يمكرون بغيرهم. وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ أي وإذا جاءت مشركي العرب- الوليد بن المغيرة وعبد يا ليل، وأبا مسعود الثقفي- آية من القرآن تأمرهم باتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم وتخبرهم بصنيعهم قالوا: لن نصدقك حتى يوحى إلينا ويأتينا جبريل فيخبرنا أنك رسول الله صادق. قال تعالى ردا عليهم: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ أي الله أعلم من يليق بإرسال جبريل إليه لأمر من الأمور، وهذا إعلام بأنهم لا يستحقون ذلك التشريف. وهذا المعنى قول الحسن ومنقول عن ابن عباس. وقيل: معنى الآية وإذا جاءتهم آية على صدق النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قالوا: لن نؤمن برسالته أصلا حتى نؤتى نحن من الوحي والنبوة مثل إيتاء رسل الله. قال تعالى:
إنه تعالى يعلم من يستحق الرسالة فيشرفه بها، ويعلم من لا يستحقها وأنتم لستم أهلا لها، ولأن النبوة لا تحصل لمن يطلبها خصوصا لمن عنده حسد ومكر وغدر.
وقرأ حفص وابن كثير رسالته على التوحيد. والباقون على الجمع ويستجاب الدعاء بين هاتين الجلالتين، وهذا دعاء عظيم يدعى به بينهما وهو: «اللهم من الذي دعاك فلم تجبه، ومن الذي استجارك فلم تجره ومن الذي استعان بك فلم تعنه ومن الذي توكل عليك فلم تكفه، يا غوثاه يا غوثاه يا غوثاه، بك أستغيث أغثني يا مغيث، واهدني هداية من عندك، واقض حوائجنا واشف مرضانا، واقض ديوننا، واغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا بحق القرآن العظيم والرسول الكريم برحمتك يا أرحم الراحمين» سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا أي أشركوا. وليدا أو أصحابه بقولهم:
لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله صَغارٌ أي حقارة عِنْدَ اللَّهِ أي في الآخرة فلا حاكم فيها ينفذ حكمه سواه وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124) أي بسبب مكرهم بقولهم ذلك وحسدهم للنبي وتكذيبهم له فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ أي يرشده لدينه يَشْرَحْ صَدْرَهُ أي قلبه لِلْإِسْلامِ أي لقبول الإسلام وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ أي يتركه كافرا يَجْعَلْ صَدْرَهُ أي قلبه ضَيِّقاً كضيق الزج في الرمح.
قرأه ابن كثير ساكنة الياء. والباقون مشددة الياء مكسورة حَرَجاً. قرأ نافع وأبو بكر عن عاصم بكسر الراء أي شديد الضيق. والباقون بفتحها أي مثل المواضع الكثيرة الأشجار المشتبكة التي لا طريق فيها فلا يصل إليها راعية ولا وحشية كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ أي كأنه يكلف الصعود إلى السماء. قرأه ابن كثير ساكنة الصاد، وقرأه أبو بكر عن عاصم بتشديد الصاد وبالألف. والباقون بتشديد الصاد والعين بغير ألف ومعنى الآية فمن يرد الله أن يهديه قوّى قلبه في ما يدعوه إلى الإيمان، بأن اعتقد أن نفعه زائد وخيره راجح وربحه ظاهر، فمال طبعه إليه وقويت رغبته في حصوله، وحصل في القلب استعداد شديد لتحصيله، ومن يرد أن يضله ألقى في قلبه ما يصرفه عن الإيمان ويدعوه إلى الكفر، بأن اعتقد أن شر الإيمان زائد وضرره راجح فعظمت النفرة(1/346)
عنه فإن الكافر إذا دعي إلى الإسلام شق عليه جدا كأنه قد كلف أن يصعد إلى السماء ولا يقدر على ذلك. أو المعنى كأن قلب الكافر يصعد إلى السماء تكبرا عن قبول الإسلام كَذلِكَ أي مثل جعل الله صدرهم ضيقا يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ أي يسلط الله الشيطان عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) أي في قلوبهم وَهذا أي كون الفعل متوقفا على الداعي الحاصل من الله تعالى صِراطُ رَبِّكَ أي لأن العلم بذلك يؤدي إلى العلم بتوحيد الله مُسْتَقِيماً فكل فعل العباد بقضاء الله تعالى وقدره قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ أي قد ذكرناها فصلا فصلا بحيث لا يختلط واحد منها بالآخر لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) فيعلمون أن كل ما يحدث من الحوادث خيرا كان أو شرا بقضاء الله تعالى لأنه لا يترجح أحد طرفي الممكن على الآخر إلا المرجح وهو الله تعالى لَهُمْ دارُ السَّلامِ أي للمتذكرين دار الله المنزه عن النقائص وهي الجنة عِنْدَ رَبِّهِمْ أي أنها معدة عنده تعالى موصوفة بالشرف إلى حيث لا يعرف كنهها غيره تعالى وَهُوَ وَلِيُّهُمْ أي متكفل لهم بجميع مصالحهم في الدين والدنيا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127) أي بسبب أعمالهم الصالحة وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً قلنا يا مَعْشَرَ الْجِنِّ.
وقرأ حفص بالياء أي يوم يحشر الله الخلق جميعا يقول: يا جماعة الشياطين قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أي قد أكثرتم من إغواء الإنس وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ أي وقال الذين أطاعوا الشياطين الذين هم الإنس: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ فاستمتاع الإنس بالشياطين هو أن الشياطين كانوا يدلون الإنس على أنواع الشهوات واللذات والطيبات، ويسهّلون تلك الأمور عليهم واستمتاع الشياطين بالإنس هو أن الإنس كانوا يطيعون الشياطين فيما يأمرونهم به وينقادون لحكمهم وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا أي أدركنا وقت موتنا الذي عينته لنا قالَ تعالى: النَّارُ مَثْواكُمْ أي منزلكم يا جماعة الجن والإنس خالِدِينَ فِيها أي في النار منذ تبعثون إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ من مقدار حشرهم من قبورهم ومن مقدار محاسبتهم إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) أي فيما يفعله من ثواب وعقاب وسائر وجوه المجازاة وَكَذلِكَ أي مثل تمكين الشياطين من إضلال الإنس نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ من الإنس بَعْضاً آخر منهم بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129) أي بسبب كون ذلك البعض مكتسبا للظلم.
قال علي رضي الله عنه: لا يصلح للناس إلا أمير عادل أو جائر فأنكروا قوله: أو جائز.
فقال: نعم، يؤمن السبيل ويمكن من إقامة الصلوات وحج البيت.
وروي عن ابن عباس أنه قال: إن الله تعالى إذا أراد بقوم خيرا ولى أمرهم خيارهم وإذا أراد بقوم شر ولّى أمرهم شرارهم.
وروي أن أبا ذر سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الإمارة فقال له: إنك ضعيف وإنها لأمانة وهي في القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدّى الذي عليه فيها.
مَعْشَرَ(1/347)
ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)
الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
والصحيح أن الرسل إنما كانت من الإنس خاصة وقد قام الإجماع على أن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مرسل للإنس والجن. والمراد برسل الجن هم الذين سمعوا القرآن من النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثم ولوا إلى قومهم منذرين. فالمراد بالرسل ما يعم رسل الرسل، فالله تعالى إنما بكّت الكفار بهذه الآية لأنه تعالى أزال العذر وأزاح العلة بسبب أنه أرسل الرسل إلى الكل مبشرين ومنذرين، فإذا وصلت البشارة والنذارة إلى الكل بهذا الطريق فقد حصل ما هو المقصود من إزاحة العذر وإزالة العلة يقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي أي يتلونها عليكم مع التوضيح ويُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا
أي ويخوفونكم لقاء عذابي في يومكم هذا وهو يوم الحشر الذي عاينوا فيه ما أعد لهم من أفانين العقوبات الهائلة قالُوا
عند ذلك التوبيخ الشديد شهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا أن الرسل أتونا قد بلغوا الرسالة وأنذرونا عذاب يومنا هذا وَإنما وقعوا في ذلك الكفر بسبب أنهم غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أي اغتروا من الدنيا بما في الزهرة والنعيم وشَهِدُوا في الآخرة على أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا في الدنيا كافِرِينَ (130) فيهم وإن بالغوا في عداوة الأنبياء والطعن في شرائعهم ومعجزاتهم أقروا على أنفسهم بالكفر في عاقبة أمرهم
ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131) أي شهادتهم على أنفسهم بالكفر ثابت لانتفاء كون ربك مهلك القرى بسبب ظلم فعلوه قبل أن ينبهوا على بطلانه برسول وكتاب. أو المعنى إرسال الرسل ثابت لأن الشأن لم يكن ربك مهلك أهل القرى ملتبسين بظلم وهم غافلون عن تبليغ الرسل وعن أمرهم ونهيهم وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أي ولكل عامل من الجن والإنس مراتب من أعمالهم صالحة كانت أو سيئة وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) أي فلا يترك شيئا مما يستحق كل عامل من الفريقين من الجزاء فيجزي كلا بما يليق به من ثواب أو عقاب.
وقرأ ابن عامر وحده «تعملون» على الخطاب وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ أي إن تخصيص الله المطيعين بالثواب والمذنبين بالعذاب ليس لأجل أنه تعالى محتاج إلى طاعة المطيعين أو ناقص بمعصية المذنبين فإنه تعالى غني لذاته عن جميع العالمين ومع كونه تعالى غنيا فإن رحمته عامة كاملة. ومن رحمته تعالى على الخلق ترتيب الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية. ومن رحمته تعالى إرسال الرسل وعدم استئصالهم بالهلاك بذنوبهم في وقت واحد إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أيها العصاة وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ أي ويوجد من بعد إذهابكم خلقا آخر مخالفا للجن والإنس فتخصيص الرحمة بهؤلاء ليس لأجل أنه لا يمكنه إظهار رحمته إلا بخلق هؤلاء كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) أي وينشئ الله إنشاء كائنا كإنشائكم من نسل قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم في العصيان. أي فكما أن الله تعالى قادر على تصوير هذه الأجسام بهذه الصورة الخاصة كذلك قادر على تصويرهم بصورة مخالفة لها إِنَّ ما تُوعَدُونَ من مجيء الساعة لَآتٍ أي لواقع لا بد لأنهم كانوا ينكرون القيامة(1/348)
وكل ما تعلق بالوعد من الثواب والعقاب فهو آت لا محالة وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) أي لستم بخارجين عن قدرتنا وحكمنا. قُلْ يا أشرف الخلق لكفار قريش: يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي على أقصى إمكانكم واستطاعتكم واثبتوا على حالتكم من الكفر والعداوة إِنِّي عامِلٌ بما أمرت به من الثبات على حالتي من الإسلام والمصابرة فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ أي فسوف تعرفون أي أحد الفريقين له العاقبة المحمودة وهي الاستراحة واطمئنان الخاطر أنحن أم أنتم وذلك حاصلة في الجنة.
وقرأ حمزة والكسائي «من يكون» بالياء إِنَّهُ أي الشأن لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) أي لا يفوز الكافرون بمطالبهم ألبتة فلا ينجون من عذاب الله تعالى وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ أي عين كفار مكة لله مما خلقه من الحرث والأنعام، وكذا من الثمار وسائر أموالهم نصيبا يصرفونه إلى الضيفان والمساكين ونصيبا من ذلك لآلهتهم وينفقونه على سدنتها ويذبحون ذبائح عندها فقالوا: هذا لله بكذبهم في جهة أنه تعالى يستحق ذلك من جهتهم لا في وجه التقرب به إليه وهذا لآلهتنا، ثم إن رأوا ما عينوه لله أزكى بدلوه بما لآلهتهم فأعطوا نصيب الله لسدنة الأصنام، وإن رأوا ما لآلهتهم أزكى تركوه لها فلم يصرفوه للمساكين بل يصرفونه للسدنة وكان إذا أصابهم قحط استعانوا بما جعلوه وأكلوا منه ووفروا ما جعلوه لآلهتهم ولم يأكلوا منه فإذا هلك ما جعلوه لها أخذوا بدله مما جعلوه لله ولا يفعلون كذلك فيما جعلوه لها وإن سقط مما جعلوه لله في نصيب الأوثان تركوه وقالوا: إن الله غني عن هذا وإن سقط مما جعلوه للأوثان في نصيب الله أخذوه وردوه إلى نصيب الصنم وقالوا: إنه فقير ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136) أي بئس الذي يحكمون حكمهم من أنهم رجحوا جانب الأصنام على جانب الله ومن أنهم جعلوا شيئا لغير الله تعالى مع أن الله تعالى الخالق للجميع ومن أنهم أحدثوا الحكم من قبل أنفسهم ولم يشهد بصحته عقل ولا شرع وَكَذلِكَ أي مثل ذلك التزيين وهو تزيين الشرك في قسمة الأموال بين الله والآلهة زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ بوأد إناثهم ونحر ذكورهم شُرَكاؤُهُمْ أي أولياؤهم من الشياطين ومن السدنة.
