلك ذكر أساور الذهب، والفضة، ولباس الحرير، التي كانت عادة العجم، والأرائك التي هي الحجال المضروبة على الأسرة وهي كانت من عادة أشراف العرب في اليمن. تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63) من الكفر أي هذه الجنة التي عظم شأنها، نعطيها من أطاعنا عطاء لا يردّ كالميراث الذي يأخذه الوارث فلا يرجع فيه المورث. وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ.
قيل: احتبس جبريل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم حين سألوه في أمر الروح وأصحاب الكهف، وذي القرنين، فقال: «أخبركم غدا» ، ولم يقل: إن شاء الله، حتى شق على النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم نزل بعد أيام، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أبطأت علي حتى ساءني، واشتقت إليك» «1» . فقال له جبريل: إني كنت أشوق، ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت، وإذا حبست احتبست، فأنزل الله تعالى: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ، حكاية قول جبريل أمره الله تعالى أن يقوله لمحمد جوابا لسؤاله بقوله: يا جبريل: «ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا»
«2» والمعنى وما نتنزل من السماء وقتا غبّ وقت إلّا
__________
(1) رواه ابن عدي في الكامل في الضعفاء (7: 2547) ، وعبد الرزاق في المصنف (20918) .
(2) رواه أحمد في (م 1/ ص 357) ، والحاكم في المستدرك (2: 611) ، والطبري في التفسير(2/14)
بأمر الله تعالى على ما تقتضيه حكمته. لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ، أي لربك ما قدّامنا وما خلفنا من الجهات، وما نحن فيه، فلا ننتقل من جهة إلى جهة، ومن مكان إلى مكان، إلّا بأمره ومشيئته، فليس لنا أن ننقلب من السماء إلى الأرض إلا بأمره وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) أي تاركا لك بتأخير الوحي عنك، فعدم النزول لعدم الأمر به لحكمة بالغة فيه.
وقال أبو مسلم: ويجوز أن يكون قوله تعالى: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ، حكاية قول أهل الجنة يدخلونها، والمعنى: وما نتنزل الجنة إلا بأمر الله تعالى ولطفه، له ما بين أيدينا في الجنة مما يكون مستقبلا، وما خلفنا مما كان في الدنيا، وما بين ذلك فيما نحن فيه مما بين الوقتين. وقول تعالى: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ابتداء كلام من الله تعالى، تقرير لقولهم أي وما كان الله ناسيا لأعمال العاملين وللثواب عليها بما وعدهم، لأنه عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة. رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما، فلا يجوز عليه النسيان، وهو بدل من ربك أو خبر مبتدأ مضمر أي هو فَاعْبُدْهُ، يا أكرم الرسل، وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ، وعدي الاصطبار باللام لأن العبادة جعلت بمعنى القرب، ففيه معنى الثبات لأن العبادة ذات شدائد ومشاق، فكأنه قيل: اثبت لعبادة الرب، ولا يضق صدرك، من قول الكافرين لك. هَلْ تَعْلَمُ لَهُ، أي للرب سَمِيًّا (65) أي نظيرا فيما يقتضي العبادة، من كونه منعما بأصول النعم وفروعها، وشريكا في الاسم الخاص كرّب السموات والأرض وما بينهما وكالله. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: لا يسمّى بالرحمن غير تعالى. وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أبي بن خلف الجمحي بطريق الإنكار والاستبعاد فإنه أخذ عظاما بالية ففتّها، وقال: يزعم محمد أنا نبعث ما نموت، ونصير إلى هذه الحال أو الوليد بن المغيرة، أو أمية بن خلف. أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) ، أي أبعث من الأرض. أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وقالون، عن يعقوب بسكون الذال، وضم الكاف، أي أيقول المجترئ بهذا الإنكار على ربه ولا يتفكر، أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ، أي من قبل الحالة التي هو فيها من نطفة منتنة، وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) أي والحال أنه لم يكن حينئذ شيئا أصلا، أي أولا يعلم ذلك من حال نفسه؟ لأن كل أحد يعلم أنه لم يكن حيا في الدنيا، ثم صار حيا فيها. فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ أي لنجمعنّ القائلين بعدم البعث بالسوق إلى المحشر، بعد ما أخرجناهم من الأرض أحياء. وَالشَّياطِينَ.
روي أن كل كافر يحشر مع شيطانه الذي يضلّه في سلسلة. ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ بعد طول الوقوف في المحشر حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ، أي باركين على الركب، لما يدهمهم من شدة الأمر الذي لا يطيقون معه القيام على أرجلهم. ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أي من كل أمة تبعث دينا من الأديان، أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) أي جراءة. أي فمن كان أشدهم تمردا في كفره، خصّ
__________
(16: 78) ، والقرطبي في التفسير (11: 128) .(2/15)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)
بعذاب أعظم، لأن عذاب الضّال المضل، يجب أن يكون فوق من يضلّ تبعا لغيره، وليس عذاب من يتجبّر كعذاب المقلّد، وليس عذاب من يورد الشبه في الباطل، كعذاب من يقتدي به مع الغفلة. ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها أي أحقّ بجهنم صِلِيًّا (70) أي دخولا فنبدأ بهم.
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها أي ما منكم أيها الإنسان أحد إلّا حاضر قرب جهنم، ويمرّ بها المؤمنون، وهي خامدة، وتنهار بعيرهم.
وعن جابر أنه صلّى الله عليه وسلّم سئل فقال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال بعضهم لبعض: أليس قد وعدنا ربنا أن نرد النار؟ فيقال لهم: قد وردتموها وهي خامدة»
«1» .
وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يدخل النار أحد شهد بدرا والحديبية» «2» ، فقالت حفصة أليس الله يقول: وإن منكم إلّا واردها؟
فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ثم ننجي الذين اتقوا»
أي نبعدهم عن عذاب جهنم.
وقيل: ورود جهنم هو الجواز على الصراط الممدود عليها، وقيل: الورود: الدخول، فالمؤمنون يدخلون النار من غير خوف وضرر ألبتة، بل مع الغبطة والسرور. كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) أي كان ورودهم إياها أمرا محتوما أوجبه الله تعالى على ذاته. ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا من الكفر والمعاصي، أي نخرجهم منها، فلا يخلدون بعد أن أدخلوا فيها، وإنما دخلوا لهم فيها ليشاهدوا العذاب، ليصير ذلك سببا لمزيد التذاذهم بنعيم الجنة. وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ، بالكفر والمعاصي فِيها أي جهنم جِثِيًّا (72) أي
منهارا بهم. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ أي المشركين، آياتُنا الناطقة بحسن حال المؤمنين، وسوء حال الكفرة، بَيِّناتٍ أي مرتلات الألفاظ، مبينات المعاني، قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي مردوا منهم على الكفر، ومرنوا على العناد، وهم: النضر بن الحرث، وأتباعه الفجرة. لِلَّذِينَ آمَنُوا أي لفقراء المؤمنين الذين هم في خشونة عيش، ورثاثة ثياب وضيق منزل، واللام للتبليغ لأنهم شافهوا المؤمنين وخاطبوهم بقولهم: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أي المؤمنين والكافرين خَيْرٌ مَقاماً أي منزلا. وقرأ ابن كثير بضم الميم وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) أي مجلسا أي أنحن أو أنتم.
روي أنهم كانوا يرجلون شعورهم، ويدهنونها، ويتطيبون، ويتزينون بالزينة الفاخرة، ثم يدعون فقراء المؤمنين، ويقولون مفتخرين عليهم: انظروا إلى منازلنا فتروها أحسن من منازلكم، وانظروا إلى مجالسنا عند التحدث ومجلسكم، فترونا نجلس في صدر المجلس، وأنتم في طرفه الحقير. فإذا كنا بهذه المثابة، وأنتم بتلك، فنحن عند الله خير منكم، ولو كنتم على خير لأكرمكم بهذه الأمور، كما أكرمنا بها.
__________
(1) رواه ابن عبد البر في التمهيد (7: 156) ، بما معناه.
(2) رواه أحمد (م 6/ ص 362) .(2/16)
والمعنى أنهم لما سمعوا الآيات، بينات الإعجاز، وعجزوا عن معارضتها، شرعوا في الافتخار بما لهم من حظوظ الدنيا، فرد الله عليهم ذلك بقوله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ، أي كثيرا أهلكنا بفنون العذاب قبل هؤلاء القريش، من أمم عاتية كعاد، وثمود وأمثالهم، هُمْ أَحْسَنُ من هؤلاء أَثاثاً أي أمتعة وَرِءْياً (74) ، أي منظرا، أي فهم أفضل من هؤلاء فيما يفتخرون به، ولو كان ما آتيناهم لكرامتهم علينا لما فعلنا بهم ما فعلنا، أي فإن ما أنتم أيها الكفار فيه من النعم، محض استدراج لم ينفعكم الترفه شيئا عند نزول البلاء بكم، كما وقع للأمم الماضية، حيث كانوا في رفاهية أكثر منكم، ومع ذلك أهلكهم الله بكفرهم، ولم ينفعهم الترفه شيئا قُلْ يا أشرف الرسل لهؤلاء المفتخرين بما لهم من حظوظ: مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا، وهذا الأمر بمعنى الخبر، أي من كان مستقرا في الضلالة، مغمورا بالجهل والغفلة عن عواقب الأمور، فيمهله الله بطول العمر، وبسط المال، وإنفاقه فيما يستلذّ به من الأوزار، ولا يزال يمدّ له استدراجا وقطعا للمعاذير يوم القيامة. حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ، من الله تعالى إِمَّا الْعَذابَ الدنيوي بغلبة المسلمين عليهم، وتعذيبهم إياهم قتلا وأسرا، وَإِمَّا السَّاعَةَ، أي ما نالهم يوم القيامة من الخزي والنكال. فَسَيَعْلَمُونَ حينئذ، مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً أي منزلا من الفريقين وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) ، أي أقلّ ناصرا، أهم أم المؤمنون. وهذا ردّ لما كانوا يزعمون أن لهم أنصارا من الأخيار، ويفتخرون بذلك في المحافل، وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بالإيمان، هُدىً أي بالإخلاص، وبالعبادات المتفرعة على الإيمان، وبالثواب على ذلك الإيمان.
وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ، أي الطاعات التي تبقى فوائدها خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً أي فائدة مما يتمتع به الكفرة من النعم الفانية التي يفتخرون بها وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) أي عاقبة. أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ؟؟؟ بِآياتِنا، الناطقة بالبعث، وهو العاص بن وائل السهمي، وَقالَ لخباب بن الأرت:
لَأُوتَيَنَّ في الآخرة مالًا وَوَلَداً (77) .
نزلت هذه الآية في شأن العاص بن وائل، عن خباب قال: كان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أقتضيه، فقال لي: لن أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: لن أكفر به، حتى تموت ثم تبعث. قال: وإني لمبعوث من بعد الموت، قلت: نعم، قال: إني إذا بعثت وجئتني فسيكون لي ثمّ مال وولد، فأعطيك.
وقرأ حمزة والكسائي «وولدا» بضم الواو وسكون اللام. وقيل: صاغ خباب للعاص حليا فطلب الأجرة، فقال: إنكم تزعمون أنكم تبعثون، وأن في الجنة ذهبا، وفضة، وحرير، أفأنا أقضيك، ثم فإني أوتى مالا وولدا حينئذ فأجاب الله تعالى عن كلامه بقوله تعالى: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أي أعلم الغيب، وأن يعطى ما قاله، أو أقد بلغ من عظمة الشأن، إلى أن ارتقى إلى علم الغيب، الذي انفرد الله به، حتى ادعى أن يؤتى في الآخرة مالا وولدا، وأقسم عليه. أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ(2/17)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90)
عَهْداً
(78) ، بأن يؤتى ما قاله، وقيل: المعنى انظر في اللوح المحفوظ أن له ما يقول، أم اعتقد وحدة الله بكلمة الشهادة فيكون له ما يقول.
وعن قتادة: هل له عمل صالح قدمه فهو يرجو بدلك ما يقول: كَلَّا ردع له عن التفوّه بتلك الكلمة الشنيعة، وتنبيه على خطئه، أي لا يكون له ما يقول، سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ، أي سنظهر له أنا كتبنا قوله ونؤاخذه به، وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) أي نطوّل به من العذاب ما يستحقه، ونضاعفه له لكفره وافترائه على الله تعالى، واستهزائه بآياته، وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ، أي ننزع ما آتيناه بموته، ونحرمه ما تمناه في الآخرة من مال، وولد، ونجعله لغيره من المسلمين، وَيَأْتِينا يوم القيامة فَرْداً (80) لا يصحبه مال، ولا ولد، ولا عشيرة، ولا خير.
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً، أي اتخذ كفار قريش الأصنام آلهة متجاوزين الله تعالى، لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) أي ليكون الأصنام مانعين لهم من عذاب الله، كَلَّا أي لا مانع من عذابهم، فلا يعتقدوا أن الأصنام شفعاء لهم عنده تعالى، سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ أي سيجحد الأصنام بعبادتهم لها، بأن ينطقها الله تعالى، وتقول ما عبدتمونا، وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ أي تكون الأوثان التي كانوا يرجون أن تكون لهم منعة من العذاب، ضِدًّا (82) ، أي أعداء وأعوانا بالعذاب، فإنهم وقود النار، ولأنهم عذّبوا بسبب عبادتهم. أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) أي ألم تنظر يا أشرف الرسل، أنا سلطنا الشياطين على الكافرين، تهيّجهم على المعاصي تهييجا شديدا بأنواع الوساوس، فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ، بطلب إهلاكهم حتى تستريح أنت والمؤمنون من شرورهم.
إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) ، فليس بينك وبين ما تطلب من هلاكهم إلا أيام محصورة، وأنفاس معدودة، فنضبط عليهم ما يقع منهم، حتى نؤاخذهم به ولا نهمله. وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) بإيمانهم، إِلَى الرَّحْمنِ أي إلى محل كرامة ربهم الذي يغمرهم برحمته الواسعة، وَفْداً (85) ، أي وافدين على ربهم، منتظرين لكرامتهم وأنعامهم، فبعضهم كانوا ركبانا على نجائب سرجها من ياقوت، وعلى نوق رحالها من ذهب، وأزمتها من زبرجد، من أول خروجهم من القبور، أو من منصرفهم من الموقف حتى يقرعوا باب الجنة. وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ بكفرهم ومعاصيهم إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) أي عطاشا بإهانة كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87) ، أي لا يستحق هؤلاء المجرمون أن يشفع لهم غيرهم، إلا من اتخذ كلمة الشهادة بالتوحيد والنبوة، ولو كانوا أهل الكبائر.
وروى ابن مسعود أنه صلّى الله عليه وسلّم قال لأصحابه ذات يوم: «أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهدا» قالوا: وكيف ذلك؟ قال: «يقول كل صباح ومساء: اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، إني أعهد إليك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمدا عبدك ورسولك، فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر، وتبعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك، فاجعل لي عهدا توفينيه يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد، فإذا قال ذلك طبع الله عليه بطابع، ووضع تحت العرش، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الذين لهم(2/18)
أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
عند الرحمن؟ عهد، فيدخلون الجنة»
«1» . وَقالُوا أي الكافرون اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) عزيرا، والمسيح، والملائكة، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) أي لقد قلتم قولا منكرا عظيما تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ، أي يتشققن مِنْهُ أي من قولهم، وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ أي تنخسف بهم، وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أي تسقط الجبال منطبقة عليهم.
أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) أي من نسبهم ولدا للرحمن، وهذا بدل من الهاء في منه.
قال ابن عباس: فزعت السموات والأرض والجبال، وجميع الخلائق إلا الثقلين، وغضبت الملائكة حين قالوا: الله ولد، أي استعظاما للكلمة، وتهويلا من فظاعتها، وتصويرا لأثرها في الدين. وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) ، لأن الولد لا بد وأن يكون شبيها بالوالد، ولا مشبه لله تعالى. ولأن اتخاذ الوالد إنما يكون لأجل سرور الوالد به، واستعانته به، وذكر جميل به، وكل ذلك لا يليق به تعالى، محال عليه. وهذه الجملة حال من فاعل قالوا أو دعوا، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) ، أي ما من أحد فيهما إلا مملوك له، مقرّ له بالعبودية، مطيع له، غير الكافر. لَقَدْ أَحْصاهُمْ فلا يكاد يخرج منهم أحد من حيطة علمه، وقبضة قدرته وملكوته، لَكَ صَدْرَكَ (1) أي عدّ أشخاصهم، وأنفاسهم، وأفعالهم، وكل شيء عنده بمقدار، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95) أي كل واحد منهم يجيء إلى الله وحيدا، بلا مال، ولا أتباع. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) أي سيحدث لهم في القلوب محبة، من غير تعرض للأسباب من قرابة، أو صداقة، أو اصطناع معروف، أو غير ذلك تخصيصا لأوليائه بهذه الكرامة. كما قذف في قلوب أعدائهم الرعب إعظاما لهم. أي إن الله تعالى وعدهم أن يؤلف بين قلوبهم في الدنيا إذا ظهر الإسلام، وأن يحبّبهم إلى خلقه يوم القيامة، بما يظهر من حسناتهم، وينشر من ديوان أعمالهم، على رؤوس الأشهاد.
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ أي القرآن بِلِسانِكَ أي أنزلناه ميسرا بلغتك لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ، بامتثال ما فيه من الأمر والنهي، وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) ، أي الذين يجادلون فيه بالباطل وهم كفار مكة. وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ أي قرونا كثيرا أهلكنا قبل هؤلاء المعاندين، هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98) أي هلكوا جميعا فلم يبق منهم عين، ولا أثر فلا يرى منهم أحد، ولا يسمع منهم صوت حفي، أي فكما أهلكنا أولئك نهلك هؤلاء. وختم الله تعالى هذه السور بموعظة بليغة، لأنهم إذا تأملوا وعلموا أنه لا بد من زوال الدنيا ومن الانتهاء إلى الموت، خافوا ذلك وخافوا سواء العاقبة في الآخرة، فكانوا أقرب إلى الحذر من المعاصي.
__________
(1) رواه ابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (108) . [.....](2/19)
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8) وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)
سورة طه
مكية، مائة وخمس وثلاثون، ألف وثلاثمائة وإحدى وأربعون، خمسة آلاف ومائتان اثنان وأربعون
طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) . أي لتتعب بالمبالغة في محاورة الطغاة، وفرط التأسف على كفرهم، أو لتهلك نفسك بالعبادة وبكثرة الرياضة، وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة، إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) ، أي ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب في تبليغه، ولكن تذكرة لمن يسلم. تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) ، منصوب على المدح والاختصاص، أو منصوب ب «يخشى» مفعولا به أي أمدح تكليما من الله، أو أنزل الله القرآن تذكرة لمن يخشى، تكليم الله تعالى. الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) أي الرحمن أوجد الكائنات، ودبر أمرها فالاستواء على العرش، مجاز عن الملك والسلطان، متفرع على الكناية فيمن يجوز عليه القعود على السرير، يقال: استوى فلان على سرير الملك، ويراد بهذا القول صار فلان ملكا، وإن لم يقعد على السرير أصلا. والمراد هنا بيان تعلّق إرادته تعالى بإيجاد الكائنات، وتدبير أمرها.
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، سواء كان فيهما جزءا منهما، أو حالا فيهما. وَما بَيْنَهُما، من الموجودات الكائنة في الجوّ دائما كالهواء، والسحاب، أو أكثريا كالطير وَما تَحْتَ الثَّرى (6) ، أي والذي تحت الأرض السابعة السفلى، لأن الأرضين على ظهر الحوت، والحوت على الماء والماء على صخرة خضراء، فخضرة السماء منها والصخرة، على قرني ثور، والثور على الثرى، وهو التراب الندي، ولا يعلم ما تحته إلا الله أي أنه تعالى مالك لهده الأقسام الأربعة، تصرفا وإيجادا وإعداما، وإحياء، وإماتة. وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ، أي وإن تجهر بذكره تعالى ودعائه، فاعلم أنه تعالى غني عن جهرك. فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) أي لأنه يعلم ما أسررته إلى غيرك في خفاء، وما أخطرته ببالك من غير أن تتفوه به أصلا. وهذا إما نهي عن الجهر وإما إرشاد للعباد إلى أن الجهر ليس لإسماعه تعالى، بل لغرض آخر كحضور القلب ودفع الشواغل، والوسوسة: اللَّهُ، أي ذلك الموصوف بصفات الكمال، هو الله لا إله إلا هو، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ.(2/20)
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20)
قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تعالى خلق ملكا من الملائكة قبل أن يخلق السموات والأرض، وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله مادا بها صوته، ولا يقطعها، ولا يتنفس فيها، ولا يتمّها، فإذا أتمها أمر إسرافيل بالنفخ في الصور، وقامت القيامة تعظيما لله عزّ وجل»
اه.
وينبغي لأهل لا إله إلا الله، أن يحصلوا أربعة أشياء حتى يكونوا من أهل لا إله إلا الله:
التصديق، والتعظيم، والحلاوة، والحرية فمن ليس له التصديق فهو منافق. ومن ليس له التعظيم فهو مبتدع، ومن ليس له الحلاوة فهم مراء، ومن ليس له الحرية فهو فاجر. لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8) ، فحسن الأسماء لحسن معانيها. وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً، أي أليس قد أتاك خبر موسى حين رأى نارا.
روي أن موسى عليه السلام استأذن شعيبا في الرجوع إلى والدته، فأذن له، فخرج بأهله وأخذ على غير الطريق، مخافة من ملوك الشام، فلما وافى وادي طوى وهو بالجانب الغربي من الطور، ولد له ابن في الطريق في ليلة شاتية، مثلجة، وكانت ليلة الجمعة، وقد حاد عن الطريق، فقدح عليه السلام النار فلم تنوّر المقدحة شيئا فبينما هو في مزاولة ذلك، إذ رأى نارا من بعيد على يسار الطريق من جانب الطور، فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا في مكانكم أي لا تتبعوني في الذهاب إلى النار، إِنِّي آنَسْتُ ناراً أي أبصرتها إبصارا بينا، لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ، أي لعلّي أجيئكم من النار بشعلة مقتبسة من معظم النار، أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) ، أي عند النار من يدلني على الطريق.
فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ أي فلما أتى النار رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها، كأنها نار بيضاء، فوقف متعجبا من شدة ضوء تلك النار، وشدة خضرة تلك الشجرة، فلا النار تغيّر خضرتها، ولا كثرة ماء الشجرة تغيّر ضوء النار، فسمع تسبيح الملائكة، ورأى نورا عظيما، ثم رمى موسى بنظره إلى فرعها، فإذا حضرته ساطعة في السماء، وإذا نور بين السماء والأرض له شعاع تكلّ عنه الأبصار، فلما رأى موسى ذلك، وضع يده على عينيه، فنودي يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ أي فلما نودي يا موسى أجاب سريعا فقال: لبيك، من المتكلم؟ إني أسمع صوتك ولا أراك، فأين أنت؟
فقال تعالى: أنا فوقك، ومعك، وأمامك، وخلفك، وأقرب إليك منك فعلم أن ذلك لا ينبغي، ولا يكون إلا من الله فأيقن به وسمع الكلام بكل أجزائه حتى إن كل جارحة منه كانت أذنا، وسمعه من جميع الجهات. فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ أمر عليه الصلاة والسلام بالخلع، لأن الحفوة تواضع لله، وحسن أدب معه تعالى، إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ، أي المبارك طُوىً (12) ، اسم الوادي، أو اسم بئر قد طويت بالحجر في ذلك الوادي الذي كانت فيه الشجرة.
قال أهل الإشارة: والمراد بخلع النعلين، ترك الالتفات إلى الدنيا والآخرة. كأنه تعالى أمره عليه السلام، بأن يصير مستغرق القلب بالكلية في معرفة الله تعالى، ولا يلتفت بخاطره إلى(2/21)
ما سواه تعالى. والمراد من الوادي المقدس: طهارة عزة الله تعالى وجلاله. والمعنى: إنك لما وصلت إلى بحر المعرفة، فلا تلتفت إلى المخلوقات اه. ويقال: معنى طوى قد طوته الأنبياء قبلك.
قال ابن عباس: إنه عليه السلام مرّ بذلك الوادي ليلا فطواه، فكان المعنى: أنك بالوادي المقدس الذي طويته طيا، أي جاوزته حتى ارتفعت إلى أعلاه وعلى هذا إن «طوى» مصدر خرج عن لفظه. وَأَنَا اخْتَرْتُكَ للرسالة والكلام الذي خصصتك به.
وقرأ حمزة: «وأنا اخترناك» بنون العظمة، وبتشديد النون من «أنا» ، وبفتح الهمزة والكسر. وقرأ أبي بن كعب: «إني اخترتك» فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) أي فاستمع
للذي يوحي إليك مني. وقوله تعالى: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ يفيد نهاية اللطف والرحمة. وقوله تعالى: فَاسْتَمِعْ يفيد نهاية الهيبة، فكأنه تعالى قال: لقد جاءك أمر عظيم، هائل، فتأهب له، واجعل كل خاطرك مصروفا إليه. فأرسله الله تعالى في ذلك الوقت، في ذلك المكان، وكان عمره حينئذ أربعين سنة إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ بدل مما يوحى، لا إِلهَ إِلَّا أَنَا وهذا إشارة للعقائد العقلية، فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إي لتذكرني في الصلاة لاشتمالها على كلامي، أو لذكري إياك بالمدح والثناء، أو لإخلاص ذكري لا تقصد بالصلاة غرضا آخر. وهذا إشارة للأعمال الفرعية. إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أي كائنة لا بد، أَكادُ أُخْفِيها، أي أكاد أظهرها، أي قرب إظهارها.
ويؤيده قراءة فتح الهمزة أو المعنى، أكاد أزيل عنها إخفاءها لأن أفعل قد يأتي بمعنى السلب، كقولك أشكلت الكتاب، أي أزلت إشكاله، وهذا إشارة إلى العقائد السمعية، وهذه الثلاثة جملة الدين. فإن أصول هذا الباب ترجع إلى ثلاثة: علم المبدأ، وعلم الوسط، وعلم المعاد. فعلم المبدأ، هو معرفة الله تعالى، وهو المراد بقوله تعالى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا وعلم الوسط، هو علم العبودية، فقوله تعالى: فَاعْبُدْنِي إشارة إلى الأعمال الجسمانية وقوله: لِذِكْرِي، بمعنى لتكون ذاكرا لي غير ناس، إشارة إلى الأعمال الروحانية، فالعبودية أولها الأعمال الجسمانية، وآخرها الأعمال الروحانية، وعلم المعاد هو قوله تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها. لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ برة أو فاجرة بِما تَسْعى (15) أي بما تعمل من خير أو شر فقوله: لِتُجْزى متعلق ب «آتية» أو ب «أخفيها» . فَلا يَصُدَّنَّكَ أي فلا يصرفنّك يا موسى عَنْها، أي عن ذكر الساعة، مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ أي ميل نفسه إلى إنكار الساعة، فإن منكر البعث إنما أنكره اتباعا للهوى لا للدليل، فَتَرْدى (16) أي فتهلك بالنار. فالله تعالى راعى هذا الترتيب الحسن في هذا الباب، لأنه قال لموسى أولا فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ وهو إشارة إلى الأمر، بتطهير السر عما سوى الله تعالى، ثم أمره بتحصيل ما يجب تحصيله من التكاليف، وافتتحها بمحض اللطف، وهو قوله تعالى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ واختتمها بمحض القهر وهو قوله تعالى: فَلا(2/22)
قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30)
يَصُدَّنَّكَ عَنْها
الآية تنبيها على أن رحمته سبقت غضبه وإشارة إلى أن العبد لا بد له في العبودية من الرغبة، والرهبة، والرجاء، والخوف. وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ أي وما تلك مأخوذة بيمينك يا مُوسى (17) ، فقوله: وَما تِلْكَ، إشارة إلى العصا، وقوله: بِيَمِينِكَ إشارة إلى اليد.
أراد الله تعالى بالسؤال أن يثبت قلب موسى، ويزداد علمه، حتى إذا قلب الله تعالى العصا ثعبانا لا يخافه ولا يعتريه شك، وكذا إذا أخرج الله من يد موسى شعاعا، فيعرف أن ذلك بقدرة الله تعالى. والنكتة في ذلك السؤال، أنه لما غلبت الدهشة على موسى في الحضرة، أراد ربّ العزة إزالتها، فسأله عن أمر لا يغلط فيه وهي العصا. كذلك المؤمن إذا مات ووصل إلى حضرة ذي الجلال، فالدهشة تغلبه، والحياء يمنعه عن الكلام، فتسأله الملائكة عن الأمر الذي لم يقع الغلط فيه في الدنيا وهو التوحيد، فإذا ذكره زالت الدهشة والوحشة عنه. قالَ هِيَ أي التي قارة بيميني عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها أي أعتمد عليها عند النهوض إلى القيام، أو عند الإعياء، أو عند المشي. وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي أي أخبط بها ورق الشجر لغنمي. وقرأ عكرمة «وأهسّ» بالسين غير المنقوطة- وهو زجر الغنم وتعديته ب «على» لتضمن معنى الأنحاء والإقبال أي أزجر الغنم بها منحيا ومقبلا عليها وَلِيَ فِيها أي العصا؟؟؟ مَآرِبُ أُخْرى (18) ، أي حاجات شتى.
وأجمل موسى عليه السلام، رجاء أن يسأله ربه عن تلك المآرب، فيسمع كلام الله مرة أخرى، ويطول أمر المكالمة بسبب ذلك. ثم أراد الله أن يعرّفه عليه السلام، أن فيها أعظم من مآربه التي هي: حمل الزاد، والقوس، وعرض الزند، وإلقاء الكساء للاستظلال، وطرد السباع وغير ذلك، فأمره الله بإلقائها. قالَ أَلْقِها من يدك يا مُوسى (19) ؟؟؟ فَأَلْقاها من يده على الأرض، فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) .
قيل كانت العصا أول انقلابها حية صفراء صغيرة في غلظ العصا، ثم انتفخت وتزايد جرمها، حتى صارت ثعبانا، فأول حالها جان، ومآلها ثعبان. وقيل: إنها كانت من أول الأمر في شخص الثعبان، وسرعة حركة الجان، وكان لها عرف كعرف الفرس، وكان بين فكّيها أربعون ذراعا، وابتلعت كل ما مرت به من الصخور والأشجار، حتى سمع موسى صرير الحجر في فمها، وجوفها، وعيناها تتّقدان كالنار، وهي تشتد رافعة رأسها فلما عاين موسى ذلك ولى هاربا منها.
قالَ تعالى له: خُذْها يا موسى بيمينك، وَلا تَخَفْ منها، سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) أي سنعيدها بعد الأخذ إلى حالتها الأولى، التي هي الهيئة العصوية.
فلما قال له ربه لا تَخَفْ، ذهب خوفه حتى أدخل يده في فمها، وأخذ بلحييها، فعادت عصا كما كانت. وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ أي أدخل كفك اليمنى في إبطك الأيسر وأخرجها، تَخْرُجْ بَيْضاءَ أي متبرقة مثل البرق، أو مشرقة تضيء كشعاع الشمس، تغطي البصر عن الإدراك. ثم إذا ردّها إلى كفّه صارت إلى لونها الأول بلا نور، مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي من غير برص،(2/23)
اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)
آيَةً أُخْرى (22) أي معجزة أخرى غير العصا. فقوله تعالى: بَيْضاءَ حال من الضمير في تخرج، ومن غير سوء متعلق ببيضاء لما فيها من معنى الفعل، وهو ابيضت. وآية أخرى حال من ضمير تخرج. لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) في الإعجاز وهي اليد فإنها أكبر آيات موسى لأنها لم تعارض أصلا، وأما العصا فقد عارضها السحرة. فقوله: لِنُرِيَكَ متعلق، بقوله تعالى:
وَاضْمُمْ أو بقوله: تَخْرُجْ وقوله: مِنْ آياتِنَا حال من الكبرى، ف «الكبرى» مفعول ثان «لنريك» ، والتقدير لنريك الآية الكبرى، حال كونها بعض آياتنا الدالة على قدرتنا اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ بما رأيته من الآيتين العظيمتين،؟؟؟ وادعه إلى عبادتي وحذّره نقمتي. إِنَّهُ طَغى (24) أي جاوز الحدّ في الكبر، حتى تجاسر على دعوى الربوبية. قالَ مستعينا بالله تعالى: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) ، أي ليّن لي قلبي لأجترئ على مخاطبة فرعون، وكان موسى يخاف فرعون لشدة شوكته، وكثرة جنوده. فسأل الله تعالى أن يوسّع قلبه ليكون حمولا لما يستقبل من الشدائد والمكاره، بجميل الصبر وحسن الثبات. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) أي هوّن عليّ تبليغ الرسالة إلى فرعون. وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) متعلق باحلل.
روي أنه عليه السلام كان في لسانه رتة، لأنه حال صباه أخذ لحية فرعون ونتفها لما كان فيها من الجوهر، فغضب فرعون وأمر بقتله، وقال: هذا هو الذي يزول ملكي على يده، وقالت آسية: إنه صبي لا يعقل وعلامته أن تقرّب منه التمرة، والجمرة، فقرّبا إليه فأخذ الجمرة، فجعلها في فيه. يَفْقَهُوا أي يفهموا قَوْلِي (28) عند تبليغ الرسالة. وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) . ف «وزيرا» مفعول ثان لأنه نكرة، و «هارون» مفعول أول لأنه معرفة، وقدم الثاني اعتناء بشأن الوزارة، و «أخي» عطف بيان، ولي متعلق بمحذوف على أنه حال من وزيرا، ومن أهلي متعلق بأجعل، والمعنى واجعل من أهلي هارون أخي، متحملا على الأعباء لي، ومعينا على أمري، يقوي أمري، وأثق برأيه،
اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) ، أي قوي بهارون ظهري، وأعنّي به وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) أي اجعله شريكي في أمر الرسالة حتى نتعاون على أدائها كما ينبغي.
وقرأ العامة على صيغة الطلب وهي ضم الهمزة من «أشدد» وهي همزة وصل، وفتح الهمزة من أشركه وهي همزة قطع. وقرأ ابن عامر وحده على صيغة الجواب، وهو فتح همزة «أشدد» ، وضم همزة «أشركه» ، وكلاهما همزة قطع للمتكلم فيهما، ويجوز لمن قرأ على لفظ الأمر، أن يجعل أخي مرفوعا على الابتداء، واشدد به خبره ويوقف على هارون. كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) ، أي كي ننزهك عمّا لا يليق بك من الصفات، والأفعال التي من جملتها ما يدعيه فرعون الطاغية، ويقبله منه جماعته الباغية، من ادّعاء الشركة في الألوهية، ونصفك بما يليق بك من صفات الكمال، والجمال، والجلال، زمانا كثيرا من جملته، زمان دعوة فرعون، وأوان المحاجة معه، وهذا إشارة إلى أن للجليس الصالح، والصديق الصديق، أثرا عظيما في(2/24)
المعاونة على كثرة الطاعات، والمرافقة في اقتحام عقبات السلوك وقطع مفاوزه. إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35) أي عالما بأن ما دعوتك به مما يفيدنا في تحقيق ما كلفته من إقامة مراسم الرسالة، وبأن هارون نعم الردء في أداء ما أمرت به. قالَ الله تعالى: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36) أي قد أردت إعطاء مسؤولك ألبتة، وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً
أُخْرى
(37) ، أي في وقت غير هذا الوقت من غير سابقة دعاء منك وطلب. فلأن أنعم عليك بمثل تلك النعم التامة وأنت طالب له أولى. إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أي ألهمنا أمك الذي يلهم، أو أريناها في منامها الذي يرى، لما ولدتك وخافت أن يقتلك فرعون. أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ، أي بأن تضعي الصبي في الصندوق، فَاقْذِفِيهِ أي فألقي الصبي، فِي الْيَمِّ أي في بحر النيل، فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ، أي فيلقي بحر النيل هذا الصبي على الشط. والأمر بمعنى الخبر، وحكمة صورة الأمر لوجوب وقوع ذلك، لتعلّق الإرادة الربانية به.
روي أن أم موسى اتخذت تابوتا، وجعلت فيه قطنا محلوجا، ووضعت فيه موسى عليه السلام، وقيرت رأس التابوت، وشقوقه بالقار، ثم ألقته في نيل مصر، وكان يشرع منه نهر كبير إلى دار فرعون، فرفعه الماء إليه، فأتى به إلى بركة في البستان، وكان فرعون جالسا على رأس البركة مع امرأته آسية بنت مزاحم، إذ بتابوت يجيء به الماء، فلما رآه فرعون أمر الغلمان والجواري بإخراج ما فيه، ففتحوا رأس التابوت فإذا صبي من أصبح الناس وجها، فلما رآه فرعون أحبه شديدا لا يتمالك أن يصبر عنه. يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ، وهو فرعون.
فالأول: باعتبار الواقع لكفره وعتّوه.
والثاني: باعتبار ما يؤول إليه، وما لو ظهر لفرعون حال موسى لقتله، وفي هذا الأمر بقذفه في البحر، وفي وقوعه في يد العدو، لطف خفي مندرج تحت قهر صوري. وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي أي وألقيت عليك محبة عظيمة حاصلة مني، واقعة بخلقي، فلذلك أحبتك امرأة فرعون، حتى قالت لفرعون: «قرة عين لي ولك» لا تقتلوه.
ويروى أنه عليه السلام، كانت على وجهه مسحة جمال، وفي عينيه ملاحة لا يكاد يصبر عنه من رآه. وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) ، معطوف على علة مقدرة متعلقة بألقيت، والتقدير وألقيت عليك المحبة ليعطف عليك، ولتربى بالشفقة بحفظي. وقرأ العامة «لتصنع» بالبناء للمجهول، بإضمار «أن» بعد لام «كي» ، وقرئ بكسر اللام، وسكونها، وبالجزم بلام الأمر. وقرأ الحسن وأبو نهيك، بفتح التاء بالبناء للفاعل. أي ليكون تصرفك على رعاية مني. إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ، مريم وكانت شقيقته، وهي غير أم عيسى، وهذا الظرف متعلق بألقيت، أي ألقيت عليك محبة مني في وقت مشي أختك، أو بتصنع أي لتربى، ويحسن إليك في هذا الوقت، فَتَقُولُ لفرعون وآسية: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ أي يربيه، ويرضعه.(2/25)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)
ويروى أنه لما فشا الخبر بمصر، أن آل فرعون أخذوا غلاما في النيل وكان لا يرتضع من ثدي كل امرأة يؤتى بها، واضطروا إلى تتبع النساء. فخرجت أخته مريم لتعرف خبره، فدخلت قصر فرعون، فقالت: هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم. ثم جاءت بالأم، فقبل ثديها.
فرجع إلى أمه بما لطف الله تعالى له من هذا التدبير. فذلك قوله تعالى: فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ، معطوف على محذوف. أي فقالوا: دلينا على من تكفله، فجاءت بأمك فرددناك إلى أمك. كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها فتطيب نفسها بلقائك ورؤيتك. وَلا تَحْزَنَ أي ليزول عنها الحزن بسبب عدم وصول لبن غيرها إلى باطنك، أو كي لا تحزن أنت بفراقها.
وكانت أمه قد أرضعته ثلاثة أشهر، أو أربعة، قبل إلقائه في اليم. وَقَتَلْتَ نَفْساً قبطيا طباخا لفرعون اسمه قاب قان، وكان عمره إذ ذاك ثلاثين سنة. فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ أي من غم اقتصاص فرعون منه، بالإنجاء منه بالمهاجرة إلى مدين، ومن غم عقاب الله تعالى، حيث قتله لا بأمر الله بالمغفرة، وكان قتله للكافر خطأ. وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً أي أوقعناك في محنة بعد محنة، وخلّصناك منها.
فإنه ولد في عام يقتل فيه الولدان. وألقته أمه في البحر، والتقطه آل فرعون، وامتنع من ارتضاع الأجانب، وهمّ فرعون بقتله، ووضع الجمرة في فيه، وقتل قبطيا، ثم هرب إلى مدين.
فَلَبِثْتَ سِنِينَ أي مكثت عشر سنين، فِي أَهْلِ مَدْيَنَ وهي بلدة شعيب عليه السلام، على ثمان مراحل من مصر. ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40) أي ثم جئت إلى المكان الذي أونس فيه النار، ووقع فيه النداء كائنا على مقدار معين من الزمان وهو أربعون سنة، فنبأتك وأرسلتك حينئذ.
وَاصْطَنَعْتُكَ أي اصطفيتك لِنَفْسِي (41) بالرسالة وبالكلام. اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ أي وليذهب أخوك إلى فرعون، وقومه، وبني إسرائيل، بِآياتِي أي مع آياتي التي هي العصا واليد ففي كل منهما آيات شتى.
فانقلاب العصا حيوانا آية، وكونها ثعبانا عظيما لآية أخرى، وسرعة حركته مع عظيم جرمه آية أخرى، ثم إنه عليه السلام يدخل يده في فيه فلا يضره آية أخرى، ثم انقلابه عصا آية أخرى.
وكذلك اليد فإن بياضها آية، وشعاعها آية أخرى، ثم رجوعها إلى حالتها الأولى آية أخرى. وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) أي لا تضعفا عن تبليغ رسالتي، فإن الذكر يطلق على كل عبادة، والتبليغ من أعظم العبادات. اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ.
روي أن الله تعالى أوحى إلى هارون وهو بمصر، أن يتلقى موسى عليه السلام إِنَّهُ طَغى (43) أي تكبر بادعائه الربوبية، فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً فإن تليين القول، مما يكسر سورة عناد العتاة، ويلين عريكة الطغاة، وإن فرعون كان قد ربّاه عليه السلام، فأمره أن يخاطبه بالرفق رعاية لتلك الحقوق. لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) أي قولا له قولا ليّنا على أن تكونا راجيين لأن يقبل(2/26)
وعظكما أو يخشى الله فيرجع من الإنكار، إلى الإقرار بالحق. فإن لم ينتقل من الإنكار، إلى الإقرار لكنه إذا حصل في قلبه الخوف ترك الإنكار. وإن لم ينتقل إلى الإقرار، فإن ترك الإنكار، خير من الإصرار على الإنكار. وفائدة إرسالهما مع علم الله بأن فرعون لا يؤمن إلزام الحجة من الله، وقطع المعذرة عن فرعون، وإظهار الآيات. ويروى عن كعب أنه لمكتوب في التوراة:
«فقولا له قولا لينا وسأقسي قلبه فلا يؤمن» . قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أي أن يعجّل علينا بالعقوبة، بأن لا يصبر إلى إتمام الدعوة وإظهار المعجزة. أي إنا نخاف فوات القيام لتبليغ الرسالة كما أمرتنا، إذا قتلنا. وقرئ «يفرط» بضم الياء، وكسر الراء، أي نخاف أن يحمله حامل من ادعاء الربوبية، أو حبه للرياسة، والمملكة، أو قومه المتمردين على المعالجة بالعقاب. أَوْ أَنْ يَطْغى (45) ، أي يزداد تكبرا إلى أن يقول في شأنك ما لا ينبغي لجراءته عليك، وقساوة قلبه.
قالَ الله تعالى: لا تَخافا، مما عرض في قلبكما من أذية فرعون لكما، ومن ازدياد كفره.
إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46) ، أي إنني حافظكما سميعا وبصيرا.
قال القفال: يحتمل أن يكون قوله تعالى: أَسْمَعُ وَأَرى مقابلا لقولهما أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا، أي أن يعدو علينا بأن لا يسمع منا، أو أن يطغى، أي يغلب علينا بأن يقتلنا. فقال الله تعالى إِنَّنِي مَعَكُما أي معينكما، وعالم بما يليق من حالكما معه، أسمع كلامه معكما فأسخره للاستماع منكما، وأرى أفعاله فلا أتركه يفعل بكما ما تكرهانه. فَأْتِياهُ أي فلتكونا واصلين إلى فرعون، فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ إليك، فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ، نذهب بهم إلى أرضهم- وفي ذلك إدخال النقص على ملكه، لأنه كان محتاجا إليهم فيما يريده من الأعمال، من بناء أو غيره- وَلا تُعَذِّبْهُمْ بالأمور الشاقة كالحفر، ونقل الأحجار، وقتل ذكور أولادهم، عاما دون عام، واستخدام نسائهم. قَدْ جِئْناكَ؟؟؟ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ، أي بإثبات الدعوى ببرهانها. فهو بيان من عند الله. وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) ، أي السلامة في الدارين، من عذاب الله لمن صدق آيات الله الهادية إلى الحق. وهذا من جملة قوله تعالى الذي أمرهما أن يقولاه لفرعون، أي وفقولا له والسلام إلخ. إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا، من جهة ربنا، أَنَّ الْعَذابَ الدنيوي والأخروي، عَلى مَنْ كَذَّبَ بآياته تعالى وَتَوَلَّى (48) ، أي أعرض عن قبولها. قالَ أي فرعون بعد ما أتياه وبلّغا ما أمرا به، فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) ، لم يقل فمن ربي، مع أن حق الجواب كذلك، لغاية عتوّه أي إذا كنتما رسولي ربكما فأخبرا من ربكما الذي أرسلكما وتخصيص النداء بموسى، بعد مخاطبته لهما معا لأنه الأصل في الرسالة، وهارون وزيره.
قالَ أي موسى مجيبا له: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ، من أنواع المخلوقات خَلْقَهُ أي صورته اللائق بما نيط به من الخواص، والمنافع. أو أعطى خلقه كل شيء يحتاجون إليه وينتفعون به. وتقديم المفعول الثاني للاعتناء به. ثُمَّ هَدى (50) ، إلى طريق الانتفاع من(2/27)
قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60)
الأكل، والشرب، والجماع.
قالَ أي فرعون لموسى: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) ، أي ما حال الأمم الماضية، وماذا جرى عليهم من الحوادث المفصلة، أي فلما ذكر موسى عليه السلام برهانا نيرا على هذا المطلوب، خاف فرعون أن يزيد موسى في تصوير تلك الحجة، فيظهر للناس صدقه عليه السلام، وحقيقة مقالاته، وتبين عندهم بطلان خرافات نفسه. فأراد فرعون أن يصرف موسى عليه السلام عن ذلك الكلام الذي يتعلق بالرسالة، إلى الحكايات. فعسى يظهر منه نوع غفلة، فيرتقي فرعون إلى أن يدعي قدام قومه نوع معرفة. فقال: ما حال القرون الحالية قالَ موسى: عِلْمُها أي علم حالهم عِنْدَ رَبِّي، فلا يعلمها إلا الله، وإنما أنا عبد لا أعلم منها إلا ما علمنيه. فِي كِتابٍ، أي ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ، يكون المكتوب فيه يظهر للملائكة، فيكون ذلك زيادة لهم في الاستدلال على أنه تعالى عالم لكل المعلومات، منزّه عن السهو، والغفلة، أو المعنى. إن بقاء المعلومات في علمه تعالى كبقاء المكتوب في الكتاب، فلا يزول شيء منها عن علمه تعالى. لا يَضِلُّ رَبِّي، أي لا يخطئ عن معرفة الأشياء، ولا يخفى شيء عن علمه، وَلا يَنْسى (52) شيئا علمه. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً أي فراشا.
وقرأ عاصم وحمزة بفتح الميم وسكون الهاء. والباقون بكسر الميم وفتح الهاء مع الألف.
وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا، أي جعل لكم في الأرض طرقا تذهبون وتجيئون فيها. وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، هذا تمام كلام موسى عليه السلام، ثم بعد ذلك أخبر الله تعالى عن صفة نفسه، تتميما لكلام موسى لخطاب أهل مكة فقال: فَأَخْرَجْنا بِهِ أي بذلك الماء، أَزْواجاً، أي أصنافا، مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) ، أي مختلفة في الطعم والرائحة والشكل والنفع، بعضها صالح للناس، وبعضها للبهائم، على اختلاف وجوه الصلاح. وقيل: هذا من تمام كلام موسى عليه السلام، كأنه يقول: ربي الذي جعل لكم كذا وكذا، فأخرجنا نحن معشر عباده بذلك الماء بالحراثة، أزواجا من نبات شتى. وقال صاحب الكشاف: إن كلام موسى عليه السلام تم عند قوله: وَلا يَنْسى ثم ابتدأ كلام الله، من قوله الَّذِي جَعَلَ فهو خبر مبتدأ محذوف، والتقدير هو الذي جعل، ويكون الانتقال من الغيبة إلى التكلم، التفاتا للدلالة على كمال القدرة والحكمة.
وللإعلام بأن ذلك لا يتأتى إلا من قادر مطاع عظيم الشأن. كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ، حال من ضمير، أخرجنا على إرادة القول، أي فأخرجنا أصناف النبات قائلين لكم: كلوا وارعوا أنعامكم، أي مبيحين لكم الأكل وعلف الأنعام، آذنين في الانتفاع بها. إِنَّ فِي ذلِكَ أي في اختلاف النبات في الشكل والطبع، لَآياتٍ واضحة الدلالة على شؤون الله تعالى، في ذاته، وصفاته، وأفعاله، لِأُولِي النُّهى (54) أي لذوي العقول الناهية عن الأباطيل. مِنْها أي الأرض، خَلَقْناكُمْ وذلك إذا وقعت النطفة، فيخلق الله الولد من النطفة، ومن التراب. وأيضا أن تولّد الإنسان إنما هو من النطفة، ودم الطمث، وهما يتولّدان من الأغذية، وهي تنتهي إلى(2/28)
قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)
النبات، وهي إنما تحدث من امتزاج الماء والتراب. وَفِيها نُعِيدُكُمْ، إلى الموضع الذي أخذ ترابكم منه مدفونين فيه. وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55) ، يوم البعث على الهيئة السابقة. وَلَقَدْ أَرَيْناهُ أي والله لقد بصّرنا فرعون آياتِنا كُلَّها. روي أن موسى لما ألقى عصاه انقلبت ثعبانا أشعر فاغرا فاه، بين لحييه ثمانون ذراعا، وضع لحيه الأسفل على الأرض، والأعلى على سور القصر، وتوجّه نحو فرعون، فهرب وأحدث، وانهزم الناس مزدحمين، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا من قومه، فصاح فرعون يا موسى: أنشدك بالذي أرسلك ألا أخذته، فأخذه، فعاد عصا.
وروي أنها انقلبت حية ارتفعت في السماء قدر ميل، ثم انحطت مقبلة نحو فرعون، وجعلت تقول: يا موسى مرني بما شئت، ويقول فرعون: يا موسى أنشدك إلخ. ونزع موسى يده من جيبه، فإذا هي بيضاء بياضا نورانيا، خارجا عن حدود العادات، قد غلب شعاعه شعاع الشمس ففي تضاعيف كل من الآيتين آيات جمة، ولذلك أكدت بكلها. فَكَذَّبَ موسى عليه السلام، وَأَبى (56) أن يؤمن ويطيع لعتوّه قالَ لموسى خوفا من أن يتبعه الناس: أَجِئْتَنا من مكانك الذي كنت فيه بعد ما غبت عنا، لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا مصر، بِسِحْرِكَ أي الذي هو العصا واليد البيضاء، يا مُوسى (57) وليكون لك الملك فيها، فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ أي مثل سحرك في الغرابة. فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً أي وعدا لإتيانك بالسحر، لا نُخْلِفُهُ، أي ذلك الوعد، نَحْنُ وَلا أَنْتَ، ف «موعدا» مفعول أول، والظرف مفعول ثان. مَكاناً مفعول فيه منصوب ب «اجعل» ، سُوىً (58) .
قرأ عاصم وحمزة وابن عامر بضم السين، أي تستوي مسافة المكان على الفريقين، والباقون بكسرها، أي غير هذا المكان الذي نحن فيه الآن. قالَ موسى: مَوْعِدُكُمْ أي أجلكم يَوْمُ الزِّينَةِ، وهو يوم النيروز، أو يوم عيد لهم، وكان يوم عاشوراء. واتفق أنه في هذه الواقعة يوم سبت. وقرأ الحسن، والأعمش، وعيسى، وعاصم، وغيرهم «يوم» بالنصب أي موعدكم يقع يوم الزينة، وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) ، عطف على الزينة أو على يوم. فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ، أي انصرف عن المجلس وفارق موسى، فَجَمَعَ كَيْدَهُ، أي ما يكاد به من السحرة وأدواتهم، ثُمَّ أَتى (60) بهم الموعد وأتى موسى أيضا.
قالَ لَهُمْ. أي لأهل الكيد، مُوسى بطريق النصيحة: وَيْلَكُمْ أي ألزمكم الله ضيقا في الدنيا، لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً، بإتيان السحر في معارضة آيات الله وبادعائكم أن الآيات التي ستظهر على يدي سحر فَيُسْحِتَكُمْ.
قرأ حفص وحمزة والكسائي بضم الياء، وكسر الحاء والبيخقون بفتحهما، أي فيهلككم، بِعَذابٍ في الدنيا بالاستئصال أو في الآخرة بالنار. وَقَدْ خابَ أي حرم عن المقصود مَنِ(2/29)
افْتَرى
(61) على الله. فَتَنازَعُوا أي السحرة، أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ، أي تشاوروا ليستقروا على شيء واحد حين سمعوا كلام موسى عليه السلام، وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) من فرعون وملئه، فقالوا في نجواهم: إن غلب علينا موسى آمنا به. ثم قالُوا بطريق العلانية، أي قال السحرة، وقيل:
قال لهم فرعون ومن معه: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ. قرأ ابن كثير وحفص بسكون النون من «إن» ، وشدّدها الباقون. وشدّد ابن كثير نون «هذان» ، وقرأ عمرو «هذين» بالياء. يُرِيدانِ أي موسى وهارون، أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ، أي أرض مصر، بِسِحْرِهِما الذي أظهراه لكم، وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) ، أي يذهبا دينكم، الذي هو أفضل الأديان بإعلاء دينهما. أو يقال: يذهبا بإشراف قومكم بميلهم إليهما لغلبتهما- وهم بنو إسرائيل- فإنهم ذوو علم ومال. فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ.
وقرأ أبو عمرو بفتح الميم، وبوصل الهمزة، أي فأجمعوا أدوات سحركم فلا تتركوا شيئا منها. وقرأ الباقون بكسر الميم، وقطع الهمزة، أي ليكن عزمكم مجمعا عليه لا تختلفوا، ثُمَّ ائْتُوا للقاء موسى وهارون، صَفًّا، أي مصطفين مجتمعين لكي يكون الصف أنظم لأمركم، وأشد لهيبتكم.
قال ابن عباس: كانوا اثنين وسبعين ساحرا مع كل واحد منهم حبل وعصا. وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64) ، أي وقد فاز بالمطلوب من غلب. ومرادهم بالمطلوب الأجر والتقريب من فرعون على ما وعدهم بذلك. ومرادهم بمن غلب أنفسهم جميعا، أو من غلب منهم حثا لهم على بذل المجهود في المغالبة. قالُوا أي السحرة لموسى: يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) ، أي اختر إما إلقاءك ما معك قبلنا، وإما القاءنا ما معنا قبلك.
وهذا التخيير حسن أدب منهم، وتواضع لموسى عليه السلام، لأن لين القول مع الخصم إن لم ينفع، لم يضر، بل نفعهم، ولذلك رزقهم الله تعالى الإيمان ببركته. ثم إن موسى عليه السلام، قابل أدبهم بأدب أحسن من أدبهم، حيث بتّ القول بإلقائهم أولا لأنه فهم أن مرادهم الابتداء. قالَ بَلْ أَلْقُوا، أي قال لهم موسى: لا ألقي أنا أولا بل ألقوا أنتم أولا إن كنتم محقين، فألقوا ما معهم من الحبال والعصي، ميلا من هذا الجانب، وميلا من هذا الجانب.
فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أي موسى، مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها حيات تَسْعى (66) . «فإذا» ظرفية تطلب متعلقا ينصبها من فعل المفاجأة، وجملة ابتدائية تضاف إليها. أي
ففاجأ موسى إذا حبالهم وعصيهم، مخيلة إلى موسى السعي، كسعي ما يكون حيا من الحيات، من أجل سحرهم، وذلك أنهم كانوا لطخوها بالزئبق، فلما ضربت عليه الشمس، اضطربت واهتزت فخيّل إليه أنها تتحرك فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) أي أضمر موسى في قلبه بعض خوف من أن لا يظفر بهم، فيقتلون من آمن به عليه السلام قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) ، أي الغالب عليهم.(2/30)
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80)
وقيل: إن موسى خاف من مفاجأته بمقتضى طبع البشرية من النفرة من الحيات، ومن الاحتراز من ضررها المعتاد من اللسع ونحوه، فإن خوف البشرية مركوز في جبلّة الإنسان، وذلك مثل ما خاف من عصاه أول ما رآها. ولذلك قال تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى أي أعلى درجة من أن تخاف من المخلوقات دون الخالق. وَأَلْقِ، على الأرض ما فِي يَمِينِكَ، يا موسى وإنما لم يقل وألق عصاك تعظيما لشأنها، أي لا تحفل بهذه الأجرام فإن في يمينك شيئا أعظم منها كلها، وهذه على كثرتها أقل شيء عنده، فألقه، تَلْقَفْ ما صَنَعُوا، أي تلقم ما طرحوا من الحبال والعصي، الذي خيل إليك سعيها وخفتها.
وقرأ ابن عامر «تلقّف» بتشديد القاف، وبالرفع. والعامة بالجزم، وحفص بسكون اللام وبالجزم إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ أي لأن الذي صنعوه عمل ساحر. وقرأ حمزة، والكسائي و «كيد سحر» بكسر، فسكون، على أن الإضافة للبيان. وقرأ مجاهد، وحميد، وزيد بن علي، بنصب «كيد ساحر» ، على أنه مفعول به، و «ما» كافة مزيدة، وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ، أي لا يحصل له مقصوده بالسحر خيرا كان أو شرا، حَيْثُ أَتى (69) أي أينما كان، وهذا من تمام التعليل.
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً أي فألقى موسى عصاه، فتلقّفت حبال السحرة وعصيّهم فسجدوا، فإنهم من سرعة سجودهم كأنهم ألقوا، فما أعجب أمرهم قد ألقوا حبالهم وعصيّهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم للشكر والسجود. روي أنهم في سجودهم رأوا الجنة، ومنازلهم التي يصيرون إليها، ثم رفعوا رؤوسهم، قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قال رئيسهم: كنا نغالب الناس بالسحر، وكانت الآلات تبقى علينا لو غلبنا، فلو كان هذا سحرا فأين ما ألقيناه؟!
قالَ لهم فرعون: آمَنْتُمْ لَهُ أي لموسى قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أي من غير أن آذن لكم في الإيمان له، إِنَّهُ أي موسى لَكَبِيرُكُمُ أي أستاذكم، الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ، وأنكم تلامذته في السحر، فتوافقتم على أن تظهروا العجز من أنفسكم ترويجا لشأنه وتفخيما لأمره، فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ، أي في حال كونها مختلفات، والقطع من خلاف، أن تقطع اليد اليمنى، والرجل اليسرى، لا كل واحد من العضوين، فإن هذا يد، وذاك رجل، وهذا يمين وذاك شمال، وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ، أي عليها، وأتى بكلمة «في» ، للدلالة على إبقائهم عليها زمانا مديدا، تشبيها لاستمرارهم عليها باستقرار المظروف في الظرف، وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أي أنا أو موسى، أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) . وهذا لقصد توضيع موسى عليه السلام والهزء به، لأنه عليه السلام لم يكن من التعذيب في شيء. أو لإرادة أن إيمانهم كان على خوف من موسى، حيث رأوا ابتلاع عصاه لحبالهم وعصيهم، فخافوا على أنفسهم أيضا، وفي ذلك تبجّح فرعون بما ألفه من تعذيب الناس بأنواع العذاب. قالُوا: أي السحرة لفرعون غير مكترثين بوعيده: لَنْ نُؤْثِرَكَ، أي لن نختار اتباعك عَلى ما جاءَنا من الله تعالى على يد موسى عليه السلام، مِنَ(2/31)
الْبَيِّناتِ
أي المعجزات الظاهرة الدالة على صدق موسى. وَالَّذِي فَطَرَنا أي ولا على عبادة الذي خلقنا، فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ أي فاصنع ما أنت صانعه، إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) ، أي لأنك إنما تحكم علينا في الدنيا فقط، وليس لك علينا سلطان في الآخرة، وأنت تجزى على حكمك في الآخرة، وما لنا من رغبة في حلاوة الدنيا ولا رهبة من عذابها. إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا، أي شركنا ومعاصينا، وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ، أي وليغفر لنا السحر الذي عملناه في معارضة موسى رغبة في خيرك، ورهبة من شرك، بإكراهك علينا في الحضور إليك من المدائن القاصية، وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) أي فخيره تعالى أبقى من خيرك لمن أطاعه، وعذابه أبقى من عذابك لمن عصاه، إِنَّهُ أي لأنه الشأن، مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ يوم القيامة مُجْرِماً، بأن مات على الكفر، فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها، فينتهي عذابه ويستريح وَلا يَحْيى (74) ، حياة ينتفع بها. وَمَنْ يَأْتِهِ يوم القيامة مُؤْمِناً، بما وعد من الثواب، وأوعد من العقاب على لسان أنبيائه، قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ التي جاءوا بها، فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) ، أي المنازل الرفيعة في الجنان.
جَنَّاتُ عَدْنٍ، وهي في وسط الجنان، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ، أي الدرجات العلى، جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) ، أي تطهر من الذنوب. وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي.
قرأ نافع وابن كثير بكسر النون، وهمزة وصل. أي سر ببني إسرائيل أول الليل من أرض مصر إلى البحر، فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً، أي اجعل لهم بالضرب بعصاك طريقا في البحر يابسا ليس فيه وحل ولا نداوة. لا تَخافُ دَرَكاً، أي إدراك فرعون، وَلا تَخْشى (77) ، من الغرق. وقرأ حمزة «لا تخف» بالجزم جوابا للأمر. فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ، أي فلحقهم فرعون مع جموعه، فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) ، أي فسترهم ما سترهم من البحر. وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ، أي سلك بهم مسلكا أدّاهم إلى الهلاك في الدين والدنيا معا، حيث ماتوا على الكفر بالعذاب الدنيوي المتصل بالعذاب الأخروي. وَما هَدى (79) أي ما أرشدهم إلى طريق موصل إلى مطلب دنيوي وأخروي.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما أمر الله تعالى موسى أن يقطع بقومه البحر، وكان موسى وبنو إسرائيل استعاروا من قوم فرعون الحلي والدواب لعيد يخرجون إليه، فخرج بهم ليلا وهم ستمائة ألف وثلاثة آلاف ونيف، ليس فيهم ابن ستين ولا عشرين، وخرج فرعون في طلب موسى، وعلى مقدمته ألف وخمسمائة ألف سوى الجنبين والقلب. فلما انتهى موسى إلى البحر قال: هاهنا أمرت، فأوحى الله إليه: أن اضرب بعصاك البحر، فضرب، فانفلق، فقال لهم موسى عليه السلام: أدخلوا فيه. فقالوا: وأرضه رطبة، فدعا الله تعالى فهبت عليها الصبا فجفت.
فقالوا: نخاف الغرق في بعضنا، فجعل بينهم كوى حتى يرى بعضهم بعضا، ثم دخلوا حتى جاوزوا البحر.(2/32)
كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82) وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90)
فأقبل فرعون إلى تلك الطرق، فقال قومه له: إن موسى قد سحر البحر فصار كما ترى، وكان على فرس حصان، فأقبل جبريل على فرس أنثى في ثلاثة وثلاثين من الملائكة، فسار جبريل بين يدي فرعون، فأصبر الحصان الحجر، فاقتحم بفرعون على أثرها، فصاحت الملائكة في الناس: الحقوا الملك، حتى إذا دخل آخرهم، وكاد أولهم أن يخرج التقى البحر عليها فغرقوا، فسمع بنو إسرائيل خفقة البحر عليهم، فقالوا: ما هذا يا موسى؟ قال: قد أغرق الله فرعون وقومه، فرجعوا حتى ينظروا إليهم، وقالوا: يا موسى ادع الله أن يخرجهم لنا حتى ننظر إليهم، فدعا، فلفظهم البحر إلى الساحل وأصابوا من سلاحهم. يا بَنِي إِسْرائِيلَ أي وقلنا: يا أولاد يعقوب، قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ فرعون وقومه بإغراقهم، وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ، أي واعدناكم إتيان جانب الجبل الأيمن، لمن انطلق من مصر إلى الشام. فإن الله أمر أن يأتي منهم سبعون مع موسى إلى طور سيناء لأخذ التوراة، ففيه صلاح دينهم ودنياهم وأخراهم، وَنَزَّلْنا في التيه، عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) ، فالمنّ: هو شيء «حلو أبيض مثل الثلج، كان ينزل من الفجر إلى طلوع الشمس، لكل إنسان صاع» . والسلوى: «هو السماني يبعثه الجنوب عليهم فيذبح الرجل منهم ما يكفيه» .
كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ، أي من لذائذه. وقرأ حمزة والكسائي: «قد أنجيتكم» ، و «وعدتكم» ، و «رزقتكم» بتاء المتكلم. والباقون بنون العظمة، واتفقوا على ونزلنا بالنون. وأسقط أبو عمرو ألف «واعدنا» . وَلا تَطْغَوْا فِيهِ أي فيما رزقناكم بأن لم تشكروه.
قال ابن عباس: أي لا يظلم بعضكم بعضا فيأخذه من صاحبه، فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي، بكسر الحاء أي يجب عليكم عقوبتي. قرأ الأعمش والكسائي بضم الحاء أي ينزل وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81) ، أي هلك وو قرأ الكسائي بضم اللام الأولى. وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ من الشرك والمعاصي، وَآمَنَ بما يجب الإيمان به، وَعَمِلَ صالِحاً أي مستقيما عند الشرع والعقل، ثُمَّ اهْتَدى (82) أي استمرّ على الهدى من غير تقصير، ومات على ذلك فلما ذهب موسى عليه السلام مع السبعين إلى الميقات تعجّل إلى
الميعاد قبلهم، قال الله له: وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) أي وقلنا له: أي شيء أعجبك منفردا عن النقباء، قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي أي هم معي، وإنما سبقتهم بخطي يسيرة ظننت أنها لا تخلّ بالمعيّة ولا تقدح في الاستصحاب. وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) عني بمسارعتي إلى الامتثال بأمرك، واعتنائي بالوفاء بعهدك، قالَ تعالى: يا موسى فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ، أي ابتليناهم بعبادة العجل من بعد ذهابك من بينهم.
وهم الذين خلفهم موسى مع هارون، وكانوا ستمائة ألف، ما نجا منهم من عبادة العجل إلا اثنا عشر ألفا. وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) ، حيث كان هو المدبّر في الفتنة، واسمه موسى بن(2/33)
ظفر، وكان منافقا قد أظهر الإسلام، وكان من قوم يعبدون البقر، وكان قد ربّاه جبريل فكان يغذيه من أصابعه الثلاثة، فيخرج له من أحدها لبن، ومن الأخرى سمن، ومن الأخرى عسل.
وذلك لأن فرعون لما شرع في ذبح الولدان، كانت المرأة من بني إسرائيل، تأخذ ولدها وتلقيه في حفيرة أو كهف من جبل، أو غير ذلك، وكانت الملائكة تتعهد هذه الأطفال بالتربية حتى يكبروا فيدخلوا بين الناس.
وقرئ وأضلّهم السامري على صيغة التفضيل، أي أشدهم ضلالا السامري، وهو منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها السامرة. فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ، بعد ما استوفى الأربعين ليلة وأخذ التوراة غَضْبانَ أَسِفاً، أي حزينا.
روي أنه لما رجع موسى سمع الصياح، وكانوا يرقصون حول العجل، فقال للسبعين الذين كانوا معه: هذا صوت الفتنة، قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً بأن يعطيكم التوراة، فيها ما فيها من الهدى؟ أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أي أوعدكم ذلك فطال عليكم مدة الإنجاز، ومدة نعم الله تعالى عليكم من إنجائه إياكم من فرعون، أفنسيتم ذلك العهد أو تعمدتم المعصية؟! أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ بسبب عبادة العجل فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) ، بالإقامة على طاعة الله تعالى؟ قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا.
قرأ حمزة والكسائي بضم الميم، أي بسلطاننا وقوتنا. ونافع وعاصم، بفتح الميم. وأبو عمرو وابن عامر وابن كثير بالكسر أي بأمر كنا نملكه ونريده. وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ. قرأ ابن كثير، ونافع، وحفص، وابن عامر بضم الحاء، وكسر الميم مشددة، أي أمرنا أن نحمل أحمالا من حليّ القبط التي استعرناها منهم، حين هممنا بالخروج من مصر باسم العرس وفي الواقع ليس للعرس، أي فإن موسى أمرهم باستعارة الحليّ والخروج بها. وقرأ حمزة والكسائي، وأبو عمرو، وعاصم، في رواية أبي بكر بفتح الحاء والميم مخففة، أي حملنا مع أنفسنا ما كنا استعرناه من حليّ آل فرعون، فَقَذَفْناها أي فطرحنا الحليّ في النار بأمر السامري.
روي أنه قال لهم: إنما تأخر عنكم مجيء موسى عليه السلام لما معكم من الأوزار، أي فهو محبوس عقوبة بالحلي، فالرأي أن تحفروا لها حفيرة، وتوقدوا فيها نارا، وتقذفوها فيها لتخلصوا من ذنبها. فَكَذلِكَ، أي فمثل ذلك القذف، أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) ما كان معه منها، فَأَخْرَجَ أي السامري لَهُمْ عِجْلًا أي صورة عجل من تلك الحلي المذابة، أي فصاغ لهم السامري من الذهب الذي ألقوا في النار في ثلاثة أيام، جَسَداً أي حال كون العجل جسدا صغيرا من ذهب بلا روح.
لَهُ خُوارٌ أي صوت يسمع. أي أن السامري صوّر صورة على شكل العجل. وجعل فيها منافذ ومخارق، بحيث تدخل فيها الرياح، فيخرج صوت يشبه صوت العجل.(2/34)
قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100)
قال ابن عباس: لا، والله ما كان له صوت قط، وإنما كان الريح يدخل في دبره فيخرج من فيه، فكان ذلك الصوت من ذلك. فَقالُوا أي السامري ومن تبعه في بادئ الرأي لمن توقف من بني إسرائيل: هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) ، أي موسى أن إلهه هنا فيطلبه في الطور.
وفي موضع آخر أو فنسي السامري الاستدلال على حدوث الأجسام، وأن الإله لا يحلّ في شيء ولا يحل فيه شيء. أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ أي العجل، إِلَيْهِمْ قَوْلًا. أي ألا يتفكر السامري وأصحابه فلا يعلمون أنه لا يرجع إليهم كلاما. وقرئ «يرجع» بالنصب، أي ألا ينظرون فلا يبصرون عدم رجعه إليهم، قولا من الأقوال، و «أن» الناصبة لا تقع بعد أفعال اليقين. وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89) أي، ولا يقدر العجل على أن يدفع عنهم ضرا، ولا أن يجرّ لهم نفعا فيخافوا كما يخافون فرعون، ويرجوا منه كما يرجون من فرعون، فكيف يقولون ذلك؟ وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ، أي من قبل مجيء موسى عليه السلام: يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ، أي أوقعتم في الفتنة بالعجل، وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ أي إن ربكم المستحق للعبادة هو الرحمن. وإنما قال هارون ذلك شفقة منه على نفسه، وعلى الخلق.
كما
قال صلّى الله عليه وسلّم: «من أصبح وهمّه غير الله فليس من الله في شيء، ومن أصبح لا يهتمّ بالمسلمين فليس منهم»
» .
ويروى: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس ومعه أصحابه، إذ نظر إلى شاب على باب المسجد فقال:
«من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا» «2» ، فسمع الشاب ذلك فولّى، فقال:
إلهي وسيدي هذا رسولك يشهد عليّ بأني من أهل النار، وأنا أعلم أنه صادق، فإذا كان الأمر كذلك، فأسألك أن تجعلني فداء أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وتشعل النار بي حتى تبرّ يمينه، ولا تشعل النار بأحد آخر.
فهبط جبريل عليه السلام وقال يا محمد: بشّر الشاب بأني قد أنقذته من النار بتصديقه لك، وفدائه أمتك بنفسه، وشفقته على الخلق.
قالُوا في جواب هارون عليه السلام: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ، أي لن نزال مقيمين على عبادة العجل، حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) . جعلوا رجوع موسى عليه السلام إليهم، غاية لعكوفهم على عبادة العجل بطريق التعلل والتسويف، وقد دسّوا تحت ذلك، أن موسى لا يرجع بشيء مبين اعتمادا على مقالة السامري.
__________
(1) رواه ابن عدي في الكامل في الضعفاء (7: 2530) ، والحاكم في المستدرك (4: 320) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (8: 84) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (43706) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (3: 48) .
(2) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (9: 529) ، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (4: 282) .(2/35)
واعلم أن هارون عليه السلام سلك في هذا الوعظ أحسن الطرق، لأنه زجرهم عن الباطل:
أولا: بقوله: إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ، وهو إزالة الشبهات- لأنه لا بدّ قبل كل شيء من إماطة الأذى عن الطريق- ثم دعاهم إلى معرفة الله تعالى.
ثانيا: بقوله: وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ، لأنها الأصل، وإنما خصّ هذا الموضع باسم الرحمن، لأنه عليه السلام كان ينبئهم، بأنهم متى تابوا قبل الله توبتهم، لأنه هو الرحمن كما خلصهم من آفات فرعون برحمته، ثم دعاهم.
ثالثا: إلى معرفة النبوة بقوله: فاتبعوني، ثم دعاهم.
رابعا: إلى الشريعة بقوله: وَأَطِيعُوا أَمْرِي، ثم إنهم لجهلهم وتقليدهم قابلوا هذا الترتيب الحسن في الاستدلال، بقولهم لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ، حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى فجحدوا قول هارون كما هو عادة المقلّد. فكأنهم قالوا: لا نقبل حجّتك، ولكن نقبل موسى.
روي أنهم لما قالوا ذلك: اعتزلهم هارون عليه السلام، في اثني عشر ألفا، وهم الذين لم يعبدوا العجل. قالَ موسى: يا هارُونُ حين سمع جوابهم له وهو مغتاظ: ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) بعبادة العجل، أَلَّا تَتَّبِعَنِ في حالي الغضب لله تعالى، والمقاتلة مع من كفر به، أي أيّ شيء دعاك إلى أن لا تتبعني في سيرتي من الأخذ على يد الظالم طوعا أو كرها، فلم تركت قتالهم وتأديبهم، وتركت وصيتي، وأنت نبي الله، وأخي، ووزيري، وخليفتي في قومي؟ وأثبت الياء بعد النون ابن كثير، وقفا ووصلا، وأثبتها نافع وأبو عمرو، وصلا لا وقفا، وحذفها الباقون وصلا ووقفا أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) ، أي ألم تتبعني وعصيت أمري؟ وأمره عليه السلام هو ما حكاه الله تعالى عنه في قوله تعالى: وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ فلما أقام هارون معهم ولم يبالغ في منعهم، نسبه إلى مخالفة أمره. الَ
هارون لموسى: ابْنَ أُمَ
ذكر هارون أمه، مع أن موسى أخوه الشقيق، ترقيقا لقلبه. قرأ حمزة والكسائي بكسر الميم تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي
، أي ولا بشعر رأسي.
روي أن موسى عليه السلام أخذ شعر رأس هارون بيمينه ولحيته بشماله من فرط غضبه لله.
ِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ
، برأيك بسبب القتال تفريقا لا يرجى بعده الاجتماع. لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي
(94) ، أي ولم تنتظر قدومي، فمن ذلك تركت القتال معهم. وإني رأيت أن الإصلاح، في المداراة معهم إلى أن ترجع إليهم لتكون أنت المتدارك للأمر حسبما رأيت، قالَ موسى عليه السلام للسامري موبخا له بعد سماع الاعتذارين: فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) أي فيما شأنك الداعي إلى ما صنعت، وما مطلوبك مما فعلت من عبادة العجل؟
قالَ أي السامري مجيبا له عليه السلام: بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ، بضم الصاد فيهما.
وقرأ حمزة والكسائي، بالتاء على خطاب موسى وقومه، أي رأيت ما لم يره بنو إسرائيل، قال له(2/36)
موسى: وما رأيت دونهم؟ قال: رأيت جبريل لما نزل على دابة الحياة فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ، أي حفنة من تربة موطئ فرس الملك الذي أرسل إليك ليذهب بك إلى الطور للمناجاة، وأخذ التوراة. وقرأ الحسن «قبضة» بضم القاف. وقرئ «قبصت قبصة» ، بالصاد المهملة، فالضاد المعجمة للأخذ بجميع الكف، والمهملة للأخذ بأطراف الأصابع.
فَنَبَذْتُها أي فطرحت المأخوذ في فم العجل المصوغ ودبره فخار، أو في الحلي المذابة.
قال أبو مسلم الأصفهاني: إن موسى عليه السلام، لما أقبل على السامري باللوم على الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم في باب العجل، فقال: بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ إلخ. أي عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق. وقد كنت أخذت شيئا من سنتك أيها الرسول فطرحتها، وعلى هذا فالمراد بالأثر: الدين، وبالرسول: سيدنا موسى عليه السلام.
قال الرازي: وهذا القول أقرب إلى التحقيق لأن جبريل لم يجر له فيما تقدم ذكره، وليس بمشهور عندهم باسم الرسول ولأن إضمار الكلام خلاف الأصل، ولأن جبريل ربّى السامري حال طفولته فلا يعرفه، ولو عرفه بعد البلوغ لعرف قطعا أن موسى عليه السلام نبي صادق، ولأنه لو جاز إطلاع بعض الكفرة أن تراب فرس جبريل له خاصية الإحياء، لاطلع موسى عليه السلام على شيء آخر يشبه ذلك، فلأجله أتى بالمعجزات. وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) ، أي وزينت لي نفسي تزينا كائنا مثل ذلك التزيين الذي فعلته من القبص، والنبذ، فالمعنى لم يدعني إلى ما فعلته أحد غيري، بل اتبعت هواي فيه. قالَ له موسى: فَاذْهَبْ يا سامري من بين الناس، فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ، أي فإن قولك لا مساس ثابت لك في مدة حياتك لا ينفك عنك، فكان يصيح بأعلى صوته: لا مساس، أي إني لا أمسّ ولا أمسّ، وإذا مسّه أحدّهم أخذت الحمّى الماسّ والممسوس، فكان إذا أراد أحد أن يمسّه صاح خوفا من الحمى، وقال: لا مساس. وحرّم موسى عليهم مكالمته، ومبايعته، وغيرها مما يعتاد جريانه فيما بين الناس، فكان يهيم في البرية مع السباع والوحوش، ويقال: إن موسى همّ بقتل السامري،
فقال الله تعالى: «لا تقتله فإنه سخي» .
وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لعذابك في الآخرة لَنْ تُخْلَفَهُ.
قرأ أهل المدينة والكوفة، بفتح اللام أي لن يخلفك الله ذلك الوعد. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو والحسن بكسر اللام، أي لن تجد للوعد خلفا ولن يتأخر عنك. وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً، أي الذي أقمت عابدا على إلهك ثم لَنُحَرِّقَنَّهُ بالنار. ويؤيده قراءة «لنحرقنّه» بضم النون، وسكون الحاء أو «لنبردنّه» بالمبرد، ويعضده قراءة أبي جعفر، وابن محيصن «لنحرقنّه» بفتح النون، وضم الراء، أي لنبردنّه بعد أن أحميه بالنار، حتى لان فهان على المبارد. ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) أي لنذرينّه في هواء البحر ذروا إذا صار رمادا، أو مبرودا، كأنه هباء. ولقد فعل موسى عليه السلام ذلك كله حينئذ، فلما فرغ موسى من إبطال ما(2/37)
خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)
ذهب إليه السامري، عاد إلى بيان الدين الحق فقال: إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ أي إنما معبودكم المستحق للعبادة الله، الَّذِي لا إِلهَ أي لا معبود لشيء من الأشياء موجود، إِلَّا هُوَ، وحده من غير أن يشاركه شيء من الأشياء. وقرئ «الله لا إله إلا هو الرحمن رب العرش» ، وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98) ، أي وسع علمه كل شيء فيعلم من يعبده ومن لا يعبده. كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ، أي نقص عليك يا أشرف الخلق- من الحوادث الماضية الجارية على الأمم الخالية- قصا مثل ذلك القصّ المارّ، زيادة في معجزاتك، وليكثر الاعتبار للمكلّفين بها في الدين. وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) أي ولقد أعطيناك من عندنا قرآنا مشتملا على هذه الأخبار. مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ أي عن ذلك الذكر، فَإِنَّهُ أي المعرض عنه، يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) أي عقوبة ثقيلة،
خالِدِينَ فِيهِ أي في حمل العقوبة، وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا (101) ، أي بئس لهم حملا عقوبتهم، أو بئس ما حملوا على أنفسهم من الإثم كفرا بالقرآن. يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، النفخة الثانية.
قرأ الجمهور بالياء المضمومة، وفتح الفاء، وقرأ أبو عمرو بنون مفتوحة، وضم الفاء، على إسناد النفخ إلى الآمر به تعظيما له، وقرئ بالياء المفتوحة، والضمير لله تعالى، أو لإسرافيل، وإن لم يجر ذكره لشهرته. وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ أي المشركين، يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ ينفخ في الصور زُرْقاً (102) أي زرق العيون، سود الوجوه، لأن زرقة العيون أبغض ألوان العين إلى العرب، أو عميا، لأن حدقة الأعمى تزرق، أو عطاشا لأنهم من شدة العطش، يتغيّر سواد عيونهم حتى تزرق، أو طامعين فيما لا ينالونه. يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ، أي يقول بعضهم لبعض بطريق المخافتة لما يملأ صدورهم من الرعب، إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً (103) أي ما مكثتم في القبور إلّا عشرة أيام، لأنهم يرون من شدة أهوال ذلك اليوم، ما يقلل ذلك في أعينهم، فهم يحسبون أنهم ما لبثوا في القبور إلّا عشرة أيام، وهم حين يشاهدون البعث الذي كانوا ينكرونه في الدنيا لا يتمالكون من أن يقولوا ذلك، اعترافا به، وتحقيقا لسرعة وقوعه، كأنهم قالوا قد بعثتم، وما لبثتم في القبور، إلا مدة يسيرة. نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ في ذلك اليوم أي ليس كما قالوا. إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً. أي أصوبهم رأيا إِنْ لَبِثْتُمْ، أي ما مكثتم في القبور، إِلَّا يَوْماً (104) ، ونسبة هذا القول إلى أفضلهم عقلا لكونه أدلّ على شدة الهول. وَيَسْئَلُونَكَ أي يسألك يا أشرف الخلق، مشركو مكة على سبيل الاستهزاء، أو بنو ثقيف، عَنِ الْجِبالِ أي عن أمر الجبال كيف تكون يوم القيامة، فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) ، أي يصير الجبال كالرمل، ثم يرسل عليها الرياح، فَيَذَرُها أي فيترك الأرض بعد قلع الجبال، قاعاً أي مستويا صَفْصَفاً (106) أي ملساء لا نبات فيها، لا تَرى فِيها أي الأرض عِوَجاً أي لا تدرك فيها انخفاضا وَلا أَمْتاً (107) أي نتوءا يسيرا. يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ، أي يوم إذ نسفت الجبال، يتبع الناس(2/38)
وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)
صوت الداعي إلى المحشر بعد القيام من القبور، فيقبلون من كل أوب إلى جهته. والراجح أن الداعي:
جبريل، والنافخ: إسرافيل، لا عِوَجَ لَهُ، أي لا يعدل الداعي عن أحد بدعائه، بل يحشر الكل.
وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ، أي سكنت لِلرَّحْمنِ، أي لهيبة الرحمن. فَلا تَسْمَعُ، يا أشرف الخلق، إِلَّا هَمْساً (108) ، أي وطأ خفيا كوطء الإبل- وهو خفق أقدامهم في مشيها إلى المحشر- وهذا قول ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وابن زيد. يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) أي يوم إذ يتبعون الداعي، لا تنفع الشفاعة أحدا من الخلق، إلا شخصا أذن لأجله في أن يشفع له، وقبل منه قولا واحدا من أقواله، وهو شهادة «أن لا إله إلا الله» ، بأن مات على الإسلام وإن عمل السيئات، وهذه الآية من أقوى الدلائل على ثبوت الشفاعة في حق الفسّاق وهي نافعة لهم. يَعْلَمُ، أي الرحمن ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، أي المتبعين للداعي وهم الخلق جميعهم، وَما خَلْفَهُمْ أي يعلم ما مضى من أحوالهم وما بقي منها، وَلا يُحِيطُونَ بِهِ، أي بما بين أيديهم وما خلفهم عِلْماً (110)
وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ، أي ذلّت المكلفون لله تعالى ذلّ الأسارى في يد الملك القهار. وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) ، أي خسر من أشرك بالله ولم يتب. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ، أي بعضا من الصالحات وهو الفرائض، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فإن الإيمان شرط في الصحة والقبول. فَلا يَخافُ ظُلْماً أي منعا من الثواب، وَلا هَضْماً (112) أي نقصا من ثوابه.
وقال أبو مسلم: الظلم: نقص من الثواب، والهضم: عدم تمام حقه من التعظيم، لأن الثواب مع كونه من اللذات، لا يكون ثوابا، إلا إذا قارنه التعظيم. فنفى الله تعالى عن المؤمنين كلا الأمرين.
وقرأ ابن كثير: «فلا يخفّ» بالجزم على النهي، أي فليأمن فالنهي عن الخوف والأمر بالأمن. وَكَذلِكَ، ومثل إنزال هذه الآيات، أَنْزَلْناهُ، أي القرآن كله قُرْآناً عَرَبِيًّا ليفهمه العرب، وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ، أي وكرّرنا في القرآن نوعا من الوعيد، لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. أي لكي يتقوا الكفر والفواحش. أَوْ يُحْدِثُ، أي القرآن لَهُمْ ذِكْراً (113) . أي اتعاظا يدعوهم إلى الطاعات، وفعل ما ينبغي، فإن لم يحصل التقوى، فأقلّ ما يحصل أن يحدث القرآن لهم شرفا وصيتا حسنا. فَتَعالَى اللَّهُ أي تنزّه عن مماثلة المخلوقات في ذاته، وصفاته، وأفعاله. الْمَلِكُ، النافذ أمره ونهيه، الْحَقُّ، أي الثابت في ملكه. وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ. أي ولا تستعجل يا أشرف الخلق بقراءة القرآن، من قبل أن يفرغ جبريل من قراءة القرآن عليك. كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إذا ألقى إليه جبريل الوحي، يتبعه عند تلفّظ كل حرف، وكل كلمة، لكمال اعتنائه بالحفظ، فنهي عن ذلك، وأمر باستزادة العلم من الله تعالى فقيل: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) أي فهما لإدراك حقائقه، فإنها غير متناهية.(2/39)
فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)
روى الترمذي، عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اللهم انفعني بما علمتني، وعلّمني ما ينفعني، وزدني علما والحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار»
«1» . وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية، قال: اللهم زدني علما ويقينا. وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ، أي وصّيناه أن لا يأكل من الشجرة، مِنْ قَبْلُ، أي من قبل أكله منها، فَنَسِيَ عهدنا وأكل منها.
وقرئ «فنسي» بالبناء للمجهول، وبتشديد السين، أي فنسّاه الشيطان. وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) . أي تصميما على الاحتياط في كيفية الاجتهاد. فهو إنما أخطأ في الاجتهاد، أو لم نجد له عزما على الذنب فإنه أخطأ ولم يتعمّد، وهذا أقرب إلى المدح، ف «عزما» مفعول به، و «له» حال منه، أو متعلّق ب «نجد» ، أو ب «عزما» وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، أي واذكر ما وقع في ذلك الوقت منا ومنه، حتى يتبين نسيانه لك، وفقدان صبره عما نهيناه عنه، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ، رئيسهم أَبى (116) ، أي أظهر الإباء، فَقُلْنا عقب ذلك: يا آدَمُ إِنَّ هذا الذي تكبّر عليك، عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ حواء، لأن إبليس رأى آثار نعم الله تعالى، في حق آدم عليه السلام، فإنه كان شابا عالما وإبليس كان شيخا جاهلا فأثبت فضله بفضيلة أصله، وهو النار. وبينها وبين أصل آدم وهو الماء، والتراب، عداوة فثبتت تلك العداوة. فَلا يُخْرِجَنَّكُما، بوسوسته مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) . أي فتتعب ففي طلب القوت فذلك على الرجل دون المرأة.
روي أنه هبط إلى آدم ثور أحمر وكان يحرث عليه ويمسح العرق عن جبينه. إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها أي الجنة، وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا، أي لا تعطش فِيها وَلا تَضْحى (119) ، أي لا يصيبك حرّ الشمس، أو تعرق.
فالجوع: ذل الباطن. والعري: ذلّ الظاهر. والظمأ: حرّ الباطن. والضحو: حرّ الظاهر.
فنفى الله عن ساكن الجنة ذل الظاهر والباطن، وحرّ الظاهر والباطن.
وقرأ نافع، وأبو بكر، و «إنك» بكسر الهمزة استئناف أو عطف على «أن» الأولى.
والباقون بفتحها عطف على «أن لا تجوع» . فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ، أي أنهى إليه وسوسته، ثم بيّن الله صورة الوسوسة بقوله تعالى: قالَ؟؟؟ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (120) . أي لا يزول ولا يختل، أي هل أدلك على الشجرة التي من أكل منها خلّد، ولا يموت أصلا ودام ملكه، إما على حاله، أو على أن يصير ملكا.
فَأَكَلا مِنْها، أي الشجرة
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب الدعوات، باب: 128، وابن ماجة في المقدّمة، باب: الانتفاع بالعلم والعمل به.(2/40)
فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما، أي ظهرت فروجهما لكل منهما، بسبب تساقط حلل الجنة عنهما لمّا أكلا من الشجرة. وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ أي شرعا يلزقان ورق التين بعضه ببعض، لأجل ستر عوراتهما، كلما ألزقا بعضه ببعض تساقط. وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ، بأكله من الشجرة أي خالف آدم نهي ربه، لأنه اعتقد أن النهي عن شجرة معينة، وأن غيرها ليس منهيا عنه فَغَوى (121) . أي خاب من نعيم الجنة فلم يصب بأكله من الشجرة ما أراده، لأنه إنما أكل منها ليصير ملكه دائما، فلما أكل زال ملكه، وخاب سعيه. ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ أي قرّبه بالتوفيق للتوبة، فَتابَ عَلَيْهِ، أي قبل توبته حين تاب هو وزوجته، وَهَدى (122) إلى الثبات على التوبة والتمسك بأسباب العصمة. قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً أي انزلا يا لآدم وحواء من الجنة إلى الأرض، بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فالخطاب لآدم وحواء ولإبليس. وقيل: مع آدم، وذريته قابيل وأقليما، فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً، أي فإن يأتكم يا ذرية لآدم مني دلالة من كتاب ورسول فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ، أي دلالتي فَلا يَضِلُّ في الدين والدنيا وَلا يَشْقى (123) ، بسبب الدين فيها وفي الآخرة. وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي، أي عن الهدى الداعي إلي، فَإِنَّ لَهُ، في الدنيا، مَعِيشَةً ضَنْكاً. أي ضيقة، وهي معيشة الكافر فإنه يكون حريصا على الدنيا للزيادة أبدا، فحالته مظلمة، لأن مطامح نظره مقصورة على أمتعة الدنيا، وهو خائف من انتقاصها. أما المسلم فهو يعيش في الدنيا عيشا طيبا لتوكّله على الله تعالى، فإن المؤمن الطالب للآخرة يوسّع ببركة الإيمان. وَنَحْشُرُهُ أي المعرض عن الأدلة، يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) ، أي فاقد البصر أي فإذا خرج هو من القبر خرج بصيرا، فإذا سيق إلى المحشر عمي، فإذا دخل النار زال عماه، ليرى محلّه وحاله. قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) في الدنيا وعند البعث؟ قالَ كَذلِكَ، أي مثل ذلك فعلت أنت. ثم فسّره بقوله تعالى: أَتَتْكَ آياتُنا أي دلائلنا في الدنيا واضحة بحيث لا تخفى على أحد، فَنَسِيتَها أي تركتها، وَكَذلِكَ أي مثل تركك آياتنا في الدنيا الْيَوْمَ تُنْسى (126) . أي تترك في العذاب جزءا وفاقا وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء الموافق للجناية، نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ، بالانهماك في الشهوات، وَلَمْ يُؤْمِنْ؟؟؟ بِآياتِ رَبِّهِ، بل كذّبها، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127) ، من عذاب الدنيا وعذاب القبر. أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ، أي أغفلوا، فلم يفعل الهداية لهم كثرة إهلاكنا للقرون الأولى.
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: أفلم نهد بالنون، أي أفلم نبيّن لأهل مكة بيانا يهتدون به كثرة من أهلكنا من القرون الماضية من أصحاب الحجر، وثمود، وقريات قوم لوط. يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ، حال من الضمير لهم، أي حال كون هؤلاء القريش ماشين في منازل تلك القرون إذا سافروا إلى الشام مشاهدين لآثار هلاكهم. إِنَّ فِي ذلِكَ أي الإهلاك لَآياتٍ ظاهرة الدلالة على الحق، لِأُولِي النُّهى (128) . أي لأهل العقول الناهية عن القبائح. وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ،(2/41)
وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
وهي عدة بتأخير عذاب هذه الأمة إلى الآخرة لحكمة تقتضيه. لَكانَ أي الإهلاك بجناياتهم، لِزاماً، أي لازما لهم بحيث لا يتأخر عن جناياتهم ساعة. وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) عطف على كلمة أي ولولا أجل مسمى، لعذابهم يوم القيامة، لما تأخر عذابهم أصلا، فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ، أي لا يضطرب قلبك يا أكرم الرسل، لما صدر منهم من الأذيّة، بالشتم والتكذيب، فيما تدعيه من النبوة.
فقالوا: إن محمدا ساحر، أو مجنون، أو شاعر، أو غير ذلك. فهذه الآية غير منسوخة. وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ، أي ساعاته. فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ.
عطف على محل من «آناء» المنصوب ب «سبّح» المقرون بالفاء الزائدة، أو عطف على «قبل» ، أي في طرفي نصفيه، أي في الوقت الذي يجمع الطرفين، وهو وقت الزوال، فهو نهاية للنصف الأول، وبداية للنصف الثاني، أي اشتغل بتنزيه الله تعالى في هذه الأوقات عما ينسبونه إليه تعالى مما لا يليق به، حامدا له على ما ميّزك بالهدى. أو المعنى صلّ وأنت حامد لربك على كمال هدايته إياك، صلاة الصبح وصلاة العصر، وصلاة المغرب، والعشاء، وصلاة الظهر.
لَعَلَّكَ تَرْضى (130) . رجاء أن تنتفع بذلك وترضي به نفسك.
وقرأ الكسائي، وأبو بكر، عن عاصم، بضم التاء أي لعلك تعطى ما يرضيك.
وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أي لا تطل نظرهما، إِلى ما مَتَّعْنا، أي ألذذنا، بِهِ أَزْواجاً، أي أصنافا مِنْهُمْ، أي الكفرة من بني قريظة والنضير. زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي زينتها بدل من «أزواجا» ، أو حال من «ما» الموصولة، أو من «الهاء» في «به» . لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أي لنعذبهم في الآخرة بسببه أو لنجعل ذلك فتنة لهم، بأن يزيدوا بذلك طغيانا وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) . أي ما أوتيته من يسير الدنيا إذا قرنته بالطاعة، خير لك من حيث العاقبة. أبقى لأن أموالهم الغالب عليها الغصب، والسرقة، فالحلال خير وأبقى.
قال أبو رافع: نزل ضيق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، فبعثني إلى يهودي لبيع أو سلف، فقال: والله لا أفعل ذلك إلا برهن، فأخبرته صلّى الله عليه وسلّم بقوله، فأمرني أن أذهب بدرعه الحديد إليه، فنزل قوله تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ. وقال أبو مسلم: أي لا تأسف على ما فاتك مما نالوه من حظ الدنيا، فالذي نهى عنه الأسف لا النظر. وَأْمُرْ أَهْلَكَ أي أهل دينك بِالصَّلاةِ، لئلا يهتموا بأمر المعيشة، ولا يلتفتوا لفت أرباب الثروة. وَاصْطَبِرْ عَلَيْها، أي على مشاقّها وثابر عليها غير مشتغل بأمر المعاش. لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً، أي لا نكلفك أن ترزق نفسك ولا أهلك. نَحْنُ نَرْزُقُكَ وإياهم، ففرّغ بالك بأمر الآخرة وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132) أي العاقبة الجميلة لأهل تقوى الله تعالى.
وَقالُوا أي مشركو مكّة: لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ، أي هلا يأتينا محمد بآية تدل على صدقه في دعوى النبوة، وبآية مما اقترحناها. قال تعالى ردا عليهم: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) أي ألم يكفهم اشتمال القرآن على بيان ما في التوراة، والإنجيل، وسائر الكتب(2/42)
السماوية في كونه آية دالة على صدق محمد، حتى طلبوا غيرها، فإن في الصحف الأولى: بشارة بصفة محمد، ونبوته، وبعثته، وأنباء الأمم الماضية، وإهلاكهم بتكذيب الرسل وجحود الآيات. وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ، أي ولو أنا أهلكنا أهل مكة في الدنيا بعذاب مستأصل من قبل مجيء محمد إليهم بالقرآن، لَقالُوا يوم القيامة: رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا أي لم لم ترسل إلينا في الدنيا، رَسُولًا مع كتاب، فَنَتَّبِعَ آياتِكَ، أي فنطيع رسولك ونؤمن بكتابك مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ، أي أن يحصل لنا الذل بالعذاب في الدنيا وَنَخْزى (134) . أي أن يحصل لنا الفضيحة بدخول النار اليوم، ولكنا لم نهلكهم قبل إتيان البينات، فانقطعت معذرتهم، فعند ذلك قالوا: بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ، فَكَذَّبْنا، وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [الملك: 9] .
روي أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يحتج على الله تعالى يوم القيامة ثلاثة: الهالك، في الفترة يقول لم يأتني رسول وإلّا كنت أطوع خلقك لك، والمغلوب عقله، يقول: لم تجعل لي عقلا أنتفع به، ويقول الصبي: كنت صغيرا لا أعقل، فترفع لهم نار، ويقال لهم: ادخلوها، فيدخلها من كان في علم الله أنه سعيد، ويبقى من في علمه أنه شقي، فيقول الله تعالى لهم: عصيتم اليوم، فكيف برسلي لو أتوكم» .
«1» قُلْ لأولئك الكفرة المتمردين:
كُلٌّ أي كل واحد منا ومنكم مُتَرَبِّصٌ أي منتظر لما يؤول إليه أمرنا وأمركم. إما قبل الموت: بسبب الأمر بالجهاد، وبسبب ظهور القوة، وإما بالموت: فإن كل واحد من الخصمين ينتظر موت صاحبه. وإما بعد الموت: بظهور أمر الثواب والعقاب، فيظهر على المحق أنواع كرامة الله تعالى، وعلى المبطل أنواع إهانته. فَتَرَبَّصُوا. وقرئ «فتمتعوا» . فَسَتَعْلَمُونَ، عن قريب بوعد من الله لا خلف فيه، مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ أي العدل. وقرئ «السواء» أي الوسط الجيد. وقرئ «السوء» ، و «السوأى» ، و «السوي» ، تصغير السوء وَمَنِ اهْتَدى (135) إليه أنحن أم أنتم؟ وهذا تهديد الكفار.
__________
(1) رواه الطبري في التفسير (16: 17) .(2/43)
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)
سورة الأنبياء
مكية، مائة واثنتان وعشرة آية، ألف ومائة وثلاثون كلمة، أربعة آلاف وثمانمائة وستون حرفا
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ، أي قرب من كفار قريش وقت حساب أعمالهم الموجبة للعقاب، فإن كل آت قريب، وإن طالت أوقات ترقّبه، وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ، أي والحال أنهم منكرون للحساب، لا يتفكرون في عاقبتهم، مع اقتضاء عقولهم أنه لا بدّ من جزاء المحسن والمسيء، مُعْرِضُونَ (1) . عن الآيات المنبّهة لهم عن سنة الغفلة. ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ، أي من جزء نازل من القرآن ينبههم عن الغفلة أتمّ تنبيه، مِنْ رَبِّهِمْ، متعلق ب «يأتيهم» ، مُحْدَثٍ أي متجدد ننزله آية بعد آية، وسورة بعد سورة، بحسب اقتضاء الحكمة.
قرأ ابن أبي عبلة «محدث» بالرفع صفة ل «محل» ذكر، إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) . أي والحال أنهم يهزئون. لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ، حال من واو «يلعبون» . والمعنى: ما يأتيهم ذكر من ربهم محدث في حال من الأحوال، إلا حال استماعهم إياه مستهزئين به حال كون قلوبهم غافلة عن معناه، لفرط إعراضهم عن النظر في الأمور وعن التفكّر في العواقب.
وقرأ ابن أبي عبلة «لاهية» بالرفع خبر ثان، أو خبر مقدّم وَأَسَرُّوا النَّجْوَى، أي بالغوا في إخفاء التناجي، وجعلوه بحيث لا يفطن أحد لتناجيهم، الَّذِينَ ظَلَمُوا بدل من واو «أسرّوا» ، أو مبتدأ وخبره «أسرّوا النجوى» . والمعنى: وهم أسرّوا النجوى، فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلا على فعلهم بأنه ظلم، هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) ف «هل» بمعنى النفي، والهمزة للإنكار، والفاء للعطف على مقدّر يقتضيه المقام، و «أنتم» حال من فاعل «تأتون» مؤكدة للاستبعاد، فالجملتان الاستفهاميتان في محل نصب، على أنهما محكيتان للنجوى، لأنها في معنى القول. والمعنى: ما محمد إلّا بشر من جنسكم، فكيف يختص عنكم بالرسالة؟ وما أتى به سحر، أتعلمون ذلك فتحضرونه على وجه القبول والحال أنكم تبصرون بأعينكم أنه آدمي مثلكم، وأن ما ظهر منه من نوع السحر. قالَ أي محمد وهو حكاية من الله لقول رسوله، وهذا قراءة حمزة والكسائي وحفص، عن عاصم.(2/44)
وقرأ الباقون «قل» - على الأمر للرسول صلّى الله عليه وسلّم-: رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ، الكائن فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ، سواء كان سرا أم جهرا وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) فيجازيهم بأقوالهم وأفعالهم.
بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ؟؟؟ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ.
وهذا متصل بقوله تعالى هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ، فإن الظالمين لم يقتصروا على قولهم في حقه صلّى الله عليه وسلّم هل هذا إلّا بشر، وفي حق ما ظهر على يده من القرآن أنه سحر، بل قالوا: ما أتانا به محمد أباطيل أحلام كاذبة رآها في النوم، بل اختلق محمد ما أتانا به من تلقاء نفسه من غير أن يكون له. صل، بل محمد هو شاعر، فما أتى به كلام يخيّل للسامع معاني لا حقيقة لها، ويرغّبه فيها، فترتيب كلامهم كأنهم قالوا: ندّعي أن كون محمد بشرا مانع من كونه رسولا لله، فإن سلّمنا أنه غير مانع فلا نسلّم أن هذا القرآن معجز، فإن ساعده على أن فصاحته خارجة عن مقدور البشر.
قلنا: لم لا يجوز أن يكون ذلك سحرا وإن لم تساعده فصاحته عليه، فإن ادّعينا كونه في غاية الركاكة، قلنا: إنه أضغاث أحلام.
وإن ادعينا أنه متوسط بين الركاكة والفصاحة، قلنا: إنه افتراء، وإن ادعينا أنه كلام فصيح، قلنا: إنه من جنس فصاحة سائر الشعراء. وعلى هذه التقديرات فإنه لا يثبت كونه معجزا ولا يثبت كون محمد رسولا لله تعالى، وإن لم يكن كما قلنا، بل كان رسولا من الله تعالى، فليأتنا بآية كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) أي بآية كائنة مثل الآية التي أرسل بها الأولون، كاليد، والعصا والناقة، ونظائرها، حتى نؤمن به. قال الله تعالى مجيبا لهم: ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ، أي قبل مشركي مكة، مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها، بإهلاك أهلها لعدم إيمانهم بعد مجيء ما اقترحوه من الآيات، أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) أي الأمم المهلكة لم يؤمنوا عند إعطاء ما اقترحوه من الآيات، أهم لم يؤمنوا، فهؤلاء يؤمنون لو أعطوا ما اقترحوا مع كونهم أشدّ عتّوا من أولئك. وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا، أي وما أرسلنا إلى الأمم قبل إرسالك إلى أمتك، إلا رجالا مخصوصين من أفراد جنسك، متأهلين للإرسال، ولم يكونوا ملائكة، نُوحِي إِلَيْهِمْ بواسطة الملك، كما نوحي إليك من غير فرق.
وقرئ «يوحى إليهم» بالياء على صيغة المبني للمفعول. فَسْئَلُوا أيها الجهلة أَهْلَ الذِّكْرِ، أي أهل الكتاب التوراة والإنجيل، فإنهم يخبرونكم بحقيقة الحال ليزول شككم إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) أن الرسل بشر فأنتم إلى تصديقهم أقرب من تصديقكم للذين آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم. وَما جَعَلْناهُمْ، أي الرسل جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ، أي وما جعلناهم جسدا مستغنيا عن الأكل والشرب، بل محتاجا إلى ذلك لتحصيل بدل ما يخرج منه وَما كانُوا أي الرسل خالِدِينَ (8) . في الدنيا بل يموتون كغيرهم لأن عاقبة التحلّل هو الفناء. ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ أي ثم صدقناهم في الوعد الذي وعدناهم بإهلاك من كذبهم، فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ(2/45)
وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)
ممن يصدقونهم وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) . أي المجاوزين للحدود في الكفر، بعذاب الاستئصال في الدنيا. لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ يا معشر قريش، كِتاباً أي قرآنا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أي فيه ما يوجب الثناء عليكم، لكونه بلسانكم وفيه موعظتكم، أَفَلا تَعْقِلُونَ (10) ؟ أي ألا تتفكرون فلا تعقلون؟ إن ذلك الكتاب شرفكم، وسبب اشتهاركم لكونه نازلا بينكم على لسان رسول منكم.
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً أي وكثيرا كسرنا من أهل قرية كانوا كافرين بآيات الله، بأن قتلوا بالسيوف، وَأَنْشَأْنا بَعْدَها أي بعد إهلاك أهلها قَوْماً آخَرِينَ (11) أي ليسوا منهم نسبا، ولا دينا فسكنوا ديارهم. فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا أي أدركوا عذابنا الشديد إِذا هُمْ مِنْها أي القرية يَرْكُضُونَ (12) أي يهربون مسرعين، فقيل لهم- بلسان الحال أو بلسان المقال-: لا تَرْكُضُوا أي لا تهربوا، وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ أي أنعمتم فِيهِ من العيش والحال الناعمة، وَمَساكِنِكُمْ التي كنتم تفتخرون بها، لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) . أي لكي يسألكم الوافدون عطاياكم، إما لأنهم كانوا أسخياء ينفقون أموالهم رئاء الناس، أو كانوا بخلاء، فقيل لهم ذلك، تهكما إلى تهكم. قالُوا لما أيقنوا بنزول العذاب: يا وَيْلَنا أي هلاكنا، إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) . أي بقتل نبينا. فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ، أي قولهم، أي فلم يزالوا يكرّرون هذه الكلمة فلم ينفعهم ذلك، حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً أي مثل الزرع المحصود بالمناجل في استئصالهم، خامِدِينَ (15) . أي ميتين لا يتحركون أي أنهم أهلكوا بالعذاب، حتى لم يبق لهم حسّ، ولا حركة، وجفّوا كما يجفّ الحصيد، وخمدوا كما تخمد النار.
وهذه قصة أهل قرية في جهة اليمن- يقال لها: حضور بفتح الحاء وبالضاد المعجمة- بعث الله لهم نبيا وهو موسى بن ميشا، بن يوسف، بن يعقوب، وكان قبل موسى بن عمران، فقتلوا ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم، فسلّط الله عليهم بختنصر. كما سلّطه الله على أهل بيت المقدس، فلما علموا أنهم مدركون، خرجوا هاربين، فقالت لهم الملائكة استهزاء لا تَرْكُضُوا إلخ.
فرجعوا، فقتلهم جميعا ولم يترك فيهم عينا تطرف. فلمّا رأوا القتل فيهم أقرّوا بذنوبهم وندموا وقالوا: يا وَيْلَنا أي يا ويل، احضر فهذا وقتك، ولم ينفعهم هذا الندم كقوله تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ. وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) . أي وما سوّينا هذا السقف المرفوع، وهذا المهاد الموضوع، وما بينهما من العجائب، التي لا تحصر أنواعها خالية عن الحكم، كما تسوّي الجبابرة سقوفهم وفروشهم للعب، وإنما سوّيناها لفوائد دينية، ودنيوية، ليتفكّر المتفكّرون فيها، ويستدلوا بها إلى معرفتنا، وللمنافع التي لا تحصى. لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً أي يلعب به لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا أي من جهة قدرتنا مما يليق بشأننا من المجردات، لا من الأجسام المرفوعة، والأجرام الموضوعة. لكن يستحيل إرادتنا له لمنافاته الحكمة، فيستحيل اتخاذنا له قطعا، إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) اتخاذ اللهو أردناه لكنا لم نرده فلم نتخذه، ويجوز أن(2/46)
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)
تكون «إن» نافية، أي ما كنا فاعلين اتخاذ اللهو لعدم إرادتنا به. بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ، أي يذهبه بالكلية، كما فعلنا بأهل القرى المحكية، فَإِذا هُوَ أي الباطل زاهِقٌ أي ذاهب بالكلية وهذا انتقال من إرادة اتخاذ اللهو إلى تنزيه ذاته تعالى، كأنه تعالى قال: سبحاننا أن نريد اتخاذ اللهو، بل شأننا بمقتضى حكمتنا، أن نغلب اللعب بالجدّ، وندحض الباطل بالحق. والمقصود من هذه الآية، تقرير نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم ورد على منكريها، لأنه تعالى أظهر المعجزة عليه صلّى الله عليه وسلّم فإن كان محمد كاذبا كان إظهار الله المعجزة عليه من باب اللعب، وذلك منفي عنه تعالى، وإن كان صادقا فهو المطلوب، وحينئذ يفسد كل ما ذكروه من المطاعن، وَلَكُمُ الْوَيْلُ أي ولكم يا كفار مكة شدة العذاب، مِمَّا تَصِفُونَ (18) . أي من أجل قولكم بتكذيب الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ونسب القرآن إلى أنه سحر وأضغاث أحلام، إلى غير ذلك من الأباطيل. وهذه الآية دالة على أن إهلاك الله أهل القرية لتكذيبهم الرسل عدل منه تعالى، ومجازاة على ما فعلوا.
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، فهو تعالى منزّه عن طاعتهم، لأنه تعالى هو المالك لجميع المحدثات وَمَنْ عِنْدَهُ أي والملائكة مع كمال شرفهم، ونهاية جلالتهم، لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ أي لا يتعظمون عن طاعته تعالى، ولا يعدّون أنفسهم كبيرا فكيف يليق بالبشر مع نهاية الضعف، التمرّد عن طاعته، وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) أي لا يسأمون ولا يتعبون. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20) أي ينزهونه تعالى في جميع الأوقات، فكما أن اشتغالنا بالتنفس لا يمنعنا من الكلام، فكذا اشتغالهم بالتسبيح لا يمنعهم من سائر الأعمال.
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) . ف «أم» بمعنى: بل، والهمزة، ومعناها إنكار انشار الأصنام للموتى، لا إنكار نفس الاتخاد فإقدامهم على عبادتها، يوجب عليهم الإقرار، بكون الآلهة قادرين على الحشر، والنشر، والثواب، فإذا كانوا عير قادرين على أن يحيوا ويميتوا، ويضرّوا وينفعوا، فأيّ عقل يجوز اتخاذهم آلهة، فقوله: مِنَ الْأَرْضِ كقولك: فلان من مكة، أي فلان مكي، فمعنى نسبة الأصنام إلى الأرض، إعلام بأن الأصنام التي تعبد إما أن تكون منحوتة من بعض الحجارة، أو معمولة من بعض جواهر الأرض. وفي قوله تعالى: هُمْ يُنْشِرُونَ معنى الخصوصية، وحاصل المعنى بل أعبد أهل مكة آلهة أرضية لا يقدر على إحياء الموتى من القبور إلّا هم وحدهم، فذكر ذلك على سبيل التهكم بهم والتجهيل. لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا أي لو تولى أمور السموات والأرض إله غير الواحد الذي هو فاطرهما، لبطلتا بما فيهما جميعا، وحيث انتفى فسادهما علم انتفاء تدبير إلهين، ويدلّ العقل على ذلك، لأنّا لو قدرنا إليهن لكان أحدهما إذا انفرد صحّ منه تحريك الجسم، وإذا انفرد الثاني صحّ منه تسكينه، فإذا اجتمعا وجب أن يبقيا على ما كانا عليه وقت الانفراد، فيصحّ أن يحاول أحدهما التحريك، والآخر التسكين، فإما أن يحصل المرادان وهو محال لاجتماع الضدين، وإما أن يمتنعا، وهو محال أيضا لكون كل واحد منهما(2/47)
عاجزا، فثبت فساد نظام العالم، فكان القول بوجود إلهين باطلا، فثبت أن مدبّر العالم إله واحد، وإذا عرفت حقيقة هذه الدلالة عرفت أن جميع ما في العالم السفلي والعلوي، دليل على وحدانية الله تعالى. فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) . أي نزهوا الله عما يقول الكفار، بوجود آلهة غير الله لأجل هذه الأدلة، فالاشتغال بالتنزيه إنما ينفع بعد إقامة الأدلة على كون الله تعالى منزها فنبّه الله تعالى على نكتة خاصة بعيدة الأصنام وهي:
كيف يجوز للعاقل، أن يجعل الجماد الذي لا يعقل شريكا في الألوهية لخالق العرش العظيم، وموجد السموات والأرضين، واللوح والقلم، ومدبر الخلائق، من النور والظلمة، والنباتات، وأنواع الحيوانات والذات والصفات؟ لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ أي عما يحكم في عباده من إعزاز، وإذلال، وهدى، وإضلال، وإسعاد وإشقاء، لأنه المالك القاهر. وَهُمْ أي العباد يُسْئَلُونَ (23) . سؤال توبيخ يقال لهم يوم القيامة: لم فعلتم كذا؟ لأنهم عبيد يجب عليهم امتثال أمر مولاهم، والله تعالى ليس له شريك في الألوهية يقول له: لم فعلت كذا؟ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً أي بل أوصفوا الله تعالى بأن له شريكا وهذا استقباح أمرهم وإظهار جهلهم قُلْ يا أكرم الرسل: هاتُوا بُرْهانَكُمْ على إثبات الآلهة إما من جهة العقل أو من جهة النقل، كما أتيت أنا ببرهان النقل المؤيد بالعقل. هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي أي هذا إثبات وحدانية الله عظة أمتي وعظة الأمم الماضية، فهم متمسكون على التوحيد فأقيموا أنتم برهانكم على تعدّد الآلهة، ولا يمكن إثبات التعدد بالبرهان، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ، ولا يميزون بين الحق والباطل، فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) عن استماع الحق، أي أن وقوعهم في المذهب الباطل ليس لأجل دليل ساقهم إليه، بل ذلك لأن عندهم ما هو أصل الفساد، وهو عدم العلم، ثم تفرّع منه الإعراض عن طلب الحق. وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) ، أي فوحّدوني فالحكمة في بعث الرسل مقصورة على المصلحتين: إثبات وحدانية الله تعالى، وعبادته بالإخلاص.
وقرأ حفص وحمزة والكسائي: بالنون. والباقون على صيغة الغائب، مبنيا للمفعول.
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً أي وقال فرق من أجناس العرب، وهم: خزاعة، وجهينة، وبنو سلمة، وبنو مليح: الملائكة بنات الله، سُبْحانَهُ أي تنزّه الله تعالى تنزيها لائقا بذاته تعالى بَلْ عِبادٌ أي ليست الملائكة كما قالوا، بل هم عباد الله تعالى. فالعبودية تنافي الولدية، كما أن الولد للإنسان لا يكون عبده. مُكْرَمُونَ (26) أي مقرّبون عنده تعالى، ومفضلون على سائر العباد بالعصمة. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ، فإنهم يتبعونه في قوله تعالى ولا يقولون شيئا حتى يقوله، فلا يسبق قولهم قوله وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) أي فلا يعملون عملا ما لم يؤمروا به.
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي يعلم ما قدّموا، وما أخّروا من أعمالهم، أي لما علموا كونه(2/48)
وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)
تعالى عالما بكل شيء، علموا كونه تعالى عالما بظواهرهم، وبواطنهم، فكان ذلك داعيا لهم إلى نهاية الخضوع وكمال العبودية. وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى. أي لمن هو مرضي عند الله، وهو من قال: «لا إله إلا الله» ، ولا يشفعون لمن لم يأذن الله بشفاعته مهابة من الله تعالى. وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ تعالى مُشْفِقُونَ (28) ، أي مرتعدون، فلا يأمنون من مكره تعالى وهم خائفون أن يؤاخذهم الله بما قالوا، أو بما عملوا. وهذه المذكورات صفات للعبيد، لا صفات للأولاد.
وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ، أي الملائكة إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ، أي من غير الله فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ، فلا ينفعهم ما ذكر من صفاتهم السنيّة وأفعالهم المرضية، وهذا على سبيل التقدير، إذ لم يقع من واحد من الملائكة أنه قال ما ذكر وفي ذلك دلالة على قوة ملكوته تعالى وعزة جبروته.
كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) . أي مثل ذلك الجزاء نجزي الذين يضعون الأشياء في غير مواضعها أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي ألم يتفكروا ولم يعلموا، أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً أي مستوية صلبة ملتزقا بعضها على بعض، لم تنزل من السماء قطرة من مطر، ولم ينبت على الأرض شيء من النبات، فَفَتَقْناهُما أي شققنا السماء بنزول المطر منها، وشققنا الأرض بظهور النبات عليها.
وقرأ ابن كثير «ألم ير» بغير واو، بين الهمزة «ولم» . وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أي خلقنا من ماء الذكر والأنثى، كل حيوان. أو صيّرنا كل شيء حييّ بسبب من الماء لا بدّله من ذلك وقرئ حيا بالنصب مفعولا ثانيا أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) أي ألا يتدبرون هذه الأدلة فلا يؤمنون بتوحيدي!
وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أي جبالا ثوابت أوتادا لها أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ، أي كراهة أن تتحرك بهم. قال ابن عباس: إن الأرض بسطت على الماء، فكانت تتكفأ بأهلها، كما تتكفأ السفينة، فأرساها الله تعالى بالجبال الثقال، وَجَعَلْنا فِيها أي في الجبال فِجاجاً أي مسالك واسعة سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) ، أي لكي يهتدوا إلى منافعهم، وإلى وحدانية الله بالاستدلال. وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً على الأرض، مَحْفُوظاً من السقوط ومن الشياطين بالشهب، وَهُمْ عَنْ آياتِها أي عن الآيات الكائنة فيها، الدالة على وحدانية الله تعالى، وعلمه، وقدرته، وإرادته، مُعْرِضُونَ (32) . لا يتفكرون فيبقون على الكفر والضلال. وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ، أي كل واحد منهما فِي فَلَكٍ أي طاحونة مستديرة كهيئة فلك المغزل، يَسْبَحُونَ (33) أي يسيرون في سطح الفلك كالسبح في الماء. والجملة حال من الشمس والقمر، والجمع باعتبار المطالع. وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ، أي البقاء في الدنيا، أَفَإِنْ مِتَّ، يا أشرف الخلق، فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) . في الدنيا أي إن متّ أنت يا خاتم الرسل، أيبقى هؤلاء حتى يشمتوا بموتك.
نزلت هذه الآية في قولهم ننتظر محمدا حتى يموت فنستريح. ويحتمل أنه لما ظهر أنه صلّى الله عليه وسلّم(2/49)
خاتم الأنبياء، جاز أن يقدّر أنه لا يموت، إذ لو مات لتغير شرعه، فنبه الله تعالى على أن حاله كحال غيره من الأنبياء عليهم السلام في الموت. كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ، أي ذائقة مرارة مفارقتها جسدها في الدنيا، وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً، أي نعاملكم بالشرّ والخير معاملة المختبر اختبارا، لننظر أتصبرون عند الشر، وتشكرون عند الخير، أم لا؟ فالشرّ: هو المضار الدنيوية من الفقر والآلام، وسائر الشدائد النازلة على المكلفين، والخير: هو نعم الدنيا من الصحة واللذة والسرور، والتمكين من المرادات. وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35) . أي إلى حكمنا ترجعون بعد الموت فنجزيكم بأعمالكم. وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً، يقولون في حال الهزء، أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ، بعيب ونقصان. ف «إن» نافية، وهي وما في حيّزها جواب، «إذا» ولا يجب إتيان الفاء في جواب «إذا» منفيا ب «إن» ، أو ب «ما» . والمعنى: وإذا رآك الذين كفروا كأبي جهل، وأبي سفيان، ما يفعلون بك إلا اتخاذك هزوا قائلين: أَهذَا الَّذِي إلخ. ويحتمل أن جواب إذا محذوف القول، وتكون الجملة المنفية معترضة بين الشرط وجوابه المقدّر، والتقدير، يقول بعضهم لبعض في حال السخرية: أهذا الذي إلخ. وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36) . و «هم» الأول مبتدأ وخبره «كافرون» ، و «بذكر» متعلق بالخبر. و «هم» الثاني تأكيد لفظي للأول، وهذه الجملة حال من فاعل القول المقدّر. والمعنى: أنهم يعيبون على النبي صلّى الله عليه وسلّم، أن يذكر بالسوء آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع.
والحال أنهم جاحدون بذكر الرحمن بما يليق به من التوحيد، وهو المنعم عليهم، الخالق، المحيي المميت، فإنهم كانوا يقولون: لا نعرف الرحمن، إلا رحمن اليمامة، وهو مسيلمة الكذاب. خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ أي خلق الإنسان عجولا.
روي أن هذه الآية نزلت في النضر بن الحرث، حين استعجل العذاب بقوله: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر. والآية: سَأُرِيكُمْ آياتِي أي نقماتي في الآخرة، كعذاب النار، وغيره، في الدنيا، كوقعة بدر فإنها ستأتي في وقتها. فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) في طلب العذاب قبل الأجل.
وَيَقُولُونَ- أي كفار مكة بطريق الاستهزاء والإنكار، لا بطريق الإلزام في تعيين وقت العذاب-: مَتى هذَا الْوَعْدُ أي وعد إراءة الآيات التي تعدنا يا محمد؟ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) في وعدكم بأن العذاب يأتينا. لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ أي لا يدفعون، عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) . في دفع العذاب أي لو
يعلمون الوقت يسألون عنه، بقولهم متى هذا الوعد- وهو وقت صعب شديد- تحيط النار بهم فيه من كل جانب لا يقدرون على دفعها عن أنفسهم بأنفسهم، ولا يجحدون ناصرا ينصرهم في دفعها، لما استعجلوا العذاب ولما قاموا على إنكارهم ولرجعوا إلى طلب الحق فقوله حِينَ مفعول به ل «يعلم» . بَلْ تَأْتِيهِمْ، أي النار بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ أي فتحيّرهم، فَلا يَسْتَطِيعُونَ(2/50)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
بقوتهم، رَدَّها أي دفع النار عنهم بالكلية وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) أي يمهلون ليستريحوا طرفة عين بشؤم الإنكار والاستهزاء.
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ، أي وبالله، لقد أستهزئ برسل أولي شأن خطير، وذوي عدد كثير، كائنين في زمان قبل زمانك، فَحاقَ أي أحاط عقب ذلك، بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ، أي من أولئك الرسل عليهم السلام، وهو متعلق ب «حاق» . ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41) أي جزاء الذي كانوا به يستهزئون، فكذلك يحيق بمن استهزءوا بك وبال استهزائهم. قُلْ يا أشرف الخلق للمستهزئين بك بطريق التقريع: مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ، أي من يحفظكم في الليل إذا نمتم، وفي النهار إذا انصرفتم إلى معايشكم مِنَ الرَّحْمنِ- أي من عذاب الرحمن الذي تستحقونه إن نزل بكم-؟ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) . أي بل هم لا يخطرون ببالهم ذكره تعالى، مع إنعامه عليهم ليلا ونهارا بالحراسة، فضلا أن يخافوا عذابه تعالى فلو تأمّلوا في أنه لا حافظ لهم سواه تعالى، لتركوا عبادة الأصنام التي لا حظّ لها في حفظهم، ولا في الإنعام عليهم، أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا، أي بل ألهم آلهة تمنعهم مما يحزنهم، كائنة من غيرنا ف «من دوننا» صفة ل «آلهة» ، لا يَسْتَطِيعُونَ أي آلهتهم نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ، أي حمايتها عن الآفات، فكيف تقدر على حماية غيرها وَلا هُمْ مِنَّا أي من عذابنا يُصْحَبُونَ (43) . أي يمنعون، فكيف يمنعون غيرهم من العذاب؟ بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ، فحسبوا أن لا يزالوا كذلك، وأن ذلك بسبب ما هم عليه. أي دع ما زعموا من كونهم محفوظين بكلاءة آلهتهم، بل ما هم فيه من الحفظ إنما هو منّا حفظناهم من البأساء ومتعناهم بأنواع السّراء، لكونهم من أهل الاستدراج، والانهماك فبما يؤدّيهم إلى العذاب. أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها، أي ألا ينظر هؤلاء المشركون بالله، المستعجلون بالعذاب، فلا يرون أنّا نأخذ أرض الكفرة واحدا بعد واحد، ونفتح البلاد والقرى مما حول مكة لمحمد، ونميت رؤساء المشركين المتمتعين بالدنيا، وننقص من الشرك بإهلاك أهله. أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44) على محمد وأصحابه؟! أما كان لهم عبرة في ذلك فكيف يتوهمون أنهم ناجون من بأسنا؟ قُلْ لهم: إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ الذي هو كلام ربكم، فلا تظنّوا أن ذلك من قبلي، بل الله أمرني بإنذاركم. وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) .
قرأ ابن عامر: «ولا تسمع» بالتاء المضمومة، وكسر الميم، وبنصب الاسمين، أي ولا تقدر يا أشرف الرسل أن تسمع الدعاء من يتصامم. وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ أي وبالله لئن أصابهم شيء قليل، مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا، أي يا هلاكنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46) .
على أنفسنا وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ، أي نقيم الموازين العادلة التي توزن بها صحائف الأعمال، لِيَوْمِ الْقِيامَةِ، أي فيه أو لأجل أهله، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً أي حقا من حقوقها بل يوفّى كل(2/51)
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60)
ذي حقّ حقّه، إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وَإِنْ كانَ أي العمل مِثْقالَ حَبَّةٍ أي وزن حبة، مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها، أي أحضرنا ذلك العمل للوزن.
وقرأ نافع برفع «مثقال» على «إن كان» تامة. وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47) . أي محصين في كل شيء. وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) . أي والله لقد آتيناهما كتابا جامعا بين كونه فارقا بين الحق والباطل، وضياء يستضاء به في ظلمات الجهل، لما فيه من الشرائع، وذكرا يتعظ به الناس، الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ، حال من الفاعل، أي يخشون عذاب ربهم حال كونهم في الخلوات منفردين عن الناس، فخشيتهم من عقاب الله لازم لقلوبهم، لا، إن ذلك مما يظهرونه في الملأ، أو حال من المفعول، أي يخشون عذابه تعالى وهو غائب عنهم، غير مشاهد لهم، فيعلمون له تعالى، وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ أي ما يجري في يوم القيامة من الحساب، والسؤال، والميزان، مُشْفِقُونَ (49) أي خائفون، فيعدلون بسبب ذلك الخوف عن معصية الله تعالى، وَهذا أي القرآن ذِكْرٌ مُبارَكٌ أي كثير النفع غزير العلم، أَنْزَلْناهُ، على أشرف الرسل محمد صلّى الله عليه وسلّم، أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) ؟ أي أبعد أن علمتم أن شأن القرآن، كشأن التوراة، في كونه منزّلا من عندنا، فأنتم يا أهل مكة جاحدون للقرآن، خاصة دون كتاب اليهود، فإنهم كانوا يراجعون اليهود فيما عنّ لهم من المشكلات.
وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ، أي اهتداءه لوجوه الصلاح في الدين والدنيا ونبوته، مِنْ قَبْلُ أي من قبل إيتاء موسى وهارون التوراة، وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) ، أي بأنه لائق بما آتيناه، يقوم يحقه، ويجتنب ما ينفّر قومه من القبول. إِذْ قالَ إبراهيم، لِأَبِيهِ آزر، وَقَوْمِهِ: - نمروذ بن كنعان- وأصحابه: ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) . أي ما هذه الصور التي أنتم عابدون لها، وكانت تلك الأصنام اثنين وسبعين صنما بعضها من ذهب، وبعضها من فضة، وبعضها من حديد، وبعضها من رصاص، وبعضها من نحاس، وبعضها من حجر، وبعضها من خشب، وكان كبيرها من ذهب، مكللا من جواهر. في عينيه ياقوتتان تتّقدان، تضيئان في الليل. قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) ، فنحن نعبدها اقتداء بهم، فلم يجدوا في جوابه إلّا طريقة التقليد. فأجابهم إبراهيم وأبطله على طريقة التوكيد القسمي بقوله، قالَ لهم إبراهيم: لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ الذين سنّوا لكم هذه السنّة الباطلة، فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) أي في خطأ بيّن، بحيث لا يخفى على أحد من العقلاء ذلك، والتقيّد إنما جاز لمن علم في الجملة أنه على الحق، قالُوا أَجِئْتَنا يا إبراهيم في قولك هذا بِالْحَقِّ إن بالجدّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) ؟ أي من الممازحين بنا فيه. قالَ إبراهيم: بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ أي خلقهنّ على غير مثال سبق، وهو الذي خلقها لمنافع العباد، وهو الذي يستحق أن يعبد لأن من يقدر على ذلك، يقدر على أن يضر وينفع في الدار الآخرة بالعقاب، والثواب. وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ أي كون ربكم رب(2/52)
قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)
السموات والأرض فقط، مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) بذلك، فأنا قادر على إثبات الحجة في ذلك، وأني لست مثلكم أقول بغير إثبات الحجة، كما لم تقدروا على الاحتجاج لمذهبكم، ولم تزيدوا على مجرّد التقليد بآبائكم. وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أي لأكسرنّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) أي بعد أن تنطلقوا ذاهبين إلى العيد.
روي أن آزر خرج في يوم عيد لهم، فبدءوا ببيت الأصنام، فدخلوا، فسجدوا لها ووضعوا بينها طعاما خرجوا به معهم، وذهب معهم إبراهيم، فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه، وقال:
إني سقيم أشتكي رجلي فتركوه ومضوا، ثم نادى في آخرهم وقد بقي ضعفاء الناس حيث قال:
وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ، فسمع قوله الضعفاء، فرجع إبراهيم إلى بيت الأصنام،
فَجَعَلَهُمْ، أي الأصنام، جُذاذاً أي قطعا إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لم يكسره، لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ أي إلى مقالة إبراهيم يَرْجِعُونَ (58) . فيبكتهم، فيعدلون عن الباطل، أي أن إبراهيم عليه السلام لما دخل بيت الأصنام، وجد قبالة الباب صنما عظيما وإلى جنبه أصغر منه، وهكذا كل صنم أصغر من الذي يليه، وكانوا وضعوا عند الأصنام طعاما يأكلون منه إذا رجعوا من عيدهم إليهم، فقال لهم إبراهيم: ألا تأكلون؟ فكسرها كلها بفأس في يده حتى لم يبق إلّا الكبير، ثم علّق الفأس في عنقه. قالُوا حين رجعوا من عيدهم ورأوا ما رأوا: مَنْ فَعَلَ هذا أي التكسير، بِآلِهَتِنا إِنَّهُ أي من فعل، لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) . إما لجراءته على إهانة الآلهة، أو لإفراطه في الكسر، أو لتعريض نفسه للهلكة. فإنهم كانوا يعتقدون في الأصنام أنها تماثيل الكواكب، وأنها طلسمات موضوعة، بحيث إن كل من عبدها انتفع بها، وكل من استخف بها ناله منها ضرر شديد. قالُوا أي الذين سمعوا حلف إبراهيم وأخبروا أكابرهم: سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ أي يعيب الأصنام ويسبها فلعلّه هو الذي فعل بها هذا الفعل، يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) أي يطلق عليه هذا الاسم وهذه صفة ثانية ل «فتى» .
قالُوا أي فيما بينهم، والقائل لذلك القول هو النمروذ:
فَأْتُوا بِهِ، أي بإبراهيم عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ، أي حال كونه ظاهرا للناس، لَعَلَّهُمْ أي بعض الناس، يَشْهَدُونَ (61) عليه بفعله فكل حاكم يحكم على جماعة بالجناية من غير بينة، أسوأ حالا، فلا يحكم بعض الكفار على أهل الجناية إلا بحضور عدول قالُوا أي قال له نمروذ بعد إتيانه أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا أي الكسر بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) ؟ قالَ إبراهيم
متهكما بهم وملزما بالحجة: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا، أي الذي الفأس على عنقه، وهو مشير إلى الذي لم يكسره، وسلك عليه السلام مسلكا تعريضيا يؤديه إلى مقصده الذي هو إلزامهم الحجة على ألطف وجه يحملهم على التأمل في شأن آلهتهم، فهذا يستلزم نفي فعل الصنم الكبير للكسر وإثباته لنفسه عليه السلام، وهو إشارة لنفسه على الوجه الأبلغ مضمنا فيه الاستهزاء، والتضليل، إذ القاعدة أنه إذا دار فعل بين قادر عليه، وعاجز عنه، وأثبت للعاجز بطريق التهكم به، لزم منه(2/53)
انحصاره في القادر، فهذا نعت لكبيرهم، أو بدل منه. وقيل: هو خبر «لكبيرهم» ، وتم الكلام عند قوله: بَلْ فَعَلَهُ، وفاعل الفعل محذوف، أي فعله من فعله.
ويروى عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله: بَلْ فَعَلَهُ، ثم يستبدي كَبِيرُهُمْ هذا.
وقرأ محمد بن السميفع: «فعله كبيرهم» بتشديد اللام أي فلعل الفاعل كبيرهم هذا، فَسْئَلُوهُمْ، أي الأصنام عن كاسرهم، إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) حتى يخبروكم من كسرهم، وجواب الشرط هو ما قبله، وهذا مرتبط بقوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ فيكون إسناد الفعل إلى كبيرهم مشروطا بكونهم ناطقين، فلما لم يكونوا ناطقين، امتنع أن يكون الكبير فاعلا.
والمعنى: بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون، فاسألوهم. وهذه التأويلات لنفي كذب سيدنا إبراهيم. والأولى هو الأول، فإن التعريض لا يسمى كذبا. وأيضا يجوز أن يكون الله تعالى قد أذن له في ذلك الكلام لقصد الصلاح، وتوبيخهم، والاحتجاج عليهم، كما أذن ليوسف عليه السلام، حين نادى مناديه فقال: أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ [يوسف: 70] ولم يكونوا سرقوا فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ، بالتفكر فلاموها، فَقالُوا أي قال بعضهم لبعض فيما بينهم، أو قال لهم ملكهم نمروذ: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ، بعبادة الأصنام، لا من كسرها ومن قلتم في حقه أنه لمن الظالمين، فإنهم علموا بعد التفكر أن عبادة الأصنام باطلة، وأنهم على غرور في ذلك، أو أنتم الظالمون لأنفسكم، حيث سألتم من إبراهيم عن كاسر الأصنام، حتى أخذ يستهزئ بكم في الجواب ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ أي انقلبوا عن الفكرة الصالحة إلى الحالة الأولى، فأخذوا في المجادلة بالباطل قائلين: والله لَقَدْ عَلِمْتَ يا إبراهيم، ما هؤُلاءِ الأصنام، يَنْطِقُونَ (65) أي لقد علمت أنه ليس من شأنهم النطق، فكيف تأمرنا بسؤالهم.
وقرئ «نكّسوا» بالتشديد، و «نكسوا» بالبناء للفاعل، أي نكّسوا أنفسهم على رؤوسهم، وهي قراءة رضوان بن المعبود، قالَ إبراهيم مبكّتا لهم: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أي أتعلمون ذلك فتعبدون متجاوزين عبادة الله تعالى، ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً، أي نفعا قليلا وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ أي قذرا وقبحا لكم وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره، واللام لبيان المتضجّر لأجله، وعائد الموصول محذوف، وهذا تضجّر من سيدنا إبراهيم من إصرارهم على الباطل البيّن. أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) . أي ألا تتفكرون، فلا تعقلون قبح صنيعكم من عبادة ما لا يضر في ترك عبادته، ولا ينفع في عبادته. قالُوا أي قال بعضهم لبعض لما عجزوا عن المجادلة وضاقت عليهم الحيل، والقائل لهم ملكهم نمروذ بن كنعان، وقيل القائل رجل من أكراد فارس اسمه هينون، خسف الله به الأرض، حَرِّقُوهُ أي إبراهيم بالنار وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ أي انتقموا منه لآلهتكم إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) ، لنصرتها فاختاروا أشد العقوبات وهي الإحراق.(2/54)
وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)
وروي أنهم لما اجتمعوا على إحراقه عليه السلام بنوا له حظيرة في قرية كوثي، فجمعوا له أصناف الحطب شهرا، وأوقدوا نارا سبعة أيام، حتى لو مرّ الطير في أقصى الهواء لاحترق، ثم أخذوا إبراهيم فقيدوه ورفعوه على رأس البنيان، ووضعوه في المنجنيق مقيدا مغلولا فرموه به في النار، فجعل الله الحظيرة روضة وذلك قوله تعالى: قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) أي أبردي بردا غير ضارّ ومكث إبراهيم في النار سبعة أيام. وكان عنده عين ماء عذب، وورد أحمر، ونرجس، وأتاه جبريل بقميص من حرير الجنة، وقال: يا إبراهيم، إن ربك يقول أما علمت أن النار لا تضرّ أحبابي ولم تحرق النار منه إلّا وثاقه، فإن الله تعالى أزال عنها ما فيها من الحر والإحراق، وأبقى ما فيها من الإضاءة والإشراق.
وروي أنهم أوقدوا عليه النار سبعة أيام بعد إلقائه في ذلك البنيان، ثم أطبقوا عليه، ثم فتحوا عليه من الغد، فإذا هو غير محترق، ويعرق عرقا فقال لهم هاران- أبو لوط عليه السلام-:
إن النار لا تحرقه لأنه سحر النار، ولكن اجعلوه على شيء وأوقدوا النار تحته فإن الدخان يقتله فجعلوه فوق بئر وأوقدوا النار تحته، فطارت شرارة فوقعت في لحية أبي لوط فأحرقته. وَأَرادُوا بِهِ أي إبراهيم كَيْداً أي مكرا عظيما في الإضرار به، فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) فإنهم خسروا السعي والنفقة فلم يحصل لهم مرادهم، وهلكوا بإرسال الله عليهم البعوض، فأكلت لحومهم وشربت دماءهم ودخلت في دماغ نمروذ بعوضة فأهلكته
وَنَجَّيْناهُ أي إبراهيم من النار. وَلُوطاً ابن أخيه هاران الأصغر من الخسف وكان لهما أخ ثالث اسمه ناخور، والثلاثة أولاد آزر. وأما هاران الأكبر فكان عما لإبراهيم، وكانت سارة بنت عم إبراهيم، الذي هو هاران الأكبر. إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) في الدين والدنيا أي بلغناهما من العراق، إلى الشام فنزل إبراهيم بفلسطين، ونزل لوط بالمؤتفكة وبينهما مسيرة يوم وليلة. وسبب بركة في الدين، لأن أكثر الأنبياء بعثوا منها، فانتشرت شرائعهم فيها وفي الدنيا لأن الله تعالى بارك فيها بكثرة الماء والشجر والثمر. وَوَهَبْنا لَهُ أي لإبراهيم عليه السلام إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أي وهبناهما لإبراهيم نافِلَةً أي عطية وفضلا من غير أن يكون جزاء مستحقا، ف «نافلة» منصوب على المصدر. وَكُلًّا أي كل واحد من هؤلاء الأربعة، جَعَلْنا صالِحِينَ (72) في الدين والدنيا فصاروا كاملين. وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يقتدى بهم في أمور الدنيا، يَهْدُونَ أي يدعون الناس إلى الخيرات بِأَمْرِنا وإذننا، وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ، أي أن يعملوا الشرائع هم وأتباعهم، وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وهذان من عطف الخاص على العام، دلالة على إنافتهما فإن الصلاة أفضل العبادات البدنية، والزكاة أفضل العبادات المالية. وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73) أي مخلصين في العبادة لا يخطر ببالهم غير عبادتنا. وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً أي فصلا بين الخصوم. قال الزجّاج: أي هذه الجملة عطف على قوله: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ. وقال أبو(2/55)
مسلم عطف على قوله: آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ، وآتينا لوطا. وَعِلْماً لائقا به وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ أي من أهل قرية سذوم. الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ، أي التي كان أهلها قبل إنجائنا له منها، يعملون الأعمال الخبائث من اللواط، ورمي المارة بالبندق، واللعب بالطيور، والتضارط في أنديتهم، وغير ذلك. إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ أي قوما يحزنون الناس بأفعالهم، فاسِقِينَ (74) أي خارجين من كل خير وَأَدْخَلْناهُ أي لوطا فِي رَحْمَتِنا، بأن فتحت عليه أبواب المكاشفات، وتجلّت له أنوار الإلهية، إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) أي من المستعدّين لقبول ذلك وللدخول فيه. وَنُوحاً عطف على قوله: ولوطا وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً إِذْ نادى، أي دعا على قومه بالعذاب، بدل اشتمال من نوحا مِنْ قَبْلُ أي من قبل هؤلاء المذكورين، فَاسْتَجَبْنا لَهُ الدعاء، فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ، أي أهل دينه مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وهو الغرق وأذية قومه. وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ، أي عصمناه من مكروه القوم كما قاله المبرد. وقال أبو عبيدة: من بمعنى على، كقراءة أبيّ ابن كعب ونصرناه على القوم، الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا، الدالة على رسالته عليه السلام إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ لأجل تكذيبهم له، فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77) بالطوفان لإصرارهم على تكذيب الحق، ولانهماكهم في الشرّ وهذا بيان للوجه الذي خلّصه الله منهم به. وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ أي آتيناهما حكما إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ أي في حق الزرع، إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ أي انتشرت في الزرع غنم القوم في الليل ترعى بلا راع، وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ أي داود وسليمان شاهِدِينَ (78) أي إنما حكما بإرشادنا لهما وأوقع الجمع موقع التثنية مجازا، ويدل على ذلك قراءة ابن عباس لحكمهما بصيغة التثنية.
فَفَهَّمْناها أي الفتيا سُلَيْمانَ وَكُلًّا أي كل واحد منهما، آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً، كثيرا.
روي أنه دخل على داود عليه السلام، رجلان فقال أحدهما: إن غنم هذا دخلت في حرثي ليلا فأفسدته، وما أبقت منه شيئا. فقال داود عليه السلام: اذهب فإن الغنم لك. وقد روي أنه لم يكن بين قيمة الحرث، وقيمة الغنم تفاوت، فخرجا، فمرا على سليمان عليه السلام، وهو ابن إحدى عشرة سنة، فقال: كيف قضي بينكما؟ فأخبراه بذلك، فقال: لو كنت أنا القاضي لقضيت بغير هذا وهو أرفق بالفريقين، فأخبرا بذلك داود عليه السلام، فدعاه وقال: كيف تقضي بينهما؟
فقال: ادفع الغنم إلى صاحب الحرث، فيكون له منافعها من الدّر، والنسل، والصواف، وأدفع الحرث إلى أرباب الغنم ليقوموا عليه حتى يعود كهيئته يوم أكل، ثم دفعت الغنم إلى أهلها وقبض صاحب الحرث حرثه فقال داود: القضاء ما قضيت، وأمضى الحكم بذلك. ورأى داود قياس، كما أن العبد إذا جنى على النفس، يدفعه المولى إلى المجني عليه، أو يفديه عند أبي حنيفة ببيعه في ذلك، أو يفديه عند الشافعي. ورأى سليمان استحسان كما قال أصحاب الشافعي، فيمن غصب عبدا فأبق منه، أنه يضمن القيمة فينتفع بها المغصوب منه، بإزاء ما فوّته الغاصب من منافع(2/56)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
العبد، فإذا ظهر ترادا وحكم هذه المسألة في مذهب الشافعي أن الغنم إن كانت وحدها ولو بصحراء، فأتلفت شيئا كزرع، ليلا أو نهارا ضمنه ذو يد إن فرّط في ربطها أو إرسالها كأن ربطها بطريق ولو واسعا وكأن أرسلها ولو في نهار لمرعى بوسط مزارع فأتلفتها، فإن لم يفرّط، كأن أرسلها المرعى لم تتوسطه مزارع لم يضمن. ومذهب أبي حنيفة وأصحابه، عدم الضمان بالليل والنهار، إلا أن يكون معها سائق أو قائد وَسَخَّرْنا أي ذللنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ أي ينطقن بالتسبيح، وكان داود يسبّح وحده فالله تعالى خلق فيها الكلام، كما سبّح الحصى في كف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسمع الناس ذلك. وَالطَّيْرَ أي إذا ذكر داود عليه السلام ربّه، ذكرت الجبال والطير ربّها معه، وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) أي إنا قادرون على أن نفعل هذا وإن كان عجبا عندكم، أي مستغربا في اعتقادكم. وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ أي درع، لَكُمْ أي لأجلكم يا أهل مكة، فإن الله تعالى ألان الحديد لداود، فكان يعمل منه بغير نار كأنه طين لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ أي لتحرسكم من الجرح، والسيف، والسهم، والرمح. فقرأ شعبة: بالنون، وابن عامر وحفص بالتاء، فالضمير ل «لبوس» . والباقون بالياء التحتية، فالضمير ل «داود» ، أو ل «لبوس» ، وهذا بدل اشتمال من «لكم» مبيّن لكيفية الاختصاص والمنفعة فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80) أي اشكروا الله يأهل مكة على ما يسّر عليكم من هذه الصنعة بتصديق الرسل
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً أي شديدة الهبوب، فإذا مرت بكرسيه عليه السلام، أبعدت به في مدة يسيرة أي جعلنا الريح طائعة لسليمان، فإن أرادها عاصفة كانت عاصفة، وإن أرادها ليّنة كانت ليّنة تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها.
قال الكلبي: كان سليمان عليه السلام وقومه، يركبون عليها من إصطخر إلى الشام، وإلى حيث شاء، ثم يعود إلى منزله. قال وهب: كان سليمان عليه الصلاة والسلام، إذا أخرج إلى مجلسه عكفت عليه الطير، وقام له الإنس والجن حين يجلس على سريره، وكان امرأ غازيا قلّما كان يقعد عن الغزو، ولا يسمع في ناحية من الأرض بملك إلا أتاه حتى يذلّه.
وروي أن سليمان سار من أرض العراق فقال بمدينة بلخ متخللا بلاد الترك، ثم جاوزهم إلى أرض الصين يغدو على مسيرة شهر، ويروح على مثل ذلك، ثم عطف يمينه على مطلع الشمس على ساحل البحر، حتى أتى أرض السند وجاوزها، وخرج منها إلى مكران، وكرمان، ثم جاوزها حتى أتى أرض فارس، فنزلها أياما وغدا منها فقال بكسكر ثم راح إلى الشام وكان مستقره بمدينة يؤمر. وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) ، فنجري ما سخرنا له بحسب ما تقتضيه الحكمة وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ، أي وسخرنا لسليمان من الشياطين الكافرين من يدخلون في البحار ويخرجون الجواهر منها له، وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ، أي غير ذلك من بناء المدن والقصور، وصنع النورة، والطواحين، والقوارير، والصابون، والحمام، لأن(2/57)
ذلك من استخراجاتهم وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82) ، حتى لا يخرجوا من أمره، وحافظين من أن يفسدوا ما عملوا، فكان دأبهم أنهم يعلمون بالنهار، ثم يفسدونه في الليل، ومن أن يهيّجوا أحدا على أحد في زمانه عليه السلام. وَأَيُّوبَ أي آتيناه حكما إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) .
وكان أيوب عليه السلام روميا من ولد عيص بن إسحاق، وكانت أمه من ولد لوط، وكان الله تعالى قد جعله نبيا وقد أعطاه من الدنيا حظا وافرا من النعم، والدواب، والبساتين، وأعطاه ولدا من رجال ونساء. وكان رحيما بالمساكين، وكان يكفل الأيتام، والأرامل، ويكرم الضيف.
فابتلاه الله تعالى بهلاك أولاده بهدم بيت عليهم، وذهاب أمواله والمرض في بدنه ثماني عشرة سنة. فإنه خرج من فرقه إلى قدمه ثآليل، وقد وقعت في جسده حكة لا يملكها، وكان يحكّ بأظفاره حتى سقطت أظفاره، ثم حكّها بالمسوح الخشنة، ثم حكها بالفخار والحجار ولم يزل يحكّها حتى تقطع لحمه وأنتن، فأخرجه أهل القرية وجعلوه على كناسة، وجعلوا له عريشا.
روي أن امرأته ما خير بنت ميشا بن يوسف عليه السلام، أو رحمة بنت إفرايم بن يوسف، قالت له يوما: لو دعوت الله تعالى. فقال: كم كانت مدة الرخاء؟ فقالت: ثمانين سنة. فقال:
أستحي من الله أن أدعوه، وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي. وروي أن إبليس أتاها على هيئة عظيمة فقال: أنا إله الأرض فعلت بزوجك ما فعلت، لأنه تركني وعبد إله السماء لو سجدت لي سجدة لرجعت المال والولد وعافيت زوجك. فرجعت إلى أيوب وكان ملقى في الكناسة، لا يقرب منه أحد، فأخبرته بالقصة فقال عليه السلام: «كأنك افتتنت بقول اللعين لئن عافاني الله تعالى لأضربنّك مائة سوط، وحرام علي أن أذوق بعد هذا شيئا من طعامك وشرابك، فطردها، فذهبت، فبقي طريحا في الكناسة لا يحوم حوله أحد من الناس، فلما نظر أيوب شأنه وليس عنده طعام، ولا شراب ولا صديق، وقد ذهبت امرأته خرّ ساجدا فقال: رب أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. فقال تعالى: ارفع رأسك فقد استجبت لك، اركض برجلك، فركض برجله، فنبعت من تحته عين ماء فاغتسل منها، فلم يبق في ظاهر بدنه دابة إلا سقطت منه، ولا جراحة إلا برئت، ثم ركض برجله مرة أخرى، بعد أن مشى أربعين خطوة فنبعت عين أخرى فشرب منها، فلم يبق في جوفه داء إلا خرج، وعاد صحيحا، ورجع إليه شبابه وجماله حتى صار أحسن، ثم كسي حلّة فلما قام جعل يلتفت فلا يرى شيئا مما كان له من الأهل والولد، والمال، إلا وقد ضاعفه الله تعالى، حتى روي أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جرادا من ذهب، فخرج حتى جلس على مكان مشرف. ثم إن امرأته قالت في نفسها: هب أنه طردني أفأتركه حتى يموت جوعا وتأكله السباع، لأرجعنّ إليه، فلما رجعت ما رأت تلك الكناسة، ولا تلك الحال وقد تغيرت الأمور، فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكي وهابت صاحب الحلّة أن تأتيه وتسأله(2/58)
عنه، فأرسل إليها أيوب ودعاها فقال: ما تريدين يا أمة الله؟ فبكت وقالت: أردت ذلك المبتلى الذي كان ملقى على الكناسة، فقال لها أيوب عليه السلام: فما كان منك؟ فبكت، وقالت: بعلي فقال: أتعرفينه إذا رأيتيه؟ قالت: وهل يخفى علي؟ فتبسّم وقال: أنا هو فعرفته بضحكه فاعتنقته. ثم قال: إنك أمرتني أن أذبح سخلة لإبليس، وإني أطعت الله وعصيت الشيطان ودعوت الله تعالى فردّ علي ما ترين وذلك قوله تعالى: فَاسْتَجَبْنا لَهُ الدعاء، فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ أي مرض وهزال، وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ.
روي أن امرأته ولدت بعد ذلك ستة وعشرين ابنا. قال ابن عباس: أبدل بكل شيء ذهب منه ضعفا. وروي أن الله تعالى بعث إليه ملكا فقال: إن ربك يقرئك السلام بصبرك، فاخرج إلى أندرك، وهو الموضع الذي يداس فيه الطعام، فخرج إليه، فأرسل عليه جرادا من ذهب رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84) أي آتيناه ما ذكر لرحمتنا أيوب، وتذكرة لغيره من العابدين، ليصبروا كما صبر فيثابوا كما أثيب. وَإِسْماعِيلَ ابن إبراهيم وَإِدْرِيسَ، بن شيب بن آدم وَذَا الْكِفْلِ واسمه بشر، أي أعطيناهم ثواب الصابرين، كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) على أمر الله والمرازي وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا أي في النبوة إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) أي الكاملين في الصلاح.
فصلاحهم معصوم من كدر الفساد، فإسماعيل، قد صبر عند ذبحه، وعلى الإقامة في بلد لا زرع فيه، ولا ضرع، ولا بناء، وصبر في بناء البيت فأخرج منه خاتم النبيين. وإدريس قد صبر على دراسة الكتب وسمي إدريس لكثرة دراسته، وبعث إلى قومه داعيا لهم إلى الله تعالى، فأبوا، فأهلكهم الله ورفع إلى السماء الرابعة. وذو الكفل، قد صبر على قيام الليل، وصيام النهار، وأذى الناس في الحكومة بينهم، بأن لا يغضب. ومعنى الكفل: هو النصيب، وإنما سمي ذا الكفل بذلك على سبيل التعظيم، فيكون الكفل كفل الثواب، لأنه كان له ضعف عمل الأنبياء في زمانه، وضعف ثوابهم، وقد كان في زمنه أنبياء عليهم السلام. وَذَا النُّونِ أي واذكر صاحب الحوت وهو يونس عليه السلام، إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً أي غضبان على قومه لما برم من طول دعوته إياهم، وشدة شكيمتهم، وتمادي إصرارهم مهاجرا عنهم قبل أن يؤمر، لأنهم لما لم يؤمنوا
وعدهم بالعذاب، فلما كشف العذاب عنهم بتوبتهم، وهو لم يعرف الخالد خرج منهم غضبان من ذلك، فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أي ظن أنه لن نضيّق عليه، أي فإنه ظن أنه مخيّر إن شاء أقام وإن شاء خرج، وأنه تعالى لا يضيق عليه في اختياره.
فأتى بحر الروم فوجد قوما هيئوا سفينة فركب معهم، فلما تلجّجت السفينة تكفأت بهم، وكادوا أن يغرقوا فقال الملاحون: هاهنا رجل عاص، أو عبد آبق، لأن السفينة لا تكون هكذا من غير ريح، إلّا وفيها رجل عاص، فلا بد من أن نقترع ليظهر، فمن وقعت عليه القرعة ألقيناه في(2/59)
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)
البحر، فإن غرق واحد خير من أن تغرق السفينة، فاقترعوا ثلاث مرات، فوقعت القرعة فيها على يونس عليه السلام، فقال: أنا الرجل العاصي والعبد الآبق، وألقى نفسه في البحر، فجاء حوت فابتعله، فأوحى الله تعالى إلى ذلك الحوت لا تأكل له لحما ولا تهشم له عظما فإنه ليس رزقا لك، وإنما جعلتك له سجنا فَنادى فِي الظُّلُماتِ أي في ظلمات بطن الحوت، والبحر، والليل، وقيل: ابتلع حوته حوت آخر، فحصل في ظلمتي بطن الحوتين، وظلمة البحر والليل: أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أي بأنه ف «أن» مخففة من «أن» المشددة أو بمعنى أي سُبْحانَكَ أي أنزهك تنزيها لائقا بك من أن يعجزك شيء إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) بفراري من قومي بغير إذنك فكان ذلك ظلما، فعوقب على ترك الأفضل الذي هو المكث فيهم صابرا على أذاهم فإنه خرج لا على تعمّد المعصية، بل لظنه أن خروجه موسّع، يجوز أن يقدّم ويؤخّر. فقد وصف يونس عليه السلام ربه، بكمال الربوبية. ووصف نفسه بضعف البشرية، والنقص في أداء حق الربوبية وهذا القدر يكفي في السؤال ولذا قال تعالى: فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه.
وعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من مكروب يدعو بدعوة ذي النون في بطن الحوت إلا استجيب له»
. وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ بسبب كونه في بطن خطيئته، فألقاه الحوت في الساحل من يومه أو بعد ثلاثة أيام، وَكَذلِكَ، أي كما أنجينا يونس من كرب الحبس إذ دعانا نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) من كربهم إذا استغاثوا بنا داعين بهذا الدعاء. وَزَكَرِيَّا، أي واذكر خبره إِذْ نادى رَبَّهُ بقوله: رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً أي وحيدا بلا ولد يرثني إرث نبوّة وعلم، وحكمة، وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) . أثنى عليه السلام على ربه لأنه ينكشف عن علمه أن عاقبة الأمور راجعة إلى الله تعالى. فإنه تعالى الباقي بعد فناء الخلق. فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى، نبيا حكيما عظيما وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ، للولادة بعد انتهائها إلى اليأس منها بحكم العادة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما:
كان سن زكريا مائة، وسن زوجته تسعا وتسعين إِنَّهُمْ أي زكريا وولده وأهله، كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ أي في طاعة الله تعالى، وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً أي يفزعون إلينا رغبة في ثوابنا، ورهبة من عقابنا، وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90) أي خائفين متواضعين في عبادتهم، حذرين عن الانبساط في الأمور.
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها أي واذكر خبر مريم التي أحصنت فرجها إحصانا كليّا، من أن يصل إليه أحد بحلال أو حرام جميعا. فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا، أي فنفخنا الروح في عيسى فيها، أي أحييناه في جوفها، أي أجريناه فيه إجراء الهواء بالنفخ من جهة روحنا جبريل، وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91) .
أما آيات مريم فظهور الحبل فيها لا من ذكر، ورزقها كان يأتيها به الملائكة من الجنة، وأنها لم تلتقم ثديا يوما قط. وتكلّمت في صباها، كما تكلّم عيسى في صباه، فجعلهما الله آية للناس، فيستدلّون بما خصا به من الآيات على قدرته تعالى وحكمته. إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً أي(2/60)
إن ملة الإسلام وهي التوحيد، هي ملتكم أيها الناس، حال كونها غير مختلفة فيما بين الأنبياء عليهم السلام، أي يجب عليكم أن تكونوا عليها، لا تنحرفوا عنها.
وقرأ الحسن «أمتكم» بالنصب على البدل من هذه، أو عطف بيان، و «أمة» بالرفع خبران، وبرفعهما معا خبرين. وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) أي وحّدوني واعرفوني أيها الكفار أو داوموا على عبادتي أيها المؤمنون. وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أي تفرقوا في أمرهم بأن آمنوا بالبعض، وكفروا بالبعض، كُلٌّ، من الثابت على الدين الحق، والزائغ عنه إلى غيره، إِلَيْنا راجِعُونَ (93) . فنجازيهم حينئذ بحسب أعمالهم. فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ أي الفرائض والنوافل، وَهُوَ مُؤْمِنٌ بالله ورسله فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ، أي لا حرمان لثواب عمله، وَإِنَّا لَهُ أي لسعيه، كاتِبُونَ (94) أي مثبّتون في صحائف أعمالهم. وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) . أي ممتنع على أهل قرية قدّرنا هلاكهم بالموت، عدم رجوعهم إلينا للجزاء، بأن يذهبوا تحت التراب باطلا من غير إحباس بالنعمة، أو بالعذاب. أو المعنى: واجب على أهل قرية أهلكناها بالموت، عدم رجوعهم عن الشرك، وعن الدنيا، فإن الحرام قد يجيء بمعنى الواجب كقوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [الأنعام: 151] وترك الشرك واجب وليس بمحرّم. حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، أي يستمرون على الهلاك، حتى إذا قامت القيامة يرجعون إلينا ويقولون: يا ويلنا إلخ. أو لا يرجعون عن الكفر، حتى إذا قامت القيامة يرجعون عنه حين لا ينفعهم الرجوع، ويأجوج ومأجوج، قبيلتان من الإنس، والمراد حتى إذا فتحت سدّهما وذلك بعد نزول عيسى إلى الأرض، وبين موت عيسى والنفخة الأولى، قدر اثنتي عشرة سنة من السنين المعتادة.
وقرأ ابن عامر بتشديد التاء. وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) أي والحال أن يأجوج ومأجوج من مكان مرتفع يخرجون.
وقرأ ابن عباس «من كل جدث» أي والناس يخرجون من قبورهم، فيحشرون إلى موقف الحساب. وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ، أي وهو البعث والحساب والجزاء فَإِذا هِيَ، «فإذا» للمفاجأة تسد مسد الفاء، فإذا دخلتها الفاء، تعاونت على وصل الجزاء بالشرط، وتأكدت، والضمير للقصة، وما بعده خبر مقدم أي فالقصة شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا، أي أن القيامة إذا قامت ارتفعت أبصار هؤلاء من شدة الأهوال، فلا تكاد تطرف من شدة ما يخافونه قائلين:
يا وَيْلَنا أي يا هلاكنا، تعال فهذا أوان حضورك، قَدْ كُنَّا في الدنيا، فِي غَفْلَةٍ تامة مِنْ هذا، أي الذي أصابنا من البعث والجزاء ولم نعلم أنه حق، بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97) .
أي لم نكن غافلين عنه، بل كنا ظالمين أنفسنا بتعمّد الكفر والإعراض عن الإيمان حيث كذبنا الرسل وعبدنا الأوثان. إِنَّكُمْ يا اهل مكة، وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي من غير(2/61)
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110)
الله من الأوثان وغيرها، حَصَبُ جَهَنَّمَ أي حطب جهنم يرمون فيها، أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) أي داخلون فيها.
وروي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين تلا هذه الآية وقال له ابن الزبعري- والد عبد الله القرشي-:
خصمتك ورب الكعبة، أليست اليهود عبدوا عزيرا، والنصارى المسيح، وبنو مليح الملائكة؟
رد صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «ما أجهلك بلغة قومك، أما فهمت أن «ما» لما لا يعقل؟» وقد أسلم ابن الزبعري بعد هذه القصة
. لَوْ كانَ هؤُلاءِ أي أصنامهم آلِهَةً كما يزعمون ما وَرَدُوها، أي ما دخلوا النار، وَكُلٌّ من العبدة والمعبودين، فِيها خالِدُونَ (99) أي لا خلاص لهم عنها. لَهُمْ أي للعبدة فِيها زَفِيرٌ، أي أنين وتنفّس شديد، وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100) أصوات المعذّبين لشدة الهول وفظاعة العذاب.
وقد جرت عادة الله تعالى، أنه متى شرح عقاب الكفار أردفه بشرح ثواب الأبرار، فقال:
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى، أي الذين سبقت لهم كلمتنا بالبشرى بالثواب على الطاعة، أُولئِكَ عَنْها، أي جهنم مُبْعَدُونَ (101) . عن ألمها فإنهم في الجنة. وشتان بينها وبين النار. لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها، أي صوت جهنم وحركة تلهّبها إذا نزلوا منازلهم في الجنة وهذه الجملة بدل من «مبعدون» ، أو حال من ضميره، أو خبر ثان، وهي مذكورة للمبالغة في إنقاذهم منها. وَهُمْ أي من تقدم لهم الوعد بالثواب، فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ، أي تمنت نعيم الجنة، خالِدُونَ (102) أي دائمون في غاية النعم. لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ، حين تغلق النار على أهلها وييأسون من الخروج منها، وحين يذبح الموت في صورة كبش أملح بين الجنة والنار، وينادى: يا أهل النار خلود بلا موت،
فييأس أهل النار من الخروج منها، وحين يؤمر بالكافر إلى الذهاب إلى النار. وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ، أي الحفظة الذين كتبوا أعمالهم وأقوالهم، على أبواب الجنة بالبشرى قائلين هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) . أي هذا الوقت وقت ثوابكم الذي وعدكم ربكم به في الدنيا فأبشروا بفنون المثوبات، وبجميع ما يسركم بإيمانكم وطاعاتكم. يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ بنون العظمة.
وقرئ «يطوي» بالياء والتاء على البناء للمفعول، فالظرف منصوب ب «أذكر» أو ب «تتلقاهم» . كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ، أي يوم نطوي السماء طيا، كطيّ الطومار للمكتوبات. وقرأ حفص وحمزة والكسائي بصيغة الجمع. والباقون بصيغة الإفراد، واللام متعلقة بمحذوف وهو حال من السجل، ومعنى طي الطومار للمكتوب، كون الطومار ساترا لتلك الكتابة، ومخفيا لها لأن الطيّ ضد النشر الذي يكشف. كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ، أي نعيد ما خلقناه أو لا إعادة مثل بدئنا إياه في كونها إيجادا بعد عدم، أو جمعا للأجزاء المتبددة، فهو تشبيه للإعادة بالابتداء في تناول قدرة الله تعالى لهما على السواء وَعْداً عَلَيْنا أي وعدنا(2/62)
وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
بالإعادة، وعدا حقا علينا إنجازه بسبب الإخبار عن ذلك، وتعلق العلم بوقوعه. إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) أي إنا سنفعل ذلك لا بد فوقوع ما علم الله وقوعه واجب. وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أي وبالله لقد كتبنا في كتاب داود بعد ما كتبنا في التوراة، أو لقد كتبنا في جميع كتب الأنبياء بعد ما أثبتنا في اللوح المحفوظ، أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) . أي أن أرض الكفار يفتحها المسلمون، وهذا حكم من الله بإظهار الدين، وإعزاز المسلمين. إِنَّ فِي هذا أي في المذكور هذه السورة من البراهين الدالّة على التوحيد وصحة النبوة، لَبَلاغاً أي لكفاية، لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106) أي عاملين بعلومهم وهم أهل الصلوات الخمس، وشهر رمضان. وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) أي وما أرسلناك يا أشرف الخلق بالشرائع، إلّا رحمة للعالمين أي إلّا لأجل رحمتنا للعالمين قاطبة في الدين والدنيا.
فإن الناس في ضلالة وحيرة، فبعث الله سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، فبيّن صلّى الله عليه وسلّم سبيل الثواب وأظهر الأحكام، وميّز الحلال من الحرام. وإن كل نبيّ قبل نبيّنا إذا كذّبه قومه، أهلكم الله بالخسف، والمسخ، والغرق فالله تعالى أخّر عذاب من كذب نبينا إلى الموت، ورفع عذاب الاستئصال عنهم به صلّى الله عليه وسلّم. قُلْ يا أكرم الرسل، إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ، أي إنما يوحى إليّ وحدانية إلهكم، فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) أي يا أهل مكة خصّصوا العبادة بإلهكم الواحد وهو الله تعالى، فالاستفهام بمعنى الأمر. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) أي فإن أعرضوا عن توحيد المعبود، فقل يا سيّد الرسل: إني أعلمتكم بأني محارب لكم على إعلان، ولكن لا أدري متى يأذن الله لي محاربتكم. فتبيّن بهذا أن السورة مكية، فإن الأمر بالجهاد كان بعد الهجرة إِنَّهُ تعالى، يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ أي ما تجاهرون به من الطعن في الإسلام، وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) ، من الأحقاد للمسلمين، ومن النفاق، فيجازيكم عليه.
وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) أي ما أدري لعلّ تأخير الجهاد استدراج وضرر لكم، وتمتع لكم إلى انقضاء آجالكم. قالَ أي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقرأ حفص بصيغة الماضي. والباقون بصيغة الأمر: رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ أي احكم بيننا وبين أهل مكة بالعدل المستلزم لتعجيل العذاب وقد استجيب دعاؤه صلّى الله عليه وسلّم، حيث عذّبوا في بدر، وأحد، والخندق، وحنين. وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ أي كثير الرحمة على عباده، الْمُسْتَعانُ أي المطلوب منه المعونة عَلى ما تَصِفُونَ (112) أي تقولون: إن الشوكة تكون لهم، وإن راية الإسلام تخفق ثم تركد. فكذب الله ظنونهم وخذلهم، ونصر رسوله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين.(2/63)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)
سورة الحج
مختلطة بين مكي ومدني ست وسبعون آية، ألف ومائتان وإحدى وتسعون كلمة خمسة آلاف ومائة وخمسة وثلاثون حرفا
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ بأن تطيعوه بفعل المأمورات واجتناب المنهيات. إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) . أي إن شدة حركة الأرض في قرب الساعة في نصف رمضان، معها طلوع الشمس من مغربها، أمر حادث، جليل، لا تدرك العقول كنهه.
روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حديث الصور: «أنه قرن عظيم، ينفخ فيه ثلاث نفخات، نفخة الفزع، ونفخة الصعقة، ونفخة القيام، لرب العالمين، وأن عند نفخة الفزع، يسيّر الله الجبال، وتَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ «وتكون الأرض كالسفينة تضربها الأمواج، أو كالقناديل المعلّق ترجرجه الرياح»
«1» . يَوْمَ تَرَوْنَها
، منصوب ب «تذهّل» ، أو بدل اشتمال من «زلزلة» ، أي وقت رؤيتكم الزلزلة تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ
، أي تغفل مع دهشة عن طفلها الذي ألقمته ثديها، بحيث لا يخطر ببالها أنه ماذا، وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها
، أي تلقي الحوامل جنينها لغير تمام، وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى
، فالخطاب لكلّ أحد، أي يراهم كلّ أحد برؤية الزلزلة، كأنهم سكارى، وما هم بسكارى حقيقة. وقال ابن عباس، والحسن: أي وتراهم سكارى من الخوف، وما هم بسكارى من الشراب.
وقرأ حمزة والكسائي «سكرى» بفتح السين، وسكون الكاف. وقرئ: «ترى الناس» بالبناء للمجهول، والضمير للمخاطب، والناس بالنصب، أي تظنهم سكارى، وبالرفع نائب الفاعل على تأويله بالجماعة. وقرئ «تري» ، بضم التاء وكسر الراء، أي تري الزلزلة الخلق جميع الناس سكارى. وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
(2) أي ولكن ما أزهقهم من هول عذاب الله
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب القيامة، باب: 8، والدارمي في كتاب الرقاق، باب: في نفخ الصور، وأحمد في (م 2/ ص 162، 192) .(2/64)
تعالى، هو الذي أذهب عقولهم وطيّر تمييزهم. وَمِنَ النَّاسِ، أي وبعض الناس، كالنضر بن الحرث، وأبي جهل، وأبيّ بن خلف، مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ، أي في دين الله وكتابه وقدرته، بِغَيْرِ عِلْمٍ أي ملتبسا بغير علم، فإنهم ينكرون البعث، وقالوا: إن الله لا يقدر على إحياء من صار ترابا، ويكذّبون القرآن ويقولون: ما يأتيكم به محمد، كما كنت أحدثكم به عن القرون الماضية، فهو أساطير الأولين. وَيَتَّبِعُ في جداله، كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) أي عات متجرد للفساد، والمراد: إما شياطين الإنس، وهم رؤساء الكفار الذين يدعون من دونهم إلى الكفر، وإما إبليس وجنوده. كُتِبَ عَلَيْهِ مبني للمفعول صفة ثانية، أي قد كتب على الشيطان في أمّ الكتاب لظهور ذلك من حاله، أَنَّهُ أي الشأن، مَنْ تَوَلَّاهُ أي من اتخذه وليا وأطاعه، فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ، بفتح الهمزة على أنه خبر مبتدأ محذوف. أي من يقبل الشيطان بقوله فشأنه أن الشيطان يضلّه عن طريق الجنة. وَيَهْدِيهِ أي يدعوه إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4) أي إلى ما يؤدي إلى عذاب النار الوقود، من السيئات. يا أَيُّهَا النَّاسُ أي أهل مكة، إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فانظروا إلى مبدأ خلقكم ليزول ريبكم، فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ، أي خلقنا كلّ فرد منكم، مِنْ تُرابٍ، لأن المني ودم الطمث، يتولدان من الأغذية وهي من النبات، وهو يتولّد من الأرض والماء، ثُمَّ خلقناكم، مِنْ نُطْفَةٍ، أي مني ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ أي دم جامد، ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ أي لحمة صغيرة قدر ما يمضغ، مُخَلَّقَةٍ، أي تامة الصور، والحواس، والتخاطيط، وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ أي وناقصة في هذه الأمور. لِنُبَيِّنَ لَكُمْ، أي أخبرناكم في القرآن، بدء خلقكم لنبيّن لكم ما يزيل عنكم ذلك الريب في أمر بعثكم، فإن القادر على هذه الأشياء، كيف يكون عاجزا عن الإعادة وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، أي ونحن نقر بعد ذلك في الأرحام ما نشاء أن نقره فيها من الولد إلى وقت الوضع. ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ من بطون أمهاتكم بعد إقراركم فيها، عند تمام الوقت المقدر بالإرادة القديمة والحكمة الأزلية، طِفْلًا أي حال كونكم صغارا، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ، أي ثم نسهل في تربيتكم أمورا لتبلغوا كما لكم في القوة والعقل والتمييز، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى على كماله في ذلك، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أي إلى أخسه، وهو الهرم والخرف. لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً أي ليعود كهيئته الأولى في أوان الطفولية من ضعف البدن، وسخافة العقل، وقلة الفهم، فينسى ما علمه، وينكر ما عرفه، ويعجز عما قدّر عليه. وَتَرَى أيها المجادل الْأَرْضَ هامِدَةً أي يابسة خالية من النبات، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ أي ماء المطر والعيون، والأنهار، اهْتَزَّتْ أي تحرّكت في رأي العين بسبب حركة النبات، وَرَبَتْ أي انتفخت للنبات، وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) أي وأخرجت بالماء كل نوع من أنواع النبات حسن، يسّر ناظره. ذلِكَ، أي الصنع البديع في الإنسان، والأرض حاصل بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ
الْحَقُ
أي الموجود الثابت، المتحقق في(2/65)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18) هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20)
الألوهية فهذه الموجودات دالة على وجود الصانع، وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى، أي شأنه إحياء الموتى كما أحيى الأرض الميتة، وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) فإذا دلّت المشاهدة على قدرته تعالى على إحياء بعض الأموات، لزم اقتداره تعالى على إحياء جميع الأموات، فلا بدّ وأن يكون قادرا على إعادة الموتى إلى الحياة، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) .
وهذا كناية عن كونه تعالى حكيما، لأنه من روادف الحكمة، فالمعنى ذلك أي خلق الإنسان، وإحياء النبات، حاصل بسبب أنه تعالى قادر على إحياء الموتى، وأنه تعالى حكيم لا يخلف وعده وقد وعد بإتيان الساعة، والبعث، فلا بد أن يفي بما وعد. وَمِنَ النَّاسِ وهو أبو جهل بن هشام، مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ أي في شأنه تعالى، بِغَيْرِ عِلْمٍ أي كائنا بغير علم ضروري، وَلا هُدىً أي نظر صحيح هاد إلى المعرفة. وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) أي وحي مظهر للحق أي يجادل في شأنه من غير تمسّك بقياس ضروري ولا بحجة نظرية، ولا ببرهان سمعي. ثانِيَ عِطْفِهِ حال ثانية من فاعل «يجادل» ، أي معرضا بجانبه عن الحق متكبّر.
وقرأ الحسن بفتح العين أي مانعا لتعطّفه قاسيا. لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، متعلق ب «يجادل» أي فإن المجادل أظهر التكبّر لكي يتبعه غيره، فيضلّه عن طريق الحق بالتمويهات، فجمع بين الضلال والكفر وإضلال الغير.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، بفتح الياء، فتكون اللام للعاقبة، أي فإن المجادل أظهر التكبّر فيستمر ضلاله عن دين الله، أو يزيد ضلاله عنه في عاقبة أمره، فلا هداية له بعده. لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وهو ما أصابه يوم بدر من القتل والإهانة. وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) أي عذاب النار المحرقة. ذلِكَ، أي العذاب الدنيوي والأخروي، بِما قَدَّمَتْ يَداكَ أي بسبب ما عملته من الكفر والمعاصي، وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) ومحل «أن» رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف. أي والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من جهتهم
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ أي على طرف من الدين، لا في وسطه، وعلى ضعيف يقين، والجار والمجرور حال من فاعل يعبد أي متزلزلا. فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ، دنيوي وهو ما يوافق الطبع، اطْمَأَنَّ بِهِ أي ثبت على ذلك الدين، بسبب ذلك الخير الذي يوافق هواه، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ وهو ما يثقل على طبعه انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ أي رجع إلى دينه الأول، وهو الشرك بالله ولما كانت الشدة ليست بقبيحة لم يقل تعالى: وإن أصابه شر لأن ما ينفر عنه الطبع ليس شرا في نفسه، بل هو سبب القرب بشرط التسليم والرضا بالقضاء.
نزلت هذه الآية في أعراب كانوا يقدمون على النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة مهاجرين من باديتهم، فكان أحدهم إذا صحّ في المدينة جسمه، ونتجت فرسه مهرا حسنا، وولدت امرأته غلاما، وكثر ماله، قال: هذا دين حسن واطمأن إليه، وإن أصابه مرض، وولدت امرأته جارية، أو أجهضت(2/66)
رماكه، ولم تلد فرسه، وذهب ماله، وتأخرت عنه الصدقة، أتاه الشيطان وقال له: ما جاءتك هذه الشرور إلا بسبب هذا الدين، فينقلب عن دينه، وهذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والكلبي رضي الله عنه. خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ.
قرأ العامة «خسر» فعلا ماضيا وهو استئناف أو حال من فاعل «انقلب» ، أو بدل من «انقلب» . وقرأ مجاهد «خاسر» بصيغة اسم الفاعل منصوبا على الحال. وقرئ بالرفع على الفاعلية، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، وذلك لأنه يذهب في الدنيا الكرامة، وإصابة الغنيمة، وأهلية الشهادة، والإمامة، والقضاء، وعصمة ماله ودمه، ويفوت في الآخرة الثواب الدائم، ويحصل له العقاب الدائم. ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) أي الواضح إذ لا خسران مثله يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ استئناف مبين لعظم الخسران، وهي واردة في المشركين الذين قدموا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعلى وجه النفاق وهم: بنو الحلاف، منافقو بني أسد وغطفان، أي أيعبد من ذكروهم بنو الحلاف متجاوزا عبادة الله تعالى، جمادا لا يضرّه إذا لم يعبده، ولا ينفعه إن عبده ذلِكَ العبادة هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) عن الصواب، وهو الكفر العظيم. يَدْعُوا بالقول لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ، استئناف مذكور لبيان عاقبة عبادته المذكورة، فالدعاء بمعنى القول، واللام داخلة على الجملة الواقعة مقولا له، و «من» مبتدأ، و «ضره» مبتدأ ثان، خبر «أقرب» ، والجملة صلة للمبتدأ الأول. أي يقول ذلك الكافر يوم القيامة بصراخ حين يرى تضرّره بمعبوده ودخوله النار بسببه، لمن ضرّه أقرب من نفعه والله، لَبِئْسَ الْمَوْلى أي الناصر هو، وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) أي الصاحب هو إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لأن عبادتهم حقيقية، ومعبودهم يعطيهم أعظم المنافع وهو الجنة إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14) بهم من أنواع الفضل والإحسان زيادة على أجورهم مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15) .
أي من ظن أن لن ينصر الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا بإعلاء كلمته، وإظهار دينه وفي الآخرة بإعلاء درجته والانتقام ممن كذبه، فليطلب سببا يصل به إلى سماء الدنيا فليقطع نصر الله لنبيه، ولينظر هل يتهيأ له الوصول إلى السماء بحيلة، وهل يتهيأ له أن يقطع بذلك نصر الله عن رسوله، فإذا كان ذلك ممتنعا كان غيظه عديم الفائدة، وهذا زجر للكفار عن الغيظ فيما لا فائدة فيه، فإن أعداءه صلّى الله عليه وسلّم، كانوا يتمنون أن لا ينصره الله، وأن لا يعليه على أعدائه، فمتى شاهدوا أن الله نصره غاظهم ذلك. وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الإنزال أَنْزَلْناهُ أي القرآن آياتٍ بَيِّناتٍ أي واضحات الدلالة على معانيها الرائقة فآيات حال من الهاء وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) هدايته، بأن يخلق له المعرفة ومحل الجملة، إما الجر على حذف الجار المتعلق بمحذوف مؤخر، أي ولأن الله يهدي من يريد أنزله كذلك، أو الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، والأمر أن الله يهدي(2/67)
من يريد هدايته، ثم بيّن من يهديه ومن لا يهديه فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا، بكل ما يجب أن يؤمن به، وَالَّذِينَ هادُوا: أي تدينوا بدين اليهودية، وَالصَّابِئِينَ: وهم شعبة من النصارى- قيل:
سمّيت بذلك لنسبتها إلى صابئ عم نوح عليه السلام- وَالنَّصارى: وهم الذين انتحلوا دين النصرانية، وَالْمَجُوسَ: عبدة الشمس والنيران، وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا: هم عبدة الأوثان، إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، في الأحوال والأماكن فيظهر المحق، من المبطل، فلا يجازيهم جزاء واحدا بغير تفاوت، ولا يجمعهم في موطن واحد، إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) . أي فهو عالم بما يستحقه كلّ منهم، فلا يجري في ذلك الفصل حيف، ولا يغيب عن علمه شيء.
والأديان الحاصلة بسبب الاختلافات في الأنبياء ستة، فمن الناس من يعترفون بوجود الأنبياء، ومن لا، فالمعترفون بذلك: فإما أن يكونوا أتباعا لمن كان نبيا أو لمن كان متنبيا، فاتباع الأنبياء هم المسلمون، واليهود، والنصارى، وفرقة أخرى بين اليهود والنصارى، وهم الصابئون: فهم مختلفون في نبوة محمد، وموسى، وعيسى، فاليهود: نفوا نبوّة محمد وعيسى.
والنصارى: نفوا نبوّة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم. والصابئون، تارة يوافقون النصارى في أصول دينهم، فتحلّ لنا مناكحتهم، وتارة يخالفونهم فلا تحلّ مناكحتهم، ويطلق الصابئون أيضا على قوم أقدم من النصارى يعبدون الكواكب السبعة، ويضيفون الآثار إليها، وينفون الصانع المختار، فهؤلاء لا تحلّ مناكحتهم وأتباع المتنبي هم المجوس، قيل: هم قوم يستعملون النجاسات.
والمنكرون للأنبياء على الإطلاق: هم عبدة الأصنام، وهم المسمّون بالمشركين ويدخل فيهم البراهمة على اختلاف طبقاتهم.
وقال قتادة: ومقاتل الأديان ستة، واحد لله تعالى وهو الإسلام، وخمسة للشيطان، وهي ما عداه. وقرأ نافع «الصابين» بالياء التحتية بعد الباء الموحدة. وقال الزجّاج: قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ خير لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا كما نقول: إن أخاك إن الدين عليه لكثير، وأدخلت «إن» على واحد من جزء، أي الجملة لزيادة التأكيد. أَلَمْ تَرَ أي ألم تعلم يا أشرف الخلق بخبر الله تعالى لك أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ أي ينقاد لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ
فهؤلاء ينقادون لتدبيره تعالى انقيادا تاما يقبلون لما أحدثه الله تعالى فيهم من غير امتناع وَيسجد له تعالى كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ سجود طاعة وعبادة وهم المؤمنون. وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ بامتناعه من السجود وهو من لا يوحد الله تعالى.
وقرئ «حق» بالرفع، و «حقا» بالنصب أي حق عليه العذاب حقا وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ بالشقاوة فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ بالسعادة أي إن الذين وجب عليهم العذاب ليس لهم أحد يقدر على إزالة ذلك الهوان عنهم بطريق الشفاعة لهم. وقرأ ابن أبي عبلة «مكرم» بفتح الراء على أنه مصدر(2/68)
وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)
ميمي أي فما له من إكرام إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18) من الإكرام بالثواب والإهانة بالعقاب هذانِ خَصْمانِ أي طائفة المؤمنين وطائفة الكفار المنقسمة إلى الفرق الخمس فريقان مختصمان.
وقرأ ابن كثير «هذان» بتشديد النون.
وروي عن الكسائي «خصمان» بكسر الخاء اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ أي في شأنه قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في المسلمين وأهل الكتاب حيث قال أهل الكتاب: نحن أولى بالله وأقدم منكم كتابا ونبينا قبل نبيكم. وقال المسلمون: نحن أحق بالله منكم آمنا بنبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله من كتاب وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا، ثم تركتموه وكفرتم به حسدا. فهذه خصومتهم في ربهم فحكم الله بينهم فقال: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ أي قدرت على مقادير جثثهم نيران تحيط بهم إحاطة الثياب بلابسها. فالمراد بالثياب إحاطة النار بهم أي جعلت النار محيطة بهم كقوله تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الأعراف: 41] ، كما روي عن أنس، وقال سعيد ابن جبير: أي قطعت قمص وجباب من نحاس أذيب بالنار كقوله تعالى: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ [إبراهيم: 50] . فليس شيء حمى بالنار أشد حرارة منه يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) أي الماء الحار يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) أي يذاب بالماء الحار إذا يصب على رؤوسهم ظاهرهم وباطنهم من الجلود والأمعاء.
وفي الحديث الذي رواه الترمذي: «إن الحميم ليصب من فوق رؤوسهم فينفذ من جمجمة أحدهم حتى يخلص إلى جوفه فيسلب ما في جوفه حتى يمرق من قدميه- وهو الصهر- ثم يعاد كما كان»
«1» .
وَلَهُمْ أي للكفرة مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) أي مطارق من حديد ف «اللام» للاستحقاق كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أي من النار مِنْ غَمٍّ شديد أُعِيدُوا فِيها بالمقامع.
روي عن الحسن أن النار تضربهم بلهبها فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهو وافيها سبعين خريفا وَقيل لهم: ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) أي عذاب الغليظ من النار لعظيم الإهلاك إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها بالبناء للمفعول وبتشديد اللام أي يزينون. وقرئ بسكون الحاء أي يبلسون في الجنة أي تحليهم الملائكة بأمره تعالى. وقرئ «يحلون» بفتح الياء وسكون الحاء أي يلبسون حليهم مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً بالجر في قراءة الجمهور عطفا على ذهب بناء على أن الأساور مركبة منهما بأن يرصع الذهب باللؤلؤ وفي سورة الكهف ليس فيها ذكر لؤلؤ وفي سورة هل أتى لم يذكر فيها اللؤلؤ ولا الذهب وهنا قد ذكرا فيجتمع لهم التزين بهذه الأمور بالذهب
__________
(1) رواه أحمد في (م 2/ ص 374) .(2/69)
وحده وبالفضة وحدها وبالذهب واللؤلؤ وبالنصب في قراءة نافع وعاصم عطفا على محل من أساور، لأنه يقدر ويحلون حليا من أساور ويحلون لؤلؤا فمن ذهب بيان للأساور وَلِباسُهُمْ فِيها أي الجنة حَرِيرٌ (23) أي أن الحرير ثيابهم المعتادة في الجنة فلا يمكن عراؤهم منه وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وهو قولهم الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة الآية كما قاله ابن عباس في رواية عطاء وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24) أي أرشدوا إلى الطريق إلى الله تعالى وهو دين الإسلام فالحميد هو الله فهو محمود في أفعاله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي يصرفون الناس عن دين الله وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي وعن دخوله الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ أي المقيم فِيهِ وَالْبادِ أي الطارئ. وقرأ حفص عن عاصم ويعقوب «سواء» بالنصب مفعول ثان ل «جعلناه» و «العاكف» مرفوع به على الفاعلية وللناس متعلق «بسواء» ظرف له. والباقون «سواء» بالرفع على أنه خبر مقدم و «العاكف» مبتدأ والجملة مفعول ثان ل «جعلناه» . وقرئ «العاكف» بالجر على أنه بدل من الناس وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25) فبإلحاد وبظلم حالان مترادفان ومفعول «يرد» متروك ليتناول كل متناول أي ومن يرد في مكة مرادا، مائلا عن الاعتدال ظالما أحدا نذقه من عذاب أليم فإن الواجب على من كان فيه أن يضبط نفسه ويسلك طريق العدل في جميع ما يقصده. وقرئ «يرد» بفتح الياء أي من أتى فيه بإلحاد كاحتكار الطعام، وكدخول مكة بغير إحرام وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أي واذكر حين جعلنا لإبراهيم مكان البيت مرجعا له بأن يكون موحدا بقلبه لرب البيت عن الشريك ومشتغلا بجسده بتنظيف البيت عن الأوثان أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً ف «أن» مفسرة ل «بوأنا» أي لا تشرك بي غرضا آخر في بناء البيت ولا تجعل في العبادة لي شريكا وكان البيت قد رفع إلى السماء أيام الطوفان وكان من ياقوتة حمراء فأعلم الله تعالى إبراهيم عليه السلام مكانه بريح أرسلها فكشفت ما حوله، فبناه على أسه الأول، وَطَهِّرْ بَيْتِيَ من الأوثان والأقذار لِلطَّائِفِينَ حوله وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) أي المصلين الجامعين بين القيام والركوع والسجود وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ أي ناد فيهم بالأمر بالحج زوي أن سيدنا إبراهيم صعد أبا قبيس فقال: يا أيها الناس حجوا بيت ربكم فأجابه يومئذ بالتلبية من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء وأول من أجابه أهل اليمن فليس حاج يحج من يومئذ إلى يوم تقوم الساعة إلا من كان أجاب إبراهيم يومئذ فمن لبى مرة حج مرة، ومن لبى مرتين حج مرتين ومن لبى أكثر حج بقدر تلبيته يَأْتُوكَ أي يأتوا البيت الذي بنيته رِجالًا أي مشاة على أرجلهم. وقرئ بضم الراء وتخفيف الجيم وتشديدها. وقرئ «رجالي» كعجالي عن ابن عباس وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ أي وركبانا على كل بعير مهزول لطول سفره يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) أي تأتي جماعة الإبل من كل طريق بعيد. وقرئ «يأتون» أي الناس لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ(2/70)
لَهُمْ
أي ليحضروا منافع مختصة بهذه العبادة كائنة لهم دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادة كحصول المغفرة والأموال وقوله تعالى: لِيَشْهَدُوا متعلق ب «يأتوك» وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ وهي أيام عشر ذي الحجة كما اختاره الشافعي وأبو حنيفة لأنه معلوم عند الناس لحرصهم على علمه من أجل أن وقت الحج في آخره. وقال ابن عباس في رواية عطاء: إن أياما معلومات يوم النحر وثلاثة أيام بعده، كما اختاره أبو مسلم وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى. والمراد بالذكر ما وقع عند الذبح كان يقول الذابح باسم الله، والله أكبر اللهم منك وإليك، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ أي لأجل ما رزقهم من الإبل والبقر والغنم، قال القفال: وكأن المتقرب بها وبإراقة دمائها متصور بصورة من يفدي نفسه بما يعادلها فكأنه يبذل تلك الشاة بدل مهجته طلبا لمرضاة الله تعالى واعترافا بأن تقصيره كاد يستحق مهجته فَكُلُوا مِنْها أي فاذكروا اسم الله على ضحاياكم فكلوا من لحومها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) .
تَفَثَهُمْ
أي ثم بعد خروجهم من الإحرام ليقطعوا أدرانهم كالشارب والأظفار والإبط والعانة وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ أي ما أوجبوه على أنفسهم ما لم يكن الحج يقتضي وجوب ذلك من الضحايا وغيرها.
وقرأ أبو بكر بفتح الواو وتشديد الفاء أي ليتموا ذلك وَلْيَطَّوَّفُوا الطواف الذي يتم به التحلل بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) أي القديم، لأنه أول بيت بني وقد أعتق من غرق الطوفان زمن نوح ومن تسلط كل جبار دخل فيه ليهدمه، وهو بيت كريم لم يملك قط. وفي قراءة أبي عمر وتحريك اللامات الثلاثة بالكسر. وفي قراءة ابن ذكوان بكسر اللامين الأخيرين. وفي قراءة الباقين بإسكان الكل ذلِكَ خبر مبتدأ محذوف ويذكر للفصل بين كلامين أي الشأن، ذلك المذكور من قوله تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنا إلى هنا أو مبتدأ خبره محذوف أي ذلك الأمر لازم لكم أو مفعول لمحذوف أي احفظوا ذلك وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ أي ومن يعظم جميع تكاليف الله تعالى من مناسك الحج وغيرها بالعمل بموجبه فتعظيمه قربة عند الله يثاب عليها في الآخرة وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ أي رخصت لكم حال الإحرام ذبيحة الأنعام وأكل لحومها إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ أي إلا ما يتلى عليكم آية تحريمه مما حرم منها لعارض كالميتة(2/71)
حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)
وما أهل به لغير الله تعالى فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ أي فاجتنبوا القذر الذي هو الأوثان فعبادة الأوثان قذر معنوي وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) أي القول المنحرف عن الواقع كالافتراء على الله تعالى بأنه حكم بتحريم البحائر والسوائب ونحوهما.
حُنَفاءَ لِلَّهِ أي مائلين عن كل دين زائغ إلى الدين الحق غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ شيئا من الأشياء وهذان حالان من واو «فاجتنبوا» فالأولى مؤسسة والثانية مؤكدة. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) أي إن بعد من أشرك بالله عن الحق كبعد من سقط من السماء فذهب كالطير حيث تشاء فإن الأهواء المردية توزع أفكاره أو قذفت به الريح في مكان بعيد، فإن الشيطان قد طرحه في وادي الضلالة. أو المعنى من أشرك بالله فقد هلكت نفسه هلاكا شبيها باستلاب الطير لحمه وتفرق أجزائه في حواصلها أو بسقوطه في المكان البعيد بعصف الريح به ذلِكَ أي الأمر ذلك التباعد لمن أشرك بالله أو امتثلوا ذلك أمر الله وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ أي معالم الحج وهي الهدايا فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) أي فإن تعظيمها من أفعال دوي تقوى القلوب وتعظيمها اعتقاد أن التقرب بها من أجل القربات وأن يختارها حسانا سمانا غالية الأثمان. روي أنه صلّى الله عليه وسلّم أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب. وأن عمر أهدى نجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار. وسميت الهدايا شعائر لتعليمها بعلامة يعرف بها أنها هدايا كطعن حديدة في سنامها وتعليق النعال في أعناقها وتعليق آذان القرب في آذان الغنم لَكُمْ فِيها أي الشعائر واجبة أو مندوبة مَنافِعُ مع تسمية الأنعام هدايا بأن تركبوها إن احتجتم إليها وتركبوها لغيركم بلا أجرة، فإن كان إركابها بأجرة حرم وإن تشربوا ألبانها الفاضلة عن ولدها إذا اضطررتم إليها إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي إلى أن تنحروها ولا تسمى الأنعام شعارا قبل أن تسمى هديا، كما اختاره الشافعي.
وروى أبو هريرة أنه صلّى الله عليه وسلّم مر برجل يسوق بدنة وهو في جهد فقال صلّى الله عليه وسلّم: «اركبها ويلك»
«1» . ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) أي ثم أعظم هذه المنافع وقت وجوب نحر الهدايا منتهية إلى الحزم كله.
قال صلّى الله عليه وسلّم: «كل فجاج منى منحر»
«2» . وَلِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم السالفة من عهد إبراهيم عليه السلام إلى من بعده جَعَلْنا مَنْسَكاً أي قربانا يتقربون إلى الله تعالى.
وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما «منسكا» بكسر السين، أي مذبحا وهو موضع ذبح القربان.
وقرأ الباقون بالفتح وهو إراقة الدم لوجه الله تعالى وهو ذبح القرابين لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ
__________
(1) رواه ابن ماجة في كتاب المناسك، باب: ركوب البدنة وأبو داود في كتاب المناسك، باب: في ركوب البدن، والنسائي في كتاب مناسك الحج، باب: ركوب البدنة، وأحمد في (م 2/ ص 254) .
(2) رواه أحمد في (م 4/ ص 82) .(2/72)
أي عند ذبحها وفي هذا تنبيه على أن المقصود الأصلي من طلب الذبائح تذكر المعبود وعلى أن القربان يجب أن يكون من الأنعام فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فلا تذكروا على ذبائحكم غير اسم الله وفي هذا بيان أن الله تعالى واحد في ذاته كما أنه واحد في إلهيته لكل الخلق فَلَهُ أَسْلِمُوا أي فإذا كان إلهكم إلها واحدا فأخلصوا له الذكر بحيث لا يشوبه إشراك ألبتة وانقادوا له تعالى في جميع تكاليفه وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) أي المتواضعين فالحج من صفات المتواضعين كالتجرد عن اللباس، وكشف الرأس، والغربة من الأوطان الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ من مشاق التكليف والمصائب، فأما ما يصيبهم من قبل الظلمة فالصبر عليه غير واجب بل إن أمكنه دفع ذلك لزمه الدفع ولو بالمقاتلة وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ في أوقاتها.
وقرأ الحسن «والمقيمي الصلاة» بنصب «الصلاة» على تقدير النون. وقرأ ابن مسعود «والمقيمين الصلاة» على الأصل وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) في وجوه الخيرات وأمر الله تعالى رسوله أن يبشر بالجنة المتواضعين المتصفين بوجل القلوب إذا أمروا بأمر من الله تعالى وبالصبر إذا أصابهم البلاء من الله تعالى وبإقامة الصلاة في وقت السفر للحج وبصدقة التطوع، أي لذلك الوجل أثران الصبر على البلايا التي من قبل الله تعالى والاشتغال بالخدمة بالنفس وبالمال وهما أعز الأشياء عند الإنسان، فالخدمة بالنفس: هي الصلاة. والخدمة بالنفس وبالمال: هي إنفاقه في وجوه الخيرات وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ أي أعلام دينه وهو مفعول ثان و «لكم» متعلق به «والبدن» عند الشافعي خاصة بالإبل، وعند أبي حنيفة الإبل والبقر لَكُمْ فِيها أي البدن خَيْرٌ أي منافع دينية ودنيوية هي درها ونسلها وصوفها وظهرها فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها أي على نحرها صَوافَّ أي قياما على ثلاث قوائم قد صفت رجليها ويدها اليمنى ويد أخرى معقولة فينحرها كذلك بأن تقولوا عند الذبح بسم الله والله أكبر اللهم منك وإليك.
وقرئ «صوافن» بضم النون. وقرئ «صوافي» أي خوالص لوجه الله تعالى، لا تشركوا بالله في التسمية أحدا على نحرها وخوالص من العيوب. وعن عمرو بن عبيد «صوافيا» بالتنوين عوضا عن حرف الإطلاق عند الوقف فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها أي سقطت على الأرض وذلك عند خروج الروح منها فَكُلُوا مِنْها إن شئتم إذا كانت الأضاحي تطوعا وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ أي الراضي بما يدفع إليه من غير سؤال وَالْمُعْتَرَّ أي الذي يعتر بالسلام ولا يسأل بل يري نفسه للناس كالزائر كَذلِكَ مع كمال عظمها ونهاية قوتها، أي فالله تعالى جعل الإبل والبقر بالصفة التي يمكننا تصريفها على ما نريد وذلك نعمة عظيمة من الله تعالى في الدنيا والدين لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) أي لتشكروا إنعامنا عليكم بالإخلاص لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ أي لن يصل إلى الله تعالى أي إلى مرضاته لحوم القرابين ولا دماؤها، ولكن يقبل(2/73)
الله الأعمال الطاهرة منكم فمنها التصديق باللحم: وهو من عمل العبد فيرفع إلى الله وأما نفس اللحم المتصدق به: فلا يرفع إلى الله. والمعنى: إن الله لا يثيبكم على لحمها إلا إذا وقع موقعا من وجوه الخير وهو امتثال أمره تعالى وتعظيمه والإخلاص له تعالى.
وروي أنهم كانوا في الجاهلية يضربون لحم الأضاحي على حائط الكعبة ويلطخونها بدمها فأراد المسلمون أن يفعلوا فعل المشركين من الذبح وتشريح اللحم منصوبا حول الكعبة وتضميخ الكعبة بالدم تقربا إلى الله تعالى فنزلت هذه الآية: كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ أي إنما سخّر الله تعالى البدن لكم هكذا لتشكروا الله تعالى على إرشادكم إلى أعلام دينكم وإلى كيفية التقرب بها، وإلى طريق تذليلها ولتقولوا: الله أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أولانا وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
أي المخلصين في كل ما يأتون وما يذرون في أمور دينهم إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو «يدفع» بفتح الياء وسكون الدال وفتح الفاء والباقون بضم الياء وفتح الدال مع الألف وكسر الفاء أي يبالغ في دفع ضرر المشركين عن الذين آمنوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ في أمانات الله تعالى وهي أوامره ونواهيه كَفُورٍ (38) لنعمته وهم المشركون فإنهم أقروا بالصانع وعبدوا غيره فأي خيانة أعظم من هذا أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ.
قرأ أهل المدنية والبصرة وعاصم في رواية حفص «أذن» بالبناء للمجهول. والباقون بالبناء للفاعل. وقرأ أهل المدنية وعاصم «يقاتلون» بالبناء للمفعول. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي ببناء الفعلين للفاعل وأبو عمرو وأبو بكر بناء الأول للمفعول والثاني للفاعل. وابن عامر عكس هذا أي أذن الله بعد الهجرة للذين يريدون قتال المشركين في أن يقاتلوا بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا قيل:
نزلت هذه الآية في قوم خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدنية فاعترضهم مشركو مكة فأذن الله لهم في قتال الكفار الذين يمنعونهم من الهجرة بسبب أنهم مظلمون بالإيذاء. وقيل: كان مشركو مكة يؤذون أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أذى شديدا، وكانوا يأتونه صلّى الله عليه وسلّم من بين مضروب ومشجوج يشكون إليه فيقول لهم: اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر فأنزل الله تعالى هذه الآية. وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ أي نصر المؤمنين الذين يقاتلهم المشركون عليهم لَقَدِيرٌ (39) وعد الله للمؤمنين بالنصر على طريق الكناية كما وعد بدفع أذى الكفار عنهم الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ مكة المعظمة فالموصول إما نعت للموصول الأول أو الثاني، أو بيان له أو بدل منه، وإما منصوب على المدح أو مرفوع بإضمار مبتدأ على المدح بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ. وهذا بدل من حق أي أنهم أخرجوا من مكة بغير سبب إلا بقولهم: ربنا الله وحده ومحمد رسوله إلينا، فالتوحيد هو الذي ينبغي أن يكون سبب التمكين في مكة لا سبب الإخراج فالإخراج به إخراج بغير حق وَلَوْلا دَفْعُ(2/74)
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50)
اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ
بتسليط المؤمنين على الكافرين في كل زمان لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ للرهبانية وَبِيَعٌ للنصارى وَصَلَواتٌ أي كنائس لليهود وَمَساجِدُ للمسلمين يُذْكَرُ فِيهَا أي في هذه المواضع الأربعة اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً.
قال الزجاج: أي ولولا دفاع الله أهل الشرك بالمؤمنين بالإذن لهم في جهادهم لاستولى أهل الشرك على أهل الأديان وعطلوا مواضع عبادات المؤمنين منهم فهدم في شرع كل نبي المكان الذي يصلى فيه، فلولا ذلك الدفع لهدم في زمن موسى الكنائس التي كانوا يصلون فيها في شرعه. وهي المسماة بالصلوات، وهي كلمة معربة أصلها بالعبرانية: «صلوثا» بفتح الصاد والثاء المثلثة والقصر وبه قرئ في الشواذ. ومعناه في لغتهم «مصلى» ، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع وهما للنصارى. لكن الصوامع هي التي يبنونها في الصحارى والبيع هي التي يبنونها في البلدان، وفي زمن نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم المساجد.
وقرأ نافع «دفاع» بكسر الدال وفتح الفاء مع الألف وقرأ نافع وابن كثير «لهدمت» بتخفيف الدال وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ أي من ينصر دينه وأولياءه بأن يظفرهم بأعدائهم بالتجلد في القتال، وبإيضاح الأدلة وبالإعانة على الطاعات إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ على هذه النصرة التي وعدها للمؤمنين عَزِيزٌ (40) أي لا يمنعه شيء وقد أنجز الله وعده بأن سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب، وأكاسرة العجم وقياصرتهم، وأورثهم، أرضهم وديارهم.
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ أي المأذون لهم في القتال المخرجون من ديارهم هم الذين إن أعطيناهم السلطنة ونفاذ القول على الخلق أتوا بالأمور الأربعة هي: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهذا دليل على صحة إمامة الخلفاء الأربعة لأن الله تعالى لم يعط نفاذ الأمر غيرهم من المهاجرين. أما الأنصار فلم يخرجوا من ديارهم وفي هذه الآية إخبار من الله تعالى بالغيب عما تكون عليه سيرة المهاجرين إن أعطاهم السلطنة على الأرض وثناء منه تعالى عليهم قبل إحداثهم الخير وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) وفي هذه إشارة إلى حضور سلطنة من أخرجهم كفار مكة ووقوع ملكه مع السيرة العادلة- وهم الخلفاء الراشدون- ثم إن الأمور ترجع إلى الله تعالى في العاقبة فإنه تعالى هو الذي لا يزول ملكه أبدا، وفي هذا تأكيد للوعد بإعلاء دينه تعالى وإظهار أوليائه وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى أي وإن تحزن يا أشرف الخلق على تكذيب قومك إياك فأنت يا أكرم الرسل لست بأوحدي في التكذيب، فتسل بهم فإنه قد كذب سائر الأمم أنبياءهم قبل تكذيب قومك إياك. كذب قوم نوح الذين هم من أشد الناس نوحا عليه السلام، وكذب قوم هود الذين هم ذوو الأبدان الشداد هودا عليه السلام، وكذب قوم صالح الذين هم أولوا الأبنية الطوال في الجبال والسهول صالحا(2/75)
عليه السلام، وكذب قوم إبراهيم المتكبرون إبراهيم عليه السلام، وكذب قوم لوط الأنجاس لوطا عليه السلام، وكذب قوم شعيب أرباب الأموال المجموعة شعيبا عليه السلام، وكذب أهل مصر وهم القبط موسى عليه السلام، فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ أي أمهلتهم حتى انصرمت حبال آجالهم ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بعذاب الاستئصال فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) أي فانظر يا سيد الرسل كيف كان تغييري عليهم، فإن الله غيّر حياتهم بإهلاكهم بعذاب الاستئصال وعمارتهم بالخراب فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها.
وقرأ أبو عمرو ويعقوب «أهلكتها» على وفق «فأمليت» ثم «أخذتهم» ، أي فأهلكنا كثيرا من القرى بإهلاك أهلها، وَهِيَ ظالِمَةٌ أي كافرا أهلها. وهذه جملة حالية من مفعول أهلكنا فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أي فهي ساقطة حيطانها على سقوفها، بأن خرت سقوفها على الأرض، ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف، أو فهي خالية عن الناس مع بقاء عروشها، وهذه معطوفة على «أهلكناها» فلا محل لها من الاعراب إن جعلت أهلكناها مفسرة لمضمر ناصب ل «كائن» ، ومحلها رفع إن جعل خبرا ل «كأين» وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ أي وكم بئر عامرة كثيرة الماء متروكة لا يستسقى منها لهلاك أهلها. وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أي مرفوع البنيان أو مجصص أخليناه عن ساكنه.
روى أبو هريرة أن هذه البئر نزل عليها صالح مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به ونجاهم الله تعالى من العذاب وهم ب «حضرموت» وإنما سميت بذلك لأن صالحا حين حضرها مات. ثمّ وثمّ بلدة عند البئر اسمها «حاضورا» بناها قوم صالح، وأمّروا عليها حاسر بن جلاس، وجعلوا وزيره سنجاريب وأقاموا بها زمانا ثم كفروا وعبدوا صنما وأرسل الله تعالى إليهم حنظلة بن صفوان نبيا فقتلوه في السوق، فأهلكهم الله تعالى وعطّل بئرهم، وخرّب قصورهم. وعلى هذا فالمراد بالبئر بئر بسفح جبل بحضرموت وبالقصر مشرف على قلته أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي أغفل أهل مكة فلم يسافروا في تجاراتهم فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها ما يجب أن يعقل من التوحيد بسبب ما شاهدوه من مواد الاعتبار أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها ما يجب أن يسمع من أخبار الرسول فَإِنَّها الضمير للقصة يفسره ما بعده لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) أي ليس الخلل في مشاعرهم، وإنما هو في عقولهم، باتباع الهوى والانهماك في الغفلة، والاعتماد في التقليد وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ أي تطلب قريش كالنضر بن الحرث أن تأتيهم بالعذاب عاجلا استهزاء بك وتعجيزا لك على زعمهم.
وكان رسول الله يهددهم بنقمات الله دنيا وأخرى، وهم يقولون: إن ما حذرتنا به لا يقع، وإنه لا بعث، فذكر الله تعالى نزول العذاب بهم في الدنيا والآخرة بقوله تعالى: وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ في إنزال العذاب بكم في الدنيا، وقد أنجز الله وعده يوم بدر، فقتل منهم سبعون، وأسر منهم سبعون وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) أي وإن يوما من أيام عذابكم في الآخرة كألف سنة من سني الدنيا في كثرة الآلام وشدتها، فلو عرفوا حال عذاب الآخرة أنه بهذا الوصف لما استعجلوه.(2/76)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)
وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي بالياء التحتية فيكون مناسبا لقوله: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ.
وقرأ الباقون بالتاء فيكون التفاتا وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ أي وكم من أهل قرية أخرت إهلاكهم مع استمرارهم على ظلمهم فاغتروا بذلك التأخر ثُمَّ
أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ
(48) أي ثم عاقبت أهل تلك القرية في الدنيا، بأن أنزلت العذاب بهم، ومع ذلك فعذابهم مدخر في الآخرة فإذا رجعوا إليّ بهم ما يليق بأعمالهم قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ أي يا أهل مكة إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) أي إنما أنذركم إنذارا بينا بما أوحي إلي من أنباء الأمم المهلكة وليس بي تعجيل للعذاب ولا تأخير، وإنما بعثت للإنذار فاستهزاؤكم بذلك لا يمنعني منه فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ من الذنوب الصغائر والكبائر وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) أي ثواب حسن في الجنة
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا أي الذين اجتهدوا في إبطال آياتنا حيث قالوا: شعر أو سحر أو أساطير الأولين، مُعاجِزِينَ أي معارضين المؤمنين، فكلما طلب المؤمنون إظهار الحق طلب هؤلاء إبطاله. أو ظانين عجزنا عنهم بأن لا يدركهم عذابنا! وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «معجزين» بتشديد الجيم بعد العين المفتوحة، أي مثبطين الناس عن الإيمان، أو طامعين في عجز الرسول بالمكايد ظانين ذلك. أُولئِكَ الموصوفون بالسعي في إبطال القرآن واعتقاد العجز لله أو للرسول، أو للمؤمنين. أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51) أي ملازمو النار الموقدة. وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أي إذا قرأ النبي أو الرسول أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ، أي في قراءة ذلك النبي أو الرسول. وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يرتّل قراءته للقرآن، فارتصد الشيطان سكتته، ونطق بقوله:
«تلك الغرانيق العلا ... وإن شفاعتهن لترتجى»
محاكيا نغمة النبي صلّى الله عليه وسلّم بحيث يسمعه من دنا إليه، فظنها من قول النبي وأشاعها وفي هذا إخبار من الله تعالى بأن رسله إذا قالوا قولا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه محاكيا صوتهم، فهذا نص في أن الشيطان زاد في قول نبينا صلّى الله عليه وسلّم، لأن نبينا قاله لأنه معصوم. وفي هذه الآية تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه قد حزن بذلك، وشبهت الأصنام بالغرانيق التي هي طيور الماء، التي تعلوا في السماء، وترتفع لاعتقاد الكفار أنها تقرّبهم من الله تعالى وتشفع لهم، وإنما سميت القراءة أمنية لأن القارئ إذا انتهى إلى آية رحمة تمنى حصولها، وإذا انتهى إلى آية عذاب تمنى أن لا يبتلى به فَيَنْسَخُ اللَّهُ أي يزيل ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ أي يثبت الله القرآن لنبيه لكي يعمل بها وَاللَّهُ عَلِيمٌ بمصالح عباده المخلصين حَكِيمٌ (52) فيما يجري عليهم من الأعمال والأحوال، ومن حكمته تعالى فيما يلقي الشيطان لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شك- وهم المنافقون- وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ، وهم المشركون المصرون على جهلهم ظاهرا وباطنا، فيرون الباطل حقا فأثبتوه ونفوا الحق فأبعدهم الله بهذا الامتحان عن حضرته وَإِنَّ الظَّالِمِينَ أي هؤلاء المنافقين والمشركين لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) أي عداوة شديدة.(2/77)
قالت قريش: ندم محمد على ذكر منزلة آلهتنا عند الله فغير ذلك، وكانت الكلمتان اللتان زادهما الشيطان في قول نبينا صلّى الله عليه وسلّم قد وقعتا في فم كل مشرك، فازدادوا شرا على ما كانوا عليه، وشدة على من أسلم. وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي الذين رزقوا حسن بصيرة الذين يميزون بها بين الحق والباطل، أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أي أن القرآن هو الحق النازل من عند ربك فَيُؤْمِنُوا بِهِ أي فيثبتوا على الإيمان بالقرآن، فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ أي فتنقاد قلوبهم بالقبول لما في القرآن من الأوامر والنواهي. وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا في الأمور الدينية إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) أي إلى نظر صحيح موصل إلى الحق الصريح وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ أي في شك من القرآن حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ أي القيامة نفسها بَغْتَةً أي فجأة من دون أن يشعروا أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) أي عذاب يوم لا يوم بعده فيستمر ذلك اليوم كاستمرار المرأة على تعطل الولادة.
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ أي في يوم عقيم لِلَّهِ وحده فلا يكون فيه لأحد تصرف من التصرفات في أمر من الأمور لا حقيقة ولا مجازا ولا صورة لأحد ولا معنى كما في الدنيا، فإنه تعالى ملك فيها الأمور غيره صورة يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ، أي بين المؤمنين بالقرآن والممارين فيه، فَالَّذِينَ آمَنُوا امتثالا بما أمروا فيه فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) يكرمون بالتحف فضلا من الله وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أي أصروا على ذلك فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57) ، أي شديد بسبب معاصيهم. أما إعطاء الثواب فبفضل الله لا بأعمالهم كما هو حكمة ذكر الفاء وتركه في الجانبين وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي هاجروا إلى المدينة لنصرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وللتقرب إلى الله تعالى ثُمَّ قُتِلُوا أي قتلهم العدو.
وقرأ ابن عامر بتشديد التاء أَوْ ماتُوا في سفر أو حضر من غير قتل لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً لا ينقطع أبدا من نعيم الجنة لاستواء النوعين في القصد وأصل العمل.
وروي أن بعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم قالوا: يا نبي الله هؤلاء الذين قتلوا في سبيل الله قد علمنا ما أعطاهم الله تعالى من الخير ونحن نجاهد معك، كما جاهدوا، فما لنا إن متنا معك! فنزلت هذه الآية: وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) فإن ما يرزقه لا يقدر عليه أحد غيره والرزق الصادر منه لمحض الإحسان وإن غيره إنما يدفع الرزق من يده ليد غيره ولا يفعل نفس الرزق، ويرزق لانتفاعه إما لأجل خروجه عن الواجب أو لأجل أن يستحق بالإعطاء ثناء أو عوضا، أو لأجل الرقة الجنسية. وأما الله تعالى فإن كماله صفة ذاتية له فلا يستفيد من أحد كمالا زائدا فهو يرزق بغير حساب لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ بأن يدخلهم الجنة من غير مكروه تقدم إدخالا فوق ما يتمنونه ومدخلا فوق الذي يهوونه.
وقيل: هو خيمة من درة بيضاء لا فصم فيها ولا وصم، لها سبعون ألف مصراع. وقال ابن عباس: إنهم يرون في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر فيرضونه ولا يبغون عنها حولا.(2/78)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)
وقرأ نافع «مدخلا» بفتح الميم أي مكانا. وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ بما يرضونه وبما يستحقونه فيعطيهم ذلك في الجنة ويزيدهم. حَلِيمٌ (59) فلا يعجل من عصاه بالعقوبة لتقع التوبة منه فيستحق الجنة. ذلِكَ أي الأمر ذلك الذي قصصناه عليك من إنجاز الوعد للمهاجرين الذين قتلوا أو ماتوا وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ أي والذي قاتل من كان يقاتله من الكفار، ثم إن القاتل ظلم عليه بأن ألجئ إلى مفارقة الوطن، وابتدئ بالقتال لينصرن الله المظلوم على الظالم. قوله: بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ الباء الأولى: للآلة، والثانية:
للسببية. والعقاب مأخوذ من التعاقب. وهي مجيء الشيء بعد غيره.
قال مقاتل: نزلت هذه الآية في قوم من المشركين لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم. فقال بعضهم لبعض: إن أصحاب محمد يكرهون القتال في الشهر الحرام، فاحملوا عليهم، فناشدهم المسلمون أن يكفوا عن قتالهم لحرمة الشهر فأبوا، وقاتلوهم، وثبت المسلمون لهم فنصروا عليهم فحصل في أنفس المسلمين من القتال في الشهر الحرام شيء، فأنزل الله تعالى هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ عن هذه الإساءة غَفُورٌ (60) لهم ما صدر عنهم من ترجيح الانتقام على العفو والصبر المطلوب إليهما وإنما عفا عنهم ذلك مع كونه محرما إذ ذاك، لأنهم فعلوه دفعا للصائل فكان من نوع الواجب عليهم. وهذا تنبيه على أنه تعالى قادر على العقوبة، إذ لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده
ذلِكَ أي النصر بسبب أنه تعالى قادر، ومن آيات قدرته كونه خالق الليل والنهار فذلك قوله تعالى: بِأَنَّ اللَّهَ تعالى يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أي بسبب أن الله تعالى يزيد في أحد الملوين ما ينقص من الآخر من الساعات أو يحصل ظلمة أحدهما في مكان ضياء الآخر وعكسه، وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بكل المسموعات بَصِيرٌ (61) بجميع المبصرات أي أن الله كما يقدر على ما لا يقدر عليه غيره، فكذلك يدوم الاتصاف بالسمع والبصر فلا يحتاج لسمعه إلى سكون الليل ولا لبصره إلى ضياء النهار ذلِكَ أي الإنصاف بكمال القدرة والعلم بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أي الثابت الذي يمتنع عليه التغير في ذاته وصفاته فعبادته هو الحق وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ أي وأن ما يعبده المشركون من غير الله هو الباطل ألوهيته، وأنه معدوم في حد ذاته.
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر، وشعبة بالتاء على خطاب المشركين. وقرئ بالبناء للمفعول على أن «الواو» عائد ل «ما» فإنه كناية عن الآلهة وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أي وأن الله هو القاهر الذي لا يغلب القادر على الضر والنفع العظيم في سلطانه الذي لا تدرك حقيقته أَلَمْ تَرَ أي ألم تعلم أيها المخاطب أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً
أي فتصير الأرض نامية بما فيه رزق العباد وعمارة البلاد إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ أي رحيم بعباده في إخراج النبات خَبِيرٌ (63) أي عالم بمقادير مصالحهم، وبما في قلوبهم لَهُ ما فِي(2/79)
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فكل ذلك منقاد له. وهو تعالى غير ممتنع من التصرف فيه وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أي الغني عن الأشياء كلها، لأنه كامل لذاته والكامل لذاته غني عن كل ما عداه في كل الأمور، ولكنه لما خلق الحيوان خلق الأشياء رحمة للحيوانات، لا لحاجة إلى ذلك وكان إنعامه تعالى خاليا عن غرض عائد إليه فكان مستحقا للحمد فوجب أن يكون حميدا أَلَمْ تَرَ أيها المخاطب أَنَّ اللَّهَ تعالى سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ أي جعل ما فيها معدا لمنافعكم فلا أصلب من الحجر، ولا أشد من الحديد ولا أهيب من النار وهي مذللة لكم، وذلل لكم الحيوانات حتى تنتفعوا بها من حيث الأكل والركوب والحمل عليها، والانتفاع بالنظر إليها فلولا تسخيره تعالى الإبل والبقر والخيل لما انتفع بها أحد وَالْفُلْكَ معطوف على ما أو على اسم «أن» تَجْرِي فِي الْبَحْرِ حال من الفلك أو خبر بِأَمْرِهِ أي بإذنه فلولا أن الله سخر السفن بالماء والرياح لجريها لكانت تغوص أو تقف وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ أي ويمنع السماء من أن تقع على الأرض إِلَّا بِإِذْنِهِ أي إلا بمشيئته وذلك يوم القيامة، لأن النعم المتقدمة لا تكمل إلا بإمساك السماء من السقوط، لأنه جرم ثقيل مسكن الملائكة لا بد له من السقوط لولا مانع يمنع منه وهو القدرة، فأمسكها الله بقدرته لئلا تقع إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) حيث هيأ لهم أسباب معاشهم، وفتح عليهم أبواب المنافع وأوضح لهم مناهج الاستدلال بالآيات التكوينية والتنزيلية وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ بعد أن كنتم نطفا، بعد أن كنتم معدومين ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انقضاء آجالكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ يوم القيامة للثواب والعقاب إِنَّ الْإِنْسانَ أي المشرك كبديل بن ورقاء الخزاعي والأسود بن عبد الأسد، وأبي جهل، والعاص بن وائل، وأبيّ بن خلف. لَكَفُورٌ (66) أي جحود لنعم الله مع ظهورها حيث ترك توحيده تعالى لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ أي لكل أمة معينة وضعنا شريعة خاصة تلك الأمة المعينة عاملون بها، فالأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث نبينا منسكهم الإنجيل، هم عاملون به لا غيرهم. وأما الأمة الموجودة عند مبعث النبي ومن بعدهم إلى يوم القيامة فهم أمة واحدة منسكهم الفرقان ليس إلا فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ أي يجب على أرباب الملأ أن يتبعوك وأن يتركوا مخالفتك في أمر الدين وقد استقر الأمر الآن على شرعك وَادْعُ إِلى رَبِّكَ أي ادعهم إلى شريعتك ولا تخص بالدعاء إلى توحيد ربك أمة دون أمة فكلهم أمتك. إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) أي على أدلة دين واضحة موصلة إلى الله تعالى، وَإِنْ جادَلُوكَ أي إن عدلوا عن النظر في هذه الأدلة إلى طريق المجادلة والتمسك بالعادة فَقُلِ لهم على سبيل التحذير من حكم يوم القيامة، الذي يتردد بين جنة لمن قبل ونار لمن أنكر: اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) من المجادلة الباطلة وغيرها. اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ أي يفصل بين المؤمنين منكم والكافرين يَوْمَ الْقِيامَةِ بالثواب والعقاب فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) من أمر الدين، فتعرفون حينئذ(2/80)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
الحق من الباطل أَلَمْ تَعْلَمْ أي قد علمت يا أشرف الخلق أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ فلا يخفى عليه شيء مما يقوله الكفرة وما يعملونه. إِنَّ ذلِكَ أي ما في السماء والأرض فِي كِتابٍ أي لوح محفوظ إِنَّ ذلِكَ أي إن علم ما في السماء والأرض بغير الكتاب جملة وتفصيلا عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) أي هين وإن تعذر على الخلق.
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ أي ويعبد كفار مكة متجاوزين عبادة الله ما لم ينزل الله بجواز عبادته حجة من جهة الوحي، وما ليس لهم بجواز عبادته علم من دليل عقلي، أي أن عبادتهم لغير الله من الأصنام ليست مأخوذة من دليل سمعي ولا من دليل عقلي بل هو من تقليد أو جهل أو شبهة فوجب أن يكون ذلك باطلا وَما لِلظَّالِمِينَ أي المشركين مِنْ نَصِيرٍ (71) أي ليس لهم ناصر في مذهبهم بالحجة ولا في دفع عذاب الله عنهم، وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا أي القرآن بَيِّناتٍ أي واضحات في الدلالة على العقائد الحقة والأحكام الصادقة. تَعْرِفُ يا أشرف الخلق فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا بالقرآن الْمُنْكَرَ أي الكراهية للقرآن وأثر الغضب يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا أي يكادون يثبون على من يقرءوا القرآن عليهم بالبطش من فرط الغضب. قُلْ ردا عليهم: أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ أي أخاطبكم فأخبركم بأشر من غيظكم على التالين، وقهركم عليهم ومن الضجر بسبب ما تلي عليكم. النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا إذا ماتوا على الكفر. ف «النار» إما مبتدأ وخبره ما بعده، أو خبر مبتدأ مقدر. وقرأه زيد بن علي، وابن أبي عبلة بالنصب على الاختصاص أو على أنه منصوب بفعل مقدر يفسره ما بعده.
وقرأه ابن أبي إسحاق، وإبراهيم بن نوح بالجر بدلا من شر وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) النار.
يا أَيُّهَا النَّاسُ أي يا أهل مكة ضُرِبَ مَثَلٌ أي بيّن لكم حال عجيبة غريبة فَاسْتَمِعُوا لَهُ أي تدبروا المثل حق تدبره إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً أي أن الأصنام الذين تعبدونهم لن يقدروا على خلق الذباب مع صغره وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ أي لخلقه أي تعاونوا على خلقه فكيف يليق بالعاقل جعل الأصنام معبودا وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ أي وإن يأخذ الذباب من الأصنام شيئا من الطيب والعسل الذي لطخوا عليها لا تسترده من الذباب.
قال ابن عباس: إنهم كانوا يطلون الأصنام بالزعفران ورؤوسها بالعسل ويغلقون عليها الأبواب فيدخل الذباب من الكوى فيأكله ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) .
قال ابن عباس: أي ضعف الذباب والصنم، فالذباب طالب ما يأخذه من الذي على الصنم. وقال الضحاك: أي ضعف العابد والمعبود ولو حققت وجدت الصنم أضعف من الذباب وعابده أجهل من كل جاهل وأضل من كل ضال ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عرفوا الله حق معرفته حيث أشركوا به وسموا باسمه ما هو أبعد الأشياء عنه مناسبة إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ على خلق(2/81)
الممكنات بأسرها وإفناء الموجودات عن آخرها عَزِيزٌ (74) أي غالب على جميع الأشياء اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا إلى بني آدم كجبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل والحفظة وَمِنَ النَّاسِ أي ويختار من الناس رسلا مختصين بالنفوس الزكية كإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلوات الله عليهم. نزلت هذه الآية لما قال الوليد بن المغيرة مع موافقة الباقي لم ينزل على محمد القرآن لأنه ليس بأكبرنا ولا بأشرفنا. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لمقالتهم. بَصِيرٌ (75) بأفعالهم، وبمن يستحق الرسالة يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي يعلم الله ما عملوه وما سيعملونه من أمور الدنيا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) . وهذا إشارة إلى التفرد بالإلهية والحكم، وإلى الزجر عن مباشرة المعصية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا أي ارجعوا من تكبر قيام الإنسانية إلى تواضع الحيوانية وذلة النباتية. قال ابن عباس: إن الناس كانوا في أول الإسلام يركعون ولا يسجدون حتى نزلت هذه الآية: وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ بسائر ما كلفكم به خالصا لوجهه وَافْعَلُوا الْخَيْرَ واجبا ومندوبا وتوجهوا إلى الله تعالى في جميع أحوالكم لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) أي لتظفروا بنعيم الجنة، أي افعلوا هذه كلها وأنتم راجون بها الفلاح، غير متيقنين أنها مقبولة عند الله تعالى والعواقب مستورة وكل ميسر لما خلق له: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ أي لله أعداء دينه الظاهرة والباطنة من أهل الضلال والهوى والنفس حَقَّ جِهادِهِ أي جهادا من أجل الله، حقا لا رغبة في الدنيا من حيث الاسم أو الغنيمة. هُوَ اجْتَباكُمْ أي اختاركم للاشتغال بطاعته من بين سائر البريات وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ أي في أمر الدين مِنْ حَرَجٍ أي ضيق بتكليف ما يشق عليكم إقامته. مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ أي سهل الله عليكم الدين مثل ملة أبيكم إبراهيم، فإنه أبو رسول الله وهو كالأب لأمته، ولأن أكثر العرب كانوا من ذرية إبراهيم فغلبوا على غيرهم هُوَ أي الله. كما قرأ أبيّ بن كعب.
سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ أي قبل هذا القرآن في كتب الأنبياء وَفِي هذا أي القرآن بقوله تعالى: ورضيت لكم الإسلام دينا. وقيل: الله سماكم المسلمين في الأزل من قبل أن خلقكم وبعد أن خلقكم لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ يوم القيامة بأنه بلغكم وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ أي الأمم الماضية، بتبليغ الرسل إليهم فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ أي فلما خصكم الله بهذه الكرامة، فاعبدوه وتقربوا إلى الله بأنواع الطاعات وتخصيصهما بالذكر لفضلهما. وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ.
قال القفال: أي اجعلوا الله عصمة لكم مما تحذرون. وقال ابن عباس: أي سلوا الله العصمة عن كل المحرمات أي ولا تطلبوا الإعانة في كل الأمور إلا منه تعالى. هُوَ مَوْلاكُمْ
أي حافظكم. فَنِعْمَ الْمَوْلى أي الحافظ. وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) بل فلا حافظ ولا ناصر في الحقيقة سواه تعالى.(2/82)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)
سورة المؤمنون
مكية، مائة وثمان عشرة آية عند الكوفيين، وتسع عشرة عند البصريين، ألف وثمانمائة وأربعون كلمة أربعة آلاف وثمانمائة حرف
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) أي فازوا بالمراد. وقرأ طلحة بن مصرف «أفلح» على البناء للمفعول، أي أدخلوا في الفلاح الذي هو الوصول إلى الله تعالى. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) أي خاضعون للمعبود بالقلب، غير ملتفتين بالخواطر إلى شيء سوى التعظيم ساكنون بالجوارح، مطرقون ناظرون إلى مواضع سجودهم لا يلتفتون يمينا ولا شمالا، ويرفعون أيديهم. والخشوع من فروض الصلاة عند الغزالي. والحضور عندنا ليس شرطا للإجزاء بل شرط للقبول كما قاله الرازي وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) أي الذين هم تاركون لما لا حاجة إليه في أمور الدين والدنيا من الأقوال والأفعال في عامة أوقاتهم وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4) أي مؤدّون وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) أي ممسكون فلا يرسلونها على أحد إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ أي سراريهم فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) على عدم حفظها منهن إذا كان إتيانهن على وجه الحلال فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ أي فمن طلب غير ذلك المستثنى كإتيان بهيمة أو زنا أو لواط، أو استمناء بيد، فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) أي الكاملون في مجاوزة الحدود وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) أي قائمون بحفظ وإصلاح فكل ما يكون تركه داخلا في الخيانة فهو أمانة، والعهد هو ما عقده العبد على نفسه فيما يقربه إلى الله تعالى، وما أمر الله تعالى به، وذلك كالوضوء والاغتسال من الجنابة والصلاة، والصوم، والودائع، والأسرار وغير ذلك.
وقرأ نافع وابن كثير «لأمانتهم» بالإفراد. وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9) لشروطها من وقت وطهارة وغيرهما، ولأركانها.
وقرأ حمزة والكسائي «صلاتهم» بالإفراد أُولئِكَ أي المؤمنون المتصفون بتلك الصفات هُمُ الْوارِثُونَ (10)
الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ.(2/83)
روي أن الله تعالى بنى جنة الفردوس لبنة من ذهب، ولبنة من فضة وجعل خلالها المسك الأذفر، وغرس فيها من جيد الفاكهة وجيد الريحان.
وروى أبو أمامة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «سلوا الله الفردوس فإنها أعلى الجنان وإن أهل الفردوس يسمعون أطيط العرش»
«1» . وسمى استحقاقهم الفردوس إرثا بأعمالهم بحسب وعده تعالى، لأن انتقال الجنة إليهم بدون محاسبة ومعرفة بمقاديرها هُمْ فِيها أي الفردوس خالِدُونَ (11) لا يموتون ولا يخرجون منها أبدا. وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ أي جنس الإنسان مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) أي من خلاصة كائنة من طين ثُمَّ جَعَلْناهُ أي السلالة نُطْفَةً أي منيا، أربعين يوما فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) أي مكان حريز. فإن الله تعالى خلق جوهر الإنسان أولا طينا، ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة في صلب الأب فقذفه الصلب بالجماع إلى رحم الأم فصار الرحم مستقرا حصينا لهذه النطفة ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً أي ثم صيرنا المني الأبيض دما جامدا أربعين يوما، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً أي ثم صيرنا الدم الجامد الأحمر لحما صغيرا، مقدار ما يمضغ أربعين يوما فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً أي فصيرنا اللحم الصغير عظاما بلا لحم بأن صلبناها وجعلناها عمودا للبدن على هيئات مخصوصة من رأس ورجلين وما بينهما. فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً وشددناها بالأعصاب والعروق. فاللحم يستر العظام كالكسوة.
وقرأ ابن عامر وأبو بكر «عظما» و «العظم» بالإفراد في الموضعين. ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ أي حولنا العظام المستورة باللحم عن صفاتها إلى صفة لا يحيط بها شرح الشارحين فإن الله جعلها حيوانا ناطقا، سميعا بصيرا، عاقلا. وأودع كل جزء من أجزائه عجائب وغرائب لا يحيط بها وصف الواصفين فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) أي فتعالى شأن الله تعالى أتقن المحولين ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ أي التركيب بالأمور العجيبة لَمَيِّتُونَ (15) أي لصائرون إلى الموت.
وقرأ ابن أبي عبلة وابن محيص «لمائتون» . ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي عند النفخة الثانية تُبْعَثُونَ (16) من قبوركم للحساب والمجازاة بالثواب والعقاب. وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ أي سبع سموات طرائق بعضها فوق بعض وإنما قيل للسموات: طرائق لتطارقها، أي لكون بعضها موضوعا فوق بعض طاقا فوق، كمطارقة النعل. فجعل الله في السموات موضعا لأرزاقنا بإنزال الماء منها. وكان نزول الوحي ومقرا للملائكة وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17) بل كنا حافظين لهم عن أن تسقط عليهم الطباق السبع فتهلكهم، ولسنا تاركين لهم بلا أمر ولا نهي،
__________
(1) رواه الحاكم في المستدرك (2: 371) ، والطبراني في المعجم الكبير (8: 294) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (3184) ، بما معناه.(2/84)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
ولا غافلين من أعمالهم ومصالحهم. وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ أي بتقدير لائق لاستجلاب منافعهم ودفع مضارهم.
قال الرازي: إن الله تعالى أصعد الأجزاء المائية من قعر الأرض إلى البحار منافعهم، ومن البحار إلى السماء حتى صارت عذبة صافية بسبب ذلك التصعيد، ثم ينزلها على قدر الحاجة إليها اه-. وفي الأحاديث: «إن الماء كان موجودا قبل خلق السموات والأرض، ثم جعل الله منه في السماء ماء وفي الأرض ماء» «1» . فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ أي جعلناه قارا فيها بعضه في بطنها وبعضه على ظهرها كالأنهار والغدران والعيون وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ أي على إزالته بالإفساد أو بالتصعيد أو بالتغوير في الأرض لَقادِرُونَ (18) كما كنا قادرين على إنزاله فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ أي بذلك الماء جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ. وإنما ذكرهما الله تعالى لكثرة منافعهما فإنهما يقومان مقام الطعام ومقام الإدام ومقام الفواكه رطبا ويابسا لَكُمْ فِيها أي البساتين فَواكِهُ كَثِيرَةٌ من ألوان شتى وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) أي ترزقون، وتحصلون معايشكم أي تتنعمون بفوائد البستان وتتعيشون بها وَشَجَرَةً أي وأنشأنا لكم زيتونة تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ وهو جبل نودي منه موسى عليه السلام بين مصر وأيلة. وقيل: في فلسطين. ومن قرأ بفتح السين منع الصرف لألف التأنيث الممدودة.
ومن قرأ بكسرها وهو نافع وابن كثير، وأبو عمرو فقد منع الصرف للعلمية والعجمة، فإن الهمزة ليست للتأنيث بل للإلحاق بقرطاس. قيل: إن الزيتونة أول شجرة نبتت بعد الطوفان. تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ أي تخرج الدهن.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «تنبت» بضم التاء وكسر الباء، أي تنبت الشجرة زيتونها وفيه الزيت وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) معطوف على الدهن أي تنبت الشجرة بالشيء الجامع بين كونه دهنا يدهن به ويسرج منه وكونه إداما يغمس الخبز فيه للائتدام
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ أي الإبل لَعِبْرَةً تستدلون بأحوالها على تعظيم قدرة الله تعالى وسابغ رحمته وتشكرونه نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها أي تنتفعون بلبنها في الشرب وغيره. ووجه الاعتبار في اللبن أنه يجتمع في الضرع ويتخلص من بين الفرث والدم بإذن الله تعالى فيستحيل إلى طهارة ولون وطعم موافق للشهوة ويصير غذاء، فهذا اللبن الذي يخرج من بطونها إلى ضرعها تجده شرابا طيبا نافعا للبدن، وإذا ذبحتها لم تجد له أثرا، فمن استدل بذلك على قدرة الله تعالى وحكمته كان ذلك معدودا من النعم الدينية ومن انتفع به كان معدودا من النعم الدنيوية وَلَكُمْ فِيها أي الأنعام. مَنافِعُ كَثِيرَةٌ كالانتفاع بثمنها وأجرتها وَمِنْها أي الأنعام بعد ذبحها تَأْكُلُونَ (21) فتنتفعون بأعيانها كما تنتفعون بما يحصل منها عَلَيْها
أي الأنعام عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
(22) فإن الانتفاع بالإبل في المحمولات على البر
__________
(1) رواه العجلوني في كشف الخفاء (1: 312) ، بما معناه.(2/85)
بمنزلة الانتفاع بالسفن في البحر، ولذلك جمع الله بينهما في إنعامه لكي يشكر على ذلك ويستدل به. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ وهم جميع أهل الأرض. فَقالَ متعطفا عليهم: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده فلا تعبدوا سواه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ بالرفع صفة ل «إله» باعتبار محله على أنه فاعل، أو مبتدأ مؤخر أو محذوف الخبر ولكم للتبيين أي ما لكم في العالم إله غيره تعالى.
وقرأ الكسائي بجر غيره صفة ل «إله» على الاحتمالين الأولين باعتبار لفظه أَفَلا تَتَّقُونَ (23) أي أتعرفون انتفاء «الإله» غيره تعالى فلا تتقون أنفسكم عذابه تعالى بسبب إشراككم به في العبادة ما لا يستحق الوجود لولا إيجاد الله تعالى إياه فَقالَ الْمَلَأُ أي الرؤساء: الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لعوامهم ما هذا أي نوح إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ في الجنس والوصف من غير فرق بينكم وبينه يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ أي يريد أن يطلب الفضل عليكم، بادعاء الرسالة لتكونوا أتباعا له وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً أي لو شاء الله إرسال الرسول إلينا لأنزل ملكا من الملائكة ما سَمِعْنا بِهذا أي بالأمر بعبادة الله خاصة وترك عبادة ما سواه فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) أي الماضين قبل بعثة نوح عليه السلام وذلك لكون آبائهم في زمان فترة متطاولة، وإما لغلوهم في التكذيب وانهماكهم في الضلال. ويقال: ما سمعنا بنوح أنه نبي في الذين مضوا قبلنا في زمنه عليه السلام إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ أي ما نوح إلا رجل فيه جنون، ومن كان مجنونا فكيف يجوز أن يكون رسولا، فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) أي انتظروه إلى زمن موته. أو المراد أنه مجنون فاصبروا إلى زمان تظهر عاقبة أمره فيه، فإن أفاق فذاك واضح وإلا فاقتلوه، قالَ نوح لما رآهم قد أصروا على التكذيب حتى يئس من إيمانهم بالكلية: رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) بالرسالة أي أبدلني من غير تكذيبهم سلوة النصر عليهم، أو أهلكهم بسبب تكذيبهم إياي. فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ عند ذلك أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ ف «أن» مفسرة لوقوعها بعد فعل فيه معنى القول بِأَعْيُنِنا أي بحفظنا لك عن أن تخطئ في صنعها أو يفسدها عليك غيرك فإن جبريل علمه عمل السفينة، ووصف له كيفية اتخاذها.
وَوَحْيِنا أي وتعليمنا، فأوحى الله إليه جبريل فعلمه صنعة السفينة، وصنعها في عامين، وجعل طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسين وارتفاعها ثلاثين. وجعلها ثلاث طبقات.
السفلى: للسباع والهوام. والوسطى للدواب والأنعام. والعليا: للإنس فَإِذا جاءَ أَمْرُنا أي وقت عذابنا عقب تمام الفلك وَفارَ التَّنُّورُ لآدم عليه السلام عند طلوع الفجر وكان في موضع مسجد الكوفة عن يمين الداخل من باب كندة اليوم. وقيل: كان في عين وردة من الشام فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ فأدخل في الفلك من كل حيوان حضر في هذا الوقت فردين مزدوجين ذكرا وأنثى لكي لا ينقطع نسل ذلك الحيوان.(2/86)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40)
وقرأ حفص بتنوين «كل» ف «زوجين» مفعول به واثنين تأكيد أي من كل نوع. وقرأ الباقون بغير تنوين ف «اثنين» مفعول به وَأَهْلَكَ أي وأدخل في الفلك أهل بيتك من زوجك وأولادك. إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ أي الوعد الأزلي من الله تعالى بالإهلاك، وهو ولده كنعان وأم كنعان فهي كافرة. وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا بالدعاء لإنجائهم إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) أي أنهم محكوم عليهم بالغرق وبالطوفان فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ أي ركبت وَمَنْ مَعَكَ من المؤمنين والدواب وغيرها عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) ومن الغرق بالالتجاء إلى السفينة. وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً أي مكان نزول فيه خير كثير، وهو نفس السفينة، لأن من ركبها خلصته من الغرق.
وقرأ أبو بكر «منزلا» بفتح الميم وكسر الزاي. والباقون بضم الميم وفتح الزاي وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) في الدنيا والآخرة. إِنَّ فِي ذلِكَ أي في قصة نوح وقومه لَآياتٍ جليلة. فإن اظهار تلك المياه العظيمة ثم الإذهاب بها لا يقدر عليه إلّا القادر على كل المقدورات، وظهور تلك الواقعة على وفق قول نوح عليه السلام يدل على المعجز العظيم وإفناء الكفار وبقاء الأرض لأهل الدين من أعظم أنواع العبر في الدعاء إلى الإيمان والزجر عن الكفر، وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) أي وإن الشأن كنا مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم مختبرين به عبادنا فيما بعد للنظر من يتذكر،
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد إهلاكهم قَرْناً آخَرِينَ (31) هم عاد. فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ هو هود عليه السلام. أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي وقلنا لهم على لسان الرسول: اعبدوا الله وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) عذابه وَقالَ الْمَلَأُ أي الرؤساء مِنْ قَوْمِهِ أي الرسول الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ أي بلقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب، وَأَتْرَفْناهُمْ أي نعمناهم بالأموال والأولاد فِي الْحَياةِ الدُّنْيا يخاطبون أتباعهم مضلين لهم: ما هذا أي الرسول إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ في الصفات والأحوال، يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) فكيف يكون رسولا وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ أي إن امتثلتم آدميا مثلكم في الخلق والحال بأوامره، إِنَّكُمْ إِذاً أي إن أطعتموه لَخاسِرُونَ (34) أي مغلوبون في عقولكم جاهلون. أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً أي وصارت أجسامكم ترابا وَعِظاماً نخرة مجردة عن اللحوم والأعصاب أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) من القبور أحياء كما كنتم هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) أي بعد حصول ما توعدون من خروجكم من القبور فلا يقع هذا. إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا أي ما الحياة إلا حياتنا في الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيا أي يموت بعضنا ويحيا بعضنا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) بعد الموت إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي ما مدعي الرسالة إلا رجل تعمّد على الله كذبا فيما يدّعيه من إرساله، وفيما يعدنا من أن الله يبعثنا وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) أي بمصدقين فيما يقوله من البعث بعد الموت ومن دعوى الرسالة. قالَ أي هود بعد يأسه من إيمانهم: رَبِّ انْصُرْنِي بِما(2/87)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
كَذَّبُونِ
(39) أي انتقم لي منهم بسبب تكذيبهم إياي. قالَ تعالى عدة بالقبول عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) أي بعد زمان قليل ليصيرن نادمين على التكذيب، وذلك عند معاينتهم للعذاب
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ أي دمرهم الله تعالى بالصيحة العظيمة وبالريح العقيم، بالعدل من الله تعالى وقد روي أن شداد بن عاد حين أتم بناء إرم سار بأهله إليها، فلما دنا منها بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً أي فجعلناهم بعد موتهم مثل ورق يابس يحمله السيل في عدم المبالاة بهم. فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) «فبعدا» مصدر منصوب بفعل لا يستعمل إظهاره لأنه بمعنى الدعاء عليهم، و «للقوم» متعلق بمحذوف واللام للبيان. فالله تعالى ذكر ذلك على وجه الإهانة لهم وهو التبعيد من الخير. وقد نزل بهم العذاب دالا على ذلك مع أن الذي ينزل بهم في الآخرة من العذاب أعظم مما نزل بهم ليكون ذلك عبرة لمن يجيء بعدهم.
والمعنى أهلكوا وخابوا من رحمة الله تعالى دنيا وأخرى. ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ أي بعد هلاكهم قُرُوناً آخَرِينَ (42) هم قوم صالح، ولوط، وشعيب، ويونس، وأيوب. فالله تعالى ما أخلى الأرض من مكلفين بل أوجدهم وبلغهم حد التكليف حتى قاموا مقام من كان قبلهم في عمارة الدنيا. ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) فلا نهلك أمة قبل مجيء أجلها، ولا يستأخرون عنه بساعة. فالله تعالى عالم الأشياء قبل كونها، فلا توجد إلا على وفق العلم والمقتول ميت بأجله، إذ لو قتل قبل أجله لكان قد تقدم الأجل أو تأخر وذلك ينافيه هذا النص. ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا أي أرسلنا إلى كل قرن من القرون رسولا خاصا به تَتْرا أي واحدا بعد واحد بينهما زمان طويل.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو هريرة وهي قراءة الشافعي «تترى» بالتنوين، فألفه للإلحاق بجعفر، ف «لما» نون ذهبت ألفه لالتقاء الساكنين وباقي السبعة «تترى» بألف صريحة دون تنوين، والألف للتأنيث باعتبار أن الرسل جماعة، والتاء بدل من الواو، فإنه مأخوذ من الوتر وهو الفرد وهو مصدر بمعنى اسم الفاعل وقع حالا أي متواترة أي متتابعة فرادى. كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ وسلكوا في تكذيب أنبيائهم مسلك من أهلكوا. فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً أي بالهلاك وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ أي ما يتحدث به الناس تلهيا وتعجبا، فيعتبر منهم أهل السعادة ويتغافل منهم أهل الشقاوة. فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44) أي بعدوا من رحمة الله تعالى بعدا، إذ لم يؤمنوا ولم يعتبروا منهم. ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا التسع، وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) أي حجة واضحة ملزمة للخصم في الاستدلال على وجود الصانع وإثبات النبوة إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ أي أشراف قومه، فَاسْتَكْبَرُوا عن الانقياد لهما وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46) في أمور الدنيا، قاهرين بني إسرائيل بالظلم فَقالُوا فيما بينهم بطريق المناصحة أَنُؤْمِنُ أي أننقاد
لِبَشَرَيْنِ
موسى وهارون مِثْلِنا في البشرية وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) أي والحال أن قومهما بني إسرائيل(2/88)
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)
خاضعون لنا خادمون كالعبيد لنا، فَكَذَّبُوهُما بالرسالة فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) أي فصاروا من المغرقين في بحر القلزم وَلَقَدْ آتَيْنا بعد إهلاكهم وإنجاء بني إسرائيل مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) أي لكي يهتدوا إلى الطريق الحق بالعمل بما فيها من الأحكام، وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ عيسى وَأُمَّهُ آيَةً دالة على عظيم قدرتنا بولادته من غير مسيس بشر، ونطقه في الصغر وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ أي أسكناهما في أرض مرتفعة. فقال عطاء عن ابن عباس: هي بيت المقدس فهو أقرب بقاع الأرض إلى السماء، ويزيد على غيره في الارتفاع ثمانية عشر ميلا.
وقال عبد الله بن سلام: هي دمشق وعليه الأكثرون.
وقرأ ابن عامر، وعاصم بفتح الراء. والباقون بالضم ذاتِ قَرارٍ أي مستوية مبسوطة ذات نعيم وَمَعِينٍ (50) أي ماء ظاهر جار على وجه الأرض.
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ نودي بهذا المعنى كل رسول في زمانه ليعتقد السامع أن أمرا نودي له جميع الرسل وأمروا به حقيق أن يعمل به. والمعنى نخبرك يا محمد أنّا أمرنا الرسل المتقدمين وقلنا لهم إلخ، دالا على بطلان ما عليه الرهبان من رفض الطيبات، أي وقلنا لكل رسول: كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ أي الحلالات سواء كانت مستلذة أو لا، وَاعْمَلُوا صالِحاً أي عملا صالحا من فرض ونفل. والأكل إذا كان بأمر الشرع لا بأمر الطبع يكون من نتائجه الأعمال الصالحة، إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ من الأعمال الظاهرة والباطنة عَلِيمٌ (51) فأجازيكم عليه. وهذا تحذير لهم من الله تعالى من مخالفة ما أمرهم به، وإذا كان هذا تحذيرا للرسل مع علو شأنهم فبأن يكون تحذير الغير هم أولى وَإِنَّ هذِهِ أي العقائد أُمَّتُكُمْ أي دينكم أيها المخاطبون أُمَّةً واحِدَةً أي دينا واحدا، والاختلاف في الشرائع لا يسمى اختلافا في الدين.
وقرأ الكوفيون بكسر همزة «إن» على الاستئناف الداخل فيما خوطب به الرسل والباقون بفتح الهمزة على حذف اللام أي ولأن، وقيل: «العطف على «ما» ، أي إني عليم بأن هذه أمتكم.
وقرأ ابن عامر «وإن» بإسكان النون، فاسمها ضمير الشأن و «هذه» مبتدأ، و «أمتكم» خبر و «أمة» حال لازمة وَأَنَا رَبُّكُمْ من غير أن يكون لي شريك في الربوبية فَاتَّقُونِ (52) أي فأطيعوني، فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً أي فجعل أتباع الأنبياء أمر دينهم مع اتحاده قطعا متفرقة وأديانا مختلفة بينهم ف «زبرا» جمع زبرة بمعنى قطعة كغرفة وغرف، فهو حال من «أمرهم» ، أو من واوا «تقطعوا» . كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) أي كل فريق منهم معجبون بما اتخذوه دينا فيرى كل منهم أنه المحق الرابح، وأن غيره المبطل الخاسر فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أي اترك يا أشرف الخلق كفار مكة في جهلهم إلى موتهم على الكفر أو إلى مجيء عذابهم بالقتل وغيره. أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ أي أيظنون أن الذي نعطيهم إياه من المال والبنين نسارع به لهم في إكرامهم ليكونوا فارغي البال من غير اشتغال بالتكاليف. بَلْ(2/89)
أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)
لا يَشْعُرُونَ
(56) حتى يتفكروا في ذلك الإمداد أهو استدراج أم مسارعة في الخير أي فهم أشباه البهائم لا فطنة لهم. إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) أي إن الذين هم من خوف عذاب ربهم حذرون من أسباب العذاب دائمون في طاعته جادون في طلب مرضاته وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ المنصوبة والمنزلة يُؤْمِنُونَ (58) أي يصدقون بأن يستدلوا بهذه المخلوقات على وجود الصانع ويصدقوا بأن ما في القرآن حق من ربهم، وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) بأن يكون العبد مخلصا في العبادة لا يقدم عليها إلا لطلب رضوان الله تعالى ومن الشرك ملاحظة الخلق في الرد والقبول، والفرح بمدحهم، والانكسار بذمهم، وقصور النظر في المسار والمضار على الأسباب عند انقطاع النظر عن المسبب، الذي هو الله تعالى كنظر حصول الشفاء من الدواء والشبع من الطعام، وليس المراد من عدم الإشراك هنا نفي الشريك لله تعالى، لأن ذلك داخل في ما تقدم وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أي والذين يعطون ما أعطوه من الصدقات، والحال أن قلوبهم خائفة أشد الخوف أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) . وقرأت عائشة وابن عباس، والحسن، والأعمش «يأتون ما أتوا» من الإتيان، أي ويفعلون ما فعلوه من الطاعات، والحال أن قلوبهم خائفة من رجوعهم إلى ربهم فلا يقبل منهم ذلك، ولا يقع على الوجه اللائق فيؤاخذوا به حينئذ. وهذا مناط الوجل.
وقرأ الأعمش «إنهم» بكسر الهمزة على الاستئناف
أُولئِكَ أي أهل هذه الصفات الأربعة يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها أي يناولون في الدنيا أنواع النفع ووجوه الإكرام وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61) أي هم فاعلون السبق لأجل الخيرات أي ينالونها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا وهذه الجملة مؤكدة لما قبلها وتفيد معنى الثبوت بعد ما تفيد معنى التجدد وقوله أولئك خبر عن أن الذين إلخ وقرئ يسرعون في الخيرات وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أي عادتنا جارية على أن لا نكلف نفسا من النفوس إلا ما في طاقتها أي فإن الله تعالى لا يكلف عباده إلا ما في وسعهم فإن لم يبلغوا في فعل الطاعات مراتب السابقين فلا عليهم بعد أن يبذلوا طاقتهم وَلَدَيْنا كِتابٌ أي صحائف الأعمال التي يقرءونها عند الحساب يَنْطِقُ بِالْحَقِّ أي يظهر المطابق للواقع، فأعمال العباد كلها مثبتة في صحائفهم فلا يضيع لعامل جزاء عمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) في الجزاء بنقص ثواب أو بزيادة عقاب بَلْ قُلُوبُهُمْ أي الكفرة فِي غَمْرَةٍ أي غفلة مِنْ هذا الذي بيناه في القرآن من أن لدينا ديوان الحفظة الذي يظهر لهم أعمالهم السيئة على رؤوس الأشهاد فيجزون بها، وَلَهُمْ أي الكفار أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ أي أعمال سيئة غير كون قلوبهم في غفلة عظيمة مما ذكر، وهي فنون معاصيهم كطعنهم في القرآن وإقامة إمائهم في الزنا هُمْ لَها عامِلُونَ (63) هم مستمرون على أعمال سيئة حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ أي أكابرهم الذين أمدهم الله تعالى بالمال والبنين بِالْعَذابِ أي الأخروي إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) أي يرتفع صوتهم(2/90)
بالاستغاثة في كشف العذاب عنهم لشدة ما هم عليه ويقال لهم على وجه التبكيت: لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ أي لا تلتجئوا اليوم إلينا إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) أي لأنه لا يلحقكم من جهتنا نصرة تنجيكم مما نزل بكم قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) أي فكنتم تعرضون عن تلك الآيات، وتنفرون عمن يتلوها وهذا مثل يضرب فيمن تباعد عن الحق كل التباعد.
وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه على أدباركم بدل على أعقابكم مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً فالجار والمجرور متعلق بقوله: مُسْتَكْبِرِينَ والباء سببية، والضمير يعود إلى الحرم أي متعظمين بالحرم أو متعلق ب «سامرا» والباء بمعنى في، والضمير يعود إلى البيت الحرام أي ساهرين في الليل المظلم يتحدثون حول البيت العتيق والذي يسوغ هذا الإضمار شهرتهم بالاستكبار بالبيت، ويجوز أن يكون متعلقا ب «تهجرون» والضمير يعود إلى القرآن تَهْجُرُونَ (67) .
قرأ نافع وابن محيصن بضم التاء وكسر الجيم، أي تسبون القرآن وتسمونه سحرا وشعرا.
والباقون بفتح التاء وضم الجيم أي تتركون القرآن، وتعرضون عنه وكانوا يجتمعون حول الكعبة في الليل يتحدثون، وكان أكثر حديثهم ذكر القرآن والطعن فيه وتسميته سحرا وشعرا وسب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وكانوا يقولون: لا يعلو علينا أحد لأنا أهل الحرم وقوله: مُسْتَكْبِرِينَ وقوله: سامِراً وقوله: تَهْجُرُونَ أحوال من الواو في «تنكصون» ، أو في كل واحدة حال من ضمير ما قبلها و «سامرا» ، اسم جمع كحاج وراكب وحاضر وغائب فالكل يطلق على الجمع أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ أي أفعلوا ما فعلوا من النكوص والاستكبار، والهجر، فلم يتدبروا القرآن ليعرفوا بما فيه من إعجاز النظم والإخبار بالغيب أنه الحق من ربهم، بل أجاءهم من الكتاب وبعثة الرسل ما لم يأت آباءهم الأولين كإسماعيل عليه السلام وأعقابه من عدنان وقحطان، ومضر، وربيعة، وقس، والحرث بن كعب، وأسد بن خزيمة، وتميم بن مرة، وتبع وضبة بن أد فكلهم آمنوا بالله تعالى وكتبه ورسله.
فإن مجيء الكتب من الله تعالى إلى الرسل عادة قديمة له تعالى، وإن مجيء القرآن على طريقته، فمن أين ينكرونه! بل ألم يعرفوا رسولهم محمد صلّى الله عليه وسلّم
بالأمانة والصدق، وحسن الأخلاق، وكمال العلم مع عدم التعلم من أحد وغير ذلك مما حازه من الكمالات اللائقة بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أي فهم جاحدون برسالة رسولهم، أي أنهم عرفوا منه صلّى الله عليه وسلّم قبل ادعاء الرسالة كونه في غاية الفرار من الكذب، فكيف كذبوه بعد اتفاق كلمتهم على تسميته صلّى الله عليه وسلّم بالأمين أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ أي بل أيقولون في رسولهم جنون ويقولون: إنما حمله على ادعائه الرسالة جنونه، مع أنه أرجح الناس عقلا وأوفرهم رزانة بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ أي جاءهم رسولهم(2/91)
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)
عليه الصلاة والسلام بالصدق الثابت الذي لا محيد عنه أصلا، وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ أي أيّ حق كان كارِهُونَ (70) من حيث تمسكوا بالتقليد، ومن حيث علموا أنهم لو أقروا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم لزالت مناصبهم واختلت رئاساتهم، فلذلك كرهوه وكان منهم من ترك الإيمان استنكافا من توبيخ قومه أو لعدم فكرته لا لكراهة الحق.
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ أي ولو كان الحق الذي كرهوه موافقا لأهوائهم الباطلة لخرجت السموات والأرض ومن فيهن عن الصلاح والانتظام بالكلية، بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ أي بل جئناهم بالقرآن الذي فيه شرفهم.
وقرأ أبو عمرو في رواية «آتيناهم» بمد الهمزة، أي أعطيناهم فخرهم، فالباء مزيدة في «بذكرهم» ، وقرأ ابن أبي إسحاق، وعيسى بن عمرو وأبو عمرو أيضا «أتيتهم» بتاء المتكلم وحده وقرأ الجحدري وأبو رجاء آتيتهم بالتاء على خطاب الرسول صلّى الله عليه وسلّم وقرأ عيسى «بذكراهم» بألف التأنيث أي بوعظهم. وقرأ أبو قتادة «نذكرهم» بنون المتكلم مضارع «ذكر» مشدد الكاف، وهي جملة حالية. فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ أي فخرهم وشرفهم مُعْرِضُونَ (71) ، وكان يجب عليهم أن يقبلوا عليه أكمل إقبال أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً وقرأ حمزة والكسائي بفتح الراء وبالألف والباقون بسكونها فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ، وقرأ ابن عامر بسكون الراء. والباقون بفتحها وبالألف. أي أم تسألهم على هدايتهم قليلا من عطاء الخلق، فالكثير من عطاء ربك خير فلا يجوز أن ينفروا عن قبول قوله صلّى الله عليه وسلّم لأجل هذه التهمة البعيدة، وهم غير معذورين ألبتة، وهم محجوجون من جميع الوجوه، فهذا توبيخ بوجه آخر كأنه قيل: أم يزعمون أنك تسألهم على أداء الرسالة جعلا فلأجل ذلك لا يؤمنون بك ولا تسألهم ذلك، فإن ما رزقك الله تعالى في الدنيا والآخرة خير لك من ذلك وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) أي أفضل المعطين في الدنيا والآخرة خير لك من ذلك وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) تشهد العقول السليمة باستقامته وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي بالبعث والثواب والعقاب عَنِ الصِّراطِ أي عن جنس الصراط لَناكِبُونَ (74) أي منحرفون فلا يطلق على ما ذهبوا إليه اسم الصراط لغاية ضلالهم وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) أي ولو كشفنا ما أصابهم من جمع وسائر مضار الدنيا لتمادوا في ضلالهم وهم متحيّرون عن الهدى لا يبصرون الحق، وقد كان الأمر كذلك.
روي أنه لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ولحق باليمامة، منع الميرة عن أهل مكة فأخذهم الله تعالى بالسنين سبع سنين حتى أكلوا الجلود والجيف والعلهز «1» ، فجاء أبو سفيان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين، ثم قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فادع الله يكشف عنا هذا القحط، فدعا، فكشف عنهم، فأنزل الله هذه الآية وذلك بسبب
__________
(1) العلهز: بالكسر، طعام من الدم والوبر، كان يتخذ في المجاعة [القاموس المحيط، مادة: العلهز] .(2/92)
بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)
دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنينا كسني يوسف.
وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ وهو ما ينالهم يوم بدر من القتل والأسر فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ أي فما خضعوا لربهم بالتوحيد وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) أي فما يؤمنون، أي محناهم بكل محنة من القتل والأسر والجوع الذي هو أشد منهما، فما رؤي منهم لين مقادة وتوجه إلى الإسلام قط. وأما ما أظهره أبو سفيان فليس من الاستكانة له تعالى والتضرع إليه تعالى في شيء، وإنما هو نوع خشوع إلى أن يتم غرضه، فجاء كما قيل: إذا جاء ضغا وإذا شبع طغى، وأكثرهم مستمرون على ذلك حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ هو عذاب الآخرة إِذا هُمْ فِيهِ أي في ذلك العذاب مُبْلِسُونَ (77) أي آيسون من كل خير وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ وخصّ الله هذه الثلاثة بالذكر، لأن الاستدلال موقوف عليها قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (78) أي شكرا قليلا غير معتد به تشكرون تلك النعم الجليلة يا أهل مكة. وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي هو الذي جعلكم في الأرض متناسلين وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) أي تجمعون يوم القيامة إلى موضع لا حاكم فيه سواه وجعل حشرهم إلى ذلك الموضع حشرا إليه وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وينقل من نعمة الحياة إلى دار الثواب والعقاب وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي هو المؤثر في تعاقبهما واختلافهما ازديادا وانتقاصا أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) أي أتتفكرون فلا تعقلون بالنظر أن الكل مناف أن قدرتنا تعم الممكنات التي من جملتها البعث بعد الموت
بَلْ قالُوا أي فلم يعقل كفار مكة بل قالوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) من قوم نوح، وهود، وصالح وغيرهم في إنكار البعث مع وضوح الدلائل. قالُوا مقلدين للأولين: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) بعد ذلك لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا أي البعث مِنْ قَبْلُ أي من قبل مجيء محمد أي لقد وعدنا وآباؤنا بالبعث فلم نر هذا الوعد صدقا، أي فلما لم يوجد البعث طول الزمان ظنوا أنه يكون في دار الدنيا ثم قالوا: إِنْ هذا أي ما هذا الذي تقول يا محمد إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) أي إلا أكاذيبهم التي كتبوها قُلْ يا أشرف الرسل لكفار مكة: لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها من المخلوقات إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) فأخبروني بخالقهم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ لهم بعد أن تجيبوا بما ذكر توبيخا لهم أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) أي أتعلمون ذلك فلا تتذكرون أن من قدر على خلق الأرض وما فيها ابتداء قادر على إعادته ثانيا؟ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ: إفهاما لهم أَفَلا تَتَّقُونَ (87) أي أتعلمون ذلك ولا تقون أنفسكم عقابه حيث تكفرون به، وتنكرون البعث وتثبتون له شريكا في الربوبية قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ أي من تحت قدرته ملك كل شيء من إنس وجن وغيرهما. وَهُوَ يُجِيرُ أي يغيث غيره إذا شاء وَلا يُجارُ عَلَيْهِ أي لا يغاث أحد منه إذا أراد هلاكه إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) ذلك فأجيبوني سَيَقُولُونَ لِلَّهِ.(2/93)
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
وقرأ أبو عمرو «سيقولون الله» . في الأخيرتين من غير لام جر، مع رفع الجلالة جوابا على اللفظ لقوله: (من) لأن المسؤول به مرفوع المحل وهو «من» فجاء جوابه مرفوعا. والباقون «لله» باللام في الأخيرين، وهو جواب على المعنى، لأن التقدير في الموضع الأول منهما، قل من له السموات السبع والعرش، وفي الثاني: قل من له ملكوت كل شيء، ف «لام» الجر مقدرة في السؤال، فظهرت في الجواب نظرا للمعنى. وأما جواب السؤال الأول لله باللام باتفاق السبعة، لأنها قد صرح بها في السؤال. قُلْ لهم يا أشرف الخلق: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) أي فمن أين تصرفون عن الرشد إلى الغي، بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ الذي هو التوحيد والوعد بالبعث وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90) في ادعاء الشرك وإنكار البعث
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ لا من الملائكة ولا من غيرهم كما قال الكفار. وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ يشاركه في الألوهية كما يقوله الثنوية إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ف «إذا» بمعنى لو الامتناعية أي لو كان معه آلهة كما يقولون لانفرد كل واحد من الآلهة بخلقه الذي خلقه وامتاز ملكه عن ملك الآخرين، ولغلب بعضهم على بعض كما هو حال ملوك الدنيا فلم يكن بيده تعالى حينئذ ملكوت كل شيء، وهو باطل لا يقول به عاقل قط سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) من إثبات الولد والشريك عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ.