قرأ العامة زين مبنيا للفاعل. وقتل نصبا على المفعولية وأولادهم خفضا بالإضافة وشركاؤهم رفعا على الفاعل. أي وهكذا زين لهم شياطينهم قتل أولادهم فأمروا بأن يئدوا بناتهم خشية الفقر والسبي وبأن ينحروا ذكورهم لآلهتهم، فكان الرجل في الجاهلية يقوم فيحلف بالله لئن ولد له كذا من الذكور لينحرن أحدهم. كما حلف عبد المطلب لينحرن عبد الله. وقرأ ابن(1/349)
عامر وحده «زين» مبنيا للمفعول و «قتل» رفعا على الفاعلية، وأولادهم نصبا على المفعولية وشركائهم خفضا على إضافة المصدر إلى فاعله أي زين لكثير من المشركين قتل شركائهم أولادهم وهذه القراءة متواترة صحيحة، فقد قرأ ابن عامر على أبي الدرداء، وواثلة بن الأسقع، وفضالة بن عبيد، ومعاوية بن أبي سفيان، والمغيرة المخزومي. وقرأ أيضا على عثمان وولد هو في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لِيُرْدُوهُمْ أي يهلكوهم بالإغواء وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ أي وليخلطوا عليهم من دين إسماعيل عليه السلام أي ليدخلوا عليهم الشك في دِينَهُمْ لأنهم كانوا على دين إسماعيل فهذا الذي أتاهم بهذه الأوضاع الفاسدة أراد أن يزيلهم عن ذلك الدين الحق، واللام للتعليل إن كان التزيين من الشياطين وللعاقبة إن كان من السدنة وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ أي ما فعل كثير من المشركين قتل الأولاد بدفن البنات في حياتها وبنحر الأولاد الذكور للأصنام فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137) أي فاتركهم وكذبهم في قولهم: إن الله يأمرهم بقتل أولادهم فإن في ما شاء الله تعالى حكما بالغة وذلك دليل على أن كل ما فعله المشركون فهو بمشيئة الله تعالى وَقالُوا أي المشركون الذين قسموا نصيب آلهتهم أقساما ثلاثة هذِهِ أي التي جعلناها للآلهة أَنْعامٌ وَحَرْثٌ أي زروع حِجْرٌ أي محرمة لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ أي لا يأكل هذه الأنعام والحرث إلا خدمة الأوثان والرجال دون النساء بِزَعْمِهِمْ أي قالوا: ما ذكر ملتبسين بكذبهم ومن غير حجة وَهذه أَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وهي البحائر والسوائب والحوامي والوصائل وَهذه أَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا إذا ركبت وإذا حملت، وإذا ذبحت ونسبوا ذلك التقسيم إلى الله تعالى افْتِراءً عَلَيْهِ وهذا إما مفعول له وعامله قالوا أو حال من ضميره أو مصدر مؤكد له لأن قولهم ذلك هو الافتراء سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138) أي إن الله سيكافئهم بسبب تقولهم عليه وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ أي ما ولد من البحائر والسوائب حيا حلال للذكور خاصة ومحرم على جنس أزواجنا وهي الإناث وما ولد منها ميتا أكله الرجال والنساء جميعا سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ أي سيوصل الله لهم جزاء ذنوبهم وهو وصفهم بالتحليل والتحريم. فالواصف بذلك عمرو بن لحي وقدر رآه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في جهنم يجر قصبه من دبره وكان يعلمهم تحريم الأنعام إِنَّهُ حَكِيمٌ في التحليل والتحريم عَلِيمٌ (139) في وصفهم بذلك قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ بالوأد للبنات وبالنحر للذكور سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وهم ربيعة ومضر وأمثالهم من العرب وبنو كنانة لا يفعلون ذلك وسبب هذا الخسران لأن الولد نعمة عظيمة من الله على العبد فإذا سعى في إبطاله استحق الذم العظيم في الدنيا، لأن الناس يقولون: قتل ولده خوفا من أن يأكل طعامه والعقاب العظيم في الآخرة وسببه خفة العقل لأن قتل الولد إنما يكون للخوف من الفقر والقتل أعظم ضررا منه، والقتل ناجز والفقر موهوم وهذه السفاهة إنما نشأت من الجهل الذي هو أعظم المنكرات.(1/350)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
وقرأ أبو عمرو وابن عامر بتشديد التاء وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140) فإن تحريم الحلال من أعظم أنواع الحماقة لأنه يمنع نفسه تلك المنافع ويستحق ذلك المنع أعظم أنواع العقاب أو أن الجراءة على الله أعظم الذنوب وهم قد ضلوا عن الرشد في مصالح الدين ومنافع الدنيا ولم يحصل لهم الاهتداء قط
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ أي وهو الذي خلق بساتين مرفوعات على ما يحملها من العروش والساق وملقيات على وجه الأرض ويقال: معروشات أي وهو ما غرسه الناس في البساتين وغير معروشات وهو ما أنبته الله في الجبال والبراري وَأنشأ النَّخْلَ وَالزَّرْعَ أي جميع الحبوب التي يقتات بها مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ أي مختلف المأكول من كل منهما في الهيئة والطعم وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ أي أنشأ شجرهما مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ في اللون أو الطعم كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ أي ثمر كل واحد من ذلك إِذا أَثْمَرَ ولو قبل النضج.
وقرأ حمزة والكسائي برفع الثاء والميم من ثمره وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وعاصم بفتح الحاء أي اعزموا على إيتاء الزكاة لكل من الزروع والثمار يوم الحصاد، ولا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء وإنما يجب إخراج الزكاة بعد التصفية والجفاف والأمر بإيتائها يوم الحصاد لئلا يؤخر عن وقت إمكان الأداء وليعلم أن وجوبها بالإدراك ولو في البعض لا بالتصفية. والمعنى آتوا حق كل ما وجب يوم الحصاد بعد التصفية وفائدة ذكر الحصاد أن الحق لا يجب بنفس الزرع وإدراكه وإنما يجب يوم حصاده وحصوله في يد مالكه لا فيما يتلف من الزرع قبل حصوله في يد مالكه وهذا يقتضي وجوب الزكاة في الثمار كما قاله أبو حنيفة ويقتضي ثبوت حق في القليل والكثير فالعشر واجب في القليل والكثير كما قاله أبو حنيفة وَلا تُسْرِفُوا أي لا تجاوزوا الحد في الإعطاء والبخل حتى تمنعوا الواجب من الصدقة وتعطوا كله.
وروي أن ثابت بن قيس بن شماس عمد إلى خمسمائة نخلة فجذها ثم قسمها في يوم واحد ولم يدخل منها إلى منزله شيئا فأنزل الله هذه الآية ولا تسرفوا وقد جاء
في الخبر: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول»
«1» إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) فكل مكلف لا يحبه الله تعالى فهو من أهل النار وَأنشأ مِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً أي ما يحمل الأثقال وَفَرْشاً أي ما يفرش للذبح أو ما ينسج من وبره وصوفه وشعره للفرش كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي كلوا بعض ما رزقكم الله وهو
__________
(1) رواه النسائي في كتاب الزكاة، باب: أيّ الصدقة أفضل، ومسلم في كتاب الزكاة، باب: 41.(1/351)
ما أحل الله لكم من الحرث والأنعام وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي ولا تسلكوا الطريق الذي يسوله لكم الشيطان بتحريم الحرث والأنعام إِنَّهُ أي الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) أي ظاهر العداوة فقد أخرج آدم من الجنة. وقال: لأحتنكن ذريته إلا قليلا ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ أي أصناف أربعة ذكور من كل من الإبل والبقر والغنم، وأربعة إناث كذلك وهذا بدل من حمولة وفرشا مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ بدل من ثمانية أزواج أي أنشأ من الضأن زوجين الكبش والنعجة وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ أي من المعز زوجين التيس والعنز قُلْ لهم إظهارا لانقطاعهم عن الجواب آلذَّكَرَيْنِ من ذينك النوعين وهما الكبش والتيس حَرَّمَ أي الله تعالى كما تزعمون أنه هو المحرم أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ وهما النعجة والعنز أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أي أم ما حملت به إناث النوعين حرم الله تعالى ذكرا كان أو أنثى نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ أي أخبروني بعلم ناشئ عن طريق الإخبار من الله بأنه حرم ما ذكر إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) في دعواكم إن الله حرم بحيرة أو سائبة أو وصيلة أو حاما وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ أي وأنشأ من الإبل اثنين الجمل والناقة وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ذكرا وأنثى قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ من ذينك النوعين أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا أي بل أكنتم حاضرين حين أمركم الله بهذا التحريم. والمراد هل شاهدتم الله حرم هذا إن كنتم لا تؤمنون برسول فإنكم لا تقرون بنبوة أحد من الأنبياء فكيف تثبتون هذه الأحكام وتنسبونها إلى الله تعالى فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي لا أحد أظلم ممن تعمد على الله كذبا بنسبة التحريم إليه.
قال المحققون: إذا ثبت أن من افترى على الله الكذب في تحريم مباح استحقّ هذا الوعيد الشديد فمن افترى على الله الكذب في مسائل التوحيد ومعرفة الذات والصفات والنبوات والملائكة ومباحث المعاد كان وعيده أشد وأشق لِيُضِلَّ النَّاسَ عن دين الله بِغَيْرِ عِلْمٍ حال من فاعل يضل أي ملتبسا بغير علم بما يؤدي بهم إليه أو حال من فاعل افترى. أي افترى عليه تعالى جاهلا بصدور التحريم عنه تعالى. أي فمن افترى عليه تعالى جاهلا بصدور التحريم عنه تعالى مع احتمال الصدور عنه كان أظلم ظالم فما ظنك بمن افترى عليه تعالى وهو يعلم أنه لم يصدر عنه إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) أي لا يهدي أولئك المشركين أي لا ينقلهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ أي قل يا أشرف الخلق لهؤلاء الجهلة الذين يحكمون بالحلال والحرام من عند أنفسهم لا أجد في القرآن طعاما محرما من المطاعم التي حرمتموها على آكل بأكله من ذكر أو أنثى إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً.
قرأ ابن كثير وحمزة «تكون» بالتأنيث «ميتة» بالنصب على تقدير إلا أن تكون المحرمة ميتة. وقرأ ابن عامر «تكون» بالتأنيث «ميتة» بالرفع على معنى إلا أن توجد ميتة أو إلا أن تكون(1/352)
هناك ميتة. وقرأ الباقون «يكون» بالتذكير «ميتة» بالنصب أي إلا أن يكون ذلك المحرم ميتة.
وعلى قراءة ابن عامر يكون ما بعد هذا معطوفا على أن يكون الواقعة مستثناة أي إلا حدوث ميتة أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أي جاريا كالدماء التي في العروق لا كالطحال والكبد أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ أي الخنزير رِجْسٌ أي نجس فكل نجس يحرم أكله أَوْ فِسْقاً أي ذبيحة خارجة عن الحلال أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي ذبح على اسم الأصنام فَمَنِ اضْطُرَّ أي فمن أصابه الضرورة الداعية إلى أكل الميتة غَيْرَ باغٍ في ذلك على مضطر مثله وَلا عادٍ أي متجاوز قدر الضرورة وهو الذي يسد الرمق فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) أي فلا يؤاخذه ربك بالأكل من ذلك لأنه مبالغ في المغفرة والرحمة وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ أي وحرمنا على اليهود كل ذي مخلب وبرثن وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما وهو شحم الكرش والكلى إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أي إلا الشحم الذي حملته ظهورهما أَوِ الْحَوايا أي أو إلا الشحم الذي حملته المباعر أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ أي أو إلا شحما مختلطا بعظم مثل شحم الألية فإنه متصل بالعصعص فتلخص أن الذي حرم عليهم من الشحوم هو شحم الكرش والكلى وأن ما عدا ذلك حلال لهم ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ أي ذلك التحريم عاقبناهم بسبب ظلمهم وهو قتلهم الأنبياء وأخذهم الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146) في الإخبار عن تخصيصهم بهذا التحريم بسبب بغيهم وهم كاذبون في قولهم حرم ذلك إسرائيل على نفسه بلا ذنب منا فنحن مقتدون به فَإِنْ كَذَّبُوكَ أي فإن كذبك اليهود في الحكم المذكور، أو كذبك المشركون في ادعاء النبوة والرسالة وفي تبليغ هذه الأحكام فَقُلْ لهم: رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ فلذلك لا يعجل عليكم بالعقوبة على تكذيبكم فلا تغتروا بذلك فإنه إمهال لا إهمال وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ أي عقابه إذا جاء وقته عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) الذين كذبوك فيما تقول. وقيل: المعنى ذو رحمة واسعة للمطيعين وذو بأس شديد للمجرمين سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا عنادا لا اعتذارا عن ارتكاب هذه القبائح لَوْ شاءَ اللَّهُ عدم إشراكنا وعدم تحريمنا ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ ففعلنا حق مرضى عند الله تعالى ولولا أنه تعالى رضي ما نحن فيه لحال بيننا وبينه كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي مثل ما كذبك هؤلاء في أن الله منع من الشرك ولم يحرم ما حرموه كذب كفار الأمم الماضية أنبياءهم، فكل من كذب نبيا قال الكل بمشيئة الله تعالى فهذا الذي أنا فيه من الكفر إنما حصل بمشيئة الله تعالى فلم يمنعني منه، وفي قراءة بتخفيف كذب أي مثل كذبهم في قولهم: إن ما فعلوه حق مرضي عند الله تعالى كذب من قبلهم في ذلك حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا أي عذابنا الذي أنزلنا عليهم بتكذيبهم الرسل وبكذبهم في قولهم إن الله أمرنا بالشرك قُلْ لهؤلاء المشركين: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ أي بيان على ما تقولون من تحريم ما حرمتم ومن أن الله راض بشرككم فَتُخْرِجُوهُ أي فتظهروه لَنا كما بينا لكم خطأ قولكم وفعلكم(1/353)
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)
إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أي ما تتبعون فيما أنتم عليه إلا الظن الباطل الذي لا يغني من الحق شيئا وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) أي وما أنتم في ذلك إلا تكذبون على الله تعالى قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ أي قل لهم إن لم تكن لكم حجة فلله الحجة الواضحة التي تقطع عذر المحجوج وتزيل الشك عمن نظر فيها وهي إنزال الكتب وإرسال الرسل فَلَوْ شاءَ هدايتكم جميعا إلى الحجة البالغة لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149) ولكن لم يشأ هداية الكل بل هداية البعض. قُلْ يا أكرم الرسل لهم: هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا أي أحضروا قدوتكم الذين ينصرون قولكم إن الله حرم الذي حرمتموه فَإِنْ شَهِدُوا بعد حضوهم بأن الله حرم ذلك فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ أي فلا تصدقهم فيما يقولون بل بيّن لهم فساده لأن السكوت قد يشعر بالرضا وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) أي إن وقع منهم شهادة فإنما هي باتباع الهوى فلا تتبع أنت أهواءهم فهم كذبوا بالقرآن ولا يؤمنون بالبعث بعد الموت ويجعلون لله تعالى عديلا.