وقرأ نافع وشعبة وحمزة والكسائي بالرفع خبر مبتدأ محذوف. والباقون بالجر بدل من الجلالة وهذا دليل آخر على انتفاء الشريك بناء على توافقهم في تفرّده تعالى بذلك كأنه قيل: الله عالم الغيب والشهادة وغيره لا يعلمهما، فغيره ليس بإله فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) فإن تفرده تعالى بذلك موجب لتنزهه عن أن يكون له شريك وشبيه قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) أي إن كان لا بد من أن تريني ما تعدهم من العذاب الدنيوي المستأصل فلا تجعلني قرينا لهم فيما هم فيه من العذاب وأعيد لفظ الرب مبالغة في التضرع، و «في» بمعنى مع. وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ من العذاب المستأصل لَقادِرُونَ (95) ولكنا نؤخره للحكمة الداعية إلى التأخير وهذا يدل على صحة قدرته تعالى لا على خلاف علمه فإنه تعالى أخبر أنه قادر على تعجيل عقوبتهم، ثم لم يفعل ذلك لحكمة فصحة القدرة غير المعلوم والكافرون ينكرون التهديد بالعذاب ويضحكون به ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ أي قابل إساءتهم بما أمكن من الإحسان وتكذيبهم بالكلام الجميل وبيان الأدلة على أحسن الوجوه.
قيل: هذه الآية محكمة لأن المداراة محثوث عليها ما لم تؤد إلى وهن في الدين أو نقصان في المروءة، نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) أي بما يصفونك به على خلاف ما أنت عليه وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) أي وساوسهم المغرية على خلاف ما أمرت به وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) أي من أن يحوموا حولي في حال من الأحوال، لأنهم إنما يحضرون بقصد سوء حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ وحتى متعلقة بيصفون(2/94)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)
أي هي معمولة لمحذوف يدل عليه ذلك، أي يستمر كفار مكة على الوصف المذكور، حتى إذا جاء أحدهم وظهرت له أحوال الآخرة قال: رب، ردني إلى الدنيا لكي أعمل صالحا فيما قصرت في الإيمان، وفي العبادات البدنية والمالية والحقوق، وقوله: ارْجِعُونِ خطاب لله، وجمع الضمير تعظيما لله أو لتكرير قوله: «ارجعني» كأنه قال ارجعني، ارجعني، ارجعني ثلاث مرات كما قالوا في قوله: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ [ق: 24] أنه بمعنى ألق، ألق، فثني الفعل للدلالة على ذلك.
وقوله: رَبِّ منادى. وقيل: الخطاب للملائكة الذين يقبضون الأرواح وهم جماعة، ورب للقسم، فكأنه عند معاينة مقعده من النار وملك الموت وأعوانه قال: بحق الرب ارجعون إلى الدنيا لكي أصلح ما أفسدت، وأطيع في كل ما عصيت، ومكنوني من التدارك لعلي أتدارك فيما خلفت من المال كما
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا حضر الإنسان الموت جمع كل شيء كان يمنعه من حقه بين يديه فعند ذلك يقول: رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت»
«1» . أي لكي أصير عند الرجعة مؤديا لحق الله تعالى فيما تركت التركة. كَلَّا أي لا يرد إلى الدنيا. وهذا كالجواب لهم في المنع مما طلبوا.
روي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال لعائشة رضي الله عنها: «إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا: نرجعك إلى دار الدنيا. فيقول: إلى دار الهموم والأحزان لا بل قدوما على الله تعالى. وأما الكافر فيقال له:
نرجعك فيقول: ارجعون فيقال له إلى أي شيء ترغب، إلى جمع المال، أو غرس الغراس، أو بناء البنيان، أو شق الأنهار؟ فيقول: لعلي أعمل صالحا فيما تركت. فيقول الجبار كلا»
«2» .
إِنَّها أي قوله: رَبِّ ارْجِعُونِ إلى آخره كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها لا محالة لتسلط الحسرة عليه، ولكنها لا تفيده. وَمِنْ وَرائِهِمْ أي أمامهم بَرْزَخٌ أي حائل مانع لهم عن الرجوع إلى الدنيا، وهو مدة بين الموت والبعث وذلك قوله تعالى: إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) من قبورهم
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ لقيام الساعة وهي النفخة الثانية التي يقع عندها البعث فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ أي فلا يتفاخرون بأنسابهم، ويتراحمون بها في ذلك اليوم وَلا يَتَساءَلُونَ (101) عنها لاشتغال كل منهم بنفسه.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: يؤخذ العبد والأمة يوم القيامة على رؤوس الأشهاد وينادي مناد إلا أن هذا فلان، فمن له عليه حق فليأت إلى حقه فتفرح المرأة حينئذ أن يثبت لها حق على أمها أو أختها، أو أبيها، أو أخيها، أو ابنها، أو زوجها فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون.
وعن قتادة: لا شيء أبغض إلى الإنسان يوم القيامة من أن يراه من يعرفه مخافة أن يثبت له عليه شيء.
__________
(1) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (10: 404) .
(2) رواه أحمد في (م 1/ ص 34) .(2/95)
والصور: آلة ينفخ فيه. وقال الحسن: الصور مجموع الصورة وكان يقرأ بفتح الواو. وقرأ أبو رزين بفتح الواو وكسر الصاد. والمعنى فإذا نفخ في الأجساد أرواحها فلا قرابة تنفعهم لزوال التعاطف من فرط الحيرة. وأما قوله تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الطور: 25] فبعد ذلك. فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ أي فمن كانت له عقائد صحيحة وأعمال صالحة يكون لها قدر عند الله تعالى فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) أي الفائزون بكل مطلوب، الناجون من كل مرهوب وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ أي ومن لم يكن له قدر عنده تعالى من العقائد والأعمال وهم الكفار فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بأن صارت منازلهم من الجنان للمؤمنين فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) بدل من الصلة تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ أي تضربها وتأكل لحومها وتحرق جلودها وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104) أي متقلصو الشفتين عن الأسنان من شدة الاحتراق ويقال لهم: أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ في الدنيا تبين لكم بالدلائل الواضحة كيفية سلوك الطريق الحق فَكُنْتُمْ بِها أي بآياتي تُكَذِّبُونَ (105) فصرتم مستحقين للعذاب الأليم؟ قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا بسوء اختيارنا. وفي قراءة سبعية «شقاوتنا» بفتح الشين.
وقرأ قتادة بالكسر وَكُنَّا بسبب ذلك قَوْماً ضالِّينَ (106) عن الحق رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) أي يا ربنا أخرجنا من النار ومن هذه الدار إلى دار الدنيا فإن عدنا إلى الأعمال السيئة فإنا ظالمون على أنفسنا. قالَ الله لهم بلسان مالك: اخْسَؤُا فِيها أي ذلوا في النار وَلا تُكَلِّمُونِ (108) بطلب الإخراج من النار وهذا آخر كلامهم في النار فلا يسمع لهم بعد ذلك إلا الزفير، والشهيق، والنباح كنباح الكلاب.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن لهم ست دعوات إذا دخلوا النار قالوا ألف سنة: ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا، فيجابون: حق القول مني. فينادون ألف سنة ثانية: ربنا أمتنا اثنتين، وأحييتنا اثنتين فيجابون: ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم. فينادون ألف ثالثة: يا مالك ليقض علينا ربك. فيجابون: إنكم ماكثون. فينادون ألفا رابعة: ربنا أخرجنا منها. فيجابون: أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال؟ فينادون ألفا خامسة: أخرجنا نعمل صالحا. فيجابون:
أولم نعمركم؟ فينادون ألفا سادسة: رب ارجعون. فيجابون اخسئوا فيها إِنَّهُ أي الشأن.
وقرأ أبيّ بفتح الهمزة أي «لأنه» ، كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ في الدنيا رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) أي أنت أرحم علينا من الوالدين فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا. وقرأ نافع وأهل المدنية، وأهل الكوفة عن عاصم بضم السين في جميع القرآن. وقرأ الباقون بالكسر هاهنا وفي ص.
وقال الخليل وسيبويه. هما لغتان. وقال الكسائي والفراء: الكسر بمعنى الاستهزاء بالقول، والضم بمعنى السخرية والعبودية حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي أي طاعتي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ(2/96)
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
تَضْحَكُونَ
(110) وذلك غاية الاستهزاء. والمعنى: اسكتوا عن الدعاء بقولكم:
رَبَّنا أَخْرِجْنا ألخ لأنكم كنتم تستهزءون بالداعين بقولهم: رَبَّنا آمَنَّا ألخ وتتشاغلون باستهزائهم حتى أنساكم الاستهزاء بهم عن توحيدي وطاعتي.
قال مقاتل: إن رؤساء قريش مثل أبي جهل وعتبة وأبي بن خلق كانوا يستهزئون بأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويضحكون بالفقراء منهم مثل: بلال،
وخباب، وعمار، وصهيب. إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111) .
وقرأ حمزة والكسائي «إنهم» بكسر الهمزة تعليل للجزاء. والباقون بالفتح ثاني مفعولي «جزيت» فمعنى الأول: فإنهم قد فازوا بسبب صبرهم على أذيتكم إياهم فجوزوا أحسن الجزاء.
ومعنى الثاني: إنهم انتفعوا بأذيتكم إياهم بسبب صبرهم على أذيتكم فإني جزيتهم اليوم بفوزهم بمجامع مراداتهم مخصوصين به. قالَ أي الله لهم بلسان مالك توبيخا كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي في الدنيا التي تطلبون أن ترجعوا إليها عَدَدَ سِنِينَ (112) تمييز لكم. والغرض من هذا السؤال: التبكيت، لأنهم كانوا لا يعدون اللبث إلا في دار الدنيا، ويظنون أن الفناء يدوم بعد الموت، ولا إعادة، فلما حصلوا في النار وأيقنوا أنهم مخلدون فيها سألهم الله كم لبثتم في الأرض فإنهم فيها تمكنوا من العلم والعمل تذكيرا لهم بأن الذي ظنوه طويلا فهو قليل بالنسبة إلى ما أنكروه، فحينئذ تحصل لهم الحسرة على ما كانوا يعتقدونه في الدنيا من حيث أيقنوا خلافه قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ يشكون في ذلك لكثرة ما هم فيه من الأهوال، وقد اعترفوا بالنسيان حيث قالوا: فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) أي الذين يحصون الأعمال وأوقات الحياة والممات، أو الذين يعدون أيام الدنيا وساعاتهم، فإنا قد نسيناه. وقرئ «العادين» بتخفيف الدال أي الظلمة، رؤساءنا الذين أضلونا. وقرئ «العاديين» أي القدماء المعمرين. قالَ الله لهم بلسان مالك: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أي ما لبثتم في الدنيا إلا زمانا قليلا لو علمتم البعث فإن الدنيا قليل أيامها في مقابلة أيام الآخرة، ولكنكم لما أنكرتم ذلك كنتم تعدون الدنيا طويلا، ولو علمتم أن لبثكم في الآخرة لا نهاية له لأصلحتم أعمالكم في الدنيا، ولتقربتم بها إلى الله تعالى.
وقرأ الأخوان «قل كم لبثتم؟» «قل: إن لبثتم» بالأمر في الموضعين خطاب للملك وابن كثير كالأخوين في الموضع الأول فقط. والباقون قال بالماضي في الموضعين: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً أي ألم تعلموا يا أهل مكة شيئا فحسبتم إنما خلقناكم لأجل العبث، بل لحكمة بالغة فخلقناكم بلا معنى يضركم أو ينفعكم حتى عشتم كما تعيش البهائم، فما تقربتم إلينا بالأعمال الصالحة حتى أنكرتم البعث وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فلولا القيامة لما تميّز المطيع من العاصي، والصديق من الزنديق. فخلقكم بغير بعث من نوع العبث، وإنما خلقناكم لنعيدكم ونجازيكم على أعمالكم.(2/97)
وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء وكسر الجيم. فَتَعالَى اللَّهُ أي تبرأ الله عن العبث وعن خلو أفعاله عن المصالح والغايات الحميدة الْمَلِكُ أي المتصرف في كل شيء الْحَقُّ أي الثابت الذي لا يزول ملكه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فإن كل ما عداه عبيده. رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) أي مالك السرير الحسن.
وقرئ «الكريم» بالرفع صفة ل «رب» أي الجامع لصفات الكمال. وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وقوله: لا بُرْهانَ صفة لازمة ل «ألها» . وقوله:
فَإِنَّما جواب الشرط. أي ومن يعبد إلها آخر لا حجة له بعبادته، فهو تعالى مجاز له في الآخرة بقدر ما يستحقه ويبلغ عقابه إلى حيث لا يقدر أحد على حسابه إلا الله تعالى. إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) والجمهور على كسر همزة أنه على الاستئناف المفيد للعلة.
وقرأ الحسن وقتادة بفتح الهمزة فيكون خبر حسابه، المعنى: حسابه في الآخرة عدم الفلاح. وَقُلْ يا أكرم الرسل: رَبِّ اغْفِرْ أي تجاوز عني وعن أمتي، وَارْحَمْ أمتي فلا تعذبهم وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) أي أرحم الراحمين.
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لقد أنزلت علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة، ثم قرأ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون: 1] حتى ختم العشر»
«1» .
وروي: «أن أول سورة قَدْ أَفْلَحَ وآخرها:
من كنوز العرش من عمل بثلاث آيات من أولها واتعظ بأربع من آخرها فقد نجا وأفلح»
.
__________
(1) رواه النسائي في كتاب الطلاق، باب: ما جاء في الخلع. [.....](2/98)
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
سورة النور
مدنية، أربع وستون آية، ألف وثلاثمائة وست عشرة كلمة، خمسة آلاف وتسعمائة وثمانون حرفا
سُورَةٌ قرأ العامة بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هذه الآيات الآتي ذكرها سورة.
وقرأ الحسن بن عبد العزيز، وعيسى الثقفي، وعيسى الكوفي، ومجاهد، وأبو حيوة بالنصب بفعل يفسره ما بعده، أو بفعل آخر نحو «اقرءوا» أو «اتبعوا» . أَنْزَلْناها أي أعطيناها الرسول وَفَرَضْناها أي أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجابا قطعيا.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتشديد الراء لكثرة المفروض عليهم وَأَنْزَلْنا فِيها أي في أثناء السورة آياتٍ نيطت بها الأحكام المفروضة. بَيِّناتٍ أي واضحة دلالتها على أحكامها كبراءة الصدّيقة ابنة الصدّيق لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) أي تتذكرونها فتعلمونها.
وقرأ حفص، وحمزة، والكسائي بتخفيف الذال وحذف، احدى التاءين. والباقون بالتشديد. الزَّانِيَةُ أي المرأة المطاوعة للزنا الممكنة منه، وَالزَّانِي وهما بكران فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ أي ضربة. وجملة «فاجلدوا» خبر المبتدأ، والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، إذ اللام بمعنى الموصول والتقدير. التي زنا والذي زنى وقرأ عيسى الثقفي، ويحيى بن يعمر وعمرو بن فائد، وأبو جعفر وأبو شيبة بنصب الاسمين على إضمار فعل يفسره الظاهر.
وقرئ «والزان» بلا ياء وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ أي رحمة فِي دِينِ اللَّهِ أي في طاعة الله وإقامة حده فتعطلوه أو تسامحوه. وقرأ العامة «رأفة» هنا، وفي الحديد بسكون الهمزة، وابن كثير بفتحها. وقرأ ابن جرير كما روي عن ابن كثير وعاصم بمد الهمزة على وزن سحابة. إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وفي الحديث: «يؤتى بوال نقص من الحدود سوطا فيقول: رحمة لعبادك: فيقال له: أنت أرحم مني؟ فيؤمر به إلى النار. ويؤتى بمن زاد سوطا فيقول: لينتهوا عن معاصيك فيؤمر به إلى النار»
. وعن أبي هريرة: إقامة حد بأرض خير من مطر أربعين ليلة.
وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) . ي وليحضر ندبا حدّهما جمع يحصل به التشهير والزجر. وعن ابن عباس هم أربعة رجلا من المصدقين بالله تعالى الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً(2/99)
وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ
وهذا كما قال القفال: المراد منه الأعم الأغلب وذلك لأن الفاسق الخبيث الذي من عادته الزنا والفسق لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء وإنما يرغب في فاسقه، أو في مشركة والفاسقة الخبيثة لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال، وإنما يرغب فيها الفسقة والمشركون بهذا على الأعم إلا غلب كما يقال: لا يفعل الخير إلا الرجل التقي وقد يفعل بعض الخير من ليس بتقي، فكذا هاهنا، وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) أي إن صرف الرغبة بالكلية إلى الزواني وترك الرغبة في الصالحات محرم على المؤمنين أي الحصر المذكور وهو ان الزاني لا يرغب الا في الزانية محرم عليهم، ولا يلزم من حرمة هذا الحصر حرمة التزوج
بالزانية وهذا هو المعتمد في تفسير هذه الآية.
قال مجاهد وعطاء بن أبي رباح وقتادة: قدم المهاجرون المدينة وفيهم فقراء، ليس لهم أموال ولا عشائر، وبالمدينة نساء بغايا يكرين أنفسهن، وهن يومئذ أخصب أهل المدينة، ولكل واحدة منهن علامة على بابها كعلامة البيطار ليعرف أنها زانية وكان لا يدخل عليها إلا زان أو مشرك فرغب في كسبهن ناس من فقراء المهاجرين. وقالوا: نتزوج بهن إلى أن يغنينا الله عنهن فاستأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت هذه الآية، فتقدير الآية: أولئك الزناة لا ينكحون الا تلك الزواني، وتلك الزواني لا ينكحهن إلا أولئك الزناة. وحرم نكاحهن بأعيانهن على المؤمنين، فالألف واللام في قوله: الزَّانِي وفي قوله: الْمُؤْمِنِينَ وإن كانت للعموم ظاهرا لكنه هاهنا مخصوص بالأقوام الذين نزلت في حقهم هذه الآية. ودليل جواز نكاح الزانية ما
روي عن جابر أن رجلا أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إن امرأتي لا تمنع يد لامس. قال: «طلقها» . قال:
فإني أحبها وهي جميلة. قال: «استمتع بها»
«1» ، وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ أي يقذفون الحرائر المسلمات المكلفات العفائف بالزنا ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا إلى الحكام بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ ذكور يشهدون على صحة ما رموهن به فَاجْلِدُوهُمْ أيها الحكام ثَمانِينَ جَلْدَةً لظهور كذبهم بعجزهم عن الإتيان بالشهداء وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أي لا تقبلوا منهم شهادة من الشهادات حال كونها حاصلة لهم عند الرمي أَبَداً أي مدة حياتهم وإن تابوا وأصلحوا، لأن رد الشهادة منهم تتمة للحد لما فيه من معنى الزجر، لأنه مؤلم للقلب كما ان الجلد مؤلم للبدن، فإن القاذف قد آذى المقذوف بلسانه فعوقب بإهدار منافعه وفائدة قوله تعالى لهم تخصيص الرد بشهادتهم الناشئة عن أهليتهم الثابتة لهم عند الرمي، وهو السر في قبول شهادة الكافر المحدود في القذف بعد التوبة والإسلام، لأنها ليست ناشئة عن أهليته السابقة بل عن أهلية حدثت له بعد إسلامه فلا يتناولها الرد وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) أي المحكوم عليهم بالفسق إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد اقترافهم ذلك
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الطلاق، باب: في اللعان، وأحمد في (م 1/ ص 238) .(2/100)
الذنب العظيم وَأَصْلَحُوا أعمالهم بعد التوبة فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) فحينئذ لا ينظمهم في سلك الفاسقين، ومحل المستثنى نصب، لأنه من مثبت وهو راجع إلى الفسق فقط كما قال أبو حنيفة:
إن الفاسق لا تقبل شهادته وإن تاب أو هذا الاستثناء راجع إلى رد الشهادة وإلى الفسق كما هو مذهب مالك والشافعي، وكما يروى ذلك عن ابن عمر وابن عباس، وجمع من الصحابة، فمحل المستثنى حينئذ الجر على البدلية من الضمير في «لهم» ، فعند الشافعي: أن التائب تقبل شهادته ويزول فسقه، ومعنى الأبد عنده مدة كونه قاذفا فتنتهي بالتوبة. قال الشافعي: التوبة من القذف إكذابه نفسه، كما روي عن عمر بن الخطاب أنه ضرب الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة، وهم أبو بكرة ونافع ونفيع، ثم قال لهم: من أكذب نفسه قبلت شهادته ومن لا يفعل لم أجز شهادته فأكذب نافع ونفيع وتابا وكان عمر يقبل شهادتهما، وأما أبو بكرة فكان لا يقبل شهادته، وما أنكر على عمر أحد من الصحابة، واتفق الأئمة الأربعة على عدم رجوع الاستثناء إلى قوله تعالى:
فَاجْلِدُوهُمْ فالقاذف يجلد عند الجميع سواء تاب أو لم يتب وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ بالزنا وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ بدل من شهداء أو صفة لها على أن الا بمعنى غير، أو وجدت البينة ولكن لم يريدوا إظهارها فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) .
وقرأ حفص وحمزة والكسائي برفع أربع خبر لشهادة وبالله متعلق بشهادات، والباقون بنصب «أربع» على أنه مفعول مطلق والعامل فيه شهادة وهو خبر لمبتدأ محذوف، أي فالواجب شهادة، أو مبتدأ محذوف الخبر أي فشهادة كل واحد منهم واجبة وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) فيما رماها به من الزنا.
وقرأ نافع بسكون نون «أن» ، ورفع لعنة. والباقون بتشديد النون ونصب «لعنة» وهو خبر، و «الخامسة» أو بدل منها أو على تقدير حرف الجر أي بأن لعنة الله، ويجوز أن تكون الخامسة معطوفا على المبتدأ، فالخبر المحذوف خبر عن المعطوف والمعطوف عليه وجملة و «الخامسة أن لعنة الله» إلخ معترضة بين المبتدأ وخبره المحذوف. وقرئ و «الخامسة» بالنصب على معنى: ويشهد الخامسة كما قاله الرازي: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أي يدفع عن المقذوفة حد الزنا الذي ثبت بيمين القاذف أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) فيما رماها به من الزنا وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ أي زوجها مِنَ الصَّادِقِينَ (9) فيما قال عليها. وقرأ حفص و «الخامسة» بالنصب، أي وتشهد الشهادة الخامسة وما بعدها بدل منها أو على تقدير حرف الجر والباقون بالرفع وما بعدها خبرها.
وقرأ نافع «أن» بالسكون و «غضب الله» بكسر الضاد، وضم الجلالة على أنه فعل وفاعل، والباقون بتشديد «أن» ، وقرئ غضب بالرفع مع تخفيف «أن» .
روي أن هلال بن أمية قذف امرأته بالزنا عند النبي صلّى الله عليه وسلّم بشريك بن سمحاء فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إما(2/101)
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)
البينة وإما إقامة الحد عليك» . فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزل جبريل وأنزل عليه والذين يرمون أزواجهم حتى بلغ إن كان من الصادقين فلما سرى عنه قال صلّى الله عليه وسلّم: «أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجا» . قال: قد كنت أرجو ذلك من الله تعالى فقرأ عليهم هذه الآيات فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ادعوها» فدعيت، فكذبت هلال، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟» وأمر بالملاعنة، فشهد هلال أربع شهادات بالله أنه لمن الصادقين فقال صلّى الله عليه وسلّم عند الخامسة: «اتق الله يا هلال فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة» فقال: والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشهد الخامسة ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«أتشهدين؟» فشهدت أربع شهادات بالله أنه لمن الكاذبين فلما أخذت في الخامسة قال لها: «اتقي الله فإن الخامسة هي الموجبة» ، فتفكرت ساعة وهمّت بالاعتراف، ثم قالت: «والله لا أفضح قومي وشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ففرق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينهما ثم قال:
«انظروها فإن جاءت به أثيبج أصهب أحمش الساقين، فهو لهلال وإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سمحاء»
«1» ، فجاءت به كذلك وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) لكان ما كان أي لو لم يشرع الله لهم اللعان لوجب على الزوج حد القذف مع أن الظاهر أنه لا يفترى عليها لاشتراكهما في الفضيحة، ولأنه أعرف بحال زوجته، وإنما أوجب الله لهم أربعة شهداء للستر على من اقترف الكبائر وبعد ما شرع لهم ذلك لو جعل أيمانه موجبة لحد الزنا عليها لفات النظر لها، ولو جعل أيمانها موجبة لحد القذف عليه لفات النظر له فجعل أيمان كل منهما دارئة للغائلة الدنيوية مع كذب أحدهما حتما، وفي ذلك آثار التفضل والرحمة، أما على الصادق فظاهر، وأما على الكاذب فهو إمهاله في الدنيا بدرء الحد عنه لعله يتوب في الدنيا فغفر له. وكما ستر الله عليهم في الدنيا ولم يفضحهم بإظهار صدقهم وكذبهم وأجلهم بالعقوبة إلى الآخرة لدرك التوبة في الدنيا، كذلك جعل سنة اللعان باقية بين المسلمين لتكون الحكمة باقية بينهم سبحانه ما أعظم شأنه وأوسع رحمته وأدق حكمته،
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ أي بأبلغ الكذب عُصْبَةٌ مِنْكُمْ أي جماعة من المؤمنين وهم زيد بن رفاعة، وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وعباد بن المطلب، وحمنة بنت جحش، وهي زوجة طلحة بن عبيد الله. و «عصبة» خبر «إن» وهي من العشرة إلى الأربعين لا تَحْسَبُوهُ الإفك شَرًّا لَكُمْ والخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعائشة وصفوان بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لاكتسابكم به الثواب العظيم، وظهور كرامتكم على الله تعالى بإنزال ثماني عشرة آية في براءتكم، وتعظيم شأنكم، فإن قصة الإفك كانت في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفي حق عائشة وأبويها، وفي حق جميع الصحابة امتحانا لهم
__________
(1) رواه أحمد في (م 6/ ص 369) .(2/102)
وتهذيبا فإن البلاء للأولياء كاللهب للذهب كما
قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن أشد الناس بلاء: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل»
«1» .
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «يبتلى الرجل على قدر دينه»
«2» . أي وذلك لأن الله غيور على قلوب خواص عباده المحبوبين فإذا حصلت مساكنة بعضهم إلى بعض أجرى الله تعالى ما يرد كل واحد منهم عن صاحبه، ويرده إلى حضرته،
وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قيل له: أيّ الناس أحب إليك؟ قال:
«عائشة» فساكنها «3» وقال: «يا عائشة حبك في قلبي كالعقدة»
وفي بعض الأخبار أن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله إني أحبك وأحب قربك اه. فأجرى الله تعالى حديث أهل الإفك حتى رد الله رسوله عن عائشة إلى الله تعالى بانحلال عقدة حبها عن قلبه، ورد عائشة عنه صلّى الله عليه وسلّم إلى الله تعالى حتى قالت لما ظهرت براءة ساحتها: بحمد الله لا بحمدك.
وقصة الإفك:
إن عائشة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج اسمها خرج بها معه، فأقرع بيننا في غزوة قبل غزوة بني المصطلق، فخرج فيها اسمي، فخرجت معه صلّى الله عليه وسلّم وذلك بعد نزول آية الحجاب، فحملت في هودج، فسرنا حتى إذا رجعنا وقربنا من المدينة نزلنا منزلا ثم نودي بالرحيل، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري فإذا عقدي من جزع أظفار قد انقطع، فرجعت والتمسته، وحبسني طلبه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي، فحملوا هودجي، فظنوا أني في الهودج، وذهبوا بالبعير، ووجدت عقدي فلما رجعت لم أجد في المكان أحدا فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش فلما رآني عرفني، فاستيقظت باسترجاعه فخمرت، وجهي بجلبابي وو الله ما تكلمنا بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، فنزل حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها، فقمت إليها، فركبتها، ثم قاد البعير حتى أتينا الجيش فتفقّدني الناس حين نزلوا وماجوا في ذكري فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليها فخاض الناس في حديثي، والذي بدأ بالإفك وأذاعه بين الناس عبد الله بن أبيّ فقدمنا المدينة، فلحقني وجع ولم أر من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اللطف الذي كنت أعرفه منه حين أشتكي، إنما يدخل فيسلم، ثم يقول: «كيف تيكم؟» ثم ينصرف فلا أشعر بما جرى من الإفك حتى نقهت، فخرجت في بعض الليالي مع أم مسطح جهة المناصع، وكان متبرزنا ثم أقبلت أنا وهي قبل بيتي فعثرت، أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح. فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلا شهد بدرا؟! فقالت: أو ما بلغك الخبر؟ فقلت:
__________
(1) رواه أحمد في (م 1/ ص 80) .
(2) رواه أحمد في (م 6/ ص 103، 197) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (34358) ، والطبري في التفسير (8: 73) .
(3) رواه ابن حبيب في مسند الربيع (1: 6) ، بما معناه.(2/103)
وما هو؟ فقالت: أشهد أنك من المؤمنات الغافلات، ثم أخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي، ثم دخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال: «كيف تيكم؟» فقلت له: ائذن لي أن آتي أبوي، فأذن لي فأتيت أبوي فقلت لأمي: يا أماه ماذا يتحدث الناس؟ فقالت: يا بنية هوني عليك فو الله ما كانت امرأة وصيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، ثم قالت: ألم تكوني علمت ما قيل فيك حتى الآن، فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت، فدخل علي أبي وأنا أبكي فقال لأمي: ما يبكيها قالت: لم تكن علمت ما قيل فيها حتى الآن. فأقبل يبكي، ثم قال: اسكتي يا بنية فمكثت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ دخل علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسلم، ثم جلس ولم يجلس عندي منذ قيل فيّ ما قيل، ثم قال: «أما بعد، يا عائشة بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت برئية فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب الله عليه» . قالت: فلما قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقالته فاض دمعي، ثم قلت لأبي أجب عني رسول الله. فقال: والله ما أدري ما أقول، فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله فقالت: والله ما أدري ما أقول فقلت والله لقد علمت أنكم قد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في نفوسكم وصدقتم به فإن قلت لكم: إني بريئة لا تصدقوني، وإن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني بريئة منه لتصدقوني، والله لا أجد لي ولكم مثلا إلّا ما قال العبد الصالح أبو يوسف، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، ثم تحولت واضطجعت على فراشي، والله أنا أعلم أن الله يبرئني، وكنت أرجو أن يرى رسول الله في النوم رؤيا يبرئني الله بها. قالت: فو الله ما قام رسول الله من مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله الوحي على نبيه، فو الله ما سرى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى ظننت أن نفس أبوي ستخرجان فرقا من أن يأتي الله بتحقيق ما قال الناس. فلما سرى عنه وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها، أن قال: «أبشري يا عائشة قد برأك الله» «1» فقلت بحمد الله لا بحمدك، ولا بحمد أصحابك.
فقالت: أمي قومي إليه. فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد أحدا إلا الله الذي أنزل براءتي قالت:
ولما نزل عذري قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المنبر فذكر ذلك وتلا القرآن، فلما نزل ضرب الحد على عبد الله بن أبي ومسطح، وحمنة، وحسان
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أي على كل امرئ من أولئك العصبة مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ أي جزاؤه فقدر العقاب يكون مثل قدر الخوض في الإثم، وصار حسان أعمى أشل اليدين في آخر عمره، ومسطح بن أثاثة وابن خالة أبي بكر الصديق، مكفوف البصر وجلدت معهما امرأة من قريش وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ أي الذي تحمل أكثر الإفك من
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب النكاح، باب: فيما يؤمر به من غضّ البصرة وأحمد في (م 5/ ص 353، 357) .(2/104)
أولئك العصبة فابتدأ به ورغب في إشاعته وهو عبد الله بن أبي لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) في الآخرة بالنار وفي الدنيا بالحد، وبالطرد، وبأنه مشهور عليه بالنفاق لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) أي هلا ظننتم بأمثالكم من المؤمنين الذين هم كأنفسكم خيرا حين سمعتم الإفك، ولم لم تقولوا حينئذ هذا إفك ظاهر؟ فكيف بالصدّيقة ابنة الصدّيق، أم المؤمنين، حرمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم! كما روي أن أبا أيوب الأنصاري قال لأم أيوب: ألا ترين ما يقال؟ فقالت: لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سوءا قال: لا، قالت: ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فعائشة خير مني وصفوان خير منك لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ أي هلا أتوا على ما قالوا بأربعة شهداء عاينوا الزنا فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) أي فحين لم يقيموا بينة على ما قالوا فأولئك الخائضون في حكمه تعالى، هم الكاملون في الكذب وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) أي ولولا فضل الله عليكم أيها السامعون والمستمعون ورحمته في الدنيا بالإمهال للتوبة، وفي الآخرة بالمغفرة بعد التوبة لأصابكم عاجلا بسبب حديث الإفك الذي خضتم فيه عذاب عظيم. إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ أي وقت أخذكم حديث الإفك من المخترعين حتى اشتهر بسبب إفاضتكم وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ أي تقولون بأفواهكم كلاما ليس تفسيرا عن علم في قلوبكم. وَتَحْسَبُونَهُ أي حديث الإفك هَيِّناً أي ذنبا صغيرا أو لا إثم فيه حيث سكتم عن إنكاره، وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ أي والحال أن حديث الإفك عنده تعالى عَظِيمٌ (15) في الوزر واستجرار العذاب وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا أي وهلا قلتم تكذيبا للمخترعين والمشيعين حين سمعتم حديث الإفك ما يليق لنا أن نتكلم بهذا القول، وأن يصدر عنا ذلك بوجه من الوجوه سُبْحانَكَ أي أتعجب ممن تفوه بهذا الكلام فإنه أمر عظيم وأنزه الله تعالى عن أن تكون زوجة نبيه فاجرة، هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) أي كذب عظيم عند الله تعالى لعظمة المتقول عليه ولاستحالة صدق هذا القول يَعِظُكُمُ اللَّهُ بهذه المواعظ التي تعرفون بها عظم هذا الذنب، كراهة أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً أي مدة حياتكم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) فإن الإيمان وازع عنه. وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ
الْآياتِ
أي لأجلكم الآيات الدالة على محاسن الآداب دلالة واضحة لتتأدبوا بها، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بجميع أحوال عباده، حَكِيمٌ (18) في جميع تدابيره وأفعاله.
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا أي إن الذين يريدون انتشار الخصلة المفرطة في القبح فيما بين الناس، فالجار متعلق بتشيع أو متعلق بمضمر هو حال من الفاحشة، أي إن العصبة الذين يقصدون شيوع الفاحشة كائنة في حق المؤمنين عائشة وصفوان. لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا من الحد واللعن والعداوة من الله والمؤمنين. ولقد ضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله بن أبيّ، فظهر كفره بعد أن كتمه، وضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حسانا ومسطحا حد القذف، وقعد صفوان(2/105)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
لحسان، فضربه ضربة بالسيف فكف بصره. وَالْآخِرَةِ من عذاب القبر وعذاب النار، ومما يعلمه الله تعالى، فالحدود جوابر للذنب المحدود به، كالقذف. وأما ذنب الأقدام فلا يكفره إلا التوبة وعذاب الآخرة لعبد الله بن أبيّ خاصة، وَاللَّهُ يَعْلَمُ جميع الأمور، ومن جملتها محبة ظهور الفاحشة وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) ما يعلمه الله تعالى، لأن محبة القلب كامنة، فالله تعالى لا يخفى عليه شيء وإن بالغ العبد في إخفاء تلك المحبة فهو يعلم ذلك منه، ويعلم قدر الجزاء منه، أما نحن فلا نعلم محبة القلب إلا بالأمارات وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بكم وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20) لهلكتم
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي لا تتبعوا آثار الشيطان ولا تسلكوا مسالكه في الإصغاء إلى الإفك وإشاعة الفاحشة في المؤمنين وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ أي ومن يتبع طرق تزيين الشيطان فقد فعل القبيح، وما لا يعرف في شريعة، ولا في سنة، لأن عادته يأمر بهما. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بالتوفيق للتوبة الماحصة للذنوب، وبشرع الحدود المكفّرة لها، ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً أي ما طهر أحد منكم من دنس الذنوب إلى آخر الدهر. فإن العصبة قد تابوا وطهروا غير عبد الله بن أبي فإنه استمر على الشقاوة حتى مات.
وقرأ يعقوب وابن محيصن «ما زكّى» بتشديد الكاف أي ما طهر الله تعالى أحدا من أولئك العصبة من تلك الذنوب أبدا وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ أي يطهره من الذنوب بحمله على التوبة وبقبولها، وَاللَّهُ سَمِيعٌ لما أظهروه من التوبة، ولأقوالكم في القذف، وفي إثبات البراءة لعائشة، عَلِيمٌ (21) بإخلاصكم في التوبة وبمحبة إشاعة الفاحشة وبكراهيتها. وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي ولا يقصر أولو الفضل في الدين والسعة في المال في أن يحسنوا إليهم- كذا قاله أبو مسلم، كما يروى عن أبي عبيدة- والمعنى عند أكثر المفسرين: ولا يحلف أولو الفضل منكم في الدين والبذل، والغنى بالمال على أن لا ينفقوا عليهم وعلى أن لا يعطوهم. وقرأ الحسن «ولا يتأل» ، وَلْيَعْفُوا أي وليتجاوزوا عن الخائضين في الإفك بالظاهر، وَلْيَصْفَحُوا أي ليعرضوا عن لومهم بالقلب بأن يتناسوا جرمهم. وقرئ الأفعال الثلاثة بتاء الخطاب. أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ بمقابلة عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) .
قال المفسرون: نزلت هذه الآية في أبي بكر حيث حلف أن لا ينفق على مسطح- وهو ابن خالته- وكان من فقراء المهاجرين وقد كان يتيما في حجره، وكان ينفق عليه، وأن لا ينفق على ذوي قرابته لما خاضوا في أمر عائشة، فلما نزلت الآيات التي أبرأت عائشة من الإفك قال لهم أبو بكر: قوموا فلستم مني ولست منكم، ولا يدخلن أحد منكم علي. فقال مسطح: ننشدك الله والإسلام والقرابة أن لا تحوجنا إلى أحد، فما كان لنا في أول الأمر من ذنب وإنما كنت أغشى(2/106)
مجلس حسان، وأسمع ولا أقول. فقال لمسطح: إن لم تتكلم فقد ضحكت وشاركت فيما قيل فقال: قد كان ذلك تعجبا من قول حسان، فلم يقبل عذره وقال: انطلقوا أيها القوم فإن الله لم يجعل لكم عذرا ولا فرجا فخرجوا لا يدرون أين يذهبون، وأين يتوجهون من الأرض. وبعض الصحابة أقسموا أن لا يتصدقوا على من تكلم بشيء من الإفك فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أبي بكر، وقرأ عليه الآية، فلما وصل إلى قوله: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ» قال: بلى يا رب، إني أحب أن تغفر لي، فذهب أبو بكر إلى بيته، وأرسل إلى مسطح وأصحابه وقال: قبلت ما أنزل الله تعالى على الرأس والعين، وإنما فعلت بكم ما فعلت إذ سخط الله عليكم أما إذ عفا عنكم فمرحبا بكم، فرجع إلى مسطح نفقته، وحلف أن لا ينزعها منه أبدا وألطف بقرابته وأحسن إليهم وهذا من أعظم أنواع المجاهدات، فإن مجاهدة النفس أشد من مجاهدة الكفار. إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ أي العفائف من الفاحشة الْغافِلاتِ أي النقيات القلوب الْمُؤْمِناتِ أي المتصفات بالإيمان بكل ما يجب أن يؤمن به من الواجبات والمحظورات وغيرها إيمانا حقيقيا تفصيليا وهن أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي عذبوا في الدنيا بالحد وفي الآخرة بالنار وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) وهو عذاب الكفر، فإن كان القذفة مؤمنين فذلك الإبعاد عن الثناء الحسن على ألسنة المؤمنين، وهجرهم لهم، وزوالهم عن رتبة العدالة، وضرب الحد. يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) فإن الله تعالى ينطقها بقدرته فتخبر كل جارحة منها بما صدر عنها من أفاعيل صاحبها، يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ تشهد جوارحهم بأعمالهم القبيحة يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ أي يعطيهم الله جزاء عملهم المقطوع بحصوله لهم، وَيَعْلَمُونَ عند معاينتهم الأهوال أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) أي الثابت في ذاته وصفاته، وكلماته المنبئة عن الشؤون التي يشاهدونها، المظهر للأشياء كما هي في أنفسها، الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ أي النساء الخبيثات مختصات بالرجال الخبيثين. وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ أي والخبيثون لائقون بالنساء الخبيثات ويقال: المقالات الخبيثة من القذف مختصة بالخبيثين من أهل الإفك من الرجال والنساء.
ويقال: المقالات الخبيثة من اللعن والذم ونحو ذلك مختصة بهم وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أي والنساء الطيبات للرجال الطيبين وبالعكس. أو المعنى: والكلمات الطيبات من قول منكري الإفك للطيبين من الرجال والنساء. ويقال: والطيبون من الفريقين لائقون بالكلمات الحسنة، وحيث كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أطيب الطيبين وأفضل الأولين والآخرين، تبين كون زوجاته أطيب الطيبات بالضرورة. أُولئِكَ أي أهل البيت مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ أي مما يقول الخبيثون من خبيثات الكلمات. فالله تعالى برأ أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأكاذيب الباطلة لكيلا يقدح فيهن أحد كما أقدموا على عائشة، ونزه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أمثال هذا الأمر، فلا أحد أطهر منه فأزواجه إذا لا يجوز أن يكنّ إلا طيبات. لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي براءة من الله وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)(2/107)
في الآخرة. وهذه الجملة خبر ثان لأولئك ويجوز أن يكون لهم خبر أولئك ومغفرة فاعله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ أي التي تسكنونها حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا أي تستكشفوا الحال هل يراد دخولكم أم لا؟ وحتى يؤذن لكم، وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها عند الاستئذان.
روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن التسليم أن يقال السلام عليكم أأدخل؟ ثلاث مرات، فإن أذن له دخل وإلا رجع»
. ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ أي التسليم مع الاستئناس خير لكم من تحية الجاهلية والدمور، وهو الدخول بغير إذن
وفي الحديث: «من سبقت عينه استئذانه فقد دمر»
. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) أي أمرتم بهذا التأديب لكي تتذكروا به وتعملوا به.
وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص بتخفيف الذال. والباقون بالتشديد، وسبب نزول هذه الآية أن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول الله إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، لا والد ولا ولد، فيأتي الأب فيدخل علي وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي، وأنا على تلك الحال. فنزلت هذه الآية. فقال أبو بكر: يا رسول الله أفرأيت الخانات والمساكن في طرق الشام ليس فيها ساكن أفلا ندخلها إلا بإذن؟! فأنزل الله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ [النور: 29] الآية فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أي البيوت أَحَداً ممن يملك الإذن فَلا تَدْخُلُوها، واصبروا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ من جهة من يملك الإذن عند إتيانه، واستثنى ما إذا عرض فيه حرق أو غرق، أو كان فيه منكر ونحوه، وَإِنْ قِيلَ
لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا
أي إن أمرتم من جهة أهل البيت بالرجوع، فارجعوا سواء كان الأمر ممن يملك الإذن أو لا، ولا تلحوا بتكرير الاستئذان، ولا تلجوا بالإصرار على الانتظار إلى أن يأتي الإذن هُوَ أي الرجوع أَزْكى لَكُمْ أي أصلح لكم من الوقوف على أبواب الناس، لأنه قد يكرهه صاحب الدار. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الدخول بإذن وبغيره عَلِيمٌ (28) فيجازيكم عليه. لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي إثم أَنْ تَدْخُلُوا بغير استئذان بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ كالربط والخانات والحوانيت، والحمامات ونحوها، فإنها معدة لمصالح الناس فِيها مَتاعٌ لَكُمْ أي حق انتفاع لكم كالاستكنان من الحر والبرد، وإيواء الأمتعة والشراء والبيع، والاغتسال وغير ذلك وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29) من قصد صلاح، أو فساد، أو اطلاع على عورات في دخول هذه المواضع. قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ. ومقول القول أمر قد حذف لدلالة جوابه عليه، أي قل لهم: أن يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ أي يكفوا أبصارهم عن الحرام.
«من» زائدة أو للتبعيض، لأن الغالب أن الاحتراز عن النظرة الأولى لا يمكن، فوقع قصد أو لم يقصدوه، ولا يجوز أن يكرر النظر إلى الأجنبية
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «يا علي، لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة»
«1» . وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ عن الحرام ذلِكَ أي غض البصر عن
__________
(1) رواه القرطبي في التفسير (12: 258) .(2/108)
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
عمله وحفظ الفرج أَزْكى لَهُمْ أي أبعد لهم عن دنس الريبة، وأصلح من كل شيء نافع. إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) من إجالة النظر وتحريك الجوارح للحظوظ وللحقوق.
وقدم الأمر بمنع البصر على الأمر بحفظ الفرج، لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور والبلوى فيه أكثر.
وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ فلا ينظرن إلى ما لا يحل لهن النظر إليه وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ بالتّصون عن الزنا، وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ وهي ثلاثة أمور:
أحدها: الثياب.
وثانيها: الحلي كالخاتم والسوار والخلخال، والدملج، والقلادة، والإكليل، والوشاح، والقرط.
وثالثها: الأصباغ كالكحل والخضاب بالوسمة في حاجبيها، والغمزة في خديها، والحناء في كفيها وقدميها. إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها عند مزاولة الأمور التي لا بد منها عادة كالخاتم والكحل، والخضاب في اليدين، والغمزة، والثياب. والسبب في تجويز النظر إليها إن في سترها حرجا بينا، لأن المرأة لا بد لها من مناولة الأشياء بيديها والحاجة إلى كشف وجهها في الشهادة، والمحاكمة والنكاح، وفي ذلك مبالغة في النهي عن إبداء مواضعها كما لا يخفى. وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ أي وليرخين قناعهن على صدورهن. وقد كانت النساء على عادة الجاهلية يسدلن خمرهن من خلفهن، فتظهر نحورهن وقلائدهن من جيوبهن، فأمرن بإرسال مقانعهن على الجيوب ليتغطى بذلك أعناقهن ونحورهن. وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ الخفية المنهية عن إبدائها للأجانب إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ فإنهن المقصودون بالزينة، ولهم أن ينظروا إلى جميع بدنهن حتى الموضع المعهود، ولكنه يكره نظره أَوْ آبائِهِنَّ وإن علون من جهة الذكران والإناث، أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ في النسب أو اللبن أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ من غيرهن وإن سفلوا، أَوْ إِخْوانِهِنَّ في النسب أو اللبن أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ كذلك، لكثرة المخالطة الضرورية بينهم وبينهن فلهم أن ينظروا منهن ما يبدو عند الخدمة، وعدم ذكر الأعمام والأخوال لما أن الأحوط أن يتسترن عنهم حذرا من أن يصفوهن لأبنائهن، أَوْ نِسائِهِنَّ المختصة بهن من جهة الاشتراك في الحدين وهي حرائر المؤمنات أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ من الإماء دون العبيد فإنهم بمنزلة الأجانب من ساداتهم. وقيل: من الإماء والعبيد فيجوز لهن أن يكشفن لهم ما عدا ما بين السرة والركبة، وينظروا له وكذا العكس وذلك بشرط العفة، وعدم الشهوة من الجانبين أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أي الذين يتبعون الناس لينالوا من فضل طعامهم ولا حاجة لهم إلى النساء، لأنهم بله لا يعرفون شيئا من أمورهن. أو شيوخ صلحائهم قد ذهبت شهوتهم إذا كانوا معهن، غضوا أبصارهم، أو الممسوحون وهم ذاهبوا الذكر والأنثيين.
وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر «غير» بالنصب على الاستثناء والحال. أَوِ(2/109)
الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ
أي الطفل الذين لم يتصوروا عورات النساء، ولم يدروا ما هي لعدم تمييزهم- كما قاله ابن قتيبة- أو الذين لم يبلغوا أن يطيقوا إتيان النساء- كما قاله الفراء والزجاج- فيجوز أن يبدين للتابعين والأطفال ما عدا ما بين السرة والركبة. وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ أي لا يضربن الأرض بأرجلهن ليتقعقع خلخالهن فيعلم أنهن ذوات خلخال، ومن فعل ذلك منهن بحليهن فهو مكروه، ومن فعل ذلك منهن تبرجا للرجال فهو حرام مذموم. وكذلك من ضرب بنعله الأرض من الرجال إن فعل ذلك عجبا حرم، فإن العجب كبيرة وإن فعل ذلك تبرجا لم يحرم. وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) أي توبوا من نوع تفريط في إقامة مواجب التكاليف كما ينبغي.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة، أي فإنه وإن جب بالإسلام لكن يجب الندم عليه، والعزم على تركه كلما خطر بباله كما قال بعض العلماء: من أذنب ذنبا ثم تاب عنه لزمه كلما ذكره أن يجدد التوبة، لأنه يلزم أن يستمر على ندمه إلى أن يلقى ربه.
وقرأ ابن عامر هنا، وفي «الزخرف» ، وفي «الرحمن» بضم الهاء وصلا، ووجهه أن الهاء كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف فلما سقطت الألف لالتقاء الساكنين استثقلت الفتحة على حرف خفي، فضمت الهاء اتباعا للرسم واتباعا لحركة ما قبلها، وقد رسمت هذه الثلاثة دون ألف، فوقف أبو عمرو والكسائي بألف. والباقون بدونها ابتاعا للرسم، فالرسم سنة متبعة.
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ أي زوجوا أيها الأولياء والسادات من لا زوج له من الأحرار والحرائر وَالصَّالِحِينَ لأمر النكاح مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ ليحصن دينهم وهم الذين تنزلونهم منزلة الأولاد في المودة، وفي بذل المال والمنافع، وعدم اعتبار الصلاح في الأحرار والحرائر، لأن الغالب فيهم الصلاح لمساعدة الأولياء لهم، ولأنهم مستقلون في التصرفات المتعلقة بأنفسهم وأموالهم إِنْ يَكُونُوا أي الأحرار فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، أي لا تنظروا إلى فقراء أحد الجانبين، الخاطب والمخطوبة، ففي فضل الله ما يغني عن المال، فإنه غاد ورائح، يرزق من يشاء من حيث لا يحتسب، وَاللَّهُ واسِعٌ أي ذو سعة لخلقه، عَلِيمٌ (32) بمقادير ما يصلحهم من الرزق، يبسطه لمن يشاء ويضيق وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً أي وليجتهد في قمع الشهوة من لا يتمكنون من الوصول إلى النكاح حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي فمن لا يتمكن من المال فليطلب العفة عن الحرام ولينتظر أن يوصله الله إلى بغيته من النكاح وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي والذين يطلبون المكاتبة من عبيدكم وإمائكم ليصيروا أحرارا فَكاتِبُوهُمْ أي فصيروهم أحرارا بعقد الكتابة، والاسم الموصول منصوب بفعل مقدر يفسره المذكور. إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً أي وفاء بأداء مال الكتابة، وصلاحا لا يؤذي الناس بعد العتق.(2/110)
وهذا لندب الكتابة وليس لشرط الصحة. وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ أي حطوا أيها السادة عن المكاتبين جزءا من مال الكتابة، أو ادفعوا إليهم جزءا مما أخذ منهم. وذلك للندب عند مالك وأبي حنيفة، وللوجوب عند الشافعي. وقيل: هو أمر بإعطاء سهمهم من الزكوات، فالأمر للوجوب حتما. وقيل: هو أمر ندب لعامة المسلمين بإعانة المكاتبين بالتصدق عليهم.
وروي أن غلاما لحويطب بن عبد العزى يقال له: صبيح سأله أن يكاتبه فأبى عليه، فنزلت هذه الآية فكاتبه على مائة دينار ووهب له منها عشرين دينارا وَلا تُكْرِهُوا
فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ
أي ولا تجبروا إماءكم على الزنا إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً أي تعففا عن الزنا، فالتقييد بهذا الشرط لأجل تحقق الإكراه المنهي عنه، لأنه لا يتحقق إلا عند إرادة التحصن. أما عند ميلهن للزنا فهو باختيارهن فلا يتصور الإكراه حينئذ. وفائدة الشرط بالمبالغة في النهي عن الإكراه أي إنهن إن أردن العفة فالسيد أحق بإرادتها وفي ذلك إشارة على أن السادة إكراههن على النكاح فليس للأمة أن تمتنع على السيد إذا زوجها لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي لتطلبوا بالإكراه الأمول بكسبهن وأولادهن وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ على الزنا فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) لهن لأنهن آثمات لأن الزنا لا يباح بإكراه.
روي أنه كان لعبد الله بن أبيّ رئيس المنافقين ست جوار معاذة، ومسيكة، وأميمة وعمرة، وأروى، وقتيلة يكرههن على البغاء وضرب عليهن ضرائب، فشكت ثنتان منهن إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية وقيل: إن عبد بن أبي أسر رجلا فراود الأسير جارية عبد الله وكانت الجارية مسلمة، فامتنعت لإسلامها وأكرهها ابن أبي على ذلك رجاء أن تحمل من الأسير فيطلب فداء ولده فنزلت هذه الآية: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ.
قرأ ابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي بكسر الياء أي مبينات لكل ما بكم حاجة إلى بيانه من الحدود، وسائر الأحكام والآداب وغير ذلك. والباقون بفتحها، أي موضحات في هذه السورة من معاني الأحكام والحدود وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ أي وأنزلنا مثلا كائنا من نوع أمثال الذين مضوا من قبلكم من القصص العجيبة، والأمثال المضروبة لهم في الكتب السابقة، والكلمة الجارية على ألسنة الأنبياء عليهم السلام، فتنتظم قصة عائشة لقصة يوسف وقصة مريم، وسائر الأمثال الواردة في السورة الكريمة انتظاما واضحا ولقد برأ الله تعالى أربعة بأربعة: برأ يوسف بلسان الشاهد، وبرأ موسى من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه، وبرأ مريم بإنطاق ولدها، وبرأ عائشة بتلك الآيات العظام. وَمَوْعِظَةً تنزجرون عما لا ينبغي من المحرمات والمكروهات، وسائر ما يخل بمحاسن الآداب لِلْمُتَّقِينَ (34) . وهذا حث للمخاطبين على الاغتنام بالانتظام في سلك المتقين ببيان أنهم المغتنمون لآثار الموعظة، المقتبسون من أنوارها، ثم ذكر الله تعالى مثلين:(2/111)
أحدهما: في بيان أن دلائل الإيمان في غاية الظهور.
والثاني: في بيان أن أديان الكفرة في غاية الظلمة. أما المثل الأول فقوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
قال ابن عباس: أي الله هادي أهل السموات والأرض، فهم بنوره يهتدون وبهداه من حيرة الضلالة ينجون، فمعنى النور هو الهداية، أي ذو نور، أي ذو هداية مَثَلُ نُورِهِ أي صفة النور الفائض من الله تعالى على الأشياء المستنيرة به وهو القرآن كَمِشْكاةٍ أي كصفة كوة غير نافذة في الجدار في الإضاءة والتنوير، فِيها مِصْباحٌ أي سراج ضخم ثاقب. الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ أي قنديل من الزجاج الصافي الأزهر. الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ أي متلألئ وقّاد، شبيه بالدر في صفائه وزهرته. يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح التاء والواو وبتشديد القاف على صيغة الماضي. وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي بضم التاء الفوقية، وسكون الواو على المضارع المبني للمفعول. وعن نافع وحفص بياء كذلك. وعن عاصم بياء مضمومة وفتح الواو، وتشديد القاف و «زيتونة» بدل من «شجرة» ، و «لا شرقية» صفة لها، أي يبتدئ إيقاد المصابيح، وفتيلة الزجاج من زيت شجرة كثيرة المنافع، تبرز على جبل عال، أو صحراء واسعة فتطلع الشمس عليها حالتي الطلوع والغروب، أي تقع الشمس عليها طول النهار، لا شرقية وحدها، ولا غربية وحدها ولكنها شرقية وغربية. وكان زيتها الصفاء. وهذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة، واختيار الفراء والزجاج.
وقال ابن عباس: في الزيتون منافع يسرج بزيته وهو إدام ودهان، ودباغ، ووقود يوقد بحطبه وثفله وليس فيه شيء إلا وفيه منفعة حتى الرماد يغسل به الإبريسم، وهو أول شجرة نبتت في الدنيا، وأول شجرة ثبتت بعد الطوفان، ونبتت في منازل الأنبياء والأرض المقدسة، ودعا له سبعون نبيا بالبركة منهم إبراهيم ومنهم محمد صلّى الله عليه وسلّم
فإنه قال مرتين: «اللهم بارك في الزيت والزيتون»
«1» .
يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ وهذه الجملة صفة ل «شجرة» أي يقرب زيت تلك الشجرة يضيء بنفسه من غير مساس نار أصلا لصفائه.
قال ابن عباس: هذا مثل نور الله وهداه في قلب المؤمن، كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار، فإن الزيت إذا كان خالصا رؤي من بعيد كأن له شعاعا فإذا مسته النار إزداد ضوءا على ضوئه، كذلك قلب المؤمن يكاد يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاء العلم ازداد
__________
(1) رواه ابن ماجة في كتاب المساجد، باب: ما يكره في المساجد.(2/112)
نورا على نور، وهدى على هدى كقلب إبراهيم عليه السلام من قبل أن تجيئه المعرفة، أي قبل أن يخبره أحد بأن له ربا، فإنه قال: هذا ربي، فلما أخبره الله بأنه ربه وقال له: أسلم زاد هدى وقال:
أسلمت لرب العالمين. نُورٌ عَلى نُورٍ أي نور حاصل بالزيت، كائن مع نور بالنار في قنديل، فالزيت نور، والقنديل نور والمصباح نور فالمشكاة التي هي الطاقة غير النافذة أجمع للنور فيكون فيها أقوى مما لو كانت نافذة، فإن المصباح إذا كان في مكان متضايق كان أضوأ وأجمع لنوره بخلاف المكان المتسع، فإن الضوء ينتشر فيه، فالقنديل أعون على زيادة الإنارة، وكذلك ضوء الزيت. والمعنى: ذلك القرآن نور عظيم كائن على نور عظيم متضاعف من غير تحديد كتضاعف نور المشكاة بما ذكر يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ أي يهدي الله لنوره المتضاعف، وهو القرآن من يشاء هدايته من عباده هداية موصلة إلى المطلوب، بأن يوفقهم لفهم ما فيه من دلائل حقيقته من الأخبار عن الغيب، وغير ذلك من موجبات الإيمان. فالله تعالى بين الدلائل حتى بلغت في الوضوح إلى الحد الذي لا يمكن الزيادة عليه. فوضوح الدلائل لا ينفع ما لم يخلق الله الإيمان والعلم. وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ كافة تقريبا للمعقول من المحسوس. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) معقولا كان أو محسوسا ظاهرا كان أو خفيا. فِي بُيُوتٍ صفة ل «مشكاة» ، أي كمشكاة فيها مصباح في بيت من بيوت الله، أو صفة لزجاجة. والمعنى: ذلك القنديل معلق في مساجد أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ أي أمر الله أن نبنى رفيعة وتطهر عن الأنجاس والأقذار، وقد كره بعض العلماء تعليم الصبيان في المساجد ورأى أنه من باب البيع، وهذا إذا كان بأجرة، فلو كان بغير أجرة لمنع أيضا من وجه آخر وهو أن الصبيان لا يتحرزون عن الأقذار والأوساخ فيؤدي ذلك إلى عدم تنظيف المساجد، وقد أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتنظيفها وتطييبها
فقال: «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم، وجمروها في الجمع، واجعلوا لها على أبوابها المطاهر»
«1» . وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ بجميع أذكاره تعالى.
وقال ابن عباس: يتلى في المساجد كتابه تعالى يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ.
وقرأ ابن عامر وشعبة عن عاصم بالبناء للمفعول ونائب الفاعل لفظ له، و «رجال» فاعل لفعل مقدر، أو خبر مبتدأ محذوف أي يسبح له رجال أو المسبح رجال، والوقف على الآصال حسن. والباقون بالبناء للفاعل و «رجال» فاعل ولا يوقف على «الآصال» لعدم تمام الكلام والصلاة التي تؤدي في الغداة صلاة الصبح، وفي العشي صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
وقرئ و «الإيصال» أي الدخول في الأصيل لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ أي لا يشغلهم نوع من أنواع التجارة ولا فرد من أفراد البياعات عن حضور المساجد لطاعة الله،
__________
(1) رواه الطبراني في المعجم الكبير (8: 214) .(2/113)
وعن أداء الصلاة في وقتها جماعة. روى سالم عن ابن عمر رضي الله عنهم أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة فقام الناس، أغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد. فقال ابن عمر: نزلت هذه الآية في شأنهم.
وروي عن أبي أمامة أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من خرج من بيته متطهرا إلى صلاة مكتوبة كان أجره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إلى المسجد إلى تسبيح الضحى لا يقصد إلا ذلك كان أجره كأجر المعتمر»
«1» .
وروى أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما من أحد يغدو ويروح إلى المسجد يؤثره على ما سواه إلا وله عند الله نزل يعد له في الجنة»
«2» .
وفي رواية سهل بن سعد مرفوعا: «من غدا إلى المسجد وراح ليعلم خيرا وليتعلمه كان كمثل المجاهد في سبيل الله يرجع غانما»
«3» ، وَإِيتاءِ الزَّكاةِ أي وعن إعطاء المال الذي فرض إخراجه للمستحقين.
قال ابن عباس: إذا حضر وقت أداء الزكاة لم يحبسوها يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) أي يخافون يوما تتقلب في ذلك اليوم القلوب بين طمع في النجاة وخوف من الهلاك وتتقلب الأبصار من أي ناحية يؤمر بهم أمن ناحية اليمين، أم من ناحية الشمال؟ ومن أي ناحية يعطون كتابهم أمن قبل اليمين أم من قبل الشمال؟ أي فإنهم وإن بالغوا في ذكر الله تعالى والطاعات خائفون لعلمهم بأنهم ما عبدوا الله حق عبادته، ف «يخافون» ، صفة ثانية ل «رجال» أو حال من مفعول «لا تلهيهم» و «يوما» مفعول به و «تتقلب» صفة له لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا أي أحسن جزاء أعمالهم بحسب وعده لهم من أن حسنة واحدة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وقوله: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ متعلق بمحذوف، أي أيفعلون هذه القربات ليجزيهم الله ف «اللام» لام العاقبة والصيرورة وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ما لم يستحقوه بأعمالهم وما لم يخطر ببالهم وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38) أي فالله يعطيهم غير جزاء أعمالهم مما لا يفي به الحساب، ووضع الموصول موضع الضمير للتنبيه على أن مناط الرزق محض مشيئته تعالى، وللإعلام بأنهم ممن شاء الله تعالى أن يرزقهم كما أنهم ممن شاء الله تعالى أن يهديهم لنوره، فإن جميع ما ذكر من أعمالهم الحسنة مقتبس من القرآن الذي هو المراد بالنور، وبذلك يتم أحوال من اهتدى بهداه على أوضح وجه. وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ أي من أنواع البر كصدقة وعتق ووقف ونحو ذلك من كل ما لا يتوقف على نية، كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ أي في أرض منبسطة. والسراب: ما يتراءى في
__________
(1) رواه أحمد في (م 2/ ص 509) بما معناه.
(2) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (10: 24) بما معناه.
(3) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (8: 31) ، والطبراني في المعجم الكبير (10:
241) .(2/114)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
الفلوات شبيها بالماء الجاري، وليس بماء ولكن الذي ينظر إليه من بعيد يظنه ماء جاريا. وقيل:
هو لمعان الشمس على الفلوات يظن أنه ماء يجري. يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ أي ويقصد الظمآن ما ظنه ماء ولا يزال جائيا إليه حتى إذا جاءه لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً أصلا، كما كان يراه من قبل. فالكافر الذي يأتي بأعمال البر، كصلة الرحم وسقاية الحاج، وعمارة الكعبة، وقرة الأضياف، وإغاثة الملهوفين يعتقد أن له ثوابا عند الله، فإذا مات ووافى عرصات القيامة لم يجد الثواب الذي كان يظنه، بل وجد العقاب العظيم، فعظمت حسرته، وتناهى غمّه. فيشبه حاله حال العطشان الذي اشتدت حاجته إلى الماء، فإذا شاهد السراب، تعلق قلبه به ويقوى طعمه فإذا جاءه أيس مما كان يرجوه فيعظم ذلك عليه. وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ أي وجدوا حكم الله عند المجيء يوم القيامة أو وجد الله بالمرصاد عليه فَوَفَّاهُ حِسابَهُ أي أعطاه جزاء عمله كاملا بالعقاب، فتغير ظن النفع العظيم إلى تيقن الضرر العظيم وإفراد الضمير الراجع إلى الذين كفروا لإرادة الجنس، أو لإرادة كل واحد منهم. وقد قيل: نزلت هذه الآية في شأن عتبة بن ربيعة بن أمية كان قد تعبّد في الجاهلية، ولبس المسوح، والتمس الدين فلما جاء الإسلام كفر. وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) لأنه عالم بجميع المعلومات فلا يشق عليه الحساب أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ.
وروي عن ابن كثير أنه قرأ «سحاب» و «ظلمات» بالجر على البدل من «ظلمات» كقراءة قنبل بتنوين «سحاب» وبجر «ظلمات» بجعلها بدلا من «ظلمات» الأولى. وروي عن ابن كثير أيضا على إضافة «سحاب» كقراءة البزي بجعل الموج المتراكم بمنزلة السحاب. وقرأ الباقون «سحاب» و «ظلمات» كلاهما بالرفع والتنوين و «يغشاه» صفة ثانية ل «بحر» ، وجملة «من فوقه موج من» مبتدأ وخبر صفة ل «موج» وجملة «من فوقه سحاب» صفة ل «موج» الثاني و «ظلمات» خبر مبتدأ محذوف وقوله: أَوْ كَظُلُماتٍ عطف على ك «سراب» وأو للتقسيم أي إن عمل الكافر قسمان قسم كالسراب وهو العمل الحسن وقسم كالظلمات وهو العمل القبيح: والمعنى. أو الذين كفروا أعمالهم القبيحة كظلمات كائنة في بحر عميق يعلوه موج كائن، من فوقه موج كائن من فوق ذلك الموج سحاب ستر ضوء النجوم. وما تقدم ذكره ظلمات متراكمة، وهي ظلمة البحر، وظلمة الموج الأول، وظلمة الموج الثاني، وظلمة السحاب. وهذا بيان لكمال شدة الظلمات. كما أن قوله تعالى: نُورٌ عَلى نُورٍ بيان لغاية قوة النور، إلا أن ذلك متعلق بالمشبه، وهذا بالمشبه به إِذا أَخْرَجَ أي من في هذه الظلمات يَدَهُ لينظر إليها لَمْ يَكَدْ يَراها أي لم يقارب أن يراها ولم يحصل له رؤيتها مع أنها قريبة من عينه وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40) أي ومن لم يشأ الله أن يهديه لنوره الذي هو القرآن ولم يوفقه للإيمان به فما له هداية أصلا من أحد
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ أي قد علمت يا(2/115)
أشرف الخلق بالوحي الصريح والاستدلال الصحيح أن الله ينزهه في ذاته وصفاته وأفعاله عن كل ما لا يليق بشأنه ما في السموات والأرض وتنزهه الطير تنزيها خاصا بها حال كونها باسطات أجنحتها في جو السماء، فإن كل موجود يدل على وجوب صانع واجب الوجود، متصف بصفات الكمال، مقدس عن كل ما لا يليق بشأن من شؤونه الجليلة كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ أي كل واحد من المخلوقات قد علم هو دعاءه وتسبيحه اللذين ألهمهما الله تعالى إياه، فالضمائر كلها عائدة على كل.
وروي عن ابن ثابت قال: كنت جالسا عند محمد بن جعفر الباقر فقال لي: أتدري ما تقول هذه العصافير عند طلوع الشمس وبعد طلوعها قلت: لا، قال: فإنهن يقدسن ربهن، ويسألنه قوت يومهن. وقال بعض العلماء: إنا نشاهد أن الله تعالى ألهم الطيور وسائر الحشرات أعمالا لطيفة يعجز عنها أكثر العقلاء، وهذا دليل على أن الله يلهمها معرفته ودعاءه وتسبيحه وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) أي بحقيقة ما يفعلونه بالكمال وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي أن جميع الموجودات في تصرفه تعالى إيجادا واعداما لأنه خالق لها وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أي رجوع الكل بالفناء والبعث. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي أي يسوق سَحاباً متفرقا، ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ أي يجمع بين قطع السحاب فيجعلها سحابا واحدا، ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً أي مجتمعا بعضه فوق بعض فَتَرَى الْوَدْقَ أي المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ أي من فتوق السحاب، وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ ف «من» الأولى ابتدائية، وكذا الثانية بدل اشتمال من «من» الأولى، و «من» الثانية تبعيضية، أي وينزل مبتدئا من السماء من جبال كائن في السماء بعض برد، ففي السماء جبال من برد، كما أن في الأرض جبالا من حجارة.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون. والباقون بفتحها وتشديد الزاي فَيُصِيبُ بِهِ أي بالبرد مَنْ يَشاءُ أن يصيبه، فيضر ما يقع عليه من حيوان ونبات، وَيَصْرِفُهُ عَنْ
مَنْ يَشاءُ
صرفه عنه فلا يسقط عليه. يَكادُ سَنا بَرْقِهِ أي يقرب ضوء برق السحاب يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) أي يسلب الأبصار الناظرة له لشدة الإضاءة وسرعة ورودها، يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ بالمعاقبة بينهما، وبتغيير أحوالهما بالحر والبرد وغيرهما. إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما تقدم ذكره لَعِبْرَةً أي لدلالة واضحة على وجود الصانع القديم، وكمال قدرته وعلمه لِأُولِي الْأَبْصارِ (44) أي لكل من له بصر يرجع إلى بصيرة. وهذا يدل أن الواجب على المرء أن يتفكر في هذه الأمور، ويدل على فساد التقليد. وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ أي كل حيوان يدب على الأرض من ماء، فمن صلة كل دابة لا صلة خلق، فكل دابة متولدة من الماء فهي مخلوقة لله تعالى وقيل: أصل جميع المخلوقات من الماء على ما روي أن أول ما خلق الله تعالى جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة، فصارت ماء، ثم خلق منه النار والهواء والتراب والنور. والمقصود من هذه الآية بيان أصل الخلقة، فكان أصل الخلقة الماء.(2/116)
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
وقرأ حمزة والكسائي «خالق» بصيغة اسم الفاعل وبالإضافة. فَمِنْهُمْ أي الدواب مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ كالحية والحيتان والديدان وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ كالإنس والطير، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ كالنعم والوحش يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ كما يشاء إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) فلا يمنعه مانع. لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ لكل ما يليق بيانه من الأحكام الدينية والأسرار التكوينية. وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ هدايته بتوفيقه للنظر الصحيح فيها إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) موصل إلى الفوز بالجنة وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا هما في الأمر والنهي ثُمَّ يَتَوَلَّى أي يعرض عن طاعتهما فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد ما قالوا هذه الكلمة.
وَما أُولئِكَ أي الذين يدعون الإيمان والطاعة بِالْمُؤْمِنِينَ (47) حقيقة.
وقال الحسن: نزلت هذه الآية في المنافقين الذين كانوا يظهرون الإيمان ويسرون الكفر وَإِذا دُعُوا أي الذين ادعوا الايمان والطاعة إِلَى اللَّهِ أي إلى كتاب الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ الرسول بَيْنَهُمْ بكتاب الله إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) عن كتاب الله وحكم الرسول إن كان الحكم عليهم وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ أي إلى الرسول مُذْعِنِينَ (49) أي طائعين لجزمهم بأنه صلّى الله عليه وسلّم يحكم لهم فقوله إِلَيْهِ متعلق ب «يأتوا» لأنه متعد ب «إلى» أو ب «مذعنين» لأنه بمعنى مسرعين في الطاعة أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي إعراضهم لأنهم مرضى القلوب لكفرهم ونفاقهم، أَمِ ارْتابُوا أي أم لأنهم شكوا في أمر نبوته صلّى الله عليه وسلّم بعد تقرير الإسلام في القلب، أَمِ لأنهم يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ أي يجورا عليهم في الحكم فإنهم بلغوا في حب الدنيا إلى حيث يتركون الدين بسببه كما قال تعالى، بَلْ أُولئِكَ أي المعرضون عن حكم الله هُمُ الظَّالِمُونَ (50) أي ليس إعراضهم عن الحكم لواحد من هذه الثلاثة، بل لأنهم هم الظالمون، أي يريدون أن يظلموا من له الحق عليهم، ويتم لهم جحوده، فيأبون المحاكمة إليه صلّى الله عليه وسلّم لعلمهم بأنه عليه الصلاة والسلام يقضي عليهم بالحق.
قال الضحاك: نزلت هذه الآية في المغيرة بن وائل كان بينه وبين علي بن أبي طالب أرض، فتقاسما، فوقع إلى علي منها ما لا يصيبه الماء إلا بمشقة. فقال المغيرة: بعني أرضك. فباعها إياه وتقابضا. فقيل للمغيرة: أخذت سبخة لا ينالها الماء! فقال لعلي: اقبض أرضك فإنما اشتريتها إن رضيتها ولم أرضها، لأنه لا ينالها الماء. فقال علي: بل اشتريتها ورضيتها وقبضتها، وعرفت حالها، لا أقبلها منك، ودعاه إلى أن يخاصمه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال المغيرة: أما محمد فلا آتيه ولا أحاكم إليه فإنه يبغضني، وأنا أخاف أن يحيف علي فنزلت تلك الآيات:
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ أي إلى كتابه وَرَسُولِهِ أي وإلى سنة رسوله لِيَحْكُمَ أي الرسول صلّى الله عليه وسلّم بَيْنَهُمْ بحكم الله أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا أي أجبنا الدعاء، وَأَطَعْنا لأحكامهما.
وقرأ الجمهور «قول المؤمنين» بالنصب على أنه خبر «كان» و «أن يقولوا» اسمها. وهذا(2/117)
أقوى صناعة، لأن الأولى جعل الأعرف الاسم و «أن يقولوا» أوغل في التعريف، لأن الفعل المبتدأ بأن لا سبيل إليه للتنكير بخلاف «قول المؤمنين» ، فإنه يجوز تنكيره بعزل الإضافة عنه.
والمعنى: إنما كان قول المؤمنين المخلصين عند الدعوة خصوصية قولهم المحكي عنهم.
وقرأ الحسن «قول المؤمنين» بالرفع على العكس. وهذا أفيد بحسب المعنى، لأن مصب الفائدة هو الخبر، فالأحق بالخبرية ما هو أكثر فائدة وأظهر دلالة على الحديث. والمعنى: إنما كان مطلق القول الصادر عن المؤمنين خصوصية هذا القول المحكي عنهم لا قولا آخر أصلا وهذا تعليم أدب الشرع بمعنى: أن ما يجب أن يسلك المؤمنون هكذا، وَأُولئِكَ المؤمنون القائلون بذلك هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) أي الفائزون بكل مطلب، والناجون من كل غضب وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيما أمروا به من الاحكام الشرعية، فيما سرهم وساءهم وَيَخْشَ اللَّهَ على ما مضى من ذنوبه وَيَتَّقْهِ فيما بقي من عمره فَأُولئِكَ الموصوفون بما ذكر هُمُ الْفائِزُونَ (52) بالنعيم الدائم في الجنة.
وهذه الآية على إيجازها حاوية لكل ما ينبغي للمؤمنين أن يفعلوه. وقرأ أبو عمرو وشعبة وخلاد ويتقه بسكون الهاء. وقالون اختلاس كسرة الهاء وحفص بسكون القاف وقصر كسرة الهاء والباقون وخلاد في أحد وجهيه بإشباع كسرة الهاء وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ
أي أقسم المنافقون به تعالى أقصى مراتب اليمين في الوكادة: لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ
بالخروج إلى الغزو لَيَخْرُجُنَ
. نزلت هذه الآية لما قال المنافقون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أينما كنت نكن معك لئن خرجت خرجنا، ولئن أقمت أقمنا وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا. قُلْ
لهم إظهارا لعدم القبول لكونهم كاذبين في تلك اليمين: لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
وهذا خبر مبتدأ محذوف، والجملة تعليل للنهي، أي لا تقسموا على ما تدعون من الطاعة لأن طاعتكم طاعة نفاقية واقعة باللسان فقط من غير موافقة للقلب وهي معروفة لكل أحد.
وقرأ اليزيدي بالنصب على معنى تطيعون طاعة معروفة لكل أحد مشهورة في ذلك.
والمعنى: أن الطاعة وإن اجتهد العبد في إخفائها لا بد أن تظهر مخايلها على شمائله، وكذا المعصية لأنه ما أسر عبد سريرة إلا ألبسه الله رداءها كما رواه الطبراني عن عثمان، وعن سعيد لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله للناس كائنا من كان. وعن عثمان بن عفان قال: لو أن رجلا دخل بيتا في جوف بيت فأدى هناك عملا أوشك الناس أن يتحدثوا به وما من عامل عمل عملا إلا كساه الله رداء عمله إن كان خيرا فخير وإن كان شرا فشر إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ
(53) مما تظهرونه من الأكاذيب المؤكدة بالأيمان الفاجرة، وما تضمرونه في قلوبكم من الكفر والنفاق والعزيمة على مخادعة المؤمنين وغيرها. وهو مجازيكم على ذلك. قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ فيما يدعوكم إليه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ في مسلكه إلى الله تعالى،(2/118)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ أي فإن تعرضوا عن طاعة الله وطاعة رسوله فاعلموا أن ما على الرسول ما أمر به من تبليغ الرسالة وقد شاهدتموه عند قوله: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ.
وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ أي ما أمرتم به من الطاعة. وعن نافع أنه قرأ «ما حمل» بفتح الحاء والميم مع التخفيف أي عليه ما حمل من أعباء الرسالة، وَإِنْ تُطِيعُوهُ فيما أمركم به من الطاعة تَهْتَدُوا أي تصيبوا الحق وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) أي ما على الرسول إلا التبليغ عن الله الموضح لكل ما يحتاج إلى الإيضاح، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ يا أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ أي أقسم الله على من جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح من أصحاب محمد ليجعلنهم بدلا عن الكفار متصرفين في الأرض العرب والعجم تصرف الملوك في مماليكهم، كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي كما استخلف الله تعالى بني إسرائيل في مصر والشام بعد إهلاك فرعون والجبابرة، وكما استخلف هارون ويوشع، وداود، وسليمان.
وقرأ أبو بكر والمفضل عن عاصم بضم التاء وكسر اللام فالموصول مرفوع بخلاف قراءة الجمهور من فتح التاء واللام فإن الموصول منصوب وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ
الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ
أي وليثبتن الله لهم دينهم الذي اختار لهم وهو الإسلام وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ من الأعداء أَمْناً، لأنه كان أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم في مكة قبل الهجرة خائفين، ثم هاجروا إلى المدينة وكانوا فيها يصبحون في السلاح ويمسون فيه حتى قال رجل منهم: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح.
فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تعبرون إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليس معه حديدة» . فأنزل الله تعالى هذه الآية
، وأنجز وعده وفتح لهم بلاد الشرق والغرب.
وقرأ ابن كثير وعاصم ويعقوب بسكون الباء الموحدة يَعْبُدُونَنِي حال من الموصول الأول الذي هو مفعول «وعد» أو استئناف بيان لجواب سؤال مقدر، كأنه قيل: ما بالهم يستخلفون ويثبتون في دين الإسلام ويأمنون فقيل: يعبدونني. لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً حال من الفاعل، أي يعبدونني غير مشركين بي في العبادة شيئا من الأوثان، وَمَنْ كَفَرَ أي جحد حق هذه النعم بأن لا يقيموا حقها بَعْدَ ذلِكَ أي بعد الاستخلاف والتمكين والتبديل فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55) أي العاصون الخارجون عن حريم الأمن، وأول من كفر بتلك النعم قتلة عثمان رضي الله عنه. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ عطف على مقدر يطلبه نظام الكلام تقديره: فلا تكفروا وأقيموا الصلاة فإنها مواصلة بينكم وبين ربكم. وَآتُوا الزَّكاةَ فإنها مواصلة بينكم وبين إخوانكم، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ في كل ما يأمركم به وينهاكم عنه لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) أي راجين أن ترحموا لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ، والخطاب لكل أحد ممن يصلح له، والموصول مفعول أول، و «معجزين» مفعول ثان و «في الأرض» ظرف له لإفادة شمول عدم الإعجاز(2/119)
لجميع أجزاء الأرض أي لا تحسبنهم معجزين الله تعالى عن إدراكهم بالإهلاك في قطر من أقطار الأرض وإن هربوا كل مهرب.
وقرأ ابن عامر وحمزة بالياء على الغيبة، والفاعل ضمير يعود على ما دل عليه شأن الكلام، أي لا يحسبن حاسب إلخ فإنهم مدركون وَمَأْواهُمُ النَّارُ في الآخرة وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) أي والله لبئس المرجع هي، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي العبيد الصغار في الدخول.
وعن ابن عباس ليس للكبير من المماليك أن ينظر إلا إلى ما يجوز للحر أن ينظر إليه.
وقال ابن المسيب: لا ينبغي للمرأة أن ينظر عبدها إلى قرطها. وشعرها. وشيء من محاسنها وقال الآخرون: بل للبالغ من المماليك أن ينظر إلى شعر مالكته وما شابهه وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ أي من الأحرار، وهم الصبيان الذين حكوا عورات النساء وميّزوا بين الجميلة وغيرها، وظاهر الآية أمر المماليك والأطفال الأحرار بالاستئذان، وفي الحقيقة أمر الأولياء بتأديبهم فإن المقصود أمر المؤمنين بأن يمنعوا هؤلاء من الدخول عليهم في هذه الأوقات الثلاث من غير إذن لو كان المقصود أمرهم للزم تكليفهم ولما كان لتخصيص النداء والخطاب بالمؤمنين وجه ثَلاثَ مَرَّاتٍ أي ثلاثة أوقات في اليوم والليلة، فيكفيهم أن يستأذنوا في كل واحد من هذه الأوقات مرة واحدة فثلاث مرات منصوب على الظرف الزماني أو على المصدرية، أي ثلاثة استئذانات، ثم بين الأوقات فقال: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ لأنه وقت للقيام من المضاجع وطرح ثياب النوم، ولبس ثياب اليقظة، وهذا في محل نصب على أنه بدل من ثلاث مرات، أو في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي أحدها من قبل إلخ. وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ أي وحين تخلعون ثيابكم التي تلبسونها بين الناس، لأجل القيلولة- وهي شدة الحر عند انتصاف النهار- ف «من» بيان ل «حين» ، أو تعليل ل «تضعون» ، أي من أجل حر وقت الاستواء وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ، لأنه وقت التجرد عن ثياب اليقظة والالتحاف باللحاف ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ بالرفع خبر مبتدأ مقدر و «لكم» صفة، أي هي ثلاثة انكشافات كائنة لكم، أو مبتدأ وخبر أي ثلاث عورات مخصوصة لكم بالاستئذان، وعلى هذا فالوقف على العشاء هو وقف كاف- وقرأ أهل الكوفة بالنصب على البدل من ثلاث مرات وكأنه قيل: في أوقات ثلاث عورات لكم، وعلى هذا فالوقف على لكم وهو وقف تام لَيْسَ عَلَيْكُمْ في تمكينهم من الدخول عليكم وَلا عَلَيْهِمْ في ترك الاستئذان في الدخول، جُناحٌ أي إثم بَعْدَهُنَّ أي بعد كل واحدة من تلك العورات الثلاث وإنما أباح الله تعالى ذلك في الأوقات المتخللة بين كل اثنتين منهن لما في العادة أنه لا تكشف العورة فيها طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ أي لأنهم يكثرون التردد عليكم بالدخول والخروج للخدمة، فلو كلفتم الاستئذان في كل طوفة لضاق الأمر عليكم بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ أي كما أن(2/120)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
بعضكم طائف على بعض، طوافا، كثير اللجاجة
يروى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث غلاما من الأنصار يقال له: مدلج بن عمرو إلى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه، فوجده نائما وقد أغلق عليه الباب فدق الغلام عليه الباب، وحركه ورده ودفعه فناداه ودخل فاستيقظ عمر، فانكشف منه شيء. فقال عمر: وددت أن الله تعالى ينهى آباءنا وأبناءنا ونساءنا وخدمنا أن لا يدخلوا علينا في هذه الساعات إلا بإذن، ثم انطلق معه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوجده وقد أنزلت عليه هذه الآية، فحمد الله تعالى وخرّ ساجدا شكر الله تعالى فقال صلّى الله عليه وسلّم: «وما ذاك يا عمر؟» فأخبره بما فعل الغلام، فتعجب رسول الله من صنعه وقال: «إن الله يحب الحليم الحيي العفيف المتعفف ويبغض البذيء الجريء السائل الملحف»
«1» . كَذلِكَ أي مثل ذلك التبيين يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ الدالة على الأحكام وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوالكم حَكِيمٌ (58) ، فيشرع لكم ما فيه صلاح أمركم معاشا ومعادا وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ أي إذا بلغ الأطفال الأحرار الأجانب سن نزول المنى سواء رأى منيا أو لا. فَلْيَسْتَأْذِنُوا إذا أرادوا الدخول عليكم في جميع الأوقات كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي استئذانا كاستئذان الذين ذكروا من قبلهم في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا الآية. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ أي هكذا ينزل الله لكم آياته واضحة الدلالة على الأحكام وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأمور خلقه حَكِيمٌ (59) فيما دبره لهم، وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً أي والعجائز الكائنة من النساء اللاتي لا يحتجن إلى الزوج لكبرهن بحيث إذا رآهن الرجل استقذرهن، فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ أي أن ينزعن بحضرة الرجال عنهن ثيابهن الظاهرة فوق الثياب الساترة كالملحفة.
وعن ابن عباس أنه قرأ: «أن يضعن جلابيبهن» ، وعن السدي عن شيوخه أنه قرأ «أن يضعن خمرهن عن رؤوسهن» . وعن بعضهم أنه قرأ «أن يضعن من ثيابهن» . غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ أي غير مظهرات لمحاسنها ولزينتها الخفية، وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ أي استعفافهن بعدم إلقاء الجلباب خير لهن من الإلقاء لبعده من المظنة، فعند المظنة يلزمهن أن لا يلقين ذلك، كما يلزم مثله في الشابة، وَاللَّهُ سَمِيعٌ لما يجري بينهن وبين الرجال من المقاولة، عَلِيمٌ (60) بمقاصدهن
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ أي ليس على هؤلاء الطوائف مأثم في أكلهم مع السالمين من هذه النقائص الثلاثة، فإنهم تركوا مؤاكلة الأصحاء.
فقال الأعمى: إني لا أرى شيئا فربما آخذ الأجود وأترك الأرد، أو خاف الأعرج والمريض أن يفسد الطعام على الأصحاء. وقال سعيد بن جبير والضحاك وغيرهما: كان العرجان والعميان
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب البيوع، باب: الرجل يأكل من مال ولده.(2/121)
والمرضى يتبعدون عن مؤاكلة الأصحاء، لأن الناس يستقذرون منهم ويكرهون مؤاكلتهم. وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أي ليس عليكم مأثم في أن تأكلوا من بيوت أولادكم بغير إذن بالعدل
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أنت ومالك لأبيك»
«1»
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه»
«2» . أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ من الأب أو الأم، أو منهما بالنسب أو الرضاع أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ.
قال السدي كان الرجل يدخل بيت أبيه أو بيت أخيه أو أخته فتتحفه المرأة بشيء من الطعام، فيتحرج لأنه ليس ثمّ رب البيت. فأنزل الله تعالى هذه الرخصة: أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ.
روى الزهري عن سعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله في هذه الآية: أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم، وكانوا يسلمون إليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون لهم: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، فكانوا يتحرجون من ذلك وقالوا: لا ندخلها وهم غائبون، فنزلت هذه الآية رخصة لهم، وهذا قول عائشة رضي الله عنها أَوْ صَدِيقِكُمْ أي بيت صديقكم وإن لم يكن بينكم وبينهم قرابة نسبية، ونزل هذا في حق مالك بن زيد، والحرث بن عمار، وكانا صديقين.
ونقل عن ابن عباس ومقاتل بن حبان: نزلت هذه الآية في الحرث بن عمرو وذلك أنه خرج مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وخلف مالك بن زيد على أهله، فلما رجع وجده مجهودا فسأله عن حاله فقال:
تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك، فأنزل الله هذه الآية. والمعنى: يجوز الأكل من بيوت من ذكر إذا علم رضاه بصريح الإذن أو بقرينة دالة عليه وإن كانت ضعيفة، كما علم بالعادة في طيب أنفسهم فإن العادة كالإذن في ذلك، والمقصود من هذه الآية إثبات الإباحة في الجملة، لا إثبات الإباحة في جميع الأوقات. لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي مأثم في أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً. قيل: نزلت هذه الآية في قوم تحرجوا عن الاجتماع على الطعام لاختلاف الآكلين في كثرة الأكل وقلته. وقال أكثر المفسرين: نزلت في بني ليث بن عمرو وهم حي من كنانة حيث كانوا يتحرجون أن يأكلوا طعامهم منفردين، وكان الرجل منهم لا يأكل وحده يمكث يومه حتى يجد ضيفا يأكل معه، فإن لم يجد من يواكله لم يأكل شيئا، وربما قعد الرجل والطعام بين يديه لا يتناوله من الصباح إلى الرواح، وربما كانت معه الإبل الحافلات، فلا يشرب من ألبانها حتى يجد
__________
(1) رواه النسائي في كتاب البيوع، باب: الحث على الكسب، وابن ماجة في كتاب التجارات، باب: الحث على المكاسب، والدارمي في كتاب البيوع، باب: في الكسب وعمل الرجل بيده، وأحمد في (م 6/ ص 31) . [.....]
(2) رواه السهمي في تاريخ جرجان (453) .(2/122)
من يشاربه، فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل، فأعلم الله تعالى أن الرجل إذا أكل وحده لا حرج عليه هذا قول ابن عباس رضي الله عنهما. فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ أي إذا دخلتم بيوتا من البيوت المذكورة فسلموا على أهلها الذين بمنزلة أنفسكم لما بينكم وبينهم من القرابة الدينية والنسبية، فالله تعالى جعل أنفس المسلمين كالنفس الواحدة على مثال قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ وقال ابن عباس: إن لم يكن في البيت أحد فليقل: السلام علينا من قبل ربنا، وإذا دخل المسجد فليقل: السلام على رسول الله وعلينا من ربنا. وقال قتادة: إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك فهم أحق بالسلام ممن سلمت عليهم، وإذا دخلت بيتا لا أحد فيه فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وحدثنا أن الملائكة ترد عليه. وقال القفال: وإن كان في البيت أهل الذمة فليقل: السلام على من اتبع الهدى. تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ منصوب على المصدر من معنى فسلموا أي فحيوا تحية ثابتة بأمره، مطلوبة من عنده. مُبارَكَةً أي مضاعفة في الثواب كما قاله الضحاك، طَيِّبَةً أي تطيب بالتحية نفس المستمع.
وعن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «متى لقيت أحدا من أمتي فسلم عليه يطل عمرك وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوابين»
«1» .
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي يفصل شرائعه لكم، لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) ، أي لتفهموا عن الله أمره ونهيه. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ أي الرسول عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ، أي إنما الكاملون في الإيمان الذين آمنوا بالله ورسوله عن صميم قلوبهم، وأطاعوهما في جميع الأحكام، كما إذا كانوا معه صلّى الله عليه وسلّم على أمر موجب للاجتماع في شأنه لم يتفرقوا عنه حتى يطلبوا منه الإذن فيأذن لهم.
قال الكلبي كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا صعد المنبر يوم الجمعة يعرض في خطبته بالمنافقين ويعيبهم فينظرون يمينا وشمالا فإذا لم يرهم أحد خرجوا ولم يصلوا، وإن أبصرهم أحد لبثوا وصلوا خوفا، فكان المؤمن إذا أراد أن يخرج من المسجد لحاجة أو عذر قام بحيال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحيث يراه فيعرف أنه إنما قام ليستأذن، فيأذن لمن شاء منهم. إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ رعاية للأدب معك وتعظيما لهذا الأمر أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي يعملون بمقتضى الإيمان.
قال الضحاك ومقاتل: المراد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك أنه خرج مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك، فاستأذنه في الخروج إلى أهله لعلة كانت به، فأذن له وقال: ارجع إلى المدينة فلست بمنافق، فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ أي أمرهم المهم فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ لما علمت في ذلك من مصلحة.
__________
(1) رواه السيوطي في الدر المنثور (5: 64) .(2/123)
قال ابن عباس: إن عمر استأذن النبي صلّى الله عليه وسلّم في العمرة فأذن له، ثم قال: يا أبا حفص لا تنسنا من صالح دعائك. وهذه الآية تدل على أنه تعالى فوّض إلى رسوله أمر الدين ليجتهد فيه برأيه.
وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ فإن الاستئذان وإن كان لعذر قوي لا يخلو عن شائبة تقديم أمر الدنيا على أمر الآخرة أو أن الاستغفار في مقابلة تمسكهم بآداب الله تعالى في الاستئذان إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لفرطات العباد رَحِيمٌ (62) بالتسهيل عليهم لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً أي لا تجعلوا دعاءه لكم في الاعتقاد وغيره، وأمره إياكم في أمر من الأمور كدعوة بعضكم لبعض فتستبطئون عنه، بل أجيبوه فورا، وإن كنتم في الصلاة إذ كان أمره فرضا لازما.
وهذا قول المبرد والقفال، ومختار أبي العباس. وأقرب إلى نظم الآية كما قاله ابن عادل والرازي وغيره. وقيل: لا تجعلوا دعاء الرسول ربه مثل ما يدعو صغيركم كبيركم فإنه قد يجاب وقد يرد، فإن دعوات الرسول مستجابة فاحذروا سخطه فإن دعاءه مجاب، ليس كدعاء غيره. وهذا كما قاله ابن عباس. وروي عنه أيضا لا تجعلوا نداءه صلّى الله عليه وسلّم كنداء بعضكم لبعض باسمه، ورفع الصوت، والنداء من وراء الحجرات، بل نادوه بغاية التوقير وبلقبه المعظّم. وذلك بمثل قولك: يا رسول لله، يا نبي الله مع التواضع وخفض الصوت، فلا تنادوه باسمه ولا بكنيته بأن تقولوا: يا محمد يا أبا القاسم. قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً أي قد علم الله الذين يخرجون من الجماعة قليلا قليلا على خفية، مستترين ببعض ف «لواذا» حال، أو مصدر لفعل مضمر هو الحال في الحقيقة أي يلوذون لواذا أي يستتر بعضهم بمن يخرج بالإذن إراءة أنه من أتباعه فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أي يعرضون عن أمره أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أي محنة في الدنيا من تسليط جائر عليهم وإسباغ نعمه استدراجا بهم أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) في الآخرة والكناية ترجع إلى الله، لأنه الآمر حقيقة أو للرسول صلّى الله عليه وسلّم، لأنه المقصود بالذكر أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الموجودات بأسرها خلقا وملكا وتصرفا. وهذا دليل على قدرته تعالى على المجازاة بثواب وعقاب، وعلى علمه تعالى بما يخفيه المكلف ويعلنه، قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ أيها المكلفون عَلَيْهِ من المخالفة في الدين والنفاق، وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ أي ويعلم يوم يرجع المنافقون إليه تعالى للجزاء فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا في الدنيا من الأعمال- كمخالفة الأمر- فلا يعاقبهم إلا بعد إخبارهم بما عملوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64) لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.(2/124)
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10)
سورة الفرقان
مكية، سبع وسبعون آية، ثمانمائة واثنتان وسبعون كلمة، ثلاثة آلاف وسبعمائة وثلاثة وستون حرفا
تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ أي تعالى الله الذي نزل القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلّم في ذاته وصفاته وأفعاله، فتعالت ذاته عن جواز التغيّر والفناء. وعن مشابهة شيء من الممكنات وتعالت صفاته عن حدوث، وتعالت أفعاله عن عبث.
ومن جملة أفعاله تنزيل القرآن المنطوي على جميع الخيرات الدينية والدنيوية والإتيان بعنوان العبد إعلام بكون سيدنا محمد في أقصى مراتب العبودية، لِيَكُونَ أي ذلك العبد أو الذي نزل الفرقان لِلْعالَمِينَ أي المكلفين من الثقلين نَذِيراً (1) أي مخوفا من عذاب الله بالقرآن الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بدل من الموصول الأول أو خبر مبتدأ محذوف وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً عطف على الصلة. وهذا رد على النصارى واليهود وبعض مشركي العرب الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ أي في ملك السموات والأرض فهو المنفرد بالإلهية. وهذا معطوف على الصلة أيضا وهو رد على الثنوية وعباد الأصنام والنجوم، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) أي أحدث كل موجود إحداثا جاريا على طريق التقدير بحسب ما اقتضته إرادته وهيّأه لما أراد به مما يصلح له مثاله أنه تعالى خلق الإنسان على هذا الشكل المقدّر المستوي الذي تراه فيقدره للتكاليف والمصالح المنوطة به في باب الدين والدنيا، وكذلك كل حيوان وجماد جاء به على الجبلة المستوية المقدرة بأمثلة الحكمة، فقدره لأمر ما، ومصلحة ما موافقا لما قدر غير متأخر عنه. وَاتَّخَذُوا أي المنذرون من كفار مكة كأبي جهل وأصحابه مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً أي جعلوا لأنفسهم متجاوزين الله غيره آلهة لا يقدرون على خلق شيء أصلا، وَهُمْ يُخْلَقُونَ كسائر المخلوقات وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً أي لا يقدرون لأنفسهم على دفع ضرر ما وعلى جلب نفع ما فمن لا ينفع نفسه لا ينفع غيره، وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3) أي ولا يقدرون على اماتة الأحياء واحياء الموتى، وبعثهم، فالا له يجب أن يكون(2/125)
قادرا على جميع ذلك. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ أي قال النضر بن الحرث: ما القرآن الا كذب مصروف عن وجهه اختلقه محمد من تلقاء نفسه، وأعانه على اختلاقه غير قومه، وهم اليهود جبر ويسار أبو فكيهة الرومي.
قال الكلبي ومقاتل نزلت هذه الآية في النضر بن الحرث فهو الذي قال هذا القول وأعانه عليه عداس مولى حويطب بن عبد العزى، ويسار مولى العلاء عامر بن الحضرمي، وجبر مولى عامر، وهؤلاء كانوا من أهل الكتاب، وكانوا يقرءون التوراة، ويحدثون أحاديث منها في مكة، فلما أسلموا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يتعهدهم، فزعم النضر أنهم يلقون اليه صلّى الله عليه وسلّم أخبار الأمم الماضية، وهو صلّى الله عليه وسلّم يعبر عنها بعبارات من عنده، فهذا معنى اعانتهم له فمن أجل ذلك قال النضر ما قال، فرد الله تعالى ذلك بقوله تعالى فَقَدْ جاؤُ أي قائلو هذه المقالة ظُلْماً عظيما حيث جعلوا الحق البحت إفكا مفترى من قبل البشر وَزُوراً (4) أي كذبا كبيرا حيث نسبوا إليه صلّى الله عليه وسلّم ما هو بريء منه.
وَقالُوا أي النضر وأصحابه: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها أي هذا القرآن ما سطره المتقدمون من الخرافات انتسخها محمد بن عداس ويسار وجبر، أي أمرهم بكتابتها له وقراءتها عليه لأنه أمي فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) أي فتلك الأساطير تقرأ على محمد بعد طلبه منهم كتابتها غدوة وعشيا ليحفظها من أفواههم من ذلك المكتب لكونه أميا لا يقدر على أن يتلقاها منه بالقراءة. وهذا على قول جمهور المفسرين فإن قوله: تُمْلى ألخ من كلام القوم الكافرين.
وقال الضحاك: معنى قولهم ذلك: وما يملى على محمد بكرة يقرأه عليكم عشية، وما يملى عليه عشية يقرؤه عليكم بكرة خلافا للحسن حيث قال: إن ذلك من محض كلام الله تعالى ذكره جوابا عن قولهم كأنه تعالى قال: إن هذه الآيات تلقى عليه صلّى الله عليه وسلّم بالوحي مني حالا بعد حال، فكيف ينسب إلى أنه أساطير الأولين، قُلْ لهم ردا عليهم: أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ليس ذلك القرآن مما يفتعل بإعانة قوم وكتابتهم من الأحاديث الملفقة، بل هو أمر سماوي أنزله الله الذي لا يعزب عن علمه شيء من الأشياء فيعلم ما تسرونه من كيدكم لرسوله مع علمكم بأن ما يقوله حق، وما تقولونه زور، ويعلم براءة رسوله مما تتهمونه به وهو مجازيكم على ما علم منكم وما علم منه. إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) أي إنما أنزل القرآن لأجل الإنذار فوجب أن يكون غير مستعجل في العقوبة. وهذا تنبيه على أنهم استحقوا بمكايدتهم هذه أن يصب الله عليهم العذاب صبا، ولكن صرف ذلك عنهم كونه غفورا رحيما فيمهلهم ولا يعجل عليهم العذاب. وَقالُوا أي أبو جهل وأصحابه، والنضر وأصحابه، وأمية ابن خلف وأصحابه:
مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ أي سبب حصل لهذا الذي يدّعي الرسالة حال كونه يأكل الطعام كما نأكل، ويمشي في الأسواق لابتغاء الأرزاق كما نفعله، فمن أين له(2/126)
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
الفضل علينا وهو مثلنا في هذه الأمور؟ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ أي هلا ينزل على صورته مَلَكٌ لا يأكل ولا يشرب فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أي فيكون معينا له في الإنذار يشهد له ويرد من خالفه أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ من السماء، فينفقه، فلا يحتاج إلى التردد لطلب المعاش أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها.
وقرأ الأعمش وقتادة «يكون» بالياء التحتية، وقرأ حمزة والكسائي «نأكل» بالنون.
وَقالَ الظَّالِمُونَ أي المشركون أبو جهل، والنضر، وأمية وأصحابهم للمؤمنين: إِنْ تَتَّبِعُونَ أي ما تتبعون أيها المؤمنون إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً (8) أي مختل النظر والعقل انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أي انظر يا أفضل الخلق كيف اشتغل القوم بضرب هذه التي لا فائدة فيها من الأقوال العجيبة الخارجة عن العقول، فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) أي فأرادوا القدح في نبوتك، فضلوا عن طريق المحاجة، فلم يجدوا سبيلا إلى القدح في نبوتك وفي معجزاتك، وضلوا عن الحق فلا يجدون طريقا موصلا إليه. تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ أي تكاثر خير من الذي إن شاء جَعَلَ لَكَ في الدنيا شيئا خَيْراً لك مِنْ ذلِكَ الذي قالوه جَنَّاتٍ أي بساتين كثيرة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10) أي بيوتا مشيدة رفيعة في الدنيا، فقوله تعالى: جَنَّاتٍ بدل من خير.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر برفع «يجعل» على أنه معطوف على جواب الشرط، لأن الشرط إذا كان ماضيا جاز في جوابه الجزم والرفع، أو مستأنف بوعد ما يكون له صلّى الله عليه وسلّم في الآخرة. وقرأ الباقون بإدغام لام «يجعل» في لام «لك» إما بتقدير الجزم على أنه معطوف على محل جواب الشرط وهو جزم، أو بتقدير الرفع، وإنما سكن اللام لأجل الإدغام، فعلى الرفع حسن الوقف على «الأنهار» فإن المعنى: وسيجعل لك قصورا في الآخرة وعلى الجزم لا يحسن الوقوف على «الأنهار» فإن المعنى: إن شاء يجعل لك قصورا في الدنيا.
روي عن طاوس عن ابن عباس قال: بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس وجبريل عليه السلام عنده قال جبريل عليه السلام: هذا ملك قد نزل من السماء استأذن ربه في زيارتك فلم يلبث إلا قليلا حتى جاء الملك وسلم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: إن الله يخيرك بين أن يعطيك مفاتيح كل شيء لم يعطها أحدا قبلك ولا يعطيها أحدا بعدك من غير أن ينقصك مما ادخر لك شيئا، وبين أن يجمعها لك في الآخرة فقال صلّى الله عليه وسلّم: «بل يجمعها جميعا في الآخرة» «1» فنزل قوله تعالى:
تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ الآية.
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ. وهذا جواب ثالث كأنه تعالى قال: ليس ما تعلقوا به شبهة علمية في نفس المسألة لأنهم لا يعتقدون فيك كذبا بل الذي حملهم على تكذيبك تكذيبهم بوجود
__________
(1) رواه السيوطي في الدر المنثور (5: 68) .(2/127)
وقت الجزاء استثقالا للاستعداد له، فإنهم لا يتحملون مشقة النظر، فلهذا لا ينتفعون بما يورد عليهم من الدلائل وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) أي جعلنا نارا عظيمة شديدة الاشتعال معدة لمن كذب بوجود القيامة، إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أي من مسيرة عام كما قاله الكلبي والسدي سَمِعُوا لَها أي النار تَغَيُّظاً أي صوت غليانها، وَزَفِيراً (12) أي صوتا شديدا كصوت الحمار وَإِذا أُلْقُوا مِنْها أي النار مَكاناً ضَيِّقاً.
وقرأه ابن كثير بسكون الياء مُقَرَّنِينَ في السلاسل قرنت أيديهم إلى أعناقهم دَعَوْا هُنالِكَ أي في ذلك المكان ثُبُوراً (13) بأن يقولوا: يا ثبور هذا زمانك ويتمنوا موتا.
وقال الكلبي: الأسفلون يرفعهم اللهيب والأعلون يخفضهم الداخلون، فيزدحمون في تلك الأبواب الضيقة. وقال ابن عمر: إن جهنم لتضيق على الكافر كضيق الزج على الرمح.
وتقول لهم: خزنة جهنم لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً أي لا تقتصروا على دعاء ثبور واحد وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) فإن ما أنتم فيه من العذاب مستوجب لتكرير الدعاء في كل آن لغاية شدته وطول مدته قُلْ لهم تحسيرا على ما فاتهم: أَذلِكَ السعير التي هيئت لمن كذب بوجود القيامة خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ التي لا ينقطع نعيمها الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أي التي وعدها من يجتنبون الكفر. وهذا يحسن في مقام التقريع كما إذا أعطى السيد عبده مالا فأبى واستكبر، فضربه ضربا وجيعا وقال له على سبيل التوبيخ، هذا أحب إليك أم ذاك كانَتْ أي تلك الجنة لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) أي مسكنا فما وعد الله به فهو كائن لا بد من وقوعه، فكأنه قد كان، ولأنه كان مكتوبا في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم الله بأزمان متطاولة: أن الجنة جزاؤهم ومستقرهم. لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ فكل فريق منهم مشتغل بما فيه من اللذات فلا يلتفتون إلى ما فوق ذلك من المراتب العالية، وفي هذا تنبيه على أن حصول المرادات بأسرها لا يكون إلا في الجنة. خالِدِينَ حال من الهاء في «لهم» فإن من شرط نعيم الجنة أن يكون دائما إذ لو انقطع لكان مخلوطا بنوع من الغم كنعيم الدنيا، ولذلك
قال صلّى الله عليه وسلّم: «من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق» فقيل: وما هو يا رسول الله؟ فقال: «سرور يوم»
كانَ أي ما يشاءونه عَلى رَبِّكَ يا أفضل الخلق وَعْداً مَسْؤُلًا (16) أي موعودا مطلوبا لكونه مما يتنافس فيه المتنافسون، فإن المكلفين سألوه بلسان الحال، لأنهم لما تحملوا المشقة الشديدة في طاعته تعالى كان ذلك قائما مقام السؤال وما في «على» من معنى الوجوب لاستحالة الخلف في وعده تعالى، فإن تعلق إرادته تعالى بالوعود متقدم على الوعد الموجب للإنجاز، وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ.
وقرأ ابن كثير وحفص بالياء. والباقون بالنون وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي من غيره، أي ويوم القيامة يحشر الله العابدين لغير الله ومعبوديهم فَيَقُولُ. قرأ ابن عامر بالنون.
والباقون بالياء كأن يخلق في الأصنام الحياة فينطقها أو كأن جوابها بلسان الحال كما ذكره بعضهم(2/128)
في تسبيح الموات وفي شهادة الأيدي والأرجل أي يقول الله للمعبودين تقريعا للعابدين أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ بأن دعوتموهم لعبادتكم أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) أي أم هم ضلوا عن السبيل بأنفسهم بتركهم النظر الصحيح وإعراضهم عن المرشد وعبدوكم بهوى أنفسهم. قالُوا أي المعبودين متبرئين عن العابدين: سُبْحانَكَ أي قالوه تعجبا مما قيل لهم أو إشعارا بأنهم منزّهون الله تعالى عما لا يليق به، فكيف يليق بحالهم أن يضلوا عباده أو قصدا لتنزيهه تعالى عن الأنداد ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ فنتخذ متعد لواحد، و «من أولياء» مفعول، و «من» زائدة، و «من دونك» حال، لأن نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا. وعن أبي جعفر وابن عامر أنهما قرءا «تتخذ» بالبناء للمفعول فهو متعد لمفعولين، والمفعول الأول نائب الفاعل، و «من أولياء» مفعول ثان، و «من» للتبعيض وتنكير «أولياء» من حيث إنهم أولياء مخصوصون، وهم الجن والأصنام. ومعنى الآية: لا يستحق لنا أن يتخذ بعضنا أولياء. والحاصل إن كان معبودهم ملائكة قالت: نحن عبيدك فلا يستقيم لعبيدك أن يتخذوا من غيرك أحباء يعبدونهم فإذا كنا نعتقد أن غيرك لا يجوز أن يكون معبودا، فكيف ندعو غيرنا إلى عبادتنا وإن كان أصناما قالت: لا يصح منا أن نكون من العابدين فكيف يمكننا أن ندعي أننا من المعبودين فما أضللناهم. وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ أي ولكن يا إلهنا أكثرت عليهم وعلى آبائهم من النعم فجعلوا ذلك ذريعة إلى ضلالهم حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ أي تركوا الإيمان بالقرآن وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) أي وصاروا قوما هالكين فاسدة القلوب. فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ أي فقال الله تعالى عند ذلك: فقد كذبكم أيها الكفرة معبودكم في قولكم: إنهم آلهة. فالباء بمعنى في أو هي صلة للتكذيب على أن الجار والمجرور بدل اشتمال من الضمير المنصوب، أي فقد كذبوا قولكم: إنهم آلهة. وانظر كيف أظهر الله صدق الأصنام وكذب الكفار، وتقولون بالتاء الفوقانية باتفاق العشرة.
وقرئ شاذة بالياء، أي كذبوكم بقولهم: سُبْحانَكَ الآية. فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً. وقرأ حفص بالتاء على الخطاب، أي فما تستطيعون أيها الكفار صرف الأصنام والملائكة عن شهادتهم عليكم ولا نصر أنفسكم في إضافة الصدق إلى أنفسكم ولا تستطيعون دفع العذاب عنكم ولا منعه عنكم بأنفسكم ولا بغيركم. وقرأ الباقون بالياء على الغيبة أي فما تستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب ويحتالوا لكم، ولا أن ينصروكم بوجه من الوجوه.
وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19) أي ومن يكفر منكم يا معشر المؤمنين، أو ومن يستمر منكم يا معشر الكفار على ما أنتم عليه من الكفر والعناد نذقه عذابا كبيرا في الدنيا والآخرة والعامة. قرءوا «نذقه» بنون العظمة. وقرئ بالياء والضمير عائد لله تعالى أو للظلم المفهوم من الفعل على سبيل المجاز بإسناد إذاقة العذاب إلى السبب وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ و «إن» مكسورة باتفاق العشرة و «اللام» لام(2/129)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)
الابتداء زيدت في الخبر، والجملة الواقعة بعد إلا حالية، أي وما أرسلنا قبلك يا أشرف الخلق أحدا من المرسلين إلا وحالهم آكلون وماشون فأنت مثلهم في ذلك. وقرئ «يمشون» على البناء للمفعول، أي يمشيهم حوائجهم وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أي وجعلنا كل أمة كافرة فتنة لرسولها المبعوث إليها كأن يقول بعض الكفار لبعض الأنبياء آتنا معجزة كمعجزة بني فلان أَتَصْبِرُونَ يا معشر الأنبياء على ما تسمعون من أقاويلهم الخارجة من حدود الإنصاف، فالمعنى جرت سنتنا على ابتلاء المرسلين بأممهم بإيذائهم لهم لنعلم صبرهم. وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20) بأعمال كلهم وجزائها. وهذا وعد كريم للرسول صلّى الله عليه وسلّم بالأجر الجزيل لصبره الجميل.
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا أي لا يؤملون وعدنا على الطاعة من الثواب فلا يخافون العقاب لكفرهم بالبعث. وهذه الجملة معطوفة على قوله تعالى: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ إلخ.
لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أي هلا أنزلوا علينا بطريق الرسالة أَوْ نَرى رَبَّنا فيخربنا بصدق محمد في رسالته. لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أي أنهم أضمروا الاستكبار في قلوبهم واعتقدوه.
وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) أي تجاوزوا الحد في الظلم حتى اجترءوا على هذا القول العظيم الشنيع.
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ منصوب بعامل دل عليه «لا بشرى» أي يبغون البشرى يوم يرون ملائكة العذاب قائلين: لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ أي الكافرين في كل الأوقات فإنهم يشافهون في أول الأمر بما يدل على نهاية اليأس والخيبة، فذلك هو النهاية في الإيلام وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) أي يقول الكافرون الذين طلبوا نزول الملائكة إذا رأوا الملائكة وفزعوا منهم عند الموت: ويوم القيامة حجرا محجورا وهي كلمة كانوا يقولونها عند لقاء العدو ونزول شدة، ويضعونها موضع الاستعاذة. والمعنى: نسأل الله تعالى أن يمنع ذلك منعا. وقيل: يقول الحفظة للكفار، إذا خرجوا من قبورهم: حجرا محجورا. ومعناه جعل الله الغفران والجنة والبشرى حراما عليكم.
وقال الكلبي: إن الملائكة على باب الجنة يبشرون المؤمنين بالجنة ويقولون للمشركين:
حجرا محجورا. وقرأ الضحاك والحسن وأبو رجاء على ضمها. وقرئ بفتحها. وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ أي وقصدنا إلى أعمالهم التي ظنوا أنها تقربهم إلى الله تعالى فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أي أبطلناه وجعلناه مثل الهباء المنثور الذي لا يمكن القبض عليه في عدم إمكان الانتفاع به بالكلية والهباء شبه غباريرى في شعاع الشمس يطلع من الكوة أَصْحابُ الْجَنَّةِ هم المؤمنون يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) أي موضع استراحة نصف النهار في الحر وقد أشارت الآية إلى أن كلا من أهل الجنة وأهل النار قد استقروا في وقت القيلولة. وإن كان استقرار المؤمنين في راحة، واستقرار الكافرين في عذاب فيكون الحساب لجميع الخلائق قد انقضى في هذا الوقت، لأن القائلة تكون في نصف النهار، والحساب يكون من أوله.
والمراد من ذلك: بيان أن ذلك الموضع أطيب المواضع، كما أن موضع القيلولة يكون(2/130)
كذلك، وإشارة إلى أنه مزين بفنون الزخارف وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) أي يوم القيامة تتفتح كل سماء بسبب طلوع الغمام منها، وهو سحاب أبيض فوق السموات السبع، ثخنه كثخن السموات السبع، وثقله كذلك، فينزل على السماء السابعة فيخرقها بثقله، وهكذا حتى ينزل إلى الأرض، وفيه ملائكة كل سماء، فينزل أولا ملائكة السماء الدنيا وهم أكثر من أهل الأرض من إنس وجن، ثم ينزل ملائكة السماء الثانية وهم أزيد من ملائكة سماء الدنيا، وهكذا، ثم ينزل الكروبيون وحملة العرش، فإذا نزل ملائكة سماء الدنيا اصطفوا حول العالم المجموع في المحشر صفا، وإذا نزل ملائكة السماء الثانية اصطفوا خلف هذا الصف صفا آخر، وهكذا، أي يحيطون بمن بعدهم حتى يصيروا سبع صفوف حول العالم. الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ أي السلطنة القاهرة الثابتة ثباتا لا يمكن زواله صورة ومعنى ثابتة للرحمن يوم إذ تشق الغمام لا يشركه فيها أحد. وَكانَ يَوْماً أي ذلك اليوم عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) أي شديدا بخلاف المؤمنين فقد جاء في الحديث أنه يهون يوم القيامة على المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا، وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ أي يوم القيامة يأكل الكافر يديه إلى المرفق، ثم ينبتان، ثم يأكلهما وهكذا فلا يزال كذلك- كما قاله الضحاك وعطاء- وقال أهل التحقيق: هذه اللفظة كناية عن الندامة والغم. يَقُولُ حال من فاعل يعض يا لمجرد التنبيه من غير قصد إلى تعيين المنبه لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) أي ليتني صاحبت رسول الله في اتخاذ سبيل الهدى، واستقمت على دين الرسول. يا وَيْلَتى أي يا هلاكي، تعال فهذا أوانك لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا (28) أي صديقا وافقته في أعماله. لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ أي والله لقد صرفني عن القرآن وموعظة الرسول بَعْدَ إِذْ جاءَنِي.
قال ابن عباس: والمراد بالظالم: عقبة بن أبي معيط بن أمية، بن عبد شمس كان لا يقدم من سفر إلا صنع طعاما يدعو إليه جيرانه من أهل مكة، ويكثر مجالسة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويعجبه حديثه، فصنع طعاما ودعا الرسول، فلما قرب إليه الطعام قال صلّى الله عليه وسلّم: «ما آكل من طعامك حتى تأتي بالشهادتين» فقال عقبة: أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. فأكل صلّى الله عليه وسلّم من طعامه.
وكان أبي بن خلف الجمحي صديقه فعاتبه، فقال له: يا عقبة قد ملت إلى دين محمد! فقال عقبة: والله ما ملت ولكن دخل علي رجل فأبى أن يأكل طعامي إلا أن شهدت له، فاستحيت أن يخرج من بيتي ولم يطعم فشهدت له، فطعم فقال: أبيّ لا أرضى عنك أبدا حتى تأتيه فتطأ قفاه وتبزق في وجهه، فأتاه فوجده ساجدا في دار الندوة ففعل عقبة ذلك، فعاد بزاقه على وجهه فحرقه، فقال صلّى الله عليه وسلّم له: «لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف» «1» فنزل قوله تعالى:
__________
(1) رواه البخاري في كتاب التفسير، تفسير سورة 2، باب: وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا(2/131)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ إلخ، فأسر عقبة يوم بدر فقتل صبرا ولم يقتل يومئذ من الأسارى غيره وغير النضر بن الحرث، وأما أبيّ بن خلف فقتله النبي صلّى الله عليه وسلّم بيده، طعنه في أحد، فرجع إلى مكة ومات.
وقال الشعبي: كان عقبة خليل أمية فأسلم عقبة وقال أمية، وجهي من وجهك حرام إن بايعت محمدا فارتد، فأنزل الله تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ وعلم من ذلك أن المراد بفلان أبي أو أمية وَكانَ الشَّيْطانُ أي إبليس لِلْإِنْسانِ أي الكافر خَذُولًا (29) أي مبالغا في ترك النصرة بعد المعاونة، وكان يعد الإنسان في الدنيا بأنه ينفعه في الآخرة وهذا من كلام الله تعالى، فإن آخر كلام الظالم بعد إذ جاءني، فالوقف عليه تام وَقالَ الرَّسُولُ محمد صلّى الله عليه وسلّم شكاية لله مما صنع قومه وفي هذا تخويف لقومه، لأن الأنبياء إذا شكوا إلى الله تعالى قومهم، عجل الله لهم العذاب. وهذا عطف على قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا. يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) أي متروكا بالكلية ولم يؤمنوا به ولم يتأثروا بتخويفه وفي هذا تلويح بأن من حق المؤمن أن يكون كثير التعاهد للقرآن، كيلا يندرج تحت ظاهر النظم الكريم فإنه
روي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من تعلّم القرآن وعلّق مصحفه ولم يتعاهده ولم ينظر فيه، جاء يوم القيامة متعلقا به يقول: يا رب، عبدك هذا اتخذني مهجورا اقض بيني وبينه»
«1» .
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ أي كما جعلنا لك أعداء من المشركين يقولون ما يقولون، ويفعلون ما يفعلون جعلنا لكل نبي من الأنبياء الذين هم أصحاب الشريعة والدعوة إليها عدوا من مجرمي قومهم فاصبر كما صبروا، وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31) أي كفاك مبلغك إلى الكمال ومالك أمرك هاديا لك إلى مصالح الدين والدنيا وناصرا لك على جميع من يعاديك. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة كأبي جعل وأصحابه لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً أي هلا أنزل القرآن كله جملة واحدة، كالكتب الثلاثة: التوراة والإنجيل والزبور كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ أي مثل ذلك التنزيل المفرّق نزلناه لنقوي بذلك فؤادك، فإن فيه تيسير الحفظ، وفهم المعاني. وهذا كلام الله ذكره جوابا لهم وردا لهذه الشبهة وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا (32) معطوف على الفعل المقدر الذي تعلق به كذلك، أي كذلك أنزلناه وآتينا بعضه بعد بعض على تؤدة وتمهل في ثلاث وعشرين سنة وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ أي ولا يأتي المشركون إياك يا أشرف الخلق بسؤال عجيب، يريدون به القدح في نبوتك إلا جئناك بالجواب الحق الذي يدفع قولهم، وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) بيانا وبأقوى حجة الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أي يحشرون يوم القيامة كائنين على وجوههم يسبحون
__________
منها، ومسلم في كتاب الإيمان، باب: 141، والترمذي في كتاب التفسير، تفسير سورة 25، باب: 1، وأحمد في (م 1/ ص 380) .
(1) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (7: 319) ، وأحمد في (م 5/ ص 153) .(2/132)
عليها، ويجرون إلى جهنم. وهذا الموصول صفة للموصول الأول، أو بدل منه أُوْلئِكَ أي الذين أوردوا هذه الأسئلة على سبيل التعنت شَرٌّ مَكاناً أي منزلا في الآخرة وعملا في الدنيا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34) عن الحق وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي أنزلنا التوراة على موسى بعد غرق فرعون وقومه، وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) يعينه في الدعوة وإعلاء الكلمة فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي آيات الإلهية وهي مصنوعات الله تعالى الدالة على انفراده بالملك والعبادة، أي فذهبا إليهم فأرياهم الآيات التسع كلها، وهي آيات النبوة، فكذبوها كما كذبوا الآيات الإلهية فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) أي أهلكناهم عقب ذلك التكذيب إهلاكا عجيبا وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أي نوحا ومن قبله، فإنهم اشتركوا في المجيء بالتوحيد أَغْرَقْناهُمْ.
فقال الكلبي: أمطر الله عليهم السماء أربعين يوما وأخرج ماء الأرض أيضا في تلك الأربعين فصارت الأرض بحرا واحدا وَجَعَلْناهُمْ أي وجعلنا إغراقهم لِلنَّاسِ آيَةً أي
عبرة لمن سمع قصتهم لكيلا يقتدوا بهم، وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ أي قوم نوح ومن سلك سبيلهم في تكذيب الرسل عَذاباً أَلِيماً (37) هو عذاب الآخرة، وَعاداً عطف على المفعول الأول «لجعلنا» ، وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ، وهي بئر غير مطوية، ولهم وجوه.
أحدها: هم قوم يعبدون الأصنام فبعث الله إليهم شعيبا فكذبوه، فبينما هم حول البئر خسف الله بهم وبديارهم.
وثانيها: أن الرس قرية بفلج اليمامة كان فيها بقايا ثمود، فبعث إليهم نبي فقتلوه، فهلكوا.
ثالثها: هم أصحاب النبي حنظلة بن صفوان ابتلاهم بطير عظيم فيها من كل لون سمي بالعنقاء فتخطف صبيانهم، وعروسا فدعا عليها حنظلة فأصابتهم الصاعقة، ثم إنهم قتلوا حنظلة عليه السلام فأهلكوا.
ورابعها: أن الرس بئر في أنطاكية كذبوا حبيبا النجار وقتلوه، فدسوه في البئر.
وخامسها: عن علي رضي الله عنه أنهم كانوا قوما يعبدون شجر الصنوبر وإنما سموا أصحاب الرس لأنهم رسوها في الأرض بينهم.
وسادسها: هم قوم كانت لهم قرى على شاطئ نهر يقال له: الرس من بلاد المشرق فبعث الله إليهم نبيا من ولد يهوذا بن يعقوب، فكذبوه، فلبث فيهم، فشكا إلى الله تعالى منهم فحفروا بئرا ورسوه فيها، فأرسل الله تعالى ريحا عاصفة شديدة الحمرة، فصارت الأرض من تحتهم حجر كبريت متوقد، وأظلتهم سحابة سوداء، فذابت أبدانهم كما يذوب الرصاص. وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) أي أقواما كثيرا بين الطوائف المذكورة وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ أي كل قرن بينا له القصص العجيبة الزاجرة عن الكفر والمعاصي بواسطة الرسل وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39) أي كل(2/133)
وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)
واحد منهم فتتنا تفتيتا لما كذبوا الرسل فإنا لم نهلكهم إلا بعد الإنذار وجواب ما أوردوه من الشبه حتى وضح لهم السبيل. وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أي وبالله لقد مرّ قريش على قرية سذوم من قرى قوم لوط التي أهلكت بالحجارة من السماء في أسفارهم إلى الشام للتجارة، أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها أي أفلم يكونوا في مرورهم ينظرون إلى آثار عذاب الله تعالى بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40) أي بل كانوا قوما ينكرون البعث، ولا يؤمنون بالجزاء الأخروي فلا يرجون ثواب الآخرة حينئذ لا يتحملون متاعب التكاليف ومشاق الاستدلال
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً، أي إذا رآك يا أشرف الخلق كفار مكة قصروا معاملتهم معك على اتخاذهم إياك هزوا فقوله: إِنْ يَتَّخِذُونَكَ جواب «إذا» ، واختصت «إذا» بكون جوابها لا يحتاج إلى الفاء إذا كان منفيا بما أو إن أو لا بخلاف غيرها من أدوات الشرط. أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) .
وهذا محكي لقول مضمر هو حال من فاعل «يتخذونك» أي إذا رأوك يستهزئون بك قائلين: أبعث الله هذا رسولا إلينا، وهذا على سبيل الاستهزاء. والمعنى: أهذا الذي يزعم أنه بعثه الله رسولا إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها.
ويروى أن هذا من قول أبي جهل و «إن» مخففة من «إن» الثقيلة، وضمير الشأن محذوف أي إن الشأن كاد هذا الرجل ليصرفنا من عبادة آلهتنا صرفا كليا لولا أن ثبتنا عليها، وهذا اعتراف منهم بأنه صلّى الله عليه وسلّم قد بلغ من الاجتهاد في الدعوة إلى التوحيد وإقامة الحجج وإظهار المعجزات إلى حيث قاربوا أن يتركوا دينهم، لولا فرط لجاجهم وغاية عنادهم. وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ الذي يستحقه كفرهم وعنادهم عيانا في الآخرة مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أي من أخطأ حجة فهذا وعيد شديد لهم على الإعراض عن الاستدلال والنظر أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) . وهذا أمر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالتعجب من شناعة حالهم، أي أرأيت يا أشرف الخلق الذي جعل معبوده ما يهواه وهو النضر وأصحابه أفأنت تكون عليه حفيظا تحفظه من اتباع هواه أي لست كذلك.
وقال سعيد بن جبير: كان الرجل من المشركين يعبد الصنم، فإذا رأى أحسن منه رماه واتخذ الآخر وعبده. أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ أي بل أتحسب أن أكثرهم يسمعون ما تتلو عليهم من الآيات سماع تفكّر، أو يفهمون ما فيها من المواعظ الزاجرة عن القبائح الداعية إلى المحاسن، وهذا انتقال عن الإنكار المذكور إلى إنكار حسبانه صلّى الله عليه وسلّم لهم ممن يسمع أو يعقل ف «أم» بمعنى بل والهمزة التي للاستفهام الإنكاري وإنما ذكر الأكثر لأنه كان فيهم من يعرف الله تعالى ويعقل الحق إلا أنه ترك الإسلام لمجرد حب الرياسة لا للجهل. إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ في عدم انتفاعهم بقرع الآيات آذانهم، وعدم تدبرهم فيما شاهدوا من الدلائل(2/134)
والمعجزات، وإقبالهم على اللذات الحاضرة بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) من الأنعام، لأنها تنقاد لمن يتعهدها، وتميز من يحسن إليها ممن يسيء إليها وتطلب ما ينفعها، وتتجنب ما يضرها وهؤلاء لا ينقادون لربهم، ولا يعرفون إحسانه تعالى من إساءة الشيطان ولا يطلبون الثواب ولا يتقون العقاب، ولأنها جارية إلى ما خلقت هي له فلا تقصير منها، في طلب الكمال لأنه غير ممكن منها وهؤلاء معطلون لعقولهم مستحقون بتقصيرهم أعظم العقاب، أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ أي ألم تعلم يا أشرف الخلق إلى حسن صنع ربك، كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ؟ أي كيف بسطه؟ فالظل هو الأمر المتوسط بين الضوء الخالص، والظلمة الخالصة، وهو فيما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس. وكذا الكيفيات الحاصلة داخل السقف وأفنية الجدران، وهو أطيب الأحوال، لأن الظلمة الخالصة يكرهها الطبع وتسد النظر والضوء الخالص من شعاع الشمس يبهر البصر ويسخن الجو، وهي مؤذية. وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً أي دائما غير زائل بأن لا تذهبه الشمس ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ أي الظل دَلِيلًا (45) ، فالنظر إلى الجسم الملون وقت الظل لا يشاهد شيئا سوى الجسم، واللون، ولا يعرف شيئا ثالثا فإذا طلعت الشمس ووقع ضوءها على الجسم، زال ذلك الظل، فعرف أن للظل وجودا لأن الأشياء إنما تعرف بأضدادها، فلولا الشمس لما عرف الظل، ولولا الظلمة لما عرف النور، فالله تعالى لما أطلع الشمس على الأرض، وأزال الظل، ظهر للعقول أن الظل كيفية زائدة على الجسم واللون، فلهذا قال تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا أي خلقنا الظل أولا بالمنافع واللذات، ثم إنا هدينا العقول إلى معرفة وجوده باطلاع الشمس فكانت الشمس دليلا على وجود هذه النعمة، والخطاب في أَلَمْ تَرَ عام، وإن كان ظهره للرسول، لأن المقصود بيان إنعام الله تعالى بالظل وجميع المكلفين مشتركون في تنبههم على هذه النعمة وتوجيه الرؤية إلى الله تعالى إشارة إلى أن الذي ينبغي للعاقل أن يكون مطمح نظره معرفة شؤون الصانع الحكيم وأن يكون نظره مقصور على الآثار والصنائع، ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) أي ثم أزلنا الظل يسيرا يسيرا، فكلما ازداد ارتفاع الشمس ازداد نقصان الظل، وقبض الظل لو حصل دفعة لاختلت المصالح، فإذا غربت الشمس، فليس هناك ظل إنما ذلك بقية نور النهار وقوله تعالى: إِلَيْنا للتصريح على كون مرجع الظل إليه تعالى كما أن حدوثه منه تعالى، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً أي مثل اللباس يستركم بظلامه كما يستركم اللباس وَالنَّوْمَ سُباتاً أي جعل النوم الواقع في الليل قطعا عن الأفعال المختصة بحال اليقظة. وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) أي زمان بعث من ذلك النوم. وفي هذا إشارة إلى أن النوم واليقظة أنموذج للموت والنشور. وعن لقمان: يا بني كما تنام فتوقظ كذلك تموت وتنشر وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي قدام المطر.