قُلْ يا أكرم الرسل لمن سألك أي شيء حرم الله وهم مالك بن عوف وأصحابه: تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ في الكتاب الذي أنزل، «على» مفسرة لفعل التلاوة أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ أي بربكم شَيْئاً من الإشراك وَبِالْوالِدَيْنِ أي وأحسنوا بهما إِحْساناً ولم يقل الله ولا تسيئوا الوالدين لأن مجرد عدم تلك الإساءة إليهما غير كاف في قضاء حقوقهما وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ أي من خوف الفقر وكانوا يدفنون البنات أحياء فبعضهم للغيرة وبعضهم لخوف الفقر وهذا هو السبب الغالب فبين تعالى فساد هذه العلة بقوله: نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ أي أولادكم وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ أي الزنا ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ أي ما يفعل منها علانية في الحوانيت كما هو دأب أراذلهم وما يفعل سرا باتخاذ الأخدان كما هو عادة أشرافهم، وجمع الفواحش للنهي عن أنواعها ولذلك ذكر ما أبدل عنها بدل اشتمال، وتوسيط النهي عن الزنا بين النهي عن قتل الأولاد والنهي عن القتل مطلقا، لأنه في حكم قتل الأولاد فإن أولاد الزنا في حكم الأموات. وقد
قال صلّى الله عليه وسلّم في حق العزل: «ذاك وأد خفي»
«1» . وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قتلها بكونها معصومة بالإسلام أو بالعهد إِلَّا بِالْحَقِّ أي إلا قتلا ملتبسا بالحق وهو أن يكون القتل للقصاص أو للردة أو للزنا بشرطه ذلِكُمْ أي التكاليف الخمسة وَصَّاكُمْ بِهِ أي أمركم به ربكم أمرا مؤكدا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) أي لكي تعقلوا فوائد هذه التكاليف في الدين والدنيا وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
أي إلا بالخصلة التي هي أحسن لليتيم كحفظه وتحصيل الربح به حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
أي قوته مع الرشد
__________
(1) رواه مسلم في كتاب النكاح، باب: 141، وابن ماجة في كتاب النكاح، باب: الغيل، وأحمد في (م 6/ ص 361) .(1/354)
ومبدؤه من البلوغ وانتهاؤه إلى الثلاثة والثلاثين وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ
أي أتموا الكيل بالمكيال والوزن بالميزان بالعدل من غير نقصان من المعطي ومن غير طلب الزيادة من صاحب الحق لا نُكَلِّفُ نَفْساً
عند الكيل والوزن إِلَّا وُسْعَها
أي إلا طاقتها في الإيفاء والعدل فإن الواجب في إيفاء الكيل والوزن هو القدر الممكن في إيفائهما أما التحقيق فغير واجب وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى
أي ولو كان القول على ذي قرابة منكم فإذا دعا شخص إلى الدين وأقام الدليل عليه ذكر الدليل ملخصا عن الزيادة بألفاظ معتادة، وإذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فلا ينقص عن القدر الواجب ولا يزيد في الإيذاء والإيحاش، وإذا حكى الحكايات فلا يزيد فيها ولا ينقص عنها، وإذا بلغ الرسالات عن الناس فيجب أن يؤديها من غير زيادة ولا نقصان، وإذا حكم فيجب أن يحكم بالعدل وأن يسوى في القول بين القريب والبعيد وذلك لطلب رضا الله تعالى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا
أي أتموا ما عاهدتم الله عليه من الأيمان والنذور وغيرهما ذلِكُمْ
أي التكاليف الأربعة وَصَّاكُمْ بِهِ
أي أمركم به أمرا مؤكدا لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
(152) ولما كانت التكاليف الخمسة في الآية الأولى أمورا ظاهرة مما يجب تفهمها ختمت بقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ولما كانت هذه التكاليف الأربعة غامضة لا بدّ فيها من الاجتهاد في الفكر حتى يقف على موضع الاعتدال ختمت بقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
وحصل ما ذكر في هاتين الآيتين من المحرمات تسعة أشياء خمسة بصيغ النهي وأربعة بصيغ الأمر وتؤول الأوامر بالنهي لأجل التناسب وهذه الأحكام لا تختلف باختلاف الأمم والأعصار وَأَنَّ هذا أي الذي بيّنه الرسول صلّى الله عليه وسلّم من دين الإسلام صِراطِي أي ديني مُسْتَقِيماً أي لا اعوجاج فيه.
قرأ ابن عامر و «أن هذا» بفتح الهمزة وسكون النون، فأصلها وأنه هذا فالهاء ضمير الشأن والحديث وهو اسم إن والجملة التي بعده خبره. وقرأ حمزة والكسائي و «إن» بكسر الهمزة وتشديد النون فالتقدير اتل ما حرم واتل إن هذا بمعنى قل. وقرأ الباقون بفتح الهمزة وتشديد النون والتقدير واتل عليهم إن هذا صراطي مستقيما فَاتَّبِعُوهُ أي هذا الصراط وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ المخالفة لدين الإسلام فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ أي فتميل بكم هذه السبل عن سبيل الله الذي لا اعوجاج فيه وهو دين الإسلام.
وعن ابن مسعود قال: خط لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما خطا ثم قال:
«هذا سبيل الله» ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ثم قال: «هذه سبل على كل منها شيطان يدعو إليها»
«1» ذلِكُمْ أي اتباع دين الله وَصَّاكُمْ بِهِ في الكتاب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) اتباع الكفر والضلالات ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي ثم بعد تعديد المحرمات وغيرها من
__________
(1) رواه الدارمي في المقدمة، باب: في كراهية أخذ الرأي، وأحمد في (م 1/ ص 435) .(1/355)
الأحكام إني أخبركم أنا أعطينا موسى التوراة تَماماً أي لأجل تمام نعمتنا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ أي على من أحسن العمل بأحكامه كما يدل عليه قراءة عبد الله على الذين أحسنوا. وقرأ يحيى بن يعمر بالرفع بحذف المبتدأ أي على الذي هو أحسن دينا كقراءة من قرأ مثلا ما بعوضة بالرفع وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ أي ولبيان كل ما يحتاج إليه في الدين فيدخل في ذلك بيان نبوة سيدنا محمد ودينه وَهُدىً من الضلالة وَرَحْمَةً من العذاب لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) أي لكي يؤمن بنو إسرائيل بلقاء ما وعدهم الله به من ثواب وعقاب وَهذا أي الذي تلوت عليكم كِتابٌ أي قرآن أَنْزَلْناهُ إليكم بلسانكم مُبارَكٌ أي كثير المنافع دينا ودنيا لا يتطرق إليه النسخ فَاتَّبِعُوهُ أي فاتبعوا يا أهل مكة ما فيه من الأوامر والنواهي والأحكام وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أي اتقوا مخالفته على رجاء الرحمة أَنْ تَقُولُوا أي أنزلناه كراهة أن تقولوا يوم القيامة إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ وهو التوراة والإنجيل عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وهم اليهود والنصارى وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أي وإنه كنا عن قراءتهم لجاهلين فلا ندري ما في كتابهم إذا لم يكن بلغتنا. والمراد بهذه الآيات إثبات الحجة على أهل مكة بإنزال القرآن على سيدنا محمد كي لا يقولوا يوم القيامة: إن التوراة والإنجيل أنزلا على اليهود والنصارى ولا نعلم ما فيهما، فقطع الله عذرهم بإنزال القرآن عليهم بلغتهم أَوْ تَقُولُوا أي لا عذر لكم في القيامة بقولكم لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ كما أنزل على اليهود والنصارى لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ أي أصوب دينا منهم وأسرع إجابة للرسول منهم فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ أي لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم قرآن من ربكم فإنه بيان فيما يعلم سمعا وهو هدى فيما يعلم سمعا وعقلا وهو نعمة في الدين فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها أي لا أحد أجرأ على الله ممن كذب بالقرآن ومحمد صلّى الله عليه وسلّم ومال عن سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ أي شدته بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157) أي بسبب إعراضهم هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أي ما ينتظر أهل مكة إلا أحد هذه الأمور الثلاثة أي فلا يؤمنون بك إلا إذا جاءهم أحد هذه الأمور.
وقرأ حمزة والكسائي على التذكير أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أي بحسب ما اقترحوا بقولهم لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا. وهم كانوا كفارا، واعتقاد الكافر ليس بحجة. وقيل: المراد بالملائكة ملائكة الموت لقبض أرواحهم وبإتيان الله تعالى إتيان كل آياته بمعنى آيات القيامة كلها. وقيل: أو يأتي ربك يوم القيامة بلا كيف أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ أي بعض علامات ربك الدالة على قرب الساعة وهي عشرة وهي العلامات الكبرى وهي الدجّال، والدابة، وخسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، والدخان، وطلوع الشمس من مغربها، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى، ونار تخرج مني عدن تسوق إلى المحشر يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ وهو طلوع الشمس من مغربها لا يَنْفَعُ نَفْساً كافرة إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أي قبل(1/356)
إتيان بعض الآيات أَوْ نفسا مؤمنة عاصية توبتها لم تكن كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً فحكم الإيمان والعمل الصالح حين طلوع الشمس من المغرب حكم من آمن أو عمل عند الغرغرة وذلك لا يفيد شيئا، أما من كان يومئذ مذنبا فتاب، أو صغيرا أو مولودا بعد ذلك فإنه ينفع توبتهم وإيمانهم وعملهم كما قاله ابن عباس.
روي عن ابن عباس أنه قال: لا تزال الشمس تجري من مطلعها إلى مغربها حتى يأتي الوقت الذي جعله الله غاية لتوبة عباده، فتستأذن الشمس من أين تطلع ويستأذن القمر من أين يطلع، فلا يؤذن لهما، فيحبسان مقدار ثلاث ليال للشمس وليلتين للقمر فلا يعرف مقدار حبسهما إلا قليل من الناس، وهم أهل الأوراد وحملة القرآن فينادي بعضهم بعضا فيجتمعون في مساجدهم بالتضرع والبكاء والصراخ بقية تلك الليلة، فبينما الناس كذلك إذ نادى مناد ألا أن باب التوبة قد أغلق والشمس والقمر قد طلعا من مغاربهما ويتصايح أهل الدنيا وتذهل الأمهات عن أولادها، وتضع كل ذات حمل حملها، فأما الصالحون والأبرار فإنهم ينفعهم بكاؤهم يومئذ ويكتب لهم عبادة وأما الفاسقون والفجار فلا ينفعهم بكاؤهم يومئذ ويكتب عليهم حسرة.
قال عمر بن الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم: وما باب التوبة يا رسول الله؟ فقال: «يا عمر خلق الله بابا للتوبة جهة المغرب فهو من أبواب الجنة له مصراعان من ذهب مكللان بالدر والجواهر ما بين المصراع إلى المصراع مسيرة أربعين عاما للراكب المسرع فذلك الباب مفتوح منذ خلقه الله تعالى إلى صبيحة تلك الليلة عند طلوع الشمس والقمر من مغاربهما ولم يتب عبد من عباد الله توبة نصوحا من لدن آدم إلى ذلك اليوم إلا ولجت تلك التوبة في ذلك الباب» . قال أبي بن كعب: يا رسول الله فكيف بالشمس والقمر بعد ذلك! وكيف بالناس والدنيا؟ فقال: «يا أبي إن الشمس والقمر يكسيان بعد ذلك ضوء النار، ثم يطلعان على الناس ويغربان كما كانا قبل ذلك، وأما الناس بعد ذلك فيحلون على الدنيا ويعمرونها ويجرون فيها الأنهار ويغرسون فيها الأشجار، ويبنون فيها البنيان، ثم تمكث الدنيا بعد طلوع الشمس من مغربها مائة وعشرين سنة السنة منها بقدر شهر، والشهر بقدر جمعة، والجمعة بقدر يوم واليوم بقدر ساعة. ويتمتع المؤمنون بعد ذلك أربعين سنة لا يتمنون شيئا إلا أعطوه حتى تتم أربعون سنة بعد الدابة، ثم يعود فيهم الموت ويسرع فلا يبقى مؤمن ويبقى الكفار يتهارجون في الطرق كالبهائم حتى ينكح الرجل المرأة في وسط الطريق يقوم واحد عنها وينزل واحد وأفضلهم من يقول لو تنحيتم عن الطريق لكان أحسن»
«1» .
وروي عن أنس أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «صبيحة تطلع الشمس من مغربها يصير في
__________
(1) رواه الطبري في التاريخ (1: 73) .(1/357)
هذه الأمة قردة وخنازير وتطوى الدواوين وتجف الأقلام لا يزاد في حسنة ولا ينقص من حسنة، ولا ينفع نفسا إيمانها، لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا»
«1» قُلِ انْتَظِرُوا ما تنتظرونه من إتيان أحد الأمور الثلاثة إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) لذلك لنشاهد ما يحل بكم من سوء العاقبة.
والمراد بهذا إن المشركين إنما يمهلون قدر مدة الدنيا فإذا ماتوا أو ظهرت الآيات لم ينفعهم الإيمان وحلّت بهم العقوبة اللازمة أبدا إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً أي أحزابا في الضلالة لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ أي لست من البحث في تفريقهم فأنت منهم بريء وهم منك برآء، ولست من قتالهم في هذا الوقت في شيء إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ أي يدبره كيف يشاء يؤاخذهم في الدنيا متى شاء ويأمركم بقتالهم إذا أراد ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159) أي ثم يظهر الله لهم يوم القيامة على رؤوس الأشهاد ويعلمهم أيّ شيء شنيع كانوا يفعلونه في الدنيا، ويرتب عليه ما يليق به من الجزاء. والمراد بهؤلاء المفرقين الخوارج كما
أخرجه ابن أبي حاتم من حديث أبي أمامة: «أو هم أصحاب البدع والأهواء» كما أخرجه الطبراني من حديث عائشة.
وقال قتادة: هم اليهود والنصارى كما أخرجه عبد الرزاق وكما أخرج ابن أبي حاتم عن السدي وقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلهم في الهاوية إلا واحدة، وافترقت النصارى اثنين وسبعين فرقة كلهم في الهاوية إلا واحدة واستثناء الواحدة من فرق أهل الكتابين إنما هو باعتبار ما قبل النسخ وأما بعده فالكل في الهاوية وإن اختلفت أسباب دخولهم وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في الهاوية إلا واحدة» «2» . رواه أبو داود والترمذي والحاكم.
وقرأ حمزة والكسائي «فارقوا» بالألف أي باينوا بأن تركوا بعض دين آبائهم. والباقون فرقوا بالتشديد أي اختلفوا في دينهم كما اختلف المشركون بعضهم يعبدون الملائكة ويزعمون أنهم بنات الله وبعضهم يعبدون الأصنام ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله وبعضهم يعبدون الكواكب مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ أي من جاء يوم القيامة بالأعمال الحسنة من المؤمنين فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها أي فله جزاء عشر أمثالها وهذا أقل ما وعد من الأضعاف فالمراد بالعشرة الأضعاف.
مطلقا لا بالتحديد وقد جاء الوعد بسبعين وبسبعمائة وبغير حساب ولذلك قيل: المراد بذكر العشر بيان الكثرة لا الحصر في العدد الخاص وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ أي بالأعمال السيئة فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها أي الأجزاء السيئة الواحدة إن جوزي وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (160) أي لا ينقصون من ثواب
__________
(1) رواه السيوطي في الدر المنثور (3: 59) .