وقرأ ابن كثير «الريح» بالإفراد وقرأ «نشرا» نافع وابن كثير وأبو عمرو بضم النون والشين أي(2/135)
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)
ناشرات للسحاب. وقرأه ابن عامر بضم النون وسكون الشين. وقرأه حمزة والكسائي بفتح النون وسكون الشين على أنه مصدر بمعنى اسم الفاعل أي متفرقة. وقرأه عاصم بالباء الموحدة المضمومة وسكون الشين أي مبشرات فالرياح المبشرات هي: الصبا، والجنوب، والشمال. أما الدبور: فهي ريح العذاب التي أهلكت بها عاد. وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) أي بليغا في الطهارة لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً أي مكانا لا نبات فيه، أي ليصير ذا نبات وَنُسْقِيَهُ أي ذلك الماء مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً أي بهائم وَأَناسِيَّ جمع إنسان أصله أناسين، كَثِيراً (49) .
وهذا إما راجع ل «الأناسي» ، وذلك لأن أكثر الناس يجتمعون في البلاد القريبة من الأنهار ومنابع المياه فهم في غنية في شرب الماء عن المطر، وكثير منهم نازلون في البوادي فلا يجدون المياه للشرب إلا عند نزول المطر وإما راجع إلى «ونسقيه» ، وذلك لأن الحيوان يحتاج إلى الماء حالا بعد حال ما دام حيا وهو مخالف للنبات الذي
يكفيه من الماء قدر معين حتى لو زيد عليه بعد ذلك لكان أقرب إلى الضرر. وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ أي وبالله لقد أجرينا المطر في البلاد المختلفة والأوقات المتغايرة والصفات المتفاوتة حتى انتفعوا بالزرعات، وأنواع المعاش به، كما روي مرفوعا عن ابن مسعود قال: «ليس من سنة بأمطر من أخرى ولكن الله تعالى قسم هذه الأرزاق فجعلها في السماء الدنيا في هذا القطر ينزل منه كل سنة بكيل معلوم، ورزق معلوم وإذا عمل قوم بالمعاصي حول الله تعالى ذلك إلى غيرهم فما زيد لبعض نقص من غيرهم، وإذا عصوا جميعا صرف الله ذلك المطر إلى الفيافي والبحار» . لِيَذَّكَّرُوا.
وقرأ حمزة والكسائي بسكون الذال وضم الكاف، أي ليذكروا نعمة الله به ويقوموا بشكره.
والباقون بفتح الذال والكاف مشددتين، أي ليعتبروا بالصرف إليهم وعنهم فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً (50) أي جحودا للنعمة من حيث لا يتفكرون فيها، ولا يستدلون بها على وجود الصانع وقدرته وإحسانه. وقيل: المعنى: وبالله لقد كررنا هذا القول الذي هو ذكر إنشاء السحاب وإنزال المطر بين الناس المتقدمين والمتأخرين في القرآن، وسائر الكتب المنزلة على الرسل ليستدلوا به على الصانع، فأبى أكثر الناس إلا كفور النعمة القرآن والكتب، ولنعمة المطر حيث أسندوها لغير خالقها،
وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) أي نبيا ينذر أهلها فيخف عليكم أعباء الرسالة، ولكنا قصرنا الأمر عليكم وفضلناك على سائر الرسل فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ أي فلا توافقهم فيما يأمرونك وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52) أي جاهدهم بسبب كونك نذيرا كافة القرى جهادا جامعا لك مجاهدة، أو وجاهدهم ملابسا بترك طاعتهم بل بالشدة لا بالمداراة جهارا كبيرا، وذلك بتلاوة ما في القرآن من الزواجر والنواذر وتذكير أحوال الأمم المكذبة، فإن مجاهدة السفهاء بالحجج أكبر من مجاهدة الأعداء بالسيف. وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي أرسلهما في مجاريهما متلاصقين هذا عَذْبٌ أي سائغ فُراتٌ أي بالغ في العذوبة حتى يصير إلى(2/136)
الحلاوة، وَهذا مِلْحٌ أي مر أُجاجٌ أي زعاق. وَجَعَلَ بَيْنَهُما أي الطيب والمالح بَرْزَخاً أي حائلا غير مرئي بقدرة الله تعالى وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) أي سترا ممنوعا به تغيير أحدهما طعم الآخر، فالعذوبة أو الملوحة، إن كانت بسبب طبيعة الأرض أو الماء فلا بد من الاستواء، وإن لم يكن كذلك فلا بد من قادر حكيم يخص كل واحد من الأجسام بصفة خاصة وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ أي من ماء الذكر والأنثى بَشَراً أي خلقا كثيرا فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً أي فقسم البشر قسمين: ذكورا ينسب إليهم وإناثا يصاهر بهن، أي يقارب ويخالط بهن. وقيل: النسب: ما لا يحل تزويجه من القرابة، والصهر ما يحل التزويج من القرابة وغيرها. وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) حيث خلق من مادة واحدة بشرا مختلفا ألوانه، وأعضاؤه وطباعه. وربما خلق من نطفة واحدة توأمين فأكثر. وَيَعْبُدُونَ أي كفار مكة مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ بعبادته في الدنيا والآخرة وَلا يَضُرُّهُمْ بترك عبادته فيهما، وهو الأوثان. وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) أي وكان الكافر جماعة بعضهم معاون لبعض على إطفاء نور دين الله، أو وكان الكافر معاونا للشيطان على عصيان ربه بالعداوة والشرك، وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً للمؤمنين على الطاعة وَنَذِيراً (56) للكافرين على المعصية. قُلْ يا أكرم الرسل لأهل مكة: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) أي لا أطلب على تبليغ الرسالة من أموالكم أجرأ إلا فعل من أراد أن يطلب المنزلة عند الله تعالى بالإيمان والطاعة كما أدعوكم إليهما. وقيل: لا أطلب من أموالكم جعلا لنفسي عن التبليغ لكن من شاء أن ينفق أمواله لاتخاذ السبيل إلى ربه بالصدقة وغيرها فليفعل فالاستثناء على الأول متصل، وعلى الثاني منقطع. وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ أي اعتمد بقلبك في كل الأمور على الله تعالى والأسباب وسائط أمر بها من غير اعتماد عليها، وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ أي نزهه تعالى عن صفات النقصان مثنيا عليه بنعوت الكمال طالبا لمزيد الإنعام بالشكر على كثير نعمه. وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) أي كفى الله مطلعا على ذنوب عباده ما ظهر منها وما بطن. الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا، فخلق الأرض في يومين: الأحد والاثنين. وما بينهما في يومين: الثلاثاء والأربعاء. والسموات، في يومين الخميس والجمعة وفرغ من آخر ساعة من يوم الجمعة ومحل الموصل جر على أنه صفة ثانية ل «الحي» ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فالوقف على العرش تام إن أعرب «الرحمن» على المدح خبر مبتدأ محذوف، أي هو الرحمن الذي لا ينبغي السجود إلا له وهو في الحقيقة صفة ثالثة ل «الحي» كما قرأ زيد بن علي بالجر، لأن المنصوب والمرفوع على سبيل المدح وإن خرجا عن التبعية لما قبلها صورة تابعان له حقيقة ولا يوقف على العرش إن أعرب «الرحمن» بدلا من الضمير المستكن في «استوى» فحينئذ فالوقف على الرحمن، وهو وقف كاف. ومعنى «استوى على العرش» أي ارتفع خالق السموات والأرض ارتفاعا يليق بجلاله(2/137)
تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)
وتصرف في ملكه تصرفا تاما. فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59) أي فاسأل أيها الإنسان عنه تعالى عالما بصفاته من الراسخين في العلم، وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ أي وإذا قيل لكفار مكة: اخضعوا للرحمن بالتوحيد والصلاة وغير ذلك. قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ: وما نعرف الرحمن إلا مسيلمة الكذب أي فإنهم اعترفوا بالله لكنهم جهلوا أن هذا الاسم من أسماء الله تعالى أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا أي للذي تأمرنا بسجوده من غير أن نعرف السجود له ماذا.
وقرأ حمزة والكسائي بالياء أي أنسجد لما يأمرنا المسمى بالرحمن ولا نعرف ما هو هل هو مسيلمة الكذاب أو غيره أو كان الضمير راجعا لسيدنا محمد على أن بعضهم قال لبعض: أنسجد لأمر محمد إيانا بالسجود من غير معرفتنا للمسجود له. وَزادَهُمْ أي الأمر بسجود الرحمن نُفُوراً (60) أي تباعدا عن الإيمان
تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً أي منازل الكواكب السبعة السيارة المنظومة في قول بعضهم:
زحل شرى مريخه من شمسه ... فتزاهرت لعطارد الأقمار
وأسماء البروج منظومة في قول بعضهم:
حمل الثور جوزة السرطان ... ورعى الليث سنبل الميزان
ورمى عقرب بقوس لجدي ... نوح الدلو بركة الحيتان
وهذه البروج الإثنا عشر مقسومة على الطبائع الأربع فيكون نصيب كل واحد منها ثلاثة بروج تسمى المثلثات، فالحمل والأسد والقوس: مثلثة نارية، والثور والسنبلة والجدي: مثلثة أرضية. والجوزاء والميزان والدلو: مثلثة هوائية، والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية.
وَجَعَلَ فِيها أي البروج سِراجاً وهو الشمس.
وقرأ حمزة والكسائي «سرجا» بضم السين والراء وهي الشمس والكواكب الكبار، وَقَمَراً مُنِيراً (61) أي مضيئا بالليل. وقرأ الحسن والأعمش و «قمرا» وهي جمع قمراء، لأن الليالي تكون قمراء بالقمر وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً أي يعتقبان يأتي أحدهما بعد الآخر لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ. قرأ حمزة بسكون الذال وضم الكاف. والباقون بفتح الذال والكاف مشددتين. وعن أبي بن كعب: ليتذكر أي لينظر الناظر في اختلافهما، فيعلم أنه لا بد في انتقالهما من حال إلى حال من صانع رحيم للعباد، أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62) أي ليشكر الشاكر على النعمة فيهما من السكون بالليل والتصرف في النهار. وقال عمر بن الخطاب، وابن عباس، والحسن، معنى الآية: من فاته شيء من الخير بالليل أدركه بالنهار. ومن فاته بالنهار أدركه بالليل وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً أي هينين أي إن مشى عباد الله المقبولين في لين وسكينة وتواضع لا يضربون بأقدامهم، ولا يتبخترون لأجل الخيلاء. وعن زيد بن أسلم قال: التمست(2/138)
تفسير «هونا» فلم أجد، فرأيت في النوم فقيل لي: هم الذين لا يريدون الفساد في الأرض. و «عباد» مبتدأ خبره الموصول و «ما» عطف عليه. وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ بالسوء قالُوا سَلاماً (63) أي ردوا معروفا كأن يقولوا لا خير بيننا وبينكم، ولا شر فهو سلام توديع لا تحية. كقول سيدنا إبراهيم عليه السلام لأبيه سلام عليكم: وَالَّذِينَ
يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً
(64) أي يحيون الليل بالصلاة، و «سجدا» خبر «يبيتون» . وَالَّذِينَ يَقُولُونَ في دعائهم: رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) أي هلاكا لازما أي فإنهم مع اجتهادهم في العبادة خائفون من عذاب الله إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) وهذا يمكن أن يكون من كلام الله تعالى فهو مستأنف، وأن يكون حكاية لقولهم تعليل بسوء حالها في نفسها عقب تعليل بسوء حال عذابها. والمعنى: أن جهنم بئست جهنم هي حال كونها مستقرا للعصاة من أهل الإيمان فإنهم غير مقيمين فيها وحال كونها مقاما للكافرين فإنهم يخلدون ويقال: إن جهنم أحزنت داخليها من جهة موضع استقرار، ومن جهة موضع إقامة. وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا أي لم يجاوزوا حد الكرام وَلَمْ يَقْتُرُوا أي ولم يضيفوا تضييق الشحيح وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) أي وكان إنفاقهم بين الإسراف والإقتار وسطا.
وقرأ نافع وابن عامر «يقتروا» بضم التحتية وكسر الفوقية، وابن كثير وأبو عمرو بفتح التحتية وكسر الفوقية، والكوفيون بفتح التحتية وضم الفوقية فالقراءات السبعية ثلاثة والقاف على كل ساكنة. وقرئ «قواما» بكسر القاف، أي ما يقام به الحاجة لا يفضل عنها ولا ينقص.
وكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يأكلون طعاما للتنعم واللذة، ولا يلبسون ثوبا للجمال والزينة، ولكن كانوا يأكلون ما يسد جوعتهم ويعينهم على عبادة ربهم، ويلبسون ما يستر عوراتهم ويصونهم من الحر والبرد.
وروي أن رجلا صنع طعاما في أملاك، فأرسل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «حق فأجيبوا» .
ثم صنع الثانية فأرسل إليه فقال: «خلق فمن شاء فليجب وإلا فليقعد» . ثم صنع الثالثة فأرسل إليه فقال: «رياء ولا خير فيه»
. وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ أي لا يعبدون مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ. والمقصود من هذا تنبيه على الفرق بين سيرة المسلمين وسيرة الكفار وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ أي بالردة وبالقتل قودا، وبالزنا بعد الإحصان، فالمقتضى لحرمة القتل قائم أبدا وجواز القتل إنما ثبت بالمعارض فقوله تعالى: حَرَّمَ اللَّهُ إشارة إلى المقتضى وقوله: إِلَّا بِالْحَقِّ إشارة إلى المعارض وَلا يَزْنُونَ.
وعن ابن مسعود قلت: يا رسول الله أيّ الذنب أعظم؟ قال:
«أن تجعل لله ندا وهو خلقك» قلت: ثم أيّ قال: «أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك» قلت: ثم أيّ قال: أن «تزني بحليلة جارك» «1» . فأنزل الله تعالى هذه الآية تصديقا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم
. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ
__________
(1) رواه المتقي الهندي في كنز العمال (10227) .(2/139)
وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
أي ما ذكر من الثلاثة كما هو دأب الكفرة المذكورين يَلْقَ أَثاماً (68) أي جزاء إثمه.
وقال الحسن: الأثام اسم من أسماء جهنم. وقال مجاهد: الأثام واد في جهنم.
وقرأ ابن مسعود أياما أي شدائد، لأنه يقال لليوم الصعيب يوم ذو أيام يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ. وقرأ ابن كثير وابن عامر يضعف بتشديد العين وإسقاط الألف وَيَخْلُدْ فِيهِ أي في ذلك العذاب مُهاناً (69) أي مقرونا بالإذلال كما أن الثواب مقرون بالتعظيم.
وقرأ ابن عامر وشعبة «يضاعف» و «يخلد» كلاهما بالرفع على الاستئناف، أو على الحال. وقرأ حفص مع ابن كثير «فيه» بصلة الهاء بالياء إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ أي يغفر الله لهم تلك السيئات، ويكتب موضع كافر مؤمن وموضع عاص مطيع، ولا يبعد في كرم الله تعالى إذا صحت توبة العبد أن يضع مكان كل سيئة حسنة. وقد
قال صلّى الله عليه وسلّم لمعاذ: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن»
«1» . وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) .
روى البخاري عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في أهل الشرك، فلما نزل صدرها قال أهل مكة: قد عدلنا بالله وقتلنا النفس التي حرم الله، وأتينا الفواحش فأنزل الله الا من تاب إلى رحيما
وَمَنْ تابَ عن المعاصي بتركها والندم عليها، وَعَمِلَ صالِحاً يتدارك به ما فرط، ولو كان نيته وعمله كلاهما ضعيفا فَإِنَّهُ يَتُوبُ أي يرجع إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) أي رجوعا مرضيا عند الله أي ومن تاب عن المعاصي إلى الطاعة، فإن التوبة منه في الحقيقة توبة إلى الله أي فإنه قد أتى بتوبة مرضية لله مكفرة للذنوب، محصلة للثواب،
وروى أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ليتمنين أقوام لو أنهم أكثروا من السيئات» . قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: «الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات»
«2» . وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ أي لا يحضرون مواضع الكذب، فإن حضور مجامع الفساق مشاركة لهم في تلك المعصية ولأن النظر دليل الرضا بها أو لا يشهدون بالكذب.
وقال محمد بن الحنفية: الزور الغناء وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ أي بأهل اللغو على سبيل الاتفاق من غير قصد مَرُّوا كِراماً (72) أي مكرمين أنفسهم عن مثل حال اللغو، وهو كل ما يجب أن يترك وإكرامهم لأنفسهم لا يكون إلا بالإعراض وبالإنكار وبترك المعاونة وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) أي والذين إذا وعظوا بالآيات المشتملة على
__________
(1) رواه التبريزي في مشكاة المصابيح (5086) ، والبغوي في شرح السنّة (13: 86) ، وابن المبارك في الزهد (130) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (693) .
(2) رواه السيوطي في جمع الجوامع (4700) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (2581) ، والسيوطي في الدر المنثور (5: 344) ، والقرطبي في التفسير (13: 87) .(2/140)
الأحكام والمواعظ أكبوا على تلك الآيات حرصا على استماعها، وأقبلوا على المذكر بها، وهم في إكبابهم عليها سامعون بآذان واعية مبصرون بعيون راعية. لا كالذين يظهرون الحرص الشديد على استماعها، وهم كالصم والعميان، كالمنافقين والكفرة- كأبي جهل والأخنس بن شريق- فالمراد من النفي نفي الحال دون الفعل وهو الخرور كقولك: لا يلقاني زيد مسلما فهو نفي للإسلام لا للقاء وذلك تعريض بما يفعله الكفرة والمنافقون، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ أي اجعل لنا ما يحصل به سرور أعين من أزواجنا وذرياتنا بأن نراهم صالحين مطيعين لك. وعن محمد بن كعب ليس شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده يطيعون الله. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم «ذرياتنا» بألف على الجمع. والباقون بغير ألف على الإفراد وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) أي يقتدون بنا في أمر الدين بإفاضة العلم وبالتوفيق للعمل أُوْلئِكَ أي المتصفون بتلك الصفات الثمانية يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ أي يثابون أعلى منازلة الجنة بِما صَبَرُوا أي بسبب صبرهم على طاعة الله والفقر والمرازي وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) .
قرأ حمزة والكسائي وشعبة «يلقون» بفتح الياء وسكون اللام أي يجدون في الغرفة إكرام الله تعالى لهم بالهدايا وسلامه عليهم بالقول. والباقون بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف أي يجعلهم الله تعالى في الغرفة لاقين ذلك. خالِدِينَ فِيها أي في الغرفة، لا يموتون ولا يخرجون حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) ، أي حسنت الغرفة من
حيث موضع الاستقرار وموضع الإقامة هي. قُلْ يا أشرف الخلق لأهل مكة: ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ أي أيّ اعتداد يعتد بكم لولا عبادتكم له تعالى فإنكم وسائر البهائم سواء أو لا يبالي بكم ربكم لولا دعاؤه إياكم إلى طاعته، فإن مبالاة الله بشأن عباده حيث خلق السموات والأرض وما بينهما إنما هو ليعرفوا حق المنعم ويطيعوه فيما كلفهم به فَقَدْ كَذَّبْتُمْ بما أخبرتكم به فَسَوْفَ يَكُونُ أي جزاء التكذيب لِزاماً (77) أي ملازما لكم وهو عقاب الآخرة.(2/141)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
سورة الشعراء
مكية، إلا أربع آيات من قوله: وَالشُّعَراءُ إلى آخر السورة فمدنية، مائتان وسبع وعشرون آية، ألف ومائتان وسبع وستون كلمة وخمسة آلاف وخمسمائة واثنان وأربعون حرفا
طسم (1) ومحله رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف إن كان اسما للسورة وأما إن كان مسرودا على نمط التعديد بطريق التحدي فلا محل له من الإعراب وقيل: قسم أقسم الله تعالى به. وقال أهل الإشارة: هو إشارة إلى طاء طوله تعالى في كمال عظمته وإلى سين سلامته عن كل عيب ونقص وهو منفرد في تنزهه عنه وإلى ميم مجده في عزة كرم لا نهاية لها، وإشارة أيضا إلى طاء طهارة قلب نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم عن الكونيين، وإلى سين سيادته على الأنبياء والمرسلين، وإلى ميم مشاهدته لجمال رب العالمين. وإشارة أيضا إلى طاء طيران الطائرين بالله، وإلى سين سير السائرين إلى الله، وإلى ميم مشي الماشين لله، مشي العبودية لا مشي التفخر والتكبر.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «المؤمنون هينون لينون كالجمل الآنف إن قيد انقاد وإن أنيخ على صخرة استناخ»
«1» .
وعن البراء بن عازب أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة وأعطاني المص مكان الإنجيل وأعطاني الطواسين مكان الزبور، وفضلني بالحواميم والمفصل ما قرأهن نبي قبلي»
«2» . تِلْكَ أي هذه السورة آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) أي آيات القرآن الظاهر إعجازه والمبين للأحكام، فألفاظ القرآن من حيث تعذر عليهم أن يأتوا بمثله يمكن أن يستدل به على فاعل مخالف لهم، كما يستدل بسائر ما لا يقدر العباد على مثله، فهو دليل التوحيد من هذا الوجه، ودليل النبوة من حيث الإعجاز، ويعلم به بعد ذلك أنه إذا كان من عند الله تعالى فهو دلالة الأحكام أجمع، وإذا ثبت هذا صارت آيات القرآن كافية في كل الأصول والفروع أجمع، لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) فلعل للإشفاق وهو بمعنى الأمر أي أشفق على نفسك أن تقتلها
__________
(1) رواه أحمد في (م 2/ ص 398) .
(2) رواه ابن كثير في البداية والنهاية (3: 39) ، والبغوي في شرح السنّة (5: 127) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (36419) ، والطبري في التاريخ (2: 321) .(2/142)
لعدم إيمان قريش بذلك الكتاب الفاصل بين الحق والباطل، أو لا تبالغ في الحزن على ما فاتك من إسلام قومك لأنك يا أكرم الرسل إن بالغت فيه كنت بمنزلة من يقتل نفسه، ثم لا ينتفع بذلك أصلا، والله تعالى نبه رسوله أن غمه على ذلك لا نفع فيه، كما أن وجود الكتاب على وضوحه لا نفع لهم في الإيمان لما أنه سبق حكم الله بخلافه إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4) أي إن نشأ ننزل عليهم من السماء علامة مخوفة لهم، قاصرة على الإيمان كرفع الجبل فوق رؤوسهم، كما وقع لبني إسرائيل فيصيروا لتلك العلامة منقادين في قبول الإيمان وذكر الأعناق لبيان موضع الخضوع، واكتسبت إضافتها إلى العقلاء حكمهم، كما اكتسبت الإضافة إلى المؤنث التأنيث كعكسه، ولذلك كان الخبر مجموعا جمع سلامة لمذكر عاقل.
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) أي ما يأتي أهل مكة من موعظة من المواعظ القرآنية تنبههم عن الغفلة من جهة الله تعالى مجدد تنزيله بحسب المصلحة إلا وقد جددوا إعراضا عنه على وجه التكذيب. فَقَدْ كَذَّبُوا أي بلغوا النهاية في رد الذكر الذي يأتيهم ردا مقارنا للاستهزاء به حيث جعلوه تارة سحرا، وأخرى أساطير وأخرى شعرا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أي سيأتيهم مصداق استهزائهم من العقوبات العاجلة والآجلة أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ أي أفعل كفار مكة الإعراض عن الآيات والتكذيب والاستهزاء بها، ولم ينظروا إلى عجائب الأرض الزاجرة عما فعلوا الداعية إلى الإيمان بالآيات كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) أي كثيرا من كل صنف مرضى في جماله، وفي فوائده أنبتنا في الأرض، إِنَّ فِي ذلِكَ الإنبات لَآيَةً عظيمة دالة على كمال قدرة المنبت، وغاية وفور عمله وحكمته ونهاية سعة رحمته وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) أي وما أكثر قومه صلّى الله عليه وسلّم مؤمنين أي مع ذلك يستمر أكثرهم على كفرهم، وكان صلة عند سيبويه، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) أي إن ربك غالب على الأمور، ومع ذلك رحيم بعباده، ولذلك يمهلهم ولا يؤاخذهم بغتة بما اجترءوا عليه من العظائم الموجبة لفنون العقوبات. وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أي واذكر يا أكرم الرسل لأولئك المعرضين المكذبين وقت ندائه تعالى موسى عليه السلام، وذكرهم بما جرى على قوم فرعون بسبب تكذيبهم إياه زجرا لهم عن التكذيب.
قال أبو الحسن الأشعري: المسموع هو الكلام القديم، فكما أن ذاته تعالى لا تشبه الذوات مع أنها مرئية في الآخرة من غير كيف ولا جهة، فكذا كلامه منزه عن مشابهة الحروف والأصوات مع أنه مسموع.
وقال أبو منصور الماتريدي: الذي سمعه موسى عليه السلام كان نداء من جنس الحروف والأصوات لأنا حكمنا بأن كل موجود يصح أن يرى ولم يثبت أنا نسمع الأجسام فلم يلزم صحة كون كل موجود مسموعا. أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) أي بالكفر والمعاصي واستعباد بني(2/143)
قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)
إسرائيل وذبح أبنائهم، وكان بنو إسرائيل في ذلك الوقت ستمائة ألف وثلاثين ألفا
قَوْمَ فِرْعَوْنَ عطف بيان أَلا يَتَّقُونَ (11) .
وهذا كلام مستأنف جيء به حملا لموسى على التعجب من حالهم في الظلم والعسف، ومن عدم خوفهم أي تعجب يا موسى من عدم تقواهم.
وقرئ بكسر النون والأصل ألا يتقونني، فحذفت النون لاجتماع النونين والياء للاكتفاء بالكسرة. وقرئ بتاء الخطاب على طريقة الالتفات الدال على زيادة الغضب عليهم، أي قل لهم: ألا تخافون عقاب الله ف «ألا» للتنبيه وللعرض. قالَ أي موسى إظهارا لعجزه وطلبا للمعونة: رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) من أول الأمر وَيَضِيقُ صَدْرِي بتكذيبهم إياي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي بسبب ضيق القلب، وهذان الفعلان مرفوعان معطوفان على «أخاف» .
وقرأ زيد بن علي، وطلحة، وعيسى، والأعمش بالنصب فيهما معطوفان على صلة «أن» و «الأعرج» بنصب الأول ورفع الثاني، فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) أي فأرسل جبريل إلى أخي هارون ليكون رسولا مصاحبا لي في دعوة فرعون وقومه: وكان هارون إذ ذاك بمصر وموسى في المناجاة في الطور وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ أي تبعة قتل القبطي فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) به قبل أداء الرسالة، كما ينبغي إن أتيتهم وحدي فيفوت المقصود من الرسالة. قالَ الله: كَلَّا أي ارتدع يا موسى عما تظن أو حقا لا أسلطهم عليك بالقتل، فَاذْهَبا أي اذهب أنت ومن طلبته- وهو هارون- بِآياتِنا الدالة على صدقكم، أي فإنها تدفع خوفكما إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) أي لكما ولعدوكما ناصر لكما عليه، وسامع لما يجري بينكما وبينه فأعلّيكما عليه، وأكسّر شوكته عنكماأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
(16) إليك وإلى قومك وإفراد الرسول لاتحادهما
بسبب الأخوة واتفاقهما على شريعة واحدة، أو لأن المعنى: إن كل واحد منا رسول رب العالمين. أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) ، و «أن» مفسرة، أي أطلقهم وخلهم وشأنهم ليذهبوا معنا إلى الشام، فانطلقا إلى فرعون، وقالا له ما أمرا به، وروى وهب وغيره: أنهما لما دخلا على فرعون وجداه وقد أخرج سباعا من أسد ونمور وفهود، يتفرج عليها، فخاف خدامها أن تبطش بموسى وهارون فأسرعوا إليها وأسرعت السباع إلى موسى وهارون، فأقبلت تلحس أقدامهما وتبصبص إليهما بأذنابها، وتلصق خدودها بفخذيهما، فعجب فرعون من ذلك فقال: ما أنتما؟ قالا: إنّا رسول رب العالمين فعرف هو موسى عليه السلام:
قالَ عند ذلك لموسى عليه السلام أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا أي في منازلنا وَلِيداً أي صغيرا وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) ثلاثين سنة، ثم خرج إلى مدين وأقام بها عشر سنين، ثم عاد إليهم يدعوهم إلى الله تعالى ثلاثين سنة، ثم بعد الغرق خمسين سنة. وقيل: مكث عليه الصلاة والسلام عند فرعون خمس عشرة سنة وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وهي وكز القبطي حتى مات وَأَنْتَ مِنَ(2/144)
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30)
الْكافِرِينَ
(19) أي الجاحدين لنعمتي عليك بالتربية، وعدم اتخاذك عبدا لي كبني إسرائيل أو من الذين يكفرون في دينهم، فقد كانت لهم آلهة قالَ موسى: فَعَلْتُها أي تلك الفعلة إِذاً أي حين إذ كنت لابثا فيكم وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) أي الناسين عن معرفة ما يؤول إليه القتل، لأنه فعل الوكزة على وجه التأديب.
وقرئ من الجاهلين أي بأن ذلك الفعل يؤدي إلى القتل
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ إلى ربي لَمَّا خِفْتُكُمْ أن تؤاخذوني بما لا أستحقه بجنايتي، لأني قتلت القتيل خطأ، وأنا ابن اثنتي عشرة سنة مع كونه كافرا. وروي عن حمزة «لما خفتكم» بكسر اللام وب «ما» المصدرية، أي لتخوفي منكم فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً أي علما وفهما في الدين وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) بعد تلك الفعلة وَتِلْكَ أي التربية نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22) ، ومحل «أن عبدت» رفع عطف بيان لتلك أو بدل من «نعمة» أي وتلك جعلك بني إسرائيل عبيدك وقصدك إياهم بذبح أبنائهم هو السبب في وقوعي عندك وإنفاقك علي مما أخذت من أموالهم، فلو لم يكن ذلك الظلم لكنت مستغنيا عن تربيتك، فلا نعمة لك علي بالتربية، ولا فضيلة لك في عدم استعبادي الذي مننت به علي، لأن استبعادك لغيري ظلم، كما أن عدم قتلك إياي لا يعد إنعاما، لأن قتلك غيري ظلم.
وقال الزجاج: ويجوز أن يكون «أن عبدت» في محل نصب مفعولا لأجله والمعنى إنما صارت التربية نعمة علي لأجل أن عبدت بني إسرائيل فلو لم تفعل ذلك لكفاني أهلي. قالَ فِرْعَوْنُ- لما سمع منه عليه الصلاة والسلام تلك المقالة المتينة-: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) أي أيّ شيء رب العالمين الذي ادعيت أنك رسوله؟ قالَ موسى مجيبا له بإبطال دعواه أنه إله:
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا أي خالق هذه الثلاثة، إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) باستناد هذه المحسوسات إلى موجود هو واجب الوجود، فاعرفوا أنه لا يمكن تعريفه إلا بما ذكرته، فالسؤال عن الحقيقة سفه. قالَ أي فرعون: لِمَنْ حَوْلَهُ من أشراف قومه كانوا خمسمائة لابسين للأساورة ولم يلبسها إلا السلاطين: أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) جوابه، فقد سألته عن حقيقته وهو يذكر أفعاله؟! قالَ موسى: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) ، جاء موسى عليه السلام بدليل يفهمونه لأنهم يعلمون أنهم قد كان لهم آباء فنوا، وأنهم كانوا بعد أن لم يكونوا، وأنهم لا بد لهم من مكون ومفن. قالَ فرعون لخاصته وعليهم أقبية الديباج، مخوصة بالذهب، وقد خاف من تأثرهم من جواب سيدنا موسى عليه السلام: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) لا يفهم السؤال لأني أسأله عن شيء وهو يجيبني عن آخر، وأسند فرعون الرسول إلى من حوله تكبرا عن أن يكون مرسلا إلى نفسه، وسماه رسولا بطريق الاستهزاء. قالَ موسى: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما أي هو خالق موضع طلوع الشمس وغروبها ووقتهما وما بينهما فتشاهدون في كل يوم أنه يأتي الشمس من المشرق إلى المغرب على وجه نافع، تنتظم به أمور الكائنات وكل(2/145)
قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40)
ذلك أمور حادثة مفتقرة إلى محدث قادر عليم حكيم إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) أي إن كان لكم عقل، علمتم أن لا جواب فوق ذلك وأن الأمر كما قلته. قالَ فرعون لموسى عليه السلام لما عجز عن الحجج: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) أي لأجعلنك واحدا ممن عرفت حالهم في سجوني، وكان من عادة اللعين أن يأخذ من يريد أن يسجنه فيطرحه في بئر عميقة فردا لا يبصر فيها ولا يسمع حتى يموت، فكان ذلك أشد من القتل ولذلك لم يقل تعالى: لأسجننك، لأنه لا يفيد إلا صيرورته مسجونا.
وروي أن اللعين يفزع من موسى فزعا شديدا حتى كان لا يمسك بوله. قالَ موسى له:
أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) أي أتفعل بي ذلك ولو جئتك بأمر بيّن في باب الدلالة على وجود الله تعالى، وعلى أني رسوله أي وهل تستجيز أن تسجنني مع اقتداري على أن آتيك بالمعجزات الدالة على صدق دعواي؟!
قالَ فرعون له: فَأْتِ بِهِ أي بذلك الشيء إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) في دعوى الرسالة، وفي أن لك برهانا، وإنما أمره- عليه السلام- فرعون بالإتيان بالشيء الموضح لصدق دعواه عليه السلام، لظنه أنه يقدر على معارضته، ولطمعه في أن يجد موضعا للإنكار. فَأَلْقى عَصاهُ.
قال ابن عباس: عصا موسى اسمها ماشا. وقيل: نبعة. فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) أي حية عظيمة صفراء، ذكر تبين للناظرين أنه ثعبان بحركاته وبسائر العلامات، وليس بتمويه كما يفعله السحرة: وَنَزَعَ يَدَهُ من إبطه فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) تضيء الوادي من شدة بيضاها من غير برص، لها شعاع كشعاع الشمس تعجب الناظرين إليها. قيل: لما رأى فرعون الآية الأولى قال هل لك غيرها فأخرج موسى يده فقال لفرعون ما هذه فقال فرعون: يدك. فما فيها فأدخلها في إبطه، ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشي الأبصار، ويسد الأفق، فعند هذا أراد فرعون تعمية هذه الحجة على قومه فذكر أمورا ثلاثة. قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا الرسول لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) أي حاذق بالسحر، فإن الزمان كان زمن السحرة، وكان عند كثير منهم أن الساحر قد يجوز أن ينتهي بسحره إلى هذا الحد فلهذا روج فرعون عليهم هذا القول، يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ أي يريد هذا الرجل أن يخرجكم من مصر بما يلقيه بينكم من العداوات، فيفرق جمعكم، وهذا يجري مجرى التنفير عن موسى عليه السلام، فإن مفارقة الوطن أصعب الأمور، فنفرهم عنه بذلك فَماذا تَأْمُرُونَ (35) أي فأيّ شيء تأمرونني به في شأنه؟ فإني متبع لرأيكم ومنقاد لقولكم. ومثل هذا الكلام يوجب انصراف القلوب عن العدو، فعند هذه الكلمات اتفقوا على جواب واحد قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ أي أخر مناظرتهما لوقت اجتماع السحرة. وقيل:
احبسهما ولا تقتلهما لما روي أن فرعون أراد قتلهما، ولم يصل إليهما فقالوا له: لا تفعل فإنك إن قتلتهما أدخلت على الناس شبهة في الدين ولكن أخّر أمرهما إلى أن تجمع السحرة ليقاوموها، فلا تثبت لهما حجة عليك.(2/146)
فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50)
وقرأ قالون «ارجه» بغير همز، وباختلاس كسرة الهاء وورش والكسائي بإشباع كشرة الهاء، وابن كثير وهشام بالهمزة الساكنة، وبصلة الهاء المضمومة. وأبو عمرو بضم الهاء مع الاختلاس وابن ذكوان بالهمز وكسر الهاء مع الاختلاس. وعاصم وحمزة بغير همز وإسكان الهاء وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) أي أنفذ إلى مدائن الساحرين شرطا يحشرهم وذلك لظنهم إذا كثر السحرة غلبوا موسى عليه السلام وكشفوا حاله. يَأْتُوكَ أي الحاشرون بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) أي فائق في فن السحر على موسى، فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) أي في زمان يوم معروف، وفي مكان معروف. وعن ابن عباس: وافق يوم السبت من أول يوم النيروز وهو أول سنتهم. وعن ابن عباس قال: كانت السحرة سبعين رجلا وسمى ابن إسحاق رؤساءهم: سابورا وغادور وخطخط ومصفى وشمعون. وعن ابن جرير كان اجتماعهم بالإسكندرية. وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) .
والاستفهام للحث على المبادرة إلى الاجتماع والتراجي للغلبة لا لاتباع السحرة، لأنه مقطوع به عندهم أي احضروا لتشاهدوا ما يكون من الجانبين، فإنا نرجو أن تكون الغلبة للسحرة، فنتبعهم لا نتبع موسى
فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً أي جزاء من المال والجاه إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) على موسى، فبذل فرعون لهم البذل والمنزلة. قالَ فرعون: نَعَمْ أي لكم الأجرة على عملكم السحر، وَإِنَّكُمْ إِذاً أي إذ كنتم غالبين لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) عندي في الدخول على تكونون أول من يدخل علي، وآخر من يخرج عني.
وقرأ الكسائي «نعم» بكسر العين. قالَ لَهُمْ مُوسى مريدا لإبطال سحرهم، لأنه لا يمكن منه إلا بإلقائهم: أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) . وهذا تهديد، أي إن فعلتم ذلك أتينا بما نبطله، فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ اثنين وسبعين حبلا واثنتين وسبعين عصا وَقالُوا أي السحرة عند الإلقاء: نقسم بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) على موسى، فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) أي تبتلع بسرعة ما يغيرونه عن حاله الأول من الجمادية إلى كونه حية تسعى.
روي عن ابن عباس كانت حبالهم مطلية بالزئبق، وعصيهم مجوفة مملوءة من الزئبق، فلما حميت اشتدت حركتها، فصارت كأنها حيات تدب من كل جانب من الأرض، فألقى موسى عصاه فإذا هي ثعبان مبين، ثم فتحت فاها فابتلعت كل ما رموه من حبالهم وعصيهم، حتى أكلت الكل. ثم أخذ موسى عصاه، فإذا هي كما كانت، فلما رأت السحرة ذلك قالوا لفرعون: كنا نساحر الناس فإذا غلبناهم بقيت الحبال والعصي، وكذلك إن غلبونا، ولكن هذا حق! فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) أي سقطوا على الأرض ساجدين عقب ما شاهدوا ذلك من غير تلعثم، لعلمهم بأن مثل ذلك خارج عن حدود السحر وأنه أمر إلهي قد ظهر على يد موسى عليه الصلاة والسلام، لتصديقه. قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48) عطف بيان ل «رب»(2/147)
إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)
العالمين، لأن فرعون كان يدّعي الربوبية، فأرادوا عزله وإنما أسندوا الرب إلى موسى وهارون، لأنهما اللذان دعواهم إليه قالَ أي فرعون للسحرة: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أي آمنتم لموسى بغير أن آذان لكم! إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ أي إن موسى علمكم شيئا دون شيء، فلذلك غلبكم، فإنكم فعلتم ذلك عن موافقة بينكم وبين موسى، وقصرتم في السحر لتظهروا أمر موسى وإلا ففي قوة السحرة أن يفعلوا مثل فعل موسى عليه السلام- وهذه شبهة قوية في تنفير من يقبل قوله عليه السلام- فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وبال ما فعلتم لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ، وهو قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) على شاطئ نهر مصر.
وهذا تهديد شديد وليس في الإهلاك أقوى من ذلك، وليس في الآية أن فرعون فعل ذلك أو لم يفعل. قالُوا أي السحرة: لا ضَيْرَ أي لا ضرر في ذلك علينا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) ومقصودهم بالإيمان محض الوصول إلى مرضاته تعالى، والاستغراق في أنوار معرفته وهذا أعلى درجات الصديقين.
إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) فإنا إلى ربنا، وإِنَّا نَطْمَعُ كلاهما تعليل لعدم الضير، وأَنْ كُنَّا تعليل لطمع غفران الخطايا، أي لا ضير علينا في قتلك إيانا لأنا نرجو أن يغفر لنا ربنا شركنا لكوننا أول المؤمنين من الجماعة الذين حضروا ذلك الموقف من رعية فرعون.
وقرئ «إن كنا» بالكسر على الشرط على طريقة قول المدل كقول العامل لمستأجر يؤخر أجرته: إن كنت عملت لك فوفني حقي. وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى بعد ثلاثين سنة أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي من آمن بك من بني إسرائيل، وقرأ نافع وابن كثير بكسر النون ووصل الهمزة. والباقون بسكون النون وقطع الهمزة. وقرئ «أن سر» ف «أن» حرف تفسير إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) تعليل للأمر بالإسراء، أي لأنه يتبعكم فرعون وجنوده فلا يدركوكم قبل وصولكم إلى البحر ثم إن قوم موسى قالوا لقوم فرعون: إن لنا في هذه الليلة عيدا، ثم استعاروا منهم حليهم وحللهم بهذا السبب، ثم خرجوا بتلك الأموال في الليل إلى جانب البحر.
قال القرطبي: فخرج موسى عليه الصلاة والسلام ببني إسرائيل سحرا فترك الطريق إلى الشام على يساره، وتوجه نحو البحر، فكان الرجل من بني إسرائيل يقول له في ترك الطريق، فيقول: هكذا أمرت. فلما أصبح فرعون وعلم بسري موسى ببني إسرائيل خرج في أثرهم، وبعث إلى مدائن مصر لتلحقه العساكر وقوّى نفسه ونفس أصحابه بأن وصف قوم موسى بوصفين من أوصاف الذم، ووصف قوم نفسه بصفة المدح، وذلك قوله تعالى: فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) أي شرطا جامعين للعساكر ليتبعوهم. قيل: كان له ألف مدينة واثنا عشر ألف قرية.
وقال لهم: إِنَّ هؤُلاءِ أي بني إسرائيل لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) أي لطائفة قليلة، وكانوا ستمائة ألف مقاتل ليس فيهم من دون عشرين ولا من يبلغ ستين سوى الحشم، وفرعون يقللهم لكثرة من معه(2/148)
فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70)
أو لإرادة ذلتهم. إذ روي أنه أرسل في أثرهم ألف ألف وخمسمائة ألف ملك مسور، ومع كل ملك ألف، وخرج فرعون في جمع عظيم وكانت مقدمته سبعمائة ألف رجل على حصان، وعلى رأسه بيضة. وعن ابن عباس خرج فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث.
وروي أن فرعون خرج على حصان أدهم وفي عسكره على لون فرسه ثلاثمائة ألف، وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) أي لفاعلون أفعالا تضيق صدورنا حيث خالفوا ديننا وذهبوا بأموالنا التي استعاروها، وخرجوا من أرضنا بغير إذننا، وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) أي لجماعة يستعملون الحزم في الأمور.
وقرأ ابن ذكوان والكوفيون بألف بعد الحاء أي شاكون السلاح. وقرئ «حادرون» بالدال المهملة أي أقوياء أشداء. فَأَخْرَجْناهُمْ أي جعلنا في قلوب فرعون وقومه داعية الخروج مِنْ جَنَّاتٍ أي بساتين من أسوان إلى رشيد، وَعُيُونٍ (57) أي أنهار جارية في البساتين والدور، وَكُنُوزٍ أي أموال. وسميت كنوزا لأنهم لم ينفقوا منها في طاعة الله تعالى. قيل: كان لفرعون ثمانمائة ألف غلام كل غلام، على فرس عتيق، في عنق كل فرس طوق من ذهب وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) أي منازل حسنة قيل: كان فرعون إذا قعد على سريره وضع بين يديه ثلاثمائة كرسي من ذهب يجلس عليها الأشراف من قومه والأمراء، وعليهم أقبية الديباج مرصعة بالذهب.
كَذلِكَ وهو مصدر تشبيهي أي أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه، أو وصف لمقام أي وأخرجناهم من مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم أو خبر مبتدأ محذوف أي إخراجنا كما وصفنا. وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) أي جعلناهم متملكين لتلك النعم بعد هلاك فرعون وقومه. فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) أي فجعلوا أنفسهم تابعة لبني إسرائيل وقت طلوع الشمس.
وقرئ «فاتبعوهم» أي فلحقوهم داخلين في وقت الشروق.
فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ أي رأى كل واحد من جمع موسى وجمع فرعون الآخر. وقرئ «تراءت الفئتان» . قالَ أَصْحابُ مُوسى بنو إسرائيل وغيرهم إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) أي لملحقون. وقرئ «لمدّركون» بتشديد الدال وكسر الراء أي لمتتابعون في الهلاك على أيديهم حتى لا يبقى منا أحد. قالَ موسى لهم: كَلَّا أي ارتدعوا عن ذلك التوهم، أو حقا لن يدركونا، لأن الله وعدنا الخلاص منهم. إِنَّ مَعِي رَبِّي بالنصرة سَيَهْدِينِ (62) أي يدلني على طريق النجاة منهم ألبتة.
روي أن رجلا مؤمنا من آل فرعون يكتم إيمانه كان يدي موسى عليه السلام فقال: يا كليم الله أين أمرت؟ قال: هاهنا فحرك فرسه بلجامه حتى طار الزبد من شدقه، ثم أقحمه البحر، فارتسب في الماء، وذهب القوم يصنعون مثل ذلك، فلم يقدروا، فأوحى الله إليه بضرب البحر بعصاه، فإذا الرجل واقف على فرسه ولم يبتل سرجه وذلك قوله تعالى: فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فضربه فَانْفَلَقَ أي انشق بقدرة الله تعالى فصار اثني عشر فرقا بعدد(2/149)
قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)
الأسباط بينهن مسالك. فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ حاصل بالانفلاق كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) أي كالجبل المرتفع في السماء فدخلوا في شعاب تلك الفرق، كل سبط في شعيب منها فقال كل سبط: قتل أصحابنا، فعند ذلك دعا موسى ربه، فجعل في تلك الجدارن المائية مناظر كالكوى، حتى نظر بعضهم إلى بعض على أرض يابسة وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) أي قربنا في موضع انفلاق البحر قوم فرعون حتى دخلوا عقب قوم موسى مداخلهم. وعن عطاء بن السائب أن جبريل عليه السلام كان بين بني إسرائيل وبين قوم فرعون يقول لبني إسرائيل ليلحق آخركم بأولكم، ويقول للقبط:
رويدكم ليلحق آخركم أولكم. وقيل: وقربناهم إلى الموت لأنهم قربوا من أجلهم في ذلك الوقت. وقيل: المعنى: وحبسنا فرعون وقومه في الضبابة عند طلبهم موسى
بأن أظلمنا عليهم الدنيا بسحابة وقفت عليهم فوقفوا حيارى.
وقرئ و «أزلقنا» بالقاف أي أزللنا أقدامهم. والمعنى: أذهبنا عزهم، وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ من قومه وغيرهم أَجْمَعِينَ (65) بحفظ البحر على انفلاقه اثني عشر فرقا إلى أن عبروا إلى البر ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) بإطباق البحر عليهم لما تكامل دخولهم البحر. قيل: هذا البحر بحر القلزم وقيل: بحر إساف وهو بحر وراء مصر. إِنَّ فِي ذلِكَ أي الذي حدث في البحر لَآيَةً أي عبرة عجيبة دالة على قدرته تعالى، وذلك أن الله تعالى أراد أن تكون الآية متعلقة بفعل موسى وإلا فضرب العصا ليس بفارق البحر، ولا معينا على ذلك بذاته بل بما اقترن به من اختراع الله تعالى وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) ف «كان» زائدة على رأي سيبويه، أي وما أكثر هؤلاء الذين سمعوا قصتهم من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قريش مؤمنين، لأنهم لا يتدبرون في حكايته صلّى الله عليه وسلّم لقصتهم من غير أن يسمعها من أحد، ويجوز أن يجعل «كان» بمعنى صار، أي وما صار أكثرهم مؤمنين مع ما سمعوا من الآية العظيمة الموجبة للإيمان، وَإِنَّ رَبَّكَ يا أكرم الرسل لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) ، أي لهو القادر على إهلاك المكذبين إياك بعد مشاهدة هذه الآية العظيمة من طريق الوحي، وهو المبالغ في رحمة عباده ولذلك لا يعجل عقوبتهم بعدم إيمانهم مع كمال استحقاقهم لذلك. وَاتْلُ عَلَيْهِمْ أي كفار مكة نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) والفعل معطوف على الفعل المقدر العامل في «إذ نادى» إلخ. إِذْ قالَ لِأَبِيهِ آزر وَقَوْمِهِ ليريهم أن ما يعبدونه ليس ممن يستحق العبادة في شيء ف «إذ» ظرف للنبأ. ما تَعْبُدُونَ (70) أي أيّ شيء تعبدونه؟
قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) أي فنصير مديمين على عبادتها وإنما ذكروا هذه الزيادة إظهارا لما في نفوسهم من الابتهاج بعبادة الأصنام. قالَ إبراهيم منبها على فساد مذهبهم: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أي هل يسمعون دعاءكم حين دعوتموهم وهل يجيبونه؟ وقرئ «هل يسمعونكم» بضم الياء وكسر الميم أي هل يسمعونكم جوابا عن دعائكم، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ في معايشكم بسبب عبادتكم لها أَوْ يَضُرُّونَ (73) في معايشكم بترككم لعبادتها إذ لا بد للعبادة من(2/150)
وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90)
جلب نفع أو دفع ضر. قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) أي فعند هذه الحجة القوية لم يجد أبوه وقومه ما يدفعون به هذه الحجة فعدلوا إلى قولهم: ما علمنا منهم ما ذكر من الأمور، بل وجدنا آباءنا يعبدون مثل عبادتنا فاقتدينا بهم. وهذا من أقوى الدلائل على فساد التقليد، وعلى وجوب الاستدلال. قالَ إبراهيم: أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) أي أتأملتم فعلمتم ما كنتم تعبدونه حق العلم، أو أخبروني ما كنتم تعبدون هل هو حقيق بالعبادة أو لا؟ وهذا استهزاء بعبدة الأصنام. فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ (77) فالاستثناء إما منقطع فالمعنى: فاعلموا أن معبودكم عدو لي لا أعبدهم لكن رب العالمين فأعبده. أو متصل فالمعنى:
فإن كل معبود عدو لي إلا رب العالمين فإنه ليس بعدوي بل هو وليي ومعبودي، وصوّر سيدنا إبراهيم الأمر في نفسه تعريضا بهم فالمعنى إني تفكرت في أمري فرأيت عبادتي للأصنام عبادة للعدو لأن من يغري على عبادتها هو الشيطان، فإنه أعدى عدو الإنسان فاجتنبتها. وأراهم سيدنا إبراهيم أن تلك الكلمة نصيحة نصح بها نفسه فإذا تفكروا قالوا: ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه فيكون ذلك أدعى للقبول وأبعث إلى الاستماع منه الَّذِي خَلَقَنِي من النطفة على هيئة التصوير، فَهُوَ يَهْدِينِ (78) إلى مصالح الدين والدنيا بضروب الهدايات في كل لحظة ولمحة وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) أي يرزقني بكل منافع الرزق وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وأكثر أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك.
وَالَّذِي يُمِيتُنِي في الدنيا بقبض روحي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) يوم القيامة للمجازاة، وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي بترك الأولى يَوْمَ الدِّينِ (82) أي الجزاء.
روي أن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه؟ قال: «لا ينفعه لأنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين»
. واستغفار الأنبياء تواضع منهم لربهم، وتعليم لأممهم ليكونوا على حذر، ثم ذكر الله تعالى مناجاة سيدنا إبراهيم بقوله: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً أي كمالا في العمل، وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) أي الأنبياء المرسلين في درجات الجنة أي اجمع بيني وبينهم في الجنة، وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) أي اجعل لي جاها وذكرا جميلا باقيا إلى يوم الدين، فإن من صار ممدوحا بين الناس بسبب ما عنده من الفضائل يصير داعيا لغيره إلى اكتساب مثل تلك الفضائل، فيكون له مثل أجورهم، أو اجعل من ذريتي في آخر الزمان من يكون داعيا إلى الله تعالى، وقد أجاب الله دعاءه فما من أمة إلا وهي تثني عليه، وجعله الله شجرة فرع الله منها الأنبياء، وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) أي اجعلني بعض الذين يرثون جنة النعيم، وهذا إشارة إلى أن الجنة لا تنال إلا بكرمه تعالى وَاغْفِرْ لِأَبِي أي اهده إلى الإيمان إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) من طريق الحق وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) أي ولا تجعلني من الذليلين، ولا من المستحيين يوم(2/151)
وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110)
يبعث العباد من القبور فخزي كل واحد على حسب مقامه فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين كما أن درجات الأبرار دركات المقربين يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) فيوم بدل من يوم قبله وإلا من أتى مفعول لينفع أي لا ينفع مال وإن كان مصروفا في الدنيا إلى وجوه الخيرات ولا بنون وإن كانوا صلحاء إلا أحدا سلم قلبه عن الكفر والأخلاق الرذيلة فينفعه ماله الذي أنفقه في الخير وولده الصالح بدعائه، وأما الذنوب فلا يسلم منها أحد وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) أي ويوم قربت الجنة للمتقين عن الكفر والمعاصي بحيث يشاهدونها من الموقف، فيبتهجون بأنهم المحشورون إليها
وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) أي ويوم جعلت النار ظاهرة للضالين عن طريق الإيمان والتقوى بحيث يرونها مع ما فيها فيتحرنون على أنهم المسوقون إليها.
وَقِيلَ لَهُمْ على سبيل التوبيخ: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ أي أين آلهتهم الذين كنتم تزعمون في الدنيا أنهم شفعاؤكم في هذا الموقف هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ بدفع عذاب عنكم أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) أي أو ينفعون أنفسهم بامتناعهم من العذاب فإنهم وآلهتهم وقود النار، وهو قوله تعالى: فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) أي فألقي في الجحيم الأصنام والذين عبدوها، والذين أضلوهم على وجوههم مرة بعد أخرى إلى أن يستقروا في قعرها، فيجتمعون في العذاب لاجتماعهم فيما يوجبه. قالُوا أي العابدون معترفين بخطئهم في انهماكهم في الضلالة، وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) أي والحال أنهم في الجحيم بصدد الاختصام مع من معهم:
تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) وهذا معمول ل «قالوا» ، وجملة «وهم فيها» إلخ في محل نصب على الحال «وإن» مخففة من الثقيلة قد حذف اسمها الذي هو ضمير الشأن، واللام فارقة بينها وبين النافية أي إن الشأن كنا في ضلال واضح لإخفاء فيه إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) ظرف لكونهم في ضلال مبين أي تالله لقد كنا في غاية الضلال الفاحش وقت تسويتنا إياكم أيها الأصنام برب العالمين الذي أنتم أذل مخلوقاته في استحقاق العبادة، وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) أي الذين دعونا إلى عبادة الأصنام من رؤسائنا وكبرائنا فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) كما نرى المؤمنين أن لهم شفعاء من الملائكة والنبيين،
وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) أي خالص مع موافقة الدين كما نرى أن المؤمنين أصدقاء لأنه لا يتصادق في الآخرة إلا المؤمنون، وأما أهل النار فبينهم التعادي والتباغض، وفي بعض الأخبار يجيء يوم القيامة عبد يحاسب فيستوي حسناته وسيئاته فيقول الله تعالى: عبدي بقيت لك حسنة إن كنت تريد أن أدخلك الجنة انظر واطلب من الناس لعل واحدا يهب منك حسنة واحدة، فيأتي العبد في الصفوف ويطلب من أبيه، ثم من أمه، ثم من أصحابه فلا يجيبه أحد وكل يقول له: أنا اليوم مفتقر إلى حسنة واحدة فيرجع إلى مكانه فيسأله الله تعالى ويقول: ماذا جئت به؟ فيقول: يا رب لم يعطني أحد حسنة واحدة من حسناته فيقول الله تعالى: يا عبدي ألم يكن لك صديق في فيذكر العبد ويقول فلان كان صديقا لي فيدله الله عليه فيأتيه فيكلمه(2/152)
قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120)
في حاجته فيقول: بلى لي عبادات كثيرة اقبلها مني فقد وهبتها منك، فيجيء هذا العبد إلى موضعه ويخبر بذلك ربه فيقول الله تعالى: قد قبلتها منه ولم أنقص من حقه شيئا وقد غفرت لك وله. فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً أي فليت لنا رجعة إلى الدنيا فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) منصوب في جواب التمني إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر من نبأ إبراهيم
المشتمل على بيان بطلان ما عليه أهل مكة من عبادة الأصنام لَآيَةً أي لعظة لمن أراد أن يعتبر وحجة لمن أراد أن يستبصر بها وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) أي وما أكثر هؤلاء الذين نتلو عليهم النبأ مؤمنين، بل هم مصرون على الكفر والضلال وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) أي لهو القادر على تعجيل العقوبة لقومك، ولكنه يمهلهم بحكم رحمته الواسعة ليؤمن بعض منهم أو من ذرياتهم كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) بتكذيبهم نوحا فمن كذب واحدا من الرسل فقد كذب الكل، لأن الأخير جاء بما جاء به الأول من التوحيد وأصول الشرائع التي لا تختلف باختلاف الأزمنة، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ في النسب نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) الله حيث تعبدون غيره إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ من الله تعالى أَمِينٌ (107) أي مشهور بالأمانة فيما بينكم فكيف تتهموني اليوم؟ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) فيما آمركم به من التوحيد والطاعة لله تعالى وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أي وما أسألكم على هذا النصح أجرة إِنْ أَجْرِيَ أي ما ثوابي في دعائي لكم إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109) .
وقرأ نافع وأبو عمرو، وابن عامر وحفص بفتح الياء في «أجري» في المواضع الخمسة في هذه السورة. والباقون بالسكون. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) أي اتبعوا وصيتي، وكرر الأمر بالتقوى، لأن المعنى في الأزل ألا تتقون مخالفتي وأنا رسول الله. وفي الثاني ألا تتقون مخالفتي ولست آخذا منكم أجرة. فلا تكرار فيه لأن المعنى مختلف.
قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) والواو للحال أي أنصدقك يا نوح لأجل قولك هذا؟ والحال أنه قد اتبعك فقراء الناس وضعفاؤهم من النسب قيل: هم من أهل الصناعات الخسيسة كالحجامة والحياكة.
وقرأ يعقوب و «أتباعك الأرذلون» ! فهو مبتدأ وخبر والجملة حال والاتباع جمع تابع أو تبع كأشهاد وأبطال قالَ نوح: وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) وهذا جواب عما أشير إليه من قولهم: إنهم لم يؤمنوا عن نظر وإخلاص عمل وإنما آمنوا بالهوى والطمع في العزة والمال، وكان زائدة أي ما وظيفتي إلا اعتبار الظواهر دون التفتيش عن بواطنهم ولم أكلف العلم بأعمالهم، وإنما كلفت أن أدعوهم إلى الإيمان فالاعتبار بالإيمان لا بالصنائع إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي أي ما محاسبة أعمالهم وبواطنهم إلا على ربي فإنه مطلع على السرائر لَوْ تَشْعُرُونَ (113) أي لو كنتم من أهل الشعور لعلمتم ذلك فلم تقولوا ما قلتم. وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) بأن لا أقبل الإيمان منهم للطمع في إيمانكم إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) أي ما أنا إلا مبعوث لإنذاركم بالبرهان الواضح ولزجر المكلفين عن الكفر والمعاصي سواء كانوا من الأعزاء أو من الأراذل وقد فعلت وليس علي(2/153)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)
استرضاء بعضكم بطرد الفقراء لأجل اتباع الأغنياء. قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ عن مقالتك لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) أي من المقتولين كما قتلنا من آمن بك من الغرباء.
وقال الكلبي ومقاتل: أي من المقتولين بالحجارة. وقال الضحاك: أي من المشتومين قالَ نوح عند حصول اليأس من فلاحهم شاكيا إلى الله تعالى: رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) في الرسالة وقتلوا من آمن بي من الغرباء فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً أي احكم بيننا بما يستحقه كل واحد منا، وافتح بابا من أبواب عدلك على مستحقيه بأن تنزل العقوبة بهم، وبابا من أبواب فضلك على مستحقيه وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) مما تعذب به الكافرين، وكان المؤمنين ثمانين أربعين من الرجال وأربعين من النساء فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) أي حال كونهم في السفينة الموقرة بالناس والحيوان والطير وبما لا بد لهم منه ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) أي أغرقنا بعد ركوب نوح والمؤمنين على السفينة والباقين على الأرض من قومه
إِنَّ فِي ذلِكَ أي الإنجاء والإهلاك لَآيَةً أي لعبرة لمن بعدهم، وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) أي ما أكثر هؤلاء الذين سمعوا قصتهم من النبي صلّى الله عليه وسلّم مؤمنين، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) أي لهو القادر على تعجيل العقوبة لقومك، ولكنه يمهلهم لأنه رحيم ذو حكمة، كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) أي كذبت قوم هود هودا وسائر الرسل الذين ذكرهم هود، فعاد اسم قبيلة هود سميت باسم أبيها الأعلى، وكان من نسل سام بن نوح. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ- في النسب- نبيهم هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) الله، فتفعلون ما تفعلون؟ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) على الرسالة فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) فيما أمرتكم به من الإيمان والتوبة وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي الدعاء إلى التوحيد مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127) ، وكان هود تاجرا جميل الصورة، يشبه آدم وعاش من العمر أربعمائة وأربعا وستين سنة أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) أي أتبنون بكل مكان مرتفع علامة تعبثون فيها بمن يمر بكم. وقيل: إنهم كانوا يبنون في الأماكن المرتفعة ليعرف بذلك غناهم تفاخرا وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ أي حيضانا تجمعون فيها ماء المطر، فهي من نوع الصهاريج. وقيل: القصور لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) أي مؤملين أن تخلدوا في الدنيا لإنكاركم البعث فلعل للتجري وهو للتوبيخ، وقيل: للتعليل ويؤيده قراءة عبد الله «كي تخلدون» وقيل: معناها التشبيه ويؤيده ما في مصحف أبيّ «كأنكم تخلدون» وقرئ «كأنكم خالدون» . وقرئ بضم التاء مع تخفيف اللام وتشديدها وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) أي إذا أخذتم بالعقوبة على أحد بأن ضربتم أحدا بسوط أو قتلتم بالسيف فعلتم فعل الغاشمين بلا رأفة ولا قصد تأديب، ولا نظر في العاقبة. والحاصل أنهم أحبوا العلو وبقاء العلو والتفرد بالعلو، وكل ذلك ينبه على أن حب الدنيا رأس كل خطيئة وعنوان كل معصية
فَاتَّقُوا اللَّهَ بترك هذه الأفعال وَأَطِيعُونِ (131) فيما أدعوكم إليه فإنه أنفع لكم وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132) ، أي واخشوا الذي أعطاكم ما لا خفاء فيه عليكم من أنواع النعم(2/154)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150)
الحاصلة لكم، ثم بين هود عليه السلام ما أعطاهم الله تعالى فقال: أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) فأنتم تنتفعون بذلك كله فلا تغفلوا عن تقييده بالشكر، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن لم تقوموا بشكر هذه النعم عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) في الدنيا والآخرة فإن كفران النعم مستتبع للعذاب. قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) فإنا لن نرجع عما نحن فيه لأجل وعظك إيانا إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) .
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة بضم الخاء واللام، أي ما هذا الذي جئنا به من الكذب إلا عادة الأولين كانوا يسطرونه أو ما هذا الذي نحن عليه من الدين إلا عادة آبائنا الأولين يدينون به ونحن بهم مقتدون أو ما هذا الذي نحن عليه من الموت والحياة والبلاء والعافية، ومن اعتقاد أن لا بعث ولا حساب، ولا جزاء إلا عادة قديمة لم يزل الناس عليها من قديم الدهر. وقرأ الباقون بفتح الخاء وسكون اللام، أي ما هذا الذي جئت به إلا كذب الأولين، وما خلقنا هذا إلا خلق الأمم الماضية نحيا كحياتهم ونموت كمماتهم ولا بعث ولا حساب وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) على ما نحن عليه من الأعمال كما تقول فَكَذَّبُوهُ في وعيده بالعذاب، فَأَهْلَكْناهُمْ بريح باردة شديدة الصوت إِنَّ فِي ذلِكَ الإهلاك لَآيَةً أي لعبرة لمن بعدهم، وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ أي وما صار أكثر هؤلاء الذين سمعوا قصتهم من قوم محمد صلّى الله عليه وسلّم مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ أي الغالب على ما يريده من انتقام المكذبين الرَّحِيمُ (140) أي المبالغ في الرحمة، ولذلك يمهلهم بعدم إيمانهم لحكمة يعلمها
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) أي كذبت جماعة صالح صالحا. فثمود اسم قبيلة صالح سميت باسم أبيها وهو ثمود جد صالح، وعاش صالح من العمر مائتين وثمانين سنة وبينه وبين هود مائة سنة، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ في نسب نبيهم صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) الله إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ من الله أَمِينٌ (143) في جميع ما أرسلت به إليكم منه فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) أي اتبعوا ديني وأمري، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على ما جئتكم به مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145) وليعلم كافة الناس أن من عمل لله لا ينبغي أن يطلب من غير الله، وينبغي للعلماء أن يتأدبوا بآداب الأنبياء فلا يطلبوا من الناس شيئا في بث علومهم، ولا ينتفعوا منهم بالتذكير لهم، ومن انتفع من المستمعين من الدين فلا بركة فيما يأخذ منهم. أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) أي أتظنون أنكم تتركون في الدنيا آمنين من العذاب، وأنه لا دار للمجازاة أي لا ينبغي لكم أن تعتقدوا أنكم تتقلبون في النعم التي في دياركم آمنين من الزوال والعذاب فلا تطمعوا في ذلك، ثم فسر المكان بقوله: فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ
(148) أي لطيف لين والطلع ثمر النخل في أول ما يطلع وبعده يسمى خلالا، ثم بلحا، ثم بسرا، ثم رطبا، ثم تمرا. وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) .
وقرأ ابن عامر والكوفيون بألف بعد الفاء أي ماهرين في العمل ويعملون بنشاط وطيب(2/155)
وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170)
قلب. وقرأ الباقون بغير ألف أي متكبرين لا للحاجة، فالغالب على قوم صالح هو اللذات الحسية، وهي طلب المأكول والمشروب والمساكن الطيبة. وأما الغالب على قوم هود فهو اللذات الحالية وهي طلب الاستعلاء والتجبر فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) في كل ما أمرتكم به
وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) أي المستكثرين من لذات الدنيا وشهواتها بل اكتفوا واقتصروا منها بقدر الكفاف، الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) . وهذا بيان أن فسادهم فساد خالص ليس معه شيء من الصلاح، فإن حال بعض المفسدين مخلوطة ببعض الصلاح قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) أي ممن يأكلون الطعام، ويشربون الشراب كما قال الفراء المسحر من له جوف، ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فكيف تكون نبيا فَأْتِ بِآيَةٍ أي بعلامة تدل على صدقك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) في دعواك أنك رسول إلينا! فقال لهم صالح: ما تريدون؟ قالوا: نريد ناقة عشراء من هذه الصخرة فتلد سقبا فأخذ صالح يتفكر. فقال له جبريل: صل ركعتين وسل ربك الناقة ففعل، فخرجت الناقة، وبركت بين أيديهم ونتجت سبقا مثلها في العظم. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه رأيت مبركها فإذا هو ستون ذراعا في ستين ذراعا، قالَ لهم صالح:
هذِهِ ناقَةٌ دالة على نبوتي أخرجها ربي من الصخرة كما اقترحتم لَها شِرْبٌ أي نصيب من الماء تشرب منه يوما وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) أي ولكم نصيب من الماء تشربون منه يوما ولا تزاحموا على شربها وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ كضرب وعقر فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها.
روي أن مصدعا ألجأها إلى مضيق، فرماها بسهم، فسقطت، ثم ضربها قدار بالسيف في ساقيها. قال مقاتل وغيره: فخرج في أبدانها خراج مثل الحمص فكان في اليوم الأول أحمر، ثم صار في الغد أصفر، ثم صار في الثالث أسود، وكان عقر الناقة يوم الأربعاء وهلاكهم يوم الأحد، انفقعت فيه تلك الخراجات، وصاح عليهم جبريل صيحة فماتوا بالأمرين، وكان ذلك ضحوة فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) أي فصاروا نادمين على قتلها ندم الخائفين من العذاب العاجل، أو ندم التائبين عند معاينة العذاب فلم ينفعهم الندم فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ الموعود على عقرها إِنَّ فِي ذلِكَ أي في أخذهم بالعذاب لَآيَةً أي لعبرة لمن بعدهم. وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ أي أكثر هؤلاء الذين سمعوا القصة من قريش مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) حيث لا يعالجهم بالعذاب كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) فمن كذب رسولا فقد كذب الكل،
إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ في البلد لا في النسب نبيهم لُوطٌ فإن لوطا ابن أخي إبراهيم، وهما من بلاد المشرق من أرض بابل فلوط كان مجاورا لهم في قريتهم، أَلا تَتَّقُونَ (161) عبادة غير الله إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ من الله أَمِينٌ (162) على الرسالة فَاتَّقُوا اللَّهَ فيما أمركم به وَأَطِيعُونِ (163) أي اتبعوا أمري وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي الدعاء إلى الله تعالى مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164) أي جامع الخلق ومربيهم، أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) أي أتأتون الذكران من أولاد آدم مع كون النساء(2/156)
إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190)
أليق بالاستمتاع، وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ أي وتتركون إناثا أباحها لكم ربكم هي أزواجكم لأجل استمتاعكم، أو وتتركون فروجا أحل لكم ربكم حال كونها بعض أزواجكم، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) أي متجاوزون الحد في جميع المعاصي بإتيانكم هذه الفاحشة، أو متجاوزون عن حد الشهوة حيث زدتم على سائر الحيوانات. قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ عن تقبيح أمرنا لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) أي من جملة من أخرجناه من بلدنا سذوم. قالَ لوط: إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) أي إني لعملكم الخبيث لمبغض من المبغضين غاية البغض فلا أقف عن الإنكار عليه بالإبعاد عنكم، ثم توجه لوط إلى الله تعالى قائلا: رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) أي من شؤم عملهم فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أي بنتيه وامرأته المؤمنة ومن اتبعه في الدين أَجْمَعِينَ (170) مما عذبناهم به بإخراجهم من بينهم عند قرب حلول العذاب بهم
إِلَّا عَجُوزاً هي امرأة لوط المنافقة فِي الْغابِرِينَ (171) أي إلا عجوزا مقدار كونها من الباقين في العذاب، لأنها كانت راضية بفعل القوم وقد أصابها الحجر في الطريق ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) أي أهلكنا المتأخر عن اتباع لوط بقلب قراهم عليهم وجعل أعلاها سافلها، وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ أي على من كان منهم خارج القرى لسفر أو غيره مَطَراً غير معتاد حجارة من السماء فأهلكتهم، فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) أي فبئس مطر جنس المنذرين مطر قوم لوط بالحجارة، إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما فعلنا بهم لَآيَةً أي دلالة على عزة الله وعظمته وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ أي أكثر من تلوث عليهم القصة مُؤْمِنِينَ (174) فإن أكثر الخلق لئام وكرامهم قليلون كما قال الشاعر:
تعيّرنا أنّا قليل عديدنا ... فقلت لها أن الكرام قليل
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) فلا يهتدي إلى عديم النظير الأذلاء ويهتدي إليه برحمته الفائضة من كانت همته عالية كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) ، أي كذب أصحاب شجر ملتف بقرب مدين شعيبا، وجملة المرسلين.
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر في هذه السورة وفي «ص» خاصة: «ليكة» بلام واحدة وفتح التاء وهو غير منصرف للعلمية والتأنيث واللام جزء الكلمة، وهو اسم البلدة لأصحاب الحجر.
وقال أبو عبيدة: إن ليكة اسم للقرية التي كانوا عليها والأيكة اسم للبلاد كلها إِذْ قالَ لَهُمْ نبيهم شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) الله الذي تفضل عليكم بنعمه إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ من عند الله فهو أمرني أن أقول لكم ذلك. أَمِينٌ (178) لا خيانة عندي فَاتَّقُوا اللَّهَ المحسن إليكم بهذه الغيضة وغيرها وَأَطِيعُونِ (179) لما ثبت من نصحي لكم وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على دعائي لكم إلى الإيمان بالله تعالى مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180) أي المحسن إلى الخلائق كلهم، فإني لا أرجو أحدا سواه.
أَوْفُوا الْكَيْلَ أي أتموه إذا كلتم للناس كما توفونه إذا أخذتم منهم وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) أي الناقصين لحقوق الناس. وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) أي بالميزان العدل.(2/157)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200)
وقرأ حمزة والكسائي وحفص بكسر القاف. والباقون بالضم وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ أي لا تنقصوا شيئا من حقوق الناس في كيل ووزن أو غير ذلك وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) ولا تعملوا المعاصي في الأرض بقطع الطريق والغارة وإهلاك الزرع والدعاء إلى غير عبادة الله، فإنهم كانوا يفعلون ذلك. وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) أي الخلائق الماضين الذين كانوا على خلقة عظيمة وطبيعة غليظة، كقوم هود وقوم لوط. وقرأ العامة الجبلة على كسر الجيم والباء وتشديد اللام وأبو حصين والأعمش والحسن بضمها وتشديد اللام، والسلمي بفتح الجيم أو كسرها مع سكون الباء. قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) أي المجوفين مثلنا لست بملك وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تأكل وتشرب كما نفعل، فلا وجه لتخصيصك بالرسالة وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) ف «إن» مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف أي وأنا نظنك لمن الكاذبين في دعواك أنك رسول من الله ثم إن شعيبا كان هددهم بالعذاب أن استمروا على التكذيب فقالوا:
فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ أي فأسقط علينا قطعا من السحاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) في دعواك.
وقرأ حفص بفتح السين. والباقون وإنما طلبوا ذلك لتصميمهم على التكذيب واستبعادهم وقوعه فعند ذلك فوض شعيب عليه السلام أمرهم إلى الله تعالى ف قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) وبما تستحقون بسببه من العذاب. فَكَذَّبُوهُ أي أصروا على تكذيبه بالرسالة فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ وفي إضافة العذاب إلى يوم دون الظلة إعلام بأن لهم يومئذ عذابا آخر غير عذاب السحاب كما روي أن الله تعالى فتح عليه بابا من أبواب جهنم وأرسل عليهم هدة وحرا شديدا مع سكون الريح سبعة أيام بلياليها فأخذ بأنفاسهم فدخلوا بيوتهم فلم ينفعهم ظل ولا ماء فأنضجهم الحر فخرجوا هرابا، فأرسل الله تعالى سحابة فأظلتهم فوجدوا لها بردا وروحا وريحا طيبة، فنادى بعضهم بعضا فلما اجتمعوا تحت السحابة ألهبها الله عليهم نارا ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلي فصاروا رمادا، إِنَّهُ أي ذلك العذاب كانَ
عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
(189) في الشدة والهول.
قال قتادة: بعث الله شعيبا إلى أمتين أصحاب الأيكة، وأهل مدين فأهلكت أصحاب الأيكة بالظلة وأهل مدين بصيحة جبريل عليه السلام، إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما فعلنا بهم لَآيَةً أي دلالة واضحة على صدق الرسل، وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ أي أكثر قومك مُؤْمِنِينَ (190) مع أنك قد أتيت قومك بما لا يكون معه شك لو لم يكن لهم معرفة بك قبل ذلك، فكيف وهم عارفون بأنك كنت قبل الرسالة أصدقهم لهجة، وأعظمهم أمانة وأغزرهم عقلا، وأبعدهم عن كل ذي دنس؟!
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) بالإمهال.
وهذا آخر القصص السبع التي ذكرها الله تعالى تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتهديدا للمكذبين له(2/158)
وكل قصة من هذه القصص ذكر مستقل متجدد النزول، قد أتاهم من الله تعالى، وما كان أكثرهم مؤمنين بعد ما سمعوها على التفصيل قصة بعد قصة بأن لا يعتبروا بما في كل واحدة منها من الدواعي إلى الإيمان، والزواجر عن الكفر والطغيان وبأن لا يتأملوا في شأن الآيات الكريمة الناطقة بتلك القصص على ما هي عليه مع علمهم بأنه صلّى الله عليه وسلّم لم يسمع شيئا منها من أحد أصلا، وصاروا كأنهم لم يسمعوا شيئا يزجرهم عن الكفر والضلال واستمروا على ذلك وَإِنَّهُ أي القرآن الذي من جملته هذه القصص لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) أي منزل من خالق المخلوقين فليس بشعر ولا أساطير الأولين، ولا غير ذلك مما قالوه فيه نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) .
قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وحفص بتخفيف «الزاي» ، ورفع «الروح» . والباقون بتشديد «الزاي» ونصب «الروح» ، وذكر الله تعالى دليل التنزيل بقوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ إلخ، فالروح: هو جبريل عليه السلام سمي بالروح، لأنه به نجاة الخلق في باب الدين، فهو كالروح الذي تثبت معه الحياة. وبالأمين، لأنه مؤتمن على ما يؤديه إلى الأنبياء عليهم السلام، عَلى قَلْبِكَ أي جعل الله تعالى جبريل نازلا بالقرآن على قدر حفظك أي فهمك القرآن وأثبته في قلبك إثبات ما لا ينسى. وهذا تنبيه على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وعلى أن الإخبار عن هذه القصص ممن لم يتعلمها لا يكون إلا وحيا من الله تعالى لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) أي أنزل الله تعالى بالقرآن لتنذرهم بما فيه من العقوبات الهائلة، وكان إنزاله بلغة عربية واضحة المعنى لئلا يبقى لهم عذر ما له منه مناص لو نزله باللسان الأعجمي لقالوا له صلّى الله عليه وسلّم: ما نصنع بما لا نفهمه فيتعذر الإنذار به وقوله: لِتَكُونَ متعلق بنزل. وكذا قوله: بِلِسانٍ ويجوز أن يكون بدلا من به، وأما جعله متعلقا بالمنذرين فيفيد أن غاية الإنزال كونه لله من جملة المنذرين باللغة العربية فقط. وهذا لا ينبغي فإن سبب كونه صلّى الله عليه وسلّم من جملة المنذرين مجرد إنزال القرآن عليه صلّى الله عليه وسلّم لا إنزاله بخصوص اللسان العربي والذين أنذروا باللسان العربي خمسة فقط محمد وإسماعيل، وهود، وصالح، وشعيب عليهم الصلاة والسلام وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أي وإن معنى القرآن وصفته لفي الكتب المتقدمة، فإن الله تعالى أخبر في كتب الأولين عن القرآن وإنزاله في آخر الزمان والله تعالى بين أصول معانيه في كتبهم أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) ، أي أغفل أهل مكة عن القرآن ولم يكن لهم آية دالة على أنه تنزل من رب العالمين، وأنه في زبر الأولين أن يعرفه علماء بني إسرائيل بنعوته المذكورة في كتبهم، ويعرفوا من أنزل عليه، وكانوا خمسة: أسد، وأسد، وابن يامين، وثعلبة، وعبد الله بن سلام فهؤلاء الخمسة من علماء اليهود وقد حسن إسلامهم.
قال ابن عباس: بعث أهل مكة إلى اليهود بالمدينة فسألوهم عن محمد صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: إن هذا لزمانه وإنا لنجد نعته في التوراة، فكان ذلك آية على صدقه صلّى الله عليه وسلّم.(2/159)
لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
وقرأ ابن عامر «تكن» بالتأنيث ورفع «آية» على أنه اسمها، ولهم خبرها وأن يعلمه بدل من اسمها، أو على أنه فاعل لها ولهم حال «وأن يعلمه» بدل من الفاعل، ولا يجوز أن يكون «آية» اسمها «وأن يعلمه» خبرها، لأنه يلزم عليه جعل الاسم نكرة والخبر معرفة. والباقون «يكن» بالتذكير ونصب آية على أنه خبرها «وأن يعلمه» اسمها وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) أي ولو نزلنا القرآن كما هو على رجل أعجمي فقرأه على أهل مكة قراءة صحيحة خارقة للعادة ما كانوا مؤمنين به مع أن الأعجمي لا يتهم باكتسابه أصلا لفقد الفصاحة فيه ولا باختراعه لكونه ليس بلغته لفرط عنادهم، وشدة شكيمتهم في المكابرة كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) ، أي مثل ذلك الإدخال أدخلنا القرآن في قلوب كفار مكة ففهموا معانيه، وعرفوا فصاحته من حيث النظم المعجز زمن حيث الإخبار عن الغيب وقد انضم إليه اتفاق علماء أهل الكتب المنزّلة قبله على البشارة بإنزاله وبعثة من أنزل عليه بأوصافه وكيفما فعل بهم فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه من الإنكار
لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201) الملجئ للإيمان به، فيؤمنون حين لا ينفعهم الإيمان فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) بإتيان العذاب فَيَقُولُوا تأسفا على ما فات من الإيمان هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) وهو استفهام طمع في المحال وهو إمهالهم بعد مجيء العذاب، وهم في الآخرة يعلمون أن لا ملجأ لهم لكنهم يذكرون ذلك استرواحا أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أي أيكون حالهم كما ذكر من الاستنظار عند نزول العذاب الأليم، فيستعجلون بعذابنا في الدنيا بقولهم: أمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ونحو ذلك. أَفَرَأَيْتَ أي أخبرني أيها المخاطب إِنْ مَتَّعْناهُمْ في الدنيا بطول الأعمار وطيب المعاش سِنِينَ (205) متطاولة ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206) من العذاب، ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) أي أيّ شيء أفادهم كونهم متمتعين ذلك التمتيع المديد من دفع العذاب.
وقرئ «يتمتعون» بسكون الميم وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ من القرى المهلكة إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ (208) أي رسل قد أنذروا أهلها إلزاما للحجة ذِكْرى أي لأجل تذكيرهم العواقب، وهو منصوب على أنه مفعول لأجله أو مفعول مطلق منصوب ب «منذرون» لأن التذكرة في معنى الإنذار، أو منصوب بفعل مقدر هو صفة ل «منذرون» أي إلا لها منذرون يذكرونهم ذكرى.
ويجوز أن يكون «ذكرى» مفعولا له علة ل «أهلكنا» . والمعنى: وما أهلكنا من أهل قرية ظالمين إلا بعد ما ألزمناهم الحجة بإرسال المنذرين إليهم ليكون إهلاكهم عبرة لغيرهم فلا يعصوا مثل عصيانهم. وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209) فنهلك قوما غير ظالمين وقبل الإنذار وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) . وهذا رد لقول الكفار لم لا يجوز أن يكون هذا القرآن من إلقاء الجن والشياطين إلى محمد على لسانه كسائر ما ينزل على الكهنة من أخبار السماء.
وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما(2/160)
يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ
(212) أي أن الشياطين لممنوعون عن الاستماع للوحي كيف لا: ونفوسهم خبيثة ظلمانية شريرة غير مستعدة إلا لقبول ما لا خير فيه أصلا من فنون الشرور. قال بعضهم: وهذا إشارة إلى أنه ليس للشياطين استعداد تنزيل القرآن ولا قوة حمله، وسمع فهمه، لأنهم خلقوا من النار والقرآن نور قديم فلا يكون للنار المخلوقة قوة حمل النور القديم ألا ترى أن نار الجحيم كيف تستغيث عند مرور المؤمنين عليها، وتقول: جزيا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي فإذا لم يكن لهم استطاعة على حمل القرآن، ولا قوة على سمعه كيف يمكن لهم تنزيله؟ وإن وجد فيهم السمع الذي هو الإدراك لأنهم حرموا الفهم المؤدي للاستجابة لما دعوا إليه فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ أي فلا تعبد مع الله إلها غيره فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) .
قال بعضهم: وهذا يشير إلى أن طلب غير الله من الدنيا والآخرة بتوجه القلب إليه أمارة عذاب الله وهو البعد من الله، فمن يكون أبعد من الله يكون عذابه أشد فكل طالب شيء يكون قريبا إليه بعيدا عما سواه. فطالب الدنيا قريب من الدنيا، بعيد عن الآخرة. وطالب الآخرة قريب من الآخرة بعيد عن الدنيا. ولهذا
قال صلّى الله عليه وسلّم: «حسنات الأبرار سيئات المقربين»
. فالأبرار أهل الجنة، وحسناتهم طلب الجنة والمقربون أهل الله وحسناتهم طلب الله وحده بلا شريك له وهذا الخطاب له صلّى الله عليه وسلّم. والمقصود غيره كما هو شأن الحكيم إذا أراد أن يؤكد الخطاب لأحد وجهه إلى الرؤساء في الظاهر، ولأنه تعالى أراد أن يتبعه ما يليق بذلك، فلهذا أفرده صلّى الله عليه وسلّم بالمخاطبة بقوله تعالى:
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) الأقرب منهم فالأقرب.
وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا بني عبد المطلب يا بني هاشم، يا بني عبد مناف، افتدوا أنفسكم من النار فإني لا أغني عنكم شيئا» ، ثم قال: «يا عائشة بنت أبي بكر، ويا حفصة بنت عمرو، ويا فاطمة بنت محمد، ويا صفية عمة محمد اشترين أنفسكن من النار فإني لا أغني عنكن شيئا» «1» . وروى محمد بن إسحاق عن علي رضي الله عنه أنه قال. لما نوزلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية دعاني فقال: «يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، فاصنع لي صاعا من طعام، واجعل عليه رجل شاة، واملأ لنا عسا من لبن، ثم اجمع بني المطلب حتى أبلغهم ما أمرت به» . ففعلت ما أمرني، ثم دعوتهم إليه وهم يومئذ أربعون رجلا فيهم أعمامه: أبو طالب، وحمزة، والعباس، وأبو لهب. فلما اجتمعوا دعاني بالطعام الذي صنعته، فجئت له، فلما وضعته تناول صلّى الله عليه وسلّم جذبة من اللحم فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصحفة، ثم قال: «كلوا باسم الله» ، فأكل القوم حتى شبعوا، ثم قال: «اسق القوم» . فجئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا جميعا فلما أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يكلمهم بادره أبو لهب فقال:
__________
(1) رواه ابن حجر في فتح الباري (7: 416) ، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4789) ، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (14: 31) ، والسيوطي في الدر المنثور (5: 100) .(2/161)
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
سحركم محمد صاحبكم! فتفرق القوم، فقال: «يا علي، إن هذا الرجل قد سبق إلى ما سمعت من القول» فتفرق القوم قبل أن أكلمهم فأعد لنا الطعام مثل ما صنعت، ففعلت، ثم جمعتهم، ثم دعاني بالطعام، فقدمته، ففعل كما فعل بالأمس، فأكلوا وشربوا، ثم تكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال:
«يا بني عبد المطلب، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيّكم يوازرني على أمري ويكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟» فأحجم القوم جميعا عن ذلك الكلام، فقلت: يا رسول الله أنا أكون وزيرك عليه قال: «علي» فأخذ صلّى الله عليه وسلّم برقبتي ثم قال: «إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا وأطيعوا» «1» . فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لعلي وتطيع.
وروى أبو يعلى عن الزبير بن العوام أن قريشا جاءته فأنذرهم، فسألوه آيات سليمان في الريح وداود في الجبال وعيسى في إحياء الموتى ونحو ذلك. وأن يسير الجبال ويفجر الأنهار، ويجعل الصخرة ذهبا. فأوحى الله تعالى إليه وهم عنده أخبرهم بأن أعطي ما سألوه ولكن إن أراهم كفروا عوجلوا، فاختار صلّى الله عليه وسلّم الصبر عليهم ليدخلهم الله باب الرحمة. وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) أي لين جانبك لهم و «من» للتبيين، لأن من اتبع أعم ممن اتبع لدين أو قرابة أو نسب فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) ولا تبرأ منهم وقل لهم، قولا بالنصح، لعلهم يرجعون إلى قبول الدعوة منك. والمعنى: فبعد إنذار عشيرتك فتواضع لمن آمن منهم، وتبرأ من عمل من خالفك منهم وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) أي فوّض أمرك إلى الذي يقهر أعداءك بعزته وينصرك عليهم برحمته.
وقرأ نافع وابن عامر «فتوكل» بالفاء على الإبدال من جواب الشرط. والباقون بالواو على العطف على أنذر الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ
(218) من نوم أو غيره إلى الصلاة منفردا وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) أي ويرى تصرفك في الصلاة بالقيام والركوع والسجود، والقعود مع المصلين جماعة إذ كنت إماما لهم. ويقال: ويراك منتقلا في أصلاب المؤمنين، وأرحام المؤمنات، من لدن آدم وحواء إلى عبد الله وآمنة، فجميع أصول سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم رجالا ونساء مؤمنون، فلا يدخلهم الشرك ما دام النور المحمدي في الذكر وفي الأنثى. فإذا انتقل منه لمن بعده أمكن أن يعبد غير الله، وآزر ما عبد الأصنام إلا بعد انتقال النور منه لإبراهيم. وأما قبل انتقاله فلم يعبد غير الله إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) فيسمع ما تقوله، ويعلم ما تنويه وتعمله.
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) ؟ أي أهل أخبركم يا كفار مكة على من تنزل الشياطين؟ أي لمّا قال الكفار. لم لا يجوز أن يقال: إن الشياطين تنزل بالقرآن على محمد كما أنهم ينزلون بالكهانة على الكهنة،
__________
(1) رواه النّسائي في كتاب الحج، باب: إنشاد الشعر في الحرم والمشي بين يدي الإمام.(2/162)
وبالشعر على الشعراء؟ فرق الله تعالى بين محمد صلّى الله عليه وسلّم وبين الكهنة والشعراء فقال: تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) أي تنزل الشياطين على كل من اتصف بالكذب الكثير والإثم الكبير وهو مسيلمة الكذاب، وسطيح، وطليحة. يُلْقُونَ السَّمْعَ، وهذه الجملة إما حال من فاعل «تنزل» المستتر أي يصغي الشياطين سمعهم إلى الملائكة ليسترقوا شيئا، ويلقون الشيء المسموع إلى الكهنة.
وإما صفة لكل أفاك أثيم أي يصغي الكهنة سمعهم إلى الشياطين، أو يلقون ما سمعوه منهم إلى عوام الخلق وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) فالشياطين يسمعون الكهنة ما لم يسمعوا من الملائكة، كما جاء
في الحديث: «الكلمة يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة، والكهنة يفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم»
. وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أي الراوون الذين يروون هجاء المسلمين، أي وشعراء الكفار يتكلمون بالكذب منهم عبد الله بن الزبعري، وهبيرة بن أبي وهب، ومسافع بن عبد مناف، وأبو عزة عمرو بن عبد الله، وأمية بن أبي الصلت.
وقالوا: نحن نقول مثل ما يقول محمد. وقالوا شعرا، واجتمع إليهم سفهاء قومهم يسمعون أشعارهم حين يهجون النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، ويرون عنهم قولهم.
وقرأ نافع بسكون التاء وفتح الباء الموحدة. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) ؟ أي ألم تعلم أيها المخاطب أن الشعراء يسيرون في طرق مختلفة سير الحائرين من طرق القيل والقال؟
فإنهم قد يمدحون الشيء بعد أن ذموه وبالعكس، وقد يعظمونه بعد أن استحقروه وبالعكس، لأنهم لا يطلبون بشعرهم الصدق وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) فإنهم يمدحون الجود ويحثون عليه ولا يفعلونه، ويذمون البخل ويصرون عليه، ويهجون الناس بأدنى شيء صدر منهم، ثم أنهم لا يفعلون الفواحش وذلك يدل على الضلالة إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا بالله ورسوله، وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً فلم يشغلهم الشعر عن ذكر الله، ويكون أكثر أشعارهم في التوحيد والثناء على الله تعالى، والحث على طاعته، وفي الحكمة والموعظة والزهد في الدنيا، والزجر عن الاغترار بزخارفها. وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا أي فلا يذكرون هجو أحد إلا من يهجوهم من الكفار وذلك رد على هجو الكفار لرسول الله وأصحابه كما
قال صلّى الله عليه وسلّم يوم قريظة لحسان: «اهج المشركين فإن جبريل معك»
«1»
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة يمشي بين يديه وهو يقول:
خلوا نبي الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله
مضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهب الخليل عن خليله
فقال له عمر: يا ابن رواحة بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفي حرم الله تقول شعرا! فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم:
__________
(1) رواه المتقي الهندي في كنز العمال (33251) . [.....](2/163)
«خل عنه يا عمر فهي أسرع فيهم من نضح النبل»
«1» .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «اهجوا قريشا فإنه أشد عليهم من رشق النبل»
«2» .
وعن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن من الشعر لحكمة»
«3» . وقال الشعبي: كان أبو بكر يقول الشعر وكان عمر يقول الشعر، وكان عثمان يقول الشعر، وكان علي أشعر من الثلاثة. وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) أي سيعلم الذين ظلموا أنفسهم بالشرك وهجوا رسول الله وأصحابه، وبالإعراض عن تدبر هذه الآيات أنهم ينقلبون كمال انقلاب، لأن مصيرهم إلى النار، وهو أقبح مصير، ومرجعهم إلى العذاب، وهو أشر مرجع، فالمنقلب: هو الانتقال إلى ضد ما هو. فيه والمرجع هو العود من حال هو فيها إلى حال كان عليها، فصار كل مرجع منقلبا وليس كل منقلب مرجعا.
وقرئ «أيّ منفلت ينفلتون» ، أي وسيعلم الظالمون أن ليس لهم وجه من وجوه الانفلات فإنهم يطمعون أن ينفلتوا من عذاب الله تعالى، و «أي» منصوب ب «ينقلبون» ولا يجوز أن يكون منصوبا بسيعلم، لأن أسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها، لأن الاستفهام معنى، و «ما» معنى آخر فلو عمل فيه ما قبله لدخل بعض المعاني في بعض.
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الأدب، باب: ما جاء في الشعر، وأحمد في (م 1/ ص 269) .
(2) رواه ابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (125) .
(3) رواه السيوطي في الدر المنثور (6: 301) ، والعجلوني في كشف الخفاء (1: 16) .(2/164)
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10)
سورة النمل
مكية، وهي أربع وتسعون آية، ألف ومائة وتسع وأربعون كلمة، أربعة آلاف وسبعمائة وسبع وستون حرفا
طس أي هذا مسمى بطس تِلْكَ أي تلك السورة آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) ، أي مظهر للحكم والأحكام وأحوال الآخرة.
وقرأ ابن أبي عبلة برفع «كتاب مبين» . هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) ، هما حالان من آيات، أي هادية إلى الله ومبشرة بالوصول إلى الله بهدايته للمصدقين بتلك الآيات أو بدلان منها، أو خبران آخران لتلك
كما قال تعالى: «ألا من طلبني وجدني من طلبني بدلالات القرآن وجدني بالعيان»
. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي يأتون بالصلوات الخمس بشروطها ووضعها في حقها.
وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي يعطونها بشرائطها وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) أي هؤلاء هم الموقنون بالآخرة حق الإيقان لا من عداهم، لأن تحمل مشاق العبادات لخوف العقاب ورجاء الثواب.
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ بأن خلقنا في قلبه العلم بما فيها من المنافع واللذات ولا يخلق في قلبه بما فيها من المضار والآفات، فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أي ينهمكون فيها أُوْلئِكَ أي الموصوفون بعدم الإيمان بما في الآخرة وبالعمد في الأعمال الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وهو عمي القلوب وصممه وبكمه، وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) أي أشد الناس خسرانا لفوات الثواب واستحقاق العقاب، ولأنهم خسروا الدنيا والآخرة ولم يربحوا المولى وذلك لأن قوما من المختصين بتوفيق من الله يحبهم ويحبونه قد خسروا الدنيا والآخرة بتركهما وعدم الالتفات إليهما في طلب المولى، فربحوا المولى. فلهذا لمّا وجد أبو يزيد في البادية قحف رأس مكتوبا عليه خسر الدنيا والآخرة بكى وقبّله وقال هذا رأس صوفي. وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) ، أي وإنك يا أشرف الخلق لتؤتى القرآن من عند ذات مصيب في أفعاله لا يفعل شيئا إلا على وفق علمه. عليم بكل شيء سواء كان ذلك العلم مؤديا إلى العمل أو لا. وقال بعضهم: أي إنك جاوزت حد كمال كل رسول فإنهم كانوا يتلقون الكتب بأيديهم من يد جبريل، والرسالات(2/165)
إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20)
من لفظه وحيا وإنك تلقى حقائق القرآن من عند الله تعالى، وإن كنت تلقى القرآن بتنزيل جبريل على قلبك، فالله تعالى علمك حقائق القرآن بأن جعلك بحكمته مستعدا لقبول فيض القرآن بلا واسطة. وهو أعلم حيث يجعل رسالته إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ أي زوجته بنت شعيب حيث تحيّر في الطريق عند مسيره من مدين إلى مصر إِنِّي آنَسْتُ ناراً أي أبصرتها سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ يعرف به الطريق أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ. وقرأ الكوفيون بتنوين شهاب، فالقبس بدل منه أو صفة له، أي بشعلة نار مأخوذة من أصلها. والباقون بالإضافة أي بشهاب من قبس لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) أي لكي تدفئوا بها فَلَمَّا جاءَها أي تلك التي ظنها موسى نارا نُودِيَ من قبل الله تعالى: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها أي بورك من في مكان النار- وهي البقعة المباركة- ومن حول مكانها، ويدل عليه قراءة أبيّ «تباركت الأرض ومن حولها» . وعنه أيضا «بوركت النار» . وقيل: المراد بمن في النار هو موسى عليه السلام لقربه منها، ومن حولها الملائكة، أي نودي ببركة من النار أي بتطهيره مما يشغل قلبه من غير الله، وتخليصه للنبوة والرسالة أي ناداه الله تعالى بأنا قدّسناك واخترناك للرسالة، وهذه تحية من الله تعالى لموسى وتكرمة له. وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) وهو من كلام الله مع موسى نزه الله تعالى نفسه عما لا يليق به في ذاته وحكمته ليكون ذلك مقدمة في صحة رسالة موسى عليه السلام وإعلاما بأن ذلك الأمر مكونه رب العالمين، ولدفع ما قد يتوهمه موسى بحسب الطبع البشري الجاري على العادة الخلقية من أن الله المتكلم به في مكان أو في جهة. ومن أن الكلام الذي يسمعه موسى في ذلك المكان بحرف وصوت حادث ككلام الخلق، وقد علم موسى عليه السلام أن النداء من الله لما دل على ذلك من أن النار كانت مشتعلة على شجرة خضراء لم تحترق. يا مُوسى إِنَّهُ أي إن مكلمك أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) أي أنا القوي القادر على ما يبعد من الأوهام، كقلب العصا حية، وأمر اليد الفاعل ما أفعله بحكمة بالغة و «أنّا» خبر «إنّ» و «الله» بيان له و «العزيز الحكيم» صفتان «لله» ، ممهدتان لما أراد الله أن يظهره على يد موسى عليه السلام من المعجزات وَأَلْقِ عَصاكَ عطف على «بورك» ، فكلاهما تفسير ل «نودي» ، فألقاها فانقلبت حية كبيرة جدا تسعى، فأبصرها متحركة بسرعة واضطرب، فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ أي تضطرب في تحركها كَأَنَّها أي العصا جَانٌّ أي حية صغيرة في سرعة الحركة وَلَّى مُدْبِراً أي هرب موسى منها مدبرا وَلَمْ يُعَقِّبْ أي لم يلتفت إليها من خوفها لظنه أن ذلك لأمر أريد به ولذلك قال تعالى: يا مُوسى لا تَخَفْ منها إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) في حالة الإيحاء والإرسال،
ولا يخاف من الملك العدل إلا ظالم كما قال تعالى: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) أي لكن من ظلم، ثم عمل حسنا بعد سوء، فإني غفور رحيم وهذا تعريض لطيف بما وقع من موسى عليه السلام من وكزه القبطي. وجعل الأخفش والفراء وأبو عبيدة «إلا» حرف عطف بمنزلة الواو، وفي التشريك في اللفظ. والمعنى: وقرئ «ألا من ظلم»(2/166)
بحرف التنبيه، و «من» شرطية وجوابها «فإني غفور رحيم» . وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ أي في إبطك- وكان له عليه السلام مدرعة صوف لا كم لها- تَخْرُجْ بَيْضاءَ لها
إشراق مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي آفة فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وقوله: فِي تِسْعِ متعلق بمحذوف حال أخرى من ضمير «تخرج» ، أي حال كون اليد مندرجة في جملة تسع آيات. وقوله: إِلى فِرْعَوْنَ متعلق بمحذوف حال من فاعل أدخل أي حال كونك مرسلا بها إلى فرعون والظاهر أن قوله: إِلى فِرْعَوْنَ متعلق بمحذوف حال من فاعل ألق وأدخل وإن قوله: فِي تِسْعِ متعلق بمحذوف حال من مفعولهما، أي ألق وأدخل، أي حال كون العصا واليد مع جملة الآيات التسع، فإن الآيات إحدى عشرة: العصا واليد والفلق، والطوفان والجراد، والقمل والضفادع، والدم والطمسة، والجدب في بواديهم والنقصان في مزارعهم، وحال كونك مبعوثا إلى فرعون والقبط. إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) أي خارجين من ربقة الانقياد لأمري والعبودية لألوهيتي فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا على يد موسى عليه السلام مُبْصِرَةً كل من ينظر إليها ويتأمل فيها، هادية إلى الطريق الأقوم.
وقرأ علي بن الحسين وقتادة مبصرة بفتح الميم، والصاد أي مكانا يكثر فيه التبصر. قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) أي هذا الذي أتى به موسى خيال لا حقيقة له، واضح في أنه خيال وَجَحَدُوا بِها أي كذبوا بتلك الآيات بألسنتهم وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ أي وقد علمتها قلوبهم علما يقينا أنها حق. ظُلْماً وَعُلُوًّا حال أخرى من الواو في جحدوا، أو علة للجحد، أي ظالمين للآيات حيث سموها سحرا وحطوها في رتبتها الرفيعة، ومترفعين عن الإيمان بها أو جحدوا بها للظلم للآيات وللتكبر عنها. وقرئ «عليا» ، و «عليا» بالضم والكسر كما قرئ «عتيا» فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) من إغراقهم في البحر على الوجه الهائل الذي هو عبرة للعالمين.
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً أي أعطينا كل واحد منهما جزءا من العلم لائقا به من علم الحكم والسياسة ومختصا به كعلم داود صنعة لبوس، وتسبيح الجبال، والطير، وعلم سليمان سائر نطق الطير والدواب. وَقالا شكرا لما أعطيناه من العلم الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا بما أعطانا من العلم عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) ممن لم يؤت علما مثل علمنا. وفي هذا دليل على فضل العلم وشرف أهله، وتحريض للعالم بأن يحمد الله تعالى على ما أعطاه من العلم، ويعتقد أنه قد فضل عليه كثير وإن فضل على كثير فلا يفتخر ولا يتكبر وإن يشكر الله تعالى في أنه ينفع بعلمه المسلمين، وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ أي ملكه بأن قام مقامه فيه دون سائر أولاده، وكان لداود تسعة عشر ابنا، وزيد له تسخير الريح والشياطين. وداود أشد تعبدا من سليمان. وروي أن سليمان أعطي هذا الملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، أما داود فقد عاش مائة سنة. وَقالَ سليمان لبني إسرائيل على جهة الشكر لنعم الله تعالى وللتنويه بها.(2/167)
يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وهذه النون يقال لها: نون الواحد المطاع، وكان سليمان عليه السلام ملكا مطاعا لا يتكبر، وقد يتعلق بتعظيم الملك مصالح، فيصير ذلك التعظيم واجبا.
روي عن كعب الأبار رضي الله عنه أن سليمان عليه السلام أخبر عن منطق جملة من الطيور:
الورشانة: تقول: لدوا للموت، وابنوا للخراب.
والفاختة: تقول: ليت ذا الخلق لم يخلق.
والطاوس: يقول: كما تدين تدان.
والهدهد: يقول: من لا يرحم لا يرحم.
والصرد: يقول: استغفروا الله يا مذنبين وهو الذي دل آدم على مكان البيت، ومن ثمّ نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قتله.
والطيطوي: يقول: كل حي ميت وكل جديد بال.
والخطاف: يقول: قدموا خيرا تجدوه وهو الذي آنس الله آدم به بعد خروجه من الجنة فهي لا تفارق بني آدم أنسألهم.
والحمام: يقول: سبحان ربي الأعلى.
والغراب: يدعو على العشار فكان يقول: اللهم العن العشار.
والحدأة: تقول: كل شيء هالك إلا الله.
والقطاط: تقول: من سكت سلم.
والبغبغان: وهي الدرة تقول: ويل لمن الدنيا همه.
والقمري: يقول: سبحان ربي العظيم المهيمن.
والباز: يقول: سبحان ربي العظيم وبحمده.
والعقاب: يقول: في البعد عن الناس أنس.
والديك: يقول: ذكروا الله يا غافلين.
والنسر: يقول: يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت. يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ أي أعطينا شيئا كثيرا. وكان له عليه السلام ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة وسبعمائة سرية، وقد نسجت له الجن بساطا من ذهب وإبريسم فرسخا في فرسخ، وكان يوضع منصته في في وسطه، وهو من ذهب، فيقعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة، فيقعد الأنبياء عليهم السلام على كراسي الذهب، والعلماء على كراسي الفضة، وحولهم الناس، وحول الناس الجن والشياطين، وحولهم الوحش، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس، وترفع ريح الصبا البساط، فتسير به مسيرة شهر، فأوحى الله إليه وهو يسير بين السماء(2/168)
والأرض: إني قد زدت في ملكك أن لا يتكلم أحد بشيء إلا ألقته الريح في سمعك فيحكى أنه مر بحراث فقال: لقد أوتي آل داود ملكا عظيما فألقته الريح في أذنه فنزل ومشى إلى الحراث وقال:
إنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه، ثم قال لتسبيحة واحدة يقبلها الله تعالى خير مما أوتي آل داود إِنَّ هذا أي التعليم والإعطاء لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) أي الذي لا يخفى على أحد.
وقصده عليه السلام بذلك القول: الشكر والحمد، أي أقول هذا القول شكرا لا فخرا. وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ أي جمع له بقهر وإكراه بأيسر أمر عساكره مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) أي يمنعون من التقدم في السير حتى يجتمعوا ليكون مسيره عليه السلام مع جنوده على ترتيب.
وروي عن كعب الأحبار أنه قال: كان سليمان عليه السلام إذا ركب حمل أهله وخدمه وحشمه، وقد اتخذ مطابخ ومخابز فيها تنانير الحديد والقدور العظام تسع كل قدر عشرة من الإبل، فيطبخ الطباخون، ويخبز الخبازون. وهو بين السماء والأرض. واتخذ ميادين الدواب فتجري بين يديه والريح تهوي، فسار من إصطخر يريد اليمن فسلك على مدينة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما وصل إليها قال سليمان: هذه دار هجرة نبي يكون آخر الزمان، طوبى لمن آمن به وطوبى لمن اتبعه. ولما وصل مكة رأى حول البيت أصناما تعبد، فجاوزه سليمان، فبكى البيت، فأوحي إليه ما يبكيك؟ قال: يا رب أبكاني إن هذا نبي من أنبيائك ومعه قوم من أوليائك مروا عليّ ولم يصلوا عندي، والأصنام تعبد حولي فأوحى الله تعالى إليه: لا تبك فإني سوف أملأك وجوها سجدا، وأنزل فيك قرآنا جديدا، وأبعث منك نبيا في آخر الزمان أحب أنبيائي إلي، وأجعل فيك عمارا من خلقي يعبدونني، أفرض عليهم فريضة يحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها، والحمامة إلى بيضها، وأطهرك من الأوثان وعبدة الشيطان. ثم ساروا حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ وهو واد بالشام كثير النمل: على ما قاله مقاتل وقتادة، وبالطائف: على ما قاله كعب وهو نمل صغار على المشهور. قالَتْ نَمْلَةٌ قولا مشتملا على حروف وأصوات، وكانت عرجاء، ذات جناحين، وهي من الحيوانات التي تدخل الجنة، فسمع سليمان كلامها من ثلاثة؟؟؟ أم محال ويقال لها: منذرة وقيل: اسمها حرميا. وقيل: ظاخية. وقيل: عيجلوف يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ أي جحركم لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) أي لا تبرزوا فيدوسنكم سليمان وجنوده في حال كونهم لا يشعرون بدوسهم لكم لاشتغالهم بما هم فيه من أحوال السير، وكأنهم أرادوا النزول عند الوادي، لأنه دامت الريح تحملهم
في الهواء لا يخاف دوسهم فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها أي تعجبا من قول النملة بفصاحتها واهتدائها إلى تدبير مصالح بني نوعها، وسرورا بما آتاه الله من سمعه كلامها، وفهمه بمعناه وبشهرة حاله وحال جنوده في باب التقوى والشفقة فيما بين أنواع المخلوقات. وَقالَ سليمان: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ أي(2/169)
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30)
اجعلني أكف شكر نعمتك عندي عن أن ينقلب عني، حتى أكون شاكرا لك أبدا أو وفقني لأن أؤدي شكر نعمتك الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ هما داود وأم سليمان، وهي في الأصل زوجة أوريا التي امتحن الله بها داود عليه السلام. وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ لأن العمل الصالح قد لا يرضاه المنعم لنقص في العامل كما قيل:
إذا كان المحب قليل حظ ... فما حسناته إلا ذنوب
وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19) إبراهيم وإسحاق ويعقوب ومن بعدهم من النبيين- كما قاله ابن عباس- لأن الصالح الكامل هو الذي لا يعصي الله تعالى ولا يهمّ بمعصية أثبت اسمي في أسمائهم، واحشرني في زمرتهم. وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ أي بحث أحوال الطير فلم ير الهدهد فيما بينها، أي نزل سليمان منزلا واحتاج إلى الماء فطلبوه، فلم يجدوه فطلب الهدهد ليدل على الماء، لأنه يعرف موضع الماء قربه وبعده فينقر الأرض، ثم تجيء الشياطين فيحفرونها ويستخرجون الماء في ساعة يسيرة. فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ اسمه عنبر- كما أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن- أي ما لي لا أراه لساتر ستره، أو لسبب آخر ثم ظهر له أنه غائب فانتقل عن ذلك الكلام فقال: أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) ؟ فتقدر «أم» ب «بل» أو بالهمزة، أو بهما.
روي أن سليمان عليه السلام لما فرغ من بناء بيت المقدس تجهز للحج فوافى الحرم وأقام به ما شاء، وكان ينحر في كل يوم طول مقامه فيه خمسة آلاف ناقة، وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة، ثم عزم على السير إلى اليمن، فخرج من مكة صباحا فوافى صنعاء وقت الزوال، فرأى أرضا حسناء أعجبته خضرتها فنزل بها ليتغدى ويصلي، فلم يجد الماء فتفقد الهدهد وكان حين اشتغل سليمان بالنزول ارتفع نحو السماء، فنزل إلى بستان بلقيس فإذا هو بهدهد آخر، وكان اسم هدهد سليمان: يعفور؟ وهدهد اليمن: عفير. فقال عفير ليعفور: من أين أقبلت؟ قال: أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود. قال: ومن سليمان؟ قال: ملك الإنس والجن.
والشياطين. والطير. والوحش. والرياح. قال يعفور: ومن ملك هذه البلاد. قال عفير: امرأة يقال لها: بلقيس وإن لصاحبك ملكا عظيما ولكن ليس ملك بلقيس دونه، فإنها تملك اليمن وتحت يدها أربعمائة ملك كل ملك على كورة، مع كل ملك أربعة آلاف مقاتل، ولها ثلاثمائة وزير يدبرون ملكها، ولها اثنا عشر ألف قائد، مع كل قائد مائة ألف مقاتل. وذهب معه لينظر إلى بلقيس وملكها فما رجع يعفور إلا بعد العصر، فلما دخل العصر سأل سليمان الإنس والجن والشياطين عن الماء فلم يعلموه فتفقد الهدهد، فلم يره فدعا عريف الطير- وهو النسر- فسأله عن الهدهد فقال: أصلح الله الملك ما أدري أين هو وما أرسلته إلى مكان! فغضب سليمان عند ذلك
وقال: لَأُعَذِّبَنَّهُ بسبب غيبته فيما لم آذن فيه عَذاباً شَدِيداً بنتف ريشه، فهذا عذاب(2/170)
الطير أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ بالسكين ليعتبر به أبناء جنسه، أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) أي إلا أن يأتيني بحجة تبيّن عذره فلا أذبح ولا أعذب، ثم دعا العقاب وهو أشد الطير طيرانا فقال له: علي بالهدهد الساعة، فارتفع العقاب في الهواء، فالتفت يمينا وشمالا فرأى الهدهد من نحو اليمن، فانقض العقاب نحوه يريده، وعلم الهدهد أن العقاب يقصده بسوء فقال: بحق الله الذي قواك وأقدرك علي إلا ما رحمتني ولم تتعرض لي بسوء، فتركه العقاب وقال له: ويلك إن نبي الله قد حلف أن يعذبك، أو يذبحك، فطارا متوجهين نحو سليمان، فلما انتهى إلى العسكر تلقاه النسر والطير فقالوا له: ويلك أين غبت في يومك هذا؟ فلقد توعدك نبي الله. وأخبروه بما قال سليمان.
فقال الهدهد: أو ما استثنى نبي الله فقالوا: بلى إنه قال: أو ليأتيني بسلطان مبين فقال: نجوت إذا ثم طار العقاب والهدهد حتى أتيا سليمان وكان قاعدا على كرسيه. فقال العقاب: قد أتيتك به يا نبي الله. فَمَكَثَ أي الهدهد غَيْرَ بَعِيدٍ أي زمانا غير طويل حتى جاءه.
وقرأ عاصم بفتح الكاف. والباقون بضمها. فلما قرب منه الهدهد رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما تواضعا لسليمان فلما دنا منه أخذ برأسه فمده إليه وقال له: أن كنت لأعذبنك عذابا شديدا؟ فقال: يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله تعالى. فلما سمع سليمان ذلك ارتعد وعفا عنه، ثم سأله فقال: ما الذي أبطأك عني؟ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ أي علمت ما لم تعلم أيها الملك، وبلغت إلى ما لم تبلغ، وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ.
وقرأ أبو عمرو والبزي بفتح الهمزة من غير تنوين، يراد به القبيلة والمدينة والأصل اسم للقبيلة، ثم سميت مدينة مأرب بسبإ، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام. والباقون بالجر والتنوين اسم للحي سموا باسم أبيهم الأكبر وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وعن ابن كثير في رواية سبأ بالألف بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) أي بخبر حق عجيب. إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ يقال لها: بلقيس بكسر الباء وهي بنت شراحيل بن مالك بن الريان. وأمها فارعة الجنية- كما أخرج عن زهير بن محمد- وكان أبوها ملك أرض اليمن كلها، وورث الملك من أربعين أبا، ولم يكن له ولد غيرها، وكان يقول لملوك الأطراف: ليس أحد منكم كفؤا لي وأبى أن يتزوج منهم، فزوجوه بامرأة من الجن يقال لها: ريحانة بنت السكن. قيل في سبب وصوله إلى الجن:
إنه كان كثير الصيد فربما اصطاد من الجن وهم على صور الظباء، فيخلي عنهم، فظهر له ملك الجن، وشكره على ذلك واتخذه صديقا، فخطب ابنته فزوجه إياها. وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يحتاج إليه الملوك وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) أي سرير حسن كبير، طوله ثمانون ذراعا، وعرضه أربعون ذارعا وارتفاعه ثلاثون ذراعا مصنوع من الذهب والفضة، مكلل بالجواهر، وكانت قوائمه من ياقوت أحمر وأخضر، ودر وزمرد، وعليه سبعة أبيات، على كل بيت باب مغلق وَجَدْتُها وَقَوْمَها أي لقيتهم مجوسا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي يعبدون الشمس(2/171)
متجاوزين عبادة الله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ أي سبيل الهدى، فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) بسبب ذلك أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ مفعول له للصد أو التزيين على حذف اللام، أي فصدهم لأن لا يسجدوا له تعالى، أو زين لهم أعمالهم، لأن لا يسجدوا بتخفيف اللام.
فالأحرف تنبيه واستفتاح، و «يا» بعدها حرف تنبيه أيضا، أو نداء. والمنادى محذوف تقديره:
يا هؤلاء اسجدوا، و «اسجدوا» فعل أمر، فكان حق الخط على هذه القراءة أن يكون «يا اسجدوا» ، ولكن الصحابة أسقطوا ألف «يا» ، وهمزة الوصل خطأ لما سقطا لفظا، ووصلوا الياء بسين «اسجدوا» فاتّحدت القراءتان لفظا وخطا، واختلفا تقديرا، وعلى هذه القراءة فالوقف على «يهتدون» تام، ولو وقف على «يا» بمعنى: ألا يا هؤلاء، ثم ابتدئ ب «اسجدوا» جاز بخلاف قراءة الباقين بإدغام النون في «لا» ، فالوقف على «لا يهتدون» جائز.
وقرأ الأعمش «هلا» وهي حرف، وعبد الله بقلب الهمزة هاء. وقرأ أبي «ألا يسجدون أي لم لا يسجدون لله كما قاله ابن عباس. وعن عبد الله «هلا تسجدون» بمعنى «ألا تسجدون» على الخطاب، و «هلا» يحتمل أن يكون استئنافا من جهة الله تعالى، أو من سليمان عليه السلام.
قال أهل التحقيق: قوله: أَلَّا يَسْجُدُوا يجب أن يكون بمعنى الأمر، لأنه لو كان بمعنى المنع من السجود لم يكن معنى لوصفه تعالى باستحقاق السجود للاتصاف بكونه تعالى قادرا على إخراج الخبء عالما بكل شيء. الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ والجار المجرور متعلق بالخبء أي الذي يظهر المخفي فيهما من المطر والنبات، ومتعلق ب «يخرج» على أن فيه معنى «من» كما قاله الفراء وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) من الأحوال فيجازيكم بها.
وقرأ الكسائي وحفص بالتاء الفوقية فتأويل قراءة حفص في «ألا يسجدوا» أنه خرج إلى خطاب الحاضرين بعد أن أتم قصة أهل سبأ والخطاب على قراءة الكسائي ظاهر. والباقون بالغيبة لتقدم ضمائر الغيبة في قوله: أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ فهم وهي غير ظاهرة. وقرئ «ألا تسجدون لله الذي يخرج الخبء من السماء والأرض، ويعلم
سركم وما تعلنون» . اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) أي فعرش الله عظيم بالنسبة إلى جميع المخلوقات من السموات والأرض وما بنيهما. وقرئ «العظيم» بالرفع على أنه صفة الرب، ولما ذكر الهدهد قصة بلقيس لم يتغير سيدنا سليمان عليه السلام لذلك، ولم يستفزه الطمع لما سمع من ملكها كعادة الملوك في الطمع في ملك غيرهم، فلما ذكر الهدهد عبادة بلقيس وقومها غير الله، اغتاظ سيدنا سليمان وأخذته حمية الدين، وجعل يبحث عن تحقيق. قالَ سليمان للهدهد: سَنَنْظُرُ أي سنتعرف في مقالتك بالتجربة أَصَدَقْتَ فيه أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) وفي هذا دليل على أن خبر الواحد لا يثبت العلم، وعلى أن الوالي يجب أن يقبل عذر من في صورة المجرمين إذا صدق في اعتقاده، اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ أي إلى من يعبدون الشمس ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ أي تنح إلى مكان(2/172)
أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
قريب تتوارى فيه ليكون ما يقوله بسمع منك. فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28) أي تعرف أي شيء يرجع بعضهم إلى بعض من القول، فأخذ الهدهد الكتاب وأتى به إلى بلقيس، وكانت بأرض مأرب من اليمين على ثلاث مراحل من صنعاء، فوجدها نائمة مستلقية على قفاها وقد غلّقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها، فألقى الكتاب على نحرها وتوارى في الكوة فانتبهت فزعة، فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت لأن ملك سليمان كان في خاتمه، فعند ذلك قالَتْ لأشراف قومها: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ- أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن أهل مشورتها كانوا ثلاثمائة واثني عشر رجلا- إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) أي لأنه مكرم بختمه، ولغرابة شأنه حيث وصل إليها على غير معتاد، ولحسن ما فيه من كونه مشتملا على إثبات الصانع، الحي المريد، القادر الرحيم. وعلى النهي عن التكبر، والأمر بالانقياد، ولكونه من عند ملك كريم فقد عرفت أن المرسل أعظم ملكا منها. إِنَّهُ أي إن عنوان الكتاب مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ أي إن مضمونه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30)
أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ ف «أن» مفسرة، و «لا» ناهية، أي لا تتكبروا علي كما تفعل الملوك.
وقرأ ابن عباس «لا تغلوا» بالغين المعجمة أي لا تترفعوا علي ولا تمتنعوا من الإجابة وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) أي مؤمنين. قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي أي أجيبوني في أمري الذي حزبني وذكرت لكم خلاصته، ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) أي عادتي معكم أن لا أفعل أمرا من الأمور المتعلقة بالملك حتى أحضركم وأشاوركم قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ في الأجساد والآلات وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ أي شجاعة مفرطة وثبات في القتال وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ أي هو موكول إليك، فَانْظُرِي أي تأملي ماذا تَأْمُرِينَ (33) ، ونحن مطيعون لك فمري بنا بأمرك، ولما أحست منهم الميل إلى الحراب لم ترض به لمّا علمت أن من سخّر له الطير على هذا الوجه لا يعجزه شيء يريده. وذلك يدل دلالة بينة على رسالة مرسلها، بل مالت للصلح، ولذلك بينت السبب في رغبتها فيه. قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً من القرى على منهاج الحراب أَفْسَدُوها بتخريب عمارتها وإتلاف ما فيها من الأموال وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً بالقتل والأسر والإجلاء وغير ذلك من فنون الإهانة. وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وهذا من جملة كلامها ذكرته توكيدا لما وصفته من حال الملوك أي إن الذين أرسلوا الكتاب يفعلون مثل الذي تفعله الملوك، فإن ذلك عادتهم المستمرة. إِنِّي مُرْسِلَةٌ رسلا بِهَدِيَّةٍ عظيمة فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) .
روي أنها بعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري، وحليهن الأساور والأطواق، والقرطة راكبي خيل مغشاة بالديباج، محلاة اللجم والسروج بالذهب المرصع، وخمسمائة جارية على رماك في زي الغلمان، وألف لبنة من ذهب وفضة، وتاجا مكللا بالدر والياقوت المرتفع، وبعثت العود والمسك والعنبر، وحقا فيه درة عذراء، وجزعة معوجة الثقب. وبعثت(2/173)
رجلا من أشراف قومها- المنذر بن عمر- وآخر ذا رأي وعقل، وكتبت مع المنذر كتابا تذكر فيه الهدية وقالت: إن كان نبيا، ميز بين الغلمان والجواري وأخبركم بما في الحق قبل أن يفتحه، وثقب الدرة ثقبا مستويا وسلك في الخرزة خيطا من غير علاج أنس وجن، ثم قالت للمنذر: إن نظر إليك نظر غضبان فهو ملك فلا يهولنك وإن رأيته بشاشا لطيفا فهو نبي فانطلق الرسول بالهدايا، فأقبل الهدهد إلى سليمان عليه السلام فأخبره بذلك، فأمر الجن فضربوا لبن الذهب والفضة وفرشوه في ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ، وجعلوا حول الميدان حائطا شرفاته من الذهب والفضة، وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر مختلفة ألوانها حتى إن لدواب البحر أجنحة وأعرافا ونواصي، فربطوها عن يمين الميدان ويساره على اللبن، وأمر بأولاد الجن وهم خلق كثير أن أقيموا على يمين الميدان ويساره، ثم قعد سليمان على سريره ووضع أربعة آلاف كرسي على جانبيه، واصطفت الشياطين صفوفا فراسخ والإنس صفوفا فراسخ، والوحش والسباع والطيور والهوام كذلك، فلما دنا القوم من الميدان ونظروا إلى ملك سليمان، ورأوا الدواب التي لم يروا مثلها تروث على لين الذهب والفضة بهتوا، وتقاصرت إليهم أنفسهم، ووضعوا ما معهم من الهدايا في ذلك الموضع فلما وقفوا بين يدي سليمان أقبل عليهم بوجه طلق وسألهم عن حالهم، فأخبره رئيس القوم بما جاءوا فيه وأعطاه كتاب الملكة فنظر فيه وقال: أين الحق؟ فأتى به فحركه فجاءه جبريل فأخبره بما فيه فقال سليمان لهم: إن فيه درة ثمينة غير مثقوبة وجزعة، ثم أمر بالأرضة، فأخذت شعرة في فيها ونفذت في الدرة فجعل رزقها في الشجرة فأمر بالدودة البيضاء، فأخذت خيطا بفيها ونفذت في الجزعة، فجعل رزقها في الفواكه، وأمر الغلمان والجواري بأن يغسلوا وجوههم وأيديهم، فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله في الأخرى، ثم تغسل به وجهها والغلام كما يأخذ الماء يضرب به وجهه، وكانت الجارية تصب الماء على باطن ساعدها، والغلام يصبه على ظهره، فميز عليه السلام بين الغلمان والجواري، ثم رد الهدية كما أخبر الله عنه بقوله: فَلَمَّا جاءَ أي رسول الملكة بلقيس وهو منذر سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ أي قال سليمان عليه السلام مخاطبا للرسول والمرسل: لا ينبغي لكم يا أهل سبأ أن تعاونوني بالمال، لأن الله تعالى قد أعطاني منه ما لم يعط أحدا، ومع ذلك أكرمني بالنبوة والدين بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) فالمصدر إما مضاف لفاعله أي تفرحون بما تهدونه افتخارا على أمثالكم واعتدادا به من حيث إنكم قدرتم على إهداء مثله وإما مضاف لمفعوله أي تفرحون بما يهدي إليكم حبا في كثرة أموالكم وحالي خلاف حالكم، فلا أفرح بالدنيا من حاجتي. وقيل: بل أنتم بهديتكم هذه تفرحون بأخذها إن ردت إليكم ثم قال للمنذر: ارْجِعْ أيها الرسول إِلَيْهِمْ أي إلى بلقيس وقومها بهديتهم وقيل: - الخطاب للهدهد- أي ارجع يا هدهد حاملا كتابا آخر فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها أي فو الله لنأتينهم بجموع لا طاقة لهم بمقاومتها.(2/174)
وقرأ ابن مسعود «بهم» بضمير جمع الذكور وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أي من سبأ أَذِلَّةً أي حال كونهم ذليلين بذهاب ملكهم وعزهم وَهُمْ صاغِرُونَ (37) أي مهانون بوقوعهم في أسر واستعباد وبإغلال أيمانهم إلى أعناقهم.
قال ابن عباس: لما رجعت رسل بلقيس إليها من عند سليمان وأخبروها الخبر قالت: قد عرفت والله ما هذا بملك ولا لنا به من طاقة وبعثت إلى سليمان أني قادمة إليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك، ثم أمرت بعرشها فجعل في آخر سبعة أبيات بعضها في داخل بعض، ثم غلقت عليه سبعة أبواب وجعلت عليها حراسا يحفظونه، ثم تجهزت للمسير، فارتحلت إلى سليمان في اثني عشر ألف ملك من ملوكها تحت كل ملك ألوف. فخرج سليمان يوما فجلس على سريره، فسمع رهجا قريبا منه فقال: ما هذا؟ قالوا: بلقيس وقد نزلت بهذا المكان- أي الذي على مسيرة فرسخ من سليمان عليه السلام- فأقبل سليمان على جنوده قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها فأراد سليمان أن يريها بعض ما خصه الله تعالى من إجراء العجائب على يده الدالة على عظيم قدرته تعالى، وعلى صدقه في نبوته، وكان سليمان إذ ذلك في بيت المقدس، وعرشها في سبأ بلدة باليمن وبينها وبين بيت المقدس مسيرة شهرين وأن يعرف مقدار مملكتها قبل وصولها إليه، لأن العرش سرير المملكة قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) أي مؤمنين، فإنها إذا أسلمت لم يحل له أخذ مالها قالَ عِفْرِيتٌ أي قوي مِنَ الْجِنِّ- كان مثل الجبل يضع قدمه عند منتهى طرفه. وكان مسخرا لسليمان واسمه: ذكوان. وقيل: صخر. وقيل: كوزن- أَنَا آتِيكَ بِهِ وهو اسم الفاعل، أي أنا آت بعرشها قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ أي من مجلسك للقضاء وكان مجلس قضائه إلى انتصاف النهار وَإِنِّي عَلَيْهِ أي على الإتيان به لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) أي لقوي على حمله، أمين على ما فيه من الجواهر واللؤلؤ والذهب والفضة. قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ المنزل على الأنبياء قبل سليمان كالتوراة.
قال ابن عباس وقتادة: هو آصف بن برخيا كاتب سليمان أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ.
قال ابن عباس: إن آصف قال لسليمان حين صلى: مد عينيك حتى ينتهي طرفك. فمد سليمان عينيه ونظر نحو اليمن، ودعا آصف، فبعث الله الملائكة، فحملوا السرير يجدون به تحت الأرض حتى نبع بين يدي سليمان قيل: كان الدعاء الذي دعا به يا حي يا قيوم- كما روي ذلك عن عائشة قال بعضهم: أراد سليمان أن يظهر كرامة أمته ليعلم أن في أمم الأنبياء أهل الكرامات لئلا ينكروا من كرامات الأولياء. وقال محمد بن المنكدر: إنما الذي عنده علم هو سليمان نفسه.