(2) رواه أبو داود في كتاب السنّة، باب: شرح السنّة، والترمذي في كتاب الإيمان، باب: 18، وابن ماجة في كتاب الفتن، باب: افتراق الأمم، وأحمد في (م 2/ ص 332) .(1/358)
قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
طاعتهم ولا يزادون في عقاب سيئاتهم
قُلْ يا أشرف الخلق للمشركين الذين يدعون أنهم على ملة إبراهيم من أهل مكة واليهود والنصارى: إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي أرشدني ربي بالوحي وبما نصب من الآيات التكوينية في الأنفس وفي السموات والأرض إلى طريق حق دِيناً قِيَماً أي لا عوج فيه.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح القاف وكسر الياء مشددة. والباقون بكسر القاف وفتح الياء مخففة، وهو مصدر كالصغر والكبر والحول والشبع أي دينا ذا قيم أي صدق مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً أي مائلا عن الضلالة إلى الاستقامة وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) وقوله تعالى: دِيناً بدل من محل صراط لأن محله النصب على أنه مفعول ثان أو مفعول لفعل مقدر والتقدير ألزموا دينا وقوله تعالى: مِلَّةَ إِبْراهِيمَ عطف بيان ل «دينا» وحَنِيفاً حال من «إبراهيم» وكذا «وما كان» فهو عطف حال على أخرى قُلْ إِنَّ صَلاتِي أي الصلوات الخمس وَنُسُكِي أي ذبيحتي وجمع بين الصلاة والذبح كما في قوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر: 2] . أو المعنى وكل ما تقربت به إلى الله تعالى فإن معنى الناسك من صفّا نفسه من دنس الآثام وَمَحْيايَ وَمَماتِي أي وما أنا عليه في حياتي وما أكون عليه عند موتي من الإيمان والطاعة لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) أي إن صلاتي وسائر عبادتي وحياتي ومماتي كلها واقعة بخلق الله تعالى وتقديره وقضائه وحكمه لا شَرِيكَ لَهُ في الخلق والتقدير وَبِذلِكَ أي وبهذا التوحيد أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) أي المستسلمين لقضاء الله وقدره فإنه صلّى الله عليه وسلّم أول من أجاب ببلى يوم العهد لسؤال الله تعالى ألست بربكم، أو المعنى وأنا أول المنقادين لله من أهل ملتي وهذا بيان لمسارعته صلّى الله عليه وسلّم إلى الامتثال بأمر الله. قُلْ يا أشرف الرسل للكفار الذين قالوا لك ارجع إلى ديننا أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا أي أأعبد ربا غير الله وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ أي والحال أن الله رب كل شيء مع أن الذين اتخذوا ربا غير الله أقروا بأن الله خالق الأشياء كما قال تعالى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزمر: 64] وأصناف المشركين أربعة عبدة الأصنام فهم معترفون بأن الله هو الخالق للسموات والأرض وللأصنام بأسرها وعبدة الكواكب فهم معترفون بأن الله خالقها، والقائلون بيزدان وأهرمن فهم معترفون بأن الشيطان محدث وأن محدثه هو الله والقائلون: بأن المسيح ابن الله والملائكة بناته فهم معترفون بأن الله خالق الكل، وإذا ثبت هذا فنقول: العقل الخالص يشهد بأنه لا يجوز جعل المربوب شريكا للرب وجعل المخلوق شريكا للخالق وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ ذنبا إِلَّا عَلَيْها أي الإحالة كونه مستعليا عليها بالمضرة أو حالة كونه مكتوبا عليها لا على غيرها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي ولا تحمل نفس آثمة ولا غير آثمة إثم نفس أخرى، فلا تحمل نفس طائعة أو عاصية ذنب غيرها، وإنما قيد في الآيات بالوازرة موافقة لسبب النزول وهو أن الوليد بن المغيرة كان يقول للمؤمنين: اتبعوا سبيلي أحمل عنكم أوزاركم ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ أي إلى مالك أموركم(1/359)
مَرْجِعُكُمْ أي رجوعكم يوم القيامة فَيُنَبِّئُكُمْ يومئذ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) من الأديان في الدنيا وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ أي جعلكم يخلف بعضكم بعضا في الأرض وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ في الشرف والرزق فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ كثرة متفاوتة فجعل الله منهم الحسن والقبيح، والغني والفقير، والشريف والوضيع، والعالم والجاهل، والقوي والضعيف، وإظهار هذا التفاوت ليس لأجل العجز والجهل والبخل فإنه تعالى منزه عن ذلك وإنما هو لأجل الامتحان وهو المراد من قوله لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ أي ليعاملكم معاملة المختبر فيما أعطاكم من الجاه والمال والفقر أيكم يشكر وأيكم يصبر وهو أعلم بأحوال عباده منهم. والمراد من الابتلاء هو التكليف، ثم إن المكلف إما أن يكون مقصرا فيما كلف به أو موفرا فيه فإن كان مقصرا كان نصيبه من التخويف قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ لمن كفر به ولا يشكره ووصف العقاب بالسرعة لأن ما هو آت قريب، وإن كان المكلف موفرا في الطاعات كان نصيبه من الترغيب قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165) لمن راعى حقوق ما أعطاه الله تعالى كما ينبغي.
عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «نزلت عليّ سورة الأنعام جملة واحدة يتبعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد فمن قرأ الأنعام صلّى عليه واستغفر له أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية من سورة الأنعام يوما وليلة»
«1» .
__________
(1) رواه الطبراني في المعجم الصغير (1: 81) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (7: 19) ، والسيوطي في الدر المنثور (3: 2) .(1/360)
المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)
سورة الأعراف
مكية، مائتان وست آيات، ثلاثة آلاف وثلاثمائة وأربع وأربعون كلمة، أربعة عشر ألفا وأربعمائة وستة وثلاثون حرفا
المص (1) قيل: هي حروف مقطعة استأثر الله بعلمها وهي سره تعالى. في كتابه العزيز كِتابٌ أي هذا قرآن أُنْزِلَ إِلَيْكَ أي إن الملك انتقل به من العلو إلى أسفل فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ أي فلا يكن فيك شك من هذا الكتاب في كونه كتابا منزلا إليك من عنده تعالى. أو المعنى لا يكن فيك ضيق صدر من تبليغ هذا الكتاب. مخافة أن تقصر في القيام بحقه أو مخافة أن يكذبوك لِتُنْذِرَ بِهِ أي بهذا الكتاب الكافرين وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) فإن النفوس البشرية على قسمين نفوس جاهلة غريقة في طلب اللذات والشهوات، ونفوس شريفة مشرفة بالأنوار الإلهية فبعثة الرسل في حق القسم الأول تخويف، وفي حق القسم الثاني تنبيه اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ أي من كتابه وسنة رسوله وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أي من غير ربكم أَوْلِياءَ من الشياطين والكهان فيحملوكم على البدع والأهواء.
وقيل: الضمير للموصول مع حذف المضاف في أولياء أي ولا تتبعوا من دون ما أنزل أباطيل أولياء.
وقرأ مالك بن دينار ولا تبتغوا قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (3) أي تذكرا قليلا أو زمانا قليلا تذكرون وما مزيدة للتوكيد. قرأ ابن عامر يتذكرون بالياء والتاء. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالتاء وتخفيف الذال. والباقون بالتاء وتشديد الذال وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أي كثير من أهل قرية أردنا إهلاكها فَجاءَها أي فجاء أهلها بَأْسُنا أي عذابنا بَياتاً أي نائمين في الليل كما في قوم لوط أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) أي نائمون في نصف النهار أو مستريحون فيه من غير نوم كما في قوم شعيب. والمعنى جاءهم العذاب على حين غفلة منهم من غير تقدم أمارة تدلهم على نزول ذلك العذاب فكأنه قيل للكفار: لا تغتروا بأسباب الأمن والراحة والفراغ، فإن عذاب الله إذا وقع وقع دفعة من غير سبق أمارة فلا تغتروا بأحوالكم فَما كانَ دَعْواهُمْ أي استغاثتهم بربهم(1/361)
واعترافهم بالجناية إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا أي عذابنا في الدنيا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5) فأقروا على أنفسهم بالشرك والإساءة حيث لم يتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم وذلك حين لم ينفعهم الاعتراف والندامة، والمختار عند النحويين أن يكون محل أن قالوا رفعا ب «كان» و «دعواهم» نصبا بدليل تذكير كان كقوله تعالى فما كان جواب قومه إِلَّا أَنْ قالُوا وقوله تعالى فكان عاقبتهما أنهما في النار وقوله تعالى وما كان حجتهم إلا أن قالوا فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ أي فلنسألن في موقف الحساب الأمم قاطبة قائلين ماذا أجبتم المرسلين وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) قائلين ماذا أجبتم وذلك للرد على الكفار إذا أنكروا التبليغ بقولهم ما جاءنا من بشير ولا نذير. فإذا أثبت الرسل أنهم لم يصدر منهم تقصير ألبتة فيتضاعف إكرام الله تعالى في حق الرسل لظهور براءتهم عن جميع موجبات التقصير وتضاعف أسباب الخزي والإهانة في حق الكفار لما ثبت أن جميع التقصير كان منهم. فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ أي المرسلين والأمم لما سكتوا عن الجواب بِعِلْمٍ أي فلنخبرنهم بما فعلوا إخبارا ناشئا عن علم منا وَما كُنَّا غائِبِينَ (7) عنهم في حال من الأحوال فيخفى علينا شيء من أحوالهم وَالْوَزْنُ أي وزن الأعمال يَوْمَئِذٍ أي كائن يوم إذ يسأل الله الأمم والرسل الْحَقُّ أي العدل. أو المعنى والوزن يوم إذ يكون السؤال والقص هو الحق ف «الحق» إما صفة للوزن أو خبر له، و «يومئذ» إما ظرف له أو خبر له فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ بسبب ثقل الحسنات في الميزان فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) أي الفائزون بالنجاة والثواب وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ بسبب خفة الحسنات في الميزان أو بسبب الأعمال التي لا اعتداد بها في الوزن فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9) أي فأولئك الموصوفون بخفة الموازين الذين خسروا أنفسهم بسبب تكذيبهم بآياتنا والفائدة في وضع ذلك الميزان أن يظهر ذلك الرجحان لأهل القيامة، فإن كان ظهور الرجحان في طرف الحسنات ازداد سروره بسبب ظهور فضله وكمال درجته لأهل القيامة، وإن كان بالضد فيزداد حزنه وخوفه في موقف القيامة، ثم اختلفوا في كيفية ذلك الرجحان فبعضهم قال: يظهر هناك نور في رجحان الحسنات، وظلمة في رجحان السيئات. وآخرون قالوا: بل يظهر رجحان في الكفة.
قال العلماء: الناس في الآخرة ثلاث طبقات: متقون لا كبائر لهم، وكفار ومخلطون وهم الذين يأتون الكبائر. فأما المتقون: فإن حسناتهم توضع في الكفة النيّرة، وصغائرهم لا يجعل الله لها وزنا بل تكفر صغائرهم باجتنابهم الكبائر وتثقل الكفة النيرة ويؤمر بهم إلى الجنة ويثاب كل واحد منهم بقدر حسناته، وأما الكافر: فإنه يوضع كفره في الكفة المظلمة ولا توجد له حسنة توضع في الكفة الأخرى فتبقى فارغة، فبأمر الله تعالى بهم إلى النار ويعذب كل واحد منهم بقدر أوزاره، وأما الذين خلطوا فحسناتهم توضع في الكفة النيرة وسيئاتهم في الكفة المظلمة فيكون لكبائرهم ثقل فإن كانت الحسنات أثقل ولو بصؤابة دخل الجنة وإن كانت السيئات أثقل ولو(1/362)
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)
بصؤابة دخل النار إلا أن يعفو الله، وإن تساويا كان من أصحاب الأعراف هذا إن كانت الكبائر فيما بينه وبين الله وأما إن كان عليه تبعات وكانت له حسنات كثيرة جدا فإنه يؤخذ من حسناته فيرد على المظلوم، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فيحمل على الظالم من أوزار من ظلمه ثم يعذب على الجميع وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ أي جعلنا لكم يا بني آدم فيها مكانا وأقدرناكم على التصرف فيها وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ أي وجوه المنافع وهي على قسمين ما يحصل بخلق الله تعالى ابتداء مثل خلق الثمار وغيرها، وما يحصل بالاكتساب وكلاهما بفضل الله وتمكينه فيكون الكل إنعاما من الله تعالى وكثرة الأنعام توجب الطاعة قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (10) تلك النعمة ونعم الله على الإنسان كثيرة فلا إنسان إلا ويشكر الله تعالى في بعض الأوقات على نعمه، وإنما التفاوت في أن بعضهم يكون كثير الشكر وبعضهم يكون قليل الشكر
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ أي خلقنا أباكم آدم طينا غير مصوّر ثم صورناه أحسن تصوير وتحسن هذه الكناية لأن آدم أصل البشر ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ سجود تعظيم فَسَجَدُوا أي الملائكة بعد الأمر إِلَّا إِبْلِيسَ فإنه أبو الجن كان مفردا مستورا بألوف من الملائكة متصفا بصفاتهم فغلبوا عليه في قوله تعالى للملائكة إلخ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) لآدم قالَ تعالى لإبليس ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ أي ما صرفك إلى أن لا تسجد كما قال القاضي: ذكر الله المنع وأراد الداعي فكأنه تعالى قال: ما رعاك إلى أن لا تسجد لآدم لأن مخالفة أمر الله تعالى حالة عظيمة يتعجب منها ويسأل على الداعي إليها إِذْ أَمَرْتُكَ والمشهور أن كلمة لا لتأكيد معنى النفي في منعك والاستفهام للتوبيخ ولإظهار كفر إبليس و «إذ» منصوب ب «تسجد» أي ما منعك من السجود في وقت أمري إياك به؟ قالَ إبليس: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ أي إنما لم أسجد لآدم لأني خير منه خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ فهي أغلب أجزائي وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) أي وهو أغلب أجزائه فالنار أفضل من الطين لأن النار مشرقة علوية لطيفة يابسة مجاورة لجواهر السموات والطين مظلم سفلى كثيف بعيد عن مجاورة السموات والمخلوق من الأفضل أفضل وقد أخطأ إبليس طريق الصواب لأن النار فيها الخفة والارتفاع والاضطراب، وأما الطين فشأنه الرزانة والحلم والتثبت، وأيضا فالطين سبب للحياة من إنبات النبات والنار سبب لهلاك الأشياء والطين سبب جمع الأشياء والنار سبب تفريقها.
قالَ تعالى: فَاهْبِطْ مِنْها أي من الجنة وكانوا في جنة عدن وفيها خلق آدم أو اخرج من زمرة الملائكة المعززين فَما يَكُونُ لَكَ أي فما ينبغي لك أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها أي في الجنة أو في زمرة الملائكة فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) أي من الأذلاء قالَ أَنْظِرْنِي أي لا تمتني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) أي آدم وذريته وهو وقت النفخة الثانية وأراد إبليس أن يأخذ ثأره منهم بإغوائهم وأن ينجو من الموت لاستحالته بعد البعث ولأنه قد تمّ عند النفخة الأولى. قالَ تعالى: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) أي من المؤجلين إلى النفخة الأولى فيموت كغيره. قالَ إبليس: فَبِما أَغْوَيْتَنِي(1/363)
لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ
(16) أي فبسبب إغوائك إياي لأجلهم أقسم بعزتك لأقعدن لآدم وذريته دينك الموصل إلى الجنة وهو دين الإسلام ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ
أي فأشككهم في صحة البعث والقيامة والحساب وألقي إليهم أن الدنيا قديمة لا تفنى وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ أي أفترهم عن الحسنات وأقوي دواعيهم في السيئات. ونقل عن شقيق أنه قال: ما من صباح إلا ويأتيني الشيطان من الجهات الأربع فيقول من قدامي: لا تخف فإن الله غفور رحيم. فأقرأ:
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً [طه: 82] ، ومن خلفي يخوفني من وقوع أولادي في الفقر. فأقرأ: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود: 6] ويأتيني بالثناء من قبل يميني.
فأقرأ: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: 128] ويأتيني بالترغيب في الشهوات من قبل شمالي.
فأقرأ: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ [سبأ: 54] . والحاصل أن الشيطان لا يترك جهة من جهات الوسوسة إلا ويلقيها في القلب.
ويروى أن الشيطان لما قال هذا الكلام رقت قلوب الملائكة على البشر فقالوا: يا إلهنا كيف يتخلص الإنسان من الشيطان مع كونه مستوليا عليه من هذه الجهات الأربع، فأوحى الله تعالى إليهم: إنه بقي للإنسان جهتان الفوق والتحت، فإذا رفع يديه إلى فوق في الدعاء على سبيل الخضوع أو وضع جبهته على الأرض على سبيل الخشوع، غفرت له ذنب سبعين سنة وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17) أي مطيعين. وإنما قال هذا لأنه رأى منهم أن مبدأ الشر متعدد ومبدأ الخير واحد، وذلك أنه حصل للنفس قوة واحدة تدعو النفس إلى عبادة الله تعالى وطلب السعادات الروحانية وهي العقل، وتسع عشرة قوة تدعوها إلى اللذات الجسمانية والطيبات الشهوانية فخمسة منها هي الحواس الظاهرة، وخمسة أخرى هي الحواس الباطنة، واثنان الشهوة والغضب، وسبعة هي القوى الكامنة وهي: الجاذبة، والماسكة، والهاضمة، والدافعة، والغاذية، والنامية، والمولدة. ولا شك أن استيلاء تسع عشرة قوة أكمل من استيلاء القوة الواحدة، فيلزم القطع بأن أكثر الخلق يكونون طالبين لهذه اللذات البدنية معرضين عن معرفة الحق ومحبته قالَ اخْرُجْ مِنْها أي من الجنة ومن صورة الملائكة مَذْؤُماً أي محقورا مَدْحُوراً أي مبعدا من كل خير لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أي ولد آدم لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أي منك ومنهم أَجْمَعِينَ (18) ففي اللام ومن في قوله تعالى: لَمَنْ تَبِعَكَ وجهان فالأظهر أن «اللام» لام التوطئة لقسم محذوف و «من» شرطية في محل رفع مبتدأ و «لأملأنّ» جواب القسم المدلول عليه بلام التوطئة، وجواب الشرط محذوف لسد جواب القسم مسده. والوجه الثاني أن اللام لام الابتداء ومن موصولة وتبعك صلتها وهي في محل رفع مبتدأ و «لأملأن» جواب قسم محذوف وذلك القسم وجوابه في محل رفع خبر المبتدأ، والتقدير للذي تبعك منهم والله لأملأن جهنم منكم والعائد من الجملة القسمية الواقعة خبرا عن المبتدأ متضمن في قوله منكم لأنه لما اجتمع ضمير غيبة وخطاب غلب الخطاب.(1/364)
وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
وروى عصمة عن عاصم «لمن تبعك» بكسر اللام على أنه حبر لأملأن. والمعنى لمن تبعك هذا الوعيد. وهذه الآية تدل على أن جميع أصحاب البدع والضلالات يدخلون جهنم لأن كلهم متابعون لإبليس والله أعلم. وَيا آدَمُ اسْكُنْ هذه القصة معطوفة على قوله تعالى: للملائكة:
اسْجُدُوا أي وقلنا لآدم: يا آدَمُ اسْكُنْ أو معطوفة على «أخرج» أي وقال: يا آدَمُ اسْكُنْ بعد أن أهبط إبليس وأخرجه من الجنة أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ.
قال ابن إسحاق: خلقت حواء قبل دخول آدم الجنة. والمعنى أي ادخل فيها، وقال ابن عباس وغيره: خلقت في الجنة بعد دخول آدم فيها لأنه لما أسكن الجنة مشى فيها مستوحشا فلما نام خلقت من ضلعه القصرى من شقه الأيسر ليأنس بها والمعنى انزل في الجنة فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما أي فكلا من ثمار الجنة في أي مكان شئتما الأكل فيه وفي أي وقت شئتما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) أي فتصيرا من الضارين لأنفسكما فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ أي ففعل إبليس الوسوسة لأجلهما لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما أي ليظهر لهما ما ستر عنهما بلباس النور أو بثياب الجنة من عورتهما. ف «اللام» إما للعاقبة لأن إبليس لم يقصد بالوسوسة ظهور عورتهما وإنما كان قصده أن يحملهما على المعصية فقط أو للعلة، فظهور العورة كناية عن زوال الجاه فإن غرضه من إلقاء تلك الوسوسة إلى آدم ذهاب منصبه.
وروي أن إبليس بعد ما صار ملعونا مطرودا من الجنة رأى آدم وحواء في طيب عيش ونعمة، ورأى نفسه في مذلة ونقمة فحسدهما- فهو أول حاسد- ثم أراد أن يدخل الجنة ليوسوس لهما فمنعه الخزنة فجلس على باب الجنة ثلاثمائة سنة من سني الدنيا وهي بقدر ثلاث ساعات من ساعات الآخرة فلقي آدم مرارا كثيرة ورغّبه في أكل الشجرة بطرق كثيرة فلأجل المداومة على هذا التمويه أثر كلامه في آدم عليه السلام وَقالَ أي إبليس لآدم وحواء ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ أي عن الأكل منها إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أي إلا كراهة أن تكونا كملكين في عدم الشهوة وفي القدرة على الطيران والتشكل وفي قراءة شاذة «ملكين» بكسر اللام أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) أي الذين لا يموتون ولا يخرجون من الجنة أصلا
وَقاسَمَهُما أي حلف لهما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) في حلفي لكما فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ أي فخدعهما بزخرف من القول الباطل حتى أكلا قليلا قصدا إلى معرفة طعم ذلك الثمر لغلبة الشهوة لا لكونهما صدقا قول إبليس فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما أي فلما تناولا من ثمر تلك الشجرة يسيرا لمعرفة طعمه ظهر لكل منهما قبل نفسه وقبل صاحبه ودبره وزال عنهما ثوبهما وزال النور عنهما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ أي وجعلا يلزقان على عورتهما من ورق التين للاستحياء وَناداهُما رَبُّهُما يا آدم ويا حواء أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ أي عن الأكل من ثمر هذه الشجرة وَألم أَقُلْ لَكُما إِنَّ(1/365)
الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ
(22) أي ظاهر العداوة حيث أبى السجود، كما حكى الله تعالى هذا القول في سورة طه بقوله: فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ [طه: 117] .
روي أنه تعالى قال لآدم: ألم يكن فيما منحتك من شجر الجنة مندوحة عن هذه الشجرة فقال: بلى وعزتك، ولكن ما ظننت أن أحدا من خلقك يحلف بك كاذبا. قال: فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش إلا كدا. فاهبط وعلّم صنعة الحديد وأمر بالحرث فحرث، وسقى وحصد، ودرس وذرى، وعجن وخبز. قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا أي ضررناها بمخالفة أمرك وطاعة عدونا وعدوك من أكل الشجرة التي نهيتنا عن الأكل منها وإنما اعترف آدم بكونه ظالما لأنه ترك الأولى فإن هذا الذنب صدر عنه قبل النبوة بطريق النسيان، ولأن القصد بذلك القول هضم النفس ونهج الطاعة على الوجه الأكمل وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) أي من المغبونين بالعقوبة. قالَ تعالى: اهْبِطُوا يا آدم وحواء وإبليس إلى الأرض فهبط آدم بسرنديب جبل في الهند وحواء بجدة وإبليس بالأبلة بضم الهمزة والموحدة وبتشديد اللام (جبل بقرب البصرة) بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فالعداوة ثابتة بين آدم وإبليس وذرية كل منهما وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ أي مكان عيش وقبر وَمَتاعٌ أي انتفاع إِلى حِينٍ (24) أي إلى انقضاء آجالكم قالَ تعالى: فِيها أي الأرض تَحْيَوْنَ أي تعيشون مدة حياتكم وَفِيها تَمُوتُونَ وتدفنون وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25) إلى البعث للجزاء.
قرأ حمزة والكسائي تخرجون بفتح التاء وضم الراء وكذلك في الروم والزخرف والجاثية.
وقرأ ابن عامر هنا وفي الزخرف كذلك وفي الروم والجاثية بضم التاء وفتح الراء. والباقون بضم التاء في الجميع يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً أي قد خلقنا لكم بأسباب نازلة من السماء لباسين من قطن وغيره لباسا يغطي عوراتكم من العري ولباسا يزينكم فإن الزينة غرض صحيح.
وروي أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة، الرجال في النهار والنساء في الليل ويقولون:
لا نطوف بثياب عصينا الله تعالى فيها. فنزلت هذه الآية تذكيرا ببعض النعم لأجل امتثال أمر الله تعالى بالحذر من قبول وسوسة الشيطان في قوله تعالى: لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ [الأعراف: 27] .
والمقصود من ذكر قصص الأنبياء حصول العبرة لمن يسمعها وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ.
وقرأ نافع وابن عامر والكسائي بنصب «لباس» عطفا على «لباسا» أي وأنزلنا عليكم لباس التقوى وهو الإيمان كما قاله قتادة والسدي وابن جريج، أو العمل الصالح كما قاله ابن عباس أو السمت الحسن كما قاله عثمان بن عفان أو خشية الله كما قاله ابن الزبير، أو الحياء كما قاله معبد(1/366)
والحسن ذلك أي اللباس الثالث خير لصاحبه من اللباسين الأولين لأنه يستر من فضائح الآخرة.
وقرأ الباقون و «لباس التقوى» بالرفع على الابتداء وخبره «ذلك خير» . والمعنى واللباس الناشئ عن التقوى وهو اللباس الأول، أو هو الملبوسات المعدة لأجل إقامة نحو الصلاة ذلك خير لأنه لبس المتواضع ذلِكَ أي إنزال اللباس مِنْ آياتِ اللَّهِ الدالة على قدرته وعظيم فضله وعميم رحمته على عباده لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) أي فيعرفون عظيم النعمة في ذلك اللباس يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ أي لا يخرجنكم الشيطان عن طاعتي بفتنته فتمنعوا من دخول الجنة إخراجا مثل إخراجه أبويكم من الجنة بفتنته بأمره لهما بمخالفة أمري فمنعا من سكنى الجنة يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما بغروره وكان اللباس من ثياب الجنة أو من نور لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما أي ليرى آدم سوأة حواء وترى هي سوءة آدم إِنَّهُ أي الشيطان يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ أي أصحابه أو من كان من نسله مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إذا كانوا على صورهم الأصلية لكن قد يكونون مرئيين في بعض الأحيان لبعض الناس دون بعض.
وقال مجاهد: قال إبليس: جعل لنا أربع: نرى ولا نرى، نخرج من تحت الثرى، ويعود شيخنا فتى. إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) أي إنا صيرنا الشياطين قرناء للذين لا يؤمنون بمحمد والقرآن مسلطين عليهم وَإِذا فَعَلُوا أي العرب فاحِشَةً كعبادة الأصنام وكشف العورة في الطواف قالُوا جوابا للناهي عنها معللين فعل الفاحشة بأمرين وَجَدْنا عَلَيْها أي على هذه الأشياء آباءَنا فاعتقدنا أنها طاعات واقتدينا بهم فيها وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها فإن أجدادنا إنما كانوا يفعلونها بأمر الله تعالى بها قُلْ لهم يا أكرم الرسل إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ فإن عادته تعالى جارية على الأمر بمحاسن الأعمال والحث على نفائس الخصال أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28) أي إنكم ما سمعتم كلام الله مشافهة ولا أخذتموه عن الأنبياء لأنكم تنكرون نبوة الأنبياء فكيف تقولون على الله ما لا تعلمون قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ أي بالتوحيد بلا إله إلا الله وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي واستقبلوا بوجوهكم القبلة عند كل صلاة وَادْعُوهُ أي اعبدوا الله بإتيان أعمال الصلاة مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي الطاعة كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) أي كما أوجدكم الله بعد العدم يعيدكم بعده أحياء يوم القيامة فيجازيكم على أعمالكم فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ أي ثبت الضلالة عليهم في الأزل والجملتان الفعليتان في محل نصب على الحال من فاعل «بدأكم» ، و «فريقا» الثاني منصوب بفعل مقدر موافق في المعنى للمذكور المفسر أي «بدأكم» حال كونه تعالى هاديا فريقا للإيمان ومضلا فريقا.
ويجوز أن تكون الجملتان الفعليتان في محل نصب على النعت «لفريقا وفريقا» ، وهذان على الحال من فاعل «تعودون» ، والعائد على المنعوت محذوف أي فريقا هداهم الله، وفريقا حق(1/367)
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)
عليهم الضلالة ويؤيد هذا الإعراب قراءة أبي بن كعب «تعودون» فريقين فريقا هدى، وفريقا حق عليهم الضلالة إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فقبلوا ما دعوهم إليه ولم يتأملوا في التمييز بين الحق والباطل وَيَحْسَبُونَ أي يظن أهل الضلالة أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) بدين الله ودلت هذه الآية على أن كل من شرع في باطل فهو مستحق للذم سواء حسب كونه هدى أو لم يحسب ذلك
يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ أي البسوا ثيابكم التي تستر عوراتكم عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي عند كل وقت طواف وصلاة وَكُلُوا من اللحم والدسم وَاشْرَبُوا من اللبن وَلا تُسْرِفُوا بالتعدي إلى الحرام أو بتحريم الحلال أو بالإفراط في الطعام إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) أي إنه تعالى لا يرتضي فعلهم.
قال ابن عباس: إن أهل الجاهلية من العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال، بالنهار والنساء بالليل، وكانوا إذا وصلوا إلى مسجد منى طرحوا ثيابهم وأتوا المسجد عراة. وقالوا: لا نطوف في ثياب أصبنا فيها الذنوب، ومنهم من يقول نفعل ذلك تفاؤلا حتى نتعرى عن الذنوب كما تعرينا عن الثياب، وكانت المرأة منهم تتخذ سترا تعلقه على حقويها لتستتر به عن قريش فإنهم كانوا لا يفعلون ذلك، وكانت بنو عامر لا يأكلون في أيام حجهم من الطعام إلا قوتا، ولا يأكلون لحما ولا دسما يعظمون بذلك حجهم. فقال المسلمون: يا رسول الله فنحن أحق أن نفعل ذلك.
فأنزل الله تعالى هذه الآية: قُلْ يا أشرف الخلق لهؤلاء الجهلة من العرب الذين يطوفون بالبيت عراة والذين يحرمون على أنفسهم في أيام الحج اللحم والدسم: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ من الثياب الَّتِي أَخْرَجَ الزينة لِعِبادِهِ من النبات كالقطن والكتان، ومن الحيوان كالحرير والصوف ومن المعادن كالدروع وَمن حرم الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ أي المستلذات من المآكل والمشارب قُلْ هِيَ أي الزينة والطيبات ثابتة لِلَّذِينَ آمَنُوا بطريق الأصالة فِي الْحَياةِ الدُّنْيا غير خالصة لهم لأنه يشركهم فيها المشركون خالِصَةً لهم يَوْمَ الْقِيامَةِ أي لا يشاركهم فيها غيرهم.
قرأ نافع خالصة بالرفع على أنه خبر بعد خبر، أو خبر لمبتدأ محذوف أي وهي خالصة.