قال له: عالم من بني إسرائيل أنت النبي بن النبي، وليس أحد أوجه منك عند الله، فإن دعوت الله كان العرش عندك فقال: صدقت، ففعل ذلك، فجيء بالعرش في الوقت.(2/175)
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50)
قال الرازي: وهذا القول أقرب والمخاطب به العفريت الذي كلمه وأراد سليمان عليه السلام إظهار معجزة فغالبه أولا، ثم بين أنه يتحصل له من سرعة الإتيان بالعرض ما لا يتهيأ للعفريت. قيل: خرّ سليمان ساجدا ودعا باسم الله الأعظم فغاب العرش تحت الأرض حتى ظهر عند كرسي سليمان وإنما هذا أقرب، لأن سليمان كان أعرف بالكتابة من غيره لأنه نبي وأن إحضار العرش في تلك الساعة اللطيفة درجة عالية فلو حصلت لآصف لاقتضى ذلك تفضيله على سليمان، ولو افتقر إليه في ذلك لاقتضى ذلك نقص حال سليمان في أعين الخلق، ولأن ظاهر قوله: هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ يقتضي أن يكون إتيان العرش بدعاء سليمان فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ أي رأى سليمان العرش حاضرا لديه قالَ سليمان- شاكرا لربه لما آتاه الله تعالى من هذه الخوارق: هذا أي إتيان العرش في هذه المدة القصيرة مِنْ فَضْلِ رَبِّي أي من إحسانه إلي من غير استحقاق له من قبلي لِيَبْلُوَنِي أي ليختبرني أَأَشْكُرُ فأعترف بكون ذلك فضلا منه تعالى أَمْ أَكْفُرُ بأن أثبت لنفسي تصرفا في ذلك أو أترك شكرا وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ فإن نفع الشكر عائد إلى الشاكر فإنه يخرج عن علقة وجوب الشكر عليه وأنه يستحق المزيد، وأنه مشتغل بالمنعم. أما المعرض عن الشكر فهو مشتغل باللذات الحسية وَمَنْ كَفَرَ أي ترك شكر النعمة فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ عن شكره لا يضره تعالى كفرانه كَرِيمٌ (40) أي لا يقطع عنه نعمه بسبب إعراضه عن الشكر.
قالَ سليمان: نَكِّرُوا لَها عَرْشَها أي غيروا سريرها من هيئة، فزيدوا فيه وانقضوا منه. وروي أنه جعل أعلاه أسفله وجعل مكان الجوهر الأخضر أحمر، وبالعكس، فأراد سليمان عليه السلام اختبار عقلها نَنْظُرْ بالجزم على أنه جواب الأمر.
وقرئ بالرفع على الاستئناف أي نعلم أَتَهْتَدِي أي أتعرف أن ذلك العرش عرشها أو أتعرف الجواب اللائق بالمقام أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) أي لا يعرفون ذلك فَلَمَّا جاءَتْ أي بلقيس سليمان: قِيلَ لها من جهة سليمان أَهكَذا عَرْشُكِ أي أمثل هذا عرشك الذي تركته في قصرك وأغلقت عليه الأبواب وجعلت عليه حراسا؟ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ أي كأن عرشي هو هذا.
وقال عكرمة: كانت حكيمة لم تقل: نعم، خوفا من أن تكذب، ولم تقل: لا، خوفا من التكذيب. فعرف سليمان كمال عقلها حيث لم تقر، ولم تنكر. ولو قيل لها: أهذا عرشك؟
لقالت: نعم، لمعرفتها للعرش وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها أي وأعطينا العلم بكمال قدرة الله تعالى وصحة نبوتك من قبل هذه المعجزة التي شاهدناها بما سمعناه من رسولنا المنذر من الآيات الدالة على ذلك وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) من ذلك الوقت. وهذا من تتمة كلام بلقيس كأنها ظنت أن سليمان أراد بذلك اختبار عقلها وإظهار معجزة لها وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وهذا من كلام الله تعالى أي ومنع بلقيس عن إظهار الإسلام عبادتها القديمة للشمس ف «ما كانت تعبد» فاعل «صد»(2/176)
أو أن «ما كان» مجرورا ب «عن» مقدرة، وفاعل «صد» راجع إلى «سليمان» ، أي وصرفها سليمان عن الذي كانت تعبده وهو الشمس. إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) تعليل لعبادة غير الله، أي إنها كانت من قوم راسخين في الكفر، ولذلك لم تكن قادرة على إظهار إسلامها وهي بينهم إلى أن دخلت تحت ملك سليمان، أو استئناف أخبر الله تعالى أنها كانت من مجوس يعبدون الشمس فلا تعرف إلا عبادتها. وقرأ سعيد بن جبير وأبو حيوة بفتح الهمزة على أن هذه الجملة مجرورة بحرف العلة، أو بدل من «ما كان كانت تعبد» ، أي ومنعها عن إظهار دعواها الإسلام كونها من قوم كافرين أو وصرفها سليمان عن صيرورتها كافرة. يلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ
أي البلاط المتخذ من زجاج.
روي أن سيدنا سليمان أمر الشياطين قبل قدوم بلقيس بأن يحفروا على طريقها حفيرة ويجعلوا سقفها زجاجا أبيض شفافا يضعوا فيها ماء وسمكا، وضفدعا وغير ذلك من حيوانات الماء وصار الماء، وما فيه من هذا الزجاج، فمن أراد مجاوزته يمر فوق السطح لذي تحته الماء ولا يمسه الماء، ومن لم يكن عالما بالحال يظن هذا ماء مكشوفا ليس له سقف يمنع من الخوض فيه، ووضع سيدنا سليمان عليه السلام سريره في صدر ذلك السطح، فجلس عليه.
قال وهب ومحمد بن كعب: والسبب في ذلك أن الجن قالوا لسيدنا سليمان: إن في عقل بلقيس شيئا وإن رجليها كرجلي حمار، وإنها شعراء الساقين. وغرضهم في ذلك تنفيره عن تزوجها لأنهم ظنوا أنه سيتزوجها، وكرهوا ذلك لأن أمها كانت جنية، فخافوا أن تفشي له أسرار الجن، ولأنهم خافوا أن يأتي له منها أولاد فيسخّرون الجن، فيدوم عليهم الاستخدام والذل، فأراد سليمان عليه سليمان أن يختبر عقلها بتنكير عرشها فإذا فيها ما يدل على كمال رزانة رأيها ورصانة فكرها، وأن ينظر إلى قدميها ببناء ذلك البلاط، لأنه أراد أن ينكحها ليعلم أن ما قالت الجن في حقها صدق أو كذب. لَمَّا رَأَتْهُ
أي رأت ذلك الصرح سِبَتْهُ لُجَّةً
أي ماء غمرا كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها
على عادة من أراد خوض الماء لأجل أن تصل إلى سليمان.
قال وهب بن منبه فلما رأت اللجة فزعت وظنت أنها قصد بها الغرق، وتعجبت من كون كرسيه على الماء، ورأت ما هالها، ولم يكن لها بد من امتثال الأمر، فرفعت ثيابها عن ساقيها، فرآهما فإذا هي أحسن النساء ساقا وقدما سليمة مما قالت الجن فيها، إلا أنها كانت كثيرة الشعر في ساقيها، فلما علم الحال صرف بصره عنهاالَ
عليه السلام حين رأى منها الدهشة والرعب: نَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ
أي إن الذي ظننته ماء سقف مملس من زجاج تحته ماء فلا تخافي واعبري عليه. الَتْ
بعد أن دعاها سليمان إلى الإسلام وقد رأت حال العرش والصرح: بِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
بالثبات على الكفر فيما تقدم من الزمان. وقيل: بسوء ظني بسليمان أنه يغرقني في اللّجة أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ
أي ودخلت في دين الإسلام مصاحبة له في(2/177)
الدين، مقتدية به لَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
(44) . قيل: لما أراد أن يتزوجها وكره شعر ساقيها أمر الشياطين أن يتخذوا النورة والحمام لأجل إزالته، فكانتا من يومئذ، فلما تزوجها سليمان أحبها حبا كثيرا حتى بقيت على نكاحه إلى أن مات عنها، ورزق منها بولد اسمه داود وأقرها على ملكها وأمر الجن، فبنوا لها بأرض اليمن ثلاثة قصور لم ير الناس مثلها ارتفاعا وحسنا، وكان يزورها في الشهر مرة ويقيم عندها ثلاثة أيام، وكان يبكر من الشام إلى اليمن ومن اليمن إلى الشام، وانقضى ملكها بانقضاء ملك سليمان، فسبحان من لا يزول ملكه، وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) ، أي فريق مؤمن، وفريق كافر فالذي آمنوا، لأنهم عرفوا صحة حجة صالح فيكونون خصماء لمن لم يقبلها. والاختصام في باب الدين حق وإبطال للتقليد. قالَ صالح للفرقة الكافرة: يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ أي لما توعد صالح للمكذبين بالعذاب فقالوا على وجه الاستهزاء: ائتنا بعذاب الله فعند ذلك قال صالح:
يا قوم قد أمكنكم التوصل إلى رحمة الله تعالى، فلماذا تعدلون عنه إلى استعجال عذابه؟ وكانوا لجهلهم يقولون: إن صدق إيعاد صالح بنزول العذاب تبنا حينئذ، فحينئذ يدفع الله العذاب عنا وإلا فنحن على ما كنا عليه، فخاطبهم صالح على حسب اعتقادهم وقال: لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ أي هلا تطلبون غفران الله قبل نزول العذاب بتوحيد الله وبالتوبة من الشرك لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) ؟ بقبوله التوبة، فإن استعجال الخير أولى من استعجال الشر، وإن قبول التوبة لا يمكن عند نزول العذاب. قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ أي تشاء منا بك وبمن في دينك حيث تتابعت علينا الشدائد من القحط والاختلاف مذ اخترعتم دينكم. قالَ صالح: طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أي السبب الذي منه يجيء شدتكم ورخاؤكم قدره تعالى إن شاء رزقكم وإن شاء حرمكم بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) بزينة الدنيا فلا تعرفون قدر نعم الله في حقكم.
وقال ابن عباس: أي أنتم تختبرون بالخير والشر. وقال محمد بن كعب: أي تعذبون وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ أي في الحجر تِسْعَةُ رَهْطٍ أي أشخاص. قال ابن عباس: أساميهم:
رعمي، ورعيم، وهرمي، وهريم، وداب، وصواب، ورباب، ومسطع، وقدار بن سالف- عاقر الناقة- وأسماؤهم عن وهب قد نظمهم بعضهم في بيتين فقال:
رباب وغنم والهذيل ومسطع ... عمير سبيط عاصم وقدار
وسمعان رهط الماكرين بصالح ... إلا أن عدوان النفوس جوار
يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالمعاصي وَلا يُصْلِحُونَ (48) أي لا يمزجون ذلك الفساد بشيء من الصلاح قالُوا تَقاسَمُوا، أي قال بعضهم لبعض- في أثناء المشاورة في أمر صالح عليه السلام- غب ما أنذرهم بالعذاب أحلفوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49) .(2/178)
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)
وقرأ حمزة والكسائي «لتبيتنه» بتاء فوقية بعد اللام وبالرفع للجمع، و «لتقولن» بتاء فوقية وبالرفع للجمع. وقرأ عاصم «مهلك» بفتح الميم، وحفص بكسر اللام. والباقون بضم الميم مع فتح اللام فقط. والمعنى: أنهم توافقوا وحلفوا بالله: لندخلن على صالح ومن- آمن به وهم أربعة آلاف ليلا- بغتة ونقتلهم جميعا، ثم لنقولن لولي دم صالح: ما حضرنا قتلهم أو وقته أو مكانه فلا ندري من قتلهم! وإنا لصادقون في إنكارنا لقتلهم. أي لو اتهمنا قوم صالح حلفنا لهم أنا لم نحضر. وَمَكَرُوا مَكْراً بهذه الكيفية وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) قيل: إنهم خرجوا إلى الشعب وقالوا: إذا جاء صالح يصلي في مسجده قتلناه، ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم، فبعث الله تعالى صخرة، فطبقت فم الشعب عليهم فهلكوا، وهلك الباقون بالصيحة. وقيل:
جاءوا بالليل شاهرين سيوفهم وقد أرسل الله تعالى الملائكة ملء دار صالح فدمغوهم بالحجارة، يرون الأحجار ولا يرون راميا.
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ بصالح أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) أي أنا أهلكنا التسعة بالحجارة، وأهلكنا قومهم أجمعين بصيحة جبريل عليه السلام. وقرأ الكوفيون «أنا دمرناهم» بفتح الهمزة إما بدل من «عاقبة» على أنه فاعل «كان» ، و «كيف» حال، أي فتفكر في أي وجه حدث تدميرنا إياهم. إما خبر لمبتدأ محذوف، أي هي أي العاقبة تدميرنا إياهم فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً أي خالية ساقطة.
وقرأ عيسى بن عمر «خاوية» بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف بِما ظَلَمُوا أي ظلمهم بعبادتهم غير الله تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ أي التدمير العجيب لَآيَةً أي لعبرة عظيمة لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) أي يفهمون إشارات القرآن وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا أي صالحا ومن معه من المؤمنين وَكانُوا يَتَّقُونَ (53) أي المعاصي. وقتل الناقة وهم أربعة آلاف، وخرج صالح بمن آمن معه إلى حضرموت، فلما دخلها مات صالح فسمى حضرموت، ثم بنوا مدينة- يقال لها: حاضوراء- وَلُوطاً منصوب بمضمر معطوف على أرسلنا في صدر قصة صالح، أي وأرسلنا لوطا إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ- ف «إذا» ظرف للإرسال لما فارق عمه إبراهيم عليه السلام-: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أي الفعلة المتناهية في السماجة وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) ، أي والحال أنكم تعلمون علما يقينا أنها قبيحة؟! أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً أي لأجل الشهوة فقط فهو كالبهائم ليس فيها قصد إعفاف ولا قصد ولد مِنْ دُونِ النِّساءِ! أي حال كونكم متجاوزين، النساء بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) أي بل أنتم قوم سفهاء ما جنون. فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ أي أخرجوا لوطا وابنتيه زعورا وريثا وزوجته المؤمنة مِنْ قَرْيَتِكُمْ سذوم إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) أي يتنزهون عن الأقذار- قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء- فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ المنافقة قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) أي قدرنا عليها أن تكون من الباقين في العذاب.(2/179)
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)
وقرأ شعبة بتخفيف الدال. وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ أي على كل من كان منهم خارج المدينة مَطَراً هو طين محرق فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) مطرهم قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على هلاك الكفار وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى أي اصطفاهم الله بالإسلام من السابقين واللاحقين آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) . وقرأ أبو عمرو وعاصم بالياء التحتية أي أالله الذي ذكرت شؤونه العظيمة خير أم ما يشركون به تعالى من الأصنام-؟ والباقون بالتاء على الخطاب أي أالله خير أم آلهة تشركونها بالله تعالى يا أهل مكة؟
وروي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا قرأها قال: «بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم»
«1» . أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي بل من خلقهما وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً أي وأنزل لأجل منفعتكم من السماء نوعا من الماء- هو المطر- فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ أي بساتين ذاتَ بَهْجَةٍ أي حسن يفرح به الناظر؟ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أي ما كان لم مقدرة أن تنبتوا شجر البساتين أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ أي أإله آخر كائن مع الله الذي ذكر بعض شؤونه. وقرئ أإلها مع الله. أي أتعبدون إلها آخر من الله بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أي بل هم قوم عادتهم العدول عن طريق الحق والانحراف عن الاستقامة في كل أمر من الأمور. وقيل: قوم يماثلون بالله غيره
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً أي بل من جعل الأرض مسكنا فيستقر عليها الإنسان والدواب، وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً أي صيّر أوساطها أنهار جارية ينتفعون بها، وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ أي جبالا ثوابت تمنعها أن تميد بأهلها وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ أي العذب والمالح، حاجِزاً أي برزخا معنويا مانعا الممازجة أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ في إبداع هذه البدائع؟ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) كمال قدرته تعالى وحكمته، واستغنائه عن الشريك. أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ أي بل من يجيب الذي أحوجه مرض، أو فقر، أو نازلة إلى التضرع إلى الله تعالى، وَيَكْشِفُ السُّوءَ، أي يدفع ما يحزن الإنسان مما يطرأ عليه وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ! أي متوارثين سكناها ممن قبلكم فتعمرون الدنيا وتزينونها بأنواع الصنائع والحرف أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ في فعل ذلك؟ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (62) .
قرأ أبو عمرو وهشام بالتحتية على الغيبة. والباقون بالخطاب، وعلى كل من القراءتين ف «الذال» مفتوحة مشددة لإدغام التاء فيها، و «ما» مزيدة، و «القلة» كناية عن العدم، أي أنكم ما تتعظون لا كثيرا ولا قليلا. أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي بل من يهديكم إلى مقاصدكم في ظلمات الليالي فيهما، أو مشتبهات الطرق فيهما؟ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ! أي قدام المطر.
__________
(1) رواه المتقي الهندي في كنز العمال (5871) ، وابن سعد في الطبقات (1: 1: 79) .(2/180)
وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير «الريح» بالإفراد. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «نشرا» بضم النون والشين، وابن عامر بضم النون وسكون الشين، وحمزة والكسائي بفتح النون وسكون الشين أي تجمع السحاب. وقرأ عاصم بالموحدة المضمومة وبسكون الشين أي طيبة أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ أي ليس مع الله إله فعل ذلك تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) . أي تنزه الله عن وجود ما يشركونه بالله تعالى بعنوان كونه إلها. أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أي بل من يبتدئ الخلق من النطفة، ثم يعيده بعد الموت بالبعث و «أم» في الجمل الخمس انتقال من التبكيت بما قبلها إلى التبكيت بوجه آخر أدخل في الإلزام بجهة من الجهات وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ؟ أي بأسباب سماوية وأرضية كالمطر والحر والبرد والنبات، والمعادن والحيوان أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ أي إله آخر موجود مع الله حق يجعل شريكا له في العبادة. قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي قل يا أشرف الخلق للمشركين: هاتوا برهانكم عقليا أو نقليا يدل على أن معه إلها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64) في دعواكم أن مع الله آلهة شتى. قُلْ يا أشرف الخلق للمشركين الذين سألوك عن وقت قيام الساعة: لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ. ف «من» في محل نصب مفعول، والغيب بدل منها، و «الله» فاعل، أي لا يعلم الأشياء التي تحدث في السموات والأرض الغائبة عنا إلا الله تعالى، وإن جعل «من» فاعلا ل «يعلم» و «الغيب» مفعوله كان اسم الجلالة مبتدأ خبره محذوف والاستثناء منقطع، أي لا يعلم الذي ثبت في السموات والأرض- وهم الملائكة والإنس الغائب- كوقت الساعة ونزول العذاب لكن الله يعلمه.
قال بعضهم: وللغيب خمس مراتب.
أحدها: غيب أهل الأرض في الأرض وفي السماء، وللإنسان إمكان تحصيل علمه وهو على نوعين: الأول: ما غاب في الأرض الصورية وسمائها، فالغائب في الأرض مثل غيبة شخص عنك، أو غيبة أمر من الأمور فلك إمكان إحضار الشخص، والاطلاع على ذلك الأمر. والغائب في السماء مثل علم النجوم والهيئة، فلك إمكان تحصيله بالتعلم. والثاني: ما غاب في أرض المعنى وهي أرض النفس، فإن فيها مخبآت من الأوصاف والأخلاق فلك إمكان الوقوف عليها بطريق المجاهدة، والرياضة، والذكر، والفكر. وما غاب في سماء القلب فإن فيها مخبآت من العلوم والحكم والمعاني فلك إمكان الوصول إليه بالسير عن مقامات النفس في مقامات القلب.
وثانيها: غيب أهل الأرض في الأرض والسماء وليس للإنسان إمكان الوصول إليه بإرادة الله تعالى كما قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ.
وثالثها: غيب أهل السماء في السماء والأرض وليس لهم إمكان الوصول إليه إلا بتعظيم الله تعالى مثل الأسماء فإن الله تعالى كرم آدم بكرامة لم يكرم بها الملائكة، وذلك بتعليمه علم الأسماء كلها.(2/181)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)
ورابعها: سبيل غيب لا سبيل لأهل السموات والأرض إلى علمه إلا من ارتضى له الله تعالى كما قال تعالى: فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الجن: 26، 27] وبهذا يستدل على فضيلة الرسل على الملائكة، لأن الله تعالى اختصهم بإظهاره تعالى إياهم على غيبه دون الملائكة، ولهذا أسجدهم لآدم كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله خلق آدم فتجلى فيه» .
وخامسها: غيب انفرد الله بعلمه وهو قيام الساعة فلا يعلمه إلا الله تعالى كما قال تعالى:
وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) أي متى ينشرون من القبور. وقرئ بكسر الهمزة. بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وقرأ أبو عمرو وابن كثير «بل أدرك» بسكون اللام وفتح الهمزة وسكون الدال على وزن «أكرم» . والباقون بكسر اللام ووصل الهمزة وتشديد الدال وبعدها ألف، وأصله «تدارك» وبه قرأ أبيّ.
قال ابن عباس: أي بل اجتمع علمهم على أن الآخرة لا تكون، أي فلم يعتقدوها بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها أي من نفس الآخرة كمن تحير في أمر لا يجد عليه دليلا، بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) أي لا يدركون دلائلها لاختلال بصائرهم والله تعالى وصف المشركين أولا بأنهم لا يشعرون وقت البعث، ثم وصفهم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة ثم وصفهم بأنهم يخبطون في شك، ثم وصفهم بأن قلوبهم عمي فهم كالبهائم لا يخطرون ببالهم حقا ولا باطلا ويستقر همهم على البطون والفروج. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة: أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) أي أنخرج من القبور أحياء إذا صرنا رميما ترابا؟ لَقَدْ وُعِدْنا هذا أي الإخراج من القبور كما كنا أول مرة نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ، أي من قبل مجيء وعد محمد إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) ! أي ما هذا الذي تعدنا يا محمد إلا أحاديث الأولين التي لا حقيقة لها. قُلْ يا أشرف الخلق لأهل مكة: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي سافروا فيها أيها الجاهلون، فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) أي كيف كان آخر أمر المنكرين للبعث، المكذبين للرسل فيما دعوهم إليه من الإيمان بالله تعالى وباليوم الآخر، وهو هلاكهم بالعذاب الدنيوي، لأن في مشاهدة ذلك ما فيه كفاية لمن اعتبر وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ يا أكرم الرسل فيما مضى لإصرارهم على الكفر. وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) أي ولا تكن في ضيق قلب من مكرهم في المستقبل.
وقرأ ابن كثير بكسر الضاد.
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ أي العذاب الموعود إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) في إخباركم بمجيء العذاب؟ قُلْ لهم يا سيد الرسل: عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) ف «عسى ولعل، وسوف» بمنزلة الجزم في مواعيد الملوك، أي لا بد أن يكون بعض الذي تستعجلونه حلوله لحقكم، وهو عذاب يوم بدر واللام مزيدة وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ أي إنه متفضل عليهم بتأخير عقوبتهم على ما يفعلونه من المعاصي وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) بتأخير العذاب لأنهم لا يعرفون حق النعمة فيه وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ(2/182)
وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
صُدُورُهُمْ
أي ما تخفيه فليس تأخير العذاب لخفاء حالهم عليه تعالى. وقرأ ابن محيصن وابن السميقع، وحميد «تكن» بفتح التاء وضم الكاف، وَما يُعْلِنُونَ (74) من الأفعال والأقوال وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75) أي وما من خافية فيهما إلا في لوح محفوظ ظاهر لمن يطالعه من الملائكة. إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ الذي تقرأ عليهم يا سيد الرسل يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي يبين لليهود والنصارى أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) - كالتشبيه والتنزيه وشأن عزير والمسيح- وَإِنَّهُ أي القرآن لَهُدىً من الضلالة، وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) ، وذلك لأن بعض الناس لما تأمل القرآن فوجد فيه من الدلائل العقلية على التوحيد، والنبوة، والحشر، وبيان نعوت جلال الله تعالى. ووجد ما فيه من الشرائع مطابقة للعقول، ووجده مبرأ عن التناقض، ووجد القوى البشرية عاجزة عن جمع كتاب على هذا الوجه علم أنه ليس إلا من عند الله تعالى فكان القرآن معجزا من هذه الجهة، وكان هدى ورحمة من هذه الجهات. إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ أي بين اليهود والنصارى، أي بين المصيب والمخطئ منهم بِحُكْمِهِ أي بالحق لأنه تعالى لا يحكم إلا بالعدل، أو بحكمته كما يدل عليه قراءة من قرأ «بحكمه» بكسر الحاء وفتح الكاف جمع حكمة. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) أي هو القادر الذي لا يمنع فلا يرد حكمه، العالم بالحكم فلا يكون إلا الحق. فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي ثق بالله الذي هذه أوصافه فإنها توجب على كل أحد أن يفوض جميع أموره إليه إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) أي الدين الظاهر، فالمحق حقيق بنصرة الله تعالى، ثم قطع الله تعالى طمع سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم عن بني إسرائيل بتبيين أحوالهم أنهم لا يلتفتون إلى شيء من الدلائل، فإن قطع الطمع عنهم يقوي القلب على إظهار المخالفة وعلى إظهار الدين كما ينبغي فقال: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) أي إنهم لفرط إعراضهم عما يدعون إليه كالميت لا سبيل إلى إسماعه، وكالأصم الذي لا يسمع برفع الصوت ولا يفهم بالإشارة.
وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ أي ما أنت بمرشد من أعماه الله عن الهدى، وأعمى قلبه عن الإيمان.
وقرأ ابن كثير «ولا يسمع الصم» بالتحتية وفتحها وبفتح الميم ورفع «الصم» . وقرأ حمزة «تهدي العمي» بالمضارع المفيد للخطاب وبنصب «العمي» إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) أي ما تسمع سماعا يجدي السامع إلا من هو في علم الله أنهم يصدقون بالقرآن، لأنهم منقادون للحق وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أي وإذا ثبت نزول العذاب على الكفار وذلك إذا لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر وهو يكون بموت العلماء وذهاب العلم ورفع القرآن أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ من جبل الصفا بمكة- وهي فصيل ناقة صالح عليه السلام- فإنه لما عقرت أمه هرب فانفتح له حجر فدخل في جوفه، ثم انطبق عليه الحجر فهو فيه حتى يخرج بإذن الله تعالى في آخر الزمان. وعن علي رضي الله عنه: أنها تخرج ثلاثة أيام والناس ينظرون فلا(2/183)
يخرج كل يوم إلا ثلثها. وعن الحسن رضي الله عنه: لا يتم خروجها إلا بعد ثلاثة أيام وفي الحديث: «إن طولها ستون ذراعا بذراع آدم عليه السلام لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب» .
تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82) .
قرأ الكوفيون بفتح أن بتقدير الباء، كما يدل عليه قراءة عبد الله بن مسعود ب «أن» بتصريح الباء أي تحدثهم بأن الناس كانوا لا يوقنون بآيات الله تعالى الناطقة بمجيء الساعة ومباديها. وقرأ أبيّ «تنبئهم» ، وإضافة الآيات إلى نون العظمة، لأنها حكاية من الله تعالى لمعنى قولها لا لعين عبارتها. وقرأ الباقون بكسر «إن» على الاستئناف، فعلى هذا فالوقف على تكلمهم تام وعليه أيضا يجوز أن يكون بمعنى تجرحهم مع إفادة معنى التكثير ويدل عليه قراءة ابن عباس، وابن جبير، ومجاهد، وابن زرعة، والجحدري «تكلمهم» بفتح التاء وسكون الكاف وضم اللام.
والمراد بالجرح: الوسم بالعصا والخاتم.
روي أن الدابة تخرج من الصفا ومعها عصا موسى، وخاتم سليمان، فتضرب المؤمن بين عينيه بعصا موسى عليه السلام فتنكت نكتة بيضاء، فتفشو تلك النكتة في وجهه حتى يضيء لها وجهه، وتكتب بين عينيه مؤمن، وتنكت الكافر بالخاتم في أنفه فتفشو النكتة حتى يسود لها وجهه وتكتب بين عينيه كافر، ثم تقول لهم: أنت يا فلان من أهل الجنة، وأنت يا فلان من أهل النار. وَيَوْمَ نَحْشُرُ للعذاب بعد الحشر الكلي الشامل لكافة الخلق مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) أي واذكر لهم وقت جمعنا على وجه الإكراه من كل أمة من أمم الأنبياء جماعة كثيرة، مكذبين بكتابنا فهم يوقف أولهم حتى يجتمعوا في موقف التوبيخ والمناقشة، حَتَّى إِذا جاؤُ إلى موقف السؤال والجواب قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً؟ أي قال الله تعالى موبخا لهم على التكذيب: أكذبتم بآياتي الناطقة بلقاء يومكم هذا بادئ الرأي، غير ناظرين فيها نظرا يؤدي إلى العلم بحقيقتها، وأنها حقيقة بالتصديق حتما؟ أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) ؟ أي بل أيّ شيء كنتم تعملون في الكفر؟ والمعنى: لم يكن لكم عمل غير الكفر.
وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أي نزل بهم العذاب الموعود وهو كبهم في النار بِما ظَلَمُوا أي بسبب تكذيبهم بآيات الله فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85) بحجة واعتذار أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً؟ أي ألم يتفكر أهل مكة ولم يعلموا أنا جعلنا الليل مظلما ليستريحوا فيه بالقرار والنوم والنهار مضيئا ليطلبوا فيه معايشهم، إِنَّ فِي ذلِكَ أي في جعل الليل والنهار كما ذكر لَآياتٍ أي دلالات ظاهرة على التوحيد والبعث والنبوة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) أما وجه دلالته على التوحيد، فلأن التقلب من النور إلى الظلمة وعكسه لا يحصل إلا بقدرة قاهرة عالية، وأما وجه دلالته على الحشر، فلأنه لما ثبت قدرة القادر على هذا التقليب ثبت قدرته على التقليب من الحياة إلى الموت مرة، ومن الموت إلى الحياة مرة أخرى. وأما وجه دلالته على النبوة فلأن هذا(2/184)
التقليب لمنافع الخلق وأن في بعثة الأنبياء إلى الخلق منافع عظيمة فقد ثبت أن هذه الكلمة كافية في إقامة الدلالة على تصحيح الأصول الثلاثة. وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، أي واذكر لهم وقت نفخ إسرافيل في الصور النفخة الثانية، فإذا سمع الخلق شدة صوت ذلك النفخ بحيث لا تتحمله طبائعهم يفزعون عنده ويموت كل من كان حيا ذلك الوقت لم يسبق له موت أو كان ميتا، لكنه حي في قبره كالأنبياء والشهداء. إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ أن لا يفزع.
قيل: هم الشهداء يتقلدون أسيافهم حول العرش، فإنهم أحياء عند ربهم لا يصل الفزع إليهم. وقيل: هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل عليهم السلام. وقيل: الحور وخزنة النار وحملة العرش. وقيل: منهم موسى عليه السلام لأنه صعق مرة. وقال القشيري: والأنبياء داخلون في الشهداء لأن لهم الشهادة. وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) أي كل واحد من المبعوثين عند النفخة حضروا الموقف للسؤال والجواب، والحساب ذليلين مطيعين.
وقرأ حفص وحمزة «أتوه» بصيغة الفعل الماضي وهو بقصر الهمزة وفتح التاء. والباقون بصيغة اسم الفاعل فهو بمد الهمزة وضم التاء. وقرئ «أتاه» باعتباره لفظ كل. وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ أي وتبصر الجبال وقت النفخة تظنها ثابتة في أماكنها. والحال أنها تمرمر السحاب التي تسيّرها الرياح سيرا سريعا، فسير الجبال يوم القيامة لا يرى لعظمها كما أن سير السحاب لا يرى لعظمه صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ أي صنع الله الذي أحسن خلقه، وأتى به على الحكمة ذلك النفخ في الصور وما تفرغ منه من الأمور صنعا و «صنع» منصوب على أنه مصدر مؤكد لمضمون ما قبله، أي فإن نفخ الصور المؤدي إلى الفزع العام وحضور الكل الموقف وما فعل بالجبال، إنما هو من صنع الله لا يحتمل غيره إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) أي إنه تعالى عالم بما يعمله أهل السعادة والشقاوة من الخير والشر.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام بالتحتية على الغيبة. والباقون بالفوقية على الخطاب مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها أي من جاء يوم القيامة بكلمة الشهادة فله من الجزاء ما هو خير منها، باعتبار أن الثواب دائم، وأنه من فعل الله، وأنه حاصل من جهة الله تعالى، فإن المعرفة النظرية الحاصلة في الدنيا جزاؤها المعرفة الضرورية الحاصلة في الآخرة، ولذة النطر إلى وجه الله تعالى وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) .
وقرأ الكوفيون «فزع» بالتنوين فحينئذ كان «يومئذ» ظرفا ل «آمنون» ، أو المحذوف هو صفة ل «فزع» أي والذين جاءوا بالحسنات آمنون من فزع كائن، يوم إذ وقعت هذه الأحوال العظيمة، وعلى هذا فالفزع على نوعين فزع من خوف العقاب، وفزع شديد مفرط الشدة لخوف النار أما ما يلحق الإنسان من الرعب عند مشاهدة الأهوال فلا ينفك منه أحد. وقرأ الباقون بإضافة «فزع» ، وقرأ نافع والكوفيون بفتح الميم من «يومئذ» وهو فتحة بناء لإضافة «يوم» المبني.(2/185)
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
والباقون بكسرها وهو كسرة إعراب. وهذا يقتضي الأمن جميع فزع ذلك اليوم. وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ أي بالشرك بالله فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ أي ألقوا في النار على وجوههم، وتقول لهم خزنة جهنم وقت كبهم على وجوههم في النار: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) ؟ أي ما تجزون الآن إلا جزاء أعمالكم من الشرك والمعاصي في الدنيا،
ثم أمر الله تعالى نبيه أن يقول لأهل مكة تنبيها لهم على أنه قد أتم أمر الدعوة: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ وهي مكة الَّذِي حَرَّمَها أي جعلها حرما لا يسفك فيها دم إنسان، ولا يصاد صيدها، ولا يقطع حشيشها الرطب.
قرأ الجمهور «الذي» صفة ل «رب» .
وقرأ ابن عباس وابن مسعود «التي» صفة ل «البلدة» وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ خلقا وتصرفا من غير أن يشاركه شيء في شيء من ذلك، وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) أي بأن أثبت على ملة الإسلام، وبأن أكون من المنقادين لها. وهذا إشارة إلى أن المسلم الحقيقي من يستعمل الشريعة مثل استعمال النبي صلّى الله عليه وسلّم وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ أي أمرت أن أقرأ عليكم القرآن بطريق تكرير الدعوة، وأن أواظب على تلاوته لتنكشف لي حقائقه، فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أي فمن اهتذى باتباعه إياي في العبادة والإسلام، وتلاوة القرآن فإنما منافع اهتدائه راجعة إليه لا إلي، وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) ، أي ومن ضل بمخالفتي فيما ذكر فقل في حقه: إنما أنا من المنذرين فلا علي شيء من وبال ضلاله. وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على ما أعطاني من نعمة العلم والنبوة.
وعلى ما وفقني من القيام بأداء الرسالة. سَيُرِيكُمْ آياتِهِ أي سيريكم الله تعالى في الدنيا آياته الباهرة- كخروج الدابة وسائر أشراط الساعة- فَتَعْرِفُونَها أي فتعرفون أنها آيات الله تعالى حين لا تنفعكم المعرفة، وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93) .
وقرأ نافع وابن عامر، وحفص بالتاء على الخطاب أي وما ربك بغافل عما تعلم أنت من الحسنات، وما تعملون أنتم أيها الكفرة من السيئات فيجازي كلا منكم بعمله. والباقون بالياء على الغيبة أن وما ربك بغافل عن أعمالهم فسيعذبهم فلا يحسبوا أن تأخير عذابهم لغفلته تعالى عن أعمالهم المسببة للعذاب.(2/186)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)
سورة القصص
وتسمى أيضا سورة موسى، مكية، وقيل: إلا قوله تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ فإنها نزلت بالجحفة- بين مكة والمدينة، ثمان وثمانون آية، ألف وأربعمائة وإحدى وأربعون كلمة، خمسة آلاف وثمانمائة حرف
طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) أي إن آيات هذه السورة آيات الكتاب الذي بيّن بفصاحته أنه من كلام الله، وبيّن صدق نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وبيّن خبر الأولين والآخرين وبيّن كيفية التخلص عن شبهات أهل الضلال. نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) ، أي نقرأ عليك بواسطة جبريل بعض خبر موسى وفرعون ملتبسا بالحق لأجل قوم يصدقون بك وبالقرآن، فإنهم المنتفعون به. إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ أي تجبّر في مملكته أرض مصر، وَجَعَلَ أَهْلَها أي
أهل مملكته شِيَعاً أي أصنافا في استخدامه، يستعمل كل صنف في عمل من بناء وحرث وحفر وغير ذلك من الأعمال الشاقة، ومن لم يستعمله ضرب عليه الجزية. يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ وهم بنو إسرائيل.
قال ابن عباس: إن بني إسرائيل لمّا كثروا بمصر استطالوا على الناس وعملوا المعاصي ولم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر، فسلط الله عليهم القبط فاستضعفوهم إلى أن أنجاهم الله على يد نبيه موسى عليه. يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ كثيرا صغارا. وذلك لأن الأنبياء الذين كانوا قبل موسى عليه السلام بشروا بمجيئه عليه السلام، وفرعون كان قد سمع ذلك، فلهذا كان يذبح أبناء بني إسرائيل عند الولادة. وهذا الوجه أولى بالقبول. قال وهب: قتل القبط في طلب موسى عليه السلام تسعين ألفا من بني إسرائيل. قوله: يَسْتَضْعِفُ حال من فاعل «علا» أو خبر ثان لأن «أو» بدل اشتمال من «علا» . وقوله: يُذَبِّحُ بدل اشتمال من «يستضعف» . وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ قيل: أي يستخدمهن كبارا إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) في كفره بدعائه إلى غير عبادة الله وقتل خلق كثير من أولاد الأنبياء وَنُرِيدُ بإرسال موسى أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ، أي أن نتفضل على من قهروا في أرض مصر- وهم بنو إسرائيل- بإنجائهم من بأس(2/187)
فرعون. وقوله تعالى: وَنُرِيدُ إلخ معطوف على قوله: إِنَّ فِرْعَوْنَ إلخ لأنهما وقعا تفسيرين لنبأ موسى وفرعون أو حال من «طائفة» بتقدير المبتدأ، أي ونحن نريد وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً أي قادة إلى الخير متقدمين في أمور الدين بعد أن كانوا أتباعا مسخرين لآخرين، وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) لملك فرعون وأرضه وما في يده، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أي ننفذ أمرهم في أرض مصر والشام يتصرفون فيها ما يشاءون، وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6) أي ونري، رؤية بصرية، فرعون وهامان وجنودهما ما كانوا يخافونه من المستضعفين من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود من بني إسرائيل.
وقرأ حمزة والكسائي «ويرى» بالياء المفتوحة وبفتح الراء مع الإمالة ورفع ما بعده.
وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ أي ألهمنا أم موسى يوحانذ بنت لاوى بن يعقوب أن أرضعي هذا الصبي، فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ أي اشتد خوفك عليه من الذبح بأن يفطن بن جيرانك ويسمعون صوته عند البكاء فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ أي بحر النيل وَلا تَخافِي من هلاكه بالغرق ونحوه.
وَلا تَحْزَنِي بسبب فراقه إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ من قريب لتكوني أنت المرتضعة له وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) إلى أهل مصر والشام.
قال ابن عباس: إن أم موسى لما تقاربت ولادتها بأن أحست بالطلق أرسلت إلى- قابلة وكانت مصافية لأم موسى- وقالت لها: لينفعني اليوم حبك إياي، فجلست القابلة تعالجها، فلما نزل موسى إلى الأرض هالها نور بين عينيه فارتعش كل مفصل منها، ودخل حب موسى قلبها فقالت: يا هذه ما جئتك إلا لقتل مولودك ولكني وجدت لابنك هذا حبا شديدا، فاحفظي ابنك، فلما خرجت القابلة من عندها أبصرها بعض العيون فجاء إلى بابها ليدخل على أم موسى فقالت أخته: يا أماه هذا الحارس بالباب فلفته بخرقة ووضعته في تنور مسجور، فطاش عقلها، فلم تعقل ما تصنع، فدخل، فإذا التنور مسجور، ورأى أم موسى لم يتغير لها لون ولم يظهر لها لبن فقال: لم دخلت القابلة عليك؟! قالت: إنها حبيبة لي دخلت للزيارة، فخرج من عندها فرجع إليها عقلها فقالت لأخت موسى: أين الصبي؟ قالت: لا أدري! فسمعت بكاء في التنور، فانطلقت إليه وقد جعل الله النار عليه بردا وسلاما، فأخذته، ثم إن أم موسى عليه السلام لما رأت جد فرعون في طلب الولد خافت على ابنها، فقذف الله في قلبها أن تتخذ له تابوتا، ثم تقذف التابوت في النيل، فذهبت إلى نجار من قوم فرعون، فاشترت منه تابوتا صغيرا فقال لها: ما تصنعين به؟ فقالت: لي ابن أخبؤه فيه، فلما انصرفت ذهب النجار إلى الذباحين ليخبرهم بذلك، فلما جاءهم، أمسك الله لسانه وجعل يشير بيده، فضربوه وطردوه، فلما عاد إلى موضعه رد الله عليه نطقه فذهب مرة أخرى ليخبرهم، فأخذ الله لسانه وبصره فجعل لله تعالى إنه إن رد عليه بصره ولسانه لا يدلهم عليه فعلم الله تعالى منه الصدق، فرد الله عليه ذلك وانطلقت أم موسى وألقته في(2/188)
النيل، وكان لفرعون بنت لم يكن له ولد غيرها وكان بها برص شديد، وكان فرعون قد شاور الأطباء والسحرة في أمرها، فقالوا: أيها الملك لا تبرأ هذه إلا من قبل البحر يوجد منه شبه الإنسان، فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها، فتبرأ من ذلك وذلك في يوم كذا في شهر كذا حين تشرق الشمس، فلما كان ذلك اليوم غدا فرعون إلى مجلس له كان على شفير النيل ومعه امرأته آسية بنت مزاحم، وأقبلت بنت فرعون في جواريها حتى جلست على شاطئ النيل، إذ أقبل النيل بالتابوت تضربه الأمواج وتعلق بشجرة، فقال فرعون: ائتوني به فابتدروه بالسفن من كل جانب حتى وضعوه بين يديه، فعالجوا فتح الباب، فلم يقدروا عليه، وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه، فنظرت آسية فرأت نورا في جوف التابوت لم يره غيرها، فعالجته، ففتحته، فإذا هي بصبي صغير، وإذا نور بين عينيه، فألقى الله محبته في قلوب آسية وفرعون، فأخرجوه من التابوت وعمدت بنت فرعون إلى ريقه فلطخت به برصها فبرئت في الحال، فقبلته وضمته إلى صدرها، فقالت الغواة من قوم فرعون: أيها الملك، إنا نظن أن هذا هو الذي نحذر منه رمي في البحر خوفا منك، فهمّ فرعون بقتله، فاستوهبته آسية من فرعون، فوهبه لها، فترك قتله، وتبنته فقيل لآسية: سميه فقالت: سميته موشى بالشين المعجمة لأنا وجدناه في الماء والشجر فإن معنى مو ماء ومعنى شا شجر فأصل موسى بالمهملة موشى بالمعجمة وذلك قوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ أي أخذت موسى جواري فرعون من بين الماء والشجر يوم الإثنين، وذهبن به إلى امرأة فرعون لِيَكُونَ أي موسى لَهُمْ عَدُوًّا من بعد ما يجيء إليهم بالرسالة وَحَزَناً بذهاب ملكهم.
وقرأ حمزة والكسائي بضم الحاء وسكون الزي. والباقون بفتحهما. إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) فيما كانوا عليه من الكفر والظلم، فعاقبهم الله تعالى بأن ربي عدوهم ومن هو سبب هلاكهم على أيديهم. وقال الحسن: معنى «كانوا خاطئين» أي كانوا لا يشعرون أن موسى هو الذي يذهب بمكلهم. وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ وهي آسية- لفرعون حين أخرجته من التابوت وهمّ فرعون بقتله لقول الغواة: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ أي هذا الغلام قرة عين لي ولك يا فرعون.
قال ابن عباس: لما قالت آسية ذلك قال فرعون: يكون لك وأما أنا فلا حاجة لي فيه. قال ابن إسحاق: إن الله تعالى ألقى محبته عليه السلام في قلبه لأنه كان في وجهه ملاحة فكل من رآه أحبه، ولأنها حين فتحت التابوت رأت النور، ولأنها لما فتحته رأته يمتص إصبعه، ولأن ابنة فرعون لما لطخت برصها بريقه زال. لا تَقْتُلُوهُ خاطبته بلفظ الجمع تعظيما لأجل أن يعاونها فيما تريده عَسى أَنْ يَنْفَعَنا فنصيب منه خيرا لو كان له أبوان معروفان أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً، إذا لم يعرف له أبوان وكانت آسية لا تلد وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) . وهذا ابتداء كلام من الله تعالى أي وهم لا يشعرون أن هلاكهم في يده وبسببه. وهذا قول مجاهد وقتادة والضحاك ومقاتل.(2/189)
وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)
وقال ابن عباس: أي هم لا يشعرون إلى ماذا يصير أمر موسى عليه السلام. وقال آخرون:
هذا من تمام كلام امرأة فرعون، أي بنو إسرائيل وأهل مصر لا يشعرون أنا التقطناه وأنه ليس منا.
وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً، أي وصار قلب يوحانذ صفرا من العقل لفرط الخوف والحيرة حين سمعت بوقوعه في يد فرعون. وقيل: أي خاليا من الحزن لغاية وثوقها بوعد الله تعالى أو لسماعها أن فرعون تبناه، إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ أي إنها كادت لتظهر بأمر موسى من فرط الدهشة أو من شدة الفرح بتبني امرأة فرعون. وقال ابن عباس: كادت تخبر بأن الذي وجدتموه ابني بعد أن نسب إلى فرعون، وقال أيضا في رواية عكرمة كادت تقول: وا ابناه من شدة حزنها عليه حين رأت الموج يرفع ويضع.
وقال الكلبي: ذلك حين سمعت الناس يقولون لموسى بعد ما شب أنه ابن فرعون لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها أي لولا حفظنا قلبها بإلهام الصبر لأبدت قصة موسى، لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) أي من المصدقين بوعد الله تعالى برده إليها بأن يكون من المرسلين، أو من الواثقين بحفظ الله تعالى لا بتبني امرأة فرعون وتعطفها
وَقالَتْ أم موسى لِأُخْتِهِ الشقيقة مريم- وقال الضحاك: اسمها كلثمة. وقال السهيلي: اسمها كلثوم-: قُصِّيهِ أي فتشي خبره وانظري إلى أين وقع، فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ أي
فأبصرت مريم ذلك الغلام كائنة من مكان بعيد اختفاء عن الناس وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) بغرضها وبأنها أخت موسى. وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ أي منعناه أن يرتضع من المرضعات التي أحضرها فرعون من قبل مجيء أمه.
قال الضحاك: كانت أمه قد أرضعته ثلاثة أشهر حتى عرف ريحها.
وروي أن موسى مكث ثمان ليال لا يقبل ثديا وهو يصبح، فقالوا لأخت موسى بعد نظرها له وقربها منه هل عندك مرضعة تدلينا عليها لعله يقبل ثديها؟ فَقالَتْ، أي أخت موسى لآل فرعون- عند عدم قبوله ثدي أحد من المرضعات- هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ أي يضمنون رضاعه يقومون بجميع مصالحه لأجلكم وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) أي وهم لا يمنعونه ما ينفعه في تربيته وإغذائه، ولا يخونكم فيه.
قال السدي: لما قالت مريم ذلك أخذوها وقالوا: إنك قد عرفت هذا الغلام فدلينا على أهله. فقالت: ما أعرفه! وقالت: إنما أردت أنهم للملك ناصحون فتخلصت منهم بذلك.
وقيل: قالوا لها: من هم؟ قالت أمي. قالوا: أو لأمك ابن؟ قالت: نعم هارون. قالوا: صدقت، فأتينا بها فانطلقت إلى أمها وأخبرتها بحال ابنها وجاءت بها إليهم، فلما وجد الصبي ريح أمه قبل ثديها، وجعل يمصه حتى امتلأت جنباه ريا. فقالوا: أقيمي عندنا، فقالت: لا أقدر على فراق بيتي إن رضيتم أن أكفله في بيتي وإلا فلا حاجة لي به وأظهرت عدم الرغبة فيه نفيا للتهمة، فرضوا بذلك، فرجعت به إلى بيتها.(2/190)
قال الضحاك: لما قبل ثديها قال هامان: إنك لأمه! قالت: لا، قال: فما حالك قبل ثديك من بين النسوة! قالت: أيها الملك، إني امرأة طيبة الريح حلوة اللبن ما شم ريحي صبي إلا أقبل على ثديي. قالوا: صدقت، لم يبق أحد من آل فرعون إلا أهدى إليها وأتحفها بالذهب والجواهر. فَرَدَدْناهُ أي موسى إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها أي تطيب نفسها بوصول موسى إليها وتربيتها له في بيتها، وَلا تَحْزَنَ على موسى بفراقه وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ في رده إليها وجعله من المرسلين حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13) ، أن المقصود الأصلي من رده إليها علمها بأن وعد الله حق لا خلف فيه بمشاهدة بعضه، وقياس بعضه عليه، فهذا هو الغرض الديني وما سواه من قرة العين وذهاب الحزن تبع، فمكث موسى عند أمه إلى أن فطمته، وأمر فرعون بإجراء أجرتها لكل يوم دينار، فأتت به فرعون واستمر عنده يأكل من مأكوله ويشرب من مائه ويلبس من ملبوسه إلى أن كمل، وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ أي كمال قوته الجسمانية وَاسْتَوى أي تكامل عقله آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً أي أعطيناه علم الحكماء والعلماء، وَكَذلِكَ أي ومثل ذلك الذي أعطينا موسى من الحكم والعلم نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) أي الصالحين بالعلم والحكمة، وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها أي ودخل موسى مدينة منف في وقت اشتغال أهلها عند نصف النهار.
ومنف: بفتح الميم وسكون النون أصلها مآفة، ومعناها بلغة القبط ثلاثون، لأنها أول مدينة عمرت بعد الطوفان نزلها مصر بن حام في ثلاثين رجلا فسميت مافت، ثم عربت منف.
قيل: إن موسى عليه السلام لما بلغ أشده وآتاه الله العلم في دينه ودين آبائه علم أن فرعون وقومه على الباطل فتكلم بالحق، وعاب دينهم، واشتهر ذلك منه حتى آل الأمر إلى أن خافوه، وخافهم. وكان له من بني إسرائيل شيعة يقتدون به، ويسمعون منه، وبلغ في الخوف بحيث ما كان يدخل مدينة فرعون إلا خائفا، فدخلها يوما وقت كونهم قائلين فَوَجَدَ فِيها أي المدينة رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ أي يلازمان مقدمات القتل من الضرب والخنق هذا مِنْ شِيعَتِهِ أي ممن تابع موسى على دينه وهم بنو إسرائيل وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ أي ممن خالف موسى في دينه- وهم القبط- فالقبطي: الذي سخر الإسرائيلي كان طباخ فرعون استسخره لحمل الحطب إلى مطبخه واسمه:
فليثون أوفاتون: فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ أي طلب الإسرائيلي من موسى أن ينصره على القبطي وأن يخلصه منه، فَوَكَزَهُ مُوسى أي دفعه بأطراف الأصابع. وقيل: بقبضها.
وقرأ ابن مسعود فلكزه موسى وقال بعضهم الوكز: في الصدر، واللكز: في الظهر.
فَقَضى عَلَيْهِ أي أنهى موسى حياة القبطي وخفي هذا على الناس فلم يعرف به أحد لما هم فيه من الغفلة فندم موسى عليه السلام عليه فدفنه في الرمل قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ أي هذا القتل من عمل الشيطان لأني لم أومر به أو هذا المقتول من جند الشيطان إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) أي(2/191)
فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28) فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)
ظاهر العداوة والإضلال قالَ مناجيا مع الله تعالى: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بقتل القبطي من غير أمر، فإن فرعون إذا عرف ذلك قتلني به فَاغْفِرْ لِي أي فاستره علي ولا توصل خبره إلى فرعون فَغَفَرَ لَهُ أي فستره عن الوصول إلى فرعون إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) أي المبالغ في ستر ذنوب عباده وفي رحمتهم قالَ موسى: رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) أي أقسم بإنعامك علي بالقوة والمعرفة فلن أكون معينا لأحد من المشركين، بل أكون معاونا للمسلمين أي إني وإن أسأت في هذا القتل الذي لم أومر به فلا أترك نصرة المسلمين على المجرمين، ونصرة المؤمن واجبة في جميع الشرائع. قال الفراء: وفي قراءة عبد الله فلا تجعلني ظهيرا للمجرمين فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ أي فصار موسى في المدينة التي قتل فيها القبطي خائفا من أن يظهر أنه هو القاتل فيطلب بذلك القتل يترقب أي ينتظر نصرة الله إياه، فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ أي فإذا الإسرائيلي الذي استعان بموسى على القبطي يَسْتَصْرِخُهُ أي يطلب من موسى نصرته بصياح على قبطي آخر يريد أن يستخدم الإسرائيلي قالَ لَهُ أي للقبطي: مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) في تسخير هذا الإسرائيلي فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما أي فلما أراد موسى أن يأخذ عدوه وعدو الإسرائيلي بسطوة لخلاصة من عدوهما، لأن القبطي لم يكن على دينهما، ولأن القبط أعداء بني إسرائيل قالَ أي القبطي، وكان عرف القصة من الإسرائيلي أو كان توهم من زجر موسى للإسرائيلي أنه هو الذي قتل الرجل بالأمس:
يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي اليوم كَما قَتَلْتَ نَفْساً قبطيا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ أي ما تريد يا موسى إلا أن تفعل ما تريده في أرض مصر من ضرب وقتل، من غير نظر في العواقب وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) أي المتورعين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وانتشر حديث هذه الواقعة في المدينة، وانتهى إلى فرعون وهموا بقتله وَجاءَ رَجُلٌ هو مؤمن من آل فرعون اسمه: سمعان، وكان ابن عم فرعون مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ أي من آخرها يَسْعى أي يسرع في مشيه قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ أي أولياء المقتول يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ أي يأمر بعضهم بعضا بقتلك فاتفقوا على أن يحتالوا فيك ليهلوك فَاخْرُجْ من هذه المدينة إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) أي المشفقين
فَخَرَجَ موسى عليه السلام مِنْها أي المدينة خائِفاً على نفسه من آل فرعون يَتَرَقَّبُ أي ينتظر لحوق الطالبين ويكثر الالتفات وينظر هل يلحقه أحد يطلبه قالَ عند ذلك رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) أي خلصني منهم واحفظي من لحوقهم.
وهذا يدل على أن قتله عليه السلام لذلك القبطي لم يكن ذنبا وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ أي لما قصد الذهاب إلى مدين لأنها ليست تحت ملك فرعون ولأنه وقع في نفسه أن بينه وبين أهل مدين قرابة لأنهم من ولد مدين بن إبراهيم عليه السلام، وهو منهم ولم يكن له علم بالطريق، بل اعتمد على فضل الله تعالى قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) ، وهي من إضافة الصفة للموصوف(2/192)
أي الطريق الوسط، وكان لمدين ثلاث طرق، فأخذ موسى الطريق الوسطي، وأخذ الطلاب الآخريين.
وقال ابن إسحاق: خرج موسى من مصر إلى مدين بغير زاد ولا مركوب وبينهما مسيرة ثمانية أيام ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر ونبات الأرض وما وصل إلى مدين حتى وقع خف قدميه وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ أي لما وصل إلى بئر مدين وَجَدَ عَلَيْهِ أي فوق شفيرها أُمَّةً أي جماعة مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ مواشيهم وكانوا أربعين رجلا
وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ
أي تحبسان غنمهما عن الماء من ضعفهما حتى يفرغ القوم.
وقال ابن إسحاق اسم الكبرى صفوراء والصغرى ليا. قالَ موسى لهما: ما خَطْبُكُما أي ما شأنكما لا تسقيان غنمكما؟ قالَتا لا نَسْقِي أي لا نقدر أن نسقي غنمنا حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ.
قرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم بفتح الياء وضم الدال، أي حتى يرجعوا من سقيهم.
والباقون بضم الياء وكسر الدال أي حتى يصرفوا مواشيهم عن الماء وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) لا يستطيع أن يسقي، وليس له أحد يعينه غيرنا، فَسَقى لَهُما أي فسقى موسى غنمهما لأجلهما.
قيل: عمد موسى إلى بئر على رأسه صخرة لا يرفعها إلا عشرة رجال فنحاها بنفسه، واستقى الماء من ذلك البئر ثُمَّ تَوَلَّى أي انصرف موسى إِلَى الظِّلِّ أي ظل سمرة فجلس فيه ليستريح من حر الشمس، وهو جائع لم يذق طعاما في سبعة أيام فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) أي رب إني بسبب ما أنزلت إلي خير الدين، صرت فقيرا في الدنيا وذلك لأن موسى كان عند فرعون في ثروة، فقال ذلك رضا بهذا البدل وفرحا به، وشكرا له.
روي أنهما لما رجعتا إلى أبيهما قبل الناس وأغنامهما حفل بطان قال لهما: ما أعجلكما؟
قالتا: وجدنا رجلا صالحا، رحمنا فسقى لنا. فقال لإحداهما: اذهبي فادعيه لي- وهي الكبرى عند الأكثرين- فَجاءَتْهُ إِحْداهُما واسمها صفوراء تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ أي مائلة عن الرجال رافعة كمها على وجهها قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا مواشينا.
روي أن موسى عليه السلام أجابها، فانطلقا وهي أمامه فألزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته فقال لها: امشي خلفي وانعتي لي الطريق، ففعلت حتى أتيا دار شعيب عليه السلام.
فَلَمَّا جاءَهُ أي جاء موسى شعيبا وَقَصَّ موسى عَلَيْهِ الْقَصَصَ أي فراره من فرعون.
قالَ شعيب له: لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) من أهل مصر فإن فرعون لا سلطان له في أرضنا.
قال الضحاك: لما دخل على شعيب قال له: من أنت يا عبد الله؟ فقال: أنا موسى بن عمران بن يصهر بن فاهت بن لاوى بن يعقوب. وذكر له جميع أمره من لدن ولادته، وأمر(2/193)
القوابل والمراضع والقذف في اليم، وقتل القبطي، وأنهم يطلبونه ليقتلوه. فقال شعيب: لا تخف نجوت من القوم الظالمين، أي لأنا لسنا في مملكة فرعون.
وروي أن موسى لما دخل على شعيب فإذا الطعام موضوع، فقال شعيب: تناول يا فتى فقال موسى عليه السلام: أعوذ بالله. قال شعيب: ولم ذلك؟ قال: لأنا من أهل البيت لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهبا ولا نأخذ على المعروف عوضا. فقال شعيب: عادتي وعادة آبائي إطعام الضيف، فجلس موسى فأكل وإنما كره أكل الطعام خشية أن يكون ذلك أجرة له على عمله.
قالَتْ إِحْداهُما- وهي التي دعته إلى أبيها، وهي التي تزوجها موسى- يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ اتخذه أجيرا لرعي أغنامنا إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) .
روي أن شعيبا أخذته الغيرة فقال: وما أعلمك بقوته وأمانته؟ فذكرت ما شاهدته منه عليه السلام من كيفية السقي ورفع الصخرة من فم البئر، ومن غض بصره حال ذودهما الماشية، وحال سقيه لهما، وحال مشيه أمامها إلى أبيها. قالَ أي شعيب لموسى عند ذلك: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ أي الحاضرتين عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ أي مشروطا على أن تأجرني نفسك في رعي غنمي ثماني سنين فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً من السنين في العمل فَمِنْ عِنْدِكَ أي فالتمام من عندك بطريق التفضل لا من عندي بطريق الإلزام عليك، وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ بإلزام أتم الأجلين، ولا أكلفك الاحتياط الشديد في كيفية الرعي بل أساهلك فيها بقدر الإمكان، سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) في حسن المعاملة وغيره، وإنما قال شعيب: إن شاء الله، للتبرك ولتفويض أمره إلى معونته تعالى، لا لتعليق صالحه بمشيته تعالى.
قالَ موسى: ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أي ذلك الشرط ثابت بيننا جميعا لا يخرج عنه واحد منا، أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ أي أيّ أحد الوقتين وفيتكه بأداء الخدمة فيه فلا إثم علي فكما لا إثم علي في قضاء الأكثر لا إثم علي في قضاء الأقصر فقط. وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ من الشرط الجاري بيننا وَكِيلٌ (28) ، أي شاهد، ولما تم العقد بينهما أمر شعيب ابنته أن تعطي موسى عصا يدفع بها السباع عن غنمه وفي بعض الأخبار أن موسى لما عقد العقد مع شعيب وأصبح من الغدو أراد الرعي، قال له شعيب عليه السلام: اذهب بهذه الأغنام فإذا بلغت مفرق الطريق، فخذ على يسارك ولا تأخذ على يمينك، وإن كان الكلأ بها أكثر فإن بها تنينا عظيما فأخشى عليك وعلى الأغنام منه، فذهب موسى بالأغنام فلما بلغ مفرق الطريق أخذت الأغنام ذات اليمين فاجتهد موسى على أن يردها فلم يقدر، فسار على أثرها فرأى عشبا كثيرا، ثم إن موسى عليه السلام نام والأغنام ترعى وإذا بالتنين قد جاء فقامت عصا موسى، فقاتلته حتى قتلته، وعادت إلى جنب موسى وهي دامية فلما استيقظ موسى، رأى العصا دامية والتنين مقتولا فارتاح لذلك، وعلم أن لله تعالى في تلك العصا آية، وعاد إلى شعيب وكان ضريرا فمس الأغنام، فإذا هي أحسن حالا مما(2/194)
وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)
كانت فسأله عن ذلك فأخبره موسى بالقصة، ففرح بذلك وعلم أن لموسى وعصاه شأنا، فأراد أن يجازي موسى على حسن رعيه إكراما له وصلة لابنته فقال: إني وهبت لك من السخال التي تضعها أغنامي في هذه السنة كل أبلق وبلقاء، فأوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك الماء التي تسقي الغنم منه، ففعل، ثم سقى الأغنام منه فما أخطأت واحدة منها إلا وضعت حملها ما بين أبلق وبلقاء، فعلم شعيب أن ذلك رزق ساقه الله تعالى إلى موسى وامرأته فوفى له بشرطه، فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ أي أتمه وَسارَ نحو مصر لصلة رحمه، وزيارة أمه وأخيه بِأَهْلِهِ أي بزوجته وابنه منها والخادم بإذن من شعيب عليه السلام، آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً أي رأى من جهة جبل الطور عن يسار الطريق نارا ولما عزم على السير.
قال لزوجته: اطلبي من أبيك أن يعطينا بعض الغنم فطلبت من أبيها ذلك قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا أي انزلوا هاهنا إِنِّي آنَسْتُ ناراً.
وقرأ حمزة «لأهله» في الوصل بضم الهاء. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أي من عند النار بخبر الطريق، وقد كان موسى تحيّر في الطريق أَوْ جَذْوَةٍ أي عود غليظ مِنَ النَّارِ. وقرأ عاصم بفتح الجيم وحمزة بضمها. والباقون بالكسر لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) أي لكي تدفئوا بها.
روي أنه أظلم عليه الليل في الصحراء وهبت ريح شديدة، فرقت ماشيته وأصابهم مطر، فوجدوا بردا شديدا، فعند ذلك أبصرنا بعيدة، فسار إليها يطلب من يد له على الطريق فَلَمَّا أَتاها أي النار التي أبصرها، نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ أي أتاه النداء من الشاطئ الأيمن بالنسبة إلى موسى فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ فإنه حصل لموسى عليه السلام في تلك البقعة ابتداء الرسالة، وتكليم الله تعالى إياه والجار والمجرور متعلق ب «نودي» مِنَ الشَّجَرَةِ أي من جهة الشجرة، وهي شجرة عناب أو شوك. وهذا بدل اشتمال من شاطئ أَنْ يا مُوسى ف «أن» مفسرة إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) والعامة على كسر همزة إني على تضمين النداء معنى القول. وقرئ بالفتح فهي معمولة لفعل مضمر تقديره أي يا موسى اعلم أني أنا الله،
وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ من يدك. وهذا معطوف على «أن يا موسى» مفسر أيضا ل «نودي» ، فألقاها فصارت ثعبانا، فتحركت رافعة رأسها فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ أي شبيهة بالحية الصغيرة في سرعة حركتها مع غاية عظم جئتها ولم تدع شجرة ولا صخرة إلا ابتلعت حتى إن موسى سمع صرير أسنانها، وقعقعة الشجر، والصخر في جوفها وَلَّى مُدْبِراً هاربا منها وَلَمْ يُعَقِّبْ أي لم يرجع، ولم يلتفت إليها قال الله: يا مُوسى أَقْبِلْ إليها وَلا تَخَفْ منها إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) من شرها، فأخذها موسى فإذا هي عصا كما كانت قال الله له: اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ أي أدخل كفك اليمين في طوق قميصك وأخرجها تَخْرُجْ بَيْضاءَ لها ضوء كضوء(2/195)
الشمس مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي عيب وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ أي أدخل الكف اليمين التي حصل فيها البياض في جيبك، فتعود إلى حالتها، فيزول عنك الفزع الذي حصل لك.
وقيل: من أجل الخوف إذا أرهبت بها الناس.
وقال ابن عباس: إن الله تعالى أمر موسى عليه السلام أن يضم يده إلى صدره ليذهب عنه الخوف عند معاينة الحية، فمعنى من أجل الرهب، أي إذا أصابك الخوف فافعل ذلك تجلدا وضبطا لنفسك.
وقال مجاهد: وكل من فزع فضم جناحه إليه ذهب عنه الفزع. فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ أي فالعصا واليد حجتان نيرتان، كائنتان من الله تعالى، واصلتان إلى فرعون وقومه، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32) أي خارجين عن عبودية الله، فكانوا أحقاء بأن نرسلك إليهم بهاتين المعجزتين الباهرتين. قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً- هو القبطي- فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) بمقابلتها، فيفوت المقصود بقتلي وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً أي أبين مني كلاما، فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً أي معينا.
وقرأ نافع «ردا» بتنوين الدال وحذف الهمزة، يُصَدِّقُنِي أي أرسل معي أخي حتى يعاضدني على إظهار الحجة فربما حصل المقصود من تصديق فرعون. والمراد بتصديق هارون تلخيصه بلسان فصيح وجوه الدلائل. وجوابه عن الشبهات، ومجادلته الكفار.
وقرأ عاصم وحمزة بالرفع صفة ل «ردأ» . ويروى عن أبي عمرو أيضا. والباقون بالجزم وهو المشهور عن أبي عمرو إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) بالرسالة، لأن لساني لا يطاوعني عند المحاجة بسبب العقدة التي حصلت بسبب الجمرة. قالَ الله تعالى: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ أي سنقوي ظهرك بهارون ونعين أمرك به. وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً أي غلبة بالحجة في الحال، وغلبة في المملكة في ثاني الحال. فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا. فالآية التي هي قلب العصاحية تمنع من وصول ضرر فرعون إلى موسى وهارون عليهما السلام، لأنهم إذا علموا أنه متى ألقاها صارت حية عظيمة، وإن أراد إرسالها إليهم أهلكتهم زجرهم ذلك عن الإقدام عليهما بسوء فصارت مانعة من وصولهم إليهما بالقتل وغيره. أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35) على فرعون وقومه بالبرهان: والدولة. وقوله: بِآياتِنا متعلق ب «لا يصلون» أو ب «الغالبون» فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا وهي العصا واليد، ففي كل منهما آيات عديدة بَيِّناتٍ أي واضحات الدلالة على صحة رسالة موسى من الله تعالى. قالُوا ما هذا أي الذي جئتنا به، إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً أي موصوف بالافتراء كسائر أنواع السحر، أو سحر كذب هو من تلقاء نفسك، لا إن الذي أظهرته معجزة صادرة من الله تعالى وإنما أنت تفتري على الله تعالى. وَما سَمِعْنا بِهذا أي الذي تدعو إليه من التوحيد والذي تدعيه من الرسالة عن الله تعالى واقعا فِي آبائِنَا(2/196)
الْأَوَّلِينَ
(36) وقد كذبوا فإنهم سمعوا بذلك على أيام يوسف عليه السلام. وَقالَ لهم مُوسى - وقرأ ابن كثير بغير واو-: رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ، أي ربي عالم بمن جاء بالرسالة من عنده، وبمن تكون له العاقبة المحمودة في الدنيا وهي أن يختم للعبد بالرحمة والرضوان، وتلقي الملائكة بالبشرى عند الموت. فالدنيا خلقت مزرعة للآخرة ومجازا إليها. والمقصود بالذات هو الثواب للمطيعين العابدين فيكون الثواب هو العاقبة الأصلية ولا اعتداد بعاقبة السوء، لأنها من نتائج أعمال الفجار ويكون العقاب إنما قصد بالتبعية، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) أي يظفر المشركون بالنجاة والمنافع كما قال القائل من بحر الطويل:
فليتك تحلو والحياة مريرة ... وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر ... وبيني وبين العالمين خراب
وَقالَ فِرْعَوْنُ، بعد ما جمع السحرة لمعارضة موسى فكان من أمرهم ما كان: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ أي بعد اتخاذه لبنا ولم يقل فرعون. اطبخ لي الآجر لأنه أول من عمل الآجر فهو يعلم صنعته لهامان. فَاجْعَلْ لِي منه صَرْحاً أي قصرا عاليا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى أي أنظر إليه وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ أي موسى عليه السلام مِنَ الْكاذِبِينَ (38) في ادعاء وجود إله غيري فليس في السماء من إله.
واعلم أن عادة فرعون متى ظهرت حجة موسى يدفعها بشبهة يروجها على أغمار قومه، وهي قوله: لا دليل على وجود إله غيري، فلا أثبته بل أظن موسى كاذبا في دعواه، وذلك نفى إله غير نفسه. وقوله: ولا تكليف على الناس إلا أن يطيعوا ملكهم وينقادوا لأمره، فهذا هو ادعاؤه الإلهية لا ادعاؤه كونه خالقا للسماء والأرض، ومن مكر فرعون ودهائه أنه لما دل سيدنا موسى عليه السلام فرعون بقوله: رب السموات والأرض أو هم فرعون ببناء أغمار قومه أن موسى قال:
إن إلهه في السماء وأمر فرعون وزيره ببناء الصرح. قيل: لما أمر فرعون ببناء الصرح جمع هامان العمال حتى اجتمع عنده خمسون ألف بنّاء سوى الأتباع والأجراء، وأمر بطبخ الآجر والجص، ونجر الخشب، وسبك المسامير، فبنوا الصرح ورفعوه حتى ارتفع ارتفاعا لم يبلغه بناء أحد من الخلق فلما فرغوا منه ارتقى فرعون فوقه راكبا على البراذين، فأمر بنشابة، فضرب نحو السماء، فردت إليه وهي ملطوخة بالدم فقال: قد قتلت إله موسى فبعث الله جبريل عليه السلام عند غروب الشمس، فضربه بجناحه، فقطعه ثلاث قطع: قطعة وقعت على عسكر فرعون فقتلت منه ألف رجل، وقطعة وقعت في البحر، وقطعة وقعت في المغرب. ولم يبق أحد من عماله إلا وقد هلك وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ أي أرض مصر بِغَيْرِ الْحَقِّ أي ملتبسين بغير استحقاق، وَظَنُّوا أي فرعون وجموعه القبط أَنَّهُمْ إِلَيْنا أي إلى حكمنا لا يُرْجَعُونَ (39) بالنشور.(2/197)
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)
وقرأ نافع وحمزة والكسائي بفتح الياء وكسر الجيم فهو من الرجوع. وقرأ الباقون بضم الياء وفتح الجيم فهو من الرجع فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ عقب ما بلغوا أقصى الغايات في العتو، وفي هذا استحقار لهم واستقلال لعددهم، وإن كانوا كبيرا كثيرا وتعظيم لشأن الأخذ فشبههم الله تعالى بحصيات أخذهن آخذ في كفه، فطرحهن في البحر وذلك قوله تعالى: فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ أي فألقيناهم في البحر.
قيل: هو بحر يسمى أسافا من وراء مصر- حكاه ابن عساكر- فَانْظُرْ يا أشرف الخلق كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) أي كيف صار آخر أمر المشركين وبينه لقومك ليعتبروا به.
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً أي رؤساء يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ أي إلى ما يؤدي إلى النار من الكفر والمعاصي.
وقرأ أبو عمر ونافع وابن كثير «أيمة» ، بإبدال الهمزة الثانية ياء وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) فلا يمكن التخلص من العقاب الذي سينزل بهم، لأنهم بلغوا أقصى النهايات في باب المعاصي حتى صاروا قدوة للضلال وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً أي إبعادا من الرحمة، ولا تزال تلعنهم الملائكة والمؤمنون خلفا عن سلف، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) أي من المطرودين عن الرحمة ومن الموسومين بعلامة منكرة كزرقة العيون وسواد الوجوه وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى هم أقوام نوح وهود وصالح ولوط عليهم السلام بَصائِرَ لِلنَّاسِ، أي حال كون الكتاب أنوارا لقلوب الناس، فإنه يستبصر به في باب الدين وَهُدىً إلى كل خير، فإن الكتاب يستدل به والمتمسك به يفوز بمطلوبه من الثواب وَرَحْمَةً لأن الكتاب من نعم الله تعالى على من تعبد به فكل من عمل به ينال رحمة الله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) أي ليكونوا على حال يرجى منه التذكر.
وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما أهلك الله تعالى قرنا من القرون بعذاب من السماء ولا من الأرض منذ أنزل التوراة غير أهل القرية التي مسخها قردة»
. وَما كُنْتَ يا أفضل الخلق بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ أي في المكان في شق الغرب من جبل الطور، وهو المكان الذي وقع فيه ميقات موسى عليه السلام الذي رأى فيه النار، إِذْ قَضَيْنا
إِلى مُوسَى الْأَمْرَ
أي حين أوحينا إلى موسى أمر الرسالة حيث أمرنا بالإتيان إلى فرعون وقومه، وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) لموسى وما جرى عليه وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً أي ولكنا خلقنا بين زمانك وزمان موسى أمما كثيرة، فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ فتغيرت الأحكام، وخفيت عليهم الأخبار لا سيما على آخرهم، فاقتضى الحال إظهار الأحكام الجديدة، فأوحينا إليك، فإخبارك عن هذه الأشياء من غير حضور لها دلالة ظاهرة على نبوتك، وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ أي وما كنت(2/198)
يا سيد الرسل مقيما في أهل مدين من شعيب والمؤمنين به تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا أي تقرأ على أهل مدين آياتنا الناطقة بالقصة على طريق التعلم منهم. ويقال: وما كنت مقيما في أهل مدين وقت تلاوتك القرآن على قومك أهل مكة، تخبرهم قصة أهل مدين مع موسى، ومع شعيب حتى تنقلها بطريق المشافهة، وإنما أتتك بطريق الوحي الإلهي فإخبارك لأهل مكة إنما هو عن وحي لا عن مشاهدة للمخبر عنه، وذلك قوله تعالى: وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) إياك، وموحين إليك تلك الآيات ونظائرها وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا أي وما كنت يا سيد الخلق بجانب جبل زبير حين نادينا موسى ليلة المناجاة والتكليم لما أتى الميقات مع السبعين لأخذ التوراة.
ويقال: إذ نادينا أمتك. قال وهب: لما ذكر الله لموسى فضل أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم قال: رب أرنيهم.
قال: إنك لن تدركهم وإن شئت أسمعتك أصواتهم. قال: بلى يا رب. فقال الله تعالى: يا أمة محمد، فأجابوه من أصلاب آبائهم، فأسمعه الله تعالى أصواتهم، ثم قال: أجبتكم قبل أن تدعوني، وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي ولكن أرسلنا بالقرآن لرحمة عظيمة كائنة منا لك وللناس.
وقرأ عيسى بن عمر بالرفع أي لكن هي رحمة. لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ أي لكي تخوف بالقرآن من العقاب على المعصية قوما لم يأتهم رسول مخوف قبلك لوجودهم في فترة بينك وبين عيسى، وهي خمسمائة وخمسون سنة أو بينك وبين إسماعيل بناء على القول بأن دعوة موسى وعيسى كانت مختصة ببني إسرائيل لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) أي يتعظون بإنذارك وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) أي ولولا أنهم قائلون بلسان الحال إذا عوقبوا يوم القيامة بسبب اكتسابهم في كفرهم أنواع المعاصي، لم لم ترسل إلينا رسولا مع الكتاب قبل هذا العذاب، فيتسبب عن إرسال رسولك أن نتبع كتابك، ونصدق بكل ما أتى به رسولك؟ ما أرسلناك إليهم وإنما أرسلنا الرسول قطعا لمعاذيرهم بالكلية، أي لكي لا يكون لهم حجة علينا، فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا أي فلما جاء الرسول بالكتاب المعجز أهل مكة قالُوا- أي كفار مكة- تعنتا:
لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أي هلا أعطي محمد مثل ما أعطي موسى من الكتاب المنزّل جملة واحدة ومن قلب العصا حية، ومن اليد البيضاء وغير ذلك قال تعالى ردا عليهم: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ أي ألم يكفر كفار مكة من قبل القول بما أعطى موسى من الكتاب كما كفروا بهذا القرآن، فإن كفار قريش كانوا منكرين لجميع النبوات، فلما طلبوا من سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم معجزات سيدنا موسى عليه السلام رد الله تعالى عليهم بذلك القول، لأنه لا غرض لهم من هذا الاقتراح إلا التعنت قالُوا أي كفار مكة: سِحْرانِ تَظاهَرا.
وقرأ الكوفيون بكسر السين وسكون الحاء والمعنى: أن ما أوتي محمد وما أتي موسى(2/199)
وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60)
سحران تعاونا بتصديق كل واحد منهما الآخر. وقرأ الباقون «ساحران» بصيغة اسم الفاعل، أي محمد وموسى ساحران أعان كل منهما صاحبه على سحره. روي أن مشركي مكة بعثوا رهطا إلى يهود المدينة ليسألهم عن شأن محمد صلّى الله عليه وسلّم فسألوهم عنهم فقالوا: إنا نجده في التوراة بصفته فلما رجع الرهط إليهم وأخبروهم بما قالت اليهود قالوا: إن موسى كان ساحرا كما أن محمدا ساحر فقال تعالى في حقهم: أولم يكفروا بما أوتي موسى وَقالُوا أي كفار مكة إِنَّا بِكُلٍّ من التوراة والقرآن أو من محمد وموسى كافِرُونَ (48) غير مصدقين قُلْ لهم تعجيزا لهم وتوبيخا:
فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما، أي إذا لم تؤمنوا بهذين الكتابين وقلتم فيهما ما قلتم فأتوا بكتاب من عند الله هو أوضح في هداية لخلق منهما، أَتَّبِعْهُ أي فإن أتيتم به أتبعه إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) . أي في قولهم أن التوراة والقرآن سحران مختلفان فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ أي فإن لم يمكنهم أن يأتوا بكتاب أفضل منهما فاعلم أنهم ليس لهم مستند وإنما لهم محض هواهم الفاسد. وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ أي لا أضل منه لأنه أضل من كل ضال، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) لأنفسهم بالانهماك في اتباع الهوى، والأعراض عن الآيات الهادية إلى الحق،
وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ أي أنزلنا القرآن منجما يتصل بعضه ببعض ليكون ذلك أقرب إلى تنبيه كفار مكة، فإنهم كل يوم يطلعون على فائدة، فيكونون عند ذلك أقرب إلى التذكر أو جعلنا القرآن أنواعا من المعاني من قصص وعبر ونصائح، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) فيؤمنون بما في القرآن. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل مجيء القرآن هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وهم مؤمنو أهل الكتاب وَإِذا يُتْلى، أي القرآن عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ أي القرآن الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ، أي من قبل قراءة القرآن علينا مُسْلِمِينَ (53) ، أي مخلصين لله بالتوحيد مؤمنين بمحمد صلّى الله عليه وسلّم أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بإيمانهم بمحمد قبل بعثته وبعد بعثته بِما صَبَرُوا على طعن الكفار وأذاهم متى بينوا صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم في كتابهم ودخلوا في دينه.
قال مقاتل: هؤلاء لما آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم شتمهم المشركون فصفحوا عنهم فلهم أجران:
أجر على الصفح، وأجر على الإيمان. وقال السدي: إن اليهود عابوا عبد الله بن سلام وشتموه وهو يقول: سلام عليكم. وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أي ويدفعون بالطاعة المعصية وبالعفو الأذى، وبالامتناع من المعاصي فإن نفس الامتناع حسنة وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) . وقال سعيد بن جبير: وهم أربعون رجلا قدموا مع جعفر من الحبشة على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة قالوا له: يا نبي الله، إن لنا أموالا فإن أذنت انصرفنا فجئنا بأموالنا، فواسينا بها المسلمين، فأذن لهم، فانصرفوا، فأتوا بأموالهم، فواسوا بها المسلمين، فنزلت هذه الآيات الثلاث وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أي ما لا ينفع في دين ودنيا أَعْرَضُوا عَنْهُ أي اللغو(2/200)
وَقالُوا للاغين: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ أي لنا ديننا ولكم دينكم، سَلامٌ عَلَيْكُمْ وهو سلام إعراض وفراق، لا سلام تحية فلا نقابلكم بمثل ما فعلتم بنا، لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55) . أي لا نطلب صحبتهم ولا نجازيهم بالباطل على باطلهم فإن المشركين كانوا يسبون مؤمني أهل الكتاب ويقولون: تبا لكم تركتم دينكم فيعرضون عنهم ولا يردون عليهم. إِنَّكَ يا أشرف الخلق لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) .
عبد المطلب فقال: لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد وما اتبعتم أمره فاتبعوه وأعينوه ترشدوا، وأنه قال: ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا رسولا كموسى صح ذلك في الكتب، وأنه قال عند قرب موته مخاطبا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
ودعوتني وعلمت أنك صادق ... ولقد صدقت وكنت قبل أمينا
ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا
واعلم أنه لو ترك شخص النطق بالشهادتين بعد المطالبة لا لإباء عن الإسلام ولا لعناد له، بل لخوف من ظالم أو من ملامة، أو مسبة عند من يعظم ذلك، وقلبه مطمئن بالإيمان فلا يكون كافرا بينه وبين الله، بل لو تكلم بالكفر والحالة هذه لا يضره.(2/201)
وقال الحليمي: لا خلاف أن الإيمان ينعقد بغير كلمة لا إله إلا الله حتى لو قال:
لا إله غير الله ولا إله ما عدا الله، أو ما سوى الله، أو ما من إله إلا الله، أو لا إله إلا الرحمن، أو لا رحمن إلا الله أو إلا البارئ فهو كقوله: لا إله الا الله اه. وكذا قال: محمد نبي الله أو مبعوثه أو نحو ذلك، أو ما يؤدي إلى ذلك باللغات العجمية صح إسلامه وحكم بكونه مسلما
وفي الحديث قوله صلّى الله عليه وسلّم: «آدم ومن دون تحت لوائي وإن عبد المطلب يعطي نور الأنبياء وجمال الملوك»
«1» .
وعن جعفر بن محمد الصادق قال: ويحشر عبد المطلب له نور الأنبياء وجمال الملوك، ويحشر أبو طالب في زمرته، أي إنما يعطى عبد المطلب نور الأنبياء، لأنه كان على التوحيد، ولأنه مستقل لا تابع، وهو من أهل الفترة وإنما يعطى جمال الملوك، لأنه كان سيد قريش في زمانه فهو في ذلك ملحق بالملوك الذين عدلوا وما ظلموا
، ومما يدل على أن أبا طالب مؤمن ما
روي عن إسحاق بن عبد الله بن الحرث قال: قال العباس لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أترجو لأبي طالب خيرا؟ قال: «كل الخير أرجو من ربي»
«2» رجاؤه صلّى الله عليه وسلّم محقق ولا يرجو كل الخير إلا لمؤمن.
وما
روي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا كان يوم القيامة شفعت لأبي وأمي وعمي أبي طالب، وأخ كان لي في الجاهلية»
«3» . أورده المحب الطبري أي وهو الأخ من الرضاعة.
وفي الحديث: «إني ادخرت شفاعتي جعلتها لمن مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا»
. اه. وما أخبر صلّى الله عليه وسلّم أن أبا طالب أخرج من طمطام النار وغمراتها إلى ضحضاح، منها وخفف عنه من عذابها وجعل أخف أهل النار عذابا ألبس نعلين من النار، فما مست النار إلا تحت قدميه، ولو كان كافرا لكان عذاب الكفر فوق عذاب الكبائر قطعا، ولو وجد مؤمن من عاص أخف عذابا من أبي طالب لزم الخلف في قوله صلّى الله عليه وسلّم حيث جعله أخف أهل النار على الإطلاق فوجب أن يكون عذابه كعذاب عصاة المؤمنين في مقابلة كبيرة كذا في رسالة السيد رسول البر زنجي. وَقالُوا أي أهل مكة: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أي إن نوحد الله معك يا محمد نطرد من مكة.
روي أن الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنا نعلم أنك على الحق ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب أن يتخطفونا من أرضنا، أي أن يجتمعوا على
__________
(1) رواه المتقي الهندي في كنز العمال (133) .
(2) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (10: 378) .
(3) رواه الحاكم في المستدرك (4: 306) ، والبغوي في شرح السنّة (14: 224) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (10: 151) .(2/202)
أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
أي ألم نجعل مكانهم حرما ذا أمن يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ أي يحمل إليه من كل ناحية ألوان كل شيء من الثمرات.
وقرأ نافع بالتاء الفوقية. رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا فإذا كان حالهم ما ذكر مع كونهم عبدة أصنام، فكيف يخافون أن نسلط عليهم الكفار إن ضموا إلى حرمة!؟ البيت، حرمة الإيمان ف «رزقا» إما مصدر مؤكد ل «يجبي» أو مفعول له، أو حال من «ثمرات» بمعنى مرزوق. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) إنا جعلنا الحرم آمنا وإنا سقنا إليه الرزق من كل جهة وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها أي وكثير من أهل قرية كانت حالهم كحالهم في إدرار الرزق حتى طعنوا بالنعمة في زمن حياتها فأهلكناهم وخربنا ديارهم فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد هلاكهم إِلَّا قَلِيلًا أي إلا في زمن قليل يسكنها المسافرون ومارو. الطريق وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) أي المالكين لها بعد هلاك أهلها، وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى أي مهلك أهل القرى، حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها أي في أعظمها رَسُولًا. فعاد الله أن يبعث الرسل في المدن، لأن أهل أفطن وغيرهم يتبعهم يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا الدالة على الحق والداعية إليه بالترغيب والترهيب، وذلك لقطع المعذرة وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59) أي وما كنا مهلكين لأهل القرى بعد ما بعثنا في أشرافهم رسولا يدعوهم إلى الحق في حال من الأحوال إلا حال كونهم ظالمين بتكذيب رسولنا، وبالكفر بآياتنا. وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها أي وما أعطيتم يا معشر قريش من أسباب الدنيا كالمال والخدم، فهو شيء عادته أن ينتفع به ويتزين به أيام حياتكم. وقرئ «فمتاعا الحياة» بنصب الكلمتين على المصدر، وعلى الظرف أي يتمتعون متاعا في الحياة الدنيا. وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أي فمنافع الآخر لمن آمن بالله وبرسوله أعظم وأدوم مما لكم في الدنيا، فنصيب كل أحد في الآخرة بالقياس إلى منافع الدنيا كلها كالذرة بالقياس إلى البحر فكيف قلتم تركنا الدين لئلا تفوتنا الدنيا. أَفَلا تَعْقِلُونَ (60) أي ألا تتفكرون فلا تعقلون أن الدنيا فانية والآخرة باقية!
أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) ؟ أي أفمن وعدنا وعدا بالجنة فهو مدرك الموعود به من غير شك كمن أعطيناه المال والخدم في الدنيا، ثم هو يوم القيامة نحضره للعذاب؟
قال محمد بن كعب: نزلت هذه الآية في حمزة وعلي، وفي أبي جهل. وقال غيره: في حمزة أو عثمان بن عفان وفي أبي جهل. وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ معطوف على يوم القيامة فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) ؟ أي ويوم ينادي الله المشركين فيقول توبيخا لهم: أين الذين عبدتموهم من دوني، وأثبتم لهم شركة في استحقاق العبادة، تزعمون أنهم يشفعون لكم، أين هم لينصروكم من هذا الذي نزل بكم؟! قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي الذين ثبت عليهم مدلول(2/203)
قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة: 13] رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا.
قال أبو علي: «الذين أغوينا» خبر لاسم الإشارة، و «أغويناهم» مستأنف. والمعنى:
هؤلاء هم الذين أضللناهم فصاروا أتباعا آثروا الكفر على الإيمان، فضلوا باختيارهم ضلالا مثل ضلالنا باختيارنا وكنا سببا في كفرهم فقبلوا منا وما أكرهناهم عليه تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ منهم ومن عقائدهم وأعمالهم ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) أي ما كانوا يطيعوننا، وإنما كانوا يطيعون أهواءهم، وَقِيلَ للكفار تبكيتا لهم: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ أي استغيثوا بآلهتكم التي عبدتموها في الدنيا لتنصركم وتدفع عنكم فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ أي فاستغاثوا بهم فلم يجيبوهم ولا انتفعوا بهم وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ
كانُوا يَهْتَدُونَ
(64) أي أبصر المشركون العذاب لو أنهم يبصرون شيئا، فإنهم لما خاطبهم الله تعالى بقوله: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ اشتد الخوف عليهم حتى يصيروا بحيث لا يبصرون شيئا. أو المعنى: لما قيل: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ دعوا الأصنام مرارا كثيرة حتى كان الأصنام يشاهدون العذاب لو كانوا من الأحياء المهتدين. أو المعنى: وعلم الكفار حقيقة هذا العذاب في الدنيا لو كانوا يهتدون.
قال الرازي: وهذه الوجوه عندي خير من الوجوه المبنية على أن جواب «لو» محذوف.
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ عطف ما قبله سئلوا أولا: عن إشراكهم. وثانيا: عن جوابهم للرسل الذين نهوهم عن ذلك فَيَقُولُ الله تعالى: ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) إليكم بما دعوكم فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ أي فخفيت عليهم الأخبار يوم إذ سئلوا عن ذلك فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66) أي لا يسأل بعضهم بعضا عن الجواب النافع، لأنهم يتساوون جميعا في العجز عن الجواب المنجي لفرط الدهشة، فلا نطق ولا عقل. فَأَمَّا مَنْ تابَ من الشرك وَآمَنَ بما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم وَعَمِلَ صالِحاً أي خالصا فيما بينه وبين الله فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) أي فليطمع في الفلاح والنجاة من العذاب وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ أن يخلقه وَيَخْتارُ ما يشاء اختياره. ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ أي ليس لهم الاختيار المؤثر عنهم، وليس لهم أن يختاروا على الله أن يفعل.
قال العلماء: لا ينبغي لأحد أن يقوم على أمر من أمور الدنيا إلا حتى يسأل الله تعالى الخيرة في ذلك بأن يصلي صلاة الاستخارة بالكيفية المشهورة، وأهل الرضا حطوا الرحال بين يدي ربهم، وسلموا الأمور إليه بصفاء التفويض، فلا يرضيهم، إلا ما يرضيه ولا يريدون إلا ما يريده، فيمضيه، وروي أن هذه الآية نزلت في شأن الوليد بن المغيرة حين قال: لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ويقصد بذلك الوليد بن المغيرة، أو أبا مسعود الثقفي، فأجاب الله تعالى عنه بقوله تعالى: وَرَبُّكَ إلخ، والمعنى: لا يبعث الله تعالى الرسل باختيار(2/204)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75) إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)
المرسل إليهم. سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) أي تنزيها له تعالى عن أن يزاحم اختياره تعالى اختيار. والمقصود أن يعلم العبد أن الإعزاز والإذلال مفوّض إليه تعالى ليس لأحد في الخلق، والاختيار شركة له تعالى وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ من عداوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَما يُعْلِنُونَ (69) من الطعن في الرسول بألسنتهم وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي وهو المستحق للعبادة لا أحد يستحقها إلا الله. لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ لأن الثواب غير واجب عليه، بل هو تعالى، يعطيه فضلا وإحسانا منه تعالى، فله الحمد في الدنيا والآخرة لأنه معطي النعم كلها، فيحمده المؤمنون في الآخرة فرحا بفضله، والتذاذا بحمده بقولهم: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، الحمد لله الذي صدقنا وعده وَلَهُ الْحُكْمُ النافذ في كل شيء من غير مشاركة فيه لغير في الدنيا والآخرة وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) بالخروج من القبور.
قُلْ يا أفضل الخلق لأهل مكة: أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً أي دائما إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، بإسكان الشمس تحت الأرض، أو تحريكها حول الأفق غير المرئي مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ يخرجكم من مشقة الظلام؟ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) هذا الكلام الحق سماع تفهم تطيعون من يفعل ذلك! قُلْ لهم: أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بإسكان الشمس في وسط السماء أو تحريكها على مدار فوق الأفق مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ، استراحة عن متاعب الأشغال؟ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) ، هذه المنفعة الظاهرة ولا تنتظرون بقلوبكم ما أنتم عليه من الخطأ! وَمِنْ رَحْمَتِهِ أي نعمته تعالى جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لأغراض ثلاثة لِتَسْكُنُوا فِيهِ أي في أحدهما وهو الليل، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ في الآخر، وهو النهار بأنواع المكاسب. ففي هذا مدح للسعي في طلب الرزق كما ورد في الحديث: «الكاسب حبيب الله وهو لا ينافي التوكل» .
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) أي لكي تشكروا على المنفعتين معا. وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أي أذكر يوم ينادي الله المشركين يوم القيامة فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) ؟ أي أين الذين ادعيتم إلهيتهم لتخلصهم من الهلاك؟ وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً أي أخرجنا من كل أمة نبيا يشهد عليهم بما كانوا عليه في كل زمان، فيدخل فيه الأحوال التي في أزمنة الفترات، وفي الأزمنة التي حصلت بعد سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم فَقُلْنا لهم: هاتُوا بُرْهانَكُمْ على صحة ما كنتم تدينون به فَعَلِمُوا أي كل أمة يومئذ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ أي أن حقيقة الإلهية لله تعالى لا يشاركه فيها أحد وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75) أي زال عنهم ما كانوا يعبدون في الدنيا بالكذب إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى.
وروى أبو إمامة الباهلي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «كان قارون من السبعين المختارين الذين سمعوا كلام الله تعالى»
- قيل هو ابن عم موسى- وعن ابن عباس كان ابن خالته، ثم قيل: إنه(2/205)
كان يسمى المنور ولحسن صورته وكان أقرأ بني إسرائيل للتوراة، إلا أنه نافق كما نافق السامري فَبَغى عَلَيْهِمْ، أي طلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت أمره، كما قاله القفال، وقال ابن عباس: تكبر عليهم اه-، ثم حسد موسى على رسالته، وهارون على إمامته في الذبح فكفر بعد ما آمن بهما بسبب كثرة ماله.
ويروى أن موسى عليه السلام لما قطع البحر جعل الحبورة والقربان لهارون فقال قارون:
يا موسى لك الرسالة، ولهارون الحبورة- وهي إمامة الذبح- ولست في شيء ولا أصبر أنا على هذا. فقال موسى عليه السلام: والله ما صنعت ذلك لهارون، ولكن جعله الله له. فقال: لا والله لا أصدقك أبدا حتى تأتيني بآية أعرف بها أن الله جعل ذلك لهارون فأمر موسى عليه السلام بني إسرائيل أن يجيء كل رجل منهم بعصا، فجاءوا بها، فحزمها موسى، فألقاها في قبة له، فباتوا يحرسون عصيهم، فأصبحت عصا هارون تهتز لها ورق أخضر، وكانت من شجر اللوز، فقال موسى: يا قارون أما ترى ما صنع الله لهارون. فقال قارون: والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر. فاعتزل قارون ومعه ناس كثير من أتباعه من بني إسرائيل، فما كان يأتي موسى عليه السلام ولا يجالسه وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ أي وأعطينا قارون من الأموال المدخرة الذي أن مفاتيح صناديقه لتثقل الجماعة الكثيرة الأقوياء وأخرج الدينوري عن خيثمة قال: قرأت في الإنجيل أن مفاتيح كنوز قارون وقر ستين بغلا كل مفتاح منها على قدر إصبع، لكل مفتاح منها كنز إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ أي المؤمنون من بني إسرائيل لا تَفْرَحْ بكثرة المال فالفرح بالدنيا من حيث إنها دنيا مذموم مطلقا. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) بزخارف الدنيا وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ أي اطلب ثواب الله تعالى بسبب المال بأن تصرفه إلى ما يؤديك إلى الجنة كصدقة وصلة رحم، وإطعام جائع، وكسوة عار ونفقة على محتاج وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا أي لا تترك العمل في الدنيا للآخرة، وخذ ما تحتاجه من الدنيا وأخرج الباقي كما في الحديث: «اغتنم خمسا: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك» «1» . وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ أي وأحسن إلى عباد الله تعالى إحسانا كإحسان الله تعالى إليك فيما أنعم إليك، فيدخل في الإحسان الإعانة بالمال والجاه، وطلاقة الوجه وحسن اللقاء وحسن الذكر. وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ أي لا تطلب الفساد بعمل المعاصي في الأرض إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) أي أنه تعالى يعاقب المفسدين بسوء أفعالهم. قالَ قارون مجيبا لناصحه: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أي أنما أعطيت هذا المال حال كوني متصفا بالعلم الذي عندي، وفضلت به على الناس
__________
(1) رواه البيهقي في السنن الكبرى (10: 163) ، والسيوطي في الدر المنثور (5: 147) .(2/206)
فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
بالمال والجاه، فكان ذلك لفضل علمي بالتوراة، واستحقاقي لذلك، أي لأنه أقرأ بني إسرائيل للتوراة كما قاله قتادة ومقاتل والكلبي اه-.
وقال سعيد بن المسيب والضحاك: كان موسى عليه السلام أنزل عليه علم الكيمياء من السماء، فعلّم قارون ثلث العلم، ويوشع ثلثه، وكالب ثلثه، فخدعهما قارون حتى
أضاف علمهما إلى علمه، فكان يأخذ الرصاص فيجعله فضة، والنحاس فيجعله ذهبا، وكان ذلك سبب كثرة أمواله. أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً أي أعلم قارون ما ادعاه، ولم يعلم أن الله قد أهلك من هو أقوى منه، وأغنى، وأكثر جماعة حتى لا يغتر بكثرة ماله وقوته؟! وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) ، أي لا يسأل الله عن صفة ذنوب المجرمين وعددها إذا أراد أن يعاقبهم لأنه تعالى عالم بكل المعلومات، فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ أي فخرج قارون يوم السبت متزينا مع أتباعه كانوا أربعة آلاف على زيه، وكان عن يمينه ثلاثمائة غلام، وعن يساره ثلاثمائة جارية بيض عليهن الحلي والديباج، وكانت بغلته شهباء سرجها من ذهب وكان على سرجها الأرجوان- بضم الهمزة والجيم، وهو قطيفة حمراء- وكانت خيولهم وبغالهم متحلية بالديباج الأحمر، ومعهم ألوان السلاح.
وقال ابن زيد: خرج في تسعين ألفا عليهم المعصفرات وهو أول يوم رؤي فيه المعصفر.
قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا من المؤمنين جريا على طريقه الجبلة البشرية من الرغبة في السعة يا للتنبيه لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ من هذه الأموال وهذه الزينة إِنَّهُ أي قارون لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) . أي لذو بخت وافر من الدنيا. وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ بأحوال الدنيا والآخرة للراغبين في الدنيا: وَيْلَكُمْ أي ضيق الله عليكم الدنيا. وهذا زجر عن ذلك التمني ثَوابُ اللَّهِ في الآخرة خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً من هذه النعم، لأن الثواب منافع عظيمة وخالصة عن شوائب المضار، ودائمة، وهذه النعم العاجلة على الضد من هذه الصفات الثلاثة.
وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) أي ولا يعطى هذه الطريقة التي هي الإيمان والعمل الصالح إلا الصابرون على أمر الله، والمرازي. أو ولا يعطى الجنة التي هي الثواب إلا الصابرون على مخالفات النفس وموافقات الشريعة.
فَخَسَفْنا بِهِ أي بقارون وَبِدارِهِ الْأَرْضَ.
روي أن قارون كان يؤذي نبي الله موسى عليه السلام كل وقت وهو يداريه للقرابة التي بينهما حتى نزلت الزكاة، فصالحه عن كل ألف دينار على دينار، وعن كل ألف درهم على درهم، وعن كل ألف شاة على شاة، وكذلك سائر الأشياء، ثم رجع إلى بيته فحسبه، فوجده شيئا كثيرا، فلم تسمح نفسه بذلك، فجمع بني إسرائيل وقال: إن موسى يريد أن يأخذ أموالكم، فقالوا: أنت سيدنا وكبيرنا، فمرنا بما شئت. قال: نبرطل فلانة البغي كي تقذف موسى بنفسها فإذا فعلت ذلك رفضه بنو إسرائيل، فدعوها، فجعل قارون لها طشتا من ذهب مملوءا ذهبا، فلما كان يوم عيد قام(2/207)
موسى خطيبا فقال: يا بني إسرائيل من سرق قطعناه، ومن زنى وهو غير محصن جلدناه، وإن كان محصنا رجمناه. فقال قارون: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا قال: إن بني إسرائيل يقولون: إنك فجرت بفلانة قال موسى: ادعوها فلما جاءت قال لها موسى: يا فلانة أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء، وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل، وأنزل التوراة ألا تصدقين فتداركها الله بالتوفيق، فقالت: كذبوا بل جعل لي قارون جعلا على أن أقذفك بنفسي، فخرّ موسى ساجدا يبكي وقال: يا رب، إن كنت رسولك فاغضب لي. فأوحى الله تعالى إليه إني أمرت الأرض أن تطيعك فمرها بما شئت. فقال: يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون، فمن كان معه فليلزم مكانه، ومن كان معي فليعتزل عنه، فاعتزلوا جميعا غير رجلين، ثم قال موسى: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى الركب، ثم قال: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط، ثم قال: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق، وهم في كل ذلك يتضرعون إلى موسى ويقول له: قارون بالله والرحم، وموسى عليه السلام لا يلتفت إليه لشدة غضبه، ثم قال:
يا أرض خذيهم. فانطبقت الأرض عليهم، فأصبحت بنو إسرائيل يتناجون بينهم إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه، فدعا الله تعالى حتى خسف بداره وأمواله. فَما كانَ لَهُ أي لقارون مِنْ فِئَةٍ أي جماعة يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره بدفع العذاب عنه وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) أي من الممتنعين بأنفسهم من عذاب الله تعالى، وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ أي وصار الذين تمنوا مثل رتبة قارون من الدنيا من زمان قريب، يَقُولُونَ متنبهين على خطأهم في تمنيهم لمّا شاهدوا الخسف وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ أي أعجب أنا، لأن الله يوسع المال على من يشاء من عباده وهو مكر منه تعالى- كما كان لقارون- ويقتر على من يشاء وهو نظر منه تعالى فإن القوم لما شاهدوا ما نزل بقارون من الخسف تندموا على تمنيهم حيث علموا أن بسط الرزق لا يكون لكرامة الرجل على الله، ولا تضييقه لهوانه عنده فتعجبوا من أنفسهم كيف وقعوا في مثل هذا الخطأ و «وي» اسم فعل بمعنى:
أعجب أنا، والكاف للتعليل.
وقال أبو الحسن و «وي» اسم فعل، والكاف حرف خطاب و «أن» على إضمار اللام.
وقيل: «وي» اسم فعل، و «كأن» للتحقيق أي أعجب أنا وقد علمت أن كلا من البسط والقبض بمقتضى مشيئته تعالى، وليس البسط للكرامة والقبض للهوان لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بالإيمان والرحمة لَخَسَفَ بِنا كما خسف بقارون وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82) . وقيل «وي» كلمة للزجر، والكاف حرف خطاب، و «أن» معمولة لمحذوف أي انزجر عن تمنيك.
واعلم أنه لا ينجو المكذبون برسول الله من عذاب الله تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ أي الجنة نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ أي نعطيها لمن لا يريدون غلبة وتكبرا وَلا فَساداً أي(2/208)
ظلما على العباد كدأب فرعون وقارون، وَالْعاقِبَةُ الحميدة- وهي الجنة- لِلْمُتَّقِينَ (83) أي الذين يتقون ما لا يرضاه الله تعالى من الأفعال والأقوال. مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ أي من جاء يوم القيامة متصفا بالحسنة، المقبولة، الأصلية، المعمولة فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها أي فله بمقابلتها ثواب خير منها ذاتا، وصفة، وقدرا بالمضاعفة. ومثل المعمولة ما في حكمها كما لو تصدق عن غيره، فخرج بالمعمولة ما لو همّ بحسنة فلم يعملها لمانع، فإنها يجازى عليها من غير تضعيف، وخرجت الحسنة المأخوذة في نظير الظلامة فلا تضاعف له، وخرج بالأصلية الحسنات الحاصلة بالتضعيف فلا تضاعف وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ وهي ما يذم فاعلها شرعا فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84) أي الإجزاء مثل ما كانوا يعملون إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ أي إن الذي أوجب عليك تبليغ القرآن والعمل بما فيه من الأحكام لرادك إلى مكة.
فإنه صلّى الله عليه وسلّم خرج من الغار ليلا وسار في غير الطريق مخافة الطلب، فلما أمن رجع إلى الطريق، ونزل بالجحفة بين مكة والمدينة، وعرف الطريق إلى مكة، فاشتاق إليها وذكر مولده ومولد أبيه، فنزل جبريل وقال له:
أتشتاق إلى بلدك ومولدك؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «نعم» . فقال جبريل: إن الله تعالى يقول:
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ أي مكة غالبا عليهم قُلْ يا أشرف الخلق للمشركين: رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وما يستحقه من الثواب والإعزاز بالإعادة إلى مكة وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وما يستحقونه من العقاب والإذلال في بلدهم يريد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك نفسه والمشركين، وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي وما كنت قبل مجيء الرسالة إليك ترجو إنزال القرآن عليك، وكونك نبيا فإنزاله عليك ليس عن ميعاد وكونك نبيا ليس عن تطلب سابق منك ولكن أنزل إليك القرآن وتجعل نبيا لأجل الترحم من ربك فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) أي معينا لهم بالإجابة إلى طلبتهم وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ أي لا تركن إلى أقوال الكافرين فيصدوك عن اتباع آيات الله بعد وقت إنزالها عليك وإيجاب العمل بها وَادْعُ إِلى رَبِّكَ أي ادع الناس إلى دين ربك وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) بإعانتهم في الأمور، لأن من رضي بطريقتهم أو مال إليهم كان منهم، وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ أي لا تعتمد على غير الله ولا تتخذ غيره وكيلا
في أمورك لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لا نافع ولا ضار ولا معطي ولا مانع إلا هو كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ أي معدوم في حد ذاته فإن وجوده كلا وجود، لأن وجوده ليس ذاتيا إِلَّا وَجْهَهُ أي ذاته تعالى.
وقيل: معنى كونه هالكا: كونه قابلا للهلاك والمستثنى من الهلاك والفناء ثمانية أشياء نظمها السيوطي في قوله:
ثمانية حكم البقاء يعمها ... من الخلق والباقون في حيز العدم
هي العرش والكرسي ونار وجنة ... وعجب وأرواح كذا اللوح والقلم
لَهُ الْحُكْمُ النافذ في الخلق وَإِلَيْهِ أي إلى جزائه بالعدل عند البعث تُرْجَعُونَ (88) .(2/209)
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10)
سورة العنكبوت
مكية، تسع وستون آية، وألف وتسعمائة واحدى وثمانون كلمة، وأربعة آلاف وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفا
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) أي أظن الذين نطقوا بكلمة الشهادة أنهم يتركون غير ممتحنين بمجرد ذلك النطق، لا بل يمتحنون ليتميز الراسخ في الدين من غيره. نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر، وعياش بن أبي ربيعة، والوليد، وسلمة بن هشام. وكانوا يعذبون بمكة، فكانت صدورهم تضيق بذلك. والمقصود: الأقصى من الخلق العبادة والمقصد الأعلى في العبادة حصول محبة الله وكل من كان قلبه أشد امتلاء من محبة الله فهو أعظم درجة عند الله، لكن القلب ترجمان وهو اللسان وله مصدقات، هي الأعضاء ولها مزكيات فإذا قال الإنسان باللسان: آمنت فقد ادعى محبة الله في الجنان فلا بد له من شهود، فإذا استعمل الأركان في الإتيان بما عليه من أركان الإسلام حصل له على دعواه شهود مصدقات، فإذا بدل نفسه وماله في سبيل الله وزكى أعماله بترك ما سوى الله زكى شهوده الذين صدقوه فيما قاله، فحينئذ يحرر اسمه في جرائد المحبين ويقرر قسمه في أقسام المقربين وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، أي ابتلينا الماضين كسيدنا إبراهيم ألقى في النار وكقوم نشروا بالمناشير في دين الله فلم يرجعوا عنه فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) أي فليظهرن الصادقين في قولهم آمنا من الكاذبين في ذلك، فمن الناس من لا يصبر في البلاء ولا يشكر في النعماء، فهو من الكاذبين، ومنهم من يصبر في حال البلاء ويشكر في حال النعماء، فهذه صفة الصادقين، ومنهم من لا يستمتع في العطاء بل يؤثر في حال الرخاء، ويستريح إلى البلاء، ويستعذب مقاساة العناء، وهذا أجل الكبراء أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا أي بل أحسب المشركون أنهم يفرون منا ويفوتون عذابنا فلا نقدر على مجازاتهم بعصيانهم. ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4) أي بئس الذين يحكمونه حكمهم ذلك مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ، أي من كان يطمع في ثواب الله فليعمل عملا صالحا، فإن الوقت المضروب له لجاء لا شك في مجيئه وَهُوَ السَّمِيعُ(2/210)
الْعَلِيمُ
(5) ، فيسمع ما قالوه، ويعلم ما يعملونه، فللعبد أمور ثلاثة من أصناف حسناته عمل قبله، فهو لا يرى ولا يسمع وإنما يعلم، وعمل لسانه فهو يسمع، وعمل أعضائه وهو يرى فإذا أتى بهذه الأشياء يجعل الله لمسموعه ما لا أذن سمعت، ولمرئيه ما لا عين رأت، ولعمل قلبه ما لا خطر على قلب أحد، وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ أي ومن صبر على الشدة في محاربة الكفار وفي مخالفة النفس فإن منفعة صبره له لا لله تعالى. إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) فلا حاجة له إلى طاعتهم، وإنما أمرهم بطاعة الله توجيها لهم للثواب بمقتضى رحمته وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7) ، أي بأحسن جزاء أعمالهم فتكفير السيئات في مقابلة الإيمان والجزاء بالأحسن في مقابلة العمل الصالح، فالمؤمن يدخل الجنة بإيمانه، وتكفر سيئاته به فلا يخلد في النار فحينئذ يكون الجزاء الأحسن غير الجنة، وهو ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر أن يكون هو رؤية الله تعالى. وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً أي أمرنا الإنسان بالبر بوالديه والعطف عليهما لأنهما سبب وجود الولد وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما أي وإن أمراك أن تشرك بي ما ليس لك بإلهيته علم فلا تطعهما في الإشراك فقوله: ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إشارة إلى أن ما لا يعلم صحته لا يجوز اتباعه، وإن لم يعلم بطلانه فكيف بما علم بطلانه؟! روي أن حمية بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس لما سمعت بإسلام ولدها سعد بن أبي وقاص الزهري، وهو من السابقين إلى الإسلام قالت له: يا سعد بلغني إنك قد صبأت فو الله لا يظلني سقف بيت من الضح والريح، وإن الطعام والشراب علي حرام حتى تكفر بمحمد، فأبى سعد وكان أحب أولادها إليها ولبثت هي ثلاثة أيام لا تنتقل من الضح، ولا تأكل، ولا تشرب حتى غشي عليها وقال لها: والله لو كان لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما كفرت بمحمد عليه السلام! فإن شئت فكلي، وإن شئت فلا تأكلي فلما رأت ذلك أكلت، ثم جاء سعد إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأخبره بما كان من أمرها
فأنزل الله تعالى: وَإِنْ جاهَداكَ الآية. إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ أي عاقبتكم إلى، وإن كان اليوم مجالستكم بالآباء والأولاد والأقارب. فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) فلا تظنوا أني غائب عنكم وآباؤكم حاضرون، فتوافقون الحاضرين في الحال فإني حاضر معكم أعلم ما تفعلون، ولا أنسى فأنبئكم بجميعه فأجازيكم عليه إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) أي لنجعلهم في عداد المجردين الذين لا فساد لهم وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ أي في دين الله جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ مع ضعفها وانقطاعها كَعَذابِ اللَّهِ الأليم الدائم في الآخرة حتى كفر. نزلت هذه الآية في المنافقين- كعياش بن أبي ربيعة المخزومي- فإنهم قالوا للمؤمنين: إيماننا كإيمانكم فإذا همّ الكفار بالضرب بالسياط جعلوا ذلك الأذى صارفا لهم عن الإيمان كما أن عذاب الله في النار دائما(2/211)
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
صارف للمؤمنين عن الكفر وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ وهو فتح مكة وغنيمتها لَيَقُولُنَّ أي عياش وأصحابه، إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أي في الإيمان وإنما أكرهنا حتى قلنا ما قلنا فأشركونا في الغنيمة، لأننا على دينكم قال تعالى تكذيبا لهم في قولهم: أنا على دينكم. أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) من الإخلاص في الإيمان والنفاق فيه، ثم أسلم عياش وأصحابه بعد ذلك وحسن إسلامهم
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بالإخلاص، فثبتوا على الإسلام عند البلاء وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11) بترك الإيمان عند البلاء، أي ليجزينهم بما لهم من الإيمان والنفاق.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا- وهو الوليد ابن المغيرة، وأبو جهل وأصحابهما- لِلَّذِينَ آمَنُوا- كعلي وسلمان وأصحابهما-: اتَّبِعُوا سَبِيلَنا أي ديننا في عبادة الأوثان وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ أي ذنوبكم عنكم يوم القيامة.
وقرأ الحسن وعيسى بكسر لام الأمر، وهو لغة الحجاز وليس هذا أمرا في الحقيقة وردّ الله عليهم بقوله: وَما هُمْ أي الكفار بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ أي من ذنوب المؤمنين مِنْ شَيْءٍ يوم القيامة إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) في مقالتهم وَلَيَحْمِلُنَّ أي الكفرة أَثْقالَهُمْ أي أوزار ما اقترفته أنفسهم كاملة، وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ أي وأوزار الذين يضلونهم مع أوزارهم، وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13) في قولهم ولنحمل خطاياكم فإنه صادر من اعتقادهم أن لا خطيئة في الكفر، ومن اعتقادهم أن لا حشر، ويقال لهم: أما قلتم أن لا حشر؟
ويقال لهم: احملوا خطاياهم فلا يحملون فيسألون. ويقال لهم: لم افتريتم؟ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً يدعوهم إلى التوحيد فلم يجيبوه.
قال ابن عباس: كما عمر نوح عليه السلام ألفا وخمسين سنة بعث على رأس أربعين سنة، ولبث في قومه تسعمائة وخمسين سنة، وعاش بعد الطوفان ستين سنة فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ أي الماء الكثير المحيط بهم والمرتفع على أعلى جبل أربعين ذراعا، وَهُمْ ظالِمُونَ (14) أي والحال أنهم مصرون على كفرهم. فَأَنْجَيْناهُ أي نوحا وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ أي ومن ركب في السفينة معه عليه السلام، من أولاده وأتباعه- وكانوا ثمانين- وَجَعَلْناها أي السفينة آيَةً لِلْعالَمِينَ (15) أي علامة دالة على قدرة الله
تعالى وعلمه، ووحدته ليتعظوا بها وذلك أن السفينة اتخذت قبل ظهور الماء ولولا إعلام الله نوحا بذلك لما اشتغل بها، فلا تحصل لهم النجاة، وأن الله أمر نوحا بأخذ قوم معه وأقواتهم، ثم إن الماء غيض قبل نفاد الزاد، ولولا ذلك لما حصل لهم النجاة.
قال أبو السعود: عاش نوح بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة فكان عمره ألفا ومائتين وأربعين سنة وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أي وأرسلناه حين تكامل عقله وترقى من رتبة الكمال إلى درجة التكميل حيث تصدى لإرشاد الخلق إلى طريق الحق اعْبُدُوا اللَّهَ وحده وَاتَّقُوهُ أن(2/212)
تشركوا به شيئا فقوله: اعْبُدُوا اللَّهَ إشارة إلى إثبات الإله الواحد. وقوله: وَاتَّقُوهُ إشارة إلى نفي عيره وأيضا ف «اعبدوا الله» إشارة إلى الإتيان بالواجبات فيدخل فيه الاعتراف بالله، واتقوه إشارة إلى الامتناع عن المحرمات، فيدخل فيه الامتناع من الشرك ذلِكُمْ أي عبادة الله وتقواه خَيْرٌ لَكُمْ عقلا واعتبارا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) الدلائل والاعتبارات، فإن ضد عبادة الله تعطيل، وضد تقواه تشريك، وكلاهما شر عقلا واعتبارا أما عقلا: فلأن الممكن لا بد له من مؤثر واجب الوجود، ثم إن شريك الواجب إن لم يكن واجب الوجود فكيف يكون شريكا، وإن كان كذلك لزم وجود واجبين فيشتركان في الوجوب ويختلفان في الإلهية، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز، فيلزم التركيب فيهما فلا يكونان واجبين لكونهما مركبين، فيلزم التعطيل. وأما اعتبارا: فلأن الشرف إما أن يكون ملكا أو قريب ملك، فالإنسان لا يكون ملكا للسموات والأرضين، فأعلى درجاته أن يكون قريب الملك فلا يكون قربه إلا بعبادة، فالمعطل لا ملك ولا قريب ملك لعدم اعتباره بوجود ملك فلا مرتبة له أصلا، ثم من يكون سيده لا نظير له يكون أعلا رتبة ممن يكون لسيده شركاء خسيسة، فإن من يقول: إن ربي لا يماثله شيء أعلى مرتبة ممن يقول: سيدي صنم منحوت. فثبت أن عبادة الله وتقواه خير للناس. إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً أي أحجارا لا تستحق العبادة. وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً أي وتكذبون كذبا حيث تسمونها آلهة، وتدعون أنها شفعاؤكم.
وقرئ «تخلقون» بتشديد اللام للتكثير في الخلق الذي بمعنى الكذب. وقرئ «تخلقون» بحذف إحدى التاءين من «تخلق» بمعنى: تكذب. وذكر سيدنا إبراهيم بطلان مذهبهم بأبلغ الوجوه، وذلك لأن المعبود إنما يعبد لأحد أمور أربعة:
إما لكونه مستحقا للعبادة بذاته كالعبد يخدم سيده الذي اشتراه.
وإما لكونه نافعا في الحال كمن يخدم غيره لخير يوصله إليه كالمستخدم بأجرة.
وإما لكونه نافعا في المستقبل كمن يخدم غيره راجيا منه أمرا في المستقبل.
وإما لكونه خائفا منه.
إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأوثان لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً أي لا يقدرون على أن يرزقوكم شيئا من الرزق، فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ أي فاطلبوا من الله تعالى كل الرزق وَاعْبُدُوهُ لكونه مستحقا للعبادة لذاته، وَاشْكُرُوا لَهُ لكونه سابق النعم بالخلق ومعطي النعم بالرزق إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) فيرجى الخير منه لا من غيره. وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ أي وإن تكذبوني فيما أخبرتكم به من أنكم إليه تعالى ترجعون بالبعث فلا تضرونني بتكذيبكم، فإن من قبلكم من الأمم قد كذبوا من قبلي من الرسل- وهم شيث، وإدريس، ونوح عليهم السلام- فلم يضرهم تكذيبهم شيئا. وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) ، أي إلا ذكر(2/213)
يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)
المسائل وإقامة البرهان عليه. أَوَلَمْ يَرَوْا أي ألم ينظر هؤلاء القوم ولم يعلموا علما جاريا مجرى الرؤية في الظهور؟ كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ أي يخلقهم، ولم يكونوا شيئا مذكورا، ويخلقهم من نطفة من غذاء هو ماء وتراب وهذا القدر كاف في حصول العلم بإمكان الإعادة، فإن الإعادة، مثل البدء ثُمَّ يُعِيدُهُ؟ أي الخلق كما بدأهم إِنَّ ذلِكَ أي الإعادة عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) إذ لا يفتقر فعله تعالى إلى شيء أصلا قُلْ يا إبراهيم لقومك: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي سيّروا فكركم في الأرض، وأجيلوا ذهنكم في الحوادث الخارجة عن أنفسكم، فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ أي فانظروا إلى الأشياء المخلوقة ليحصل لكم علم بأن الله بدأ خلقا، ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ بعد النشأة الأولى التي شاهدتموها إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) ، فإن من علم قدرته تعالى على جميع الأشياء لا يتصور أن يتردد في وقوع الإعادة بعد ما أخبر الله به،
يُعَذِّبُ بعد النشأة الآخرة مَنْ يَشاءُ أن يعذبه وهم المنكرون لها، وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ أن يرحمه وهم المصدقون بها وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) ، أي فإن تأخر عنكم ذلك فلا تظنوا أنه فات إليه تعالى إيابكم وعليه حسابكم، وعنده يدخر ثوابكم وعقابكم، وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ بممتنعين منه تعالى أي لو صعدتم إلى محل السماك في السماء أو هبطتم إلى موضع السموك في الماء لا تخرجون من قبضة قدرة الله.
وهذا خطاب لقوم فيهم النمروذ الذي حاول الصعود إلى السماء وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ أي قريب ينفعكم، وَلا نَصِيرٍ (22) أي مانع يمنعكم من عذاب الله وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أي بدلائله التكوينية والتنزيلية الدالة على ذاته، وصفاته، وأفعاله وَلِقائِهِ أي بالبعث بعد الموت، أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23) . وذلك لأن الله تعالى في كل شيء آية دالة على وحدانيته، فإذا أشرك أحد كفر بآيات الله، وإذا أنكر الحشر كفر بلقاء الله وأخرج نفسه عن محل رحمة الله، وإذا جعل له آلهة لم يقر بالحاجة إلى طريق متعين فييأس من رحمة الله، ولما أنكر الحشر وقال: لا عذاب عذبه الله تحقيقا للأمر عليه فعدم الرحمة يناسب الإشراك، والعذاب الأليم يناسب إنكار الحشر فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ، أي قال بعضهم لبعض: لا تجيبوا إبراهيم عن براهينه الدالة على التوحيد والنبوة والحشر، واقتلوه بسيف أو نحوه فتستريحوا منه عاجلا، أو حرقوه بالنار، فإما أن يرجع إلى دينكم إذا أوجعته النار، وإما أن يموت بها إذا أصرّ على دينه، فقذفوه في النار فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ أي بجعلها بردا.
روي أنه في ذلك اليوم لم ينتفع أحد بنار إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) أي في إنجاء الله تعالى إبراهيم من النار لعبرات لقوم يصدقون بقدرة الله، فإن الله حفظ إبراهيم من حرها، وجعلها خامدة في زمان يسير فلا تؤذيه، ولكن أحرقت وثاقه، وأنشأ في وسطها بستانا. وَقالَ(2/214)
إبراهيم بعد إنجائه من النار إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي برفع «مودة» غير منونة، وجر «بينكم» ، ونافع وابن عامر وأبو بكر بنصب «مودة» منونة ونصب «بينكم» ، وحمزة وحفص بنصب «مودة» غير منونة، وجر «بينكم» . ونقل عن عاصم أنه رفع «مودة» غير منونة، ونصب «بينكم» لإضافته إلى المبني فالرفع خبر «إن» أي إنّ الذين اتخذتموهم أوثانا صلة بينكم، والنصب مفعول له، وخبر «إن» محذوف أي إن الذين اتخذتموه أوثانا معبودة لكم لأجل المودة لا ينفعونكم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا. والمعنى: إن اتخاذكم أصناما مودة بينكم ليس إلا في الحياة الدنيا، وقد أجريتم أحكامه حيث فعلتم لي ما فعلتم لأجل مودتكم له انتصارا مني، أي لما خرج إبراهيم من النار عاد إلى عذل الكفار، وقال: إذا بينت لكم فساد مذهبكم وما كان لكم جواب فليس هذا إلا تقليدا، فإن بين بعضكم محبة طبيعية فلا يريد أحدكم أن يفارقه صاحبه في الأحوال، وبينكم وبين آبائكم صلة فورثتموهم، وأخذتم مقالتهم، ولزمتم ضلالتهم. ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ فيقول العابد: ما هذا معبودي! ويقول المعبود: ما هؤلاء عبدتي! وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فيقول المعبود لذاك: أنت أوقعتني في العذاب حيث عبدتني ويقول العابد:
لهذا أنت أوقعتني فيه حيث أضللتني بعبادتك ويريد كل واحد أن يبعد صاحبه باللعن ولا يتباعدون، بل هم مجتمعون في النار كما هم مجتمعون في هذه الدار كما قال تعالى: وَمَأْواكُمُ النَّارُ أي هي منزلكم فلا ترجعون منه أبدا وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25) يخلصونكم من تلك النار، كما خلصني ربي من النار التي ألقيتموني فيها. فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ أي صدقه لوط في جميع مقالاته فقال لإبراهيم: صدقت يا إبراهيم- ولوط هو ابن أخيه هاران- وَقالَ إبراهيم:
إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي أي إني خارج من قومي إلى مكان أمرني ربي بالتوجه إليه.
روي أنه هاجر من كوثي سواد الكوفة مع لوط وسارة ابنة عمه إلى حران، ثم منها إلى الشام، فنزل فلسطين، ونزل لوط سذوم. وكان عمر إبراهيم إذ ذاك خمسا وسبعين سنة. إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) فيمنع أعدائي عن إيذائي ولا يأمرني إلا بما فيه صلاحي. وَوَهَبْنا لَهُ بعد إسماعيل بأربع عشرة سنة إِسْحاقَ من عجوز عاقر، وَيَعْقُوبَ نافلة، وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ أي ذرية إبراهيم النُّبُوَّةَ فكل الأنبياء بعده من ذريته، وَالْكِتابَ، فلم ينزل بعده كتاب إلا على أولاده، وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ على هجرته فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) . فإن الله بدل جميع أحواله في الدنيا بأضدادها فبدل وحدته في النار بكثرة ذريته حتى ملأت الدنيا، وبدل أقاربه الضالين المضلين بأقارب مهتدين هادين، وبدل ذلته وخموله بالجاه، وكثرة المال حتى قيل: إنه كان له اثنا عشر ألف كلب حارس بأطواق ذهب، وكانت الصلاة عليه مقرونة بالصلاة على سائر الأنبياء إلى يوم القيامة، فصار معروفا بشيخ المرسلين،(2/215)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
وكان في الآخرة باقيا على ما ينبغي، وَلُوطاً أي وأرسلنا لوطا إلى قومه إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أي اللواطة، ما سَبَقَكُمْ بِها أي بتلك الفاحشة مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) كلهم من الإنس والجن، أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ أي أدبار الرجال، وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ أي سبيل الولد بالإعراض عن الحرث وإتيان ما ليس بحرث- ويقال: وتقطعون على من مر بكم من الغرباء- وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ! أي وتعملون في مجلسكم الجامع لأصحابكم المنكر: كالجماع، والضراط، وحل الإزار، والحذف بالبندق، ومضغ العلك والفرقعة.
قيل: إنهم كانوا يجلسون في مجالسهم وعند كل رجل منهم قصعة فيها حصى فإذا مر بهم عابر سبيل حذفوه فأيهم أصابه كان يأخذ ما معه ويلوطه، ويغرمه ثلاثة دراهم قاض بذلك. فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) في قولك:
بمجيء عذاب الله علينا إن لم نؤمن، أي إن لوطا كان مداوما على إرشاد قومه فقالوا أولا استهزاء: ائتنا بعذاب الله. ثم لمّا كثر منه ذلك ولم يسكت عن فعلهم قالوا: أخرجوا آل لوط من قريتكم. ثم إن لوطا لما يئس منهم طلب النصرة من الله قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) أي بإنزال العذاب على هؤلاء المفسدين- وهم الذين ابتدعوا الفاحشة وأصروها، واستعجلوا العذاب بطريق الاستهزاء-
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى أي لما جاء جبريل ومن معه من الملائكة إلى إبراهيم بالبشارة بالولد والنافلة قالُوا لإبراهيم: إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ- أي قرية سذوم- إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) بإصرارهم على أنواع المعاصي. قالَ إبراهيم: إِنَّ فِيها أي في تلك القرى لُوطاً فكيف تهلكونها؟
قالُوا أي الرسل من الملائكة: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها أي من لوط وغيره لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ ابنتيه زاعورا ورينا إِلَّا امْرَأَتَهُ المنافقة واعلة «1» كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32) أي من المنغمسين في العذاب بسبب أن للدال على الشر نصيبا كفاعله، وهي كانت تدل القوم على أضياف لوط وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ أي جاءه ما أحزنه بمجيئهم على صورة البشر بأحسن صورة خلق الله فخاف عليهم من قومه، وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً أي ضاق بتدبير أمرهم طاقته، وعجز عن مدافعة قومه، وَقالُوا للوط: لا تَخَفْ علينا وَلا تَحْزَنْ لأجلنا فإنا ملائكة، إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ مما يصيبهم من العذاب. ونصب «أهلك» معطوف على محل الكاف إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) أي من الباقين في الهلاك ومن الرائحين الماضي ذكرهم، إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ هي سذوم رِجْزاً أي عذابا مزعجا مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) أي بسبب فسقهم المستمر.
__________
(1) رواه ابن كثير في البداية والنهاية (2: 133) .(2/216)
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)
وقرأ ابن عامر بفتح النون وتشديد الزاي وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها أي القرية آيَةً بَيِّنَةً أي علامة ظاهرة لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وهي آثار ديارهم الخربة وظهور الماء الأسود على وجه الأرض، وهي بين القدس والكرك، وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً أي وأرسلنا إلى مدين نبيهم شعيبا. فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ أي اعملوا لليوم الآخر وإنما قال شعيب بلفظ الرجاء، لأن عبادة الله يرجى منها الخير في الدارين، وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) أي لا تعملوا المعاصي في الأرض. ويمكن أن يقال نصب «مفسدين» على المصدر كما يقال: قم قائما، أي قياما فَكَذَّبُوهُ فيما أخبرهم به، لأن شعيبا كأنه قال: الله واحدا فاعبدوه، والحشر كائن فارجوه، والفساد محرم فلا تقربوه. وهذه الأشياء فيها إخبارات. فالتكذيب راجع إلى الإخبارات الضمنية. فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي التي ترجف الأرض والأفئدة إذ قيل: إن جبريل صاح فتزلزلت الأرض من صيحته ورجفت قلوبهم منها، فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) أي فصاروا في مجمعهم ميتين لا يتحركون، وَعاداً وَثَمُودَ أي وأهلكنا قوم هود وقوم صالح. وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ أي وقد ظهر لكم يا أهل مكة إهلاكنا إياهم من جهة منازلهم الكائنة في الحجر واليمن إذا نظرتم إليها عند مروركم عليها. وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ أي عبادتهم غير الله فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ أي عن عبادة الله، وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) أي عاقلين، ألبّاء، صحيحي النظر. وَقارُونَ أي وأهلكناه- وهو ابن عم موسى- وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ- وزير فرعون- وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ، أي بالحجج الظاهرات، فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ عن الإيمان بالآيات، وعن عبادة الله وَما كانُوا سابِقِينَ (39) أي فارين من عذاب الله، فَكُلًّا أي كل واحد من المذكورين أَخَذْنا بِذَنْبِهِ، أي عاقبناه بسبب ذنبه، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً أي حجارة محمّاة يقع على واحد منهم وينفذ من الجانب الآخر- وهم قوم لوط وعاد- وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ هو هواء متموج، فإن الصوت سببه وصول الهواء المتموج إلى الصماخ- وهم قوم شعيب وصالح- وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ أي غمرناه في التراب- وهو قارون ومن معه- وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا بالماء- وهم قوم نوح وفرعون وقومه- فحصل العذاب بالعناصر الأربعة: النار والريح والتراب والماء. والإنسان مركب منها وبسببها بقاؤه فإذا أراد الله هلاك الإنسان جعل ما منه وجوده سببا لعدمه وما به بقاؤه سببا لفنائه، وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ بالهلاك وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) ، بالإشراك، أي وما كان الله يضعهم في غير موضعهم فإن موضعهم الكرامة لكنهم ظلموا أنفسهم حيث وضعوها مع شرفهم في عبادة الوثن مع خسته،
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ فإن أدنى مراتب البيت أن لا يصير سبب افتراق، فبيت العنكبوت: يصير سبب(2/217)
انزعاج العنكبوت، فإنه إذا داوم في زاوية لا يخرج منها، فإذا نسج على نفسه بيتا يتبعه صاحب الملك بتنظيف البيت منه، ويمسحه بالمسوح الخشنة المؤذية لجسم العنكبوت، فكذلك العابد ينبغي أن يستحق الثواب بسبب العبادة أو لا يستحق العذاب به، والكافر يستحق العذاب بسبب عبادته، وأن بيت العنكبوت إذا هبت ريح لا يرى منه عين ولا أثر بل يصير هباء منثورا، فكذلك أعمالهم للأوثان. وهذا إشارة إلى إبطال الشرك الخفي أيضا فإن من عبد الله رياء فقد اتخذ وليا غير الله فمثله مثل العنكبوت تتخذ نسجها بيتا فلا يقيها من حر ولا برد، لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) شيئا من الأشياء لجزموا أن مثلهم كمثل العنكبوت وأن أضعف ما يعتمد به في الدين دينهم. إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ أي إن الله يعلم الذين يعبدونهم من غير الله من شيء: صنم، أو إنسي، أو جني، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) أي وهو قادر على إهلاكهم لكنه حكيم يمهلهم ليكون الهلاك عن بينة.
تذكيرا للناس وحملا لهم على العمل بما فيه من الأحكام، ومحاسن الآداب، ومكارم الأخلاق. وَأَقِمِ الصَّلاةَ أي دوام على إقامتها إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ، أي تنهى عن التعطيل والإشراك، فالتعطيل هو إنكار وجود الله والإشراك إثبات ألوهية لغير الله. فالعبد أول ما يشرع في الصلاة يقول: الله أكبر.
فبقوله: الله، ينفي التعطيل. وبقوله: أكبر، ينفي التشريك. لأن الشرك لا يكون أكبر من الشريك الآخر فيما فيه الاشتراك فإذا قال: بِسْمِ اللَّهِ [الفاتحة: 1] ، نفى التعطيل، وإذا قال: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة: 1] ، لأن الحرمن من يعطي الوجود بالخلق، والرحيم من يعطي البقاء بالرزق، فإذا قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ [الفاتحة: 2] أثبت خلاف التعطيل، وإذا قال: رب العالمين أثبت خلاف الإشراك، فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة: 5] نفى التعطيل والإشراك، وكذا إذا قال:
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] وإذا قال: اهْدِنَا الصِّراطَ [الفاتحة: 6] نفى التعطيل لأن طالب الصراط له مقصد، والمعطل لا مقصد له. وإذا قال: الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] نفى التعطيل لأن طالب المستقيم هو الأقرب، والمشرك يعبد الأصنام، ويظنون أنهم يشفعون لهم وعبادة الله من غير واسطة أقرب وعلى هذا إلى آخر الصلاة، فإذا قال فيها: أشهد أن لا إله إلا الله فقد نفى الإشراك، والتعطيل. ومعنى نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر أنها سبب للانتهاء عنهما، لأنها مناجاة الله(2/218)
تعالى فلا بد أن تكون مع إقبال تام على طاعته وإعراض كلي عن معاصيه. وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ أي ذكر الله إياكم بالمغفرة والثواب أكبر من ذكركم إياه بالصلاة. وقيل: ذكركم الله بسائر أنواعه أفضل من الطاعات التي ليس فيها ذكر الله. وقيل: المراد بالذكر نفس الصلاة أي وللصلاة أكبر من سائر الطاعات وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45) من الذكر ومن سائر الطاعات فيجازيكم به أحسن المجازاة، وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ أي ولا تخاصموا اليهود والنصارى إلا بالأحسن أي بعدم استخفاف آرائهم، وبعدم نسبة آبائهم إلى الضلال لأنهم جاءوا بكل حسن غير الاعتراف بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، فإنهم آمنوا بإنزال بالكتب وإرسال الرسل، وبالحشر، ففي مقابلة إحسانهم يجادلون بالأحسن إلا الذين أشركوا منهم بإثبات الولد لله وبالقول بثالث ثلاثة، فتجادلون بالأخشن من تهجين مقالتهم وتبيين جهالتهم كالمشرك الذي جاء بالمنكر من غيرهم. فاللائق أن يجادل بالأخشن ويبالغ في تهجين مذهبه وتوهين شبهه.
وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا من القرآن وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ من التوراة والإنجيل.
روي أنه كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول صلّى الله عليه وسلّم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا: آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ الآية»
«1»
وفي رواية: «وقولوا: آمنا بالله وبكتبه وبرسله. فإن قالوا باطلا لم تصدقوهم وإن قالوا حقا لم تكذبوهم»
«2» . وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ لا شريك له في الألوهية، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) أي مطيعون لا لغيره وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ أي كما أنزلنا سائر الكتب على من تقدمك أنزلنا عليك القرآن فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وهم الأنبياء يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بالقرآن، وَمِنْ هؤُلاءِ أي من أهل الكتاب- كعبد الله بن سلام وأصحابه- مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ أي بالقرآن وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا أي بالقرآن الذي ظهرت دلالته على المعاني، وعلى كونه من عند الله تعالى إِلَّا الْكافِرُونَ (47) - ككعب بن الأشرف وأصحابه، وأبي جهل وأصحابه- وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ أي وما كنت يا أشرف الخلق تقرأ كتابا قبل إنزالنا القرآن إليك، ولا تكتب الكتاب بيدك. والأصح أنه صلّى الله عليه وسلّم كان لا يحسن الخط والشعر، ولكن كان يميز بين جيد الشعر ورديئه، إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) أي لو كنت قارئا أو كاتبا لشك اليهود والنصارى، لأن في كتابهم أنك أمي لا تقرأ ولا تكتب. بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي بل القرآن آيات واضحات ثابتة في قلوب الذين أعطوا العلم بالقرآن،
__________
(1) رواه السيوطي في الدر المنثور (5: 151) ، والسيوطي في جمع الجوامع (10307) .
(2) رواه ابن حبان في المجروحين (1: 33) ، وابن عدي في الكامل في الضعفاء (3:
1133) .(2/219)
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
فليس مما يشك فيه لكونه محفوظا من غير أن يلتقط من كتاب بحيث لا يقدر على تحريفه بخلاف غيره من الكتب، فإنه لا يقرأ إلا في المصاحف. والمعنى: إن المؤمنين يقرءون القرآن بالحفظ عن قلب تلقيا منك، وبعضهم من بعض وأنت تلقيته عن جبريل عن اللوح المحفوظ، فلم تأخذه من كتاب بطريق تلقيه منه. وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) أي المتجاوزون للحدود في الشر من اليهود والنصارى، والمشركين. وَقالُوا أي الظالمون: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ أي هلا أنزل على محمد آيات، مثل ناقة صالح، وعصا موسى، ومائدة عيسى عليهم السلام.
وقرأ نافع وأبو عمر، وابن عامر، وحفص «آيات» بالجمع. والباقون بالإفراد قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ ينزلها أو لا ينزلها فلا تتعلق بي وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أي لست إلا رسولا مخوفا لأهل المعصية بالنار بلغة تعلمونها، وليس لي عليه تعالى حكم بشيء
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ الدال على نبوتك يُتْلى عَلَيْهِمْ في كل زمان ومكان، فهو معجزة ظاهرة باقية أتم من كل معجزة، وقد وصل إلى المشرق والمغرب، وسمعه كل أحد بخلاف قلب العصا ثعبانا فإنه لم يبق لنا منه أثر، ولم يره من لم يكن في ذلك المكان إِنَّ فِي ذلِكَ أي الكتاب، لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) أي فإن الكتاب رحمة على العباد ليعلموا بها الصادق، فإن إظهار المعجزة على يد الصادق رحمة من الله فلو لم يظهر الكتاب لبقي الخلق في ورطة تكذيب الصادق، أو تصديق الكاذب، لأنه لو لم تكن هذه المعجزة لزم أن لا يتميز النبي عن المتنبي وبهذا الكتاب يتذكر كل من يكون من المؤمنين ما بقي الزمان قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً بأني رسلوه.
روي أن كعب بن الأشرف وغيره، قالوا: يا محمد من يشهد لك أنك رسول الله. فنزلت هذه الآية. يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الأمور التي منها شأني وشأنكم وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ، وهو ما سوى الله، وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52) لأنهم ضيعوا الأدلة السمعية الموجبة للإيمان. وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ على طريقة الاستهزاء بقولهم: متى هذا الوعد؟ ونحو ذلك. نزلت هذه الآية في النضر بن الحرث حين قال: فأمطر علينا حجارة من السماء إن كنت من الصادقين. وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لوقت عذابهم لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وقت استعجالهم وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً فإتيان العذاب بغتة حكمة، لأنه لو كان وقته معلوما عندهم لكان كل أحد يعتمد على علمه بوقته فيفجر معتمدا على التوبة قبل الموت، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) بإتيانه، ويظنون أنه لا يأتيهم أصلا. يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) ، أي يستعجلونك بالعذاب في الدنيا، والحال أن العذاب سيحيط بهم يوم يأتيهم، يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ أي يوم يلحقهم العذاب من جميع جهاتهم، فنار جهنم تنزل من فوق(2/220)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
ولا تنطفئ بالدوس عليها بوضع القدم وَيَقُولُ- قرأ نافع والكوفيون بالياء- أي الله تعالى أو بعض ملائكته بأمره، والباقون بالنون: ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) أي ذوقوا جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا. قال تعالى: يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
(56) أي إن تعذرت العبادة عليكم في بعض الأرض فهاجروا ولا تتركوا عبادتي بحال.
وقرأ بفتح الياء ابن عامر والباقون بتسكينها، كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) أي كل نفس من النفوس واجدة مرارة الموت، فراجعة إلى حكمنا وجزائنا بحسب أعمالها لما أمر الله تعالى المؤمنين بالمهاجرة صعب عليهم ترك الأوطان ومفارقة الأخوان فقال لهم: إن ما تكرهون لا بد من وقوعه، فإن كل نفس ذائقة مشاق
الموت، والموت مفرق الأحباب، فالأولى أن يكون ذلك في سبيل الله، فيجازيكم عليه، فلا تخافوا من بعد الوطن، أو المعنى: إذا تعلقتم بي فموتكم رجوع إلي وليس بموت كما
قال صلّى الله عليه وسلّم: «المؤمنون لا يموتون بل ينقلون من دار إلى دار»
. وقرأ أبو بكر بالياء التحتية وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الطاعات لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً أي لننزلنهم بيوتا عالية من الجنة.
وقرأ حمزة والكسائي «لنثوينهم» بالمثلثة، أي لنقيمنهم في علال من الجنة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي ففي موضع الأنهار بساتين كبار، وزروع، ورياض، وأزهار فيشرفون عليها من تلك العلالي. خالِدِينَ فِيها أي في الغرف نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) أي نعم أجر العاملين الأعمال الصالحة، هذا الأجر الَّذِينَ صَبَرُوا على شدائد المهاجرة، وعلى أمر الله والمرازي وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) أي الذين لم يتوكلوا فيما يأتون ويذرون إلا على الله تعالى وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا أي وكثيرا من الدواب لا تطيق حمل رزقها لضعفها، ولا تدخر شيئا لساعة أخرى.
روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما أمر المؤمنين الذين كانوا بمكة بالمهاجرة إلى المدينة قالوا: كيف نقدم بلدة ليس لنا فيها معيشة؟ فنزلت هذه الآية اللَّهُ يَرْزُقُها أي الدابة على ضعفها، وهي لا تدخر وَإِيَّاكُمْ مع قوتكم، لأن رزق الكل بأسباب هو تعالى وحده المسبب لها فلا تخافوا الفقر بالمهاجرة وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) فيسمع قولكم هذا، ويعلم ضمائركم وحاجتكم، ويسمع إذا طلبتم الرزق، ويعلم مقدار حاجتكم إذا سكتم،
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي أهل مكة مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ على هذا النظام وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لإصلاح الأقوات، ومعرفة الأوقات وغير ذلك من المنافع؟ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ إذ لا سبيل لهم إلى إنكار ذلك فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) أي فكيف يصرفون عن الإقرار بتفرده تعالى في الإلهية مع إقرارهم بتفرده تعالى في الخلق والتسخير. اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ أي الله يوسع المال ويقتر على من يشاء في أي وقت يوافق الحكمة، فيفعل كلا من البسط والتضييق في وقته ومحله. إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62)(2/221)
فيعلم مقادير الأرزاق ومقادير الحاجات، ألا ترى أن الملوك يفاوتون في الرزق بين عمالهم بحسب ما يعلمون بأحوالهم فما ظنك بملك الملوك العالم بكل شيء. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي كفار مكة مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها، أي يبوستها؟ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ معترفين بأنه تعالى الموجد للممكنات بأسرها، ثم إنهم يشركون به تعالى بعض مخلوقاته قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على أن أظهر حجتك عليهم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63) شيئا من الأشياء فلذلك لا يعلمون بمقتضى قولهم، هذا فيشركون به تعالى أخس مخلوقاته ولا يعرفون فساد هذا التناقض، وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ أي إن الدنيا سريعة الزوال، فالاشتغال بلذاتها كاشتغال الصبيان بلهوهم وعبثهم، فإنهم يجتمعون عليه، ويفرحون به ساعة، ثم يتفرقون عنه، فالإعراض عن الحق لهو، والإقبال على الباطل لعب. وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ أي إن الحياة الثانية لهي الحياة الدائمة التي لا موت فيها لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) أن الحياة المعتبرة هي حياة الآخرة لما آثروا عليها الدنيا فَإِذا رَكِبُوا أي كفار مكة فِي الْفُلْكِ في البحر ولقوا شدة دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ صورة حيث لا يدعون غير الله تعالى بالنجاة، وألقوا الأصنام التي حملوها معهم في البحر وقالوا: يا رب، لعلمهم بأنه لا يكشف الشدائد عنهم إلا الله تعالى فَلَمَّا نَجَّاهُمْ من البحر إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) أي عادوا إلى ما كانوا عليه من حب الدّنيا وأشركوا بالله الأوثان لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ من عرض الدنيا وَلِيَتَمَتَّعُوا أي وليتلذذوا بمتاع الدنيا.
وقرأ ورش، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم بكسر اللام وهي إما لام العاقبة والمال، وإما لام الأمر على سبيل التهديد. والباقون بالتسكين فهي لام الأمر فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) فساد عملهم حين يرون العذاب أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) ، أي ألم ينظر كفار مكة ولم يشاهدوا أنا جعلنا بلدهم مكة حرما مصونا من النهب. والحال أنه يختلس من حولهم قتلا وسبيا مع كون أهل مكة قليلين قارين في مكان، غير ذي زرع أبعد ظهور الحق بالباطل خاصة من الأديان يصدقون! وبنعمة الله التي أعطاهموها يكفرون! والمعنى: إنكم يا أهل مكة في أخوف ما كنتم دعوتم الله تعالى، وفي آمن ما حصلتهم عليه كفرتم بالله وهذا متناقض، لأن دعائكم في وقت الخوف على سبيل الإخلاص لم يكن إلا لقطعكم بأن النعمة من الله لا غير، وقد اعترفتم بأن تلك النعمة العظيمة من الله، كيف تكفرون بها وقد قطعتم في حال الخوف إنه لا أمن من الأصنام حيث ألقيتموها في البحر كيف آمنتم بها في حال الأمن؟ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ فالله تعالى لا يمكن أن يكون له شريك فمن جعل الشريك لملك مستقل في الملك كان ظالما يستحق العقاب منه، فكيف إذا جعل الشريك لمن لا يمكن أن يكون له شريك؟ ومن كذب صادقا يجوز عليه الكذب كان(2/222)
ظالما، فكيف من كذب صادقا لا يجوز عليه الكذب؟ فإذا ليس أحد أظلم ممن يكذب على الله بالشرك، ويكذب الله في تصديقه نبيه صلّى الله عليه وسلّم، ويكذب النبي في رسالة ربه، ويكذب القرآن المنزّل من الله إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم، أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) أي ألا يستحقون الإقامة في جهنم، وقد فعلوا افتراء على الله تعالى، وتكذيبا بالحق الصريح أو يقال: ألم يعلموا أن في جهنم منزلا للكافرين حتى اجترءوا هذه الجراءة وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا، أي والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينّهم سبل ثوابنا. ويقال: والذين نظروا في دلائلنا لنحصل فيهم العلم بنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) أي لمعينهم في القول والفعل بالتوفيق والعصمة.
وهذا إشارة إلى درجة أعلى من الاستدلال كأن الله تعالى يقول: من الناس من يكون بعيدا لا يتقرب- وهم الكفار- ومنهم من يتقرب بالنظر والسلوك فيهديهم الله تعالى ويقربهم، ومنهم من يكون الله معه ويكون قريبا منه تعالى يعلم الأشياء منه تعالى ولا يعلمه من الأشياء فقوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ إشارة إلى الأول. وقوله: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا إشارة إلى الثاني.
وقوله: وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ إشارة إلى الثالث.(2/223)
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)
سورة الروم
مكية، ستون آية، ثمانمائة وثماني عشرة كلمة، ثلاثة آلاف وخمسمائة وأربعة وثلاثون حرفا
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ أي في أقرب أرض العرب منهم- وهي أطراف الشام- فالروم: اسم قبيلة وسميت باسم جدها، وهو روم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم، وسمي عيصو: لأنه كان مع يعقوب في بطن فعند خروجهما تزاحما، وأراد كل أن يخرج قبل أخيه فقال عيصو ليعقوب: إن لم أخرج قبلك خرجت من جنب أمي فتأخر يعقوب شفقة لها، فلذا كان أبا الأنبياء، وعيصو أبا الجبارين. وَهُمْ أي الروم مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ أي من بعد مغلوبهم سَيَغْلِبُونَ (3) فارس فِي بِضْعِ سِنِينَ،
وسبب نزول هذه الآية أنه كان بين فارس والروم قتال، وكان المشركون يودون أن تغلب فارس الروم، لأن فارس كانوا مجوسا أميين والمسلمون يودون غلبة الروم على فارس لكونهم أهل الكتاب، فبعث كسرى جيشا إلى الروم، واستعمل عليهم رجلا يقال له: شهريار، وجعل قيصر جيشا، واستعمل عليهم رجلا يدعى: بخنس فالتقيا بأذرعات وبصرى وهي أقرب الشام إلى أرض العرب، فغلبت فارس الروم، فبلغ ذلك المسلمين بمكة، فشق عليهم، وفرح به كفار مكة، وقالوا للمسلمين: إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب، ونحن أميون، وفارس أميون، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم. فنزلت هذه الآية، فخرج أبو بكر الصدّيق إلى كفار مكة، فقال: فرحتم بظهور إخوانكم فلا تفرحوا، فو الله لتظهرن الروم على فارس، أخبرنا بذلك نبينا صلّى الله عليه وسلّم. فقال له أبيّ بن خلف الجمحي: كذبت يا أبا فضيل. فقال له أبو بكر: أنت أكذب يا عدو الله. فقال له: اجعل بيننا أجلا أنا حبك عليه، فناحبه على عشر قلائص، وجعلا الأجل ثلاث سنين، فأخبر به أبو بكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «البضع ما بين
الثلاث إلى التسع» «1» . فزايده في الخطر ومادده في الأجل، فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين، ومات أبيّ من جرح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إياه في أحد بعد
__________
(1) رواه ابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (133) .(2/224)
رجوعه إلى مكة، ثم أقبل قيصر في خمسمائة ألف رومي إلى الفرس، وظهرت الروم على فارس عند رأس سبع سنين من مناحبتهم، ومات كسرى وذلك يوم الحديبية، فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبيّ، وجاء به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له: «تصدق به» - وكان ذلك قبل تحريم القمار- وهذه الآيات تدل على علم النبي صلّى الله عليه وسلّم بوقت الغلبة، لكن لم يأذن الله تعالى في إظهاره، لأن الكفار كانوا معاندين، فالمعاند يرجف بوقوع الواقعة قبل الوقوع ليحصل الخلف في الكلام، والوقت يمكن فيه الاختلاف.
وقرئ «غلبت» على البناء للفاعل و «سيغلبون» على البناء للمفعول. والمعنى: أن الروم غلبت على ريف الشام وسيغلبهم المسلمون وقد غزاهم المسلمون في السنة التاسعة من نزولها ففتحوا بعض بلادهم، لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ أي من قبل غلبة الروم على فارس ومن بعدها فكل من كون الروم مغلوبين أولا وغالبين آخرا، ليس إلا بأمر الله تعالى وقضائه. وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ أي ويوم إذ يغلب الروم على فارس يفرح المؤمنون بتغليب الله من له كتاب على من لا كتاب له، ويفرحون بغلبتهم المشركين ببدر.
قال السدي: فرح النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون بظهورهم على المشركين يوم بدر، وظهور أهل الكتاب على أهل الشرك. والجار والمجرور متعلق ب «يفرح» يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ أي ينصر من عباده على عدوه من ضعيف وقوي. وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) أي وهو تعالى المبالغ في الغلبة والمبالغ في الرحمة وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكد لنفسه، أي وعدهم الله بالنصر وبالفرج وعدا، لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ أيّ وعد كان مما يتعلق بالدنيا والآخرة لاستحالة الكذب عليه تعالى. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ أهل مكة لا يَعْلَمُونَ (6) وعده تعالى بنصرهم ووعد الله لا خلف فيه، يَعْلَمُونَ أي أكثرهم ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا من زخارفها وملاذها وسائر أحوالها الموافقة لشهواتهم، ولا يعلمون باطنها، وهي مضارها ومتاعبها وفناؤها، وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7) أي وهم جاهلون بأمر الآخرة تاركون لعملها ولا يعلمون أن الدنيا مجاز إلى الآخرة أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ! فلو تكفروا في أنفسهم لعلموا وحدانية الله، وصدقوا بالحشر. أما دلالة الإنسان على الوحدانية، فلأن الله خلقهم على أحسن تقويم ولنذكر من حسن خلقهم جزءا من ألف جزء، وهو أن الله تعالى خلق للإنسان معدة فيها غذاؤه لتقوى به أعضاؤه ولها منفذان أحدهما لدخول الطعام فيه. والآخر: لخروجه منه، فإذا دخل الطعام فيها انطبق المنفذ الآخر بعضه على بعض بحيث لا يخرج منه ذرة، وتمسكه الماسكة إلى أن ينضج نضجا صالحا، ثم يخرج من المنفذ الآخر، وخلق تحت المعدة عروقا دقاقا، صلابا كالمصفاة، فينزل منها الصافي إلى الكبد، وبنصب الثفل إلى الأمعاء ويكون مع الغذاء المتوجه من المعدة إلى الكبد فضل ماء مشروب ليرقق، وينذرف في العروق الدقاق المذكورة، وفي الكبد يستغنى عن ذلك الماء فيتميز(2/225)
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)
عنه ذلك الماء وينصب من جانب حدبة الكبد إلى الكلية، ومعه دم يسير تغتذي به الكلية وغيرها، ويخرج الدم الخالص من الكبد في عرق كبير، ثم يتشعب ذلك النهر إلى جداول، والجداول إلى سواق والسواقي إلى رواضع، ويصل فيها إلى جميع البدن فهذه حكمة واحدة في خلق الإنسان، وهذه كفاية معرفة كون الله فاعلا مختارا، قادرا عالما، ومن يكون كذلك يكون واحدا، وإلا لكان عاجزا عند إرادة شريكه ضد ما أراده، وأما دلالة الإنسان على الحشر فذلك لأنه إذا تفكر في نفسه يرى قواه صائرة إلى الزوال، وأجزاءه مائلة إلى الانحلال، فله فناء ضروري فلو لم يكن له حياة أخرى لكان خلقه تعالى على هذا الوجه للفناء عبثا، لأن من يفعل شيئا للعبث لو بالغ في إتقانه يضحك منه فإذا خلق الله الإنسان للبقاء ولا بقاء دون اللقاء فالآخرة لا بد منها. ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى أي ما خلقها عبثا بغير حكمة بالغة، وإنما خلقها مقرونة بالحق، مصحوبة بالحكمة الدالة على وجود صانعها، ووحدته، وقدرته، وعلمه بأجل معين قدره الله تعالى لبقائها إلى أن تنتهي إليه، وهو وقت قيام الساعة وقوله: إِلَّا بِالْحَقِّ إشارة إلى وجه دلالتها على الوحدانية. وقوله: وَأَجَلٍ مُسَمًّى إشارة إلى معاد الإنسان فإن مجازاته بما عمل من الإساءة والإحسان هو المقصود بالذات وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8) أي وإن كفار مكة لمنكرون بلقاء حسابه تعالى وجزائه بالبعث. أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي أقعد كفار مكة في أماكنهم ولم يسيروا في أقطار الأرض فيشاهدوا كيف كان جزاء الأمم الذين كذبوا رسلهم كعاد وثمود، كانُوا أي من قبلهم أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً في الجسم، وأقدر منهم على التمتع بالحياة وَأَثارُوا الْأَرْضَ أي قلبوها للزراعة والغرس أكثر مما حرث أهل مكة وَعَمَرُوها بفنون العمارات من الزراعة والغرس والبناء وغيرها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها أي أكثر مما عمر أهل مكة كما وكيفا وزمانا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالحجج الظاهرات وبالمعجزات فكذبوهم، فأهلكهم الله. فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ بإهلاكه إياهم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) بتكذيب الرسل ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «عاقبة» بالرفع على أنها اسم «كان» ، و «السوأى» خبرها، وهي جهنم، أي ثم كان آخر أمر الذين عملوا السيئات نار جهنم. وقرأ الباقون بنصب «عاقبة» على أنها خبر «كان» ، واسمها «السوأى» تأنيث الأسوأ، أو أن كذبوا أي ثم كان تكذيبهم واستهزاؤهم آخر أمر الذين أشركوا بالله وعملوا الفعلة السوأى، وهي اسم النار- كما تقدم- أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10) بدل من «السوأى» . وقيل: «كذبوا» إلخ تفسير ل «أساءوا»
اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ أي ينشئهم من النطفة، ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد الموت بالبعث ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) إلى موقف الحساب والجزاء. وقرأ أبو عمرو وشعبة بالياء على الغيبة. والباقون(2/226)
على الخطاب للمبالغة في الترهيب وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) أي وقت رجعهم إليه تعالى يسكت المشركون متحيرين وييأسون من كل خير، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ يجيرونهم من عذاب الله تعالى كما كانوا يزعمونه، وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) أي وكان عبدة الأصنام بآلهتهم متبرئين منهم يقولون: والله ربنا ما كنا مشركين، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ بعد تمام الحساب يَتَفَرَّقُونَ (14) أي جميع الخلق فريقين: فريق في الجنة، وفريق في السعير. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) أي فهم في جنة يسرّون بكل مسرة.
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه ذكر الجنة وما فيها من النعيم، وفي آخر القوم أعرابي فقال: يا رسول الله هل في الجنة من سماع؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: «يا أعرابي إن في الجنة نهرا حافتاه الأبكار من كل بيضاء خوصانية يتغنين بأصوات لم يسمع الخلائق مثلها قط فذلك أفضل نعيم الجنة»
«1» .
وروي أن في الجنة لأشجارا عليها أجراس من فضة فإذا أراد أهل الجنة السماع، بعث الله تعالى ريحا تحت العرش فتقع في تلك الأشجار، فتحرك تلك الأجراس بأصوات لو سمعها أهل الدنيا لماتوا طربا. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ بالبعث بعد الموت فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16) أي لا غيبة لهم عن العذاب ولا فتور له عنهم، أما من يؤمن ويعمل السيئات فليس دائم الحضور في العذاب، وليس من المحبورين غاية الحبور في رياض بل له منزلة بين المنزلتين، فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) أي نزهوه تعالى عن صفات النقص، وصفوه بصفات الكمال في هذه الأوقات، واحمدوه وإنما خصّ بعض الأوقات بالأمر بالتسبيح، لأن الإنسان لا يمكنه أن يصرف جميع أوقاته إلى التسبيح لكونه محتاجا إلى تحصيل مأكول ومشروب، وملبوس، ومركوب، وكما أن العبد ينزه الله في أول النهار، وآخره، ووسطه فإن الله يطهره في أوله- وهو دنياه- وفي آخره- وهو عقباه- وفي وسطه- وهو حالة كونه في قبره- وقوله تعالى: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كلام معترضين بين المعطوف والمعطوف عليه وفيه لطيفة، وهو أن الله تعالى لما أمر العباد بالتسبيح كأنه بيّن لهم أن تسبيحهم الله لنفعهم لا لنفع يعود على الله، فعليهم أن يحمدوا الله إذا سبحوه، ثم إن التنزيه المأمور به يشمل التنزيه بالقلب، وهو الاعتقاد الجازم واللسان- وهو الذكر- الحسن، وبالأركان- وهو العمل الصالح- فالإنسان إذا اعتقد شيئا ظهر من قلبه على لسانه، وإذا قال ظهر صدقه في مقاله من أحواله، وأفعاله،
واللسان، ترجمان الجنان، والأركان، برهان اللسان، لكن الصلاة أفضل أعمال الأركان، وهي مشتملة على الذكر باللسان، والقصد بالجنان: وهو تنزيه في التحقيق، فيجب حمل التسبيح على كل ما هو تنزيه،
__________
(1) رواه البيهقي في السنن الكبرى (4: 291) .(2/227)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)
فيكون هذا أيضا أمرا بالصلاح. يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ كالإنسان من نطفة والطير من البيضة وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ أي يخرج النطفة والبيضة من الحيوان.
وقال بعضهم: يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، ويقال: يخرج اليقظان من النائم، والنائم من اليقظان، فإحياء الميت عنده تعالى كتنبيه النائم، وإماتة الحي كتنويم المنتبه.
وَيُحْيِ الْأَرْضَ بالنبات بَعْدَ مَوْتِها أي بعد يبوستها وَكَذلِكَ أي ومثل ذلك الإخراج تُخْرَجُونَ (19) من قبوركم.
وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء وضم الراء وَمِنْ آياتِهِ الدالة على أنكم تبعثون أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ فإنا خلقنا من نطفة وهي من الغذاء، وهو من النبات، وهو من التراب. ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) أي ثم بعد أطوار كثيرة فاجأتم وقت كونكم بشرا تتمتعون على وجه الأرض.
وَمِنْ آياتِهِ الدالة على البعث والجزاء: أَنْ خَلَقَ لَكُمْ أي لأجلكم مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من جنسكم أَزْواجاً أي إناثا لِتَسْكُنُوا إِلَيْها أي لتميلوا إليها، وتطمئنوا بها، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ أي بين المرأة والزوج مَوَدَّةً أي محبة وَرَحْمَةً أي شفقة ويقال: مودة للصغير على الكبير ورحمة للكبير على الصغير. إِنَّ فِي ذلِكَ أي في خلقهم من تراب، وخلق أزواجهم من جنسهم وإلقاء المودة والرحمة بينهم لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) فيما خلق الله.
وَمِنْ آياتِهِ الدالة على أمر البعث: خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من حيث إن خلقهما وما فيهما ليس إلا لمعاش البشر ومعاده، وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ أي لغاتكم العربية، والفارسية، وغير ذلك. والأصح أنه اختلاف كلامكم، فإن الأخوين إذا تكلما بلغة واحدة يعرف أحدهما من الآخر وَأَلْوانِكُمْ ببياض الجلد وسواده، وتوسطه. إِنَّ فِي ذلِكَ أي في خلق السموات والأرض، واختلاف الألسنة والألوان لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) .
وقرأ حفص وحده بكسر اللام، أي لآيات عظيمة في أنفسها، كثيرة في عددها للمتصفين بالعلم. والباقون بفتح اللام في ذلك دلالة على كمال وضوح الآيات على أحد من الخلق كافة.
وَمِنْ آياتِهِ الدالة على القدرة والعلم: مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ فالنوم بالنهار مما تعدّه العرب نعمة من الله، ولا سيما في أوقات القيلولة في البلاد الحارة وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ فيهما. وهذا إشارة إلى أن العبد ينبغي أن لا يرى الرزق من كسبه وبحذقه بل يرى كل ذلك من فضل ربه، إِنَّ فِي ذلِكَ أي في الليل والنهار لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) سماع تفهم حيث يستدلون بذلك على شؤونه تعالى. وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ، أي ومن آياته الدالة على عظيم قدرته تعالى: إراءتكم للبرق خَوْفاً للمسافر من المطر أن يبل ثيابه وَطَمَعاً للمقيم في المطر أن يسقي حروثه، وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون. فَيُحْيِي بِهِ أي بذلك الماء الْأَرْضَ بالنبات(2/228)
بَعْدَ مَوْتِها أي بعد يبوستها إِنَّ فِي ذلِكَ أي المطر لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) أي لدلالات على الفاعل المختار لمن له عقل، وإن لم يتفكر تفكر تاما. وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ أي ومن آياته الدالة على القدرة استمرار السماء والأرض على ما هما عليه بإرادته تعالى له، ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) أي ثم إذا دعاكم الله على لسان إسرافيل بعد انقضاء الأجل من الأرض وأنتم في قبوركم دعوة واحدة بأن قال: أيها الموتى اخرجوا فاجأتم الخروج منها وقول: مِنَ الْأَرْضِ متعلق ب «دعاكم» . وَلَهُ خاصة مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الملائكة والثقلين خلقا، وملكا، وتصرفا، كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) أي منقادون لفعله وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد موتهم وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ بالقياس على قوانينكم من أن الإعادة للشيء أهون من ابتدائه، وإلا فالأفعال كلها بالنسبة إلى قدرته تعالى متساوية في السهولة، وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي وله تعالى الوصف الأعلى الذي ليس لغيره ما يدانيه، فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ، أي وهو كامل القدرة على الممكنات، شامل العلم بجميع الموجودات، فيجري الأفعال على سنن الحكمة. ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي بيّن الله لكم يا معشر الكفار مثلا مأخوذا من أحوال أنفسكم هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ أي هل لكم شركاء فيما رزقناكم من الأموال كائنون بالنوع الذي ملكت أيمانكم، فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ أي فأنتم وعبيدكم فيما رزقناكم مستوون في التصرف تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي تخافون أن تنفردوا بالتصرف فيه بدون رأيهم خيفة كائنة مثل خيفتكم من الأحرار المشاركين لكم فيما ذكر أي أنتم لا ترضون بأن يشارككم مماليككم، وهم أمثالكم في البشرية فكيف تشركون به تعالى في المعبودية مخلوقة تعالى؟ كَذلِكَ أي مثل ذلك التفصيل الواضح نُفَصِّلُ الْآياتِ أي نبينها بالدلائل القطعية والأمثلة والمحاكيات الإقناعية لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) أي يستعملون عقولهم في تدبر الأمور، بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أي لا يجوز أن يشرك بالمالك مملوكه، ولكن الذين أشركوا اتبعوا أهواءهم الزائغة من غير علم، وأثبتوا شركاء من غير دليل فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ أي لا يقدر أحد على هداية من خلق الله فيه الضلال، وَما لَهُمْ أي لمن أضله الله تعالى مِنْ ناصِرِينَ (29) يخلصونهم من الضلال فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ أي أقبل بكلك على الدين غير ملتفت يمينا وشمالا حَنِيفاً أي مائلا عن كل ما عدا الدين فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها أي الزم دين الله- وهو التوحيد- فإن الله خلق الناس عليه في بطون أمهاتهم، وحيث أخذهم الله من ظهر آدم، وسألهم ألست بربكم؟
فقالوا: بلى لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أي لا تبدلوا دين الله- كما قاله مجاهد وإبراهيم- وقيل: أي لا تغير للوحدانية حتى إن سألتهم من خلق السموات والأرض يقولون: الله. لكن الإيمان الفطري غير كاف. ذلِكَ أي لزوم دين الله الدِّينُ الْقَيِّمُ أي الحق الذي لا عوج فيه وَلكِنَّ(2/229)
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
أَكْثَرَ النَّاسِ
أي أهل مكة لا يَعْلَمُونَ (30) أن ذلك هو الدين الحق، فيصدون عنه صدودا
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ أي أقيموا وجوهكم للدين مقبلين عليه، وَاتَّقُوهُ من مخالفة أمره بل داوموا على العبادة وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) ، أي ولا تشركوا بعد الإيمان وهاهنا وجه آخر وهو أن الله أثبت التوحيد الذي هو خروج عن الإشراك الظاهر بقوله تعالى:
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وأراد الله إخراج العبد عن الشرك الخفي بقوله تعالى: وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي لا تقصدوا بعملكم إلا وجه الله، ولا تطلبوا إلا رضا الله، ثم أبدل الله قوله: مِنَ الْمُشْرِكِينَ قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ أي اختلفوا فيما يعبدونه على اختلاف أهوائهم.
وقرأ حمزة والكسائي «فارقوا» بألف، أي تركوا دينهم الذي أمروا به، وَكانُوا شِيَعاً أي وصاروا فرقا فيما يعبدونه، كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) أي وإذا أصاب كفار مكة شدة دعوا ربهم برفع الشدة مقبلين إليه بالدعاء، ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ أي من الضر رَحْمَةً أي خلاصا إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ أي الكفار بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) ويقول: تخلصت بسبب اتصال الكوكب الفلاني بفلان وبسبب الصنم الفلاني، لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فاللام للعاقبة فَتَمَتَّعُوا يا أهل مكة: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) عاقبة تمتعكم.
وقرئ بالياء على أن «تمتعوا» فعل ماض وقرئ وليتمتعوا أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) أي هل أنزلنا على أهل مكة كتابا، فذلك الكتاب يدل على الأمر الذي بسببه يشركون ف «أم» بمعنى الهمزة فقط عند الكوفيين، وبمعنى بل والهمزة عند البصريين كما هو شأن «أم» المنقطعة. وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً من صحة وسعة فَرِحُوا بِها بطرا لا شكرا، فإن قيل لك: الفرح بالرحمة مأمور به في قوله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس: 58] ، وهاهنا ذمهم الله على
الفرح بالرحمة، فكيف ذلك؟ قلت: هناك فرحوا برحمة الله من حيث إنها مضافة إلى الله تعالى وهاهنا فرحوا بنفس الرحمة حتى لو كان المطر من غير الله لكان فرحهم به مثل فرحهم بما إذا كان من الله، وهو كما أن الملك لو حطّ عند أمير رغيفا على السماط، أو أمر غلمانه بأن يحطوه عنده، ففرح ذلك الأمير به ولو أعطى الملك فقيرا غير ملتفت إليه رغيفا فرح به، ففرح الأمير بكون ذلك الرغيف من الملك، وفرح الفقير بكون ذلك رغيفا، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي شدة ضيق بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بشؤم معاصيهم إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أي ييأسون من رحمة الله غير صابرين بها.
وقرأ أبو عمرو والكسائي بكسر النون أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ، أي ألم ينظروا ولم يشاهدوا أن الله يوسع الرزق لمن يشاء امتحانا هل يشكر أم يكفر، ويضيقه لمن يشاء اختبارا هل يصبر أم يجزع؟ إِنَّ فِي ذلِكَ أي التوسيع والتضييق لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فيستدلون بها على كمال القدرة والحكمة. فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ من الصلة والصدقة وسائر(2/230)
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)
المبرات وَالْمِسْكِينَ سواء كان ذا قرابة أم لا. وَابْنَ السَّبِيلِ أي المسافر من صدقة التطوع ذلِكَ أي المذكور من الصلة والعطية والإكرام خَيْرٌ أي ثواب في الآخرة، لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ أي يقصدون بمعروفهم جهة التقرب إليه تعالى لا جهة أخرى وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) أي الناجون من السخط وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ، أي وما أعطيتم من عطية خالية من العوض ليزيد في أموال الناس بأن تعطوا شيئا، وتطلبوا ما هو أفضل منه فليس لكم فيه أجر، وليس عليكم فيه إثم.
وقرأ نافع «لتربوا» بتاء الخطاب وسكون الواو، أي لتصيروا ذوي زيادة. وقرأ ابن كثير «وما أتيتم» بقصر الهمزة، أي وما جئتم به من إعطاء عطية. واختلف العلماء فيمن وهب وهبة يطلب عوضها وقال:
إنما أردت العوض، فإن كان مثله ممن يطلب العوض من الموهوب له، فله ذلك عند مالك رضي الله عنه وذلك كهبة الفقير للغني، وهبة الخادم لصاحبه، وهبة الشخص لمن فوقه ولأميره. وقال أبو حنيفة: لا يكون له عوض إذا لم يشترط. وهذان القولان جاريان للشافعي رضي الله عنهم. وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) أي وما أعطيتم من صدقة تطوع إلى المساكين تبتغون وجهه تعالى، فأولئك هم الذين أضعفت صدقاتهم في الآخرة بكثرة الثواب، ويحفظ أموالهم في الدنيا وبالبركة لها اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ نسما في بطون أمهاتكم، ثم أخرجكم وفيكم الروح ثُمَّ رَزَقَكُمْ إلى الموت ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انقضاء مدتكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ للبعث بعد الموت، هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟ أي هل من آلهتكم يا أهل مكة من يقدر أن يفعل من ذلك شيئا؟ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) أي لا تصفوه تعالى بالإشراك.
وقرأ حمزة والكسائي بتاء الخطاب
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ أي تبين الفساد في البر والبحر كالجدب وكثرة الحرق، والغرق، وموت دواب البر والبحر، وقلة اللؤلؤ بسبب كسب الناس المعاصي.
قال الضحاك: كانت الأرض خضرة مونقة لا يأتي ابن آدم شجرة إلا وجد عليها ثمرة، وكان ماء البحر عذبا، وكان لا يقصد الأسد البقر والغنم، فلما قتل قابيل هابيل اقشعرت الأرض وشاكت الأشجار، وصار ماء البحر ملحا زعاقا «1» ، وقصد الحيوانات بعضها بعضا، لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا أي بعض جزاء الذين عملوا، فإن تمامه في الآخرة.
وقرأ قنبل «لنذيقهم» بالنون لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) عما كانوا عليه قُلْ يا محمد لأهل مكة: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كقوم ونوح وعاد وثمود ليشاهدوا
__________
(1) الزعاق: بضم الزاي: الماء المرّ والكثير الملح الذي لا يطاق شربه [القاموس المحيط، مادة: زعق. [.....](2/231)
آثارهم كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) ، وكان بعض الهلاك بغير الشرك كالفسق ومخالفة الأمر فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ. قال الزجاج: أي أقم صدرك واجعل وجهك اتباع دين الإسلام مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ متعلق ب «يأتي» أو ب «مرد» ، أي لا يقدر أحد على رده من الله تعالى، ولا يرده الله تعالى لتعلق إرادته تعالى بمجيئه يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) أي يوم إذ يأتي ذلك اليوم يتفرقون: فريق في الجنة، وفريق في السعير. مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي من كفر بالله فعليه عقوبة كفره وهو خلوده في النار وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) أي ومن عمل صالحا في الإيمان فيفرشون منازلهم في الجنة لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ، والجار والمجرور متعلق ب «يمهدون» أو ب «يصدعون» ، أي يتفرقون بتفريق الله تعالى فريقين ليجزي الله كلا منهما بحسب أعمالهم إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45) أي يعاقبهم. وَمِنْ آياتِهِ الدالة على وحدانيته تعالى وقدرته أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ لخلقه بالمطر وبصلاح الأهوية، والأحوال، فإن الرياح لو لم تهب لظهر الوباء والفساد، فرياح الرحمة: هي الشمال، والصبا، والجنوب. وأما الدبور فهي ريح العذاب وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وهي المنافع التابعة للرياح وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ أي السفن بسوقها بِأَمْرِهِ أي بمشيئته في البحر وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ بتجارة البحر وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) نعمة الله فيما ذكر لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ
يا أكرم الرسل سُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ
أي جاء كل رسول قومه بما يخصه من البينات كما جئت قومك ببيناتك فكذبوهم، انْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا
أي أهلكنا الذين كذبوهم، كانَ حَقًّا
أي واجبالَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
(47) أي وكان الانتقام حقا، فلم يكن ظلما، ثم استأنف الله بقوله تعالى: لَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
، وهذا بشارة لمن آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ويقال نصر المؤمنين: كان واجبا علينا وهذا تأكيدا لبشارة، لأن كلمة «على» تفيد معنى اللزوم فإذا قال حقا أكد ذلك المعنى، والنصر: هو الغلبة التي لا تكون عاقبتها وخيمة والكافر إن هزم المسلم في بعض الأوقات لا يكون ذلك نصرة إذ لا عاقبة له. اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً أي فترفع سحابا ثقالا بالمطر الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ أي فينشر الله السحاب كمال الانتشار متصلا بعضه ببعض تارة في جو السماء كيف يشاء، سائرا، وواقفا، ومطبقا، وغير مطبق وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً أي ويجعل الله السحاب قطعا تارة أخرى فَتَرَى الْوَدْقَ أي المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ أي من خلال السحاب فَإِذا أَصابَ أي الله بِهِ أي بالودق مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أي أراضيهم، إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) أي يفرحون بمجيء الخصب وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) ، أي وإن الشأن كانوا من قبل أن ينزل عليهم المطر من قبل الاستبشار لآيسين من المطر، فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ من النبات والأشجار والثمار، فالرحمة: هي المطر، وأثرها هو النبات.(2/232)
وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص «آثار» بالألف، والباقون بغير ألف. كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي فانظر إلى إحياء الله تعالى للأرض بإخراج النبات بعد يبوستها إِنَّ ذلِكَ أي الذي يحيي الأرض لَمُحْيِ الْمَوْتى أي لقادر على إحيائهم وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) أي مبالغ في القدرة على جميع الأشياء
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) ، أي وبالله لئن أرسلنا ريحا حارة أو باردة فضربت زرعهم بالصفا، فرأوا الزرع مصفرا بعد خضرته لصاروا من بعد صفرته يكفرون بنعمته تعالى السالفة، فَإِنَّكَ يا أشرف الخلق لا تُسْمِعُ الْمَوْتى أي لا تجزع ولا تحزن على عدم إيمانهم، فإنهم موتى صم عمي. ومن كان كذلك لا يهتدي، وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) أي إذا أعرضوا مدبرين عن الحق وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ أي ليس شغلك هداية العميان إلى الحق.
قبوله فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) أي مطيعون اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ أي من أصل ضعيف هو النطفة، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ أي من بعد كونه جنينا وطفلا مولودا، ورضيعا، ومفطوما قُوَّةً أي حالة البلوغ والشباب، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً للكهولة وَشَيْبَةً- وهو بياض الشعر الأسود- أي فإن ذلك الضعف والقوة والشباب والشيبة ليس طبعا بل هو بمشيئة الله تعالى وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) فالترديد في الأطوار المختلفة من أوضح دلائل العلم والقدرة، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أي توجد القيامة يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ أي يحلف الكافرون بالله ما لَبِثُوا في القبور غَيْرَ ساعَةٍ، أي غير قدر ساعة كَذلِكَ أي مثل ذلك الصرف كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) ، أي يصرفون من الحق إلى الباطل، ومن الصدق إلى الكذب. وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ من الملائكة والإنس: لَقَدْ لَبِثْتُمْ في القبور فِي كِتابِ اللَّهِ أي بحسب ما علمه الله وقدره إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ من القبور فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ الذي كنتم توعدون في الدنيا والذي أنكرتموه، وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) أنه حق ولا تقرون بوقوعه فتستعجلون به استهزاء، وتطلبون الآن تأخير الساعة، فصار مصيركم إلى النار فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا.
وقرأ الكوفيون «لا ينفع» بالياء التحتية، أي فيوم القيامة لا ينفع الذين أشركوا اعتذارهم في إنكارهم له وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) ، أي لا يطلب منهم إزالة العتب من التوبة كما طلبت منهم في الدنيا لأنها لا تقبل منهم وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي وبالله لقد بينا لهم في هذا القرآن كل حال وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن، كأنها في غرابتها مثل وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ يا أشرف الخلق بِآيَةٍ من آيات القرآن الناطقة بأمثال ذلك لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) أي ما أنتم يا معشر المؤمنين إلا كاذبون ويقال: ولئن(2/233)
جئتهم بكل آية جاءت بها الرسل. يقولون: أنتم كلكم أيها المدعون للرسالة مزورون كَذلِكَ، أي مثل ذلك الطبع يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) أي لا يطلبون العلم ولا يقصدون الحق، فَاصْبِرْ على ما تشاهد منهم من الأقوال الباطلة والأفعال السيئة إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وقد وعدك بالنصرة وإظهار الدين وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60) ، أي لا يحملنك على الخفة وترك الصبر الذين لا يصدقون بالآيات.
وهذا إشارة إلى وجوب مداومة النبي صلّى الله عليه وسلّم على الدعاء إلى الإيمان فإنه لو سكت لقال الكافر: إنه منقلب الرأي لا ثبات له، والله أعلم بالصواب.(2/234)
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)
سورة لقمان
مكية، أربع وثلاثون آية، خمسمائة وثمان وأربعون كلمة، ألفان ومائة وعشرة أحرف
الم (1) قيل: قسم أقسم الله به تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) ، أي هذه السورة آيات القرآن ذي الحكمة هُدىً وَرَحْمَةً بالنصب على الحالية من الآيات، وبالرفع على قراءة حمزة خبران آخران لاسم الإشارة لِلْمُحْسِنِينَ (3) أي العاملين للحسنات. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي يتقنون جميع ما أمروا به فيها وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ كلها وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) ، أي وهم يصدقون بالبعث بعد الموت، فالصلاة ترك التشبه بالسيد، فالله تعالى تجب له العبادة، ولا تجوز عليه العبادة والزكاة تشبه بالسيد، فإنها دفع حاجة الغير والله دافع الحاجات والتشبه لازم على العبد في أمور، كما أن ترك التشبه لازم على العبد في أمور فلا يجلس العبد عند جلوس السيد ولا يتكئ عند اتكائه، وعبد العالم لا يتلبس بلباس الأجناد، وعبد الجندي لا يتلبس بلباس الزهاد، وبهما تتم العبودية. أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) أي الناجون من كل مهروب والفائزون بكل مطلوب وَمِنَ النَّاسِ وهو النضر بن الحرث مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ أي أباطيل الحديث لِيُضِلَّ بذلك عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي على دينه الحق الموصل إليه تعالى.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء، أي ليستمر على ضلاله عن قراءة كتاب الله تعالى الهادي إليه بِغَيْرِ عِلْمٍ أي يشتري بغير علم بحال ما يشتريه وَيَتَّخِذَها هُزُواً. وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالنصب عطفا على «يضل» . والباقون بالرفع عطفا على «يشتري» ، والضمير البارز للسبيل وهو دين الإسلام أو للقرآن. أُولئِكَ أي من يشتري ذلك لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) أي ذو إهانة لإهانتهم الحق، وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ أي المشتري آياتُنا أي التي هي آيات الكتاب الحكيم وَلَّى مُسْتَكْبِراً أي أعرض عنها مبالغا في التكبر عن الإيمان بها، كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها أي كأنه لم يسمع الآيات كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً أي مشبها حاله حالا من في أذنيه ثقل مانع من السماع، فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) أي فأعلمه يا أشرف الخلق بأن العذاب المفرط في الإيلام لا حق به لا محالة إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) أي نعيم جنات ف «لهم» خبر إن، و «جنات» مرفوع على الفاعلية. خالِدِينَ فِيها حال من «جنات النعيم» ، أو من ضمير(2/235)
هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11) وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)
«لهم» ، وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا أي وعدهم الله جنات النعيم وعدا وحق ذل حقا فهما مصدران مؤكدان الأول: لنفسه، والثاني: لغيره، لأن قوله تعالى: لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ في معنى وعدهم الله جنات النعيم، فأكد معنى الوعد بالوعد. وأما حقا فدل على معنى الثبات أكد به معنى الوعد ومؤكدهما جميعا لهم جنات النعيم. وَهُوَ الْعَزِيزُ الذي لا يغلبه شيء، الْحَكِيمُ (9) الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة. خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ أي بغير دعائم تَرَوْنَها.
فهذا إما راجع للسموات وهو استئناف جيء به للاستشهاد على خلقه تعالى لها، غير معمودة بمشاهدتهم لها كذلك، أي ليست هي بعمد وأنتم ترونها كذلك وإما راجع للعمد وهو صفة له أي بغير عمد مرئية، وإن كان هناك عمد غير مرئية فهي قدرة الله وإرادته وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أي جبالا ثوابت.
قال ابن عباس: هي الجبال الشامخات من أوتاد الأرض، وهي سبعة عشر جبلا منها:
قاف، وأبو قبيس، والجودي، ولبنان، وطور سينين، وثبير، وطور سيناء أخرجه ابن جرير أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي كراهة أن تميل الأرض بكم وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ أي فرق الله في الأرض من كل نوع من أنواع ذي روح، وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً وهو المطر فَأَنْبَتْنا فِيها، أي في الأرض بسبب ذلك الماء مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) أي من كل جنس حسن فتحت كل جنس نوعان لأن النبات إما شجر أو غير شجر، فالشجر إما مثمر أو غير مثمر.
هذا أي الأشياء المعدودة خَلْقُ اللَّهِ أي مخلوقه فَأَرُونِي أي فأخبروني يا أهل مكة، ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أي من غير الله مما تعبدونه فكيف تتركون عبادة الخالق وتشتغلون بعبادة المخلوق؟! بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11) أي بل المشركون في خطأ بيّن وأنتم يا أهل مكة منهم وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ وهو توفيق العمل بالعلم فكل من أوتي توفيق العمل بالعلم فقد أوتي الحكمة، فمن تعلم شيئا ولا يعلم مصالحه ومفاسده لا يسمى حكيما وإنما يكون مبخوتا ألا ترى أن من يلقي نفسه من مكان عال ووقع على موضع، فانخسف به وظهر له كنز وسلم لا يقال: إنه حكيم لعدم علمه به أولا، بل هو يعلم أن الإلقاء فيه إهلاك النفس والإنسان إذ علم أمرين أحدهما أهم من الآخر، فإن اشتغل بالأهم كان عمله موافقا لعلمه وكان حكمة وأن الأهم كان مخالفا للعلم، ولم يكن من الحكمة في شيء قيل: ولقمان هو ابن باعوراء من أولاد آزر، ابن أخت أيوب عليه السلام، وعاش حتى أدرك داود عليه السلام، وأخذ عنه العلم وكان يفتي قبل مبعثه وروي أنه كان نائما في نصف النهار فنودي: يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض فتحكم بين الناس بالحق؟ فأجاب الصوت فقال: إن خيرني ربي قبلت العافية ولم أقبل البلاء وإن عزم على فسمعا وطاعة فإني أعلم أن الله تعالى إن فعل بي ذلك أعانني وعصمني. فقالت الملائكة بصوت وهو لا يراهم: يا لقمان هل لك في الحكمة؟ قال: فإن الحاكم يغشاه المظلوم من كل مكان إن عدل نجا وإن أخطأ الطريق(2/236)
أخطأ طريق الجنة، ومن يكن في الدنيا ذليلا خير من أن يكون شريفا ومن يختر الدنيا على الآخرة تفتنه الدنيا ولم يصب الآخرة، فعجبت الملائكة من حسن منطقه فنام نومة فأعطى الحكمة، فانتبه وهو يتكلم بها أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ف «أن» مفسرة فإن إيتاء الحكمة في معنى القول، فإن شكر الله تعالى أهم الأشياء وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ،
أي ومن يشكر له تعالى فإنما يشكر لنفسه لأن منفعته مقصورة عليها، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) أي ومن كفر النعمة فالله غير محتاج إلى شكره حتى يتضرر بكفران الكافر، وهو تعالى في نفسه محمود سواء شكره الناس أو لم يشكروه. وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ ثاران. وقيل: أنعم. وقيل: مشكم. وَهُوَ يَعِظُهُ ويبدأ في الوعظ بالأهم يا بُنَيَّ تصغير محبة.
وقرأ حفص بفتح الياء وسكنها ابن كثير، وكسرها الباقون. لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ قيل: كان ابنه كافرا فلم يزل به حتى أسلم، ومن وقف على تشرك جعل بالله قسما إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) ، لأن الشرك وضع للنفس الشريف، ولأنه وضع العبادة في غير موضعها وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ، أي أمرناه بالبر بهما حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ أي حملته أمه في بطنها تضعف ضعفا فوق ضعف، كلما كبر الولد في بطنها كان أشد عليها وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أي وفطامه في تمام عامين- وهي مدة الرضاع عند الشافعي، ومدة الرضاع عند أبي حنيفة ثلاثون شهرا- أَنِ اشْكُرْ لِي بالطاعة لأني المنعم في الحقيقة وَلِوالِدَيْكَ بالتربية، لأنهما سبب لوجودك.
قال سفيان بن عيينة: من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى، ومن دعا للوالدين في أدبار الصلوات الخمس فقد شكر للوالدين إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) أي إلى الرجوع فأجازيك على ما صدر عنك من الشكر والكفر. وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما أي أن خدمتهما واجبة وطاعتهما لازمة ما لم يكن فيها ترك طاعة الله، أما إذا أفضى إليه فلا تطعهما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً، أي صحابا معروفا يرتضيه الشرع وتقتضيه المروءة، وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ بالتوحيد والإخلاص في الطاعة وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وقيل: هو أبو بكر الصديق، وذلك أنه حين أسلم أتاه عثمان، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف. وقالوا له: قد صدقت هذا الرجل وآمنت به قال: نعم هو صادق فآمنوا، ثم حملهم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى أسلموا فهؤلاء لهم سابقة الإسلام بإرشاد أبي بكر رضي الله عنه، ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ أي مرجعك أيها الإنسان، ومرجع والديك، ومرجع من أناب فَأُنَبِّئُكُمْ عند رجوعكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) بأن أجازي كلا منكم بما صدر عنه من الخير والشر.
يا بُنَيَّ، روى أن ابن لقمان قال: يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله؟ فقال: يا بني إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أي أن الخصلة من الإساءة والإحسان إن تلك مثلا في الصغر كحبة الخردل.(2/237)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)
وقرأ نافع مثقال بالرفع وكان تامة وضمير «إنها» للقصة، أي إن الشأن أن يوجد وزن حبة الخردل، فَتَكُنْ أي تلك الخصلة فِي صَخْرَةٍ تحت الأرضين وهي التي عليها الثور، وهي لا في الأرض ولا في السماء أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ أي يحضرها ويحاسب عليها. إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ يصل علمه إلى كل خفي خَبِيرٌ (16) بكنهه يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ بجميع حدودها وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ أي بالإحسان، وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ أي القبيح من القول والعمل، وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ من الشدائد والمحن، لا سيما بسبب الأمر والنهي إِنَّ ذلِكَ أي الصبر أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) أي من الأمور الواجبة المقطوعة، فلم يرخص في تركه وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ أي لا تعرض وجهك من الناس تكبرا. ويقال: لا تحقر فقراء المسلمين وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي اختيالا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) فالمختال من يكون به خيلاء، وهو الذي يري الناس عظمة نفسه، وهو التكبر والفخور، من يكون مفتخرا بنفسه، وهو الذي يرى عظمة نفسه وهو التكبر والفخور من يكون مفتخرا بنفسه وهو الذي يرى عظمة لنفسه في عينه. وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ أي توسط في المشي بين الدبيب والإسراع وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ أي وانقص منه، وهذا إشارة إلى التوسط في الأقوال إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) أي إن أقبح أصوات الحيوانات صوت الحمير، أوله صوت قوي وآخره صوت ضعيف. أَلَمْ تَرَوْا أي ألم تعلموا أيها المشركون أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي أن الله جعل لأجلكم ما في السموات من الشمس، والقمر، والنجوم، والسحاب، والمطر، وما في الأرض من الشجر والدواب منقادا للأمر فإن الكائنات مسخرة لله تعالى مستتبعة لمنافع الخلق. وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً أي وأتم عليكم نعمة محسوسة معقولة، معروفة لكم، وغير معروفة.
وقرأ نافع، وأبو عمرو، وحفص «نعمة» بفتح العين وبالهاء آخره. والباقون بسكون العين وبتاء منونة آخره. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ نزلت هذه الآية في النضر بن الحرث، وأبيّ بن خلف وأمية بن خلف وأشباههم كانوا يجادلون النبي صلّى الله عليه وسلّم في الله تعالى وفي صفاته بِغَيْرِ عِلْمٍ مستفاد من دليل وَلا هُدىً من جهة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) أنزله الله تعالى بل بمجرد التقليد،
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ أي لمن يخاصم اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ على نبيه من القرآن، قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أي قالوا: نترك القول النازل من الله ونتبع الفعل من آبائنا، وهو عباد الأصنام أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ أي قال الله تعالى أيتبعون آباءهم ولو كان الشيطان يدعو آباءهم فيما هم عليه من الشرك إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21) فهم يقتدون بهم وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى، أي ومن يفوض إليه تعالى مجامع أموره، ويقبل عليه تعالى بكليته وهو آت بأعماله جامعة بين الحسن الذاتي والوصفي فقد تمسك بحبل لا انقطاع له، وترقى بسببه إلى أعلا المقامات، وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) فيجازيه أحسن الجزاء، وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ أي لا تحزن إذا كفر كافر إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا في(2/238)
الدنيا من الكفر والمعاصي بالعقاب إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) فلا يخفي عليه سرهم وعلانيتهم فينبئهم بما أضمرته صدورهم نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا أي زمانا قليلا مدة حياتهم، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24) ثم نردهم في الآخرة إلى عذاب شديد، أي فإنهم لما كذبوا الرسل، ثم تبين لهم الأمر وقع عليهم من الخجالة ما يدخلون ولا يختارون الوقوف بين يدي ربهم بمحضر الأنبياء. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وهذا يصدقك في دعوى الواحدانية، ويبين كذبهم في الإشراك قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على ظهور صدقك وكذب مكذبيك بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) ، أي ليس لهم علم يمنعك من تكذيبك مع اعترافهم بما يوجب تصديقك لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فلا يستحق العبادة فيهما غيره تعالى إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) ، أي الغني عن العالمين، المستحق للحمد، وإن لم يحمده أحد. وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ، أي ولو كانت الأشجار أقلاما والبحار السبعة من بعد نفاذ البحر المحيط مدادا، فكتب بها عجائب صنع الله الدالة على قدرته ووحدانيته لم تنفد تلك العجائب، فإن العجائب بقوله تعالى: (كن) و «كن» كلمة، وإطلاق اسم السبب على المسبب جائز كما يقول الشجاع لمن يبارزه: أنا موتك وكما يقال للدواء في حق المريض هذا شفاؤك، ودليل صحة هذا هو أن الله تعالى سمى المسيح: كلمة، لأنه كان أمرا عجيبا لوجوده من غير أب، ولذا قلنا بأن عجائب الله لا نهاية لها دخل فيها كلامه تعالى، فالمخلوق هو الحرف والتركيب هو عجيب. أما الكلمات فهي من صفات الله تعالى، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي كامل القدرة فلا يعجزه شيء حَكِيمٌ (27) أي كامل العلم فلا يخرج عن علمه أمر ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ أي ما خلقكم وبعثكم إلا كخلق نفس واحدة بعثها في سهولة الحصول، إذ لا يشغله تعالى شأن، لأن مناط وجود الكل تعلق إرادته الواجبة مع قدرته الذاتية إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أي سميع لما يقولون كيف يبعثنا بصير بما يعملون أَلَمْ تَرَ أي ألم تعلم يا أيها الغافل أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أي يدخل كل واحد منهما في الآخر ويضمه إليه، فيتفاوت بذلك حاله زيادة ونقصانا وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أي ذللهما كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي إلى وقت معلوم في منازل معروفة لهما، وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ في كل وقت من الخير والشر خَبِيرٌ (29) . فمن شاهد مثل ذلك الصنع لا يغفل عن كون صانعه محيطا بجلائل أعماله ودقائقه ذلِكَ أي ما ذكر من سعة العلم وشمول القدرة وعجائب الصنع، بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أي الثابت الوجود وألوهيته، وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ، وبسبب بيان بطلان إلهية ما يعبدونه من غيره تعالى.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص «يدعون» بالغيبة. وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أي وبيان أنه تعالى هو العلي في صفاته، الكبير في ذاته، أكبر من كل ما
يتصور،(2/239)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
فلا يكون جسما في مكان
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ أي بالريح التي هي بأمر الله، وبإحسانه تعالى في تهيئة أسباب الجري لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ أي ليريكم بإجراء السفينة بنعمته بعض دلائل وحدته وعلمه وقدرته إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر لَآياتٍ عظيمة في ذاتها، كثيرة في عددها لِكُلِّ صَبَّارٍ في الشدة شَكُورٍ (31) في الرخاء، فالتكاليف أفعال وتروك، فالتروك: صبر عن المألوف. والأفعال: شكر على المعروف وَإِذا غَشِيَهُمْ أي أحاط بهم مَوْجٌ كَالظُّلَلِ، أي كالجبال في الارتفاع دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، أي مفردين له تعالى بالدعوة بأن ينجيهم، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، أي مقيم على الطريق المستقيم الذي هو التوحيد، ومنهم من يعود إلى الشرك وهو المراد بقوله تعالى: وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا أي الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ أي كثير الغدر، ولا يكون الغدر إلا من قلة الصبر كَفُورٍ (32) أي مبالغ في كفران نعم الله تعالى. يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ أي يا أهل مكة أطيعوا ربكم وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ أي لا يقضي فيه والد عن ولده في دفع الآلام، وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً في دفع الإهانة، ف «مولود» مبتدأ، و «هو» مبتدأ ثان، و «جاز» خبره. والجملة خبر «مولود» .
وقرئ «لا يجزئ» بضم الياء ورفع الهمزة أي لا يغني. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالثواب والعقاب حَقٌّ أي لا يمكن إخلافه أصلا فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فإنها زائلة لوقوع اليوم الذي لا مجازاة بين الوالد وولده بالوعد الحق وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ أي بسبب حلم الله الْغَرُورُ (33) أي الشيطان، أو الدنيا فمن الناس من تدعوه الدنيا إلى نفسها فيميل إليها، ومنهم من يوسوس في صدره الشيطان ويزين في عينه الدنيا ويقول: إنك تحصل بها الآخرة، أو تلتذ بها، ثم تتوب فتجتمع لك الدنيا والآخرة، أي كونوا من الذين لا يلتفتون إلى الدنيا ولا إلى من يحسن الدنيا في الأعين، إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أي علم وقت قيام القيامة وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ إلى محله في إبانه.
وقرأ نافع، وابن عامر، وعصام بفتح النون وتشديد الزاي. وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ من ذكر أو أنثى، تام أو ناقص وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً من خير أو شر، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ كما لا تدري في أي وقت تموت.
روي أن ملك الموت مرّ على سليمان عليه السلام، فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر إليه فقال الرجل: من هذا؟ قال ملك الموت. فقال: كأنه يريدني! فمر الريح أن تحملني وتلقيني ببلاد الهند، ففعل، ثم قال الملك لسليمان: كان دوام نظري إليه تعجبا منه حيث كنت أمرت بأن أقبض روحه بالهند وهو عندك. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ أي مبالغ في العلم بكل شيء خَبِيرٌ (34) أي عالم ببواطن الأشياء كما يعلم ظواهرها.(2/240)
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10)
سورة السجدة
وتسمى سورة المضاجع، مكية عند أكثرهم، تسع وعشرون آية، ستمائة وثمانون كلمة، ألف وخمسمائة وثمانية عشر حرفا
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) ف «تنزيل» خبر عن «ألم» ، أي هذه السورة المسماة «ألم» منزل الكتاب و «لا ريب فيه» حال من «الكتاب» ، و «من رب» متعلق ب «تنزيل» . أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أي بل أيقول كفار مكة اختلق محمد القرآن من تلقاء نفسه! بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أي بل القرآن هو الثابت من ربك نزل به جبريل عليك لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) أي لكي تخوف بالقرآن قوما لم يأتهم رسول مخوف قبلك راجيا أنت لاهتدائهم، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أولها أحد وآخرها جمعة، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أي ثم استقام الله على ملكه وتصرف فيه تصرفا تاما، والعرش موجود قبل السموات والأرض ما لَكُمْ يا أهل مكة مِنْ دُونِهِ أي من غير الله مِنْ وَلِيٍّ أي قريب ينفعكم، وَلا شَفِيعٍ ينصركم من عذاب الله فعبادتكم لهذه الأصنام ضائعة لا هم خالقوكم ولا ناصروكم، أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4) أي أتستمعون هذه المواعظ فلا تتذكرون يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ، أي يدبر أمر الدنيا من السماء على عباده، ويصعد إليه آثار الأمر وهي أعمالهم الصالحة الصادرة على موافقة ذلك الأمر، فإن نزول الأمر وعروج العمل في مسافة ألف سنة مما تعدون عليهم أي على غير الملائكة، فإن بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة فينزل في مسيرة خمسمائة سنة ويعرج في مسيرة خمسمائة سنة، فهو مقدار ألف سنة.
قال عبد الرحمن بن سابط: يدبر أمر الدنيا أربعة: جبريل، وميكائيل، وملك الموت، وإسرافيل عليهم السلام. فأما جبريل: فموكل بالرياح والجنود. وأما ميكائيل: فموكل بالقطر والماء. وأما ملك الموت: فموكل بقبض الأرواح. وأما إسرافيل: فهو ينزل بالأمر عليهم وقد قيل: إن العرش موضع التدبير كما أن ما دون العرش موضع التفصيل، قال الله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، وما دون السموات موضع التصريف ذلِكَ أي المدبر عالِمُ الْغَيْبِ(2/241)
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)
وَالشَّهادَةِ
أي عالم ما غاب عن العباد وما يكون وما علمه العباد، وما كان فيدبر أمرهما.
الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) فهو قادر على الانتقام من الكفرة واسع الرحمة على البررة الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، فجميع المخلوقات حسنة وإن تفاوتت إلى حسن وأحسن، وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) أي بدأ آدم عليه السلام من أديم الأرض على فطرة عجيبة ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ أي ذريته مِنْ سُلالَةٍ أي من نطفة مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ، أي من ماء ضعيف مخلوط من ماء الرجل والمرأة، ثُمَّ سَوَّاهُ أي عدله بتكميل أعضائه في الرحم وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ أي جعل الروح فيه، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ على مقتضى الحكمة وذلك لأن الإنسان يسمع أولا من الناس أمورا فيفهمها، ثم يحصل له بسبب ذلك بصيرة فيبصر الأمور ويجربها، ثم يحصل له بسبب ذلك إدراك تام وذهن كامل فيستخرج الأشياء من قلبه، قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (9) أي فتشكرون شكرا قليلا، وَقالُوا أي أبو جهل وأصحابه: أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أي أإذا غبنا في الأرض بالدفن بأن صرنا ترابا مخلوطا بترابها بحيث لا نتميز منه، أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي أإنا يجدد خلقنا بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) أي ليس إنكارهم لمجرد الخلق ثانيا، بل يكفرون بجميع أحوال الآخرة حتى لو صدقوا بالخلق الثاني لما اعترفوا بالعذاب والثواب،
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ، أي قل يا أشرف الخلق: يقبض أرواحكم ملك الموت الذي وكّل بكم بقبض أرواحكم. وذلك دليل على بقاء الأرواح، فلا بد من الحياة بعد الموت لا كما تزعمون أن الموت من الأحوال الطبيعية العارضة للحيوان بموجب الجبلة، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) بالبعث للحساب والجزاء، وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا أي ولو ترى أيها المخاطب إذ المشركون خافضوا رؤوسهم عند ربهم من الحياء والخزي عند ظهور قبائحهم يقولون: ربنا أبصرنا قبح أعمالنا وكنا نراها في الدنيا حسنة، وأبصرنا الحشر وَسَمِعْنا قول الرسول، وإن مردنا إلى النار، فَارْجِعْنا إلى الدنيا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) أي إنا آمنا في الحال، أي لو ترى حالهم وتشاهد استخجالهم لترى عجبا وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها أي قال تعالى جوابا عن قولهم ذلك إني لو أرجعتكم إلى الإيمان لهديتكم في الدنيا، ولما لم أهدكم تبين إني ما شئت إيمانكم فلا أردكم إلى الدنيا. وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي أي سبقت كلمتي حيث قلت لإبليس فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين. وهو المراد بقوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) أي من كفارهم فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي لا رجع لكم إلى الدنيا فذوقوا بسبب نسيانكم لقاء هذا اليوم الهائل وترككم التفكر فيه. إِنَّا نَسِيناكُمْ أي إنا تركناكم بالكلية غير ملتفت إليكم قطعا لرجائكم، وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ أي العذاب الدائم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) في الكفر إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها أي بتلك الآيات(2/242)
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
خَرُّوا سُجَّداً أي انقادت أعضاؤهم للسجود، وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، أي وتحرك ألسنتهم بتنزيهه تعالى عن الشرك وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) ، عن الخرور والتسبيح
والتحميد تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ أي تتنحى جنوبهم عن مواضع المنام.
قال أنس: نزلت هذه الآية فينا، كنا نصلي المغرب فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلي العشاء مع النبي صلّى الله عليه وسلّم. وعن أنس أيضا قال: نزلت في أناس من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم كانوا يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء وهي صلاة الأوابين وهو قول ابن حازم ومحمد بن المنكدر، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما والمشهور أن المراد منه صلاة الليل وهو قول الحسن، ومجاهد، ومالك، والأوزاعي وجماعة
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل»
«1» يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً من عدم قبول عبادته ومن سخطه تعالى وعذابه، وَطَمَعاً في رحمته وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ من المال يُنْفِقُونَ (16) في وجوه البر والحسنات، فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ أي فلا تعلم نفس لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ما ذخر لهم، مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ أي ما يحصل به الفرح والسرور جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) أي للجزاء بما كانوا يعملونه في الدنيا من الأعمال الصالحة، أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً؟ أي أفبعد ظهور التباين بين المؤمن والكافر يتوهم كون المؤمن الذي حكيت أوصافه الفاضلة كالكافر الذي ذكرت أحواله الشنيعة، لا يَسْتَوُونَ (18) ، أي
المؤمنون كعلي رضي الله عنه، والكافرون كالوليد بن عقبة بن أبي معيط، وذلك أنه كان بينهما تنازع يوم بدر فقال الوليد بن عبقة لعلي:
اسكت فإنك صبي وأنا والله أبسط منك لسانا، وأشجع منك جنانا، وأملأ منك حشوا في الكتيبة فقال علي: اسكت فإنك فاسق. فأنزل الله تعالى هذه الآية
. أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلًا أي حالة كونها ثوابا معدا لهم كما يعد ما يحصل به الإكرام للضيف بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) أي بسبب أعمالهم الصالحة في الدنيا. وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا أي خرجوا عن دائرة الإيمان فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها، أي النار أُعِيدُوا فِيها بمقامع الحديد. وَقِيلَ لَهُمْ أي قالت الزبانية زيادة في غيظهم: ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) أي الذي كنتم في الدنيا تكذبون بعذاب النار وقلتم: إنه لا يكون
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ، أي ولنصيبن كفار مكة من عذاب الدنيا بالقحط سبع سنين، والقتل والأسر يوم بدر قبل عذاب الآخرة لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) يتوبون عن الكفر، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها أي لنذيقنهم ولا يرجعون فيكونون قد ذكروا بآيات الله من النعم أولا والنقم ثانيا، ولم يؤمنوا فلا أظلم منهم. إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) أي لما لم ينفعهم العذاب الأدنى فأنا
__________
(1) رواه ابن ماجة في المقدّمة، باب: في فضائل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.(2/243)
منتقم منهم بالعذاب الأكبر. وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ، أي التوراة فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ أي فلا تكن يا أشرف الخلق في شك من لقاء الكتاب الذي هو القرآن، أي إنا آتينا موسى مثل ما أتيناك من الكتاب فلا تكن في شك من أنك لقيت نظيره، وَجَعَلْناهُ أي الكتاب الذي آتيناه موسى هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) كما جعلنا كتابك هاديا للأمة وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ إلى دين الله بِأَمْرِنا إياهم بذلك، كما جعلنا من أمتك صحابة يهدون لَمَّا صَبَرُوا أي حين صبروا على مشاق الطاعات ومقاساة الشدائد في نصرة الدين.
وقرأ حمزة والكسائي بكسر اللام وتخفيف الميم، أي لصبرهم على ذلك. وَكانُوا بِآياتِنا- التي في تضاعيف الكتاب يُوقِنُونَ (24) لإمعانهم فيها النظر إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ أي يقضي بَيْنَهُمْ أي بين المبتدع والمتبع كما يفصل بين المؤمن والكافر، أو يفصل بين المختلفين من أمة واحدة كما يفصل بين المختلفين من الأمم الكثيرة يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) من أمور الدين. أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا أي أغفلوا ولم يفعل الهداية لهم كثرة إهلاكنا وقد جوز أن يكون الفاعل ضميرا يعود على الله، كما يدل عليه قراءة «نهد» بنون العظمة فيكون «كم أهلكنا» إلخ استئنافا مبينا لكيفية هدايته تعالى مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ مثل عاد وثمود، وقوم ولوط. يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ أي يمرون في أسفارهم إلى التجارة على ديارهم وبلادهم، ويشاهدون آثار هلاكهم إِنَّ فِي ذلِكَ أي في كثرة إهلاكنا الأمم الخالية العاتية لَآياتٍ عظيمة في أنفسها كثيرة في عددها أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) هذه الآيات سماع تدبر واتعاظ؟ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ أي التي أزيل نباتها بالمرة.
قال ابن عباس هي أرض اليمن والشام. وقال قوم: هي مصر فَنُخْرِجُ بِهِ أي بذلك الماء من تلك الأرض زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أي من ذلك الزرع أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ قدم الأنعام في الأكل لأن الزرع أول ما ينبت يصلح للدواب، ولأن الزرع غذاء الدواب، وهو لا بد منه أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) ؟
أي ألا ينظرون فلا يبصرون ذلك ليستدلوا به على كمال قدرته تعالى، وعلى فضله؟ وَيَقُولُونَ أي المشركون للمؤمنين بطريق الاستعجال تكذيبا واستهزاء: مَتى هذَا الْفَتْحُ أي النصر؟ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) ! وكان المسلمون يقولون: إن الله سيفتح لنا على المشركين وإن الله ينصرنا عليكم. قُلْ يا أشرف الخلق لبني خزيمة وبني كنانة يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ إذا جاءهم العذاب وقتلوا لأن إيمانهم حال القتل إيمان اضطرار، وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) أي يمهلون بتأخير العذاب عنهم، ولما فتحت مكة هربت قوم من بني كنانة فلحقهم خالد بن الوليد، فأظهروا الإسلام، فلم يقبله منهم خالد وقتلهم، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي عن بني خزيمة ولا تبال بتكذيبهم وَانْتَظِرْ هلاكهم يوم فتح مكة إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) هلاكك. ويقال: وانتظر النصر من الله فإنهم ينتظرون النصر من آلهتهم. ويقال: وانتظر عذابهم بنفسك فإنهم ينتظرونه بلفظهم استهزاء.(2/244)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5) النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)
سورة الأحزاب
مدنية بالإجماع، ثلاث وسبعون آية، ألف ومائتان وثمانون كلمة، خمسة آلاف وتسعمائة وتسعون حرفا
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ أي المجاهرين بالكفر، وَالْمُنْفِقِينَ المضمرين له.
نزلت هذه الآية في أبي سفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وأبي الأعور عمرو بن سفيان السلمي. وذلك أنهم قدموا المدينة فنزلوا على عبد الله بن أبيّ، رأس المنافقين، بعد قتال أحد، وقد أعطاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم الأمان على أن يكلموه، فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وطعمة بن أبيرق فقالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم- وعنده عمر بن الخطاب رضي الله عنه- ارفض ذكر آلهتنا اللات، والعزى، ومناة وقل: إن لها شفاعة لمن عبدها وندعك وربك، فسق ذلك على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال عمر: يا رسول الله ائذن لنا في قتلهم فقال: «إني أعطيتهم الأمان» فقال عمر: اخرجوا في لعنة الله وغضبه، فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يخرجهم من المدينة، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) أي مبالغا في العلم والحكمة، فيعلم جميع الأشياء من المصالح والمفاسد، فلا يأمرك إلا بما فيه مصلحة ولا ينهاك إلا عن ما فيه مفسدة، ولا يحكم إلا بما يقتضيه الحكمة البالغة، وَاتَّبِعْ في كل ما تأتي وما تذر من أمور الدين ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) فلا تهتم بشأنهم فإن الله تعالى كافيكه.
وقرأ أبو عمرو «بما يعملون» بالغيبة، فالواو ضمير يعود على الكفرة والمنافقين وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي فوض جميع أمورك إليه، وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) أي حافظا موكولا إليه كل الأمور. ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ نزلت هذه الآية في أبي معمر جميل بن أسد الفهري، كان رجلا لبيبا، حافظا لما يسمع. فقالت قريش: ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء إلا من أجل أن له قلبين، وكان هو يقول: لي قلبان أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد، فلما هزم الله المشركين بوم بدر انهزم أبو معمر، فلقيه أبو سفيان وإحدى نعليه بيده والأخرى برجله، فقال له: يا أبا معمر ما حال الناس؟ فقال: انهزموا. فقال: ما بال إحدى نعليك في يدك والأخرى(2/245)
في رجلك؟ فقال أبو معمر: ما شعرت إلا أنهما في رجلي. فعلموا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده. وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ أي
كأمهاتكم في الحرام.
نزلت هذه الآية في أوس بن الصامت أخي عبادة بن الصامت وامرأته خولة. وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ الذين تبنيتم أَبْناءَكُمْ أي كأبنائكم من النسب.
وقرأ عاصم «تظاهرون» بضم التاء وفتح الظاء مع المد وكسر الهاء، وحمزة والكسائي بفتح التاء والظاء مع المد والتخفيف وفتح الهاء، وابن عامر كذلك، إلا أنه يشدد الظاء. والباقون بفتح التاء والظاء والهاء المشددتين ولا ألف بعد الظاء.
روى الأئمة عن ابن عمر قال: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد، حتى نزل ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله، وكان زيد فيما روى عن أنس بن مالك وغيره مسبيا من الشام بستة خيل من تهامة، فاشتراه حكيم بن حزام بن خويلد، فوهبه لعمته خديجة بنت خويلد، فوهبته خديجة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فأعتقه، وتبناه، فأقام عنده مدة، ثم جاء عنده أبوه وعمه في فدائه فقال لهما النبي صلّى الله عليه وسلّم: «خيّراه، فإن اختاركما فهو لكما دون فداء» . فاختار الرق مع رسول الله على حريته وقومه، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم عند ذلك: «يا معشر قريش اشهدوا أنه ابني يرثني وأرثه» . وكان يطوف على حلق قريش يشهدهم، فرضي بذلك عمه وأبوه وانصرفا
، ذلِكُمْ أي دعاؤكم بقولكم: هذا ابني قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ فقط فهو قول لا حقيقة له، ولا يخرج من قلب ولا يدخل في قلب فهو قول بالفم مثل أصوات البهائم وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ فإن العاقل ينبغي أن يكون قومه له، إما عن عقل أو عن شرع، فإذا قال: فلان ابن فلان ينبغي أن يكون عن حقيقة أو عن شرع بأن يكون ابنه شرعا وإن لم يعلم الحقيقة كمن تزوج بامرأة فولدت لستة أشهر ولدا، وكان الزوجة من قبل زوجة شخص آخر يحتمل أن يكون الولد منه فإنا نلحقه بالزوج الثاني لقيام الفراش ونقول:
إنه ابنه وفي الدعي لم توجد الحقيقة ولا ورد الشرع به، لأن أباه ظاهر مشهور. ومن قال: إن تزوج النبي صلّى الله عليه وسلّم بزينب لم يكن حسنا، لأنها زوجة الابن يكون قد ترك قول الله الحق هي حلال لك وقد أخذ بقول خرج من الفم. وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) أي سبيل الحق فدعوا أقوالكم وخذوا بقول تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ أي انسبوهم إليهم هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ أي الدعاء لآبائهم بالغ في العدل في حكم الله تعالى فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ أي بنو عمكم، أي فإن لم تعرفوا أبا شخص تنسبونه إليه وأردتم خطابه فقولوا له: يا أخي، ويا ابن عمي.
ويقال: فادعوهم باسم إخوانكم في الدين كأن تقولوا: عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد الرحيم، وعبد الرزاق وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي إثم فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ بالسهو أو سبق اللسان فقول القائل لغيره: يا ابني، بطريق الشفقة أو يا أبي، بطريق التعظيم فإنه مثل الخطأ، ألا ترى أن اللغو في اليمين مثل الخطأ وسبق اللسان. وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ فيه جناح وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً(2/246)
هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)
رَحِيماً
(5) يغفر الذنوب ويرحم المذنب فالمغفرة هو أن يستر القادر القبيح، الصادر ممن تحت قدرته والرحمة هو أن يميل إلى شخص بالإحسان لعجز المرحوم إليه لا لعوض. النَّبِيُّ أَوْلى أي أشفق بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ في كل أمر من أمور الدين والدنيا، فإن نفوسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم. وهو صلّى الله عليه وسلّم يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم. والمعنى: أن طاعتهم للنبي أولى من طاعتهم لأنفسهم وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ أي منزلات منزلة الأمهات في استحقاق التعظيم، وفي تحريم نكاحهن تحريما مؤبدا لا في غير ذلك سواء دخل صلّى الله عليه وسلّم بها أو لا، وسواء مات عنهن أو طلقهن، وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ أي ذوو القرابات بعضهم أولى ببعض في التوارث بحق القرابة من الإرث بحق الإيمان، وبحق الهجرة في القرآن وهو آية المواريث والوصية، إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً أي إلى أصدقائكم وصية من الثلث أي إن أوصيتم فغير الوارثين أولى، وإن لم توصوا فالوارثون أولى بميراثكم وبما تركتم كانَ ذلِكَ أي الميراث للقرابة والوصية للأجانب بالموادة فِي الْكِتابِ أي القرآن مَسْطُوراً (6) أي مكتوبا. وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ أي اذكر وقت أخذنا من النبيين كافة عهودهم بتبليغ الرسالة والدعاء إلى الدين الحق، وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) ، أي عهدا مؤكدا وهو الإخبار بأنهم مسؤلون عما فعلوا في الإرسال لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ أي ليسأل الرسل عن صدقهم في تبليغ الرسالة تبكيتا لمن أرسلوا إليهم، وليسأل الوافين عن وفائهم، والمؤمنين عن إيمانهم وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8) أي فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين بالرسل عذابا أليما. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ، أي أحزاب وهم قريش، وغطفان، ويهود قريظة، والنضير. وكانوا زهاء اثني عشر ألفا. فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وهي ريح الصبا وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وهم الملائكة عليهم السلام، وكانوا ألفا ولم يقاتلوا يومئذ، وإنما ألقوا الرعب في قلوب الأحزاب، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من التجائكم إليه ورجائكم فضله بَصِيراً (9) ، فنصركم على الأعداء عند الاستعداد.
وقرئ «بما يعملون» بالياء، أي الأحزاب إِذْ جاؤُكُمْ أي الأحزاب مِنْ فَوْقِكُمْ أي من أعلى الوادي من جهة المشرق، وهم بنو غطفان، وأسد قائدهم عيينة بن حصن، وعامر بن الطفيل في هوازن، ومعهم اليهود من قريظة والنضير. وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ أي من أسفل الوادي من قبل المغرب، وهم قريش وبنو كنانة، وأهل تهامة، وقائدهم أبو سفيان، وكانوا عشرة آلاف.
وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ أي واذكروا حين مالت أبصار المنافقين عن موضعها عن طريقها فلم تلتفت إلى العدو لكثرته وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ أي بلغت قلوب المنافقين بأن انتفخت عند منتهى الحلقوم من الخوف وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) أي ظن المخلصون أن الله تعالى ينجز وعده في إعلاء دينه أو يمتحنهم فخافوا الزلل
هُنالِكَ أي في ذلك الزمن الهائل والمكان الدحض ابْتُلِيَ(2/247)
الْمُؤْمِنُونَ
، أي امتحنهم الله فتميز الصادق عن المنافق وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً (11) ، أي حركوا تحريكا شديدا من الهول والفزع،
وكانت غزوة الأحزاب في شوال سنة أربع وسببها أنه لما وقع إجلاء بني النضير من أماكنهم سار منهم جمع من أكابرهم منهم سيدهم حيي بن أخطب إلى أن قدموا مكة على قريش فحرضوهم على حرب رسول الله وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله فقال أبو سفيان: مرحبا وأهلا، وأحب الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد، ثم خرج أولئك اليهود حتى جاءوا غطفان، وقيس، وغيلان، فطلبوهم لحرب محمد، فأجابوهم، فخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان، وخرجت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن، فلما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإقبالهم شرع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حفر الخندق بإشارة سلمان الفارسي، وكان النبي يقطع لكل عشرة أربعين ذراعا، فلما فرغوا من حفرة أقبلت قريش والقبائل وجملتهم اثنا عشر ألفا، فنزلوا حول المدينة حتى نزلوا إلى جانب أحد، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هناك عسكره والخندق بينه صلّى الله عليه وسلّم وبين القوم، وأمر بالذراري والنساء، فرفعوا في الآطام، فلما رأت قريش الخندق قالوا: هذه مكيدة لم تكن العرب تعرفها، فشرعوا يترامون مع المسلمين بالنبل، ومكثوا في ذلك الحصار أربعة وعشرين يوما فاشتد على المسلمين الخوف فبعث الله عليهم ريحا في ليلة شديدة البرد والظلمة، فقلعت بيوتهم، وقطعت أطنابهم، وكفأت قدورهم، وصارت تلقي الرجل على الأرض، وأرسل الله الملائكة، فزلزلتهم ولم تقاتل بل نفثت في قلوبهم الرعب، فلما رأى أبو سفيان ما تفعل الريح قام فقال: يا معشر قريش ليستعرف كل منكم جليسه واحذروا الجواسيس. ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش والله إنكم لستم بدار مقام، ولقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من هذه الريح ما ترون، فارتحلوا، فإني مرتحل. ووثب على جمله وشرع القوم يقولون الرحيل الرحيل والريح تقلبهم على بعض أمتعتهم وتضربهم بالحجارة ولم تجاوز عسكرهم ورحلوا وتركوا ما استثقلوه من متاعهم وحين انجلى الأحزاب قال صلّى الله عليه وسلّم: «الآن نغزوهم ولا يغزونا»
. وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي ضعف اعتقاد ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ من إعلاء الدين إِلَّا غُرُوراً (12) ، أي إلا وعد غرور أي قال معتب بن قشير وأصحابه: يعدنا محمد بفتح كنوز كسرى وقيصر والحال أننا لا نقدر أن نخرج للغائط خوفا، وما هذا إلا وعد غرور. وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ هم أوس بن قيظي من رؤساء المنافقين وأتباعه.
وقال السدي: هم عبد الله بن أبيّ وأصحابه. يا أَهْلَ يَثْرِبَ هو اسم المدينة المطهرة لا مُقامَ لَكُمْ أي لا وجه لإقامتكم مع محمد فَارْجِعُوا عن محمد واتفقوا مع الأحزاب تخرجوا من الأحزان وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ أي يستأذن النبي في الرجوع إلى المدينة فريق من(2/248)
المنافقين أوس بن قيظي، وأبو عرابة بن أوس من بني حارثة يَقُولُونَ للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ائذن لنا يا نبي الله بالرجوع إلى المدينة إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ، أي غير
حصينة نخاف عليها سرق السراق وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ أي والحال أن البيوت ليس فيها خلل إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً (13) أي ما يريدون بالاستئذان إلا فرار من القتل، وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً (14) أي ولو دخل الأحزاب بيوتهم من جميع جوانبها، ثم سألهم الداخلون أو غيرهم الرجعة إلى الكفر لجاءوها.
وقرأ نافع وابن كثير «لأتوها» بقصر الهمزة، أي لفعلوها. والباقون بالمد، أي لأعطوها إجابة لسؤال من سألهم وما أخروا الردة إلا قدر ما يسع السؤال والجواب، أي لأسرعوا الإجابة إلى الشرك طيبة نفوسهم به وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل غزوة الخندق لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ أي منهزمين من المشركين فإن بني حارثة هموا يوم أحد أن يفشلوا مع بني سلمة، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله تعالى أن لا يعودوا لمثل ذلك وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا (15) أي وكان ناقض عهد الله مسؤولا يوم القيامة عن نقضه قُلْ يا أشرف الخلق لبني حارثة: لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ لأنه لا بد لكل إنسان من الموت في وقت معين سبق به قضاء الله تعالى وجرى عليه القلم وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) ، أي ولو فررتم من الموت في يومكم مثلا لما دمتم ولما متعتم بعد الفرار إلا تمتيعا قليلا قُلْ يا أكرم الرسل لبني حارثة:
مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً أي من يمنعكم من مراد الله إن أراد بكم عذابا بالقتل أو أراد بكم نجاة من القتل وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17) أي ليس لكم ولي يشفع لمحبته إياكم ولا نصير يدفع عنكم السوء إذا أتاكم قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا، أي قد علم الله المانعين من الرجوع إلى الخندق والقائلين لأصحابهم المنافقين: قربوا أنفسكم إلينا أي وهم عند هذا القول خارجون من المعسكر، متوجهون نحو المدينة، وكان هؤلاء عبد الله بن أبي، وجد بن قيس، ومعتب بن قشير وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أي وهم لا يأتون القتال إلا زمانا قليلا رياء وسمعة، أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ أي بخلاء عليكم بأبدانهم فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، أي فإذا جاء خوف العدو رأيت المنافقين في الخندق يا أشرف الخلق ينظرون إليك، تدور أعينهم في أحداقهم نظرا كائنا كنظر المغشي عليه من معالجة سكرات الموت، فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ وحيزت الغنائم سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أي غلبوكم بألسنة ذربة، وآذوكم بكلامهم يقولون: نحن الذين قاتلنا وبنا انتصرتم وكسرتم العدو، وقهرتم، ويطالبونكم بالقسم الأوفر من الغنيمة وكانوا من قبل راضين من الغنيمة بالأياب أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أي حرصا على المال، ويقال: إنهم قليلو الخير في الحالتين كثير والشر في الوقتين، أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر لَمْ يُؤْمِنُوا بقلوبهم وإن(2/249)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
أظهروا الإيمان لفظا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ أي أظهر الله بطلان أعمالهم التي كانوا يأتون بها مع المسلمين وَكانَ ذلِكَ أي الإحباط عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) أي هينا يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا أي هؤلاء المنافقون لجبنهم يظنون قريشا وغطفان واليهود، لم ينهزموا عند ذهابهم، ففروا إلى داخل المدينة وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) أي وإن يأت الكفار بعد ما ذهبوا كرة ثانية تمنى هؤلاء المنافقون أن لو كانوا ساكنين خارج المدينة بين الأعراب، بعداء عن تلك الكفار، يسألون كل قادم من جانب المدينة عما جرى عليكم مع الكفار. والحال أن هؤلاء المنافقين لو كانوا فيكم هذه الكرة ولم يرجعوا إلى المدينة ووقع قتال آخر: ما قاتلوا معكم إلا قليلا رياء وخوفا من التعبير
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، أي خصلة حسنة حقها أن يقتدي بها على سبيل الإيجاب في أمور الدين، وعلى سبيل الاستحباب في أمور الدنيا لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ أي يرجو ثواب الله واليوم الآخر خصوصا وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) باللسان والقلب وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ أي الكفار الكثيرة الأجناس قالُوا هذا أي المرئي ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ بقوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء إلى قوله تعالى: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ
وبقوله صلّى الله عليه وسلّم: «سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم والعاقبة لكم عليهم»
وبقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الأحزاب سائرون إليكم بعد تسع ليال أو عشر»
«1» .
وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ في النصرة والثواب كما صدقا في البلاء وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) ، أي وما زادهم الوعد إلا إيمانا بوقوعه وتسليما عند وجوده، ويقال: وما زادهم ما رأوه إلا إيمانا بالله وبمواعيده، وتسليما لأوامره ومقاديره.
وقرأ ابن أبي عبلة «وما زادوهم» بضمير الجمع، ويعود للأحزاب، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبرهم أن الأحزاب تأتيهم بعد تسع أو عشر مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ أي أتوا بالصدق في عهدهم من الثبات مع الرسول، أي من الصحابة رجال نذورا أنهم إذا لقوا حربا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا، وهم عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد وعمرو بن نفيل، وحمزة، ومصعب بن عمير، وأنس بن النضر وغيرهم.
فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ أي نذره كحمزة، ومصعب بن عمير، وأنس بن النضر وغيرهم.
وأخرج الترمذي عن معاوية أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «طلحة ممن قضى نحبه»
«2» . وقد
روي أن طلحة ثبت مع رسول الله يوم أحد حتى أصيبت يده فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أوجب طلحة الجنة»
«3»
وعنه صلّى الله عليه وسلّم في رواية
__________
(1) رواه أحمد في (م 1/ ص 165) .
(2) رواه الألباني في السلسلة الصحيحة (126) .
(3) رواه ابن كثير في البداية والنهاية (4: 122) .(2/250)
عائشة: «من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على الأرض وقد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة»
«1» .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ قضاء نحبه لكونه موقنا، كعثمان وطلحة وغيرهما ممن استشهد بعد ذلك فإنهم مستمرون على نذورهم وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) أي وما غيروا العهد تغييرا بالنقض لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ أي بصدق ما وعدهم بالقول والفعل في الدنيا والآخرة وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ الذين كذبوا وأخلفوا بما صدر عنهم من الأعمال والأقوال المحكية إِنْ شاءَ تعذيبهم فيمنعهم من الإيمان فماتوا على النفاق أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إن تابوا قيل: الموت إن أراد ذلك إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً لمن تاب حيث ستر ذنوبهم رَحِيماً (24) حيث رزقهم الإيمان وَرَدَّ اللَّهُ أي صرف الله الَّذِينَ كَفَرُوا- وهم الأحزاب- بِغَيْظِهِمْ أي ملتبسين به لَمْ يَنالُوا خَيْراً أي غير ظافرين يخير من دين ودنيا. وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ أي رفع الله مؤنة القتال عن المؤمنين بالريح والملائكة، وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا على نصر المؤمنين فلم يحوجهم إلى قتال الكفار، عَزِيزاً (25) أي قادرا على إهلاك الكافرين وإذلالهم.
روى البخاري عن سلمان بن صرد قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين انجلى الأحزاب يقول: «الآن نغزوهم ولا يغزونا نحن نسير إليهم»
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ أي عاونوا كفار مكة مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وهم بنو قريظة والنضير كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب وأصحابهما، مِنْ صَياصِيهِمْ أي حصونهم وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، أي الخوف الشديد حتى سلموا أنفسهم للقتل وأولادهم ونساءهم للسبي فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وهم الرجال، كانوا ستمائة وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وهم النساء والذراري، وكانوا سبعمائة وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ من الحدائق والمزارع وَدِيارَهُمْ، أي منازلهم وَأَمْوالَهُمْ من النقد والماشية، والسلاح، والأثاث وغيرها، وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها أي لم تقبضوها الآن، وهي خيبر فإنها فتحت بعد بني قريظة بسنتين- كما قاله السدي ومقاتل- أو هي أرض الروم- وفارس كما قاله الحسن- وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27) ويملككم غيرها.
روي أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب ورجع المسلمون إلى المدينة ووضعوا السلاح وهو على فرسه الحيزوم، والغبار على وجه الفرس، والسرج فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ما هذا يا جبريل؟» فقال: من متابعة قريش. فجعل رسول الله يمسح الغبار عن وجه الفرس وعن سرجه فقال: يا رسول الله إن الملائكة لم تضع السلاح منذ
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الطلاق، باب: 35، والنسائي في كتاب الطلاق، باب: التوقيت في الخيار، وابن ماجة في كتاب الطلاق، باب: الرجل يخيّر امرأته، وأحمد في (م 6:
212) .(2/251)
أربعين ليلة، إن الله يأمرك أن تسير إلى بني قريظة، فانهض إليهم فإني قد قطعت أوتارهم، وفتحت أبوابهم، وتركتهم في زلزال، وألقيت الرعب في قلوبهم، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مناديا ينادي: إن من كان مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة، فحاصرهم المسلمون خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار فقال لهم: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتنزلون على حكمي فأبوا فقال:
أتنزلون على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس فرضوا به» فقال سعد: حكمت فيهم أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات» «1» . فحبسهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في دار بنت الحرث من نساء بني النجار، ثم خرج إلى سوق المدينة- الذي هو سوقها اليوم- فخندق فيه خندقا، ثم بعث إليهم، فأتى بهم إليه، وفيهم حيي بن أخطب رئيس بني النضير، وكعب بن أسد رئيس بني قريظة، وكانوا ستمائة، فأمر عليا والزبير بضرب أعناقهم، وطرحهم في ذلك الخندق، فلما فرغ من قتلهم وانقضى شأنهم توفي سعد المذكور بالجرح الذي أصابه في وقعة الأحزاب وحضره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبو بكر وعمر. قالت عائشة: فو الذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وإني في حجرتي.
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ قال عكرمة كان تحته صلّى الله عليه وسلّم يومئذ تسع نسوة خمس من قريش: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة وأم سلمة بنت أبي أمية ثم صفية بنت حي الخيرية وميمونة بنت الحرث الهلالية وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحرث من بني المصطلق. وروي أنهن سألنه صلّى الله عليه وسلّم ثياب الزينة وزيادة النفقة فنزلت هذه الآية: إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا أي التنعم فيها وَزِينَتَها أي زخارفها فَتَعالَيْنَ أي أقبلن بإرادتكن واختياركن لإحدى الخصلتين أُمَتِّعْكُنَّ أي أعطاكن المتعة وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا (28) ، أي أخرجكن من البيوت من غير ضرار بعد إعطاء المتعة وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي تردن طاعة الله وطاعة رسوله وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، أي الجنة فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أي لمن عمل الصالحات منكن أَجْراً عَظِيماً (29) وهو الكبير في الذات، الحسن في الصفات، الباقي في الأوقات.
وروي عن جابر بن عبد الله قال: دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم، فأذن لأبي بكر فدخل، ثم جاء عمر، فأستأذن، فأذن له، فدخل، فوجد النبي صلّى الله عليه وسلّم جالسا واجما ساكتا وحوله نساؤه قال عمر: فقلت: والله لأقولن شيئا أضحك به النبي صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول صلّى الله عليه وسلّم لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها فضحك النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: «هن حولي كما ترى يسألنني النفقة» . فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ
__________
(1) رواه مسلم في فضائل الصحابة، باب: 32، وأحمد في (م 1/ ص 185) .(2/252)
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها كلاهما يقول: لا تسألن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما ليس عنده.
فقلن: والله لا نسأل رسول الله أبدا شيئا ليس عنده، ثم اعتزلهن شهرا، ثم نزلت هذه الآية. فبدأ بعائشة فقال: «يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمرا لا أحب أن تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك» «1» . قالت: وما هو يا رسول الله؟ فتلا عليها الآية. فقالت: أفيك يا رسول الله أستشير أبوي، بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة، ثم اختارت الباقيات اختيارها فشكر لهن ذلك،
يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ أي بكبيرة مُبَيِّنَةٍ أي ظاهرة القبح.
وقرأ ابن كثير وشعبة بفتح الياء التحتية، أي بين الله قبحها يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ، أي يعذبن ضعفي غيرهن. وقرأ أبو عمرو «يضعف» بتشديد العين على البناء للمفعول. وقرأ ابن كثير وابن عامر «نضعف» بنون العظمة وتشديد العين على البناء للفاعل ونصب «العذاب» . وَكانَ ذلِكَ أي التضعيف عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) لا يمنعه تعالى عن التضعيف كونهن نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم، وليس أمر الله كأمر الخلق حيث يتعذر عليهم تعذيب الأعزة بسبب كثرة شفعائهم،
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أي من يطع الله ورسوله منكن وَتَعْمَلْ صالِحاً أي خالصا فيما بينها وبين ربها نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ، أي نعطها ثوابها مثلي ثواب غيرها من النساء، فمرة على الطاعة، ومرة لطلبهن رضا رسول الله بالقناعة، وحسن المعاشرة، وقرأ حمزة والكسائي بالياء التحتية في «يعمل» ، و «يؤتها» . وَأَعْتَدْنا لَها أي هيأنا لها رِزْقاً كَرِيماً (31) أي مرضيا في الجنة، زيادة على أجرها المضاعف، يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ أي اتصفتن بالتقوى، لأن فيكن أمرا لا يوجد في غيركن وهو كونكن أمهات جميع المؤمنين، وزوجات خير المرسلين، كما أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم ليس كأحد من الرجال، فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ أي فلا ترفقن بالقول عند الرجال فَيَطْمَعَ في الخيانة الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ أي شهوة الزنا، وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً (32) أي قولا حسنا مع كونه خشنا، وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ أي امكثن في بيوتكن، وليكن عليكن حسن الهيئة.
وقرأ نافع وعاصم بفتح القاف فهو أمر من قر يقر من باب علم أو من قار يقار إذا اجتمع.
وقرأ غيرهما بكسر القاف من وقر يقر وقارا. وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى أي ولا تتزين بزينة الكفار في الثياب الرقاق الملونة. والمراد بالجاهلية الأولى هي التي قبل الإسلام وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ أي أتممن الصلوات الخمس. وَآتِينَ الزَّكاةَ أي أعطين زكاة أموالكن وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في كل ما تأتين وما تذرن إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ، أي عمل
__________
(1) رواه القرطبي في التفسير (14: 19) .(2/253)
الشيطان وما ليس فيه رضا الرحمن- كما قاله ابن عباس- أو الذنب المدنس بعرضكم، أَهْلَ الْبَيْتِ، أي يا أهل بيت النبوة.
وأخرج الترمذي حديثا أنه لما نزلت هذه الآية دعا النبي صلّى الله عليه وسلّم فاطمة، وحسنا، وحسينا، وعليا، وقال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي»
«1» . وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: نولت هذه الآية في نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم خاصة. وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) أي يلبسكم خلع الكرامة، فذهاب الرجس كناية عن زوال عين النجاسة، والتطهير كناية عن تطهير المحل. وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ أي اذكرن للناس بطريق العظة ما يتلى في بيوتكن من القرآن، وكلمات النبي صلّى الله عليه وسلّم إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) يعلم ويدبر ما يصلح في الدين، إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ أي إن المنقادين لحكم الله تعالى من الذكور والإناث، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي المصدّقين بما يجب تصديقه من الفريقين وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ، أي المداومين على الطاعات، وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ في القول والعمل، وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ على الطاعات وعن المعاصي، وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ أي المتواضعين لله بقلوبهم وجوارحهم، وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ بما وجب في مالهم، وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ الصوم المفروض، وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ عن الحرام، وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ بقلوبهم وألسنتهم، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ بسبب ما عملوا من تلك الحسنات المذكورة مَغْفِرَةً للصغائر وَأَجْراً عَظِيماً (35) على الطاعات. نزلت هذه الآية في قول أم سلمة، ونسيبة بنت كعب الأحبار: يا رسول الله ما ترى الله يذكر النساء في شيء من الخير، إنما ذكر الرجال، ثم نزلت في زينب بنت جحش بنت عمة رسول الله، وأميمة بنت عبد المطلب خطبها رسول الله لزيد بن حارثة فأبت هي وأخوها عبد الله، وكانت بيضاء جميلة، وزيد أسود وقالت: أنا بنت عمتك يا رسول الله فلا أرضاه لنفسي. وقيل: نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وأخيها، وكانت وهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلّم فزوجها من زيد بعد ما طلق زينب بنت جحش، فسخطت هي وأخوها وقالا: إنما أردنا رسول الله فزوجنا عبده. وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ، أي وما صح لكل مؤمن وكل مؤمنة إذا أراد رسول الله أمرا أن يختاروا من أمرهم ما شاءوا، بل يجب عليهم أن يجعلوا اختيارهم تبعا لاختياره صلّى الله عليه وسلّم، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في أمر من الأمور كأن يعمل فيه برأيه فَقَدْ ضَلَّ طريق الحق ضَلالًا مُبِيناً (36) ، أي بين الانحراف عن سنن الصواب، فلما نزلت هذه الآية رضيت زينب وأخوها، وجعلا الأمر بيد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنكحها زيدا، وساق إليها رسول الله عشرة دنانير وستين درهما وخمارا ودرعا، وملحفة
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الحيض، باب: 18، وأحمد في (م 2/ ص 315) .(2/254)
وخمسين مدا من طعام وثلاثين صاعا من تمر، وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أي واذكر وقت قولك للذي أنعم الله عليه بالإسلام وأنعمت عليه، بالاعتاق وهو زيد بن حارثة أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ زينب، أي لا تطلقها وذلك
أنه صلّى الله عليه وسلّم أبصرها قائمة في درع وحمار بعد ما أنكحها إياه، فوقعت في نفسه حالة جبلية لا يكاد يسلم منها البشر. فقال: «سبحان الله مقلب القلوب» » وسمعت زينب بالتسبيحة، فذكرتها لزيد ففطن لذلك ووقع في نفسه كراهة صحبتها، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: أريد أن أفارق صاحبتي. فقال: ما لك أرابك منها شيء؟ فقال: لا والله يا رسول الله ما رأيت منها إلّا خيرا، ولكنها تتعاظم علي بشرفها. فقال له: أمسك عليك زوجك
أي لا تفارقها. وَاتَّقِ اللَّهَ في أمرها فلا تطلقها تعللا بتكبرها عليك بسبب النسب وعدم الكفاءة، وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ أي والحال أنك تخفي في نفسك ما أعلمك الله أنها ستصير من أزواجك بعد طلاق زيد، وَتَخْشَى النَّاسَ وتستحي من تعيير الناس إياك بأن يقولوا: أخذ محمد زوجة ابنه وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ، أي والحال أن الله وحده أحق أن تستحي منه. فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً أي فلما وطئها ولم يبق له فيها حاجة وطلقها وانقضت عدتها زَوَّجْناكَها أي جعلنا زينب زوجتك بلا واسطة عقد، فدخل صلّى الله عليه وسلّم عليها بغير إذن ولا تجديد عقد، ولا تقرير صداق، ولا شيء مما يكون شرطا في حقوقنا، وأ ولم عليها بشاة، وأطعم الناس خبزا ولحما حتى تركوه.
وعن أنس قال: ما أولم النبي صلّى الله عليه وسلّم على أحد من نسائه كما أولم على زينب. لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً، أي لكيلا يكون على المؤمنين ضيق في تزوج نساء من تبنوهم إذا قضوا منهن حاجة بالدخول بهن، ثم الطلاق وانقضاء العدة، فإن لهم في رسول الله أسوة حسنة. والمعنى: زوجناك زينب وهي امرأة زيد الذي تبنيته ليعلم أن زوجة المتنبي حلال للمتبني ولو بعد الدخول بها، وفي هذا التعليل إشارة إلى أن التزوج من النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن لقضاء شهوته بل لبيان الشريعة بفعله، فإن الشرع يستفاد من فعل النبي وقوله: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) أي وكان مراد الله موجودا في الخارج لا محالة، ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ، أي ليس على النبي مأثم فيما رخص الله له من التزوج سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ أي سن الله ذلك سنة في الذين مضوا من قبل محمد، فإن داود عليه السلام افتتن بامرأة أوريا، وسليمان عليه السلام تزوج بلقيس، ولقد كانت لداود عليه السلام مائة امرأة وثلاثمائة سرية، ولسليمان عليه السلام ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سرية فإن اليهود عابوا النبي صلّى الله عليه وسلّم بكثرة النساء، فرد الله عليهم بقوله: سنة الله، أي كسنة الله في الأنبياء الذين من قبل محمد. وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) أي وكان قضاء الله حكما مبتوتا، والقضاء ما كان مقصودا في الأصل، والقدر ما
__________
(1) رواه السيوطي في الدر المنثور (5: 265) ، والبغوي في شرح السنّة (2: 322) .(2/255)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)
يكون تابعا له مثاله من كان يقصد مدينة، فنزل بطريق تلك المدينة في قرية يصح منه في العرف أن يقول في جواب من يقول: لم جئت إلى هذه القرية؟ إني جئت إلى هذه القرية، وإنما قصدت المدينة الفلانية، وهذه وقعت في طريقي، وإن كان قد جاءها ودخلها إذا عرفت هذا فإن الخير كله بقضاء، وما في العالم من الضرر بقدر. ثم وصف الله تعالى الذين خلوا بقوله تعالى:
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ في تبليغ الرسالة وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ أي الذين هم كانوا رسلا مثل محمد وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) ، أي كافيا للمخاوف، فينبغي أن لا يخشى غيره، أو محاسبا على الصغيرة والكبيرة فيجب أن يكون حق الخشية منه تعالى. ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ على الحقيقة حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الوالد وولده من حرمة المصاهرة وغيرها، فليس محمد أبا زيد وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ، أي ولكن كان محمد رسولا لله والعامة على تخفيف «لكن» ، ونصب «رسول» على إضمار «كان» .
وقرأ أبو عمرو وفي رواية بتشديدها على أن «رسول» اسمها، والخبر محذوف، أي ولكن رسول الله. هو وقرأ زيد بن علي، وابن أبي عبلة بتخفيفها ورفع رسول على الابتداء وخبره مقدر، أي هو، أو بالعكس، أو ولكن هو رسول الله. وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ أي وكان آخرهم الذين ختموا به. وقرأ عاصم بفتح التاء. والباقون بكسرها، أي فإن رسول الله كالأب للأمة في الشفقة من جانبه وفي التعظيم من طرفهم، بل أقوى، فإن النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، والأب ليس كذلك، ثم إن النبي الذي يكون بعده، نبي إن ترك شيئا من النصيحة يستدركه من يأتي بعده وأما من لا نبي بعده يكون أشفق على أمته، وأهدى لهم إذ هو كوالد لولده الذي ليس له غيره من أحد وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40) . ومن جملته الحكم الذي بيّنه لكم وكنتم منه في شك، والحكمة في تزوجه صلّى الله عليه وسلّم بزوجة من تبناه إكمال شرعه، وذلك أن قول النبي يفيد شرعا لكن إذا امتنع هو عنه يبقى في بعض النفوس نفرة، ألا ترى أنه صلّى الله عليه وسلّم أحل أكل الضب، ثم لما لم يأكله بقي في النفوس شيء، ولما أكل لحم الجمل طاب أكله عندها مع أنه في بعض الملل لا يؤكل، وكذلك الأرنب.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ بما هو أهله من التهليل، والتحميد باللسان والقلب، ذِكْراً كَثِيراً (41) يعمّ الأوقات والأحوال أي بالليل والنهار، والبر والبحر، والصحة
والسقم، في السر والعلانية عند المعصية والطاعة. وَسَبِّحُوهُ أي نزهوه عما لا يليق به. بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) .
وهذا إشارة إلى المداومة وذلك، لأن مريد العموم قد يذكر الطرفين ويفهم منهما الوسط، هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ أي فالله تعالى وملائكته يعتنون بما فيه خيركم وصلاح أمركم، فالله يهديكم برحمته والملائكة يستغفرون لكم لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، أي يخرجكم بذلك من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة، وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) أي وكان(2/256)
الله بكافة المؤمنين رحيما. تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ، أي ما يحيون به يوم لقاء الله عند الموت، أو عند الخروج من القبور، أو عند دخول الجنة تسليم عليهم من الله تعالى، تعظيما لهم. أو من الملائكة بشارة لهم بالجنة، أو تكرمة لهم. وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) أي ثوابا حسنا في الجنة.
وهذا ترغيب ببيان أن الأجر الذي هو المقصد الأقصى موجود بالفعل مهيّأ لهم. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً على من بعثت إليهم، تشاهد أعمالهم. فالنبي بعث في الدنيا متحملا للشهادة، ويكون في الآخرة مؤديا لما تحمله. وَمُبَشِّراً للمؤمنين بالجنة، وَنَذِيراً (45) للكافرين بالنار، وَداعِياً إِلَى اللَّهِ أي إلى دينه، بِإِذْنِهِ. وهذا راجع إلى «داعيا» . وذلك كما إذا قال شخص: من يطع الملك يسعد، ومن يعصه يشقى، فيكون مبشرا ونذيرا ولا يحتاج في ذلك إلى إذن من الملك، وأما إذا قال: تعالوا إلى سماطه واحضروا على خوانه فيحتاج في ذلك إلى إذنه.
وَسِراجاً مُنِيراً (46) يستضاء به في ظلمات الجهل ويهتدي بأنواره إلى مناهج الرشد. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً (47) على سائر الأمم المؤمنين في الزيادة على أجور أعمالهم قوله: وَبَشِّرِ عطف على مفهوم. والتقدير: إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا، فاشهد وبشر. وقيل:
لما نزل قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 1، 2] قال المؤمنون: هنيئا لك يا رسول الله بالمغفرة، فما لنا عند الله تعالى؟ فقال الله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ الآية. وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ أي ولا تطع الكافرين من أهل مكة، أبا سفيان وأصحابه. والمنافقين من أهل المدينة عبد الله بن أبي وأصحابه، أي لا تترك إبلاغ شيء مما أمرت، وَدَعْ أَذاهُمْ أي دع أذيتهم إياك إلى الله، فإنه يعذبهم بأيديكم وبالنار، أو لا تبال بأذيتهم لك بسبب تصلبك في الدعوة والإنذار، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في كل ما تأتي وما تذر فإنه تعالى يكفيكهم، وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48) أي موكولا إليه الأمور في كل الأحوال.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ أو الكتابيات، ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ.
وقرأ حمزة والكسائي «تماسوهن» بضم التاء ومد الميم، أي من قبل أن تجامعوهن. فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ بالشهور أو الحيض تَعْتَدُّونَها أي تستوفون أنتم عددها، فَمَتِّعُوهُنَّ أي أعطوهن ما يتمتعن به وهو المتعة الواجبة للمفارقة في الحياة، إذا كانت مدخولا بها، أو غير مدخول بها، وكانت مفوضة ولم يفرض لها شيء قبل الفراق، وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا (49) أي أخرجوهن من منازلكم من غير ضرار ولا منع حق. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ أي أعطيت مهورهن وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ، أي مما فتح الله عليك مثل: صفية بنت حيي النضرية، وريحانة القرظية، وجويرية بنت الحرث الخزاعية وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ من بني عبد المطلب وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ من بني عبد مناف بن زهرة اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ، ذكر للنبي ما هو الأولى، فإن الزوجة التي أوتيت مهرها أطيب قلبا من(2/257)
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60)
التي لم تؤت، والمملوكة التي سباها الرجل بنفسه أطهر من التي اشتراها الرجل، فإن المشتراة لا يتحقق بدء أمرها وما جرى عليها، ومن هاجرت من أقارب النبي صلّى الله عليه وسلّم معه من مكة إلى المدينة أشرف ممن لم تهاجر، وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً وهي أم شريك بنت جابر العامرية، وخولة بنت حكيم، وزينب بنت خزيمة الأنصارية، وميمونة بنت الحرث إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ، أي إن ملكته بعضها بأي عبارة كانت بلا مهر، فتصير كالمستوفية مهرها، إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها أي أن يتملك بضعها بلا مهر، فإرادة النكاح جارية منه صلّى الله عليه وسلّم مجرى القبول، خالِصَةً لَكَ أي حال كون المرأة خصوصية لك، أو هبة مرخصة لك ف «خالصة» إما حال أو نعت مصدر مقدم. مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ.
قال الشافعي: والمعنى إن إباحة الوطء بالهبة وحصول التزوج بلفظها من خواصك.
وقرئ «خالصة» بالرفع على أنه مبتدأ محذوف، أي تلك المرأة، أو تلك الهبة رخصة لك وخصوصية لك، لا تتجاوز المؤمنين حيث لا تحل المرأة لهم بغير مهر ولا تصح الهبة، بل يجب مهر المثل قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ أي ما أوجبنا على المؤمنين في حق أزواجهم بأن لا يزيدوا على أربع نسوة، ولا يتزوجوا إلّا بولي وشهود ومهر، وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ بأن تكون الأمة ممن تحل لمالكها، كالكتابية وأن تستبرأ قبل الوطء، لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ أي ضيق، ف «اللام» متعلق بأحللنا. والمعنى أحللنا أزواجك وما ملكت يمينك، والموهبة لك لتكون في فسحة من الأمر، فلا يبقى لك شغل قلب، فينزل جبريل بالآيات على قلبك الفارغ، وتبلغ رسالات ربك بجدك، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) ، فيغفر الذنوب مما يعسر التحرز عنه، ويرحم العبيد بتوسعة الأمر في مواضع الضيق،
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ أي تترك مضاجعتها، وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ أي وتضم إليك من تشاء مضاجعتها، فالله أحل له صلّى الله عليه وسلّم وجوه المعاشرة بهن كيف يشاء، ولا يجب عليه القسم، فإن شاء أن يقسم قسم، وإن شاء أن يترك القسم ترك. وذلك لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم بالنسبة إلى أمته نسبة السيد المطاع.
وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم أرجأ منهن، سودة، وجويرة، وصفية، وميمونة، وأم حبيبة فكان يقسم لهن ما يشاء كما شاء. وكانت مما آوى إليه صلّى الله عليه وسلّم: عائشة، وحفصة، وزينب، وأم سلمة، فأرجأ خمسا، وآوى أربعا.
وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي «ترجى» بياء ساكنة. والباقون بهمزة مضمومة وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ أي إذا طلبت رد من كنت تركتها إلى فراشك، فلا جناح عليك في شيء من ذلك ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ من تقريب وإرجاء، وعزل وإيواء، أي تفويض الأمر لي مشيئتك أقرب إلى طيب نفوسهن، وإلى قلة(2/258)
حزنهن، وإلى رضاهن جميعا، لأنه حكم كلهن فيه سواء، ثم إن سويت بينهن وجدن ذلك تفضلا منك إن رجحت بعضهن علمن أنه بحكم الله فتطمئن به نفوسهن، وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ من الرضا والسخط، فاجتهدوا في إحسان الخواطر، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) أي إن أضمرن خلاف ما أظهرن فإنه يعلم ضمائر القلوب، فإن لم يعاتبهن في الحال فلا يغتررن، فإنه حليم لا يعجل لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ أي من بعد اختيارهن الله ورسوله، ورضاهن بما يؤتيهن الرسول من الوصل والهجران، والنقص والحرمان.
وقرأ أبو عمرو «لا تحل» بالفوقية، أو لا يحل لك النساء غير اللاتي ذكرنا لك من المؤمنات المهاجرات، من بنات عمك، وبنات عماتك، وبنات خالك، وبنات خالاتك. وأما غيرهن من الكتابيات فلا يحل لك التزوج بهن، وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ.
وهذا نهي عن شغل الجاهلية فإنهم كانوا يبادلون زوجة بزوجة، فينزل أحدهم عن زوجته، ويأخذ زوجة صديقه، ويعطيه زوجته.
روى الدارقطني عن أبي هريرة قال: كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل تنزل لي عن امرأتك، وأنزل لك عن امرأتي، وأزيدك، فأنزل الله تعالى: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ. إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ فتحل لك، وقد ملك مارية القبطية وولدت له إبراهيم، ومات في حياته صلّى الله عليه وسلّم، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52) أي حافظا شاهدا فاحذروا مجاوزة حدوده، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ، أي لا تدخلوا بيوت النبي في حال من الأحوال إلّا حال كونكم مأذونا لكم بالدخول إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ، أي منتظرين نضجه. نزلت هذه الآية في قوم كانوا يدخلون في بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم
غدوة وعشية، فيجلسون وينتظرون وقت الطعام حتى يأكلوا، ثم يتحدثون مع نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم، فاغتمّ بذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم، واستحيا أن يأمرهم بالخروج، وينهاهم عن الدخول، فنهاهم الله عند ذلك بهذه الآيات. وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ أي أكلتم الطعام فَانْتَشِرُوا، أي فتفرقوا ولا تلبثوا، وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ أي وغير مستأنسين لحديث بعضكم بعضا، أو لحديث أهل البيت بالتسمع له، إِنَّ ذلِكُمْ أي الدخول والمكث لحديث كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ لتضييق المنزل عليه وعلى أهله، فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ أي من إخراجكم، وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ أي لا يترك الأمر بخروجكم، ولا يترك النهي عن الدخول بعير إذن، وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أي وإذا سألتم نساء النبي شيئا ينتفع به فاسألوهن من خلف ستر.
قيل: إنه صلّى الله عليه وسلّم كان يطعم ومعه بعض أصحابه فأصابت يد رجل منهم يد عائشة رضي الله عنها، فكره النبي ذلك، فنزلت هذه الآية. ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ أي إن عدم الدخول بغير(2/259)
إذن، وعدم الاستئناس للحديث بعد الدخول بالإذن، وسؤال المتاع من وراءه حجاب أطهر للخواطر التي تعرض للرجال في أمر النساء، وَقُلُوبِهِنَّ أي وأطهر للخواطر التي تعرض للنساء في أمر الرجال، أي فإن ذلك أنفى للريبة، وأبعد للتهمة، وأقوى في الحماية. وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً، أي وما صحّ لكم أن تفعلوا في حياته صلّى الله عليه وسلّم ما يكرهه ويتأذى به، كالدخول عليه بغير إذنه، والحديث مع أزواجه، وما صحّ لكم أن تنكحوا أزواجه صلّى الله عليه وسلّم أبدا من بعد فراقه صلّى الله عليه وسلّم بموت أو طلاق سواء، أدخل بها أم لا. ونزلت هذه الآية في رجل من الصحابة قال في نفسه: إذا قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نكحت عائشة، وندم هذا الرجل على ما حدّث به نفسه، فمشى إلى مكة على رجليه، وحمل على عشرة أفراس في سبيل الله، وأعتق رقيقا فكفّر الله عنه. قيل: هذا الرجل هو طلحة بن عبيد الله. إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) أي إن إيذاء الرسول بنكاح زوجته أو غيره كان عند الله ذنبا عظيما إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54) أي إن تظهروا شيئا مما لا خير فيه كنكاحهن على ألسنتكم، أو تعزموا على إيذائه صلّى الله عليه وسلّم، أو نكاح أزواجه بعده في قلوبكم فالله يجازيكم على ذلك.
لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ أي لا إثم على نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم في عدم الاحتجاب عن محارمهن. وهذا استئناف لبيان من لا يجب الاحتجاب عنهم.
روي أنه لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب: يا رسول الله أو نكلمهن أيضا من وراء الحجاب؟! فنزلت هذه الآية. وَلا نِسائِهِنَّ أي ولا جناح على زوجات النبي في عدم الاحتجاب عن النساء المسلمات، ويجب عليهن الاحتجاب عن النساء الكافرات ما عدا ما يبدو عند المهنة. وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ من العبيد والإماء.
وقيل: من الإيماء خاصة. وقيل: من كان دون البلوغ من العبيد. وَاتَّقِينَ اللَّهَ في كل ما تأتين وما تذرن.
وقال الرازي: واتقين الله عند المماليك. وذلك دليل على أن التكشف لهم مشروط بالسلامة والعلم بعدم المحذور. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55) فهو شاهد عند اختلاء بعضكم ببعض فخلوتكم مثل ملئكم، فاتقوا شهادة الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ، أي إن الله يرحم النبي والملائكة يدعون له صلّى الله عليه وسلّم.
وقرأ ابن عباس وكذا أبو عمرو في رواية «وملائكته» بالرفع عطفا على محل «إن» ، واسمها عند الكوفيين، ومبتدأ محذوف الخبر عند البصريين. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) . وهذا دليل على وجوب الصلاة والسلام عند الشافعي، لأن الأمر للوجوب، ولا(2/260)
مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)
يجبان إلّا في الصلاة، فيجبان في التشهد، وهما قولنا فيه: سلام عليك أيها النبي. وقولنا: اللهم صلّ على محمد، وإنما أمرنا الله بالصلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم مع أنه يكفيه صلّى الله عليه وسلّم صلاته تعالى لإظهار تعظيمه صلّى الله عليه وسلّم منا شفقة علينا ليثيبنا عليه كما أن الله تعالى أوجب علينا ذكر نفسه تعالى ولا حاجة له إليه. إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أي أبعدهم من رحمته فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ بحيث لا يكادون ينالون فيهما شيئا منها. وَأَعَدَّ لَهُمْ مع ذلك عَذاباً مُهِيناً (57) يصيبهم في الآخرة خاصة وإذاية الله تكون بالكفر كإنكار وجوده تعالى ووصفه تعالى بما لا يليق به كقول اليهود: يد الله مغلولة، وإن الله فقير، وعزير ابن الله. وقول النصارى: ثالث ثلاثة، والمسيح ابن الله، وقول المشركين: الملائكة بنات الله والأصنام شركاؤه، وإذاية الرسول كسر رباعيته وشج وجهه يوم أحد، وطعنهم في نكاح صفية، وقولهم له صلّى الله عليه وسلّم: هو شاعر ساحر كاهن مجنون. وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بقول أو فعل بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا أي بغير جناية يستحقون بها الأذية فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً أي زورا وَإِثْماً مُبِيناً (58) ، أي ذنبا ظاهرا موجبا للعقاب في الآخرة.
قيل: إن هذه الآية نزلت في منافقين كانوا يؤذون عليا، ويسمونه ما لا خير فيه. وقيل:
نزلت في أهل الإفك في شأن عائشة وصفوان. وقيل: في زناة يتبعون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن، فيغمزون المرأة، فإن سكتت اتبعوها، وإن زجرتهم انتهوا عنها، وكانوا لا يتعرضون إلّا للإماء، ولكن ربما يقع منهم التعرض للحرائر أيضا، لأن زي الكل كان واحدا لأنهن، يخرجن في درع وخمار، فشكون ذلك إلى أزواجهن، فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، ثم نهى الله تعالى الحرائر أن يتشبهن بالإماء بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ أي يرخين على نحورهن وجيوبهن مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ أي ثيابهن التي يلتحفن بها، ذلِكَ أي تغطي الأبدان أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ أي أحق بأن يعرفن أنهن حرائر، وأنهن مستورات لا يمكن طلب الزنا منهن، لأن من تستر وجهها لا يطمع فيها أن تكشف عورتها، فَلا يُؤْذَيْنَ بالتعرض لهن من جهة من يتعرض للإماء، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لما سلف منهن من التفريط رَحِيماً (59) بعباده حيث يراعي مصالحهم لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ عبد الله بن أبيّ وأصحابه عن المكر والخيانة، وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شهوة الزنا الذي يؤذي المؤمن باتباع نسائه، وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ بقولهم: غلب محمد وسيخرج من المدينة، وسيؤخذ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ أي لنأمرنك بإخراجهم من المدينة أو بقتالهم، ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها أي لا يساكنون معك في المدينة وتخلو المدينة منهم بالإخراج أو بالموت إِلَّا قَلِيلًا (60) أي إلّا زمانا يسيرا،
مَلْعُونِينَ أي مطرودين من باب الله ومن بابك، وهو نصب على الشتم، ويجوز عند الكسائي والفراء منصوبا ب «أخذوا» الذي هو جواب الشرط، وعلى الوقف ملعونين وقف كاف، أي على غير هذا الإعراب أَيْنَما ثُقِفُوا أي في أي مكان(2/261)
وجدوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) . وهذه الآية خبر بمعنى الأمر، أي خذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم إذا كانوا مقيمين على النفاق والإرجاف، سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ، أي سن الله ذلك في الأمم الذين من قبلهم سنة وهي أن يقتل الذين نافقوا الأنبياء عليهم السلام، وسعوا في توهين أمرهم بالإرجاف ونحوه أينما وجدوا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) ، أي هذه السنة ليست مثل الحكم الذي ينسخ، فإن النسخ يكون في الأحكام، أما الأفعال والأخبار فلا تنسخ، يَسْئَلُكَ النَّاسُ أي كفار مكة واليهود عَنِ السَّاعَةِ أي عن وقت قيام القيامة- فإن المشركين يسألونه صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك استعجالا بطريق الاستهزاء، واليهود سألوا عنه امتحانا- قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ لا يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا وَما يُدْرِيكَ أي أيّ شيء يعلمك بوقت قيامها أي لا يعلمك به شيء أصلا، لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) ، وهذا تخويف أي هي في علم الله فلا تستبطئوها، فربما تقع عن زمان قريب إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ في الدنيا والآخرة، وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) أي نارا شديدة الاتقاد، خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا أي حافظا يحفظهم من عذاب الله وَلا نَصِيراً (65) ، يخلصهم منه، يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ وهو ظرف ب «لا يجدون» يَقُولُونَ حال من ضمير «وجوههم» . يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقالُوا عطف على «يقولون» : رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) أي فصرفونا عن الدين.