والباقون بالنصب حال من الضمير المستكن في الخبر كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي مثل هذا التبيين نبين سائر الأحكام لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) أن الله واحد لا شريك له فأحلوا حلاله وحرموا حرامه قُلْ للمشركين الذين يتجردون من ثيابهم في الطواف والذين يحرمون أكل الطيبات إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ أي الزنا ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ أي جهرها وسرها وَالْإِثْمَ أي شرب الخمر وَالْبَغْيَ أي الظلم على الناس بِغَيْرِ الْحَقِّ فالقتل والقهر بالحق ليس بغيا وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً أي وأن تسووا بالله في العبادة معبودا ليس على ثبوته حجة وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33) بالإلحاد في صفاته والافتراء عليه من التحريم والتحليل، فالجنايات محصورة في خمسة أنواع:(1/368)
أحدها: الجنايات على الأنساب وهي المرادة بالفواحش.
وثانيها: الجنايات على العقول وهي المشار إليها بالإثم.
وثالثها: الجنايات على النفوس، والأموال والأعراض وإليها الإشارة بالبغي.
ورابعها: الجنايات على الأديان وهي من وجهين: إما الطعن في توحيد الله تعالى وإليه الإشارة بقوله تعالى: وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وإما القول في دين الله من غير معرفة وإليه الإشارة بقوله تعالى: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ وهذه الأشياء الخمسة أصول الجنايات وأما غيرها فهي كالفروع وَلِكُلِّ أُمَّةٍ كذبت رسولها أَجَلٌ أي وقت معين لهلاكها فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) أي فإذا جاء وقت هلاكهم لا يتركون بعد الأجل طرفة عين، ولا يهلكون قبل الأجل طرفة عين فالجزاء مجموع الأمرين لا كل واحد على حدته. والمعنى إن الوقت المحدود لا يتغير يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) أي يا بني آدم إن يأتكم رسول من جنسكم- بني آدم- يبين لكم أحكامي وشرائعي فمن اتقى كل منهي واتقى تكذيبه وأصلح عمله بأن يأتي كل أمره فلا يخاف في الآخرة من العذاب ولا يحزن على ما فاته في الدنيا أما حزنه على عقاب الآخرة فيرتفع بما حصل له من زوال الخوف وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا التي يجيء بها رسولنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أي امتنعوا من قبولها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36) لا يموتون ولا يخرجون أما الفاسق من أهل الصلاة فلا يبقى مخلدا في النار لأنه ليس موصوفا بذلك التكذيب والاستكبار فَمَنْ أَظْلَمُ أي أعظم ظلما مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي كإثبات الشريك والولد إليه تعالى وإضافة الأحكام الباطلة إليه تعالى أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ كإنكار كون القرآن كتابا نازلا من عند الله تعالى وإنكار نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم أُولئِكَ يَنالُهُمْ في الدنيا نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ أي مما كتب لهم من الأرزاق والأعمار حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا أي ملك الموت وأعوانه يَتَوَفَّوْنَهُمْ أي حال كونهم قابضين أرواحهم قالُوا لهم: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي أين الآلهة التي كنتم تعبدونها في الدنيا ادعوها لتدفع عنكم ما نزل بكم قالُوا ضَلُّوا أي غابوا عَنَّا أي لا ندري مكانهم وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) أي وأقروا عند الموت بأنهم كانوا في الدنيا عابدين لما لا يستحق العبادة أصلا ولا تعارض بين هذا وبين قوله تعالى: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 28] . لأنه من طوائف
مختلفة أو في أوقات مختلفة. قالَ تعالى يوم القيامة: ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ أي ادخلوا في النار فيما بين الأمم الكافرين الذين تقدم زمانهم زمانكم من هذين النوعين كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ أي أهل دين في النار لَعَنَتْ أُخْتَها في الدين وهي التي تلبست بذلك الدين قبلها فيلعن المشركون المشركين واليهود اليهود،(1/369)
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)
والنصارى النصارى، والصابئون الصابئين، والمجوس المجوس حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا أي اجتمعوا فِيها أي النار جَمِيعاً وأدرك بعضهم بعضا واستقر معه قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ أي قال آخر كل أمة لأولها رَبَّنا هؤُلاءِ أي الأولون أَضَلُّونا عن دينك بإخفاء الدلائل فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ أي عذبهم مثل عذابنا مرتين قالَ تعالى لهم لِكُلٍّ منهم ومنكم ضِعْفٌ فكل ألم يحصل له يعقبه ألم آخر، إلى غير نهاية فالآلام متزايدة من غير نهاية أما القادة فلكفرهم وإضلالهم وأما الأتباع فلكفرهم وتقليدهم وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) .
قرأه أبو بكر عن عاصم بالغيبة أي ولكن لا يعلم كل فريق مقدار عذاب الفريق الآخر.
والباقون بالتاء على الخطاب ولكن لا تعلمون أيها السائلون ما لكل فريق منكم من العذاب. أو المعنى ولكن لا تعلمون يا أهل الدنيا مقدار ذلك وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ مخاطبة لها حين سمعوا جواب الله تعالى لهم فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ في الدنيا أي إنا وإياكم متساوون في الضلال واستحقاق العذاب لأنكم كفرتم اختيارا لا أنا حملناكم على الكفر إجبارا فلا يكون عذابنا ضعفا فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) أي تقولون وتعملون في الدنيا وهذا يحتمل أن يكون من كلام القادة للأتباع وأن يكون من قول الله تعالى للجميع إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي بالدلائل الدالة على أصول الدين وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أي ترفعوا عن الإيمان بها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ أي لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم ولا لشيء مما يريدون به طاعة الله ولا لأرواحهم وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ أي كما يستحيل دخول الذكر من الإبل في خرق الإبرة يستحيل دخول الكفار الجنة ويقال: حتى يدخل القلس الغليظ وهو الجبل الذي تشد به السفينة في خرق الإبرة وكل ثقب ضيق فهو سم وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) أي ونجزي المشركين جزاء مثل جزاء المكذبين المستكبرين من عدم فتح أبواب السماء وعدم دخولهم الجنة وإنما يدخلون النار بهذه الصفات
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ أي للذين كذبوا واستكبروا من جهنم فراش من تحتهم ومن فوقهم أغطية وهذه الآية إخبار عن إحاطة النار بهم من كل جانب فلهم منها غطاء ووطاء وفراش ولحاف.
تنبيه: تنوين غواش عوض من الياء المحذوفة على الصحيح فإن الإعلال بالحذف مقدم على منع الصرف فأصله غواشي بتنوين الصرف فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت فاجتمع ساكنان الياء والتنوين، فحذفت الياء، ثم لوحظ كونه على صيغة مفاعل في الأصل فحذف تنوين الصرف فخيف من رجوع الياء فيحصل الثقل فأتي بالتنوين عوضا عنها، فغواش المنون ممنوع من الصرف لأن تنوينه تنوين عوض كما علمت، وتنوين الصرف قد حذف وإنما كان الراجح تقديم الإعلال لأن سببه ظاهر وهو الثقل وسبب منع الصرف خفي وهو مشابهة الفعل وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) أي كالجزاء المذكور للمكذبين المستكبرين نجزي الكافرين وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) أي(1/370)
والذين صدقوا الله ورسوله وأقروا بما جاءهم به من شرائع دينه وعملوا بما أمرهم به وأطاعوه في ذلك وتجنبوا ما نهاهم عنه لا نكلف نفسا إلا ما يسهل عليها من الأعمال وما يدخل في قدرتها ولا ضيق فيه عليها وقوله تعالى: لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [الأنعام: 152] . اعتراض وقع بين المبتدأ والخبر والتقدير والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون. وإنما حسن وقوع هذا الكلام بين المبتدأ والخبر، لأنه من جنس ما قبله فإنه بيان أن ذلك العمل غير خارج عن قدرتهم وتنبيه على أن الجنة مع عظم قدرها يتوصل إليها بالعمل السهل من غير تحمل الصعب وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ أي صفينا طباعهم من الأحقاد التي كانت لبعضهم على بعض في دار الدنيا ودرجات أهل الجنة متفاوتة بحسب الكمال والنقصان، فالله تعالى أزال الحسد عن قلوبهم حتى إن صاحب الدرجة النازلة لا يحسد صاحب الدرجة الكاملة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ أي تجري في الآخرة من تحت سررهم أنهار الخمر والماء والعسل واللبن زيادة في لذتهم وسرورهم. وَقالُوا إذا بلغوا إلى منازلهم أو إلى عين الحيوان: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا أي للعمل الذي ثوابه هذا المنزل وهذه العين التي تجري من تحتنا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ أي لولا هداية الله لنا موجودة ما اهتدينا إلى الإيمان والعمل الصالح.
قرأ ابن عامر «ما كنا» بغير واو كما في مصاحف أهل الشام وذلك، لأنه جار مجرى التفسير لقوله: هَدانا لِهذا فلما كان أحدهما عين الآخر وجب حذف الحرف العاطف لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ هذا إقسام من أهل الجنة، قالوا ذلك حين رأوا ما وعدهم الرسل عيانا تبجحا بما نالوه.
أي والله لقد جاءت رسل ربنا في الدنيا بالحق أي ما أخبرونا به في الدنيا من الثواب صدق فقد حصل لنا عيانا وَنُودُوا أي نادتهم الملائكة عند رؤيتهم الجنة من مكان بعيد أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أي تلك الجنة التي وعدتكم الرسل بها في الدنيا ف «أن» مفسرة لما في النداء وكذا في سائر المواضع الخمسة أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) أي أعطيتموها بسبب أعمالكم الصالحة في الدنيا فالجنة ومنازلها لا تنال إلا برحمة الله تعالى فإذا دخلوها بأعمالهم فقد ورثوها برحمته ودخلوها برحمته إذ أعمالهم رحمة منه لهم وتفضل منه عليهم وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ- تبجحا بحالهم وتنديما لأصحاب النار وذلك بعد استقرارهم في محالهم-: أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا على ألسنة رسله من الثواب على الإيمان به وبرسله وعلى طاعته حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ يا أهل النار ما وَعَدَ رَبُّكُمْ من العذاب على الكفر حَقًّا قالُوا أي أهل النار مجيبين لأهل الجنة نَعَمْ.
قرأ الكسائي «نعم» بكسر العين في كل القرآن فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ قيل: هو إسرافيل. وقيل:
جبريل بَيْنَهُمْ أي نادى مناد أسمع الفريقين أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي يمنعون الناس من قبول الدين الحق تارة بالزجر والقهر وأخرى بسائر الحيل.(1/371)
قرأ نافع وأبو عمرو وعاصم «أن لعنة» بتخفيف «أن» ورفع «لعنة» . والباقون بالتشديد وبالنصب وَيَبْغُونَها عِوَجاً أي يطلبون السبيل معوجة بإلقاء الشكوك في دلائل الدين الحق وَهُمْ بِالْآخِرَةِ أي بالبعث بعد الموت كافِرُونَ (45) أي جاحدون وَبَيْنَهُما أي بين الجنة والنار أو بين أهلهما حِجابٌ أي سور وَعَلَى الْأَعْرافِ أي أعالي ذلك السور المضروب بين الجنة والنار رِجالٌ. قيل: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم. وقيل: هم قوم قتلوا في سبيل الله وهم عصاة لآبائهم. وقيل: هم قوم كان فيهم عجب، وقيل: هم قوم كان عليهم دين فهذه الأقوال تدل على أن أصحاب الأعراف أقوام يكونون في الدرجة النازلة من أهل الثواب. وقيل: إنهم الأشراف من أهل الثواب. وقيل: إنهم الأنبياء وإنما أجلسهم الله على ذلك المكان العالي تمييزا لهم على سائر أهل القيامة. وقيل: إنهم الشهداء وهم شهداء الله على أهل الإيمان والطاعة وعلى أهل الكفر والمعصية فهم يعرفون أن أهل الثواب وصلوا إلى الدرجات وأهل العقاب وصلوا إلى الدركات كما قال تعالى: يَعْرِفُونَ كُلًّا من أهل الجنة وأهل النار زيادة على معرفتهم بكونهم في الجنة وكونهم في النار بِسِيماهُمْ أي بعلامتهم التي أعلمهم الله تعالى بها كبياض الوجه وسواده.
وقيل: إن أصحاب الأعراف كانوا يعرفون المؤمنين في الدنيا بظهور علامات الإيمان والطاعات عليهم، ويعرفون الكافرين في الدنيا أيضا بظهور علامات الكفر والفسق عليهم، فإذا شاهدوا أولئك الأقوام في محفل القيامة ميّزوا البعض عن البعض بتلك العلامات التي شاهدوها عليهم في الدنيا وَنادَوْا أي رجال الأعراف أَصْحابَ الْجَنَّةِ أي حين رأوهم أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ يا أهل الجنة وهذا بطريق التحية والدعاء أو بطريق الإخبار بنجاتهم من المكاره لَمْ يَدْخُلُوها حال من فاعل نادوا وَهُمْ يَطْمَعُونَ
(46) حال من فاعل يدخلوها أي لم يدخل رجال الأعراف الجنة وهم في وقت عدم الدخول طامعون. وقيل: قوله: لَمْ يَدْخُلُوها مستأنف لأنه جواب سؤال سائل عن رجال الأعراف فقال: ما صنع بهم؟ فقيل: لم يدخلوها ولكنهم يطمعون في دخولها.
وقال مجاهد: أصحاب الأعراف قوم صالحون، فقهاء علماء، فعلى هذا القول: إنما يكون لبثهم على الأعراف على سبيل النزهة وليرى غيرهم شرفهم وفضلهم. والمراد من هذا الطمع طمع يقين أي وهم يعلمون أنهم سيدخلون الجنة وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ أي رجال الأعراف بغير قصد تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ أي إلى جهتهم قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) أي كلما وقعت أبصار أصحاب الأعراف على أهل النار تضرعوا إلى الله تعالى في أن لا يجعلهم من زمرتهم. والمقصود من جميع هذه الآيات التخويف عن التقليد الرديء وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا كانوا عظماء في الدنيا من أهل النار يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا أي أصحاب الأعراف لهم وهم(1/372)
في النار يا وليد بن المغيرة، ويا أبا جهل بن هشام، ويا أمية بن خلف، ويا ابن خلف الجمحي، ويا أسود بن عبد المطلب، ويا سائر الرؤساء ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ أي أيّ شيء دفع عنكم جمعكم في الدنيا من المال والخدم والأتباع وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) عن قبول الحق وعلى الناس المحقين.
وقرئ «تستكثرون» أي من الأموال والجند، ثم زادوا على هذا التبكيت بقولهم:
أَهؤُلاءِ الضعفاء الذين عذبتموهم في الدنيا كصهيب وبلال وسلمان وخباب وعمار وأشباههم الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ أي حلفتم في الدنيا يا معشر الكفار لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ أي لا يدخلهم الله الجنة وقد دخلوا الجنة على رغم أنوفكم. وقد قيل للذين أقسمتم على عدم دخولهم الجنة ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بفضل الله فهذا من بقية كلام أصحاب الأعراف فهو خبر ثان عن اسم الإشارة أي أهؤلاء قد قيل لهم: ادخلوا الجنة، فظهر كذبكم في إقسامكم ويدل على ذلك قراءتان شاذتان «ادخلوا» بالبناء للمفعول و «دخلوا» . وعلى هاتين القراءتين تقع هذه الجملة خبرا، والتقدير دخلوا الجنة مقولا في حقهم لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ من العذاب وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) . وقيل: إن أصحاب الأعراف لما قالوا لأهل النار ما قالوا قال لهم أهل النار: إن دخل هؤلاء فأنتم لم تدخلوا الجنة، فلما عيّروهم بذلك قيل لأهل الأعراف: ادخلوا الجنة، وقيل: يقال لأصحاب الأعراف ادخلوا الجنة إلخ، بعد أن حبسوا وشاهدوا أحوال الفريقين وقالوا لهم ما قالوا، وعلى هذا فالمراد بأصحاب الأعراف المقصرون في العمل وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا أي ألقوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من ثمار الجنة وهذا الكلام يدل على حصول العطش الشديد والجوع الشديد لهم، وعن أبي الدرداء أن الله تعالى يرسل على أهل النار الجوع حتى يزداد عذابهم فيستغيثون فيغاثون بضريع لا يسمن ولا يغني من جوع، ثم يستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة ثم يذكرون الشراب ويستغيثون فيدفع إليهم الحميم والصديد فيقطع ما في بطونهم، ويستغيثون إلى أهل الجنة كما في هذه الآية ويقولون لمالك: ليقض علينا ربك فيجيبهم بعد ألف عام ويقولون: ربنا أخرجنا منها فيجيبهم بقوله تعالى اخسئوا فيها ولا تكلمون فعند ذلك ييأسون من كل خير ويأخذون في الزفير والشهيق قالُوا أي أهل الجنة إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) أي منعهم من طعام الجنة وشرابها.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار بالفرج بعد اليأس فقالوا: يا رب إن لنا قرابات من أهل الجنة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم فيأذن لهم فينظرون إلى قراباتهم في الجنة وما هم فيه من النعيم فيعرفونهم، وينظر أهل الجنة إلى قراباتهم من أهل النار فلم يعرفوهم لسواد وجوههم فينادي أصحاب النار أصحاب الجنة(1/373)
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60)
بأسمائهم فينادي الرجل أباه وأخاه فيقول: يا أبي ويا أخي قد احترقت بشدة حر جهنم أفض عليّ من الماء فيقال لهم: أجيبوهم فيقولون: إن الله حرمهما على الكافرين
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً أي باطلا وَلَعِباً أي فرحا فاللهو صرف الهم إلى ما لا يحسن أن يصرف إليه واللعب طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب به وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أي شغلتهم بالطمع في طول العمر وحسن العيش وكثرة المال وقوة الجاه ونيل الشهوات فَالْيَوْمَ أي يوم القيامة نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا أي نتركهم في عذابهم تركا مثل تركهم العمل للقاء يومهم هذا. أو المعنى نعاملهم معاملة من نسي فنتركهم في النار لأنهم أعرضوا بآياتنا. والمراد من هذا النسيان أنه تعالى لا يجيب دعاءهم ولا يرحمهم وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51) أي ولكونهم منكرين بآياتنا أنها من عندنا وذلك يدل على أن حب الدنيا مبدأ كل آفة، وقد يؤدي إلى الضلال والكفر وَلَقَدْ جِئْناهُمْ أي هؤلاء الكفار بِكِتابٍ أي بقرآن أنزلناه عليك يا أكرم الرسل فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ أي ميزناه مشتملا على علم كثير وفصل كثير مختلف. وقد نظم بعضهم الأنواع التسعة في قوله:
حلال حرام محكم متشابه ... بشير نذير قصة عظة مثل
وقرأ الجحدري وابن محيصن بالضاد المعجمة أي «فضلناه» على غيره من الكتب السماوية عالمين بفضله هُدىً وَرَحْمَةً أي هاديا من الضلالة إلى الرشد وذا رحمة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) به هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ أي ما ينتظر أهل مكة إذ لا يؤمنون إلا عاقبة ما وعدوا به في القرآن من حلول العذاب بهم يوم القيامة يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ أي يوم يأتي عاقبة ما وعد لهم في القرآن وهو يوم القيامة يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ أي أعرضوا عنه مِنْ قَبْلُ أي من قبل إتيان ما يؤول إليه أمره وهو صدقه بما أخبر به. والمعنى أن هؤلاء الذين تركوا الإيمان بالقرآن في الدنيا يقولون يوم القيامة قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وكذبناهم أي إنهم أقروا يوم القيامة بأن ما جاءت به الرسل من ثبوت البعث والنشر والحشر والقيامة، والثواب والعقاب كل ذلك كان حقا فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا من العذاب اليوم أَوْ نُرَدُّ إلى الدنيا فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أي لما رأوا أنفسهم في العذاب قالوا: لا طريق لنا إلى الخلاص مما نحن فيه من العذاب الشديد إلا أحد هذين الأمرين وهو أن يشفع لنا شفيع، فلأجل تلك الشفاعة يزول هذا العذاب أو أن يردنا الله تعالى إلى الدنيا حتى نوحد الله تعالى بدلا عن الكفر ونطيعه بدلا عن المعصية.
وقرئ شاذا بنصب «نرد» إما عطفا على «يشفعوا» فالمسؤول أن يكون لهم شفعاء لأحد الأمرين إما لدفع العذاب، أو للرد إلى الدنيا، وإما الدنيا، وإما بناء على أن أو بمعنى إلى أي فالمطلوب أن يكون لهم شفعا للرد إلى الدنيا فقط. وقرئ شاذة برفع «فنعمل» أي فنحن نعمل في الدنيا غير ما كنا نعمل فيها قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بذهاب الجنة ولزوم النار وَضَلَّ عَنْهُمْ ما(1/374)
كانُوا يَفْتَرُونَ (53) أي وذهب عنهم دعوى نفع الشريك فإنهم كانوا يدعون أن الأصنام التي كانوا يعبدونها شركاء الله تعالى وشفعاؤهم عنده يوم القيامة إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ. والمقصود من هذا الكلام أنه تعالى وإن كان قادرا على إيجاد جميع الأشياء دفعة واحدة لكنه جعل لكل شيء حدا محدودا ووقتا مقدرا فلا يدخله في الوجود إلا على ذلك الوجه، فهو تعالى وإن كان قادرا على إيصال الثواب إلى المطيعين في الحال وعلى إيصال العقاب إلى المذنبين في الحال إلا أنه يؤخرهما إلى أجل معلوم مقدر. فهذا التأخير ليس لأجل أنه تعالى أهمل العباد، بل لأنه تعالى خصّ كل شيء بوقت معين لسابق مشيئته وهذا معنى قول المفسرين من أنه تعالى إنما خلق العالم في ستة أيام ليعلم عباده الرفق في الأمور والصبر فيها ولأجل أن لا يحمل المكلف تأخر الثواب والعقاب على ترك العمل ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أي حصل له تعالى تدبير المخلوقات على ما أراد أي بعد أن خلق السموات والأرض استوى على عرش الملك والجلال وصحّ أن يقال: إنه تعالى إنما استوى على ملكه بعد خلق السموات والأرض. بمعنى أنه إنما ظهر تصرفه في هذه الأشياء وتدبيره له بعد خلق السموات والأرض وذلك لأن العرش في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملوك، ثم جعل العرش كناية عن نفس الملك يقال: ثل عرش السلطان أي انتقض ملكه وفسد وإذا استقام له ملكه واطرد أمره وحكمه قالوا: استوى على عرشه واستقر على سرير ملكه هذا ما قاله القفال، ونظير هذا قولهم للرجل الطويل: فلان طويل النجاد. وللرجل الذي يكثر الضيافة: فلان كثير الرماد. وللرجل الشيخ: فلان اشتعل رأسه شيبا، وليس المراد في شيء من هذه الألفاظ إجراؤها على ظواهرها وإنما المراد منها تعريف المقصود على سبيل الكناية فكذا هنا فالمراد بذكر
الاستواء على العرش هو نفاذ القدرة وجريان المشيئة.
والواجب علينا أن نقطع بكونه تعالى منزها عن المكان والجهة، ولا نخوض في تأويل هذه الآية على التفصيل بل نفوض علمها إلى الله تعالى يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أي يأتي بالليل على النهار فيغطيه. واللفظ يحتمل العكس أيضا.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر وابن عامر، وعاصم في رواية حفص «يغشى» بتخفيف الشين وهكذا في الرعد. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم برواية أبي بكر بالتشديد وكذا في الرعد. وقرأ حميد بن قيس «يغشى الليل النهار» بفتح ياء «يغشى» ونصب «الليل» ورفع «النهار» أي يدرك النهار الليل. يَطْلُبُهُ حَثِيثاً أي يطلب كل من الليل والنهار الآخر طلبا سريعا فأخبر الله تعالى بما في تعاقب الليل والنهار من المنافع العظيمة والفوائد الجليلة فإن بتعاقبهما يتم أمر الحياة وتكمل المنفعة والمصلحة وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أي مذللات لطلوع وغروب ومسير(1/375)
ورجوع بإذنه. وقرأ ابن عامر برفع الأربعة على الابتداء والخبر. والباقون بنصب الثلاثة عطفا على «السموات» ، ونصب «مسخرات» على الحال من هذه الثلاثة أَلا لَهُ الْخَلْقُ أي المخلوقات وَالْأَمْرُ أي التصرف في الكائنات وفي هذه الآية رد على من يقول من أهل الضلال إن للشمس والقمر والكواكب تأثيرات في هذا العالم تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54) أي كثر خير الله مالك العالمين وتعالى بالوحدانية في الألوهية ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً أي متذللين ومسرين والتضرع إظهار ذل النفس. قال الشيخ محمد بن عيسى الحكيم الترمذي: إن كان خائفا على نفسه من الرياء فالأولى إخفاء العمل صونا لعمله عن البطلان، وإن كان قد بلغ في الصفاء وقوة اليقين إلى حيث صار آمنا عن شائبة الرياء كان الأولى في حقه الإظهار لتحصل فائدة الاقتداء به إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) أي المجاوزين بترك هذين الأمرين التضرع والإخفاء أي إنه تعالى لا يثيبه ألبتة ولا يحسن إليه
وعن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «سيكون قوم يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل»
«1» . ثم قرأ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أي كإفساد النفوس بالقتل وقطع الأعضاء وإفساد الأموال بنحو الغصب، وإفساد الأديان بالكفر والبدعة، وإفساد الأنساب بسبب الإقدام على نحو الزنا وبسبب القذف، وإفساد العقول بنحو تناول المسكرات بَعْدَ إِصْلاحِها بسبب إرسال الأنبياء وإنزال الكتب. وقيل بعد إصلاح الله تعالى إياها بالمطر والخصب فإن الله تعالى يمسك المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً أي ذوى خوف نظرا إلى قصور أعمالكم وعدم استحقاقكم مطلوبكم، وذوى طمع نظرا إلى سعة رحمته ووفور فضله وإحسانه، وهذه الآية بيان فائدة الدعاء ومنفعته ففائدة الدعاء أحد هذين الأمرين أما الآية الأولى فهي بيان شرط صحة الدعاء وهي لا بد أن يكون الدعاء مقرونا بالتضرع وبالإخفاء والداعي لا يكون داعيا إلا إذا كان خائفا من وقوع التقصير في بعض الشرائط المعتبرة في قبول ذلك الدعاء وطامعا في حصول تلك الشرائط بأسرها، ومعنى قوله تعالى: خَوْفاً وَطَمَعاً أي حال كونكم جامعين في نفوسكم بين الخوف والرجاء في كل أعمالكم فلا تقطعوا أنكم أديتم حق ربكم وإن اجتهدتم إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) بالقول والفعل ومن الإحسان أن يكون الدعاء مقرونا بالخوف والطمع وكل من حصل له الإقرار والمعرفة كان من المحسنين كالصبي إذا بلغ وقت الضحوة وآمن بالله ورسوله واليوم الآخر ومات قبل الوصول إلى الظهر وكصاحب الكبيرة من أهل الصلاة وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي قدام المطر.
__________
(1) رواه ابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (64) ، والقرطبي في التفسير (7: 226) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (3295) . [.....](1/376)
قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «الريح» على لفظ الواحد. والباقون «الرياح» على الجمع.
قرأ عاصم «بشرا» بضم الباء الموحدة وسكون الشين جمع بشير أي مبشرات. وقرئ بفتح الباء بمعنى باشرات. وقرأ حمزة والكسائي «نشرا» بالنون المفتوحة وسكون الشين بمعنى ناشرة للسحاب. أو بمعنى منشورة فكأن الرياح كانت مطوية فأرسلها الله منشورة بعد انطوائها- وهي كناية عن اتساعها- وقرأ ابن عامر بضم النون وإسكان الشين. وقرأ الباقون بضم النون والشين جمع نشور مثل رسل ورسول أي مفرقة من كل جانب أو طيبة لينة تنشر السحاب، والريح هواء متحرك يمنة ويسرة وهي أربعة:
الصبا: وهي الشرقية فتحرك السحاب. والدبور: وهي الغربية تفرقه. والشمال: التي تهب من تحت القطب الشمالي تجمعه. والجنوب: وهي التي تكثر إرسال المطر.
وعن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور والجنوب من ريح الجنة»
«1» . حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا أي حتى إذا رفعت هذه الرياح سحابا ثقيلا بالماء سُقْناهُ أي السحاب لِبَلَدٍ مَيِّتٍ أي إلى مكان لا نبات فيه لعدم الماء فَأَنْزَلْنا بِهِ أي في ذلك البلد الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ أي بذلك الماء أو في ذلك البلد مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فالله تعالى إنما يخلق الثمرات بواسطة الماء. وقال أكثر المتكلمين: إن الثمار غير متولدة من الماء بل الله تعالى أجرى عادته بخلق النبات ابتداء عقب اختلاط الماء بالتراب كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى أي كما يخلق الله تعالى النبات بواسطة الأمطار فكذلك يحيي الله الموتى بواسطة مطر ينزله على تلك الأجسام الرميمة.
وروي أنه تعالى يمطر على أجساد الموتى فيما بين النفختين مطرا كالمني أربعين يوما، وأنهم يصيرون عند ذلك أحياء. وقيل: المعنى إنه تعالى كما أحيا هذا البلد بعد خرابه فأنبت فيه الشجر وجعل فيه الثمر فكذلك يحيي الموتى ويخرجهم من الأجداث بعد أن كانوا أمواتا.