وقرأ ابن عامر «ساداتنا» بألف بعد الدال، وبالنصب بالكسرة الظاهرة، أي إن الكافرين يقولون يوم تصرف أبدانهم في النار من جهة، إلى جهة كلحم يشوى في النار،
أو يطبخ في القدور في الدنيا فلا تبتلي بهذا العذاب، فيتحسرون ويندمون حيث لا تنفعهم الندامة والحسرة، ثم يقولون: أطعنا السادة بدل طاعة الله تعالى، وأطعنا الكبراء بدل طاعة الرسول، وتركنا طاعة سادة السادات، وأكبر الأكابر، فبدلنا الخير بالشر، ففاتنا خير الجنات، وأعطينا شر النيران، ثم إنهم يطلبون بعض التشفي بتعذيب المضلين ويقولون: رَبَّنا آتِهِمْ أي أعط الرؤساء ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ أي مثلي العذاب الذي أعطيتناه، وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) أي شديدا.
وقرأ عاصم بالباء الموحدة أي لعنا عظيما. والباقون بالثاء المثلثة أي كثير العدد. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا في إيذاء نبيكم كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى بأنواع الأذية كنسبته إلى عيب في بدنه من أدرة أو برص، وكإغراء مومسة على قذفه عليه السلام بنفسها بدفع مال عظيم إليها وكغير ذلك. فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا أي أظهر الله براءته عليه السلام من قولهم.
روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض، وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده فقالوا: والله ما يمنع موسى أن(2/262)
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
يغتسل معنا إلّا أنه آدر، فذهب يوما يغتسل، فوضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه، فجعل موسى يجري عقبه ويقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى فقالوا: والله ما بموسى من بأس فوقف الحجر فأخذ موسى ثوبه فاستتر به وضرب الحجر حتى ظهر فيه ستة جروح»
«1» اه. وَكانَ موسى عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) ، أي معظما رفيع القدرة.
قال ابن عباس: كان عظيما عند الله تعالى لا يسأله شيئا إلّا أعطاه. وقال الحسن: كان مجاب الدعوة. وقيل: كان محببا مقبولا. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً (70) أي صوابا. والمراد نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب المائل عن العدل
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ.
قال ابن عباس: أي يتقبل حسناتكم، وقال مقاتل: يزكي أعمالكم وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ باستقامتكم في القول والعمل، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في الأوامر والنواهي فَقَدْ فازَ في الدارين فَوْزاً عَظِيماً (71) أي نال جميع مراداته، إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ. والمراد بالأمانة: الفرائض التي فرضها الله تعالى على عباده فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها أي خفن من حملها أن لا يؤدينها فيلحقهن من العقاب أي فقال لهن: أتحملن هذه الأمانة بما فيها؟ قلن: وما فيها؟ قال: إن أحسنتن جوزيتن، وإن عصيتن عوقبتن. قلن: لا يا رب نحن مسخرات لأمرك، لا نريد ثوابا ولا عقابا. وقلن ذلك خوفا وتعظيما لدين الله تعالى لا مخالفة لأمره، وكان العرض عليهن تخييرا لا إلزاما وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ أي آدم قال الله تعالى لآدم:
إني عرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال، فلم تطقها فهل أنت آخذها بما فيها؟ قال:
يا رب وما فيها؟ قال: إن أحسنت جوزيت وإن أسأت عوقبت، فحملها آدم فقال: بين أذني وعاتقي الله تعالى أما إذا تحملت فسأعينك وأجعل لبصرك حجابا، فإذا خشيت أن تنظر إلى ما لا يحل فارخ عليه حجابا، واجعل للسانك لحيين وغلافا فإذا خشيت فأغلق عليه واجعل لفرجك لباسا، فلا تكشفه على ما حرمت عليه. إِنَّهُ أي الإنسان كانَ ظَلُوماً أي متعبا لنفسه بحملها. وهذا الظلم ممدوح من الأنبياء جَهُولًا (72) بعاقبته، وإن النفس لا تطيق الدوام على حملها لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ ف «اللام» للعاقبة متعلق ب «حمل» ، أي حملها الإنسان وكان عاقبة حمله لها أن يعذب الله بعض أفراده الذين لم يراعوها، وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي كان عاقبة حمله لها أن يقبل توبتهم، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً للظلوم رَحِيماً (73) على الجهول، لأن الله تعالى وعد عباده بأنه يغفر الظلم جميعا إلّا الظلم العظيم الذي هو الشرك.
__________
(1) رواه البغوي في شرح السنّة (6: 12) ، وابن كثير في التفسير (6: 570) ، وكنز العمال (39339) .(2/263)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)
سورة سبأ
مكية، أربع وخمسون آية، ثمانمائة وثلاث وثمانون كلمة، ألف وخمسمائة واثنا عشر حرفا
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، أي له تعالى خلقا وملكا وتصرفا بالإيجاد، والإعدام، والإحياء، والإماتة جميع ما وجد فيهما، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ أي له المنّة على أهل الجنة فيحمدونه، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) . فالحكيم هو الفاعل على وفق العلم فإن من يعلم أمرا، ولم يأت بما يناسب علمه لا يقال له: حكيم. ومن يأت بأمر عجيب على سبيل الاتفاق من غير علم لا يقال له: حكيم. والخبير: هو الذي يعلم عواقب الأمور وبواطنها، فهو حكيم في الابتداء، يخلق كما ينبغي، وخبير بالانتهاء يعلم ماذا يصدر من المخلوق، وما لا يصدر، ومصير كل أحد. يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ من الغيث والكنوز والدفائن والأموات ونحوها. وَما يَخْرُجُ مِنْها كالحيوان والنبات وماء العيون ونحوها. وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ كالملائكة والكتب والمقادير ونحوها. وَما يَعْرُجُ فِيها كالملائكة وأعمال العباد، والأبخرة، والأدخنة. وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) ، أي الرحيم بإنزال الرزق وللحامدين عليه، والغفور عند ما تعرج إليه الأرواح والأعمال، وللمفرطين في الحمد. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا- أبو جهل وأصحابه-: لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ أي الساعة عالِمِ الْغَيْبِ.
قرأ نافع وابن عامر بالرفع على المدح فالوقف على «لتأتينكم» حينئذ كاف، وابن كثير وأبو عمرو وعاصم بالجر نعت ل «ربي» ، أو بدل منه. وقرأ حمزة والكسائي «علام» ، بالجر والوقف حينئذ على «بلى» ، وهو كاف كالوقف على الغيب. لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ أي لا يغيب عن الله وزن نملة حمراء صغيرة. وقرأ الكسائي بكسر الزاي فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ فقوله: فِي السَّماواتِ إشارة إلى علمه تعالى بالأرواح، لأنها في السماء وقوله: وَلا فِي الْأَرْضِ إشارة إلى علمه تعالى بالأجساد، لأن أجزاءها في الأرض، وإذا علم الله الأرواح والأشباح وقدر على جمعها لا يبقى استبعاد في المعاد وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ أي من مثقال ذرة وَلا أَكْبَرُ منه إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) ، أي إلّا مكتوب في اللوح المحفوظ، وجملة «ولا أصغر» إلى آخرها(2/264)
من مبتدأ وخبر مؤكدة لنفي العزوب، أما على قراءة الفتح في «أصغر» و «أكبر» فهو اسم «لا» ، والخبر إلّا في كتاب لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.
وهذا علة لقوله تعالى: لَتَأْتِيَنَّكُمْ. أُولئِكَ الموصوفون بالصفات الجليلة لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لما فرط منهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) فإن الرزق يأتي من غير طلب بخلاف رزق الدنيا فإنه ما لم يتسبب فيه لا يأتي، ثم إن المغفرة جزاء الإيمان فكل مؤمن مغفور كما
في حديث البخاري: «يخرج من النار من قال لا إله إلّا الله وفي قلبه وزن ذرة من إيمان والرزق الكريم جزاء العمل الصالح»
. وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا بالإبطال أي كذبوها مُعاجِزِينَ أي متأخرين.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «معجزين» بتشديد الجيم، وبغير ألف بعد العين أي مريدين التعجيز، أو ظانين أنهم يفوتون الله، أو مثبطين عن الإيمان من أراده أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ، أي من جنس سوء العذاب أَلِيمٌ (5) أي شديد.
وقرأ ابن كثير وحفص بالرفع صفة ل «عذاب» والباقون بالجر صفة ل «رجز» . وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، أي ويعلم أولو العلم من أصحاب رسول الله ومن علماء أهل الكتاب كعبد الله بن سلام، وكعب وأضرابهما. الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أي القرآن هُوَ الْحَقَّ بالنصب على أنه مفعول ثان، وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) الذي هو التوحيد. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أبو سفيان وأصحابه للسفلة: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ أي يحدثكم بعجب عجاب إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أي إنكم
تنشأون خلقا جديدا بعد أن تفرقت أجسادكم كل تفريق بحيث تصير ترابا، ويقصدون بذلك الرجل سيدنا محمدا صلّى الله عليه وسلّم، أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي أهو الرجل تعمد على الله كذبا، إن كان يعتقد خلاف أخباره بأنهم يبعثون أَمْ بِهِ جِنَّةٌ أي إما فيه جنون إن كان لا يعتقد خلافه وهذا إما من تمام القائل أو لا أو من كلام السامع المجيب لذلك القائل. قال الله تعالى جوابا بالتردد مناديا عليهم بسوء حالهم: بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي بالبعث بعد الموت والجزاء على الأعمال فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) ، لأن من يسمي المهتدي ضالا يكون هو الضال، ومن يسمي الهادي ضالا يكون أضل أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، أي أفعلوا ما فعلوا من المنكر فلم ينظروا إلى ما أحاط بهم من جميع جوانبهم فذلك يدل على وحدانية الله وكمال قدرته، وذلك دليل على الإعادة إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ كما خسفناها بقارون وأصحابه أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً، أي قطعا مِنَ السَّماءِ كما أسقطناها على أصحاب الأيكة لاستحقاقهم ذلك.
وقرأ حفص بفتح السين. والباقون بسكونها. وقرأ حمزة والكسائي «إن يشأ يخسف» ، «أو يسقط» بالياء في الثلاثة إِنَّ فِي ذلِكَ أي المحيط بالناظر من جميع الجوانب لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) ، أي لكل من يرجع إلى الله ويترك التعصب تدل على قدرة الله على إحياء الموتى،(2/265)
أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا أي أعطيناه لصحة توبته نوعا من الفضل على سائر الأنبياء عليهم السلام، وهو ما ذكر بعد يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ أي رجّعي مع داود النوحة على الذنب، وَالطَّيْرَ بالنصب عطفا على فضلا بمعنى: وسخّرنا له الطير، لأن إيتاءها إياه تسخيرها له وقيل: كان داود ينوح على ذنبه بترجيع وتحزن، وكانت الجبال تساعده على نوحه بأصدائدها، والطير بأصواتها، وقوله: يا جِبالُ إلخ بدل من «آتينا» بإضمار «قلنا» أو من «فضلا» بإضمار «قولنا» . وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أي جعلناه لينا في نفسه كالشمع يصرفه في يده كيف يشاء من غير حماء بنار ولا ضرب بمطرقة.
أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ أي أمرناه بأن اعمل دروعا واسعات، وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ أي توسط في نسج الدروع بحيث تتناسب حلقها، أو لا تصرف جميع أوقاتك إلى النسج بل مقدار ما يحصل به القوت، وأما الباقي فاصرفه إلى العبادة، وَاعْمَلُوا صالِحاً أي لستم مخلوقين إلّا للعمل الصالح، فأكثروا منه وقدروا في الكسب إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) فمن يعمل لملك شغلا ويعلم أنه بمرأى من الملك يحسن العمل ويتقنه ويجتهد فيه وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ أي وسخر له الريح عوضا عن الخيل التي عقرها الله تعالى.
وقرأ شعبة برفع «الريح» على الابتداء والخبر مجرور قبله، لأن الريح كانت لسليمان كالمملوك المختص به يأمرها بما يريد حيث يريد. غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ أي جريها بالغداة مسيرة شهر، وجريها بالعشي كذلك.
قال الحسن: كان يغدو من دمشق فيقيل بإصطخر ويروح من إصطخر فيبيت ببابل.
وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ أي النحاس المذاب يعمل به ما يشاء كما يعمل بالطين، وكان ذلك بأرض اليمن.
وقيل: كان يسيل في الشهر ثلاثة أيام وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بالسخرة من البنيان وغيرها بِإِذْنِ رَبِّهِ أي بأمره تعالى، وَمَنْ يَزِغْ أي يمل مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) أي عذاب النار الوقود في الآخرة يَعْمَلُونَ لَهُ، أي في أيّ وقت يشاء ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ أي أبنية مرتفعة يصعد إليها بدرج، وَتَماثِيلَ أي صور من نحاس وزجاج ورخام ونحو ذلك. وقيل: هي صور الملائكة والأنبياء، والعباد، كانت تصور في المساجد ليراها الناس، فيزدادوا عبادة، ويعبدوا ربهم على مثالهم.
وروي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه، ونسرين فوقه، فإذا أراد أن يصعد على الكرسي بسط الأسدان له ذراعيهما، وإذا جلس أظله النسران بأجنحتهما. وَجِفانٍ كَالْجَوابِ أي قصاع كالحياض الكبار. وقيل: كان يجتمع على جفنة واحدة ألف رجل.
وقرأ ورش وأبو عمرو بإثبات الياء في الوصل دون الوقف. وابن كثير بإثباتها وقفا ووصلا.
والباقون بالحذف وقفا ووصلا. وَقُدُورٍ راسِياتٍ أي ثابتات على الأثافي لا تنزل عنها(2/266)
لعظمها، وكان يصعد عليها بالسلالم، وكانت باليمن اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً ف «آل» منادى، و «شكرا» مفعول به.
وروي أن سليمان عليه السلام جزّأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة من الساعات إلّا وإنسان من آل داود قائم يصلي. وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13) أي المتوفر على أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه أكثر أوقاته، فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ أي سليمان الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ أي آله عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ- وهي الأرضة- تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ أي عصاه فَلَمَّا خَرَّ أي وقع سليمان على الأرض بعد أن قصمت الأرضة عصاه تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أي علمت الجن علما بيّنا أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14) ، أي أنهم لو كانوا يعلمون الغيب كموت سليمان، ما لبثوا في العذاب المهين وحينئذ يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، بل كانوا يسترقون السمع ويموهون على الناس أنهم يعلمون الغيب.
وقال سليمان لملك الموت: إذا أمرت بي فأعلمني. فقال: أمرت بك وقد بقيت من عمرك ساعة، فدعا الشياطين، فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب، فقام يصلي متكئا على عصاه، فقبض الله روحه وهو متكئ عليها، وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه أينما صلى، وكان للمحراب كوي بين يديه وخلفه، فكانت الجن تعمل الأعمال الشاقة التي كانوا يعملونها في حياته، وينظرون إلى سليمان عليه السلام فيرونه قائما متكئا على عصاه، فيحسبونه حيا فلا ينكرون خروجه إلى الناس لطول صلاته، فمكثوا يدأبون له بعد موته حولا كاملا حتى أكلت الأرضة عصا سليمان، فخرّ ميتا، فعلموا بموته حينئذ، فشكروا ذلك للأرضة، فأينما كانت يأتونها بالماء والطين وقالوا لها: لو كنت تأكلين الطعام والشراب لأتيناك بهما.
وحكي أن سليمان عليه السلام ابتدأ بناء بيت المقدس في السنة الرابعة من ملكه، وكان عمره سبعا وستين سنة، وملك وهو ابن سبع عشرة سنة، وكان ملكه خمسين سنة، وقرّب بعد فراغه منه اثني عشر ألف ثور، ومائة وعشرين ألف شاة، واتخذ اليوم الذي فرغ فيه من بنائه عيدا وقام على الصخرة رافعا يديه إلى الله تعالى بالدعاء، وقال: اللهم أنت وهبت لي هذا السلطان، وقوّيتني على بناء هذا المسجد، اللهم فأوزعني شكرك على ما أنعمت وتوفني على ملتك، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، اللهم إني اسألك لمن دخل المسجد خمس خصال: لا يدخله مذنب دخل للتوبة إلّا غفرت له وتبت عليه، ولا خائف إلّا أمنته، ولا سقيم إلّا شفيته، ولا فقيرا إلّا أغنيته، والخامسة: أن لا تصرف نظرك عمن دخله حتى يخرج منه إلّا من أراد إلحادا أو ظلما يا رب العالمين. لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ أي علامة دالة على قدرتنا.
وقرأ حمزة وحفص بسكون السين، وفتح الكاف، والكسائي بكسرها. والباقون «مساكنهم» بلفظ الجمع، أي عند مواضع سكناهم- وهي باليمن يقال لها: مأرب، بينها وبين(2/267)
صنعاء مسيرة ثلاثة أيام آية- دالة على وجود الصانع المختار القادر على كل ما يشاء. جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ أي عن يمين بلدهم وشمالها جماعتان من الجنات، وكان سبأ ثلاث عشرة قرية، فبعث الله إليهم ثلاثة عشر نبيا، فقال لهم الأنبياء: كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ من الثمار ونحوها، وَاشْكُرُوا لَهُ بالتوحيد ليديم لكم النعمة بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) ، أي بلدتكم بلدة طاهرة عن المؤذيات، لا حية فيها، ولا عقرب، ولا وباء، ولا وخم. وربكم الذي رزقكم الطيبات وطلب منكم الشكر، رب غفور لفرطات ممن يشكره. فَأَعْرَضُوا عن الإيمان ولم يشكروا.
قال وهب: أرسل الله إلى سبأ ثلاثة عشر نبيا فدعوهم إلى الله تعالى، وذكروهم نعم الله عليهم، وأنذروهم عقابه، فكذبوهم وقالوا: ما نعرف لله تعالى علينا من نعمة، فقولوا لربكم:
فليحبس هذه النعمة عنا إن استطاع، فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ أي سلّطنا عليهم سيل الوادي- والعرم: واد في اليمن يقال له، وادي الشجر، وكان فيه مسناة يحسبون الماء في الوادي، وكان لها ثلاثة أبواب بعضها أسفل من بعض، فكانوا يسقون من الأعلى، ثم من الثاني، ثم من الثالث على قدر حاجاتهم، فأخصبوا، وكثرت أموالهم- فلما
كذبوا الرسل سلط الله عليهم الفأرة فنقبت الردم، فهدم الله تلك المسناة وأهلكهم بذلك الماء، وأهلك ما كان لهم من البساتين والبيوت وغير ذلك. وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ أي أذهبنا جنتيهم، وآتيناهم بدلهما جنتين ذواتي ثمر بشع.
وقرأ أبو عمرو «أكل» بغير تنوين، أي ثمر أراك وَأَثْلٍ أي طرفاء، وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) أي قليل ثمره كثير شوكه، له ثمرة عفصة لا تؤكل أصلا، ولا ينتفع بورقه في غسل اليد، وهو سدر بري، وهذان معطوفان على «أكل» لا على «خمط» . وقرئ «وأثلا وشيئا» عطفا على «جنتين» . ذلِكَ أي التبديل جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا أي بسبب كفرانهم النعمة حيث نزعناها منهم ووضعنا مكانها ضدها وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) ، أي وما نجازي هذا الجزاء إلّا المبالغ في الكفران.
وقرأ حفص وحمزة والكسائي بنون العظمة. والباقون بالياء على البناء للمفعول «الكفور» . وقرئ على البناء للفاعل- وهو الله تعالى- وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها بالماء والشجر قُرىً ظاهِرَةً أي وجعلنا بين أهل سبأ- وهم باليمن- وبين أهل الأردن وفلسطين- وهم بالشام- قرى يرى بعضها من بعض لتقاربها، يرى سواد القرية من القرية الأخرى. قيل: كانت قراهم أربعة آلاف وسبعمائة قرية متصلة من سبأ إلى الشام وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ أي جعلنا السير بين قراهم والشام سيرا مقدرا من قرية إلى قرية، فإذا ساروا نصف يوم وصلوا إلى قرية ذات مياه وأشجار، فلا يحتاجون في السفر إلى حمل زاد وماء وقلنا لهم:
سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) وهو أمر بمعنى الخبر، أي تسيرون في تلك القرى إن شئتم(2/268)
وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
ليالي، وإن شئتم أياما لعدم الخوف بخلاف المواضع المخوّفة فإن بعضها يسلك ليلا لئلا يعلم العدو بسيرها، وبعضها يسلك نهارا لئلا يقصدهم العدو إذا كان غير مجاهر بالقصد والعداوة.
قال قتادة: كانوا يسيرون غير خائفين، ولا جائعين، ولا ظامئين كانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أماكن لا يحرك بعضهم بعضا، ولو لقي الرجل قاتل أبيه لا يحركه، فَقالُوا على وجه الدعاء: رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا أي باعد بين المنازل التي تنزل فيها بأن يكون بين كل واحد والآخر مسافة بعيدة، أي سألوا أن يجعل الله تعالى بينهم وبين الشام قفارا ليركبوا فيها الرواحل، ويتزودوا الأزواد، ويتطاولوا فيها على الفقراء، فعجل الله تعالى لهم الإجابة بتخريب تلك القرى المتوسطة، وجعلها بلقعا لا يسمع فيها داع ولا مجيب.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام «بعد» بتشديد العين من غير ألف. وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ حيث عدوا النعمة نقمة والإحسان إساءة، وتركوا شكر تلك النعم فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ بمن بعدهم، فيتحدث الناس بهم متعجبين من أحوالهم، ومعتبرين بعاقبتهم، ويضربون مثلا فيقولون: تفرقوا أيدي سبأ- والأيدي: بمعنى الأنفس أو الأولاد- وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أي فرقناهم كل تفريق، أي فلما غرقت قراهم تفرقوا في البلاد، فغسان لحقوا بالشام والأزد بعمان، وخزاعة بتهامة، والأوس والخزرج بيثرب. إِنَّ فِي ذلِكَ أي التمزيق والإهلاك لَآياتٍ أي لعبرات لِكُلِّ صَبَّارٍ عن الشهوات وعلى مشاق الطاعات، شَكُورٍ (19) على النعم وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ أي وجد إبليس ظنه صادقا أنه يغوي بني آدم، أو في أنه خير منهم، فالمتبوع خير من التابع، فإبليس امتنع من عبادة غير الله، والمشركون يعبدون غير الله، فإبليس كفر بأمر أقرب إلى التوحيد، والمشركون كفروا بالإشراك.
وقرأ الكوفيون «صدق» بتشديد الدال. والباقون بالتخفيف أي صدق في ظنه، أو جعل ظنه صادقا. وقرئ بنصب «إبليس» ، ورفع «ظن» مع تشديد «صدق» بمعنى: وجد ظنه صادقا، ومع التخفيف بمعنى: قال له الصدق حين خيل له إغوائهم وبرفعها مع التخفيف على الإبدال فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) أي إلا فريقا هم المؤمنون، فإن المؤمنين كلهم لم يتبعون في أصل الدين، أو إلا فريقا من فرق المؤمنين فإن المخلصين لم يتبعوه في العصيان
وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ، أي وما كان تسلط إبليس على بني آدم إلا ليتعلق علمنا بمن يؤمن بالآخرة متميزا ممن هم في شك منها فنجازي كلا منهما، وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) أي الله تعالى قادر على منع إبليس عنهم عالم بما سيقع، قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي قل يا أشرف الخلق لكفار مكة بني مليح، وكانوا يعبدون الجن، ويظنون أنهم الملائكة: ادعوا الذين زعمتموهم آلهة من دون الله ليكشفوا عنكم الضر الذي نزل بكم في سني الجوع. قال الله تعالى: لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي(2/269)
الْأَرْضِ
أي لا يملك آلهتهم وزن ذرة من نفع وضر في أمر من الأمور، وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ أي وما لآلهتهم في السموات والأرض من شركة مع الله لا خلقا ولا ملكا ولا تصرفا، وَما لَهُ تعالى مِنْهُمْ أي من آلهتهم مِنْ ظَهِيرٍ (22) ، أي معين في تدبير أمرهما، وفي خلق شيء بل الله تعالى هو المنفرد بالإيجاد، فهو الذي يجب أن يكون معبودا، وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أي ولا تقع الشفاعة عنده تعالى في حال من الأحوال إلا كائنة لمن أذن الله له في الشفاعة من النبيين والملائكة ونحوهم من المستأهلين لمقام الشفاعة.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي «أذن له» مبنيا للمجهول حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، أي حتى إذا أزيل الفزع الذي عند الوحي أي حين انحدر عليهم جبريل فإن الله عند ما يوحي يفزع من في السموات، ثم يزيل الله عنهم الفزع فرفعوا رؤوسهم، فحتى غاية متعلقة بقوله تعالى قل:
قالُوا أي الملائكة السائلون من جبريل: ماذا قالَ رَبُّكُمْ يا جبريل؟ قالُوا أي جبريل ومن تبعه: الْحَقَّ أي قال ربنا القول الحق وهو الإذن في الشفاعة للمستحقين لها. وقرئ «الحق» بالرفع أي ما قاله الحق، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) أي هو المنفرد بالعلو والكبرياء ليس لأحد من أشراف الخلائق أن يتكلم إلا بإذنه قُلْ يا أشرف الخلق لكفار مكة: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ بالمطر وَالْأَرْضِ بالنبات؟ قُلِ اللَّهُ أي فإن أجابوك وقالوا: الله، فذلك ظاهر، وإن لم يقولوا ذلك فقل: الله يرزق إذ لا جواب سواه. وهذا إشارة إلى أن جر النفع ليس إلا به تعالى، ومنه تعالى فإذا إن كنتم من الخواص فاعبدوه لعلوه وكبريائه سواء دفع عنكم ضررا أو لم يدفع، وسواء نفعكم بخير، أو لم ينفع فإن لم تكونوا كذلك فاعبدوه لدفع الضر وجر النفع.
وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) أي وإن أحد الفريقين من الذين يوحدون الرازق بالعبادة، والذين يشركون به في العبادة الجماد الذي لا يوصف بالقدرة لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال المبين، واختلاف الجارين للإعلام بأن المهتدي كمن استعلى منارا ينظر الأشياء والضال، كأنه منغمس في ظلام لا يرى شيئا. قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا أي أذنبنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) في كفركم لأنا بريئون منكم. وهذا أبعد من الجدل، وأبلغ في التواضع حيث أسندوا الإجرام إلى أنفسهم والعمل إلى المخاطبين. قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا يوم القيامة ثُمَّ يَفْتَحُ أي يحكم بَيْنَنا بِالْحَقِّ أي بالعدل بأن يدخل المحقّين الجنة والمبطلين النار، وَهُوَ الْفَتَّاحُ أي البليغ الفتح لما انغلق، الْعَلِيمُ (26) بما ينبغي أن يحكم به. قُلْ يا أشرف الخلق لأهل مكة: قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ تعالى شُرَكاءَ، لأنظر بأي صفة ألحقتموها بالله في استحقاق العبادة هل يخلقون أو يرزقون؟ كَلَّا أي حقا لم يخلقوا شيئا، ولم يرزقوا بشيء أو لا تشركوا بالله شيئا، بَلْ هُوَ أي الله الذي ألحقتم به شركاء اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) أي الله الموصوف بالغلبة القاهرة وبالحكمة الباهرة، فأين شركاؤهم التي هي(2/270)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40)
أخس الأشياء؟ وَما أَرْسَلْناكَ يا أشرف الخلق إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ أي عامة لجميع الناس تكف الناس عن الكفر، بَشِيراً بالجنة لمن آمن بالله، وَنَذِيراً من النار لمن كفر به، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) عموم رسالته وكونه بشيرا، وكونه نذيرا لغفلتهم لا لخفاء ذلك، وَيَقُولُونَ بطريق الاستهزاء: مَتى هذَا الْوَعْدُ الذي تعدنا أن يجمع بيننا ثم يقضي بيننا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) ؟ مخاطبين لرسول الله والمؤمنين به. قُلْ لهم يا أكرم الرسل: لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ أي وعد يوم لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً إن طلبتم التأخير عنه وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30) أي إن طلبتم الاستعجال والإضافة في ميعاد يوم للتبيين.
وقرئ «ميعاد يوم» برفع الاسمين مع التنوين على البدل. وقرئ برفع «ميعاد» ، ونصب «يوم» مع التنوين فيهما أي أعني يوما، وذلك يفيد التعظيم والتهويل.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أبو جهل بن هشام وأصحابه: لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ الذي يقرؤه علينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي ولا بالذي قبل القرآن من التوراة والإنجيل، والزبور، وسائر الكتب الدالة على البعث. وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ أي ولو ترى إذ المنكرون للبعث محبوسون في موقف المحاسبة، راجعا بعضهم القول إلى بعض لرأيت أمرا عجيبا، ثم فسر قوله تعالى: يَرْجِعُ إلخ بقوله تعالى: يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أي قهروا وهم السفلة، لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا أي تعظموا عن الإيمان وهم القادة: لَوْلا أَنْتُمْ مضلون إيانا وصادون إيانا عن الإيمان لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) باتباع الرسول صلّى الله عليه وسلّم. قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لرؤوسائهم لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا وهم الأتباع: أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام؟ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) . أي بل أنتم الصادون بأنفسكم بسبب كونكم راسخين في الإجرام. وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إبطالا لإنكارهم الصد: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي بل صدنا مكركم بنا بالليل والنهار إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ قبل إتيان الرسل، وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً أي أعدالا، وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ أي أخفى كل من الفريقين الندامة عن الآخر مخافة التعبير. ويقال: أظهر القادة والسفلة الندامة على ترك الإيمان بالله لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ أي حين رأوه، وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا الأتباع والمتبوعين جميعا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33) ؟ أي لا يجزون إلا بما كانوا يعملونه في الدنيا وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها أي أغنياؤها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) أي جاحدون.
وَقالُوا للرسل: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً منكم بسبب لزومنا لديننا، وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) في الآخرة بديننا هذا، كأنهم قالوا: حالنا عاجلا خير من حالكم، ولا نعذب آجلا.
قالوا ذلك إنكارا منهم للعذاب بالكلية، أو اعتقادا لحسن حالهم أيضا، قياسا على حالهم في الدنيا. قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ أن يبسط له وَيَقْدِرُ أي يقتر على من يشاء، فسعة(2/271)
قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
الرزق لا تدل عن حال المحق، كما أن ضيقه لا يدل على حال المبطل، فلا يقاس على ذلك أمر الثواب والعقاب اللذين مناطهما الطاعة وعدمها، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ أي أهل مكة لا يَعْلَمُونَ (36) أن ضنك العيش وخصبها بالمشيئة من غير اختصاص بالفاسق والصالح. وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، أي وما الأموال والأولاد تقرب أحدا إلى الله إلا المؤمن الصالح الذي أنفق أمواله في سبيل الله تعالى، وعلّم أولاده الخير، وربّاهم على الصلاح فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ في الحسنات بِما عَمِلُوا من الصالحات، وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ أي غرفات الجنة آمِنُونَ (37) من جميع المكاره.
وقرأ حمزة «الغرفة» على التوحيد على إرادة الجنس. وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا أي يكذبونها مُعاجِزِينَ أي متأخرين عنها، وفي قراءة «معجزين» أي معتقدين عجزنا، أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38) أي يخرجون منه، قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ، فلا تخشوا الفقر وأنفقوا في سبيل الله، فَهُوَ يُخْلِفُهُ أي يعوضه في الدنيا بالمال أو بالقناعة، وفي الآخرة بالحسنات وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) أي الواهبين للرزق، وأفضل المعوضين. وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ أي بني مليح والملائكة جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ إهانة لهؤلاء الكفار- وقرأ حفص «يحشرهم» «ثم يقول» بالياء-: أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) بأمركم؟
قالُوا أي الملائكة متبرئين منهم: سُبْحانَكَ أي ننزهك عن أن يكون غيرك معبودا وأنت معبودنا، ومعبود كل خلق أَنْتَ وَلِيُّنا أي أنت الذي نواليك أي نتقرب منك بالعبادة مِنْ دُونِهِمْ أي لم يكن لنا دخل في عبادتهم لنا.
وقال الرازي: معنى «أنت ولينا من دونهم» ، أي كونك ولينا بالمعبودية أحب إلينا من كون هؤلاء الضالين أولياء بالعبادة لنا، بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ، أي كانوا ينقادون لأمر الشياطين، فهم في الحقيقة كانوا يعبدون الشياطين، وكنا نحن كالقبلة لهم أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) ، أي كل المشركين مصدقون للشياطين. وهذا محض كلام الله تعالى والوقف على الجن تام، وأما إذا قلنا: إن هذا من كلام الملائكة فمعنى أكثرهم على أصله وإنما قالوا ذلك لئلا يكونوا مدعين اطلاعهم على ما في القلوب، أو على من في جميع الوجود، فَالْيَوْمَ أي يوم الحشر لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا أي لا يقدر المعبودون- وهم الملائكة- على نفع العابدين- وهم الكفار- بالثواب ولا على دفع ضررهم، وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا، وهذا معطوف على قوله تعالى:
يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أي ونقول: ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها أي بالنار تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ، أي كفار مكة بلسان الرسول صلّى الله عليه وسلّم آياتُنا الناطقة بحقيقة التوحيد وبطلان الشرك بَيِّناتٍ، أي واضحات قالُوا ما هذا أي التالي إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ من الآلهة وَقالُوا ما هذا أي القول بالوحدانية إِلَّا إِفْكٌ أي كلام مصروف عن وجهه،(2/272)
مُفْتَرىً بإسناده إلى الله تعالى، وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ أي للقرآن لَمَّا جاءَهُمْ من غير تأمل فيه إِنْ هذا أي ما هذا القرآن إِلَّا سِحْرٌ أي خيال مُبِينٌ (43) ، أي ظاهر سحريته.
قال الرازي: وإن أعيد اسم الإشارة الثاني إلى القرآن كان اسم الإشارة هذا عائد إلى المعجزات، فإنكار التوحيد كان مختصا بالمشركين، وأما إنكار القرآن والمعجزات كان متفقا عليه بين المشركين، وأهل الكتاب. ولذلك قال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ على وجه العموم وهو بدل عن قوله تعالى: وقالوا للحق وَما آتَيْناهُمْ أي ما أعطينا كفار مكة مِنْ كُتُبٍ دالة على صحة الإشراك يَدْرُسُونَها أي يقرءونها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) أي رسول يدعوهم إلى الإشراك وينذرهم بالعقاب إن لم يشركوا، وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الأمم المتقدمة وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ، أي وما بلغ هؤلاء المشركون معشار ما آتينا المتقدمين من القوة وكثرة المال وطول العمر، فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45) أي تغييري عليهم بالتدمير، وما نفعتهم قوتهم وما لهم فكيف حال هؤلاء الضعفاء؟ ويقال: وما بلغ الذين من قبلهم معشار ما أعطينا قوم محمد من البيان والبرهان فإن محمدا أفضل من جميع الرسل وأفصح، وبرهانه أوفى، وبيانه أشفى، وكتابه أكمل من سائر الكتب، وأوضح، ثم إن المتقدمين لما كذبوا الكتب والرسل أنكر عليهم وكيف لا أنكر على هؤلاء الأمة وقد كذبوا بأفصح الرسل وأوضح السبل، فليحذر هؤلاء من مثل ذلك. قُلْ يا أكرم الرسل لكفار مكة: إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أي ما أنصح لكم إلا بخصلة واحدة أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا فقوله تعالى: أَنْ تَقُومُوا بدل من «واحدة» فإن الازدحام يشوش الأفهام ويخلط الأفكار بالأوهام، ثم تتفكروا في أمر محمد وما جاء به أما الاثنان فيتفكرون، ويعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه لينظر فيه، وأما الواحد فيفكر في نفسه بعدل فيقول: هل رأينا من هذا الرجل جنونا أو جربنا عليه كذبا، وقد علمتم أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم ما به من جنون بل علمتموه أرجح قريش عقلا، وأوزنهم حلما، وأحدّهم ذهنا، وأرضاهم رأيا، وأصدقهم قولا، وأزكاهم نفسا، وأجمعهم لما يحمد عليه الرجال، وإذا علمتهم بذلك كفاكم أن تطالبوه بآية، وإذا جاء بها تبين أنه نبي صادق فيما جاء به، ثم نبه الله تعالى على طريقة النظر بقوله تعالى: ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ نفي مستأنف، فالوقف على «تتفكروا» تام عند أبي حاتم أي ما بصاحبكم محمد من جنون، ويجوز أن يكون تتفكروا معلقا عن الجملة المنفية فهي في موضع نصب على إسقاط في، أي ثم تتفكروا في عدم الجنون في صاحبكم، ويجوز أن تكون «ما» استفهامية على معنى «ثم تتفكروا» ، أي شيء بمحمد من آثار الجنون، وعلى هذين الاحتمالين لا وقف على «تتفكروا» . إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) أي ما محمد إلا رسول مخوف لكم بعذاب حاضر يمسكم عن قريب قبل عذاب شديد في الآخرة، إن لم تؤمنوا به. قُلْ لهم يا أشرف الخلق: ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ(2/273)
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
أَجْرٍ
أي أيّ شيء سألتكم من أجر على تبليغ الرسالة فَهُوَ لَكُمْ. والمراد نفي السؤال بالكلية أي لا أسألكم على إنذاركم أجرا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ فلا أطلب شيئا إلا عنده تعالى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) يعلم صدقي وخلوص نيتي. قُلْ لمن أنكر التوحيد والرسالة: إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ أي يلقيه في قلوب المحقين فإن الأمر بيده تعالى أو
يقذف بالحق على الباطل فهو إشارة إلى ظهور البراهين على التوحيد والنبوة عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) أي ما غاب في السموات والأرض عن خلقه وقُلْ لهؤلاء: جاءَ الْحَقُّ أي ظهر الإسلام وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) ، أي يزهق الشرك بحيث لم يبق له إبداء ولا إعادة ف «ما» نافية، وهذا جعل مثلا في الهلاك بالمرة.
قُلْ للكفار الذين قالوا لك يا محمد، تركت دين آبائك فضللت: إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي أي ضلالي على نفسي كضلالكم، وأما اهتدائي فليس كاهتدائكم بالنظر والاستدلال وإنما هو بالوحي المبين. إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) يسمع قول كل من المهتدي والضال، وفعله، وإن بالغ في إخفائهما،
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا أي ولو ترى حالهم وقت فزعهم بخسف البيداء لرأيت أمرا هائلا.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن ثمانين ألفا يغزون الكعبة في آخر الزمان ليخربوها، فإذا دخلوا البيداء خسف بهم الأرض وماتوا. فَلا فَوْتَ أي فلا يفوت منهم أحد وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) أي من تحت أقدامهم وخسف بهم الأرض، وَقالُوا عند ما خسف بهم الأرض: آمَنَّا بِهِ بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ، أي ومن أين لهم أن يتناولوا الإيمان تناولا سهلا؟ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) . أي بعد الموت فلا يكون الإيمان إلا في الدنيا وهم في الآخرة، فالدنيا من الآخرة بعيد وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ أي بمحمد أو بالعذاب الذي أنذرهم إياه مِنْ قَبْلُ أي من قبل نزول العذاب، وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) أي ويقولون ما لا يعلمون من وهمهم الفاسد، وظنهم الخاطئ فإنهم قالوا في حق النبي ساحر شاعر كاهن، وفي حق القرآن سحر شعر كهانة. ويقال: أي يسألون الرجعة إلى الدنيا بعد الموت. وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ من العود إلى الدنيا أو من لذات الدنيا، كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ أي بأشباههم في الكفر مِنْ قَبْلُ أي من قبلهم من الكفار فكل من جاءه الملك طلب التأخير، ولم يعط وأرادوا أن يؤمنوا عند ظهور اليأس ولم يقبل الإيمان منهم إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54) أي ذي ريبة من أمر الرسل والبعث والجنة والنار.(2/274)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
سورة فاطر
وتسمى سورة الملائكة أيضا، مكية، خمس وأربعون آية، مائة وسبع وتسعون كلمة، ثلاثة آلاف ومائة وثلاثون حرفا
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خالقهما من غير مثال سبق، جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أي وسائط بين الله وبين أنبيائه، والصالحين من عباده، يبلغون إليهم رسالاته بالوحي والإلهام والرؤيا الصالحة، أو بينه تعالى وبين خلقه حيث يوصلون إليهم آثار قدرته وصنعه- وهم جبريل، وميكائيل، وإسرافيل وملك الموت والرعد والحفظة- أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ أي ذوي أجنحة متعددة متفاوتة في العدد، فمنهم من له جناحان يطير بهما ومن له ثلاثة أجنحة، ومن له أربعة أجنحة يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ، أي خلق الملائكة ما يَشاءُ.
ويروى أن صنفا من الملائكة لهم ستة أجنحة، فجناحان منها يلفون بهما أجسادهم وجناحان منها للطيران يطيرون بهما فيما أمروا به من جهته تعالى، وجناحان منها مرخيان على وجوههم حياء من الله تعالى. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الزيادة والنقصان قَدِيرٌ (1) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها أي أيّ شيء يرسل الله للناس من خزائن رحمته أي رحمة كانت من نعمة وصحة، وأمن وعلم، وحكمة إلى غير ذلك، فلا أحد يقدر على إمساكها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ، أي أيّ شيء يمسك الله فلا أحد يقدر على إرساله من بعد إمساكه وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) أي كامل القدرة في الإرسال والإمساك، وكامل العلم في ذلك. يا أَيُّهَا النَّاسُ أي يا أهل مكة اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي إنعام الله عليكم بنعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ أي هل خالق مغاير له تعالى موجود.
وقرأ حمزة والكسائي بجر «غير» نعت ل «خالق» على اللفظ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ بالمطر وغيره، وَالْأَرْضِ بالنبات وغيره لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فهو الخالق الرازق فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) أي فمن أين تصرفون عن التوحيد إلى الإشراك؟ فكيف تشركون المنحوت بمن له الملكوت، وبأي سبب تعبدون غيره تعالى، فإنه لا يقدر على خلق ولا على رزق ولا على غيرهما. وَإِنْ(2/275)
يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ
، أي وإن استمروا على أن يكذبوك يا أشرف الخلق فيما بلغت إليهم من التوحيد والبعث، والحساب والجزاء وغير ذلك بعد ما أقمت عليهم الحجة فتأس بأولئك الرسل في المصابرة على ما أصابهم من قبل قومهم، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) في الآخرة، فيجازي المكذبين والصابرين. يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي يا أهل مكة إن وعد الله بالبعث بعد الموت والجزاء ثابت من غير خلف فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا بأن يذهلكم التمتع بمتاعها، ويلهيكم التلهي بزخارفها عن الطاعة لله وعن تدارك ما يهمكم يوم حلول الميعاد، وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) بفتح الغين، أي ولا يغرنكم سبب حلم الله وإمهاله المبالغ في الغرور- وهو الشيطان- بأن يمنيكم المغفرة مع الإصرار على المعاصي قائلا: اعملوا ما شئتم إن الله غفور يغفر الذنوب جميعا، فتعاطي الذنوب بهذا التمني مثل تناول السم اعتمادا على دفع الطبيعة. إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ عظيم، فإن عداوته عداوة قديمة لا تكاد تزول، فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا بمخالفتكم له في عقائدكم وأفعالكم، وكونوا على حذر منه في جميع أحوالكم، فإذا فعلتم فعلا فتنبهوا له، فإنه ربما يدخل عليكم فيه الرياء ويزين لكم القبائح، إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ أي أتباعه في الضلال لِيَكُونُوا أي تلك الأتباع مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) ، أي النار الموقدة الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ في الدنيا بفوات مطلوبهم، وفي الآخرة بالسعير. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ من صلاة وزكاة وصوم وغير ذلك لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي ستر لذنوبهم في الدنيا وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) في الآخرة. أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً أي أبعد كون حالي الفريقين- كما ذكر- يكون من زين الكفر له الشيطان، ونفسه الأمارة، وهواه القبيح فرآه صوابا فانهمك فيه كمن عرف الحق فاختار الإيمان أو العمل الصالح؟! نزلت هذه الآية في أبي جهل ومشركي مكة، فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ أن يضله لاستحبابه الضلال، وصرف اختياره إليه فيرده أسفل سافلين، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ أن يهديه بصرف اختياره إلى الهدى فيرفعه إلى أعلى عليين فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ أي فلا تهلك نفسك على عدم إيمانهم لكثرة التحزن.
وقرأ أبو جعفر، وقتادة، والأشهب بضم التاء وكسر اللام مسند الضمير المخاطب «نفسك» مفعول به إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8) من القبائح فيجازيهم عليه وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ.
وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «الريح» بالتوحيد، أي أوجدها من العدم فهبوبها دليل ظاهر على الفاعل المختار، وذلك لأن الهواء قد يسكن وقد يتحرك، وعند حركته قد يتحرك إلى اليمين، وقد يتحرك إلى الشمال، وفي حركاته المختلفة قد ينشئ السحاب، وقد لا ينشئ، فهذه الاختلافات دليل على تسخير مدبر ومؤثر مقدر، فَتُثِيرُ سَحاباً أي فتحركه وترفعه فَسُقْناهُ أي السحاب إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ أي إلى مكان لا نبات فيه.
وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي بتشديد الياء فَأَحْيَيْنا بِهِ أي بماء السحاب الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي بعد يبسها، وأسند الله تعالى الإرسال إلى الغائب والسوق والإحياء إلى المتكلم،(2/276)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20)
لأن في الأول تعريفا بالفعل العجيب وهو الإرسال والإثارة، وفي الثاني تذكيرا بالنعمة فإن كمال نعمة الرياح والسحب بالسوق والإحياء كَذلِكَ النُّشُورُ (9) ، أي إحياء الأموات في سهولة الحصول، فإن الأرض الميتة لما قبلت الحياة، اللائقة بها كذلك الأعضاء الميتة تقبل الحياة، وكما أنا نسوق الريح والسحاب إلى البلد الميت نسوق الروح والحياة إلى البدن الميت، وكما أنا نجمع القطع السحابية بالريح كذلك نجمع أجزاء الأعضاء المتفرقة بالروح. مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً أي من كان يريد يد العزة فليطلبها من عند الله بطاعته، لأنه لا عزة إلّا لله، فإن المشركين كانوا يتعززون بعبادة الأصنام، ومن اعتز بالعبيد أذله الله، ومن اعتز بالله أعزه الله، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ الذي يطلب به العزة وهي كلمة:
«لا إله إلّا الله» ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ والضمير المستكن عائد ل «الكلم» فإن مدار قبول العمل هو التوحيد، ويؤيده القراءة بنصب «العمل» أو عائد ل «العمل» فإنه لا يقوى الإيمان بلا عمل، فإذا رجع الضمير البارز للعمل كانت الضمير المستكن عائدا ل «الكلم» كما تقدم أو لله تعالى. وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ أي والذين يكسبون أصناف المكرات السيئات لهم عذاب شديد، وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) أي صنع أولئك هو يفسد ويهلك.
قيل: هي مكرات قريش بالنبي صلّى الله عليه وسلّم في دار الندوة في إحدى ثلاث: حبسه، وقتله، وإخراجه من مكة.
وقال مجاهد: نزلت هذه الآية في أهل الربا. وقال مقاتل: في أهل الشرك بالله. وقال الكلبي: المعنى يعملون السيئات وعلى هذا فيكون هذا في مقابلة قوله تعالى: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وهو إشارة إلى بقاء العمل الصالح. وقوله: وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ إشارة إلى فناء العمل السيئ.
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، فكل أولاد آدم من تراب ومن نطفة، لأن كلهم من نطفة، والنطفة من غذاء، والغذاء ينتهي إلى الماء والتراب ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً أي أصنافا ذكرانا وإناثا، وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ في وقته ونوعه وغير ذلك. وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ، أي وما يمد في عمر أحد وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ أي عمر أحد إِلَّا فِي كِتابٍ، أي لوح محفوظ.
وعن سعيد: يكتب عمره كذا وكذا سنة، ثم يكتب أسفل ذلك، ذهب يوم ذهب يومان حتى يأتي إلى آخره. وقيل: إن الله كتب عمر الإنسان مائة سنة إن أطاع، وتسعين إن عصى، فأيهما بلغ فهو كتاب والله تعالى بيّن كمال قدرته بقوله: خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ وكمال علمه بقوله تعالى:
وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ فإن ما في الأرحام قبل الانخلاق وما في البطن بعده لا يعلم أحد حاله كيف، والأم الحامل لا تعلم منه شيئا، ونفوذ إرادته بقوله تعالى: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ فبين الله إنه هو القادر العالم، المريد، والأصنام لا قدرة لها ولا علم ولا إرادة فكيف يستحق واحد منها العبادة؟! إِنَّ ذلِكَ أي الخلق من تراب وكتابة الآجال عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) لاستغنائه عن الأسباب فكذلك البعث، وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا(2/277)
عَذْبٌ أي لذيذ فُراتٌ أي يكسر العطش سائِغٌ شَرابُهُ أي يسهل انحداره إلى الخلق وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ أي مر زعاق لا يستطيع شربه وَمِنْ كُلٍّ من البحرين تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا أي سمكا شهي المطعم، وَتَسْتَخْرِجُونَ من الملح خاصة حِلْيَةً، أي زينة وهي اللؤلؤ والمرجان تَلْبَسُونَها. وقوله تعالى: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ إشارة إلى أن عدم استوائهما دليل على كمال قدرته ونفوذ إرادته، وهو دليل آخر على القدرة والوحدانية وَتَرَى الْفُلْكَ أي وترى السفن أيها الناس فِيهِ أي في كل منهما مَواخِرَ، أي شواق للماء بجريها مقبلة ومدبرة بريح واحدة لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ بالتجارة وغيرها واللام متعلقة بمواخر وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) ، أي ولتشكروا الله على نعمه، يُولِجُ اللَّيْلَ أي يدخل زيادته فِي النَّهارِ فيكون النهار أطول من الليل بقدر نقصانه، وَيُولِجُ النَّهارَ أي يدخل زيادته فِي اللَّيْلِ فيكون الليل أطول من النهار بقدر نقصانه، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أي ذلل ضوء الشمس والقمر لبني آدم، كُلٌّ منهما يَجْرِي في فلكه لِأَجَلٍ مُسَمًّى أي إلى وقت معلوم في منازل معروفة، ومدة الجريان للشمس سنة، وللقمر شهر. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ أي الذي فعل هذه الأفعال هو الله الموجد لكم من العدم، المربي بجميع النعم. لَهُ الْمُلْكُ كله، وهو مالك كل شيء. وَالَّذِينَ تَدْعُونَ أي تعبدون مِنْ دُونِهِ تعالى- وهم الأصنام- ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) أي لا يقدرون أن يفعلوا من ذلك قدر الشيء الذي تعلق به النواة مع القمع، وقيل: القطمير هو القشرة الرقيقة البيضاء التي بين التمرة والنواة. وهذا استدلال على تفرده تعالى بالألوهية. إِنْ تَدْعُوهُمْ أي المعبودات من غير الله لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ، لأنها جمادات وَلَوْ سَمِعُوا على سبيل التقدير مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ أي ما أجابوكم بجلب نفع ودفع ضرر لعجزهم عن الأفعال بالمرة، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ أي حين ينطقهم الله ينكرون عبادتكم إياهم بقولهم: ما كنتم إيانا تعبدون. وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) أي ولا يخبرك أيها السامع أحد مثلي، لأني عالم بالأشياء وغيري لا يعلمها. يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ أي إلى مغفرته ورحمته ورزقه في الدنيا، وإلى جنته في الآخرة. وهذا يوجب عبادته وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) أي والله مع استغنائه يدعوكم كل الدعاء يقضي في الدنيا حوائجكم، وإن آمنتم به يقضي في الآخرة حوائجكم فهو المستوجب للحمد. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أي يهلككم يا أهل مكة وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) أي بقوم آخرين مستمرين على الطاعة، أو بعالم آخر غير ما تعرفونه، وَما ذلِكَ أي الإذهاب بهم والإتيان بآخرين عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) أي بمتعسر وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى، بل إنما تحمل كل منهما إثمها، وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ أي وإن تدع نفس مثقلة بالذنوب نفسا إلى حمل بعض ذنوبها لم تجب تلك النفس المدعوة بحمل شيء من تلك الأوزار، ويروى عن الكسائي «لا تحمل» بفتح التاء الفوقية وكسر الميم(2/278)
وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)
شيئا، أي لا تحمل تلك النفس المدعوة شيئا من الوزر، وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى أي ولو كان المدعو ذا قرابة من الداعي.
قال ابن عباس: يلقى الأب والأم الابن فيقولان له: يا بني احمل عنا بعض ذنوبنا. فيقول:
لا أستطيع حسبي ما علي إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أي إنما ينفع إنذارك يا أشرف الرسل بهذه الإنذارات الذين يخشون عذاب ربهم وهو غائب عنهم وَأَقامُوا الصَّلاةَ أي راعوها كما ينبغي وَمَنْ تَزَكَّى أي تطهر من المعاصي فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ أي فتطهره لنفسه إذ نفعه لها كما أن من تدنس بالأوزار لا يتدنس إلا على نفسه وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) فالمتزكي إن لم تظهر فائدته عاجلا، فهي تظهر عنده في يوم اللقاء في دار البقاء، كما إن الوازر إن لم تظهره تبعة وزره في الدنيا فهي تظهر في الآخرة، إذ المرجع إلى الله وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) ، أي الكافر والمؤمن وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ (20) أي ولا الباطل والحق،
وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) أي ولا الثواب والعقاب، وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ أي وما يستوي المؤمنون والكفار، أو العلماء والجهلة، إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ أي إن الله يفهم من يشاء ممن كان أهلا لفهم آياته تعالى. وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) أي وما أنت يا أشرف الخلق بمفهم من هو مثل الميت في القبور، شبه الله الكفار بالموتى في عدم التأثر بدعوته صلّى الله عليه وسلّم إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) أي ما أنت إلّا رسول منذر وليس لك من الهدى شيء، إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ أي إرسالا مصحوبا بالحق بَشِيراً وَنَذِيراً، ويجوز أن يتعلق بالحق بما بعده، أي بشيرا بالوعد الحق ونذيرا بالوعيد الحق، وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ (24) أي ما من أمة إلّا مضى فيها نبي أو عالم ينذرهم، وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، أي وإن يكذبك أهل مكة فلا تبال بتكذيبهم، لأنه قد كذب الذين من قبلهم من الأمم العاتية رسلهم جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي المعجزات الظاهرة الدالة على نبوتهم، وَبِالزُّبُرِ أي بخبر الأولين كصحف إبراهيم، وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) أي الموضح لطريق الخير والشر كالتوراة والإنجيل والزبور، ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا بالكتب والرسل بأنواع العذاب، فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26) أي إنكاري بالعقوبة، أَلَمْ تَرَ أي ألم تعلم أيها المخاطب أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ، أي بذلك الماء ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها من الصفرة والخضرة والحمرة وغيرها، وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ أي طرائق تخالف لون الجبل بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها، ف «مختلف» صفة ل «جدد» أيضا و «ألوانها» فاعل.
وقال الرازي: الظاهر أن الاختلاف راجع إلى كل لون أي بيض مختلف ألوانها، وحمر مختلف ألوانها، لأن الأبيض قد يكون على لون الجص، وقد يكون على لون التراب الأبيض، وكذلك الأحمر، وَغَرابِيبُ أي شديدة السواد سُودٌ (27) وهو بدل من غرابيب وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ، أي ألوان ذلك البعض كَذلِكَ، أي اختلافا كائنا(2/279)
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40)
كاختلاف الثمار والجبال، إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ فالخشية بقدر معرفته المخشي والعالم يعرف الله، فيخافه ويرجوه. وهذا دليل على أن العالم أعلى درجة من العابد. ومعنى الآية في قراءة من قرأ بنصب «العلماء» ، ورفع اسم الجلالة إنما يعظم الله العلماء. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) فكونه تعالى عزيزا ذا انتقام يوجب الخوف التام، وكونه تعالى غفورا للتائب عن العصيان يوجب الرجاء البالغ. إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ أي يداومون على قراءة القرآن، وَأَقامُوا الصَّلاةَ كيفما اتفق من غير قصد إليهما يَرْجُونَ تِجارَةً أي تحصيل ثواب الطاعة لَنْ تَبُورَ (29) ، أي لن تهلك بالخسران أصلا. وقوله تعالى: سِرًّا وَعَلانِيَةً حث على الإنفاق كيفما يتهيأ، فإن تهيأ سرا فذاك
وإلّا فعلانية، ولا يمنعه ظنه أن يكون رياء فإن ترك الخير مخافة أن يقال فيه: إنه مراء، هو عين الرياء. لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ متعلق ب «لن تبور» ، أي تنفق التجارة عند الله ليوفيهم الله أجور أعمالهم ما يرجونه وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي يعطيهم ما لم يخطر ببالهم عند العمل، إِنَّهُ غَفُورٌ عند إعطاء الأجور، شَكُورٌ (30) عند إعطاء الزيادة
وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ، أي هو القرآن هُوَ الْحَقُّ أي الصدق مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ، أي مصدقا لما قبله من الكتب السماوية فيوافقه في العقائد وأصول الأحكام إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ، أي عالم بالبواطن بَصِيرٌ (31) ، أي عالم بالظواهر فلا يكون الكتاب باطلا في وحيه لا في الباطن ولا في الظاهر، ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا، أي ثم أعطينا القرآن أمتك الذين اخترناهم على سائر الأمم، فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ أي راجع سيئاته وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ أي تساوت سيئاته وحسناته، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ وهو الذي ترجحت حسناته بِإِذْنِ اللَّهِ أي بتوفيق الله وهو متعلق بسابق ذلِكَ أي السبق بالخيرات، هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) من الله تعالى جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها خبر ل «جنات» ، أي هؤلاء الثلاثة أصناف يدخلون جنات عدن، ومن دخلها لم يخرج منها.
وقرأ أبو عمرو بالبناء للمفعول يُحَلَّوْنَ فِيها أي يلبسون على سبيل التزين في الجنة مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ف «من» الأولى للتبعيض، والثانية للتبيين. وَلُؤْلُؤاً قرأه عاصم ونافع بالنصب عطفا على محل من أساور. والباقون بالجر عطفا على ذهب. وَلِباسُهُمْ فِيها أي الجنة حَرِيرٌ (33) وإكثار الزينة يدل على الغنى، فلا يعجر عن الوصول إلى الأشياء الكثيرة عند الحاجة، ويدل على الفراغ. وَقالُوا أي ويقول أهل الجنة في الجنة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ أي كل حزن بحصول كل مطلوبه إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ للمذنبين شَكُورٌ (34) للمطيعين الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ أي دار الإقامة التي لا انتقال عنها أبدا مِنْ فَضْلِهِ من غير أن يوجبه شيء من جهتنا لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ أي تعب، وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35) أي فتورنا شيء عن التعب، وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ أي لا يحكم عليه بموت ثان، فَيَمُوتُوا(2/280)
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
أي لا يستريحون بالموت بل عذابهم دائم، وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها، أي جهنم طرفة عين كَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء، نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) . وقرأ أبو عمر «يجزى» بالبناء للمفعول، و «كل» بالرفع. وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها أي يصيحون في جهنم بقولهم: رَبَّنا أَخْرِجْنا منها نَعْمَلْ صالِحاً أي خالصا في الإيمان غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ في الدنيا من الشرك فيقول الله لهم توبيخا: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ أي ألم نمهلكم يا معشر الكفار ولم نطل أعماركم زمانا يتعظ فيه من أراد أن يتعظ، وهو ستون سنة- كما قاله ابن عباس- أو أربعون سنة- كما قاله الحسن- وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ أي رسول من الله تعالى أو عقل، أو شيب، أو حمى، أو موت الأقارب، فالشيب والحمى وموت الأهل كله إنذار بالموت. والمراد: أي رسول كان، لأن هذا الكلام مع الكفار على الإطلاق قال تعالى فَذُوقُوا ما أعددناه لكم من العذاب دائما أبدا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) أي لأنه ليس للذين وضعوا أعمالهم في غير موضعها. وأتوا بالمعذرة في غير وقتها مانع من عذاب الله، إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
فلا يخفى عليه تعالى أحوالهم لو ردوا إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ
(38) وكان يعلم من الكافر أن في قلبه تمكن الكفر بحيث لو دام في الدنيا إلى الأبد لما أطاع الله، هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ أي خلفاء من قبلكم من الأمم تعلمون أحوال الماضين ممن كذب الرسل، فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي عقوبة كفره، وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً (39) ، أي إن الكفر لا ينفع عند الله فلا يزيدهم إلّا بغضه الشديد ولا ينفعهم في أنفسهم بل لا يفيدهم إلّا الخسار، فإن العمر كرأس المال، فمن اشترى به رضا الله ربح، ومن اشترى به سخطه خسر قُلْ يا أشرف الخلق لأهل مكة: أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ. وجملة قوله: أَرُونِي بدل اشتمال من «أرأيتم» ، أي أخبروني عن آلهتكم التي زعمتم أنها شركاء الله تعالى الذين تعبدونها من غير الله، أروني أيّ جزء خلقوا من الأرض، أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أي بل ألهم شركة مع الله في خلق السموات ليستحقوا بذلك شركة ذاتية في الألوهية؟ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً، أي بل أعطينا الشركاء كتابا ينطق بأنا اتخذناهم شركاء؟ فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ.
وقرأ أبو عمرو وحمزة، وابن كثير، وحفص «بينة» بالإفراد. والباقون «بينات» بالجمع، أي فالشركاء على حجة ظاهرة من ذلك الكتاب بأن لهم شركة جعلية بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً (40) ، أي بل ما يعد الأسلاف للأخلاف والرؤساء للسفلة في الدنيا بأن شركاءهم تقربهم إلى الله تعالى المنزلة، وبأنها تشفع لهم في الآخرة فتضر وتنفع إلّا باطلا.
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا أي إن الله يمنعهما من أن تزولا عن مكانهما لأن مقتضى شركهم زوالهما، وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ أي والله لئن زالتا عن مكانهما ما يمسكهما أحد من بعد زوالهم إِنَّهُ كانَ حَلِيماً إذا أمسكهما فما ترك الله تعذيب المشركين إلّا حلما منه(2/281)
تعالى، وإلّا فكانوا يستحقون إسقاط السموات وانطباق الأرض عليهم غَفُوراً (41) أي محّاء لذنوب من تاب. وإن استحق العقاب وَأَقْسَمُوا أي كفار مكة بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ، أي غاية اجتهادهم في الإيمان لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ، أي لما بلغ قبل مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قريشا أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا: لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم، فو الله لئن أتانا رسول لنكونن أسرع إجابة من كل الأمم، فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ أي فما صح لهم مجيء رسول وهو سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي كانوا يشهدون أنه خيرهم نفسا، وأشرفهم نسبا، وأكرمهم خلقا ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (42) ، أي تباعدا عن الحق اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ، إعراضا عن الإيمان وهو بدل من «نفورا» . وَمَكْرَ السَّيِّئِ وهو معطوف على «نفورا» ، وهو جميع ما صدر منهم من القصد إلى الإيذاء به صلّى الله عليه وسلّم، ومنع الناس من الدخول في الإيمان وإظهار الإنكار، وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ، أي ولا يحيط المكر السيئ إلّا بفاعله فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ أي ما ينتظرون إلا عادة الله في الأولين من تعذيبهم بتكذيبهم رسلهم، فإن سنة الله الإهلاك بالشرك والإكرام على الإسلام فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا لأنه سنة من سنن الله وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) فإن العذاب مع أنه لا تبديل له بالثواب لا ينقل عن مستحقه إلى غيره، فبهذا يتم تهديد المسيء. أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي اقعدوا في الأرض فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أي من قبلهم أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وقد كانوا مارين على ديارهم رائين لآثارهم، وأملهم كان فوق أملهم لطول أعمارهم، وشدة اقتدارهم، وعملهم كان دون عملهم، لأنهم لم يكذبوا محمدا، ولا مثل محمد، وأنتم يا أهل مكة كذبتم محمدا ومن تقدمه من الرسل. فأهلكهم الله بتكذيبهم رسلهم فما نفعهم طول المدى، وما دفع عنهم شدة القوى وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ أي إن الأولين مع شدة قوتهم ما أعجزوا الله، فهؤلاء أولى بأن لا يعجزوه إِنَّهُ كانَ عَلِيماً بأفعالهم وأقوالهم قَدِيراً (44) على إهلاكهم واستئصالهم وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا من السيئات كما فعل بأولئك الأولين ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها أي على وجه الأرض مِنْ دَابَّةٍ أي من ذوى روح تدب عليها وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، أي إلى وقت معلوم عند الله تعالى، فللعذاب أجل، والله لا يؤاخذ الناس بنفس الظلم، فإن الإنسان ظلوم جهول، وإنما يؤاخذ بالإصرار على المعاصي وحصول يأس الناس عن إيمانهم، فإذا لم يبق فيهم من يؤمن يهلك الله المكذبين ولو آخذهم بنفس الظلم لكان كل يوم إهلاك فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45) ، أي فإذا جاء أجلهم وهو يوم القيامة، أو يوم لا يوجد في الخلق من يؤمن أو يوم القتل والأسر، فإن الله يجازيهم عند ذلك بأعمالهم، لأن الله تعالى كان بصيرا بعباده. وهذا تسلية للمؤمنين، وذلك لأن الله تعالى لما قال ما ترك على ظهرها من دابة قال فإذا جاء الهلاك في الدنيا فالله بصير بالعباد، إما أن ينجي المؤمنين أو يميتهم تقريبا من الله لا تعذيبا.(2/282)
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10)
سورة يس
وتسمى أيضا: القلب، والدافعة، والقاضية، والمعممة. مكية، ثلاث وثمانون آية، سبعمائة وتسع وعشرون كلمة، وثلاثة آلاف حرف
يس (1) أي وهذه يس، أو اقرأ يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) أي المتضمن للحكمة.
اعلم أن العبادة قلبية ولسانية وجارحية، وكل واحدة منها قسمان قسم علم معناه، وقسم لم يعلم.
أما القلبية: فمنها ما لم يعلم دليله عقلا، وإنما وجب الإيمان به كالصراط الذي هو أرق من الشعرة، وأحد من السيف ويمر عليه المؤمن كالبرق الخاطف، والميزان الذي
توزن به الأعمال التي لا ثقل لها في نظر الناظر، وكيفيات الجنة والنار، لأن هذه الأشياء وجودها لم يعلم بدليل عقلي وإنما المعلوم بالعقل إمكانها، ووقوعها مقطوع به بالسمع، ومنها ما علم كالتوحيد والنبوة وقدرة الله وصدق الرسول في العبادات الجارحية ما علم معناه وما لم يعلم، كمقادير النصب وعدد الركعات فالعبد. إذا أتى بما أمر به من غير أن يعلم ما فيه من الفائدة فلا يكون الإتيان به إلا لمحض العبادة بخلاف ما لو علم الفائدة فربما يأتي للفائدة فقط، وإن لم يؤمن كما لو قال السيد لعبده: انقل هذه الحجارة من هاهنا ولم يعلمه بما في النقل فنقلها ولو قال: انقلها فإن تحتها كنزا هو لك فإنه ينقلها، وإن لم يؤمن، فكذلك العبادات اللسانية، فمنها ما لا يفهم معناه فإذا تكلم به العبد علم أنه لا يقصد غير الانقياد لأمر المعبود الآمر الناهي، فإذا قال: يس، حم، الم، طس، علم الله أنه لا يذكر ذلك لمعنى يفهمه بل هو يتلفظ به إقامة لما أمر به إِنَّكَ يا أشرف الخلق لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) أي ثابت على شريعة شريفة، فإن شريعته صلّى الله عليه وسلّم أقوم الشرائع، وقوله: عَلى صِراطٍ خبر ثان ل «إن» . تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) .
وقرأ ابن عامر، وحفص، وحمزة والكسائي بالنصب على الحال أو على المدح بإضمار أعني أي حال كون القرآن تنزيل المانع عن أشياء المطلق لأشياء، أو المنتقم لمن لا يؤمن، الرحيم لمن آمن. والباقون بالرفع أي هذا تكليم العزيز. وقرئ بالجر على أنه بدل من القرآن كأنه تعالى قال: والقرآن الحكيم، تنزيل العزيز الرحيم، إنك لمن المرسلين، لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ(2/283)
آباؤُهُمْ
أي لم ينذر آباؤهم الأقربون لتطاول مدة الفترة، لأن قريشا لم يبعث إليهم نبي قبل نبينا صلّى الله عليه وسلّم، ف «ما» نافية، والجملة صفة ل «قوما» ويصح كونها موصولة أي الذين أنذر آباؤهم الأقدمون ويصح كونها مصدرية فيكون نعتا لمصدر مؤكد، أي لتنذر قوما إنذارا كائنا مثل إنذار آبائهم الأقدمين من العذاب فَهُمْ أي القوم وآباؤهم الأقربون غافِلُونَ (6) عن أمر الآخرة، جاحدون بها، أو فهؤلاء القوم غافلون عما أنذر آباؤهم الأقدمون لامتداد المدة لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ، أي لقد حقت كلمة العذاب العاجل على أكثر أهل مكة أبي جهل وأصحابه، فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) أي في علم الله وقتلوا يوم بدر على الكفر إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ أي فالأغلال منتهية إلى أذقانهم فلا تدعهم يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا يطأطئون رؤوسهم، له فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) ، أي رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم بحيث لا يكادون يرون الحق وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا، أي وجعلنا مع ما ذكر من أمامهم سدا عظيما، ومن ورائهم كذلك فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) أي فغطينا بهذين السدين أبصارهم فهم بسبب ذلك لا يقدرون على إبصار شيء ما أصلا، وقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا إلخ كناية عن منع الله إياهم عن الاهتداء، وهو تمثيل حالهم بحال من غلت أعناقهم، وقوله تعالى: وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا إشارة إلى أنهم لا ينتهجون سبيل الرشاد فلا يبصرون الحق لمكان السد، ولا ينقادون لك لمكان الغل. وقيل: نزلت هذه الآيات في أبي جهل بن هشام وصاحبيه المخزومين وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى محمدا يصلي ليرضخن رأسه بحجر، فلما رآه يصلي ذهب إليه فرفع حجرا ليرميه، فلما أومأ إليه رجفت يداه إلى عنقه، والتصق الحجر بيده إلى عنقه، فلما عاد إلى أصحابه أخبرهم بما رأى قال الوليد بن المغيرة، أنا أرضخ رأسه فأتاه وهو يصلي على حالته ليرميه بالحجر، فأعمى الله بصره، فجعل يسمع صوته ولا يراه، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه فقال: والله ما رأيته ولقد سمعت صوته! فقال الرجل الثالث: والله لأشدخن رأسه، ثم أخذ الحجر وانطلق، فرجع القهقرى ينكص على عقبيه حتى خر على قفاه مغشيا عليه، فقيل له: ما شأنك؟ قال: شأني عظيم رأيت الرجل، فلما دنوت منه فإذا فحل يخطر بذنبه ما رأيت قط فحلا أعظم منه، حال بيني وبينه فو اللات والعزى لو دنوت منه لأكلني، فأنزل الله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ أي إنا جمعنا أيمانهم إلى الأذقان حين أرادوا أن يرجموا النبي صلّى الله عليه وسلّم بالحجارة وهو في الصلاة فها هم مغلولون من كل خير، محرومون، وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ أي وجعلنا من أمامهم سترا حيث أرادوا أن يرجموا النبي صلّى الله عليه وسلّم بالحجارة وهو في الصلاة، فلم يبصروا النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن خلفهم سدا حتى لا يبصروا أصحابه، فغطينا أبصارهم فهم لا يبصرون النبي صلّى الله عليه وسلّم فيؤذوه.(2/284)
إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)
وقرأ حمزة والكسائي، وحفص «سدا» بفتح السين. والباقون بالضم في الموضعين.
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ أي مستو عند بني مخزوم، أبي جهل وأصحابه إنذارك بالقرآن إياهم وعدمه. وأما الإنذار بالنسبة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فهو سبب في زيادة سيادته عاجلا وسعادته، آجلا لا يُؤْمِنُونَ (10) في علم الله
إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ أي إنما ينفع إنذارك يا سيد الرسل من آمن بالقرآن وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ أي خاف عقابه، وهو تعالى غائب عنه، أي عمل صالحا، فالعاقل لا ينبغي أن يترك الخشية، فإن كل من كانت نعمته بسبب رحمته أكثر، فالخوف منه أتم أن يقطع عنه النعم المتواترة، فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ عظيمة وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) أي ثواب حسن في الجنة فالغفران جزاء الإيمان فكل مؤمن مغفور والأجر الكريم جزاء العمل الصالح، إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى أي نبعثهم بعد مماتهم.
وعن الحسن: إنا نخرجهم من الشرك إلى الإيمان وَنَكْتُبُ في صحف الملائكة ما قَدَّمُوا أي ما أسلفوا من الأعمال، صالحة كانت أو فاسدة وَآثارَهُمْ أي التي أبقوها من السنن الحسنة كالكتب المصنفة، والقناطر المبنية والحبائس التي وقفوها من المساجد والرباطات، ومن السنن السيئة كوظيفة وظفها بعض الظّلام على المسلمين، وسكة أحدثها فيها تخسيرهم، وآلات الملاهي، وأدوات المناهي المعمولة الباقية وَكُلَّ شَيْءٍ من الأشياء أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12) أي كتبناه في أصل مظهر لجميع الأشياء مما كان وما سيكون، وهو اللوح المحفوظ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ أي بين لأهل مكة صفة أهل أنطاكية كيف أهلكناهم، إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) وهم رسل عيسى عليه السلام إلى أهلها، فرسول رسول الله بإذن الله رسول الله، وهذا يؤيد مسألة فقهية وهي أن وكيل الوكيل بإذن الموكل، وكيل الموكل لا وكيل الوكيل حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه، وينعزل إذا عزله الموكل الأول، إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ أي رسولين وهما: يوحنا وبولس. وقيل: سمعان وثومان فَكَذَّبُوهُما، أي فأتياهم، فدعواهم إلى الحق فكذبوهما في الرسالة، فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ أي قويناهما برسول ثالث هو شمعون.
وقرأ شعبة بتخفيف الزاي فَقالُوا أي جميعا: إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا أي أهل أنطاكية مخاطبين للثلاثة: ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فلا يجوز رجحانكم علينا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ أي فما نزلتم من عند الله، وما أنزل الله إليكم أحدا فكيف صرتم رسلا لله. أو يقال: إن الله ليس بمنزل شيئا في هذا العالم فإن تصرفه في العالم العلوي، وللعلويات التصرف في السفليات على مذهبهم، فالله تعالى لم ينزل شيئا من الأشياء في الدنيا فكيف أنزل إليكم؟ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) أي ما أنتم إلّا كاذبون في دعوى رسالته تعالى. قالُوا أي الرسل: رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) استشهدوا بعلم الله تعالى وهو يجري مجرى القسم مع تحذيرهم معارضة(2/285)
اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30)
علم الله تعالى وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) أي وما علينا من جهة ربنا إلّا تبليغ رسالته تبليغا ظاهرا بلغة تعلمونها بالآيات الشاهدة بالصحة، فلا مؤاخذة لنا بعد ذلك من جهة ربنا. قالُوا للرسل لما ضاقت عليهم الحيل، وعيت بهم العلل: إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ أي تشاء منا بكم بناء على أن الدعوة لا تخلو عن الوعيد بما يكرهونه من إصابة ضر متعلق بأنفسهم وأهليهم وأموالهم، إن لم يؤمنوا، فكانوا ينفرون عنه. وقيل: إنما تطيروا لما بلغهم من أن كل نبي إذا دعا قومه فلم يجيبوه كان عاقبتهم الهلاك لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا عن مقالتكم هذه لَنَرْجُمَنَّكُمْ بالحجارة وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) ، أي وليصيبنكم منا بسبب الرجم عذاب أليم، أي نديم الرجم عليكم إلى الموت قالُوا أي الرسل: طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أي سبب شؤمكم معكم لا من قبلنا وهو سوء عقيدتكم وقبح أعمالكم أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ أي إن وعظتم بما فيه سعادتكم تطيرتم، وتوعدتم بالرجم والتعذيب بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) أي ليس التذكير سببا للشؤم بل أنتم قوم عادتكم الإسراف في العصيان فلذلك أتاكم الشؤم. وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ وهو حبيب النجار، وهو ينحت أصنامهم، وهو ممن آمن برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبينهما ستمائة سنة كما آمن به صلّى الله عليه وسلّم تبع وورقة بن نوفل وغيرهما. وقيل: إنه كان إسكافا وقيل: إنه كان قصارا يَسْعى أي يسرع في المشي حيث سمع بالرسل قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) الذي أظهروا لكم الدليل وأوضحوا لكم السبيل،
اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً فإنهم لو كانوا متهمين بعدم الصدق لسألوكم المال وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) أي عالمون بالطريقة المستقيمة الموصلة إلى الحق، قالوا له: تبرأت منا ومن ديننا، ودخلت في دين عدونا فقال لهم: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي أي خلقني اختراعا وهو مالكي، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) بعد الموت فكيف لا تعبدونه. والعابد على أقسام ثلاثة: عابد يعبد الله لكونه إلها مالكا سواء أنعم بعد ذلك أو لم ينعم، وعابد يعبد الله للنعم الواصلة، إليه وعابد يعبد الله خوفا. فجعل القائل نفسه من القسم الأول وهو الأعلى أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ أي من غير الذي خلقني آلِهَةً أي لا أعبد آلهة من غيره تعالى إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) أي إن يصبني الرحمن بعذاب لا تنفعني تلك الأصنام نفعا ولا تدفع عني ذلك العذاب إِنِّي إِذاً أي إذا اتخذت من دونه آلهة لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) أي خطأ ظاهر، إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) . وهذا خطاب من حبيب للرسل، وذلك لما أقبل القوم عليه يريدون قتله أقبل هو على المرسلين وقال: إني آمنت بربكم فاسمعوا قولي واشهدوا لي بالإيمان عند الله تعالى. وقيل: الخطاب للكفرة خاطبهم بذلك إظهارا للتصلب في الدين وعدم المبالاة بالقتل ففيه بيان للتوحيد وذلك لأنه لما قال: أعبد الذي فطرني، ثم قال: آمنت بربكم فهم أنه يقول: ربي وربكم واحد وهو الذي فطرني، وهو الذي بعينه ربكم بخلاف ما لو قال:
آمنت بربي فيقول: الكافر وأنا آمنت بربي أيضا، وعلى هذا فمعنى الآية آمنت بربكم فاسمعوا ما(2/286)
قلته لكم وأطيعوني بالإيمان، فأخذوه، وقتلوه، وصلبوه، ووطئوه بأرجلهم حتى خرجت أمعاؤه من دبره وألقي في بئر- وهي الرس- وهم أصحاب الرس. قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ أي إنه قتل ثم قيل له بعد القتل: ادخل الجنة إكراما له بدخولها حينئذ كسائر الشهداء. قالَ بعد موته: يا حرف تنبيه يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي أي الذي غفر لي ربي وهو التوحيد، أو بمغفرة ربي لي. ويقال: قيل: ادْخُلِ الْجَنَّةَ عقب قوله: آمَنْتُ إلخ قال في حياته كأنه سمع الرسل أنه من الداخلين الجنة وصدقهم: يا ليت قومي يعلمون كما علمت فيؤمنون كما آمنت بأي شيء غفر لي ربي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) ، فإن الإيمان والعمل الصالح يوجبان الغفران والإكرام.
وحاصل هذه القصة أن عيسى عليه السلام بعث رسولين من الحوارين إلى أهل أنطاكية، فلما قربا إلى المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات له- وهو حبيب بن إسرائيل النجار- فسلما عليه فقال: من أنتما؟ فقالا: رسولا عيسى عليه السلام يدعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن. فقال:
أمعكما آية؟ قالا: نعم، نشفي المريض، ونبرئ الأكمه والأبرص، بإذن الله تعالى فقال: إن لي ابنا مريضا منذ سنين قالا: فانطلق بنا ننظر حاله، فأتى بهما إلى منزله، فمسحا ابنه، فقام في الوقت بإذن الله تعالى صحيحا، فآمن من حبيب، وفشا الخبر في المدينة وشفى الله تعالى على أيديهما كثيرا من المرضى، وكان لهم ملك اسمه أنطيخا، وكان من ملوك الروم، فانتهى خبرهما إليه فدعا بهما فقال لهما: من أنتما؟ فقالا: رسولا عيسى عليه السلام. وفيم جئتما؟ قالا:
ندعوك من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر إلى عبادة من يسمع ويبصر. قال لهما: ألنا إله سوى آلهتنا؟
قالا: نعم، من أوجدك وآلهتك. فقال لهما: قوما حتى أنظر في أمركما، وأمر بحبسهما، وجلد كل واحد منهما مائة جلدة، ثم بعث عيسى عليه السلام رأس الحوارين شمعون لينصرهما، فدخل البلد متنكرا وجعل يعاشر حاشية الملك حتى أنسوا به وأوصلوه خبره إلى الملك فدعاه وأنس به وأكرمه فقال يوما للملك: بلغني أنك حبست رجلين في السجن، وضربتهما حين دعواك إلى غير دينك فهل كلمتهما وسمعت قولهما؟ فقال: لا، فقد حال الغضب بيني وبين ذلك قال: إنا رأيي أيها الملك أن تدعوهما حتى تطّلع على ما عندهما، فدعاهما الملك فقال لهما شمعون: من أرسلكما إلى هاهنا؟ قالا: الله الذي خلق كل شيء، وليس له شريك. فقال: صفاه وأوجزا. قالا: إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. قال لهما شمعون: وما آيتكما قالا: ما يتمنى الملك. فدعا الملك بغلام مطموس العينين وموضع عينيه كالجبهة فما زالا يدعوان ربهما حتى انشق موضع البصر، فأخذا بندقتين من طين فوضعاهما في حدقتيه فصارتا مقلتين ينظر بهما، فتعجب الملك فقال شمعون له: أيها الملك إن شئت أن تغلبهم فقل للآلهة التي تعبدونها تفعل شيئا من ذلك. قال الملك: لا يخفى عليك أنها لا تبصر، ولا تسمع، ولا تقدر، ولا تعلم. فقال شمعون: فإذا ظهر الحق من جانبهم فآمن الملك وقوم وكفر آخرون، وكانت الغلبة للمكذبين،(2/287)
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
وأجمعوا على قتل الرسل وقومهم، فبلغ ذلك حبيبا وهو على باب المدينة، فجاء يسعى إليهم يذكرهم ويدعوهم إلى طاعة المرسلين ولما قتلوه غضب الله له فجعل لهم العقوبة فأمر جبريل فصاح بهم صيحة واحدة، فماتوا عن آخرهم فذلك قوله تعالى: وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ أي قوم ذلك الرجل الذي هو حبيب وهم أصحاب القرية الذين رجموه مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد قتله، مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ لإهلاكهم وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) أي إنا لم ننزل ملائكة لإهلاك الكفار في الأزمنة الماضية، بل نهلكهم بغير الملائكة إما بالحاصب أو بالصيحة، أو بالخسف، أو بالإغراق وإنما جعلنا إنزال الجند من خصائصك في الانتصار من قومك تعظيما لشأنك، إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً أي ما كانت عقوبتهم إلا صيحة واحدة من جبريل، أخذ جبريل الباب فصاح فيهم صيحة واحدة وذلك لحقارة أمرهم عندنا. فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) أي ميتون لا يتحركون.
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ، وهذا ما من كلام الملائكة، أو من كلام المؤمنين، أي يا شدة التحزن على العباد تعالى هذا وقتك فاحضري، وهو وقت الاستهزاء بالرسل، فالمستهزئون بالناصحين أحقاء بأن يتحزنوا ويتحزن عليهم المتحزنون. ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ أي بذلك الرسول يَسْتَهْزِؤُنَ (30) وهذا سبب الندامة
أَلَمْ يَرَوْا أي ألم يعلم أهل مكة الذي أنكروا رسالتك كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أي الأمم الماضية، أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) أي أنهم أهلكوا إهلاكا لا رجوع لهم إلى من في الدنيا يقال: إن الباقين لا يرجعون إلى المهلكين بنسب ولا ولادة، أي أهلكناهم وقطعنا نسلهم، والوجه الأول أشهر نقلا، والثاني أظهر عقلا. وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32) .
وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة «لمّا» بتشديد الميم إلّا أي ما كلهم إلّا مجموعون عندنا، محضرون للحساب. والجزاء، والباقون بالتخفيف، والمعنى عند الكوفيين كما تقدم، وعند البصريين وإن كلهم لمجموعون عندنا محضرون للحساب وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها، أي وعلامة عظيمة لهم على قدرتنا على البعث، وعلى وحدانيتنا الأرض الميتة أحييناها بأنواع النبات فيها، فالذي أحيا الأرض إحياء كاملا، منبتا للزرع يحيي الموتى إحياء كاملا وَأَخْرَجْنا مِنْها أي الأرض حَبًّا أي جنس الحب، كالحنطة والشعير والأرز، فَمِنْهُ أي من ذلك الحب يَأْكُلُونَ (33) فهو أكثر ما يعاش به وَجَعَلْنا فِيها، أي الأرض جَنَّاتٍ أي بساتين مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ أي من أنواع النخل والعنب وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) ، أي فتحنا في الأرض بعضا من العيون لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ أي من ثمر، ما ذكر من الجنات، أو من ثمر الله لأنه الذي خلقه.
وقرأ حمزة والكسائي بضم الثاء والميم وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ وهو ما يتخذ من ذلك الثمر(2/288)
من العصير والدبس ونحوهما ف «ما» موصولة عطف على ثمره، ويؤيد هذا قراءة حمزة والكسائي وشعبة بحذف الهاء من «عملته» ، فإن حذف العائد من الصلة أحسن من الحذف من غيرها.
وقيل: «ما» نافية، ومحل الجملة نصب على الحالية. والمعنى أن الثمر بخلق الله تعالى لا بفعلهم، أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) أي أيتنعمون بهذه النعم فلا يشكرونها فيرجعون عن عبادة غير الله، وفي ذلك استدلال على وحدته تعالى وتعديد للنعم، فالأرض مكان لهم لا بد لهم منها، فهي نعمة، ثم إحياؤها بالنبات نعمة ثانية، فإنها تصير أنزه، ثم إخراج الحب منها نعمة ثالثة، فإن قوتهم يصير في مكانهم، ثم جعل الجنان فيها نعمة رابعة، لأن الأرض تنبت الحب في كل سنة وكل ذلك مفيد إلى بيان إحياء الموتى، فيقول الله تعالى: كما فعلنا في موت الأرض، كذلك نفعل في الأموات في الأرض، فنحييهم ونعطيهم ما لا بد منه في بقاءهم من الأعضاء المحتاج إليها وقواها كالعين والأذن وغير ذلك، ونزيد له ما هو زينة كالعقل الكامل والإدراك الشامل، فكأنه تعالى قال: نحيي الموتى إحياء تاما، كما أحيينا الأرض إحياء تاما. سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ
الْأَزْواجَ كُلَّها
أي تنزيها للذي خلق الأنواع كلها. مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ من نجم وشجر ومعدن وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ من ذكر وأنثى وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36) ما في أقطار السموات وتخوم الأرضين وغيره تعالى، لم يخلق شيئا وإنما ذكر الله تعالى كون الكل مخلوقا لينزه الله تعالى عن الشريك، فإن المخلوق لا يصلح شريكا للخالق والتوحيد الحقيقي لا يحصل إلّا بالاعتراف بأن لا إله إلّا الله، فلا تشركوا بالله شيئا مما تعلمون، ومما لا تعلمون وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ أي وعلامة عظيمة لأهل مكة على قدرتنا على البعث الليل نزيل عنه النهار الذي هو كالساتر له، فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) أي داخلون في الظلام، وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها أي لحد معين ينتهي إليه دورها فتقف في مستقرها، ولا تنتقل عنه ومستقرها هو مكان تحت العرش تسجد فيه كل ليلة عند غروبها، فتستمر ساجدة فيه فيطول الليل، فعند طلوع النهار يؤذن لها في أن تطلع من مطلعها أولا فإذا كان آخر الزمان لا يؤذن لها في الطلوع من المشرق، بل يقال لها: ارجعي من حيث جئت فتطلع من المغرب.
وقرئ «إلى مستقر لها» . وعن ابن عباس لا مستقر لها أي لا سكون لها ولا وقوف، فإنها جارية أبدا إلى يوم القيامة. وقرئ «لا مستقر لها» على أن «لا» بمعنى ليس. ذلِكَ أي جري الشمس تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) أي تدبيره وتسخيره إياها، وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ أي جعلنا له منازل ثمانية وعشرين منزلة في ثمانية وعشرين ليلة من كل شهر، ويستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين يوما، ويستتر ليلة إن كان الشهر تسعة وعشرين يوما، حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) أي حتى يصير في رأى العين كالعذق المقوس اليابس إذا حال عليه الحول، لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ(2/289)
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)
تُدْرِكَ الْقَمَرَ
أي فالشمس لم تصلح لها سرعة الحركة بحيث تدرك القمر، وإلا لكان في شهر واحد صيف وشتاء فلا تدرك الثمار، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ أي ولا الليل يطلع سلطان النهار فيذهب ضوءه ولكن يعاقبه وَكُلٌّ من الشمس والقمر فِي فَلَكٍ أي دائرة يَسْبَحُونَ (40) ، أي يدورون ولفظ «كل» يجوز أن يوحد نظرا إلى كونه لفظا موحدا، ويجوز أن يجمع لكون معناه جمعا، وللشمس فلكان أحدهما: مركزه العالم، وثانيهما: مركزه فوق مركز العالم، وهو مثل بياض البيض بين صفرته والقيض والشمس كرة في الفلك الخارج المركز تدور بدورانه في السنة دورة، فإذا حصلت في الجانب الأعلى تكون بعيدة عن الأرض فيقال: إنها في الأوج وإذا حصلت في الجانب الأسفل تكون قريبة من الأرض فتكون في الحضيض، وللقمر فلك شامل لجميع أجزائه وأفلاكه، وفلك آخر هو بعض من الفلك الأول محيط به كالقشرة الفوقانية من البصلة، وفلك ثالث في الفلك التحتاني كما كان في الفلك الخارج المركز في فلك الشمس، وفي الفلك الخارج المركز كرة مثل جرم الشمس وفي الكرة القمر مركوز كمسمار في كرة مفرق فيها، ويسمى الفلك الفوقاني الجوزهر والخارج المركز الفلك الحامل والفلك التحتاني الذي فيه الفلك الحامل المائل، والكرة التي في الحامل تسمى فلك التدوير
وَآيَةٌ لَهُمْ، أي لأهل مكة على قدرتنا على البعث أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ.
وقرأ نافع وابن عامر «ذرياتهم» على الجمع، أي أولادهم الذين يبعثونهم إلى تجارتهم، أو صبيانهم ونسائهم الذين يستصحبونهم فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) أي المملوء، ومع ذلك نجاه الله من الغرق.
وقال علي بن أبي طالب: حمل الله تعالى النطف في بطون النساء تشبيه بالفلك المشحون
، وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ أي مما يماثل الفلك ما يَرْكَبُونَ (42) في البر من الإبل ونحوها وفي البحر من الزواريق ونحوها، وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ مع ركوبهم في الفلك ونحوه، فَلا صَرِيخَ لَهُمْ، أي فلا مغيث لهم من الغرق وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) ، أي ولا ينجون من الغرق بعد وقوعه، إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44) فالإنقاذ ينقسم إلى قسمين إما أن ينقذه الله لرحمة منه فيمن علم الله منه أنه يؤمن أو ينقذه للتمتيع باللذات زمانا إلى انقضاء أجله، وليزداد إثما فيمن علم الله أنه لا يؤمن، فالإنقاذ غير مفيد للدوام بل الزوال في الدنيا لا بد منه، وَإِذا قِيلَ لَهُمُ أي لأهل مكة بطريق الإنذار: اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ أي ما أمامكم من أمر الآخرة فإنهم مستقبلون لها، وَما خَلْفَكُمْ من أمر الدنيا فإنهم تاركون لها لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) أي راجين أن ترحموا فإن الله لا يجب عليه شيء أعرضوا حسب ما اعتادوه، ويقال: اتقوا ما بين أيديكم من أنواع العذاب مثل الغرق والحرق وغيرهما، وما خلفكم من الموت الطالب لكم، فإنكم إن نجوتم من هذه الأشياء فلا نجاة لكم منه، وَما تَأْتِيهِمْ أي كفار مكة مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها، أي تلك الآية مُعْرِضِينَ (46) على وجه التكذيب والاستهزاء، فلا تنفعهم الآيات ومن كذب بالبعض هان عليه(2/290)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60)
التكذيب بالكل وقوله تعالى: مِنْ آيَةٍ ف «من» زائدة، وقوله: مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ تبعيضية وقوله: إِلَّا كانُوا إلخ جملة حالية وَإِذا قِيلَ لَهُمْ بطريق النصيحة. أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي بعض ما أعطاكم الله تعالى من فضله على المحتاجين، فإن ذلك مما يرد البلاء ويدفع المكاره.
قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا استهزاء بهم أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ على زعمكم إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) حيث تأمروننا بما يخالف مشيئته تعالى.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما كان بمكة زنادقة من قريش إذا أمروا بالتصدق على المسكين. قالوا: لا والله أيفقره تالله ونطعمه نحن وكانوا يسمعون من المؤمنين، يعلقون أفعال الله بمشيئته يقولون: لو شاء الله لأغنى فلانا، ولو شاء لأعز، ولو شاء لكان كذا، فاخرجوا هذا الجواب استهزاء بالمؤمنين، وما كانوا يقولون بتعليق الأمور بمشيئة الله تعالى. وقيل: إن المؤمنين لما قالوا لكفار قريش: أنفقوا على المساكين ما زعمتم من أموالكم إنه لله تعالى، وهو ما جعلوه لله من حرثهم وأنعامهم قالوا: أنطعم من لو يشاء الله أطعمه: لكنا ننظره تعالى لا يشاء ذلك فإنه لم يطعمهم مما نرى من فقرهم، فنحن أيضا لا نشاء ذلك موافقة لمراد الله تعالى فيه، وَيَقُولُونَ أي كفار مكة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين مَتى هذَا الْوَعْدُ بقيام الساعة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) فيما تعدونا به منه؟ قال الله تعالى: ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً أي ما ينتظر قومك إذ كذبوك إلّا النفخة الأولى الميتة تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) ، أي يتخاصمون في السوق.
قرأه حمزة بسكون الخاء وكسر الصاد، والمعنى: يخصم بعضهم بعضا. والباقون بحركة الخاء وتشديد الصاد وأصله «يختصمون» فأدغمت التاء في الصاد بعد قلبها صادا. فنافع وابن كثير وهشام نقلوا فتحة الصاد إلى الساكن قبلها نقلا كاملا، وأبو عمرو، وقالون اختلسا حركتها تنبيها على أن الخطأ أصلها. والباقون حذفوا حركتها فالتقى ساكنان، لذلك فكسروا أولهما، لأن الساكن إذا حرك حرك بالكسر فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً في شيء من أمورهم إن كانوا فيما بين أهليهم، وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) إن كانوا خارج أبوابهم بل تبغتهم الصيحة فيموتوا حيثما كانوا، وقد صح
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبا بينهما فلا يتبايعانه، ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ولتقومن الساعة، وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها»
«1» .
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ أي وينفخ في القرن النفخة الثانية بينها وبين الأولى أربعون سنة،
__________
(1) رواه البخاري في كتاب صلاة الخوف، باب: التكبير والغلس بالصبح والصلاة عند الإغارة والحرب، وسلم في كتاب الجهاد، باب: 120، والترمذي في كتاب السير، باب: 3، النّسائي في كتاب النكاح، باب: البناء في السفر، والموطأ في كتاب الجهاد، باب: ما(2/291)
فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ أي إلى مالك أمرهم يَنْسِلُونَ (51) أي مخرجون بسرعة بطريق الإجبار دون الاختيار. قالُوا أي الكفار بعد ما خرجوا من القبور: يا وَيْلَنا أي يا هلاكنا، احضر فهذا أوانك مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا.
وقرئ «من أهبنا» ، وقرأ ابن عباس والضحاك وغيرهما من بعثنا على أنها جار ومجرور متعلق ب «ويل» . وقرئ «من هبنا» ب «من» الجارة والمصدر هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ أي هذا البعث ما وعدنا به الرحمن، وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) أي صدقونا فيه.
وقيل: الوقف على هذا بجعله بدلا من مرقدنا، وجعل ما وعد الرحمن خبر المبتدأ محذوف أي هو ما وعدنا الرحمن به في الدنيا من البعث، وعلى ذلك التفسير فهذا إلخ من كلام الكافرين حيث يتذكرون ما سمعوه من الرسل عليهم السلام فيجيبون به أنفسهم، أو يجيب بعضهم بعضا وقيل: قالت لهم الحفظة تذكيرا لكفرهم: هذا ما وعد الرحمن على ألسنة الرسل في الدنيا وصدق المرسلون فيما أخبروكم به البعث بعد الموت، إِنْ كانَتْ أي ما كانت نفخة البعث إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً حصلت من نفخ إسرافيل في الصور، فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا أي مجموع عندنا مُحْضَرُونَ (53) للحساب، فَالْيَوْمَ وهو يوم القيامة لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً أي لا ينقص من حسنات أحد ولا يزاد على سيئات أحد، وَلا تُجْزَوْنَ في الآخرة إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) أي إلّا بسبب ما كنتم تعملونه في الدنيا، إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أي أهل الجنة الْيَوْمَ وهو يوم القيامة، فِي شُغُلٍ أي شأن يشغلهم عما سواه، فاكِهُونَ (55) أي متلذذون في النعمة، كالتزاور وضيافة الله وافتضاض الأبكار، وضرب الأوتار وسماعه هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ يجدون فيها برد الأكباد وغاية المراد عَلَى الْأَرائِكِ أي السر والمزينة بالثياب والستور التي هي داخل الحجال، مُتَّكِؤُنَ (56) أي جالسون مع التمكن، أو الميل على شق وفي هذا إشارة إلى الفراغ لَهُمْ فِيها أي الجنة فاكِهَةٌ كثيرة من كل نوع من أنواع الفواكه، وَلَهُمْ فيها ما يَدَّعُونَ (57) أي يشتهون.
وقال الزجاج: أي ما يدعو به أهل الجنة يأتيهم. وعلى هذا فيكون الافتعال بمعنى الفعل، ويعضده القراءة بسكون الدال سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) أي سلام عليهم أخص قولا من رب رحيم، وعلى هذا فيكون حكاية لما سيقال لهم من جهته تعالى يومئذ كما في قوله تعالى:
وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ فيكون الله تعالى أحسن من عباده المؤمنين كما أحسن إلى عباده المرسلين
عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بينما أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم
__________
جاء في الخيل والمسابقة بينها، والنفقة في الغزو، وأحمد في (م 3/ ص 102) .(2/292)
وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)
نور، فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب عز وجل قد أشرف عليهم من فوقهم فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم»
«1» . وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أي ويقال للمشركين: انفردوا اليوم أيها المجرمون عن المؤمنين حين يسار بهم إلى الجنة إذ لا دواء لألمكم ولا شفاء لسقمكم. أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ أي ألم أوص إليكم يا بَنِي آدَمَ على لسان رسلي أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ أي لا تطيعوه، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) أي ظاهر العداوة، فإذا جاءك شخص يأمرك بشيء فانظر إما أن يكون ذلك موافقا لأمر الله أولا، فإن لم يكن موافقا له فذلك الشخص معه الشيطان يأمرك بما يأمرك به، فإن أطعته فقد عبدت الشيطان، وإن دعتك نفسك إلى فعل، فانظر أهو مأذون فيه من جهة الشرع أولا، فإن لم يكن مأذونا فيه فنفسك هي الشيطان أو معها الشيطان يدعوك فإن اتبعته فقد عبدته، ثم إن الشيطان يأمر أولا بمخالفة الله ظاهرا فمن أطاعه فقد عبده، ومن لم يطعه فيقول له: اعبد الله كي لا تهان وليرتفع شأنك عند الناس وينتفع بك إخوانك، فإن أجاب إليه فقد عبده،
وَأَنِ اعْبُدُونِي، أي أطيعوني موحدين بي هذا أي التوحيد صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) أي طريق قريب آمن فاسلكوه وفي ضمن قوله تعالى: هذا صِراطٌ إشارة إلى أم الإنسان مار في الدنيا لا مقيم فيها. وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أي وبالله لقد أضل الشيطان منكم يا بني آدم خلقا كثيرا قبلكم عن ذلك الصراط المستقيم الذي أمرتكم بالثبات عليه، فأصابهم لأجل ذلك ما أصابهم من العقوبات الهائلة. أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) ، أي أكنتم تشاهدون آثار عقوباتهم فلم تكونوا تعقلون أنها لضلالهم، أو أفلم تكونوا تعلمون ما صنع الشيطان بهم.
وقرأ نافع وعاصم «جبلا» بكسر الجيم والباء وتشديد اللام، وأبو عمرو وابن عامر بضم الجيم وسكون الموحدة. والباقون بضمهما واللام مخففة هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) أي كنتم توعدون بها في الدنيا على ألسنة الرسل عليهم السلام بمقابلة عبادة الشيطان، وبهذا يخاطب الكفار بعد تمام التوبيخ عند أشرافهم على شفير جهنم، اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) أي ادخلوا جهنم من فوق، وقاسوا فنون عذابها اليوم بكفركم المستمر في الدنيا الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) أي يعلمون من الشر، ورأى أنهم حين يسمعون قوله تعالى: بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ينكرون كفركم فيشهد عليهم جيرانهم وأهاليهم وعشائرهم، فيحلفون ما كانوا مشركين، فيختم الله على أفواههم وينطق الله
__________
(1) رواه السيوطي في الدر المنثور (3: 38) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (3858) ، وابن سعد في الطبقات (1: 1: 135) ، والقرطبي في التفسير (15: 76) .(2/293)
غير لسانهم من الجوارح، فيقرون بذنوبهم ولا يقدرون على الإنكار فكل عضو ينطق بما صدر منه فشهادتهم هو إقرارهم، وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ، أي ولو نشاء أن نطمس على أعينهم لمسحنا أعينهم حتى تصير ممسوحة بحيث لا يبدو لها جفن ولا شق، فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) ، أي فلو أرادوا سلوك الطريق الواضح المألوف لهم لا يقدرون عليه. والمراد أن قدرتنا إزالة نعمة البصر عنهم فيصيروا عميا لا يقدرون على التردد في الطريق لمصالحهم ولكن أبقينا عليهم نعمة البصر فضلا وكرما، فحقهم أن يشكروا عليها ولا يكفروا فهذا توبيخ، لهم كمال توبيخ وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ.
وقرأ شعبة «مكاناتهم» على الجمع، فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) ، أي ولو نشاء لحولنا صورهم وأبطلنا قواهم في منازلهم فلا يقدرون أن يبرحوا مكانهم بإقبال ولا إدبار ولا يرجعون إلى الحال الأول.
وعن ابن عباس: أي حولناهم قردة وخنازير. وقيل: أي حولناهم حجارة وعن قتادة لأقعدناهم على أرجلهم وأزمناهم، وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أي ومن نطل عمره إطالة كثيرة نقلبه في خلق جسده وقواه الباطنية، فكل منهما ينقلب حاله فيرجع من القوة إلى الضعف حتى صار كأنه طفل.
وقرأ عاصم وحمزة بضم النون الأولى، وفتح الثانية وكسر الكاف مشددة، والباقون بفتح الأولى وتسكين الثانية وضم الكاف أَفَلا يَعْقِلُونَ (68) أي أيرون ذلك فلا يعقلون أن من قدر على ذلك يقدر على الطمس والمسخ، وإن عدم إيقاعهما لعدم تعلق مشيئته تعالى بهما.
وقرأ نافع وابن ذكوان «تعلقون» بالخطاب وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ، أي وما علمنا محمدا الشعر وليس القرآن بشعر، وهذا رد لما كانوا يقولون في حقه صلّى الله عليه وسلّم من أن محمدا شاعر وما يقوله شعر، وَما يَنْبَغِي لَهُ أي وما كان الشعر يليق به صلّى الله عليه وسلّم، ولا يصلح له، وذلك لأن الشعر يدعو إلى تغيير المعنى لمراعاة اللفظ والوزن، فالشارع يكون اللفظ منه تبعا للمعنى، والشاعر يكون المعنى منه تبعا للفظ، لأنه يقصد لفظا يصح به وزن الشعر أو قافيته، فيحتاج إلى التحيل لمعنى يأتي به لأجل ذلك اللفظ، ولو صدر من النبي صلّى الله عليه وسلّم كلام كثير موزون مقفى لا يكون شعرا لعدم قصده اللفظ، وإنما قصد المعنى فجاء على تلك الألفاظ، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ أي ما القرآن إلا عظة من الله تعالى للثقلين، وَقُرْآنٌ أي كتاب جامع للأحكام كلها مُبِينٌ (69) أي ظاهر أنه ليس من كلام البشر لِيُنْذِرَ، أي محمد كما يدل له قراءة نافع وابن عامر بالتاء على الخطاب أو القرآن، مَنْ كانَ حَيًّا أي عاقلا منهما أو مؤمنا في علم الله تعالى وتخصيص الإنذار به لأنه المنتفع به وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70) ، أي ولتثبت كلمة العذاب على المصرين على(2/294)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)
الكفر، أو وليثبت المقول في الوحدانية والرسالة والحشر وسائر المسائل الدينية على كفار مكة فإن في القرآن ذكر الدلائل التي ثبتت بها المطالب.
أَوَلَمْ يَرَوْا أي ألم يتفكروا، ولم يعلموه علما يقينا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ أي لأجل انتفاعهم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أي ما عملناه بقدرتنا وإرادتنا أَنْعاماً هي الإبل والبقر والغنم، وهو مفعول خلقنا لَها مالِكُونَ (71) بتمليكنا إياهم لها بحيث يتصرفون فيها بوجوه التصرفات وَذَلَّلْناها لَهُمْ أي صيرناها منقادة لهم بحيث لا تستعصي عليهم في شيء مما يريدون بها فَمِنْها رَكُوبُهُمْ أي فبعض منها مركوبهم، وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) ، أي وبعض منها يأكلون لحمه. وَلَهُمْ فِيها أي الأنعام مَنافِعُ غير المركوب والأكل كالجلود، والأصواف، والأوبار، والنسل، والحرث عليها والحمل، وَمَشارِبُ من ألبانها أَفَلا يَشْكُرُونَ (73) ؟ أي أيشاهدون هذه النعم فلا يشكرون المنعم بها فيعبدونه. وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) أي وعبد كفار مكة من غير الله أصناما راجين أن ينصروهم من عذاب الله تعالى لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ، أي لا تقدر آلهتهم على نصرهم وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) أي والمشركون لآلهتهم بمنزلة الجند، فهم قائمون بين أيديهم كالعبيد ويخدمونها، ويغضبون لها في الدنيا، أو المعنى وآلهتهم وهي الأصنام، جند للعابدين محضرون معهم في النار، فلا يدفع بعضهم عن بعض، ويقال: والمشركون جند لآلهتهم يشيعونها عند مساقها إلى النار. فَلا يَحْزُنْكَ يا أشرف الخلق قَوْلُهُمْ، أي تكذيبهم إياك.
وقرئ «يحزنك» بضم الياء وكسر الزاي وهو لغة بني تميم. أما القراءة المشهورة التي هي بفتح الياء وضم الزاي فهي لغة قريش. إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ من النفاق أو من المكر بك أو من العقائد الفاسدة، وَما يُعْلِنُونَ (76) من الشرك أو من الكفر بك، أو من الأفعال القبيحة أي إنا نجازيهم بجميع جناياتهم الخافية والبادية أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أي ألم يتفكر الإنسان ولم يعلم علما يقينا أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ قذرة خسيسة فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ أي ناطق بالباطل مُبِينٌ (77) أي مبين النطق في نفي البعث وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا أي أورد الإنسان في شأننا أمرا عجيبا وهو إنكاره قدرتنا على إحياء الموتى مع شهادة العقل والنقل في ذلك، وَنَسِيَ خَلْقَهُ أي وترك الإنسان ذكر بدء خلقه من المنى، قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) أي بالية أشد البلاء بعيدة عن الحياة غاية البعد، ونزلت هذه الآيات في العاصي بن وائل كما نقل عن مجاهد أو في أبي بن خلف كما قاله عكرمة والسدي، أو في عبد الله بن أبي كما نقل عن ابن عباس أو أمية بن خلف كما حكاه ابن عساكر.
وروي أن جماعة من كفار قريش تكلموا فقال لهم أبي بن خلف: ألا ترون إلى ما يقول محمد أن الله يبعث الأموات ثم قال: واللات والعزى لأذهبن إليه ولأخصمنه، فأخذ عظما باليا،(2/295)
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
فجعل يفتته بيده، وأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: إنك يا محمد تقول: إن إلهك يحيي هذه العظام فقال صلّى الله عليه وسلّم: «نعم ويبعثك ويدخلك جهنم»
. قُلْ له يا أكرم الرسل: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ أي يحيي العظام من خلقها من العدم أول مرة من النطفة، فكما خلق الإنسان ولم يكن شيئا مذكورا كذلك يعيده، وإن لم يبق شيئا مذكورا وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) أي فيعلم الله أجزاء الأشخاص المفتتنة في المشارق والمغارب والتي بعضها في أبدان السباع، وبعضها في جدران الرباع سواء كانت أجزاء أصلية، أو فضلية، للآكل، أو للمأكول فيعيد الله كلا من ذلك النمط السابق مع القوى التي كانت قبل ويجمعه وينفخ روحه، الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً والموصول بدل من الموصول الأول، أي الذي خلق لأجل منفعتكم نارا من المرخ والعفار، فالمرخ شجر سريع القدح، والعفار بفتح العين شجر تقدح منه النار فمن أراد النار قطع منهما غصنين مثل السواكين، وهما خضراوان يقطر منهما الماء فيسحق المرخ على العفار، فتخرج منهما النار بإذن الله تعالى وهذا قول ابن عباس.
وقال الحكماء: في كل شجر نار إلا العناب فَإِذا أَنْتُمْ يا أهل مكة مِنْهُ أي من الشجر الأخضر تُوقِدُونَ (80) فمن قدر على أحداث النار من الشجر الأخضر مع ما فيه من المائية المضادة، لها كان أقدر على إعادة الأجساد بعد فنائها.
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ أي أليس الذي أنشأ العظام أول مرة، وليس الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا وليس الذي خلق السموات والأرض مع كبر جرمهما وعظم شأنهما يقدر على أن يخلق مثل الأناسي في الصغر، ثم أجاب الله نفسه بقوله: بَلى هو قادر على ذلك وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) ، أي وهو كامل القدرة وشامل العلم إِنَّما أَمْرُهُ أي شأنه إِذا أَرادَ شَيْئاً من الأشياء أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) ، أي أن يعلق بذلك الشيء قدرته تعالى فَيَكُونُ (83) ، أي فيحدث من غير توقف على شيء آخر أصلا.
وقرأ ابن عامر والكسائي بالنصب عطفا على «يقول» . فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ أي تنزه عن الشريك والعجز من في قبضته مملكة كل شيء وخزائنه، وَإِلَيْهِ لا إلى غيره تُرْجَعُونَ (83) بعد الموت فيجزيكم بأعمالكم وقرأ زيد بن علي بالبناء للفاعل.(2/296)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)
سورة الصافات
مكية، مائة واثنان وثمانون آية، ثمانمائة وستون كلمة، ثلاثة آلاف وثمانمائة وتسعة وعشرون حرفا
وَالصَّافَّاتِ أي والملائكة الناظمات لأنفسها في سلك الصفوف بقيامها في مقاماتها المعلومة، أو الصافات أقدامها في السماء لأداء العبادات، أو الباسطات أجنحتها في الهواء واقفة حتى يأمرها الله تعالى بما يريد صَفًّا (1) بديعا، فَالزَّاجِراتِ أي الملائكة التي تزجر السحاب، أي يأتون بها من موضع، إلى موضع أو الزاجرات لبني آدم عن المعاصي بالإلهامات، أو الزاجرات للشياطين عن التعرض لبني آدم بالشر والإيذاء، وعن استراق السمع زَجْراً (2) بليغا. فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) أي الملائكة التاليات الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم السلام وغيرها من التسبيح والتقديس، والتحميد، والتمجيد. إِنَّ إِلهَكُمْ يا أهل مكة لَواحِدٌ (4) بلا شريك، إذ لو لم يكن واحدا لاختل هذا الاصطفاف والزجر والتلاوة، فكان غير حكيم. رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مالكهما وَما بَيْنَهُما من الموجودات، وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5) أي مشارق الشمس فإنها ثلاثمائة وستون مشرقا تشرق الشمس كل يوم من مشرق منها وبحسبها تختلف المغارب وتغرب كل يوم في مغرب منها إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا أي القربى من أهل الأرض بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) .
قرأ أبو بكر عن عاصم بتنوين «زينة» ، ونصب «الكواكب» ، أي بتزييننا الكواكب في كونها مضيئة حسنة في أنفسها، وحمزة وحفص كذلك إلّا أنهما خفضا «الكواكب» بدل من «زينة» .
والباقون بإضافة «زينة» إلى «الكواكب» ، أي بتزيين ضوء الكواكب السماء.
وقرأ ابن عباس وابن مسعود بتنوين «زينة» ، ورفع «الكواكب» ، أي بزينة في الكواكب أو بتزيين الكواكب فالأول في قوة البدل والثاني في قوة المضاف للفاعل وَحِفْظاً عطف على زينة باعتبار المعنى، أي إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظا مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) أي عال على الله عن طاعته برمي الشهب، لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم(2/297)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20)
بفتح السين وتشديدها، وتشديد الميم أي كيلا يتطلب الشياطين السماع إلى كلام أشرف الملائكة. والباقون بسكون السين، وَيُقْذَفُونَ أي يرمون بالشهب مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) أي من جميع جوانب السماء إذا قصدوا الصعود إليها دُحُوراً أي للطرد وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) أي دائم بالشهب في الدنيا إلى النفخة الأولى وبالنار في الآخرة،
إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ
، و «من» في محل رفع بدل من الواو في «لا يسمعون» أي لا يسمع الشياطين إلّا الشيطان الذي اختلس الكلمة من كلام الملائكة على وجه المسارقة فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10) ، أي لحقه شهاب مضيء يحرقه، أو يخبله أو يقتله
فَاسْتَفْتِهِمْ، أي سل يا أشرف الخلق هؤلاء المنكرين للبعث من مشركي مكة، أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أي أصعب خلقا وأشق إيجادا، أَمْ مَنْ خَلَقْنا أي أم التي خلقناها من هذه الأشياء أصعب وهي السموات والأرض، وما بينهما والمشارق والمغارب، والشياطين الذي يصعدون الفلك والملائكة، والكواكب والشهب الثواقب، إِنَّا خَلَقْناهُمْ أي كل إنسان مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) أي لاصق لشدة اختلاط بعضه ببعض، فإن الحيوان إنما يتولد من المني وهو يتولد من الغذاء، ثم النبات إنما يتولد من امتزاج الأرض بالماء وهو الطين اللازب بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) ، أي بل عجبت يا أشرف الرسل من تكذيبهم إياك وهم يسخرون من تعجبك ومن تقريرك للبعث، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يظن أن كل من سمع القرآن يؤمن به، فلما سمع المشركون القرآن سخروا منه ولم يؤمنوا به عجب من ذلك النبي.
وقرأ حمزة والكسائي «عجبت» بضم التاء وهو قراءة ابن عباس، وابن مسعود، وإبراهيم، ويحيى بن وثاب، والأعمش. والمعنى: عجبت من أن ينكروا البعث ممن هذه أفاعيله وممن كثرت مخلوقاته وكملت قدرته، ويسخروا ممن يجوز البعث. وقال بعض الائمة: معنى قوله:
بَلْ عَجِبْتَ بالضم بل جازيتهم على عجبهم، أي إن هؤلاء المنكرين أقروا بأن الله تعالى قادر على تكوين أشياء أصعب من إعادة الحياة إلى هذه الأجساد، وقد تقرر في صرائح العقول أن القادر على الأشق الأشد يكون قادرا على الأسهل الأيسر، ومع قيام هذه الحجة البديهية بقي هؤلاء القوم مصرّين على إنكار البعث والقيامة، وهذا في موضع التعجب الشديد، وَإِذا ذُكِّرُوا أي إذا وعظوا بشيء من المواعظ لا يَذْكُرُونَ (13) أي لا يتعظون، ولا ينتفعون بذكر دلائل صحة البعث لغاية بلادتهم وقصور فكرهم، وَإِذا رَأَوْا آيَةً أي معجزة تدل على صدق القائل بالبعث كانشقاق القمر يَسْتَسْخِرُونَ (14) يبالغون في السخرية. وَقالُوا إِنْ هذا أي ما هذا الذي يرونه إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أي ظاهر سحريته أي إن الرسول أثبت جهة رسالته بالمعجزات، ثم قال لما ثبت بهذه المعجزة: كوني رسولا من عند الله صادقا فأنا أخبركم بأن البعث والقيامة حق، ثم إن هؤلاء المنكرين لا ينتفعون بهذا الطريق أيضا لأنهم إذا رأوا معجزة باهرة حملوها على كونها سحرا واستهزءوا منها. أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) .(2/298)
هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30)
وقرأ قالون وابن عامر بسكون الواو على أنها معطوفة على الضمير في «مبعوثون» .
والباقون بفتحها على أنها همزة الاستفهام دخلت على واو العطف، فالمعنى أو تبعث آباؤنا ويقال أو آباؤنا الأولون مبعوثون أيضا، أي أن القوم كانوا يستبعدون الحشر والقيامة ويقولون: من مات وصار ترابا وتفرقت أجزاؤه في العالم كيف يعقل عوده بعينه، وبلغوا هذا الاستبعاد إلى حيث كانوا يستسخرون ممن سلك هذا المذهب الحق. قُلْ لهم تبكيتا: نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) أي نعم تبعثون أنتم وآباؤكم الأولون حال كونهم وهم ذليلين حقيرين، فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ أي لا تستبعدوا البعث، لأنه إنما هي صيحة واحدة فَإِذا هُمْ أي الخلائق قائمون من مراقدهم أحياء يَنْظُرُونَ (19) أي يبصرون كما كانوا، وينتظرون ما يفعل بهم وَقالُوا أي الكفار إذا قاموا من القبور: يا وَيْلَنا أي يا هلاكنا احضر، فهذا أوان حضورك. هذا يَوْمُ الدِّينِ (20) أي هذا اليوم الذي نجازي فيه بأعمالنا
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ أي يوم القضاء بينكم وبين المؤمنين الَّذِي كُنْتُمْ في الدنيا بِهِ أي بهذا اليوم تُكَذِّبُونَ (21) . والوقف على «ويلنا» تام إن جعل هذا يوم الدين من كلام الملائكة جوابا لهم، فالمعنى: هذا يوم جزاء الأعمام وإن جعل من كلام الكفار، لأنهم كانوا يسمعون في الدنيا أنهم يبعثون ويجزون بأعمالهم، فالوقف التام على يوم الدين لأن هذا يوم الفصل إلى آخره من كلام الملائكة جوابا لهم بطريق التوبيخ. وقيل: هو من كلام بعضهم لبعض فيقول الله للملائكة: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا أي رؤساء الكفار من مقامهم إلى الموقف وَأَزْواجَهُمْ أي أحزابهم ونظراءهم من الكفرة. وقيل: قرناؤهم من الشياطين. وقيل: نساؤهم اللاتي على دينهم. وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ أي من غيره من الأصنام ونحوها، فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) أي سوقوهم إلى طريق جهنم وَقِفُوهُمْ أي احبسوهم في الموقف أو على النار، إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) عن عقائدهم وأعمالهم. وقيل: المراد سألتهم خزنة النار بنحو قولهم:
ألم يأتكم رسل منكم بالبينات. قالوا: بلى.
وقرئ بفتح الهمزة على حذف لام العلة، أي قفوهم لأجل سؤال الله إياهم وتقول لهم خزنة جهنم: ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) أي أيّ شيء لكم لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم في الدنيا- كما قاله ابن عباس- وذلك لأن أبا جهل قال يوم بدر: نحن جميع منتصر. فيقال لهم يوم القيامة: ما لكم غير متناصرين كما كنتم تزعمون في الدنيا، بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) أي منقادون خاضعون لظهور عجزهم وانسداد باب الحيل عليهم في دفع تلك المضار، وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) أي يتخاصمون. يقول الأتباع: غررتمونا، ويقول الرؤساء: لم قبلتم منا.
قالُوا أي الاتباع للرؤساء إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا في الدنيا عَنِ الْيَمِينِ (28) أي عن القوة والقهر وتقصدوننا عن الغلبة حتى تحملونا على الضلال، أو عن الحلف فإن أئمة الكفار كانوا قد حلفوا لهؤلاء المستضعفين أن ما يدعونهم إليه هو الحق فوثقوا بأيمانهم. قالُوا أي الرؤساء للأتباع:(2/299)
فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50)
بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) أي لم نمنعكم من الإيمان بل لم تؤمنوا باختياركم، وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ أي من قهر. والمعنى: فلا قدرة لنا عليكم حتى نقهركم على متابعتنا بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) أي غالين في معصية الله تعالى
فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31) أي فثبت وعيد ربنا إنا لذائقوا العذاب. والمعنى: إن الله تعالى لما أخبر عن وقوعنا في العذاب فلو لم يحصل وقوعنا في العذاب لما كان خبر الله حقا، ولما كان خبر الله أمرا ثابتا كان الوقوع في العذاب الأليم لازما، ولما حق علينا وعيد ربنا وجب أن نكون ذائقين لهذا العذاب، فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) أي إنا إنما أقدمنا على إغوائكم لأنا كنا موصوفين في أنفسنا بالغواية فلا لوم علينا، فَإِنَّهُمْ أي الأتباع والمتبوعين يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة فِي الْعَذابِ أي في وقوعهم في العذاب مُشْتَرِكُونَ (33) كما كانوا في الدنيا مشتركين في الغواية، إِنَّا كَذلِكَ أي كما نفعل بعبدة الأوثان نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) ، أي المشركين غير هؤلاء كالنصارى واليهود إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) ، أي عبدة الأوثان كانوا إذا قيل لهم: قولوا لا إله إلّا الله، يتعاظمون عن النطق بكلمة التوحيد وعلى من يدعوهم إليها، وَيَقُولُونَ في تكذيب النبوة أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) أي أإنا لتاركوا عبادة آلهتنا لأجل قول محمد صلّى الله عليه وسلّم، ثم إن الله تعالى كذبهم في ذلك الكلام فقال بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ أي بل جاء محمد بالدين الحق، لأنه ثبت بالعقل أنه تعالى منزه عن الشريك وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) أي وصدق محمد المرسلين في مجيئهم بالتوحيد ونفي الشرك، فإن التوحيد دين كل الأنبياء إِنَّكُمْ بما فعلتم من الإشراك وتكذيب الرسول صلّى الله عليه وسلّم لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) .
وقرئ بنصب «العذاب» على تقدير النون. وقرئ «لذائقون العذاب» على الأصل وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) أي إلا بما كنتم تعملونه من السيئات، وكأنه قيل: فكيف يليق بالرحيم الكريم المتنزه عن النفع والضر أن يعذب عباده، فأجاب الله عن ذلك بقوله: وَما تُجْزَوْنَ إلخ. والمعنى: أن الحكم يقتضي الأمر بالحسن والنهي عن القبيح ولا يكمل المقصود منهما إلّا بالترغيب في الثواب، وبالترهيب بالعقاب، وإذا وقع الإخبار عن ذلك وجب تحقيقه صونا للكلام عن الكذب، فلهذا السبب وقعوا في العذاب إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) .
بقدر أعمالهم دون عباد الله المخلصين فإنهم يجزون أضعافا مضاعفة اه.
أُولئِكَ أي المخلصون لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) ، أي معروف الصفة لكونه مخصوصا بخصائص خلقها الله فيه من طيب طعم ورائحة، ولذة طعم،(2/300)
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60)
وحسن منظر. وقيل: معنى المعلوم إنهم يتيقنون دوام الرزق لا كرزق الدنيا الذي لا يعلم متى يحصل، ومتى ينقطع. وقيل: معناه أن الرزق على قدر يستحقونه بأعمالهم من ثواب الله وكرامته عليهم، فَواكِهُ وهو ما يؤكل لمجرد التلذذ دون الاقتيات، لأنهم مستغنون عن القوت، وهو بدل كل من رزق فالفواكه مساوية للرزق فتشمل الخبز واللحم، لأنهما يؤكلان في الجنة تلذذا، وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) عند الله تعالى لا يلحقهم هوان، لأن الأكل الخالي عن التعظيم يليق بالبهائم.
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) أي في جنات ليس فيها إلّا التنعيم، عَلى سُرُرٍ مكللة بالدر والياقوت والزبرجد، مُتَقابِلِينَ (44) أي متواجهين في الزيارة لا يرى بعضهم قفا بعض، وفي بعض الأخبار أنهم إذا أرادوا القرب سار السرير تحتهم يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ أي بخمر أو بإناء فيه خمر، فالكأس يطلق عليهما مِنْ مَعِينٍ (45) أي من نهر جار على وجه الأرض خارج من العيون، بَيْضاءَ مثل اللبن لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ أي ليس في شربها صداع في الرأس- كما قاله ابن عباس والليث- ولا وجع البطن- كما قاله قتادة- ولا أثم- كما قاله الكلبي-، وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) .
قرأ حمزة والكسائي بضم الياء وكسر الزاي أي يسكرون. والباقون بفتح الزاي أي يذهب عقولهم. وعن سببية أي بسبب الخمر وَعِنْدَهُمْ في الجنة قاصِراتُ الطَّرْفِ أي حور قصرن أبصارهن على أزواجهن لا يمددن طرفا إلى غيرهم عِينٌ (48) أي كبار الأعين حسانها، كَأَنَّهُنَّ في الصفاء بَيْضٌ للنعام مَكْنُونٌ (49) أي مصون عن القترة، شبههن ببيض النعام المصون من الغبار ونحوه في الصفاء والبياض المخلوط بأدنى صفرة، فإن ذلك أحسن ألوان الأبدان فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) . وهذا معطوف على «يطاف» ، أي يشربون ويتحادثون على الشراب فيقبل بعضهم على بعض يتساءلون عما جرى لهم وعليهم، وعن المعارف.
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ أي من أهل الجنة في تضاعف محاوراتهم وهو يهوذا: إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) أي مصاحب في الدنيا يقال له: نطروس- وهما شريكان في بني إسرائيل أحدهما مؤمن وهو يهوذا، والآخر كافر وهو نطروس- يَقُولُ لي يوبخني على التصديق بالبعث والقيامة: أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) بالبعث ويقول تعجبا: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) ! أي لمحاسبون ومجاوزون. وقرئ «المصدقين» بتشديد الصاد.
وقيل: كان رجل تصدق بماله لوجه الله تعالى فافتقر، فاستجدى بعض إخوانه فقال: أين مالك؟ قال: تصدقت به ليعوضني الله تعالى في الآخرة خيرا منه. فقال: أإنك لمن المصدقين بيوم الدين أو من المتصدقين لطلب الثواب والله لا أعطيك شيئا، فيكون التعرض لذكر موتهم وكونهم ترابا وعظاما حينئذ لتأكيد إنكار الجزاء المبني على إنكار البعث. قالَ ذلك الرجل الذي هو من أهل الجنة لجلسائه: هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) إلى أهل النار لأريكم ذلك القرين؟(2/301)
لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)
فذهب إلى بعض أطراف الجنة فَاطَّلَعَ عندها إلى النار فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) أي فرأى ذلك الرجل قرينه في وسط النار. قالَ له موبخا: تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) أي إنه، أي الشأن قاربت لتهلكني بدعائك إياي إلى إنكار البعث والقيامة.
وقرئ «لتغوين» ، أي لتضلني عن الدين، وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي بالإرشاد إلى الحق والعصمة عن الباطل لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) في النار مثلك، ثم عاد إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة فقال: أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) أي أنحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى التي كانت في الدنيا، وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) . وهذا استفهام تلذذ فهو من سؤال بعضهم لبعض، لأن الذي تتكامل سعادته إذا عظم تعجبه بها قد يقول: أيدوم هذا لي أيبقى هذا لي، وإن كان على يقين من دوامه، ثم عند فراغهم من هذه المباحثات يقولون: إِنَّ هذا أي الذي نحن فيه لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) . والوقف هنا تام. وقيل: هو من قول الله تعالى تصديقا لقولهم. وقرئ «إن هذا» أي الذي ذكر لأهل الجنة لهو الرزق العظيم.
قال الله تعالى ترغيبا للمكلفين في عمل الطاعات:
لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61) أي لطلب مثل هذه السعادات المحكية يجب أن يعمل العاملون فليجتهد المجتهدون بالعلم والعبادة. أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) أي أذلك الرزق المعلوم الذي حاصله اللذة والسرور خير حاصلا أم شجرة الزقوم التي حاصلها الألم والغم، أمر الله ورسوله أن يورد ذلك على كفار قومه ليصير ذلك زاجرا لهم عن الكفر والمعنى أن الرزق المعلوم ضيافة أهل الجنة، وأهل النار ضيافتهم شجرة الزقوم فأيهما خير في كونه ضيافة. وهذا الكلام جيء به على سبيل السخرية بهم، لأنه لا نسبة لأحدهما إلى الآخر في الخيرية. إِنَّا جَعَلْناها أي شجرة الزقوم فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) أي شبهة في قلوبهم حتى صارت سببا لتماديهم في الكفر، فإنهم لما سمعوا أن شجرة الزقوم في النار قالوا: كيف يعقل أن تنبت الشجرة في النار مع أنها تحرق الشجر ولم يعلموا أن خالق النار قادر على أن يمنع النار من إحراق الشجر، لأنه إذا جاز أن يكون في النار زبانية والله يمنع النار عن إحراقهم فلم لا يجوز مثل ذلك في هذه الشجرة؟
إِنَّها أي الزقوم شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) أي منبتها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها.
وقرئ «نابتة في أصل الجحيم» . طَلْعُها أي ثمرها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) في القبح والهول، وهو تشبيه بالمتخيل كتشبيه الفائق في الحسن بالملك في قوله تعالى حكاية لقول النساء: إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ وذلك أن الناس اعتقدوا في الملائكة كمال الفضل في الصورة والسيرة، واعتقدوا في الشياطين نهاية القبح في الصورة والسيرة، فكما حسن التشبيه بالملك عند إرادة تقرير الكمال، حسن التشبيه برءوس الشياطين في قبح النظر كأنه قيل: إن أقبح الأشياء في الخيال هو رؤوس الشياطين. وقيل: إن الشياطين حيات هائلة لها رؤوس وأعراف، وهي من(2/302)
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)
أقبح الحيات، والزقوم اسم شجرة صغيرة الورق، دفرة، مرة، كريهة الرائحة تكون في تهامة، فَإِنَّهُمْ أي الكفار لَآكِلُونَ مِنْها أي من الزقوم فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) لغلبة الجوع أو للقسر على أكلها تكميلا لعذابهم ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها أي الزقوم بعد ما شبعوا منها وغلبهم العطش لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ، أي لمخلوطا بماء متناه في الحرارة. والمعنى: إذا غلبهم العطش الشديد سقوا من الماء الحار، فحينئذ يخلط الزقوم بماء حميم فيقطع أمعاءهم، نعوذ بالله من ذلك ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) فإن الزقوم والحميم ضيافة تقدم إليهم قبل دخولها.
وقرئ «إن مصيرهم» أي منقلبهم. إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) أي إنهم وجدوهم ضالين في نفس الأمر فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) أي فهم يتبعون آباءهم على دينهم اتباعا في سرعة من غير تدبر أي إنما استحقاقهم للوقوع في تلك الشدائد بتقليد الآباء في الدين، وترك اتباع الدليل،
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أي قبل قريش أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) من الأمم السالفة، وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) أي أنبياء أولي عدد كثير، وذوي شأن خطير بينوا لهم بطلان ما عليهم، فلم يؤمنوا بهم. وهذا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم في كفر قومه وتكذيبهم له ليكون له أسوة بمن تقدم من الرسل ليصبر كما صبروا. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) . والمقصود من هذا الخطاب خطاب الكفار وإن كان في الظاهر خطابا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، لأنهم سمعوا بالأخبار ما جرى على قوم نوح، وعاد، وثمود، وغيرهم، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) بفتح اللام أي الذين أخلصهم الله تعالى بتوفيقهم للإيمان والعمل وبكسرها، أي الذين أخلصوا دينهم لله تعالى. وهذا استثناء من قوله تعالى: كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ فإنها كانت أقبح العواقب، فإنا أهلكناهم إلّا عاقبة عباد الله المخلصين، فإنها كانت مقرونة بالخير والراحة لأنا لم نهلكهم، أو استثناء من قوله تعالى: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ وقوله: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ. أي فإنهم لم يضلوا لأنهم لم يكذبوا رسلهم. وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ في أن
ننجيه من الغرق أو في إيذاء قومه وقصدهم لقتله فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) أي فو الله لنعم المجيبون نحن، وَنَجَّيْناهُ أي نوحا وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) أي الحاصل بسبب الخوف من الغرق، أو الحاصل من أذى قومه وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) إلى يوم القيامة، وكان له ثلاث بنين: سام، وحام، ويافث. فسام: أبو العرب، وفارس، والروم. وحام: أبو الحبش، والبربر، والسند ويافث: أبو الترك والتتار ويأجوج. ومأجوج وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79) أي وتركنا على نوح في الباقين بعد من الأمم، هذه الكلمة وهي سلام على نوح في العالمين أي يسلمون عليه تسليما ويدعون له بثبوت هذه التحية في الملائكة والثقلين جميعا على الدوام، أي أثبت الله التسليم على نوح وأدامه في الملائكة والثقلين، فيسلمون عليه بكليتهم إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) أي إنا مثل ذلك الجزاء الكامل نجزي الكاملين في الإحسان
إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) . والمقصود من(2/303)
فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100)
هذا بيان أن أعظم الدرجات الإيمان بالله والانقياد لطاعته، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وهم كفار قومه أجمعين وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ أي ممن تابعه في أصول الدين لَإِبْراهِيمَ (83) وإن اختلفت فروع شرائعها، وما كان بينهما إلّا نبيان: هود وصالح عليهم السلام، وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة. إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) ، أي إذ أقبل إبراهيم إلى طاعة ربه بقلب خالص من كل عيب. وقال الأصوليون: المراد أنه عاش ومات على طهارة القلب من كل دنس المعاصي، فيكون سليما عن الشرك، والغش، والحقد، والحسد.
وعن ابن عباس: أنه كان يحب للناس ما يحب لنفسه وسلم جميع الناس من غشه وظلمه.
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ظرف ل «جاء» أو ل «سليم» ، وأما العامل في «إذا» الأولى فهو ما دلّ عليه قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ من معنى المتابعة. ماذا تَعْبُدُونَ (85) أي أيّ شيء تعبدونه أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) ! أي أتعبدون آلهة من غير الله لأجل الكذب؟ فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87) أنه من جنس هذه الأجسام حتى جعلتموها مساوية له في العبودية أو أنه جوّز جعل هذه الجمادات مشاركة له في العبودية. فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) ، أي في علم النجوم وأراد أن يتخلف عنهم في عيد يخرجون إليه ليبقى خاليا في بيت الأصنام، فيقدر على كسرها ليلزمهم الحجة في أنها غير معبودة، وكان قومه يتعاملون علم النجوم فعاملهم من حيث كانوا يتعاملون به ليتركوه ويعذروه في التخلف عنهم. فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) أي سأسقم سقم الموت، لأن من كتب الله عليه الموت يسقم في الغالب، ثم يموت- كما قاله الضحاك- أو سقيم القلب عليكم لعبادتكم الأصنام، وذلك تورية ليتركوه وقيل: إنه نظر إلى نجم طالع فقال: إن هذا يطلع مع سقمي. وأشار لهم إلى مرض يعدي كالطاعون وكانوا يهربون من الطاعون، فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) أي فارين مخافة العدوى وتركوه، وعذروه في أن لا يخرج اليوم ذاهبين إلى عيدهم، فكان ذلك مراده، وكانوا في قرية بين الكوفة والبصرة يقال لها: هرمز
فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ أي ذهب إلى الأصنام في خفية، فَقالَ استهزاء بها: أَلا تَأْكُلُونَ (91) ؟ أي من الطعام لذي كانوا يصنعونه عندها لتبرك عليه ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) بجواب كلامي؟ فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) أي أقبل عليهم مستخفيا ضاربا ضربا شديدا قويا، فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) أي إنهم لما رجعوا من عيدهم إلى بيت الأصنام وجدوها مكسرة، فسألوا عن المكسر، فظنوا أنه إبراهيم عليه السلام، فأتوا به يسرعون المشي.
وقرأ حمزة «يزفون» بضم الياء، أي يحملون غيرهم على الإسراع في المشي. قالَ لهم إبراهيم، أي بعد أن أتوا به عليه السلام وعاتبوه على كسر الأصنام: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) بأيديكم من العيدان والحجارة! وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) ؟ أي والحال أن الله تعالى خلقكم، وخلق معمولكم، فإن فعلهم إذا كان بخلق الله تعالى كان مفعولهم المتوقف على فعلهم أولى بذلك. قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) أي في النار الشديدة الاتقاد.(2/304)
فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110)
قال ابن عباس: بنوا حائطا من حجر طوله في السماء ثلاثون ذراعا وعرضه عشرون ذراعا، وملئوه نارا، فطرحوا سيدنا إبراهيم فيها فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً أي شرا حرقا بالنار، فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) أي الأذلين بإبطال كيدهم بجعل النار عليه بردا وسلاما، أي أن إبراهيم عليه السلام في وقت المحاجة حصلت الغلبة له وعند ما ألقوه في النار صرف الله عنه ضرر النار فصار هو الغالب عليهم. وَقالَ إبراهيم لما انقضت هذه الواقعة: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي أي إلى مواضع دين ربي وهي أرض الشام. فالمراد بالذهاب إلى الرب هو الهجرة من الديار، سَيَهْدِينِ (99) إلى ما فيه صلاح ديني، فلما هاجر إلى الأرض المقدسة أراد الولد فقال: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) أي ولدا من المرسلين، فاستجبنا له،
فَبَشَّرْناهُ على لسان الملائكة بِغُلامٍ، أي بولد ذكر حَلِيمٍ (101) ، أي ذي حلم كثير وهو إسماعيل عليه السلام فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ أي فوهبنا له فنشأ، فلما بلغ رتبة أن يسعى معه في أشغاله وحوائجه. قالَ إبراهيم لإسماعيل عليهما السلام يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ أي إني أرى في المنام ما يوجب أن أذبحك في اليقظة.
روي أن إبراهيم رأى ليلة التروية في منامه كأن قائلا يقول له: إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا، فلما أصبح تروى في ذلك من الصباح إلى الرواح، أمن الله هذا الحلم أم من الشيطان فمن ثمّ سمي يوم التروية، فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من الله، فسمي يوم عرفة، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهمّ بنحره فسمي يوم النحر. فَانْظُرْ ماذا تَرى بفتح التاء والراء أي أيّ شيء تشير إلي برأيك.
وقرأ حمزة والكسائي بضم التاء وكسر الراء، أي أيّ الذي ترى من نفسك الصبر والتسليم.
وقرئ مبنيا للمفعول أي ما تظن ذلك الرؤيا. قالَ أي ذلك الغلام: يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ أي ما أمرت به، سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) على قضاء الله وعلى الذبح فَلَمَّا أَسْلَما أي انقادا لأمر الله تعالى واتفقا. وقال قتادة: أسلم إبراهيم ابنه وإسماعيل نفسه وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) أي أضجعه على جنبه، وجواب «لما» محذوف، أي نادته الملائكة من الجبل: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا.
حكي أن إبراهيم لما أراد ذبحه قال: يا بني خذ الحبل والمدية وانطلق بنا إلى الشعب نحتطب، فلما توسطا شعب ثبير أخبره بما أمر به فقال: يا أبت اشدد رباطي في كي لا أضطرب، واكفف عني ثيابك كي لا ينضح عليها شيء من دمي فتراه أمي فتحزن، واستحد شفرتك، وأسرع إمرارها على حلقي ليكون أهون علي، فإن الموت شديد، واقرأ على أمي سلامي. وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فافعل فإنه عسى أن يكون أسهل لها. فقال إبراهيم عليه السلام: نعم العون أنت يا بني على أمر الله، ثم أقبل عليه يقلبه وقد ربطه، وهما يبكيان، ثم وضع السكين على حلقه، فلم تؤثر شيئا فقال الابن: كبني على وجهي فإنك إذا نظرت وجهي رحمتني وأدركتك رقة(2/305)
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120)
تحول بينك وبين أمر الله، ففعل، ثم وضع السكين على قفاه، فانقلبت، فعند ذلك نودي: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا فذلك قوله تعالى: وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) ف «أن» مفسرة، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا أي قد أتيت ما أمرت به في المنام وقد حصل المقصود من تلك الرؤيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) أي كما جزيناهم إبراهيم وابنه بتفريج الكرب، نجزي كل محسن بامتثال الأمر، إِنَّ هذا أي الذبح لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) أي لهو الجنة البينة الصعوبة التي لا محنة أصعب منها، وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) أي وفدينا إسماعيل بكبش سمين اسمه جرير، وهو الكبش الذي تقرب به هابيل إلى الله تعالى، فقبله، وكان في الجنة يرعى حتى فدى الله تعالى به إسماعيل.
وقال السدي: نودي إبراهيم، فالتفت، فإذا هو بكبش أملح انحط من الجبل، فقام عند إبراهيم، فأخذه. فذبحه، ثم اعتنق ابنه، وقال: يا بني اليوم وهبت لي.
وروي أنه لما ذبحه قال جبريل عليه السلام الله أكبر، الله أكبر فقال الذبيح: لا إله إلّا الله والله أكبر فقال إبراهيم: الله أكبر ولله الحمد، فبقي ذلك سنة، والفادي في الحقيقة هو إبراهيم، فالله هو المعطي له والآمر به وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) ، أي وتركنا على إبراهيم في الباقين من الأمم هذه الكلمة
والمعنى: أثبت الله التسليم على إبراهيم وأدامه في الآخرين، فيسلمون عليه أي يدعون له بثبوت هذه التحية كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) ، أي مثل ذكره الجميل فيما بين الأمم نجزي المحسنين بالثناء الحسن،
إِنَّهُ أي إبراهيم، مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) ، أي الراسخين في الإيمان وَبَشَّرْناهُ أي إبراهيم بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) أي مقضيا بنبوته، مقدرا كونه من الصالحين فالصلاح غاية للنبوة، وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ أي أبقينا الثناء الحسن على إبراهيم وإسحاق إلى قيام القيامة وأخرجنا جميع أنبياء بني إسرائيل من صلب إسحاق. وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ بالإيمان والطاعة، وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ بالكفر والمعاصي مُبِينٌ (113) أي ظاهر ظلمه. وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) أي أنعمنا عليهما بمنافع الدنيا، كالحياة، والعقل، والصحة: وبمنافع الدين كالعلم والطاعة، وأعلى هذه الدرجات: النبوة، وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما وهم بنو إسرائيل مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) من الغرق الذي أغرق الله به فرعون وقومه، ومن إيذاء فرعون، وَنَصَرْناهُمْ على فرعون وقومه فَكانُوا بسبب ذلك هُمُ الْغالِبِينَ (116) عليهم بظهور الحجة، ثم بالرفعة، وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) أي البليغ في البيان- وهو التوراة- فإنه كتاب مشتمل على جميع العلوم التي يحتاج إليها في مصالح الدين والدنيا، وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) ، أي دللناهما على طريق الحق عقلا وسمعا، ومددناهما بالتوفيق والعصمة، وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) ، أي وتركنا عليهما في أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم قولهم: سلام على موسى(2/306)
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150)
وهارون، أي دعاءهم لهما بثبوت هذه التحية،
إِنَّا كَذلِكَ أي مثل الجزاء الكامل نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) . وهذا تنبيه على أن الفضيلة الحاصلة بسبب الإيمان أعلى من كل الفضائل، ولولا ذلك لما حسن ختم فضائل المرسلين بكونهم من المؤمنين، وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) ، وهو إلياس بن ياسين، من ولد هارون أخي موسى عليهم السلام، وهو نبي من أنبياء بني إسرائيل.
قال ابن عباس: وهو ابن عم اليسع عليهما السلام. إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) عذاب الله أَتَدْعُونَ بَعْلًا، أي أتعبدون بعلا- وهو اسم صنم لأهل بك- قيل: كان من ذهب طوله عشرون ذراعا، وله أربعة وجوه، وكانوا عظموه حتى جعلوا له أربعمائة سادن، وجعلوهم أنبياء، وكان الشيطان يدخل في جوف بعل، ويتكلم بشريعة الضلالة والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس وهم أهل بعلبك من بلاد الشام، وببعلبك سميت مدينتهم. وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) أي وتتركون عبادة أعظم المصورين اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) .
قرأ حمزة والكسائي، وحفص عن عاصم بالنصب على البدل. والباقون بالرفع على الاستئناف فَكَذَّبُوهُ أي إلياس فَإِنَّهُمْ بسبب تكذيبهم لَمُحْضَرُونَ (127) النار غدا، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) في التوحيد والعبادة. وهذا استثناء من الواو في فكذبوه، وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) ، أي وتركنا عليه في الآخرين دعاءهم له بثبوت التسليم.
قرأ نافع، وابن عامر، ويعقوب بفتح الهمزة ممدودة، وكسر اللام على إضافة لفظ «آل» إلى لفظ «ياسين» . والمراد به إلياس ابن ياسين كأن إلياس آل ياسين. والباقون بكسر الهمزة وسكون اللام، كما يقال: ميكال، وميكائيل، وميكالين، فكذا هاهنا يقال: إلياس وإلياسين- كذا قال الزجاج-
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إلى قومه إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ ابنتيه زاعورا ورينا، أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) أي إلّا امرأته المنافقة تخلفت مع المتخلفين بالهلاك، ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ
(136) أي أهلكنا من بقي بعد لوط وابنتيه، وَإِنَّكُمْ
يا أهل مكة لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ
أي على قريات قوم لوط، سذوم، وعمورا، وصبورا، ودادوما مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ
، فإن أهل مكة كانوا يسافرون إلى الشام والمسافر في أكثر الأمر إنما يمشي في الليل وفي أول النهار، فلهذا السبب عين الله تعالى هذين الوقتين، أَفَلا تَعْقِلُونَ
(138) أي أتشاهدون ذلك فليس فيكم عقول تعتبرون به وتخافون أن يصيبكم مثل ما أصابهم وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ
أي هرب من قومه بغير إذن ربه، إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
(140) أي إلى السفينة الموقرة،
فَساهَمَ
أي قارع في السفينة، فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
(141) أي فصار من المغلوبين بالقرعة فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ- يقال له: لخم- وَهُوَ مُلِيمٌ (142) أي مستحق اللوم فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) أي كان يقول في بطن الحوت: لا(2/307)
أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)
إله إلّا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، أو كان قبل أن التقمه الحوت من المصلين لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ أي ذلك الحوت إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ أي أمرنا الحوت بلفظه بالمكان الخالي، عما يغطيه من شجر أو نبت.
قال جعفر: بشاطئ دجلة. وقيل: بأرض اليمن. حكاه ابن كثير.
روي أن الحوت سار مع السفينة رافعا رأسه يتنفس فيه يونس عليه السلام ويسبح، ولم يفارقهم حتى انتهوا إلى البر، فلفظه سالما لم يتغير منه شيء، فأسلموا وَهُوَ سَقِيمٌ (145) أي مريض صار بدنه كبدن الطفل حين يولد، وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) أي من قرع وخص الله القرع، لأنه يجمع برد الظل، ولين الملمس، وكبر الورق، وأن الذباب لا يقربه، فإن جسد يونس حين ألقي على الأرض الواسعة لم يكن يتحمل الذباب.
قال مقاتل بن حبان: كان يونس عليه السلام يستظل بالشجرة، وكانت وعلة تتردد إليه فيشرب من لبنها بكرة وعشيا حتى اشتد لحمه ونبت شعره، وَأَرْسَلْناهُ إلى قوم بنينوى، وهي قرية من أرض الموصل إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) .
قال ابن عباس: إن أو بمعنى الواو، وقد قرئ بالواو. فَآمَنُوا بعد ما شاهدوا علائم حلول العذاب إيمانا خالصا فَمَتَّعْناهُمْ بالحياة الدنيا إِلى حِينٍ (148) أي إلى الوقت الذي جعله الله أجلا لكل واحد منهم، أي إن أولئك القوم لما آمنوا، أزال الله عنهم الخوف وأمنهم من العذاب، فَاسْتَفْتِهِمْ أي سل بعض أجناس العرب ممن قالوا: الملائكة بنات الله كبني مليح، وبني سلمة وجهينة وخزاعة، أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ اللاتي هي أوضع الجنسين وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) ؟ الذين هم أرفعهما، فإن ذلك مما لا يقول به من له أدنى شيء من العقل، أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) ؟ أي بل أخلقناهم إناثا والحال أنهم حاضرون حينئذ
أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ أي كذبهم لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ فعل وفاعل حيث قالوا: الملائكة بنات الله.
وقرئ «ولد الله» ، على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي الملائكة ولد الله وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) في مقالتهم ذلك كذبا بينا. أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) بفتح الهمزة، وهي استفهام إنكار وتقريع، أي اختار الله الإناث على الذكور ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) بهذا الحكم الجائر، وهو أنهم نسبوا أخس الجنسين إلى الله تعالى وأحسنهما إليهم، فالأول استفهام إنكار عما استقر لهم، والثاني استفهام تعجب من هذا الحكم، أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أي ألا تلاحظون ذلك فلا تتعظون به! أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) أي بل ألكم حجة واضحة نزلت عليكم من السماء بأن الملائكة بنات الله، فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ
الذي دل على صحة دعواكم، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
(157) في دعواكم. وَجَعَلُوا بَيْنَهُ تعالى وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً أي إن قوما من الزنادقة يقولون: الله تعالى وإبليس إخوان، فالله(2/308)
فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)
تعالى هو الحر الكريم وإبليس هو الشرير اللئيم. ويقولون: إبليس مع الله شريك، فالله خالق الخير، وإبليس خالق الشر- وهو مذهب المجوس القائلين بيزدان وأهرمن- وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) أي ولقد علمت الشياطين أن الله تعالى يحضرهم النار، ويعذبهم بها ولو كانوا شركاء لله في استحقاق العبادة لما عذبهم، ثم نزّه الله نفسه عما قالوا من الكذب فقال: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) أي عما يقولون من الكذب إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) أي لكن عباد الله المخلصين لله بالاعتقاد والعبادة، فإنهم لا يكذبون على الله، وينزهون الله تعالى عما يصفه به تعالى الكاذبون، وكل من لم يجعل بين الله وبين الجنة مناسبة فهو عند الله مخلص
ممن الشرك،
فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163) ، أي فإنكم ومعبوديكم أيها المشركون لستم بفاتنين عليه تعالى بإفساد عباده وإضلالهم، إلا أصحاب النار الذي سبق في علم الله كونهم من أهل النار، فإنهم يصرون على الكفر بسوء اختيارهم. وهذا استثناء مفرغ.
وقرأ العامة «صال الجحيم» بكسر اللام، لأنه منقوص حذفت منه لام كلمته لالتقاء الساكنين. وقرأ الحسن بضم اللام وسقوط الواو لالتقاء الساكنين ومن موحد اللفظ مجموع المعنى، وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) ، أنزل الله تعالى هذه الآية حكاية عن قول الملائكة وهي حكاية لاعتراف الملائكة بالعبودية للرد على عبدتهم، أي وما منا ملك إلا له مكان معلوم في العبادة- قاله ابن مسعود وابن جبير-
وقالت عائشة رضي الله عنها: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما في السماء موضع قدم إلّا عليه ملك ساجد أو قائم»
وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) في أداء الطاعة ومنازل الخدمة، وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) أي المنزهون لله تعالى عما لا يليق به تعالى وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) أي إن مشركي قريش وغيرهم كانوا يقولون: لو أن عندنا كتابا من كتب الأولين الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل لأخلصنا العبادة لله، ولما كذبنا كما كذبوا، ثم جاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار والكتاب الشاهد على كل الكتب وهو القرآن، فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) عاقبة هذا الكفر والتكذيب،
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) ، أي وبالله لقد سبق وعدنا لهم وهو إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) بالحجة إِنَّ جُنْدَنا
وهم أتباع المرسلين هُمُ الْغالِبُونَ
(173) على أعدائهم في الدنيا والآخرة، ولا يقدح في ذلك انهزامهم في بعض المشاهد، فإن أساس أمرهم النصرة، وإن وقع في تضاعيف ذلك شوب من المحنة، والحكم للغالب.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إن لم ينصروا في الدنيا نصروا في الآخرة. وقرئ «على عبادنا» بتضمين «سبقت» معنى حقت. وقرئ «كلماتنا» . فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) ، أي أعرض عن كفار مكة إلى مدة يسيرة تؤمر فيها بجهادهم، وَأَبْصِرْهُمْ وما يقضي عليهم من القتل والأسر في الدنيا ومن العذاب في الآخرة فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) ما يقع عليهم من الأمور، أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) .(2/309)
وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
روي أنه لما نزل فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ قالوا على سبيل الاستهزاء: متى هذا الموعود، فنزل: فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) أي فإذا نزل العذاب بقربهم فبئس صباح المنذرين صباحهم.
روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما أتى خيبر وكانوا خارجين إلى مزارعهم ومعهم المساحي قالوا:
محمد والخميس، ورجعوا إلى حصنهم فقال صلّى الله عليه وسلّم: «الله أكبر، خربت خبير إنا إذا نزلنا بساحة قوم فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ»
«1» . والصباح: هو وقت نزول العذاب وإن وقع ليلا.
وقرئ «نزل» بتشديد الزاي وبالبناء للمفعول. وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) أي أعرض عنهم إلى يوم بدر أو إلى فتح مكة. وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) ، أي يبصرونك مع ما قدر لك من النصرة سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) . وهذه كلمات محتوية على أقصى الدرجات في معرفة إله العالم، فلفظة سبحان تنزيهه عما لا يليق بصفات الإلهية والربوبية دالة على كمال الرحمة، والحكمة والعزة إشارة إلى كمال القدرة وهي دالة على أنه تعالى قادر على جميع الحوادث ومنزه عن الشريك والنظير في الإلهية
وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) . وهذا اللفظ يدل على أنهم في الكمال اللائق بالبشر فاقوا غيرهم، فيجب على كل من سواهم الاقتداء بهم، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182) على نجاة الرسل وسلامة الحال بعد الموت، فالله تعالى غني رحيم، والغني الرحيم لا يعذب.
__________
(1) رواه البيهقي في الأسماء والصفات (168) . [.....](2/310)
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10)
سورة ص
ويقال لها سورة داود، مكية، ست وثمانون آية، سبعمائة واثنتان وثلاثون كلمة، ثلاثة آلاف وتسعة وتسعون حرفا
ص قيل: إنه مفتاح أسماء الله تعالى التي أولها صاد كقولنا: صادق الوعد، صانع المصنوعات، صمد. وقيل: معناه صدق محمد في كل ما أخبر به عن الله تعالى، وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) أي ذي الشرف، أو ذي البيان ففيه قصص الأولين والآخرين، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا من رؤساء قريش فِي عِزَّةٍ أي استكبار وامتناع من متابعة الغير وَشِقاقٍ (2) أي إظهار المخالفة على جهة المساواة للمخالف.
وقرئ «في غرة» ، أي في غفلة عما يجب عليه التنبيه له من دواعي الإيمان. كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ أي قريش مِنْ قَرْنٍ أي أمة ماضية، فَنادَوْا بالاستغاثة عند نزول عذاب لينجوا من ذلك، وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) أي والحال أنه ليس الحين حين منجى وغوث، وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ أي وعجب قريش من أن جاءهم رسول من جنسهم، وأنكروه أشد الإنكار فقالوا: إن محمدا مساو لنا في الخلقة الظاهرة والأخلاق الباطنة والنسب فكيف يعقل أن يختص من بيننا بهذا المنصب العالي؟! وَقالَ الْكافِرُونَ أي المتوغلون في الكفر: هذا أي محمد ساحِرٌ فيما يظهره من الخوارق، كَذَّابٌ (4) فيما يسنده إلى الله تعالى من الإرسال والإنزال، أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً بأن نفى الألوهية عنهم وقصرها على واحد، إِنَّ هذا أي القول بالوحدانية لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) ، أي بليغ في التعجب.
روي أنه لما أسلم عمر فرح به المسلمون فرحا شديدا، وشق ذلك على قريش فاجتمع خمسة وعشرون نفسا من صناديدهم، ومشوا إلى أبي طالب وقالوا: أنت شيخنا وكبيرنا، وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء فجئناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك، فاستحضر أبو طالب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السؤال، فلا تمل كل الميل على قومك.
فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ماذا يسألونني؟ قالوا: ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك» فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أرأيتم(2/311)
جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)
إن أعطيتكم ما سألتم أتعطوني أنتم كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم؟» .
قالوا نعم. فقال: «قولوا لا إله إلّا الله» «1» . فقاموا وقالوا: أجعل الآلهة إلها واحدا كيف يكفينا إله واحد في حوائجنا كما يقول محمد إن هذا الشيء عجاب
. وقرئ «عجاب» بالتشديد. وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أي انطلق الرؤساء من قريش عتبة بن أبي معيط، وأبو جهل، والعاصي بن وائل، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث عن مجلس أبي طالب، أَنِ امْشُوا.
وقرأ ابن أبي عبلة بحذف «أن» ، أي قال بعضهم لبعض: اذهبوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ أي اثبتوا على عبادة آلهتكم إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) أي إن نفي آلهتنا لشيء يراد من جهة محمد ليستولي علينا فيحكم في أموالنا وأولادنا بما يريد، أو إن الصبر على عبادة الآلهة شيء يراد أن لا ننفك عنه، ما سَمِعْنا بِهذا أي التوحيد فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ، أي في ملة عيسى عليه السلام- كما قاله ابن عباس ومحمد بن كعب- أو في ملة قريش- كما قاله مجاهد- أي ما سمعناه عن أسلافنا القول بالتوحيد، إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ (7) أي
ما هذا الذي يقوله محمد إلا اختلاق من عند نفسه، أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا أي أأنزل على محمد القرآن، ونحن رؤساء الناس وأشرافهم، فكيف يعقل أن يختص هو بهذه الدرجة العالية؟! بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) أي إنكار كفار مكة للقرآن ليس عن علم بل هم في شك منه، وسببه أنهم لم يذوقوا عذابي فإنهم لو ذاقوه لأيقنوا بالقرآن، وآمنوا به وتصديقهم لا ينفعهم حينئذ لأنهم صدقوا مضطرين، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) ؟ أي بل أعندهم خزائن رحمة ربك من النبوة والكتاب فيعطونهما من شاءوا بمقتضى آرائهم. والمعنى: أن النبوة منصب عظيم عطية من الله تعالى، فالقادر على هبتها يجب أن يكون كامل القدرة عظيم الجود، فلم تتوقف هبته لهذه النعمة على كون الموهوب منه غنيا، أو فقيرا، ولم يختلف ذلك بسبب أن أعداءه يحبونه أو يكرهونه، فهو تعالى الغالب الذي لا يغلب، وهو الوهاب، فله أن يهب كل ما يشاء لمن يشاء، أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما؟ أي بل ألهم ملك هذه العوالم العلوية والسفلية حتى يتحكموا في التدابير الإلهية التي ينفرد بها رب العزة، فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) أي إن كان لهم ذلك الملك فليصعدوا في طرق السموات التي يتوصل بها إلى العرش حتى يدبروا أمر العالم وينزلوا الوحي على من يختارون،
جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11) ، و «جند» خبر مبتدأ محذوف و «ما» مزيدة للتحقير، أو صفة له، و «هنالك» ظرف ل «مهزوم» و «مهزوم» ، وصفة ثانية ل «جند» ، و «من الأحزاب» صفة ثالثة ل «جند» ، أي هم جند ضعيفون من المتحزبين على رسول الله سيصيرون منهزمين في
__________
(1) رواه ابن ماجة في كتاب الزهد، باب: القناعة، وأحمد في (م 2/ ص 285) ، وفيه «أموالكم» بدل «أقوالكم» .(2/312)
الموضع الذي ذكروا فيه تلك الكلمات، وذلك الموضع هو مكة، وذلك الانهزام يوم فتح مكة فكيف يكونون مالكي السموات والأرض وما بينهما ومن أين لهم التصرف في الأمور الربانية؟
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي قبل قومك يا أكرم الرسل قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) ، كان ينصب الخشب في الهواء، وكان يمد يدي المعذب ورجليه إلى تلك الخشب الأربع، ويضرب على كل واحد من هذه الأعضاء وتدا ويتركه في الهواء إلى أن يموت.
وقال مجاهد: كان يمد المعذب مستليقا بين أربعة أوتاد في الأرض يشد رجليه ويديه ورأسه على الأرض بالأوتاد. قال السدي: ويرسل عليه العقارب والحيات. وقيل: إن عساكره كانوا كثيرين، وكانوا كثيري الأهبة، عظيمي النعم. وكانوا يكثرون من الأوتاد لأجل الخيام، فعرف بها. وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أي الأشجار المجتمعة من قوم شعيب عليه السلام، أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) أي الذين تحزبوا على أنبيائهم عليهم السلام، إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ أي ما كل حزب منهم إلّا كذب الرسل كما كذبك قومك، فَحَقَّ عِقابِ (14) أي فوقع على كل منهم عقابي، فأهلك الله قوم نوح بالغرق والطوفان، وقوم هود بالريح، وفرعون مع قومه بالغرق، وقوم صالح بالصيحة، وقوم لوط بالخسف، وأصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلة. وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً أي وما ينتظر كفار مكة إن كذبوك إلا نفخة ثانية، ما لَها مِنْ فَواقٍ (15) أي من توقف.
وقرأ حمزة والكسائي بضم الفاء. وَقالُوا رَبَّنا بطريق الاستهزاء عند سماعهم بتأخير عقابهم إلى الآخرة عَجِّلْ لَنا قِطَّنا أي حظنا من العذاب الذي توعدنا به، قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) ولا تؤخره إلى يوم الحساب الذي مبدؤه النفخة الثانية. وقيل: إنهم قالوا ذلك حين ذكر الله في كتابه فأما من أوتي كتابه بيمينه وأما من أوتي كتابه بشماله. فالمعنى: عجل لنا صحيفة أعمالنا قبل يوم الحساب لننظر ما فيها ولنعلمه. وقيل: لما ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعد الله تعالى المؤمنين بالجنة فقالوا ذلك على سبيل السخرية. فالمعنى: عجل لنا نصيبنا من الجنة التي تقول في الدنيا، وذلك لأنهم كانوا في غاية الإنكار للقول بالنشر والحشر. ولما بلغوا في السفاهة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمره الله تعالى بالصبر على سفاهتهم فقال: اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ من أمثال هذه المقالات الباطلة والوقف هنا تام. وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ أي ذا القوة على أداء الطاعة وعلى الاحتراز عن المعاصي، إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) أي رجاع في أموره كلها إلى طاعتنا، إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ بطريق الاقتداء به في عبادة الله تعالى، يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) أي يقدسن الله تعالى بخلق الله تعالى فيها الكلام، فكان داود يسبح عقب صلاته عند طلوع الشمس، وعند غروبها، وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً، أي وسخرنا الطير محشورة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان داود إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح، واجتمعت إليه(2/313)
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30)
الطير، فسبحت معه. واجتماعها إليه هو حشرها فيكون حاشرها هو الله.
وقرئ و «الطير محشورة» بالرفع على الابتداء والخبرية. كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) أي كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيح داود رجاع إلى التسبيح، أي كلما رجع داود إلى التسبيح جاوبته، وبهذا اللفظ فهمنا دوام تلك الموافقة، وَشَدَدْنا مُلْكَهُ بالهيبة، وكثرة الجنود.
عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه كان يحرسه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل فإذا أصبح قيل: ارجعوا فقد رضي عنكم نبي الله.
وعن عكرمة عن ابن عباس: أن رجلا ادعى عند داود على رجل أخذ منه بقرة فأنكر المدعى عليه، فقال داود: للمدعي أقم البينة فلم يقمها. فرأى داود في منامه أن الله يأمره أن يقتل المدعى عليه، فتأخر داود وقال: هو منام، فأتاه الوحي بعد ذلك في اليقظة، فأحضر المدعى عليه وأعلمه ان الله أمره بقتله. فقال: صدق الله إني كنت قتلت أبا هذا الرجل غيلة فقتله داود. فقال الناس: إن أذنب أحد ذنبا أظهره الله عليه، فهابوه، وعظمت هيبته في القلوب، فهذه الواقعة شدت ملكه.
وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ أي النبوة وكمال العلم وإتقان العمل، وَفَصْلَ الْخِطابِ (20) أي فصل الخصام بتمييز الحق عن الباطل،
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ أي خبر خصمي داود، إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) ، أي إذا أتوا البيت الذي كان داود يدخل فيه ويشتغل بطاعة ربه من أعلاه، أي تصعدوا حائطه المرتفع، إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ.
روي أن جماعة من الأعداء طمعوا في أن يقتلوا نبي الله داود عليه السلام، وكان له يوم يخلو فيه بنفسه ويشتغل بطاعة ربه، فانتهزوا الفرصة في ذلك اليوم، وتسوروا المحراب، فلما دخلوا عليه وجدوا عند أقواما يمنعونه منهم، فخافوا، فوضعوا كذبا فقالوا: خصمان أي نحن فريقان إلى آخر القصة، فعلم عليه السلام غرضهم فهمّ بأن ينتقم منهم بَغى بَعْضُنا أي تطاول عَلى بَعْضٍ جئناك لتقضي بيننا، فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ أي بالأمر الذي يطابق الحق وَلا تُشْطِطْ أي لا تجر في الحكومة، وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) أي دلنا إلى وسط طريق الحق، إِنَّ هذا أَخِي في الدين، أو في الصحبة، لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أي أنثى من الضأن، وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها، أي اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي، وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) أي غلبني في الكلام، بأن جاء بحجاج لم أقدر على رده.
وقرئ و «عازني» أي غالبني. قالَ داود: لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ أي والله لقد ظلمك أخوك بسؤال إضافة نعجتك إلى نعاجه، وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ أي الشركاء الذي خلطوا أموالهم لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ أي ليعتدي بعضهم عَلى بَعْضٍ، فلم يراع حق الصحبة والشركة إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ منهم، فإنهم يتحامون على الظلم وَقَلِيلٌ ما هُمْ، أي وهم قليل، و «ما» مزيدة للتعجب من قلتهم. وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ و «ما» كافة زائدة، أي وظن داود(2/314)
أنا فتناه بهذه الواقعة، لأنها جارية مجرى الامتحان فتنبه عليه السلام لذلك، فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ مما همّ به من الانتقام منهم. وقيل: إن دخولهم على داود كان فتنة له إلّا أنه عليه السلام استغفر لذلك الداخل العازم على قتله. وقيل: إن أوريا كان قد خطب المرأة، فأجابوه، ثم خطبها داود في حال غيبة أوريا في غزاته، فزوجت نفسها منه عليه
السلام لجلالته، وعلى هذا فمعنى «وعزني في الخطاب» ، أي غلبني في خطبة المرأة.
وقيل: كان أهل زمان داود عليه السلام يسأل بعضهم بعضا أن يطلق امرأته حتى يتزوجها إذا أعجبته، وكان داود عليه السلام ما زاد على قوله لأوريا: انزل لي عن امرأتك، وذلك أنه وقع بصره على تلك المرأة من غير قصد، فأحبها ومال قلبه إليها، فسأل زوجها النزول عنها فاستحيا أن يرده عليه السلام، ففعل، فتزوجها، وهي أم سلمان، وكان ذلك جائزا في شريعته معتادا فيما بين الناس، غير مخل بالمروءة، وعلى هذا فمعنى «أكفلنيها» : انزل لي عن تلك النعجة الواحدة، وأعطينها، فعوتب داود بشيئين:
أحدهما: خطبته على خطبة أخيه المؤمن.
والثاني: إظهار الحرص على التزوج مع كثرة نسائه. وهذا وإن كان جائزا في الشريعة إلّا أنه لا يليق بجنابه عليه السلام فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين. وقيل: إن ذنب داود الذي استغفر منه ليس بسبب أوريا، والمرأة وإنما هو بسبب قوله لأحد الخصمين لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه، فلما كان هذا الحكم مخالفا للصواب اشتغل داود بالاستغفار والتوبة، فثبت بهذه الوجوه نزاهة داود عليه السلام مما نسب إليه من الكبائر، وإنما يلزم في حقه ترك الأفضل والأولى والله أعلم. وكان داود استغفر ربه منه وَخَرَّ راكِعاً، أي سقط داود للسجود مصليا فكأنه أحرم بركعتي استغفار، وَأَنابَ (24) أي أقبل إلى الله تعالى بالتوبة.
وروي أنه عليه الصلاة والسلام بقي ساجدا أربعين يوما وليلة لا يرفع رأسه إلّا لصلاة مكتوبة، أو لما لا بد منه، ولا يرقأ دمعه حتى نبت العشب منه إلى رأسه، ولا يشرب ماء إلّا ثلثاه دمع، وجهد نفسه راغبا إلى الله تعالى في العفو عنه حتى يكاد يهلك واشتغل بذلك عن الملك حتى وثب ابن له- يقال له: ايشا- على ملكه، ودعا إلى نفسه فاجتمع إليه أهل الزيغ من بني إسرائيل، فلما غفر له حاربه فهزمه.
قال الحسن: وكان داود عليه السلام قبل الخطيئة يقوم نصف الليل، ويصوم نصف الدهر، فلما كان من خطيئته ما كان صام الدهر كله، وقام الليل كله.
وقال ثابت: كان داود إذا ذكر عقاب الله انخلعت أوصاله فلا يشدها إلّا الأسار، وإذا ذكر رحمة الله تراجعت. فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ أي ما استغفر منه، وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى، أي لقربة في الدرجات بعد المغفرة وَحُسْنَ مَآبٍ (25) أي حسن مرجع في الجنة، يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ(2/315)
خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ
أي نبيا ملكا على بني إسرائيل نافذ الحكم عليهم، فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ أي بالعدل، لأن الأحكام إذا كانت مطابقة للشريعة الحقية الإلهية انتظمت مصالح العالم واتسعت أبواب الخيرات على أحسن الوجوه أما إذا كانت أحكام السلطان القاهر على وفق هواه، ولطلب مصالح دنياه، عظم ضرره على الخلق، فإنه يجعل الرعية فداء لنفسه، وذلك يفضي إلى تخريب العالم، ووقوع الهرج والمرج في الخلق، وذلك يفضي إلى هلاك الملك. وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى أي هوى النفس في الحكومات وغيرها من أمور الدين والدنيا، فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي إن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله، وهو يوجب سوء العذاب، لأن الهوى يدعو إلى الاستغراق في اللذات الجسمانية، وهو يمنع الاشتغال في طلب السعادات الروحانية، إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي عن الإيمان بالله، وعن طاعة الله لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26) أي بنسيانهم يوم الحساب، أي بتركهم الإيمان بذلك اليوم وتركهم العمل لذلك اليوم، وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا أي عبثا جزافا بلا أمر ولا نهي. وهذه الآية تدل على كونه تعالى خالقا للأعمال، لأنها حاصلة بين السماء والأرض، فوجب أن يكون الله تعالى خالقا لها. وهذه الآية تدل أيضا على الحشر والنشر والقيامة. وذلك لأنه تعالى خلق الخلق في هذا العالم، فإما أن يقال: إنه تعالى خلقهم لا للانتفاع ولا للإضرار، فهذا باطل، لأن هذه الحالة حاصلة حين كانوا معدومين أو للإضرار، فهذا باطل، لأن ذلك لا يليق بالرحيم الكريم، أو للانتفاع وذلك إما أن يكون في حياة الدنيا أو في حياة الآخرة فإن كان الانتفاع في حياة الدنيا فهو باطل، لأن منافع الدنيا قليلة ومضارها كثيرة وتحمل المضار الكثيرة للمنفعة القليلة، لا يليق بالحكمة، فثبت القول بوجود حياة أخرى بعد الحياة الدنيوية، وذلك هو القول بالحشر والقيامة فثبت بما ذكرنا أنه تعالى ما خلق السماء والأرض، وما بينهما باطلا وإذا لم بكن خلقهما باطلا كان القول بالحشر والنشر، لازما، وكل من أنكر القول بالحشر والنشر كان شاكا في حكمة الله تعالى في خلق السماء والأرض، وهذا هو المراد من قوله تعالى: ذلِكَ أي خلق ما ذكر لا لأجل الأمر والنهي، ولا لأجل الثواب والعقاب ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا بأمر البعث والجزاء فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أي فشدة العذاب للذين كفروا بالبعث بعد الموت بسبب النار المترتبة على ظنهم أن لا بعث ولا حساب، وذلك نفي لحكمة الله تعالى في خلق السماء والأرض وفي أمره تعالى ونهيه، أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أي بل أنجعل المؤمنين المصلحين كالكفرة المفسدين في أقطار الأرض كما يقتضيه عدم البعث والجزاء لاستواء الفريقين في التمتع بالحياة الدنيا، بل الكفرة أوفر حظا منها من المؤمنين لكن ذلك الجعل محال فتعين البعث والجزاء حتما لرفع الأولين إلى أعلى عليين، ورد الآخرين إلى أسفل سافلين. أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) أي بل أنجعل أتقياء المؤمنين كعلي بن أبي طالب، وحمزة بن المطلب، وعبيدة بن الحرث(2/316)
إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
كأشقياء الكفرة كعتبة وشيبة- ابني ربيعة- والوليد بن عتبة، وهم الذين بارزوا يوم بدر عليا وحمزة، وعبيدة فقتل على الوليد بن عتبة، وقتل حمزة عتبة بن ربيعة، وقتل عبيدة شيبة بن ربيعة. قيل: نزلت هذه الآية لما قال كفار مكة للمؤمنين، إنا نعطي في الآخرة من الخير مثل ما تعطون وتقرير هذه الآية: إنا نرى في الدنيا من أطاع الله واحترز عن معصيته في الفقر، والزمانة، وأنواع البلاء، ونرى الكفرة، والفساق في الراحة والغبطة، فلو لم يكن حشر ونشر، ومعاد كان حال المطيع أدون من حال العاصي، وذلك لا يليق بحكمة الحكيم الرحيم، وإذا كان ذلك قادحا في الحكمة ثبت أن إنكار الحشر والنشر، يوجب إنكار حكمة الله تعالى كِتابٌ أي هذا قرآن أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ صفة لكتاب مُبارَكٌ، أي كثير المنافع الدينية والدنيوية خبر مبتدأ مضمر.
وقرئ «مباركا» على الحال اللازمة، لأن البركة لا تفارقه، لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ أي ليتفكروا في معانيها اللطيفة، وفي أسرارها العجيبة، وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29) أي وليتعظ به ذوو العقول السليمة، فإن من يتدبر ولم يساعده التوفيق الإلهي لم يقف على الأسرار العجيبة المذكورة في هذا القرآن العظيم، وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ من المرأة التي أخذها من أوريا، نِعْمَ الْعَبْدُ أي سليمان إِنَّهُ أي سليمان أَوَّابٌ (30) أي رجاع إلى الله تعالى بالتوبة، مقبل إلى طاعة الله
إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ، أي بعد الظهر الصَّافِناتُ، أي الخيل التي تقوم على طرف سنبك يد أو رجل الْجِيادُ (31) ، أي سراع الجري. وعن إبراهيم التيمي أنها عشرون ألف فرس. فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي أي إني ألزمت حب الخيل لأجل كتاب ربي وهو التوراة فإن معنى الخير هو المال الكثير. والمراد به هنا الخيل، حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) أي استترت الصافنات عن النظر رُدُّوها أي الصافنات عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33) ، أي فردوها عليه، فأخذ سليمان عليه السلام يمسح سوقها وأعناقها، وذلك أن رباط الخيل كان مندوبا إليه في دينهم، كما أنه كذلك في دين محمد صلّى الله عليه وسلّم، ثم إن سليمان عليه السلام احتاج إلى الغزو فجلس وأمر بإحضار الخيل، وأمر بإجرائها وذكر أني لا أحبها لأجل الدنيا ونصيب النفس، وإنما أحبها لأمر الله وطلب تقوية دينه. وهو المراد من قوله عن ذكر ربي، ثم إنه عليه السلام أمر بتسييرها حتى غابت عن بصره، وهو معنى قوله: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ ثم إنه أمر الرائضين بأن يردوا تلك الخيل إليه، فلما عادت إليه شرع يمسح سوقها وأعناقها تشريفا لها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو، ولأنه أراد أن يظهر أنه يتضع حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه، وأنه يضبط السياسة والملك، ولأنه كان أعلم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها، فكان يمسح سوقها وأعناقها حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض، وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً.
روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال سليمان: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كل امرأة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل: إن شاء الله فطاف عليهن، فلم تحمل إلّا امرأة واحدة جاءت(2/317)
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50)
بشق رجل، فجيء به على كرسيه، فوضع في حجره فو الذي نفسي بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون»
. قال العلماء: والشق هو الجسد الذي ألقى على كرسيه حين عرض عليه وهي محنته.
وقيل: إن فتنة سليمان أنه ولد له ابن فقالت الشياطين: إن عاش صار مسلطا علينا مثل أبيه فسبيلنا أن نقتله فعلم سليمان ذلك، فأمر السحاب، فحمله، فكان يربيه في
السحاب، فبينما هو مشتغل بمهماته إذ ألقي ذلك الولد ميتا على كرسيه فتنبه على خطئه في أنه لم يتوكل فيه على الله.
وقيل: إنه أصابه مرض شديد فصار يجلس على كرسيه وهو مريض وفتنته هو مرضه، ولشدة المرض ألقاه الله على كرسيه والعرب تقول في الضعيف: إنه لحم على وضم وجسم بلا روح ولما توفي سليمان بعث بختنصر فأخذ الكرسي، فحمله إلى أنطاكية، فأراد أن يصعد عليه ولم يكن له علم كيف يصعد عليه فلما وضع رجله ضرب الأسد رجله، فكسرها، وكان سليمان إذا صعد وضع قدميه جميعا، ومات بختنصر، وحمل الكرسي إلى بيت المقدس فلم يستطع قط ملك أن يجلس عليه، ثُمَّ أَنابَ (34) أي رجع إلى حال الصحة أو تاب من خطئه، قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي أي ما صدر عني من الزلة، وهو ترك الأفضل والأولى لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين، وطلب المغفرة دأب الأنبياء والصالحين هضما للنفس وإظهارا للذل والخشوع، وطلبا للترقي في المقامات، وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي أي غيري بحيث لا يقدر أحد على معارضته ليكون معجزة لي، لأن المعجزة أن لا يقدر أحد على معارضتها فكان المراد أقدرني على أشياء لا يقدر عليها غيري ألبتة ليصير اقتداري عليها معجزة تدل على صحة نبوتي ورسالتي. إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) بالملك والنبوة لمن شئت، فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ أي فذللناها لطاعته إجابة لدعوته تَجْرِي بِأَمْرِهِ إياها رُخاءً أي لينة في أثناء سيرها، أما في أوله فهي عاصفة، حَيْثُ أَصابَ (36) إلى أي موضع قصده وأراده وَالشَّياطِينَ عطف على الريح كُلَّ بَنَّاءٍ يبنون له ما شاء من الأبنية وهو بدل من الشياطين، وَغَوَّاصٍ (37) في قعر البحر فيستخرجون اللؤلؤ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) أي مسلسلين في أغلال الحديد، وهم المردة من الشياطين الذين لا يبعثهم إلى عمل إلّا انقلبوا، هذا أي الملك عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) لكثرته. قال ابن عباس رضي الله عنهما: أعط من شئت وامنع من شئت، أي غير محاسب علي منك وإمساكك أي ليس عليك حرج فيما أعطيت، وفيما أمسكت من الأمر الذي أعطيناكه. وقيل: المعنى هذا أي تسخير الشياطين عطاؤنا فامنن على من شئت من الشياطين فخل سبيلهم من الغل، أو احبس من شئت في الغل من غير أن تحاسب وتأثم بذلك وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا في الآخرة لَزُلْفى أي قربى عظيمة وَحُسْنَ مَآبٍ (40) - وهو الجنة-
وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ بن عيصن بن إسحاق عليه السلام، إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ اسمه معيط بِنُصْبٍ أي بلاء وَعَذابٍ (41) ، أي وسوسة وإلقاء الخواطر الفاسدة.(2/318)
روي أن إبليس سأل ربه فقال: هل في عبيدك من لو سلطتني عليه يمتنع مني؟ فقال الله:
نعم، عبدي أيوب، فجعل يأتيه بوساوسه وهو يرى إبليس عيانا، ولا يلتفت إليه. فقال: يا رب إنه قد امتنع علي فسلطني على ماله، فكان الشيطان يجيئه ويقول له: هلك من مالك كذا وكذا فيقول: الله أعطى والله أخذ، ثم يحمد الله تعالى. فقال الشيطان: يا رب إن أيوب لا يبالي بماله فسلطني على ولده فجاء إليه وزلزل الدار فهلك أولاده بالكلية، وأخبره به فلم يلتفت إليه. فقال:
يا رب أيوب لا يبالي بولده فسلطني على جسده فأذن فيه، فنفخ في جلد أيوب، فحدثت أسقام عظيمة وآلام شديدة فيه، فمكث في ذلك البلاء سنين حتى صار بحيث استقذره أهل بلده، فخرج إلى الصحراء، وما كان يقرب منه أحد، فجاء الشيطان إلى امرأته ليا بنت يعقوب عليه السلام، وقال: إن زوجك إن استغاث بي خلصته من هذا البلاء فذكرت المرأة ذلك لزوجها، فحلف بالله لئن عافاه الله تعالى ليجلدنها مائة جلدة، وحين كان الألم على الجسد لم يذكر أيوب شيئا، فلما عظمت الوساوس خاف على القلب والدين، فتضرع، ومن الوساوس أن الشيطان كان يذكره النعم التي كانت، والآفات التي حصلت ومنها: أنه كان يقنطه من ربه ويزين له أن يجزع، فشق ذلك عليه عليه السلام فتضرع إلى الله تعالى وقال: إني مسني الشيطان بنصب وعذاب فإنه كلما كانت تلك الخواطر أكثر كان ألم قلبه منها أكثر، فأجاب الله دعاءه وأوحى إليه بقوله تعالى:
ارْكُضْ أي اضرب بِرِجْلِكَ الأرض، فضربها، فنبعت عين فقيل له: هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ أي ماء تغتسل به فيبرأ ظاهرك وَشَرابٌ (42) ، أي وتشرب منه فيبرأ باطنك أي إن الله تعالى أظهر من تحت رجل أيوب عينا باردة طيبة، فاغتسل وشرب منها، فأذهب الله عنه كل داء في ظاهره وباطنه ورد عليه أهله وماله كما قال تعالى وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ بإحيائهم بعد هلاكهم كما قاله الحسن أو بجمعهم بعد تفرقهم كما قيل وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ فكان له من الأولاد ضعف ما كان له قبل رَحْمَةً مِنَّا أي لأجل رحمة عظيمة عليه على سبيل الفضل منا، لا على سبيل اللزوم وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) ، أي ولتذكير أصحاب العقول بحاله عليه السلام ليصبروا على الشدائد كما صبروا، ويلجئوا إلى الله تعالى كما لجأ ليظفروا كما ظفر، وَخُذْ بِيَدِكَ يا أيوب ضِغْثاً أي قبضة من سنبل فيها مائة سنبلة مختلطة الرطب باليابس فَاضْرِبْ بِهِ، أي امرأتك رحمة بنت يوسف الصديق. لأنه قد حلف ليضربنها مائة ضربة، لأنه لقيها إبليس في صورة طبيب فدعته إلى مداواة أيوب فقال: أداويه على أنه إذا برىء قالت: أنت شفيتني لا أريد جزاء سواه قالت: نعم، فأشارت على أيوب بذلك، فحلف ليضربنها وقال: ويحك ذلك الشيطان كذا حكاه ابن عباس. وَلا تَحْنَثْ أي لا تأثم في يمينك بترك ضربها، ولقد شرع الله تعالى هذه الرخصة رحمة عليه وعليها لحسن خدمتها إياه ورضاه عنها إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً، فيما أصابه في النفس والأهل والمال، وليس في شكواه إلى الله تعالى إخلال بذلك الصبر، فإنه يسمى جزعا كتمني العافية، وطلب الشفاء على(2/319)
مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60)
أنه عليه السلام قال ذلك خيفة الفتنة في الدين حيث كان الشيطان يوسوس إلى قومه، بأنه لو كان نبيا لما ابتلى بمثل ما ابتلي به. ويروى أنه عليه السلام قال في مناجاته إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي، ولم يتبع قلبي بصري ولم يهنني ما ملكت يميني ولم آكل إلّا ومعي يتيم ولم أبت شبعان، ولا كاسيا ومعي جائع أو عريان، فكشف الله تعالى عنه نِعْمَ الْعَبْدُ أي أيوب إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) أي مقبل إلى طاعة الله، وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) أي أولي القوة في الطاعة والبصيرة في الدين فقوله تعالى: أُولِي الْأَيْدِي إشارة إلى القوة العاملة، فأشرف ما يصدر عنها طاعة لله. وقوله: وَالْأَبْصارِ إشارة إلى القوة العالمة، فأشرف ما يصدر عنها معرفة الله وما سوى هذين القسمين باطل.
وقرأ ابن كثير «عبدنا» على التوحيد إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) ، أي إنا جعلناهم خالصين لنا بسبب خصلة خالصة، وهي استغراقهم في ذكر الدار الآخرة حتى نسوا الدنيا، وقرأ نافع وهشام بإضافة خالصة، أي إنا اختصصناهم بإخلاصهم ذكر الآخرة وتناسيهم عند ذكرها ذكر الدنيا، وقد جاء المصدر على فاعلة كالعاقبة، وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) أي لمن المختارين من أبناء جنسهم المستعلين عليهم في الخير، وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ بن أخطوب استخلفه إلياس على بني إسرائيل، ثم استنبئ وهو ابن عم إلياس واللام زائدة. وقرأ حمزة والكسائي بتشديد اللام وسكون الياء وَذَا الْكِفْلِ وهو ابن عم يسع، أو بشر بن أيوب وَكُلٌّ أي كل المتقدمين من داود إلى هنا مِنَ الْأَخْيارِ (48) أي وكلهم من المشهورين بالخيرية وهم أنبياء تحملوا الشدائد في دين الله تعالى، هذا أي ما تقدم من ذكر محاسنهم ذِكْرٌ أي شرف لهم وثناء جميل في الدنيا، وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) أي مرجع في الآخرة جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) منها، ف «جنات» عطف بيان و «مفتحة» حال منها، وقرئتا مرفوعتين هي جنات عدن مفتحة،
مُتَّكِئِينَ فِيها أي جالسين على السرر في الحجال ناعمين في الجنة، يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) ، أي يسألون في الجنة بألوان الفاكهة وألوان الشراب، وَعِنْدَهُمْ في الجنة قاصِراتُ الطَّرْفِ أي جوار حابسات العين على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم، أَتْرابٌ (52) أي مستويات في السن والحسن، هذا أي المذكور ما تُوعَدُونَ في الدنيا لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) أي لأجل وقوعه في يوم القيامة.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء على الغيبة، إِنَّ هذا أي ما ذكر من ألوان النعم لَرِزْقُنا أعطيناكموه ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54) ، أي فناء هذا أي الأمر هذا المذكور وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ أي للكافرين لَشَرَّ مَآبٍ (55) أي مرجع في الآخرة جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها أي يدخلونها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) أي المفرش هذا أي عذاب جهنم، فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) فالحميم ماء حار يحرقهم بحره والغساق ماء بارد منتن يحرقهم ببرده.(2/320)
قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)
وقرأ حمزة والكسائي وحفص بتشديد السين والوقف على «فليذوقوه» كاف إن جعل خبرا لهذا، أو جعل هذا مفعولا لفعل محذوف يفسره «فليذوقوه» ويكون «حميم» خبر مبتدأ محذوف، وإن جعل هذا حميم مبتدأ وخبر وما بينهما اعتراض، فالوقف على غساق وهو كاف. وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) أي ومذوق آخر من مثل هذا
المذوق أجناس.
وقرأ أبو عمرو و «أخر» بضم الهمزة، أي ومذوقات أخر من مثل هذا المذوق في الشدة والفظاعة أنواع مختلفة و «آخر» مبتدأ و «أزواج» خبره قال خزنة جهنم لرؤساء الكفار في أتباعهم إذا دخلوا النار، هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ أي هذا جمع كثيف قد دخل معكم النار كما كانوا قد دخلوا معكم في الضلال فقال هؤلاء الرؤساء: لا مَرْحَباً بِهِمْ أي لا اتسعت منازلهم في النار إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59) ، أي داخلون فيها كما دخلنا فيها. قالُوا أي الأتباع عند سماعهم ما قيل في حقهم خطابا بالرؤساء: بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أي لا وسع الله عليكم في منازلكم في النار، أي أن الدعاء الذي دعوتم به علينا أيها الرؤساء أنتم أحق به، أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا أي أنتم قدمتم الطغيان الذي هذا العذاب جزاؤه فاقتدينا بكم فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) أي بئس المسكن لنا ولكم جهنم.
قالُوا أي الأتباع معرضين عن خصومتهم متضرعين إلى الله تعالى: رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) ، أي يا ربنا من شرع لنا هذا الطغيان من الرؤساء فزده عذابا مضاعفا في النار.
قال ابن مسعود: والمراد بالضعف الحيات والأفاعي وَقالُوا أي الطاعون: ما لَنا لا نَرى رِجالًا من فقراء المؤمنين، كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أي يقول أبو جهل: ما لنا لا نرى في النار عمارا وبلالا، وصهيبا وخبابا كنا نعدهم من السفلة أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا.
قرأه نافع بضم السين أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) . وقرأ أبو جعفر، وشيبة، ونافع، وعاصم وابن عامر «أتخذناهم» بقطع الهمزة على الاستفهام للتوبيخ والتعجب فيوقف على الأشرار وهو كاف والمعنى: الأجل إنا قد اتخذناهم سخريا في الدنيا، فأخطأنا، فلم يدخلوا النار، فلذلك لا نراهم أم لأجل أنه زاغت عنهم أبصارنا ولم نعلم مكانهم وهم فيها.
وقرأ ابن كثير والأعمش، وأبو عمرو، وحمزة والكسائي «اتخذناهم» بوصل الهمزة فلا يوقف على الأشرار، لأن اتخذناهم صفة أخرى لرجالا. والمعنى: ما لنا لا نرى في النار رجالا سخرناهم وحقرناهم في الدنيا بل مالت أبصارنا عنهم فلا نعدهم شيئا إِنَّ ذلِكَ أي الذي حكيناه عنهم لَحَقٌّ، أي واجب وقوعه فلا بد وأن يتكلموا به تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) ، أي وهو كلام أهل النار في النار بخصومة بعضهم مع بعض.
وقرئ «تخاصم» بالنصب على أنه بدل من ذلك. قُلْ يا أفضل الخلق لكفار مكة:
إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ أي مخوف بعذاب الله لمن عصى، وَما مِنْ إِلهٍ موجود إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الذي لا(2/321)
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
يقبل الشركة الْقَهَّارُ (65) لخلقه، رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا أي خالقهما، الْعَزِيزُ أي الغالب فلا يغلب في أمر من الأمور، الْغَفَّارُ (66) لمن تاب قُلْ هُوَ، أي ما أنبأتكم به نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) وارد من الله تعالى أَنْتُمْ عَنْهُ أي عن ذلك النبأ مُعْرِضُونَ (68) ، أي تاركون له. وهذه الجملة صفة ثانية ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) ، أي ما كان لي من علم بكلام الملائكة وقت اختصامهم في أمر آدم عليه السلام، إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) أي ما يوحى إلي حال الملائكة إلّا كوني نذيرا مبينا، أي أنا ما عرفت هذه المخاصمة إلّا بالوحي وإنما أوحى الله إلي هذه القصة لأنذركم بها، ولتصير هذه القصة حاضة لكم على الإخلاص في الطاعة والاحتراز عن الجهل والتقليد،
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً أي آدم مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ أي جمعت أجزاء بدنه وصورته بالصورة الإنسانية، وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي أي أفضت عليه الروح، وهي عرض صار البدن بوجودها حيا وهي جوهر يسري في البدن سريان الضوء في الفضاء، وسريان النار في الفحم، فَقَعُوا لَهُ أي اسقطوا له ساجِدِينَ (72) تحية له وتكريما، فخلقه إنسانا فسواه فجعل الروح فيه، فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) أي فسجد الملائكة كلهم بطريق المعية لآدم بحيث لم يبق منهم أحد إلّا سجد له، ولم يتأخر في ذلك السجود أحد منهم عن أحد، إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ أي تعظم عن السجود لآدم، وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74) أي وصار إبليس من الكافرين بإبائه عن أمر الله بعد أن كان مسلما عابدا فإنه عبد الله ثمانين ألف عام.
قالَ الله له: يا إِبْلِيسُ أي يا خبيث ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أي لما خلقته بقدرتي، وإرادتي من غير توسط أب وأم، أَسْتَكْبَرْتَ أي أتكبرت عن السجود لآدم من غير استحقاق، أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75) أي من المستحقين للتفوق؟ قالَ إبليس: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) والنار أفضل من الطين، لأن النار تأكل الطين فلذلك لم أسجد له. قالَ الله له: فَاخْرُجْ مِنْها أي من الخلقة التي كنت عليها فإنه كان يفتخر بخلقته، فغير الله خلقته فاسود بعد ما كان أبيض، وقبح بعد ما كان حسنا وأظلم بعد ما كان نورانيا، فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) أي مطرود من كل خير وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي أي سخطي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) أي يوم الحساب. قالَ إبليس:
رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) من القبور، أي إذا جعلتني رجيما فلا تمتني إلى يوم يبعث آدم وذريته من القبور للجزاء بعد فنائهم، وأراد الخبيث بذلك أن يجد فسحة لإغوائهم وأن لا يذوق الموت.
قالَ الله: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) الذي قدره الله وعينه لفناء الخلائق وهو وقت النفخة الأولى، لا إلى وقت البعث الذي هو المسؤول. قالَ إبليس:
فَبِعِزَّتِكَ أي فاقسم بعزتك لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) ، أي لأضلن ذرية آدم عن دينك بتزيين المعاصي لهم إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) أي المعصومين من الغواية، أو المخلصين قلوبهم وأعمالهم لله. قالَ الله: فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) .(2/322)
قرأ عاصم وحمزة برفع الأول ونصب الثاني، أي فأنا الحق، أو فالحق قسمي ولا أقول إلّا الحق. وقرأ الباقون بنصبهما أي فبالحق أي أقسم بالحق. وقرئ بجرهما على أن الثاني حكاية لفظ المقسم به على أن معنى الحق نقيض الباطل.
وقرئ بجر الأول على إضمار حرف القسم ونصب الثاني على المفعولية لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ، ومن جنسك من الشياطين، وَمِمَّنْ تَبِعَكَ في الغواية مِنْهُمْ أي من ذرية آدم أَجْمَعِينَ (85) تأكيدا للكاف و «ما» عطف عليه. قُلْ يا أشرف الرسل: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على هذه الدعوة مِنْ أَجْرٍ أي دنيوي وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) أي الحاملين للمشقة في الشريعة على الناس، أي إن هذا الذي أدعوكم إليه دين لا يحتاج في معرفة صحته إلى التكلفات الكثيرة، بل هو دين يشهد العقل بصحته، فإني أدعوكم أولا إلى الإقرار بوجود الله، ثم أدعوكم ثانيا إلى تنزيهه تعالى عن كل ما لا يليق به تعالى، ثم أدعوكم ثالثا إلى الإقرار بكونه تعالى موصوفا بكمال العلم والقدرة والحكمة والرحمة، ثم أدعوكم رابعا إلى الإقرار بكونه تعالى منزها عن الشركاء، ثم أدعوكم خامسا إلى الامتناع عن عبادة الأوثان، ثم أدعوكم سادسا إلى تعظيم الملائكة والأنبياء، ثم أدعوكم سابعا إلى الإقرار بالبعث والقيامة، ثم أدعوكم ثامنا إلى الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة.
فهذه الأصول الثمانية هي الأصول المعتبرة في دين الله تعالى، وأوائل الأفكار شاهدة بصحة هذه الأصول الثمانية، فثبت أني لست من المتكلفين في الشريعة التي أدعوا الخلق إليها، بل كل عقل سليم يشهد بصحتها وبعدها عن الفساد. وهو المراد من قوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) أي ما هذا القرآن إلا عظة من الله تعالى للثقلين كافة، وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) أي إنكم إن أصررتم على الجهل والتقليد، وأبيتم قبول هذه البينات التي ذكرناها في القرآن فستعلمون بعد الموت أنكم كنتم مصيبين في إعراضكم عنه أو مخطئين.(2/323)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)
سورة الزمر
ويقال لها سورة الغرف مكية، إلّا آيتين نزلتا بالمدينة إحداهما: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ والأخرى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ الآية، خمس وسبعون آية، ألف ومائة واثنتان وتسعون كلمة، أربعة آلاف وسبعمائة وثمانية أحرف
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) ، أي هذه السورة تنزيل الكتاب من الله إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أي ملتبسا بكل ما فيه حق لا ريب فيه موجب للعمل به حتما، فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) ، أي فاعبده تعالى ممحضا له الدين من شوائب الشرك والرياء.
وقرأ ابن أبي عبلة برفع الدين على أنه مبتدأ خبره الجار والمجرور قبله، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ أي ألا هو الذي يجب أن يخص بإخلاص الطاعة له لأنه المنفرد بصفات الألوهية وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى، والموصول مبتدأ وهو عبارة عن المشركين وخبره محذوف، والوقف على «زلفى» كاف، كما قاله أبو عمرو. وقيل: تام أي والمشركون الذي عبدوا من غير الله أربابا ملائكة وعيسى وعزيرا، والأصنام، والشمس، والقمر، والنجوم يقولون: ما نعبدهم إلّا ليقربونا إلى الله في المنزلة، إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.
وقرئ «ما نعبدكم إلّا لتقربونا» حكاية لما خاطبوا له آلهتهم، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي أي لا يوفق للاهتداء إلى الحق مَنْ هُوَ كاذِبٌ في وصفهم لغير الله بأنهم آلهة مستحقة للعبادة كَفَّارٌ (3) لاعتقادهم في غير الله بالإلهية ولكفرانهم نعمة المنعم، وهو الله تعالى فإن العبادة نهاية التعظيم، وهي لا تليق إلّا بمن يصدر عنه غاية الإنعام لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً من الملائكة والآدميين كما قالت اليهود والنصارى، وبنو مليح لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ إذ كل موجود سواه مخلوق له، لكن اتخاذ الولد من خلقه باطل لاستحالة كون المخلوق من جنس الخالق، ولأن كونه منه يستلزم حدوث الخالق، وهو ممتنع عقلا ونقلا سُبْحانَهُ أي تنزيها له عن اتخاذ الولد هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4) ، أي إن كون الله إلها واجب الوجود لذاته يوجب(2/324)
كونه واحدا في حقيقته وكونه واحدا في حقيقته يمنع من ثبوت الولد فثبت أن كونه واحدا يمنع من ثبوت الولد، ثم إن كونه تعالى قهار يمنع من ثبوت الولد له فلأن المحتاج إلى الولد هو الذي يموت ويحتاج إلى من يقوم مقامه، لأنه يكون مقهورا بالموت، أما الذي يكون قاهرا لا يموت كان الولد في حقه محالا. وقوله: هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ألفاظ مشتملة على دلائل قاطعة في نفي الولد عن الله تعالى خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، أي ملتبسة بالصواب مشتملة على الحكم والمصالح يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ، أي يغشى كل واحد منهما الآخر ويزيد كل واحد منهما بقدر ما ينقص الآخر، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أي جعلهما منقادين لأمره تعالى، كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أي كل منهما يجري في فلكه لمنتهى دورته، أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) أي إن خلق هذه الإجرام العظيمة دليل على كمال القدرة فهو يوجب الخوف والرهبة إلّا أنه تعالى غفار، فكونه تعالى غفارا دليل على كثرة رحمته فهي توجب الرجاء والرغبة، خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ خلقها وهي نفس آدم وحدها، ثُمَّ جَعَلَ مِنْها أي من تلك النفس، زَوْجَها حواء خلقها من ضلع من أضلاعه القصرى وَأَنْزَلَ لَكُمْ أي أحدث لكم بأسباب نازلة من السماء، كالأمطار وأشعة الكواكب مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ أي أفراد من الإبل، اثنين ذكر وأنثى. ومن البقر اثنين ومن الضأن اثنين ومن المعز اثنين، يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ، أي حيوانا سويا من بعد عظام مكسوة لحما من بعد عظام عارية، من بعد مضغ، من بعد علق، من بعد نطف، فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ البطن والرحم والمشيمة، ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ أي ذلكم الذي عرفتم عجائب أفعاله هو الله المربي لكم، بالخلق والرزق، فهو المستحق لعبادتكم، لَهُ الْمُلْكُ في الدنيا والآخرة ليس لغيره شركة في ذلك لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، أي لا معبود للخلق أجمعين إلّا الله، فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) أي فكيف تصرفون عن عبادة الله تعالى مع وفور دواعيها إلى عبادة غيره تعالى من غير داع إليها، إِنْ تَكْفُرُوا به تعالى فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ، أي فاعلموا أن الله تعالى ما كلف المكلفين ليجر إلى نفسه منفعة، أو ليدفع عن نفسه مضرة، لأن الله تعالى غني عن إيمانكم وشرككم، وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ أي وإن كان لا ينفعه تعالى إيمان ولا يضره كفر، إلّا أنه لا يرضى بالكفر وَإِنْ تَشْكُرُوا بأن تقروا باللسان بحصول النعمة، وتعتقدوا صدور النعمة من الله تعالى، وتعملوا الصالحات بجوارحكم يَرْضَهُ لَكُمْ أي يرضى الشكر لأجل منفعتكم، لأنه سبب لفوزكم بسعادة الدارين لا لانتفاعه تعالى به.
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر، وعاصم، وحمزة بضم الهاء مختلسة.
وقرأ أبو عمرو وحمزة في بعض الروايات ساكنة الهاء للتخفيف. وقرأ نافع في بعض الروايات وابن عامر والكسائي، وابن ذكوان، والدوري مضمومة الهاء مشبعة. وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تحمل نفس حاملة للوزر حمل نفس أخرى، فكل مأخوذ بذنبه. وهذا بيان(2/325)
لعدم سراية كفر الكافر إلى غيره أصلا ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ بالبعث بعد الموت. فأهم المطالب للإنسان أن يعرف خالقه بقدر الإمكان وأن يعرف ما يضره وما ينفعه وأن يعرف أحواله بعد الموت فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، أي يجازيكم بأعمال الكفر والإيمان في الدنيا ثوابا وعقابا. وهذا تهديد للعاصي وبشارة للمطيع إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) فيعلم ما في قلوبكم من الدواعي والصوارف.
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أقوالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»
«1» . وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ، أي الكافر كعتبة بن ربيعة وأبي جهل ضُرٌّ في جسمه، أو ماله، أو أهله، أو ولده دَعا رَبَّهُ أي استجار به مُنِيباً إِلَيْهِ أي مقبلا إليه بالنداء في إزالة ذلك الضر، ولم يؤمل فيه سواه، ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ أي أعطاه نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ، أي ترك دعاء ربه الذي يتضرع إليه من قبل إعطاء النعمة، كأنه لم يفزع إليه ونسي أن لا إله سواه، فعاد إلى اتخاذ الشركاء مع الله تعالى كما قال تعالى: وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً أي أعدالا في العبادة لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء بعد لام العاقبة، أي ليثبت على الضلال عن دين الإسلام والباقون بضمها أي ليضل غيره عنه. قُلْ للكافر: تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا أي عش في كفرك في هذه الدنيا بقية عمرك وهذا الأمر زجر عن الكفر وتعريف لقلة تمتعه في الدنيا. إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8) أي من المعذبين في النار على الدوام، وفي هذا إقناط للكافر من النجاة أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ.
وقرأ نافع وابن كثير وحمزة «أمن» بتخفيف الميم والهمزة «إما» للاستفهام التقريري ومقابله محذوف تقديره «أمن» هو قائم بما يجب عليه من الطاعة في ساعات الليل حالتي السراء والضراء، كمن جعل لله أندادا ودعا عند مساس الضر فقط، أو للنداء، أي يا من هو قائم في ساعات الليل قل: كيت وكيت أنت من أهل الجنة. وقرأ الباقون بتشديد الميم ف «أم» داخلة على «من» الموصولة وهي إما متصلة ومعادلها محذوف تقديره الكافر خير، أم من هو قائم بأداء وظائف العبادات. أو منفصلة تقدر ب «بل» والهمزة، أي بل أمن هو مطيع لله كالكافر المقول له تمتع بكفرك ساجِداً وَقائِماً حال من ضمير قانت.
وقرئ بالرفع على أنه خبر بعد خبر، يَحْذَرُ الْآخِرَةَ أي يخاف عذاب الآخرة وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ، أي جنة ربه فينجو مما يخافه، ويفوز بما يرجوه. قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ توحيد الله وأمره ونهيه وهو أبو بكر وأصحابه، وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ذلك- وهو أبو جهل وأصحابه- ويجوز أن يراد هذا سبيل التشبيه أي كما لا يستوي العالمون والجاهلون لا يستوي القانتون
__________
(1) رواه ابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (115) .(2/326)
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)
والعاصون، إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9) أي إنما يتعظ بهذه البيانات الواضحة أصحاب العقول الصافية، ولا يعرف التفاوت الحاصل بين العلماء والجهال إلّا أصحاب
القلوب النيرة. وقيل لبعض العلماء: إنكم تقولون: العلم أفضل من المال، ثم نرى العلماء يجتمعون عند أبواب الملوك ولا نرى الملوك مجتمعين عند أبواب العلماء، فأجاب بأن هذا أيضا يدل على فضيلة العلم، لأن العلماء علموا ما في المال من المنافع فطلبوه، والجهال لم يعرفوا ما في العلم من المنافع فتركوه. قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ أي قل لهم ربكم يقول: أطيعوا ربكم في الصغير والكبير من الأمور لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ، والجار والمجرور إما صلة لأحسنوا والمعنى للذين عملوا الأعمال الحسنة في هذه الدنيا على وجه الإخلاص حسنة عظيمة في الآخرة، وهي الجنة. وإما صلة لحسنة. والمعنى: الذين أحسنوا في هذه الدنيا أمن وصحة وكفاية وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ، أي فإن لم يتمكنوا من صرف الهمم إلى الإحسان في بلادهم فقل لهم: فإن أرض الله واسعة فلتهاجروا من تلك البلاد إلى بلاد تقدرون فيها على الاشتغال بالعبادات، واقتدوا بالأنبياء والصالحين في مهاجرتهم إلى غير بلادهم ليزدادوا طاعة إلى طاعتهم، لأنه لا عذر ألبتة للمقصرين في الإحسان إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ على مفارقة أوطانهم وعشائرهم، واحتمال البلايا في طاعة الله تعالى أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) ، أي بغير نهاية بهنداز ونحوه.
قُلْ يا أشرف الرسل لكفار قريش- حيث قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ما حملك على هذا الدين الذي أتيتنا به، ألا أنتظر إلى ملة أبيك وجدك وسادات قومك، يعبدون اللات والعزى، فتأخذ بها-: إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) أي العبادة عن شوائب الشرك والرياء وغير ذلك، وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) أي وأمرت بأن أكون أول من تمسك بالعبادات التي أرسلت بها، فإني لست من الملوك الجبابرة الذين يأمرون الناس بأشياء وهم لا يفعلون ذلك، بل كل ما أمرتكم به فأنا أول الناس شروعا فيه، وأكثرهم مداومة عليه، والعبادة لها ركنان: عمل القلب، وعمل الجوارح. فعمل القلب: هو الإخلاص، وعمل الجوارح: هو الإسلام. وهذا فائدة إتيان الأمر مرتين، ثم بيّن الله أن هذا الأمر للوجوب فقال: قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) ومعنى هذا العصيان ترك الأمر الذي تقدم ذكره قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) ، أي لا أعبد أحدا سوى الله. والأول إخبار بأنه صلّى الله عليه وسلّم مأمور من جهة الله تعالى بالإتيان بالعبادة وإخلاص القلب له تعالى. وهذا إخبار بأنه صلّى الله عليه وسلّم أمر أن لا يعبد أحدا غير الله، وإخبار بامتثاله صلّى الله عليه وسلّم بالأمر على أبلغ وجه، فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ أن تعبدوه مِنْ دُونِهِ تعالى. وفي هذا دلالة على شدة الغضب عليهم. قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، أي حين يدخلون النار حيث أوقعوهما في هلكة لا هلكة وراءها، أَلا أي تنبهوا لهذه الخسرة العظيمة، ذلِكَ أي الأمر العظيم هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) ، فلا خسران وراءه، فكل خسران يصير في مقابلته كلا خسران،(2/327)
لَهُمْ أي لهؤلاء الخاسرين مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ أي قطع كبار مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ، أي فراش من النار. والمراد إحاطة النار بهم من جميع الجوانب، وإنما سمي ما تحتهم بالظلل، لأن التي تكون تحتهم تكون ظللا لآخرين تحتهم، لأن النار دركات وأيضا إن الظلة التحتانية تشابه الفوقانية في الحرارة والإحراق ذلِكَ العذاب هو الذي يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ المؤمنين ليخلصوا في الطاعة، يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16) أي يا أيها المؤمنون بالغوا في الخوف والحذر، وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أي الشيطان أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ أي أقبلوا إليه بالطاعات لَهُمُ الْبُشْرى بنوع من الخير عند قرب الموت، وعند الوضع في القبر، وعند الخروج منه، وعند الوقوف في عرصة القيامة وعلى باب الجنة. وقوله تعالى: أَنْ يَعْبُدُوها بدل الاشتمال. والمعنى: والذين تركوا عبادة الشيطان إلخ، فإن عبادة غير الله تعالى عبادة للشيطان إذ هو الآمر بها، فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ.
وعن ابن عباس أن المراد من هذا الرجل يجلس مع القوم، ويسمع الحديث في ذلك المجلس محاسن ومساوئ، فيحدث بأحسن ما سمع، ويترك ما سواه.
وقرأ السوسي «عبادي» بياء مفتوحة في الوصل ساكنة في الوقف. والباقون بغير الياء.
أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ للصواب ولمحاسن الأمور وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18) أي هم ذوو العقول السليمة عن منازعة الهوى، أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) أي أفمن ثبت عليه كلمة العذاب أفأنت تهدي من هو منغمس في الضلال بدعائك له إلى الإيمان فتنقذه من النار. وهذا تنبيه على أن المحكوم عليه بالعذاب بمنزلة الواقع في النار. وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يحرص على إيمان قوم، وقد سبقت لهم من الله الشقاوة، فنزلت هذه الآية.
قال ابن عباس: نزلت في حق أبي لهب وولده ومن تخلف من عشيرة النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الإيمان. لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ بأن أطاعوه لَهُمْ غُرَفٌ أي منازل في الجنة رفيعة مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ أي من فوق تلك المنازل منازل أرفع منها مَبْنِيَّةٌ أي قوية كبناء المنازل المبنية على الأرض في الأحكام بخلاف منازل الدنيا، فالفوقاني فضيلته الارتفاع ونقصانه السخافة، والتحتاني فضيلته القوة ونقصانه التسفل. أما منازل الجنة فهي مستجمعة للفضائل، فهي مرتفعة قوية وقوله تعالى: لكِنِ إضراب عن قصة إلى قصة مخالفة للأولى، وليست للاستدراك تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي تجري من تحت تلك الغرف الفوقانية والتحتانية الأنهار المختلفة من غير تفاوت بين العلو والسفل وَعْدَ اللَّهِ أي وعدهم الله بذلك وعدا، وهو مصدر مؤكد لمضمون الجملة أن الله لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20) أي وعده للمؤمنين. وفي الآية دقيقة شريفة وهي أنه تعالى لم يذكر في آيات الوعيد ألبتة مثل هذا التأكيد، وذلك يدل على أن جانب الوعد من جانب الوعيد. أما قوله تعالى: ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق: 29] ليس تصريحا بجانب الوعيد بل هو كلام(2/328)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)
عام يتناول الوعد والوعيد، فثبت أن ترجيح الوعد حق خلافا للمعتزلة.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ؟ أي ألم تعلم أن الله أنزل من السماء مطرا إلى بعض المواضع، ثم يقسمه فيدخله في مجاري في خلال الأرض كالعروق في الأجساد. ويقال:
فيدخل ذلك المطر في خلال الأرض حال كونه مياها نابعة في الأرض، ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ أي ينبت بالمطر زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ أي أصنافه من بر وشعير وسمسم وغيرها، وصفاته من طعوم وألوان خضرة، وحمرة، وصفرة، وبياض وغير ذلك. ثُمَّ يَهِيجُ أي يتم جفافه فَتَراهُ مُصْفَرًّا بعد خضرته.
وقرئ مصفارا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً أي منكسرة إِنَّ فِي ذلِكَ أي المذكور من الأفعال الخمسة لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21) ، أي لتذكيرا عظيما لأصحاب العقول الصافية يتذكرون بذلك أن حال الحياة الدنيا في سرعة الانصرام كما يشاهدونه من حال الحطام كل عام، فلا يغترون ببهجتها، ويجزمون بأن من قدر على إنزال الماء من السماء وإجرائه في عيون الأرض قادر على إجراء الأنهار من تحت الغرف في الجنة، أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ! أي أكل الناس سواء فمن جعله مستعدا للإسلام فهو على هداية من ربه ف «من» شرطية وخبرها ما بعدها. وقيل: اسم موصول مبتدأ خبره محذوف والتقدير: أفمن شرح الله صدره للإسلام فاهتدى فهو على لطف إلهي فائض عليه كمن طبع على قلبه فلم يهتد لقسوته! فَوَيْلٌ، أي عذاب وخسران لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، أي من أجل ذكر الله، فإذا سمعوه نفروا وازدادوا قسوة، ولما نزل قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون: 12]
وكان قد حضر هناك عمر بن الخطاب وإنسان آخر، فلما انتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى قوله تعالى:
ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون: 14] قال كل واحد من القوم فتبارك الله أحسن الخالقين. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اكتب فهكذا أنزلت» «1» . فازداد عمر إيمانا على إيمان وازداد ذلك الإنسان كفرا على كفر.
وقرئ «عن ذكر الله» ، أي عن قبول ذكر الله أُولئِكَ أي الذين قست قلوبهم فِي ضَلالٍ أي بعد عن الحق مُبِينٍ (22) ، أي ظاهر كونه ضلالا لكل أحد قيل: نزلت هذه الآية في حمزة وعلي رضي الله عنهما، وأبي لهب وولده. وقيل: في عمار بن ياسر، وأبي جهل وأصحابه. اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ بحسب لفظه لفصاحته وجزالته وبحسب معناه لاشتماله
__________
(1) رواه ابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسنّة، باب: ما جاء في الدعاء إذا قام الرجل من الدنيا، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب: ما يستفتح به الصلاة من الدعاء، وأحمد في (م 2/ ص 61) .(2/329)
على الغيوب الكثيرة في الماضي والمستقبل، ولأن العلوم الموجودة فيه كثيرة جدا، كِتاباً مُتَشابِهاً أي يشبه بعضه بعضا- كما قاله ابن عباس- فإن كل ما فيه من الآيات يقوي بعضها بعضا. والمقصود منها بأسرها الدعوى إلى الدين وتقرير عظمة الله، مَثانِيَ فإنه أكثر الأشياء المذكورة وقعت زوجين زوجين: آية الرحمة والعذاب، وآية الوعد والوعيد، وآية الأمر والنهي، وآية القصص والأحكام وغير ذلك. تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ فإن الإنسان إذا تأمل في الدلائل الدالة على أنه يجب تنزيه الله عن التحيز والجهة فههنا يقشعر جلده، لأن إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارج عنه، ولا متصل بالعالم، ولا منفصل عنه مما يصعب تصوره فههنا تقشعر الجلود، وإذا تأمل في الدلائل الدالة على أنه يجب أن يكون الله تعالى فردا أحدا، وثبت أن كل متحيز منقسم فههنا يلين جلده وقلبه إلى ذكر الله، و «عدي» و «تلين» ب «إلى» ، لأن تقدير الكلام: تلين جلودهم وقلوبهم حال وصولها إلى حضرة الله، وهو لا يحسن بالإدراك ويقال: إنهم إذا سمعوا القرآن وذكر آيات العذاب أصابتهم خشية أو ذكر آيات الرحمة اطمأنت جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله وإنما قال الله إلى ذكر الله، ولم يقل إلى ذكر رحمة الله، لأن المحب المحق الذي في الدرجة العالية هو من أحب الله لا لشيء سواه، وأما من أحب الله لأجل رحمته، فهو ما أحب الله وإنما أحب شيئا غيره ذلِكَ أي الكتاب الذي هو أحسن الحديث هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وهو الذي شرح صدره لقبول هذه الهداية، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ أي ومن جعل الله قلبه قاسيا مظلما بليد الفهم، منافيا لقبول هذه الهداية فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) ، يخلصه من ورطة الضلال.
وقرأ ابن كثير بإثبات الياء في الوقف. أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) ! والهمزة للاستفهام الإنكاري، والفاء عاطفة على جملة مقدر، و «من» اسم موصول مبتدأ وخبره محذوف. وقيل: معطوف على «يتقي» . وتقدير الكلام: أكل الناس سواء فمن يجعل وجهه قائما مقام الدرقة يقي به وجهه العذاب الشديد يوم القيامة وتقول لهم خزنة النار: ذوقوا عذاب ما كنتم تكسبونه في الدنيا، كمن هو آمن من العذاب! قيل: يلقى الكافر في النار مغلوبة يداه إلى عنقه، وفي عنقه صخرة من كبريت مثل الجبل العظيم فتشتعل النار فيها وهي في عنقه فحرها على وجهه لا يطيق دفعها عنه للأغلال التي في يديه وعنقه. قيل: نزلت هذه الآية في حق أبي جهل وأصحابه. كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي قبل قومك من الأمم السالفة، فَأَتاهُمُ الْعَذابُ المقدر لكل أمة منهم مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) ، أي من الجهة التي لا يحتسبون، ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها بينما هم آمنون إذ أتاهم العذاب من الجهة التي توقعوا الأمن منها، فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ أي الذل فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ، أي فالعذاب المدخر لهم في يوم القيامة أعظم من ذلك الذي وقع، لَوْ كانُوا(2/330)
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)
يَعْلَمُونَ
(26) عذاب الآخرة ما كذبوا رسلهم، ولكن لا علم لهم أصلا، وَلَقَدْ ضَرَبْنا بيّنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي وجه يحتاج إليه الناظر في أمور دينه لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) ، أي كي يتعظوا به قُرْآناً عَرَبِيًّا، أي أعجز الفصحاء والبلغاء عن معارضته غَيْرَ ذِي عِوَجٍ أي بريئا عن التناقض.
وقيل: أي غير مخالف لسائر الكتب كالتوراة والإنجيل والزبور بالتوحيد. وقال السدي:
أي غير مخلوق. لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) أي لكي يتقوا بالقرآن عما نهاهم الله تعالى ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا ف «مثلا» . مفعول ثان ل «ضرب» و «رجلا» مفعوله الأول. فِيهِ شُرَكاءُ أي سادات مُتَشاكِسُونَ أي متخالفون، سيئة أخلاقهم وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ، أي ورجلا خالصا لسيد واحد.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو «سالما» بالألف وكسر اللام. والباقون بفتح السين واللام بغير الألف.
وقرئ «سلما» بفتح السين وكسرها مع سكون اللام. وقرئ «ورجل سالم» بالرفع على الابتداء، أي وهناك رجل سالم لرجل هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أي صفة، أي هل يستوي حالاهما وصفتاهما. والمعنى اضرب يا أشرف الرسل لقومك مثلا وقل: ما تقولون في رجل مملوك قد اشترك فيه شركاء بينهم تنازع، فكل واحد منهم يدّعي أنه عبده، فهم يتجاذبون في حوائجهم، وهو متحيّر في أمره، فكلما أرضى أحدهم غضب الباقون، وإذا احتاج في مهم إليهم، فكل واحد منهم يرده إلى الآخر فهو يبقى متحيرا لا يعرف أيهم أولى بأن يطلب رضاه، وأيهم يعينه في حاجاته فهو بهذا السبب يلقى منهم التعب العظيم، وفي رجل آخر له مخدوم واحد يخدمه على سبيل الإخلاص وذلك السيد يعينه على حاجاته، فإن أطاعه عرف له وإن أخطأ صفح عن خطأه فأيّ هذين العبدين أحسن حالا وأحمد شأنا، وأقل تعبا وهذا مثل ضربه الله الكافر الذي يعبد آلهة شتى، والمؤمن الذي يعبد الله وحده. الْحَمْدُ لِلَّهِ أي لما بطل القول بإثبات الشركاء وثبت أنه لا إله إلّا الله الواحد الأحد ثبت أن الحمد له لا لغيره، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29) أن الحمد له تعالى لا لغيره وأن المستحق للعبادة هو الله لا غيره، ويقال: لا يعلمون أمثال القرآن إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ أي كفار مكة مَيِّتُونَ (30) أي إنك وإياهم، وإن كنتم أحياء في أعداد الموتى
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) أي تتكلمون أنتم ورؤساء الكفار بالحجة. والمراد أن هؤلاء الأقوام وإن لم يلتفتوا إلى هذه الدلائل القاهرة بسبب استيلاء الحرص والحسد عليهم في الدنيا، فلا تبال يا أشرف الرسل بهذا، فإنك ستموت وهم سيموتون أيضا، ثم تحشرون يوم القيامة وتختصمون عند الله تعالى، والعادل الحق يحكم بينكم، فيوصل إلى كل واحد ما هو حقه وحينئذ يتميز الحق من الباطل، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ أي لا أحد أظلم ممن أثبتوا لله ولدا.(2/331)
وشركاء. و «كذب» بتخفيف الذال، وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ أي بالأمر الذي هو نفس الصدق وهو ما جاء النبي صلّى الله عليه وسلّم: من لا إله إلّا الله والقرآن وغير ذلك. إِذْ جاءَهُ أي في أول مجيء ذلك الأمر من غير تدبر فيه أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) ، أي لهؤلاء الذين افتروا على الله وسارعوا إلى تكذيب الصدق من أول الأمر، وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ أي بعين الحق وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) ، أي المنعوتون بالتقوى، والموصول عبارة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والذي صدّق بنفس الصدق هو أبو بكر. وهذا القول مروي عن علي بن أبي طالب، وجماعة من المفسرين.
وقيل: المراد من الموصول كل من جاء بالصدق، وهم الأنبياء والذي صدق به الأتباع، ويؤيد هذا القول قراءة ابن مسعود رضي الله عنه، والذي جاءوا بالصدق وصدقوا به.
وقرئ «وصدق به» بتخفيف الدال، أي صدق الرسول بذلك الصدق الذي هو بمعنى القرآن الناس، ولم يكذبهم بأن أداه إليهم كما نزل عليه من غير تحريف.
وقيل: صار الرسول صادقا بسبب الصدق الذي هو القرآن، لأنه معجزة، وهي تصديق من الله تعالى، فيصير المدعي للرسالة صادقا بسبب تلك المعجزة.
وقرئ وصدق به على البناء للمفعول، أي صدق الرسول بالقرآن، لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي لهم كل ما يشاءونه من جلب المنافع ودفع المضار في الآخرة لا في الجنة فقط لما أن بعض ما يشاءونه من تكفير السيئات والأمن من الفزع الأكبر، وسائر أهوال القيامة، إنما يقع قبل دخول الجنة، ذلِكَ أي حصول ما يشاءونه جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) أي الذين أحسنوا أعمالهم لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا أي أقبح أعمالهم دفعا لمضارهم وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35) أي بإحسانهم، إعطاء لمنافعهم. والمراد أنهم إذا صدقوا الأنبياء عليهم السلام فيما أتوا فإن الله يكفر عنهم أسوأ أعمالهم- وهو الكفر السابق على ذلك الإيمان- ويوصل إليهم أحسن أنواع الثواب. وقوله تعالى: لِيُكَفِّرَ اللَّهُ بمتعلق بقوله تعالى: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ، باعتبار فحواه حيث كان إخبارا بما سيثبت لهم فيما سيأتي، وهو في معنى الوعد كأنه قيل وعدهم الله جميع ما يشاءونه من زوال المضار وحصول المسار، ليكفر عنهم بموجب ذلك الوعد أسوأ الذي عملوا إلخ. أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم- كما قال السدي- ويقال: هو خالد بن الوليد مما يريدون به.
وقرأ حمزة والكسائي «عباده» ، وهم الأنبياء عليهم السلام، فإن قومهم قصدوهم بسوء لقوله تعالى: وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ [غافر: 5] ودخول همزة الإنكار على
كلمة النفي تفيد معنى إثبات الكفاية، أي هو كاف عبده وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ تعالى، وهم اللات والعزى ومناة أي إن قريشا يقولون لك: يا محمد لا تشتمها ولا تعبها فتخبلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية.(2/332)
إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50)
وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم بعث خالدا إلى العزى ليكسرها فقال له سادنها. لا تدركها أحذركها يا خالد إن لها شدة لا يقوم لها شيء، فعمد خالد إليها، فهشم أنفها، فنزلت هذه الآية وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ عن دينه حتى غفل عن كفاية الله لعبده محمد وخوفه بما لا ينفع ولا يضر فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) ، أي مرشدا إلى دينه وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ لدينه فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ عن دينه، أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ أي غالب على أمره ذِي انْتِقامٍ (37) من أعدائه لأوليائه. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي كفار مكة مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ خلقهما لوضوح الدليل على تفرده تعالى بكونه خالقا لهما. قُلْ تبكيتا لهم: أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ! أي إذا لم يكن خالق سوى الله تعالى وقد أقررتم بأن خالق العالم العلوي والسفلي هو الله تعالى، فأخبروني بأن ما تعبدون من غير الله وهي اللات والعزى ومناة، إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ أي بلاء هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ، أي رافعات بلائه تعالى عني، أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ أي بنفع هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ، أي مانعات نعمته عني حتى تأمروني بعبادتها وتخوفوني معرتها وقوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ متعد لاثنين: أولهما: «ما تدعون» . والثاني: الجملة الاستفهامية.
وقرأ أبو عمرو بتنوين «كاشفات» و «ممسكات» ونصب «ضره» و «رحمته» . وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم لما سألهم قالوا: لا، أي لا تكشف ولا تمسك فنزل قوله تعالى: قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) . أي قل لهم: إذا كان الأمر كذلك كانت عبادة الله كافية، وكان الاعتماد عليه كافيا، فثقتي في جميع أموري من إصابة الخير، ودفع الشر بالله تعالى، وبه تعالى يثق الواثقون لا على غيره أصلا، لعلمهم بأن كل ما سواه تعالى تحت ملكوته تعالى. قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي على حالتكم، وهي الكفر والعناد.
وقرأ شعبة «مكاناتكم» بالجمع. وهو مروي عن عاصم أيضا إِنِّي عامِلٌ على حالتي فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ أي يهلكه في الدنيا وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40) ، أي ومن ينزل عليه عذاب دائم هو عذاب النار، و «من» موصولة مفعول «تعلمون» ، والأمر للتهديد أي أنتم تعتقدون في أنفسكم أنكم في نهاية القوة، فاجتهدوا في أنواع كيدكم، فإني عامل في تقرير ديني، فسوف تعلمون أن الخزي في الدنيا بالجوع والسيف، والعذاب الدائم في الآخرة يصيبني أو يصيبكم.
إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ أي لنفع الناس ولاهتدائهم به، بِالْحَقِّ أي مقرونا بالحق، وهو المعجز الذي يدل على أنه من عند الله، فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ أي فمن عمل بما فيه فنفعه يعود إلى نفسه، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي ومن لم يعمل بما فيه فضير ضلاله يعود إلى نفسه، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) أي إنك لست مأمورا بأن تجبرهم على الإيمان والهدى، وما وظيفتك إلّا البلاغ، فالهداية والضلال لا يحصلان إلّا من الله تعالى، ومن عرف هذه الحقيقة فقد عرف سر الله في القدر ومن عرف سر الله في القدر هانت(2/333)
عليه المصائب. اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها أي الله يقبض الأرواح من الأبدان حين موت أجسادها بخلق الموت، وإزالة الحس بالكلية، ويقبض الأرواح التي لم تمت حين تنام بإزالة الإدراك وخلق الغفلة في محل الإدراك، فتتعارف ما شاء الله أن تتعارف فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ فلا يردها إلى البدن.
وقرأ حمزة والكسائي «قضى» على البناء للمفعول ورفع الموت، وَيُرْسِلُ الْأُخْرى أي يزيل الحابس عن النائمة، فتعود عند التيقظ كما كانت إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو وقت النفخة الثانية في الممسوكة، ووقت الموت في المرسلة، فالجار والمجرور متعلق بكل من «يمسك» و «يرسل» .
قال ابن عباس وغيره من المفسرين: إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله، فإذا أراد جميعها الرجوع إلى الأجساد أمسك الله أرواح الأموات عنده، وأرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها.
وقال علي رضي الله عنه: فما رأته نفس النائم وهي في السماء قبل إرسالها إلى جسدها فهي الرؤيا الصادقة، وما رأته بعد إرسالها وقبل استقرارها في جسدها فهي الرؤيا الكاذبة، لأنها من إلقاء الشيطان. إِنَّ فِي ذلِكَ أي التوفي على الوجهين والإمساك في أحدهما والإرسال في الآخر لَآياتٍ عجيبة دالة على كمال قدرته تعالى وحكمته وشمول رحمته، لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) في كيفية تعلق الأرواح بالأبدان، وقبضها عنها تارة بالكلية كما عند الموت، وحبسها عن التصرف تارة أخرى كما عند النوم، وإزالة حبسها عنه حينا بعد حين إلى انقضاء آجالها، أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ أي إن الكفار قالوا: نحن لا نعبد هذه الأصنام لاعتقاد أنها آلهة تضر وتنفع وإنما نعبدها لأجل أنها تماثيل لأشخاص كانوا عند الله من المقربين، فنحن نعبدها لأجل أن يصير أولئك الأكابر شفعاء لنا عند الله تعالى، فأجاب الله تعالى بقوله: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ تشفع لهم عنده تعالى قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) أي قل لهم أيشفعون في حال كونهم لا يملكون شيئا من الأشياء، وفي حال كونهم لا يعقلونه؟ قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً أي أن هؤلاء الكفار إما أن يطمعوا في تلك الشفاعة من هذه الأصنام، أو من أولئك العلماء الذين جعلت هذه الأصنام تماثيل لهم، فهذه الأصنام لا تملك شيئا ولا تعقله، فكيف يعقل صدور الشفاعة عنها ولا يملك أحد من العلماء وغيرهم شيئا؟ ولا يقدر أحد على الشفاعة إلّا بإذن الله؟! فيكون الشفيع في الحقيقة هو الله لأنه الذي يأذن في الشفاعة، فكان الاشتغال بعبادته أولى من الاشتغال بعبادة غيره. لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي له ملكها، وما فيهما من المخلوقات، لا يملك أحد أن يتكلم في أمر من أموره بدون إذنه تعالى ورضاه، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) يوم القيامة فيفعل يومئذ ما يريد وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ(2/334)
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)
وَحْدَهُ دون الآلهة اشْمَأَزَّتْ أي انقبضت قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، أي بالبعث بعد الموت حتى يظهر أثر ذلك الانقباض في أديم الوجه، وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أي فرادى، أو مع ذكر الله إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) حتى يظهر أثر ذلك السرور في بشرة الوجه. قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ، أي يا عالم ما غاب عن العباد وما علموه، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ من أمر الدين.
وعن أبي سلمة قال: سألت عائشة رضي الله عنها بم كان يفتتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاته بالليل؟ قالت: كان يقول: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك لتهدي من تشاء إلى صراط مستقيم»
«1» .
أي فما دفع عنهم ما كانوا يكسبون من متاع الدنيا، ويجمعون منه شيئا من عذاب الله،
فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا أي بل أصابهم جزاء أعمالهم من العذاب، وَالَّذِينَ ظَلَمُوا بالعتو مِنْ هؤُلاءِ أي من مشركي قومك سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا أي عقوبات ما عملوا كما أصاب الأمم، وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أي هم لا يعجزونني في الدنيا
__________
(1) رواه المتقي الهندي في كنز العمال (3040) ، والعقيلي في الضعفاء (4: 231) ، والسيوطي في اللئالئ المصنوعة (1: 45) ، وابن العراقي في تنزيه الشريعة (1: 192) .(2/335)
والآخرة. أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ، أي أقالوا ذلك ولم يعلموا أن الله يوسع الرزق لمن يشاء، وإن كان لا قوة له ويضيق الرزق لمن يشاء، وإن كان قويا شديد الحيلة، وليس ذلك لأجل الطبائع والأنجم لأن الساعة التي ولد فيها السلطان قد ولد فيها أنواع الناس، وأنوع الحيوانات، وأنواع النباتات، وحدوث هذه الأشياء الكثيرة في الساعة الواحدة مع كونها مختلفة في السعادة والشقاوة دليل على أن المؤثر فيه هو الله تعالى وحده دون الطوالع قال الشاعر:
فلا السعد يقضي به المشتري ... ولا النحس يقضي علينا زحل
ولكنه حكم رب السما ... وقاضي القضاة تعالى وجل
إِنَّ فِي ذلِكَ أي البسط والتضييق لَآياتٍ دالة على أن الحوادث كلها من الله تعالى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) إذ هم المستدلون بها على مدلولاتها. قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ، أي أفرطوا في الجناية عليها بالمعاصي.
وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي بسكون الياء وسقوطها في الوصل. والباقون بفتحها وكلهم يقفون بإثبات الياء إلا في بعض روايات أبي بكر عن عاصم، فإنه يقف بغير ياء. لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ لا تيأسوا من مغفرة الله وتفضله، أي واقلعوا عن ذنوبكم فإنها قاطعة عن الخير مبعدة عن الكمال، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، أي بالتوبة إذا صحت توبته، ومن مات قبل أن يتوب فهو موكول إلى مشيئة الله تعالى فيه، فإن شاء غفر له، وإن شاء عذبه بقدر ذنوبه، ثم يدخله الجنة بفضله ورحمته. فالتوبة واجبة في كل واحد وخوف العقاب قائم. إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) لمن تاب من الكفر وآمن بالله.
قيل: إن هذه الآية نزلت في أهل مكة فإنهم قالوا: يزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس لم يغفر له، وقد عبدنا وقتلنا فكيف نسلم؟ وعن ابن عمر قال: كنا معشر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نرى ليس شيء من حسناتنا إلّا وهي مقبولة حتى نزلت: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ [محمد: 33] فلما نزلت هذه الآية قلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقيل لنا:
الكبائر والفواحش فكنا إذا رأينا من أصاب منها شيئا خفنا عليه، ومن لم يصب منها شيئا رجونا له. فأنزل الله تعالى: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وأراد بالإسراف ارتكاب الكبائر. وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ، أي أقبلوا إلى ربكم بالتوبة من الكفر، وَأَسْلِمُوا لَهُ أي أطيعوا الله مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ إن لم تتوبوا، ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) أي لا تمنعون من عذاب الله- نزلت هذه الآية في وحشي وأصحابه- وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وهو القرآن لقوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً.(2/336)
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)
وقال الحسن معناه: والتزموا إطاعة الله واجتنبوا معصية الله فإن الذي أنزل على ثلاثة أوجه ذكر القبيح ليتجنب عنه، والأدون لئلا يرغب فيه. والأحسن ليتبع وليتقوّى به. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) بمجيئه لتتأهبوا له، أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ مفعول لأجله، أي أنيبوا إلخ كراهة أن تقول نفس: يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ أي يا ندامتا على تفريطي في حق الله وأمره وطاعته، وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أي والحال إني كنت لمن المستهزئين بدين الله وأهله، أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي أي بيّن لي الإيمان لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أي من الموحدين أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً أي رجعة إلى دار الدنيا، فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) في العقيدة والعمل. فيقول الله تعالى ردا على ذلك: بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي أي وهي القرآن، مرشدة لك فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ أي تكبرت عن الإيمان بها وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59) . فبيّن الله تعالى أن الحجة عليهم لله لا أن الحجة لهم على الله.
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ بأن وصفوه بما لا يليق بشأنه تعالى كاتخاذه تعالى الولد. وكقولهم: إن الله تعالى حرم البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام. وبأن وصفوا الأصنام بالآلهة. وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ سوادا مخالفا لسائر أنواع السواد وهو سواد يدل على الجهل بالله والكذب على الله، أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) ؟ أي منزل للمتكبرين عن الإيمان والطاعة.
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ.
وقرأ حمزة والكسائي، وأبو بكر عن عاصم «بمفازاتهم» بالجمع، أي ينجي الله الذين بالغوا في وقاية أنفسهم من غضبه تعالى من منزل المتكبرين ملتبسين بفوزهم بمطلوبهم الذي هو الجنة، فكما وقاهم الله في الدنيا من المخالفات حماهم في الآخرة من العقوبات، لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ أي العذاب، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) على فائت، لأنه لا يفوت لهم شيء أصلا.
وقيل: المعنى أن النجاة في القيامة حصلت بسبب فوزهم في الدنيا بالطاعات والخيرات، ثم فسرت تلك النجاة بقوله تعالى: لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ إلخ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ من خير وشر وإيمان وكفر بمباشرة الكاسب لأسبابها، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) أي إن الأشياء كلها موكولة إليه تعالى، فهو القائم بحفظها وتدبيرها من غير منازع ولا مشارك، فيتولى التصرف فيها كيفما يشاء لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، أي له تعالى مفاتيحها لا يتمكن من التصرف فيها غيره.
وقيل: سأل عثمان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن تفسير قوله تعالى: لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فقال: «يا عثمان ما سألني عنها أحد قبلك، تفسيرها: لا إله إلّا الله، والله أكبر، سبحان الله، وبحمده، أستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلّا بالله، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، بيده(2/337)
الخير، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير»
«1» . والمعنى أن لله هذه الكلمات يوحد بها ويمجد بيده وهي مفاتيح خير السموات والأرض، من تكلم بها من المتقين أصابه. وقال قتادة ومقاتل: له مفاتيح السموات والأرض بالرزق والرحمة. وقال الكلبي: له خزائن المطر والنبات. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أي الناطقة بكونه تعالى خالقا للأشياء كلها وكونه مالكا مقاليد السموات والأرض بأسرها، أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) خسرانا لا خسار وراءه.
قُلْ يا أشرف الخلق لأهل مكة- حيث قالوا له: أسلم ببعض آلهتنا ونؤمن بإلهك-: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) ؟! أي بعد مشاهدة الآيات الدالة على انفراده تعالى أعبد غيره تعالى بأمركم. و «غير الله» منصوب ب «أعبد» ، و «تأمروني» اعتراض. وقيل: «أن أعبد» معمول ل «تأمروني» على إضمار «أن» المصدرية، فلما حذفت بطل عملها وجاز تقديم معمول صلة «أن» على الموصول ب «أن» المحذوفة، والأصل: أتأمروني بأن أعبد غير الله ويؤيد هذا القول قراءة «أعبد» بالنصب. وقرأ نافع «تأمروني» بنون واحدة مخففة مع فتح الياء، وهي نون الرفع كسرت للمناسبة. وابن كثير بنون مشددة وفتح الياء وابن عامر بنونين ساكنة الياء والباقون بنون واحدة مشددة وسكون الياء. وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ من الرسل عليهم السلام: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) . وهذه قضية شرطية، والقضية الشرطية لا يلزم من صدقها صدق جزأيها كقوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] ، ولم يلزم من هذا صدق أن فيهما آلهة وأنهما قد فسدتا، بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ. وهذا رد لما أمروه صلّى الله عليه وسلّم به من الإسلام ببعض آلهتهم كأنه صلّى الله عليه وسلّم قال: إنكم تأمرونني بأن لا أعبد إلّا غير الله، وكأنه
تعالى قال: فلا تعبد إلّا الله. وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) لله على ما هداك إلى أنه لا يجوز إلّا عبادة الإله القادر العليم الحكيم، وعلى ما أرشدك إلى أنه يجب الإعراض عن عبادة كل ما سوى الله تعالى، وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ أي وما عظموا الله حق تعظيمه، أي تعظيما لائقا به تعالى بل أنزلوه عن قدره ومنزلته، إذ زعموا أن له شركاء، وأنه لا يقدر على إحياء الموتى. والحال أن الأرض جميعا مقدورته تعالى يوم القيامة والسموات مطويات بقدرته تعالى، أو ما عرفوا الله حق معرفته حيث وصفوه بما لا يليق بشئونه الجليلة، حيث قالوا: يد الله مغلولة. وقالوا: إن الله فقير يطلب منا القرض إلخ، ومقصود هذه الآية إشارة إلى أن المتولي لإبقاء السموات والأرض في هذه الدار هو المتولي لتخريبهما يوم القيامة، وذلك يدل على قدرته التامة على الإيجاد والإعدام، فإذا حاول تخريب الأرض يزيلها، فكأنه يقبض قبضة صغيرة ويريد إفناءها، وذلك يدل على كمال الاستغناء.
__________
(1) رواه السيوطي في الدر المنثور (5: 346) .(2/338)
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
وقرئ «قبضة» بالنصب على الظرف، أي في ملكه تعالى وقدرته. وقرئ «مطويات» بالنصب على الحال و «السموات» معطوفة على الأرض. سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) أي إن هذا القادر القاهر العظيم الذي حارت العقول في وصف عظمته، تنزه عن أن تجعل الأصنام شركاء له في المعبودية وأن يكون تعالى عاجزا ومحتاجا إلى شيء، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ نفخة الموت فَصَعِقَ أي مات مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ.
قال كعب الأحبار: هم اثنا عشر جبريل وميكائيل وإسرافيل، وملك الموت، وحملة العرش، وهم ثمانية. ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أي الصور بعد أربعين سنة نفخة أُخْرى - وهي نفخة البعث- تمطر السماء كنطف الرجال، فَإِذا هُمْ قِيامٌ من قبورهم يَنْظُرُونَ (68) ، أي يقلبون أبصارهم في الجوانب كالمبهوتين، و «ينظرون» حال من ضمير «قيام» وقرئ «قياما» بالنصب على الحال من ضمير «ينظرون» ، فهو حينئذ خبر المبتدأ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها أي وأضاءت الأرض الجديدة التي يوجدها الله في ذلك الوقت لتحشر الناس فيها بعدل ربها، وَوُضِعَ الْكِتابُ أي صحائف الأعمال وهي ديوان الحفظة في أيدي العمال، وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ، أي الذين يشهدون على الأمم من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم ومن الملائكة الحفظة، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي بين العباد بِالْحَقِّ أي بالعدل، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) أي لا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم، وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ، أي وفيت كل نفس برة وفاجرة جزاء ما عملته من خير وشر، وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70) ولا حاجة به تعالى إلى كتاب ولا إلى شاهد ومع ذلك تشهد الكتب والشهود إلزاما للحجة.
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ بالعنف والدفع، زُمَراً أي أفواجا متفرقة بعضها عقب بعض على حسب ترتب طبقاتهم في الضلالة والشرارة، حَتَّى إِذا جاؤُها أي جهنم فُتِحَتْ أَبْوابُها أي طرقها لهم ولم تكن قبل ذلك مفتوحة، وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها- وهم الزبانية- تقريعا وتوبيخا: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ أي من جنسكم؟ وقرئ «نذر منكم» ؟ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ من القرآن وغيره، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا، أي لقاء وقتكم هذا هو وقت دخولهم النار؟ قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) أي بلى قد أتونا وتلوا علينا وأنذرونا، ولكن ثبتت علينا كلمة العذاب، ومن وجبت عليه كلمة العذاب فكيف يمكنه الخلاص من العذاب؟ قِيلَ ادْخُلُوا أي ثم إن الملائكة إذا سمعوا منهم هذا الكلام قالوا لهم: ادخلوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أي مقدرا خلودكم فيها، فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) أي على الأنبياء جهنم، أي أنهم دخلوا النار، لأنهم تعظموا عن الإيمان بالرسل ولم يقبلوا قولهم، ولم يلتفتوا إلى دلائلهم. وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ مساق إعزاز وتشريف للإسراع بهم إلى دار الكرامة، ولأن بعضهم قالوا: لا ندخلها حتى يدخلها(2/339)
أحبائي وأصدقائي، ولأن بعضهم استغرقوا في مشاهدة مواقف الجلال والجمال، وهي مانعة لهم عن الرغبة في الجنة وكلهم راكبون فتساق مراكبهم زُمَراً، أي متفاوتين حسب تفاوت مراتبهم في الفضل وعلو الطبقة حَتَّى إِذا جاؤُها أي الجنة وَفُتِحَتْ أَبْوابُها- «الواو» للحال- أي وقد فتحت أبوابها قبل وصولهم إليها، وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها على باب الجنان: سَلامٌ عَلَيْكُمْ من كل الآفات طِبْتُمْ، أي صلحتم لسكناها، لأنكم نظفتم من دنس المعاصي، وطهرتم من خبث الخطايا، فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وجواب «إذا» محذوف تقديره: اطمأنوا وسعدوا. وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ في قوله تعالى: لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون. وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ، أي أورثنا الله أرض الجنة بأن وفقنا للإتيان بأعمال أورثت الجنة نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ أي ينزل كل واحد في أي مكان أراده من جنته الواسعة، فهو يتخير في منازل قسمه فلا يختار أحد مكان غيره مع أن في الجنة مقامات معنوية لا يتمانع واردوها، فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) الجنة. وهذا من كلام الله تعالى وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ أي محدقين بالعرش، أي كما أن دار ثواب المتقين هي الجنة، فكذلك دار ثواب الملائكة هو جوانب العرش وأطرافه، يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ فثوابهم هو عين ذلك التحميد والتسبيح، وأعظم درجات الثواب استغراق قلوب العباد في درجات التنزيه ومنازل التقديس، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ أي إن الملائكة على مراتب متفاوتة فلكل واحد منهم في درجات المعرفة والطاعة حد محدود لا يتجاوزه وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75) ، أي قال الملائكة:
الحمد لله رب العالمين على قضائه بيننا بالحق، وهم ما حمدوه تعالى لأجل ذلك القضاء بل حمدوه تعالى بصفته تعالى الواجبة له، وهي كونه تعالى ربا للعالمين، فإن من حمد المنعم لأجل أن إنعامه وصل إليه فهو في الحقيقة ما حمد المنعم، وإنما حمد الإنعام ويقال: إن هذا من بقية شرح ثواب المؤمنين فيقال: في التقرير كما أن حرفة المتقين في الجنة الاشتغال بهذا التحميد والتمجيد، فكذلك حرفة الملائكة الاشتغال بالتحميد والتسبيح، ثم إن جوانب العرش ملاصقة لجوانب الجنة، فالمؤمنون والملائكة يصيرون متوافقين على الاستغراق في تحميد الله وتمجيده وتسبيحه، فكان ذلك سببا لمزيد التذاذهم. وقال تعالى: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي بين البشر بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ أي إنهم يقدمون التسبيح، فالتسبيح عبارة عن إقرارهم بتنزيه الله تعالى عن كل ما لا يليق به وهو صفات الجلال والتحميد عبارة عن إقرارهم بكونه تعالى موصوفا بصفات الإكرام، ثم إن الله تعالى لم يبين ذلك القائل. والمقصود من هذا الإبهام التنبيه على أن خاتمة كلام العقلاء في الثناء على حضرة ذي الجلال والكبرياء ليس إلّا أن يقولوا الحمد لله رب العالمين.(2/340)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10)
سورة المؤمن
وتسمى صورة الطول وسورة غافر، مكية، خمس وثمانون آية، ألف ومائة وتسع وتسعون كلمة، أربعة آلاف وتسعمائة وستون حرفا
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ أي هذه السورة المسماة ب «حم» تنزيل الكتاب، مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ أي الذي لا يوجد له مثل الْعَلِيمِ (2) بوجوه المصالح والمفاسد، غافِرِ الذَّنْبِ أي غافر للذنوب الكبار، قبل التوبة ممن قال: لا إله إلّا الله، وَقابِلِ التَّوْبِ لمن تاب من الشرك شَدِيدِ الْعِقابِ لمن مات على الشرك ذِي الطَّوْلِ أي ذي الفضل على من آمن به بترك العقاب المستحق، وذي الغنى على من لم يؤمن به لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فيجب الإقبال الكلي على طاعته في أوامره ونواهيه، إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) أي مرجع من آمن به ومن لم يؤمن به، ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ بالجدال الباطل، إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا بها وهو أن يقال في حق القرآن: إنه سحر، أو إنه شعر، أو إنه قول الكهنة، أو إنه أساطير الأولين، أو إنما يعلمه بشر أو أشباه ذلك مما كانوا يقولونه من الشبهات الباطلة.
قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن جدالا في القرآن كفر»
. «1»
وقال: «لا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر»
. فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4) أي لا ينبغي أن تغتر بأني أتركهم سالمين في أبدانهم وأموالهم يتصرفون في البلاد للتجارات وطلب المعاش، وإني سآخذهم كما فعلت بأشكالهم من الأمم الماضية. كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي قبل قومك قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ أي الأمم المتفرقة مِنْ بَعْدِهِمْ، أي من بعد قوم نوح كقوم عاد وثمود، وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ أي وعزمت كل أمة من هؤلاء المكذبين أن يأخذوا رسولهم ليقتلوه ويهلكوه، وَجادَلُوا بِالْباطِلِ أي خاصموا رسلهم بإيراد الشبهات لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ، أي ليزيلوا بإيراد تلك الشبهات الصدق فَأَخَذْتُهُمْ بسبب ذلك فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) ، أي عقابي إياهم أليس كان مهلكا مهيبا في السماع؟ وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ
__________
(1) رواه أحمد في (م 3/ ص 170) .(2/341)
النَّارِ (6) ، أي كما ثبت حكمه تعالى بالتعذيب على أولئك الأمم الكاذبة على رسلهم، ثبت على الذين كفروا وتحزبوا عليك كونهم مستحقي أشد العقوبات التي هي عذاب النار. فقوله تعالى:
أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ في محل رفع بدل من قوله تعالى: كَلِمَةُ رَبِّكَ أو في محل نصب بحذف لام التعليل، أي لأنهم ملازمو النار أبدا.
وقرأ نافع وابن عامر «كلمات» بالجمع. الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وهم في الدنيا أربعة، وفي يوم القيامة ثمانية، أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم قد خرقت العرش، وهم خشوع لا يرفعون طرفهم، وَمَنْ حَوْلَهُ وهم الكروبيون وهم سادات الملائكة، يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ.
قال شهر بن حوشب: وحملة العرش يوم القيامة ثمانية: فأربعة منهم يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على علمك وحلمك. وأربعة منهم يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك اهـ. ولا شك أن حملة العرش أشراف الملائكة وأكابرهم.
روي في الحديث: «أن الله تعالى أمر جميع الملائكة أن يغدوا ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلا لهم على سائر الملائكة»
«1» . وَيُؤْمِنُونَ بِهِ. وهذا تنبيه على أن الله تعالى لو كان حاضرا بالعرش لكان حملة العرش والحافون حوله يشاهدونه ولما كان إيمانهم بوجود الله موجبا للمدح، لأن الإقرار بوجود شيء حاضر معاين لا يوجب الثناء، ألا ترى أن الإقرار بوجود الشمس وكونها مضيئة لا يوجب المدح، فلما ذكر الله تعالى إيمانهم بالله على سبيل المدح والتعظيم علم أنهم آمنوا به من غير أن يشاهدوه تعالى حاضرا هناك، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا شفقة على خلق الله، وقد ثبت أن كمال السعادة مربوط بأمرين: التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله. ويجب أن يكون التعظيم لأمر الله مقدما على الشفقة لخلق الله، فالتسبيح مشعر بالتعظيم لله والدعاء للمؤمنين مشعر بالشفقة عليهم. وقيل: هذا الاستغفار في مقابلة قولهم: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة: 30] . فلما صدر هذا منهم أولا تداركوه بالاستغفار لمن تكلموا فيهم، وهو كالتنبيه لغيرهم على أنه يجب على من تكلم في أحد بشيء يكرهه أن يستغفر له، وعلى من آذى غيره أن يجبره بإيصال نفع إليه. رَبَّنا وهذا معمول لقول مضمر في محل نصب على الحال من فاعل «يستغفرون» أي قائلين رَبَّنا إلخ. وهذا دليل على أن السنة في الدعاء أن يبدأ فيه بالثناء على الله تعالى، ثم يدعو عقبه فإن الملائكة لما زعموا على الدعاء للمؤمنين بدءوا
__________
(1) رواه ابن كثير في التفسير (1: 87) ، والقرطبي في التفسير (2: 209) ، وابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (144) .(2/342)
قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)
بالثناء فقالوا ربنا: وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً، أي وسعت رحمتك وعلمك، فكل موجود نال من رحمة الله نصيبا، لأن وجود الممكن بإيجاده تعالى، فذلك رحمة فلا موجود غير الله إلّا وقد وصل إليه نصيب من رحمة الله، وعلمه تعالى محيط بجميع المعلومات التي لا نهاية لها من الكليات والجزئيات، فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا من الكفر، وإن أصروا على الفسق بأن تقسط العقاب عنهم، وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ في الشريعة وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) أي ادفع عنهم عذاب النار رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ إياها.
وقرئ «جنة عدن» وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ و «من» معطوف على مفعول «أدخل» ، أي وأدخل معهم في الجنة من آمن من هؤلاء الطوائف الثلاثة ليتضاعف ابتهاجهم.
قال سعيد بن جبير: يدخل المؤمن الجنة فيقول: أين أبي أين زوجتي أين ولدي؟ فيقال له: إنهم لم يعملوا مثل عملك فيقول: إني كنت أعمل لي ولهم فيقال: أدخلوهم الجنة فإذا اجتمع بأهله في الجنة كان أكمل في سروره ولذته.
وقرأ ابن أبي عبلة «صلح» بضم اللام. وقرأ عيسى «وذريتهم» بالإفراد إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ، أي القادر الذي لا يساويه أحد في القدرة الْحَكِيمُ (8) أي الذي لا يفعل إلّا ما تقتضيه الحكمة، وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ أي ادفع عنهم العقوبات عند موقف القيامة، وعند الحساب والسؤال أو صنهم في الدنيا عن العقائد الفاسدة. والأعمال الفاسدة وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ أي ومن تدفع عنه العقوبات، أو من تصنه في الدنيا عن المعاصي، فَقَدْ رَحِمْتَهُ أي عصمته وعظمته، وَذلِكَ أي الرحمة هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) حيث وجدوا بأعمال منقطعة نعيما لا ينقطع، وبأعمال حقيرة ملكا لا تصل العقول إلى كنه عظمته. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) . أي إن الذين كفروا يناديهم خزنة جهنم لإنكار الله لكم في الدنيا حين تدعون من جهة الأنبياء إلى الإيمان فتأبون قبوله وتختارون عليه الكفر اتباعا لأنفسكم الأمارة بالسوء، أو اقتداء بأخلائكم المضلين أكبر من إنكاركم أنفسكم الأمارة بالسوء الآن، أو من إنكار بعضهم بعضا اليوم، وذلك أنهم إذا شاهدوا القيامة والجنة والنار مقتوا أنفسهم على إصرارهم على تكذيب هذه الأشياء في الدنيا، أو أن الأتباع يشتد مقتهم الآن للرؤساء الذين دعوهم إلى الكفر في الدنيا، والرؤساء يشتد إنكارهم للأتباع الآن أيضا، و «إذ» ظرف ل «المقت» الأول. وقيل: يناديهم المتقون في الآخرة من مكان بعيد وهم في النار، وإذ تدعون تعليل لما بين الظرف والسبب. والمعنى: لمقت الله إياكم الآن أكبر من مقتكم أنفسكم الآن لما كنتم تدعون إلى الإيمان فتكفرون.
قالُوا أي الكفار: رَبَّنا(2/343)
أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ
أي إماتتين، مرة بقبض أرواحنا، ومرة بعد ما سألنا منكر ونكير في القبور. وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ أي إحياءتين، مرة عند سؤال منكر ونكير في القبور، ومرة عند البعث. وهذا أنسب بحالهم فإن مقصودهم تعديد أوقات البلاء، وهي أربعة: الموتة الأولى، والحيلة في القبر.
والموتة الثانية، والحياة في القيامة فهذه الأربعة أوقات المحنة. فأما الحياة في الدنيا فليست من أقسام أوقات البلاء، فلهذا السبب لم يذكروها، فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا أي بشركنا وجحدونا بالبعث، فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ؟ أي فهل إلى خروج من النار ورجوع إلى الدنيا لنصلح أعمالنا من سبيل، أي طريق فأجاب الله تعالى لهم بقوله: ذلِكُمْ أي العذاب في النار والمقت بِأَنَّهُ أي بسبب أن الشأن إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ أي إذا عبد الله منفردا كفرتم بتوحيده، وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا أي إن يجعل له شريك تصدقوا بالإشراك. ويقال: ذلكم، أي عدم سبيل خروج لكم إنما وقع بسبب كفركم بتوحيد الله تعالى وإيمانكم بالإشراك به فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) فالله أعلى كل شيء وأكبر كل شيء بحسب القدرة والإلهية، وذلك حيث حكم عليكم بالعذاب السرمدي، هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ، أي علامات وحدانيته وقدرته وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً أي سبب رزق وهو المطر، فالله تعالى راعى مصالح أديان العباد بإظهار الآيات وراعي مصالح أبدانهم بإنزال الرزق من السماء. فالآيات لحياة
الأديان والأرزاق لحياة الأبدان، وعند حصولهما يكمل الأنعام.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وَما يَتَذَكَّرُ، أي وما يتعظ بتلك الآيات الباهرة إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) ، أي إلا من يقبل على الله بالكلية ويعرض عن غير الله فَادْعُوا اللَّهَ، أي فاعبدوا الله أيها المؤمنون، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ من الشرك ومن الالتفات إلى غير الله، وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) إخلاص العبادة منكم، رَفِيعُ الدَّرَجاتِ أي الله العظيم الصفات فهو تعالى أرفع الموجودات في جميع صفات الجلال والكمال، لأنه واجب الوجود لذاته، وهو أول وآخر لكل ما سواه، وليس له أول وآخر، وهو عالم بجميع الذوات والصفات، والكليات والجزئيات، وهو غني عن كل ما سواه، وهو واحد يمتنع أن يحصل له ضد وند، وشريك ونظير.
وقرئ «رفيع الدرجات» بالنصب على المدح. ذُو الْعَرْشِ أي مالكه ومدبره وخالقه، وهذان خبران آخران ل «هو» . يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ أي ينزل الوحي الجاري من القلوب منزلة الروح من الأجساد هو أمره تعالى، عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وهم الأنبياء، لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) ، والفاعل يعود إلى «من يشاء» وهو الملقى عليه.
وقرئ لتنذر على أن الفاعل هو الروح، لأنها قد تؤنث وهذا الفعل ينصب مفعولين محذوفين، أي لينذر من يختاره الله الناس العذاب يوم القيامة أو إن المفعول الثاني هو يوم التلاق(2/344)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30)
بدليل قراءة لينذر يوم التلاق على البناء للمفعول، ورفع «يوم» وسمي يوم القيامة بيوم التلاق، لأن الأرواح متلاقية للأجساد، ولأن الخلائق يتلاقون فيه، فيقف بعضهم على حال بعض، ولأنه يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض، ولأن كل أحد يصل إلى جزاء عمله ويلتقي فيه العابدون والمعبودون ويلتقي فيه الظالم والمظلوم، يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ أي خارجون عن بواطن القبور، وظاهرون لا يسترهم شيء من جبل وغيره، وليس عليهم ثياب، وتظهر أعمالهم وتنكشف أسرارهم، لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ فيعلم ما فعله كل واحد منهم فيجازي كلا منهم بحسبه إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشر، وينادي مناد: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ فيجيبه أهل المحشر: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) ، أي الذي قهر الخلق بالموت، فالمؤمنون يقولونه تلذذا بهذا الكلام حيث نالوا المنزلة الرفيعة، والكفار يقولونه على وجه التحسر والندامة على ما فاتهم في الدنيا، الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ برة أو فاجرة، بِما كَسَبَتْ من خير أو شر لا ظُلْمَ الْيَوْمَ بنقص ثواب، أو زيادة عذاب، أي يقال لهم: إذا أقروا بالملك يومئذ لله وحده الْيَوْمَ تُجْزى إلخ. إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17) ، إذ لا يشغله شأن عن شأن، فيحاسب الخلائق قاطبة في أقرب زمان وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ، ف «إذ» بدل من يوم الآزفة، أي وأنذرهم يوم القرب من العذاب، ومشارفتهم دخول النار، فعند ذلك ترتفع قلوبهم من أماكنها، فتلتصق بحلوقهم من شدة الخوف، كاظِمِينَ أي مغمومين يتردد الغيظ في أجوافهم، فلا يمكنهم أن ينطقوا ويبينوا خوفهم، ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ أي قريب مشفق، وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) أي ولا شفيع مقبول شفاعته، يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ أي استراق النظر إلى ما لا يحل، وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) أي مضمرات القلوب، وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ إذا علم المذنب أن الله لا يحكم إلّا بالحق في كل ما دق وجل، كان خوف المذنب من الله في الغاية القصوى. وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ أي والذين يعبدونهم من دون الله تعالى من الأوثان، لا يصنعون شيئا من الشفاعة يوم القيامة، ولا يأمرون بخير في الدنيا، فإن الكفار إنما عولوا في دفع العقاب عن أنفسهم على شفاعة هذه الأصنام، فلذلك بيّن الله تعالى أنه لا فائدة فيها ألبتة بهذه الآية.
وقرأ نافع وهشام «تدعون» بتاء الخطاب إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أي يسمع من الكفار ثناءهم على الأصنام، ويبصر سجودهم لهم ولا يسمع منهم ثناءهم على الله، ولا يبصر خضوعهم وتواضعهم لله.
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي أغفلوا ولم يسافروا في الأرض فيعتبروا بمن قبلهم فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم المكذبة لرسلهم كانُوا هُمْ أي الذين مضوا من الكفار أَشَدَّ مِنْهُمْ أي من هؤلاء الحاضرين من الكفار قُوَّةً، أي قدرة على التصرفات.(2/345)