والمقصود من هذا الكلام إقامة الدلالة على أن البعث والقيامة حق لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) أي لكي تعتبروا أيها المنكرون للبعث وتتذكروا أن القادر على إحياء هذه الأرض بالأشجار المزينة بالأزهار والثمار بعد موتها قادر على أن يحيي الأجساد بعد موتها وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ أي المكان الذي ليس بسبخة يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ أي بإرادة ربه وتيسيره كذلك المؤمن يؤدي ما أمر الله طوعا بطيبة النفس وَالَّذِي خَبُثَ أي المكان السبخة لا يَخْرُجُ أي نباته إِلَّا نَكِداً أي بتعب. وكذلك المنافق لا يؤدي ما أمر الله إلا كرها بغير طيبة النفس. وقيل: المراد أن الأرض
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الاستسقاء، باب: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «نصرت بالصبا» ، ومسلم في كتاب الاستسقاء، باب: 17، وأحمد في (م 1/ ص 223) .(1/377)
قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)
السبخة يقل نفعها ومع ذلك أن صاحبها لا يتركها بل يتعب نفسه في إصلاحها طمعا منه في تحصيل ما يليق بها من المنفعة فالطلب للنفع العظيم في الدار الآخرة بالمشقة في أداء الطاعات أولى من طلب هذا النفع اليسير بالمشقة العظيمة كَذلِكَ أي مثل ذلك التصريف نُصَرِّفُ الْآياتِ أي نكررها لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) نعمة الله تعالى فيتفكرون فيها لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ واسم نوح عبد الغفار وهو ابن لمكا بن متوشلخ بن أخنوخ وسمي نوحا إما لدعوته على قومه بالهلاك أو لمراجعته ربه في شأن ولده كنعان، أو لأنه مر بكلب مجذوم فقال له: اخسأ يا قبيح، فأوحى الله إليه أعبتني أم عبت الكلب؟ فكثر نوحه على نفسه لذلك. فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي اعبدوه وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ أي من مستحق للعبادة غَيْرُهُ.
قرأ الكسائي بالجر على أنه نعت ل «إله» باعتبار لفظه. والباقون بالرفع صفة له باعتبار محله الذي هو الرفع على الابتداء أو الفاعلية. وقرئ بالنصب على الاستثناء بمعنى ما لكم من إله إلا إياه إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) أي إني أعلم أن العذاب ينزل بكم إما في الدنيا أو في الآخرة إن لم يقبلوا ذلك الدين قالَ الْمَلَأُ مِنْ
قَوْمِهِ
أي قال الكبراء الذين جعلوا أنفسهم أضداد الأنبياء: إِنَّا لَنَراكَ يا نوح فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) في المسائل الأربع وهي: التكليف، والتوحيد، والنبوة، والمعاد.
قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ أي ليس بي نوع من أنواع الضلالة ألبتة وَلكِنِّي رَسُولٌ إليكم مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي.
قرأ أبو عمرو بسكون الباء وَأَنْصَحُ لَكُمْ فتبليغ الرسالة هو أن يعرفهم أنواع تكاليف الله وأقسام أوامره ونواهيه والنصيحة هي أن يرغبهم في الطاعات ويحذرهم عن المعاصي بأبلغ الوجوه وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62) أي إنكم إن عصيتم أمره عاقبكم في الدنيا بالطوفان، وفي الآخرة بعقاب شديد خارج عما تتصوره عقولهم أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ أي استبعدتم وعجبتم من أن جاءكم وحي من مالك أموركم على لسان رجل من جنسكم أي فإنهم كانوا يتعجبون من نبوة نوح عليه السلام ويقولون: ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة لِيُنْذِرَكُمْ أي لأجل أن يخوفكم عاقبة الكفر والمعاصي وَلِتَتَّقُوا عبادة غير الله وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) أي ولكي ترحموا فلا تعذبوا وهذا الترتيب في غاية الحسن فإن المقصود من البعثة الإنذار. والمقصود من الإنذار التقوى عن كل ما لا ينبغي، والمقصود من التقوى الفوز بالرحمة في دار الآخرة فَكَذَّبُوهُ أي نوحا في ادعاء النبوة وتبليغ التكاليف من الله وأصروا على ذلك التكذيب تلك المدة المتطاولة فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ من الغرق والعذاب وكان من صحبوه في الفلك أربعين رجلا وأربعين امرأة.
روي أن نوحا عليه السلام صنع السفينة بنفسه في عامين وكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها(1/378)
خمسين وسمكها ثلاثين. وجعل لها ثلاث بطون فحمل في أسفلها الدواب والوحوش، وفي وسطها الإنس، وفي أعلاها الطير، وركبها في عاشر رجب ونزل منها في عاشر المحرم وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي برسولنا نوح بالطوفان إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64) عن معرفة التوحيد والنبوة والمعاد وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ أي وأرسلنا إلى عاد الأولى واحدا منهم في النسب لا في الدين هُوداً أما عاد الثانية وهم ثمود فقوم صالح وبينهما مائة سنة قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) أي أتغفلون فلا تتقون عذاب الله تعالى فإنكم تعرفون أن قوم نوح لما لم يتقوا الله ولم يطيعوه نزل بهم ذلك العذاب الذي اشتهر خبره في الدنيا قالَ الْمَلَأُ أي الرؤساء الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ وإنما قال هنا الذين كفروا من قومه لأن الملأ من قوم هود كان فيهم من آمن ومن كفر، فممن آمن منهم مرثد بن أسعد أسلم وكان يكتم إيمانه بخلاف الملأ من قوم نوح فكلهم أجمعوا على ذلك الجواب فلم يكن أحد منهم مؤمنا في أول دعائهم إلى الإيمان إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ أي إنا نتيقنك يا هود متمكنا في خفة عقل حيث فارقت دين آبائك فإن هودا نهاهم عن عبادة الأصنام ونسب من عبدها إلى السفه وهو قلة العقل وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) في ادعاء الرسالة قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ أي ليس بي شيء مما تنسبونني إليه وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أي فإنه غاية من الرشد والصدق أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي بالأمر والنهي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أي أحذركم من عذاب الله وأدعوكم إلى الإيمان والتوبة أَمِينٌ (68) أي موثوق على رسالة ربي وهذا رد لقولهم وإنا لنظنك من الكاذبين.
فكأن هودا قال لهم: كنت قبل هذه الدعوى أمينا فيكم ما وجدتم مني عذرا، ولا مكرا، ولا كذبا.
واعترفتم لي بكوني أمينا فكيف نسبتموني الآن إلى الكذب؟! أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ أي أكذبتم وعجبتم من أن جاءكم نبوة مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ أي على لسان آدمي مثلكم لِيُنْذِرَكُمْ أي ليحذركم عاقبة ما أنتم عليه من الكفر والمعاصي وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ بأن أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وما يتصل بها من المنافع والمصالح أو جعلكم ملوكا في الأرض فإن شداد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض من رمل عالج إلى شجر عمان وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ أي في الناس بَصْطَةً وهي مقدار ما تبلغه يد الإنسان ففضلوا على أهل زمانهم بهذا القدر. أو المراد أنهم متشاركون في القوة والشدة، ولأن بعضهم يكون ناصرا للبعض الآخر وأزال العداوة والخصومة من بينهم فلما خصّهم الله تعالى بهذه الأنواع فصح أن يقال: إنهم زادوا في الخلق بسطة.
قرأ نافع والبزي وشعبة والكسائي بالصاد. وأبو عمرو، وهشام، وقنبل، وحفص وخلف بالسين. وابن ذكوان وخلاد بهما فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ أي نعماء الله عليكم واعملوا عملا يليق بتلك الإنعامات لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) أي لكي تنجوا من الكروب وتفوزوا بالمطلوب. قالُوا(1/379)
قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)
مجيبين عن تلك النصائح العظيمة أَجِئْتَنا يا هود لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ أي لنخصه بالعبادة وَنَذَرَ أي نترك ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا من الأصنام فَأْتِنا بِما تَعِدُنا أي بما تهددنا من العذاب بقولك أفلا تتقون إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) في إخبارك بنزول العذاب وغرضهم بذلك القول إذا لم يأتهم هود بذلك العذاب ظهر للقوم كونه كاذبا
قالَ أي هود: قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ أي رين على قلوبهم عقوبة منه لكم بالخذلان لألفكم الكفر وَغَضَبٌ أي عذاب أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ عارية عن المسمى سَمَّيْتُمُوها أي سميتم بها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ أصناما فإنهم سموا الأصنام بالآلهة مع إن معنى الألوهية فيها معدوم ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها أي بعبادتها مِنْ سُلْطانٍ أي برهان لأن المستحق للعبادة بالذات هو الموجد للكل وأن الأصنام لو استحقت العبادة كان استحقاقها بجعله تعالى إما بإنزال آية أو نصب دليل وقوله تعالى: ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ عبارة عن خلو مذاهبهم عن الحجة والبينة فَانْتَظِرُوا ما يحصل لكم من عبادة هذه الأصنام وهو ما تطلبونه بقولكم فأتنا بما تعدنا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) لما يحل بكم فَأَنْجَيْناهُ أي هودا وَالَّذِينَ مَعَهُ في الدين بِرَحْمَةٍ عظيمة مِنَّا أي من جهتنا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي استأصلنا الذين كذبوا برسولنا هود وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72) أي ما أبقينا أحدا من الذين لا يؤمنون فلو علم الله أنهم سيؤمنون لأبقاهم. وقصتهم أن عادا قوم كانوا باليمن بالأحقاف، وكانوا قد تبسطوا في البلاد ما بين عمان إلى حضرموت، وكانت لهم أصنام ثلاثة يعبدونها سموا أحدها صمودا، والآخر صداء. والآخر هباء، فبعث الله تعالى إليهم هودا وكان من أفضلهم حسبا فكذبوه فأمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين حتى جهدوا وكان الناس إذ نزل بهم بلاء طلبوا من الله الفرج عند البيت الحرام، وأهل مكة إذ ذاك العماليق أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح عليه السلام، وسيدهم معاوية بن بكر، فلما توجهوا إلى البيت الحرام وهم سبعون رجلا من أماثلهم منهم: قيل بن عنز، ومرثد بن سعد نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجا عن الحرم فأنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره، فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم قينتا معاوية اسم إحداهما وردة والأخرى جرادة، فلما رأى معاوية ذهولهم باللهو عمّا قدموا له أحزنه ذلك وقال: قد هلك أخوالي وأصهاري، واستحى أن يكلمهم خشية أن يظنوا به ثقل مقامهم عليه فذكر ذلك للقينتين فقالتا: قل شعرا نغنيهم به لا يدرون من قاله وهو قول هؤلاء الثلاثة:
ألا يا قيل ويحك قم فهينم ... لعل الله يسقينا غماما
فيسقي أرض عاد إن عادا ... قد أمسوا لا يبينون الكلاما
من العطش الشديد فليس نرجو ... به الشيخ الكبير ولا الغلاما(1/380)
ومعنى فهينم أي أخف الدعاء والغمام هنا المطر فلما غنتا به أزعجهم ذلك وقالوا: إن قومكم يتغوثون من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم فادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم.
فقال لهم مرثد بن سعد: والله لا تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى الله تعالى سقاكم وأظهر إسلامه فقالوا لمعاوية: احبس عنا مرثدا لا يقدمن معنا مكة فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا. ثم دخلوا مكة فقال قيل: اللهم أسق عادا ما كنت تسقيهم فأنشأ الله تعالى سحابات ثلاثا بيضاء وحمراء وسوداء، ثم ناداه مناد من السماء: يا قيل اختر لنفسك ولقومك، فقال: اخترت السوداء فإنها أكثرهن ماء، فخرجت على عاد من واد لهم يسمى وادي المغيث، فاستبشروا بها وقالوا: هذا عارض ممطرنا فجاءتهم منها ريح عقيم وهي باردة ذات صوت شديد لا مطر فيها، وكان ابتداء مجيئها في صبيحة الأربعاء في الحادي والعشرين من شوال في آخر الشتاء وسخرت عليهم سبع ليال وثمانية أيام فأهلكتهم ونجا هود والمؤمنون معه فأتوا مكة فعبدوا الله فيها إلى أن ماتوا.
وروي عن علي رضي الله عنه أن قبر هود بحضرموت في كثيب أحمر.
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ أي وأرسلنا إلى ثمود أخاهم في النسب لا في الدين صالِحاً وثمود قبيلة أخرى من العرب سموا باسم أبيهم الأكبر وهو ثمود بن غابر بن ارم بن سام بن نوح. وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى واد القرى قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ أي شاهدة بنبوتي وهي الناقة مِنْ رَبِّكُمْ خلقها بلا واسطة هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً أي علامة على رسالة الله وإضافة الناقة إلى الله لتعظيمها وتخصيصها كما يقال: بيت الله أو لأنها لا مالك لها غير الله، أو لأنها حجة الله على القوم. ووجه كونها آية لخروجها من الجبل لا من ذكر وأنثى ولكمال خلقتها من غير تدريج «وناقة الله» عطف بيان لهذه أو مبتدأ ثان و «لكم» خبر عامل في آية في نصبها على الحال. ويجوز أن يكون عامل الحال معنى التنبيه، أو معنى الإشارة. وجملة قوله: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آية في محل رفع بدل من قوله بينة لأنها مفسرة له وجاز إبدال جملة من مفرد لأنها في معناه فَذَرُوها أي فاتركوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ في الحجر أي الناقة ناقة الله والأرض أرض الله فاتركوها تأكل من إنباتكم وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ أي ولا تضربوها ولا تقربوا منها شيئا من أنواع الأذى إكراما لآية الله تعالى فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أي بسبب أذاها وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ أي فلما أهلك الله عادا عمر ثمود بلادها وخلفوهم في الأرض وكثروا وعمروا أعمارا أطوالا وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي أنزلكم في أرض الحجر بين الحجاز والشام تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً أي تبنون من سهولة الأرض قصورا بما تعملون منها من الرهص واللبن والآجر للصيف وسميت(1/381)
القصور بذلك لقصور الفقراء عن تحصيلها وحبسهم عن نيلها وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً أي وتنقبون في الجبال بيوتا للشتاء وذلك لطول أعمارهم فإن السقوف والأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارهم فكان عمر واحد منهم ثلاثمائة سنة إلى سنة كقوم هود فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ أي نعمة الله عليكم بعقولكم فإنكم متنعمون مترفهون وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) أي ولا تعملوا في الأرض شيئا من أنواع الفساد قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أي قال الجماعة الذين تكبروا عن الإيمان بصالح للمساكين الذين آمنوا به. فقوله تعالى: لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من الموصول بإعادة العامل بدل الكل وضمير «منهم» راجع «لقومه» . أي قالوا للمؤمنين الذين استرذلوهم بطريق الاستهزاء بهم. أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ إليكم قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) أي نحن مصدقون بما جاء به صالح قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا عن امتثال أمر ربهم وهو الذي أوصله الله إليهم على لسان صالح بقوله فذروها تأكل في أرض الله إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ أي قتلها قدار بن سالف بأمرهم في يوم الأربعاء فقال لهم صالح: إن آية العذاب أن تصبحوا غدا صفرا، ثم أن تصبحوا في يوم الجمعة حمرا، ثم أن تصبحوا يوم السبت سودا، ثم يصبحكم العذاب يوم الأحد وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ أي ارتفعوا فأبوا عن قبول أمر ربهم الذي أمرهم صالح وَقالُوا استهزاء يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا أي من العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فإنهم كذبوا صالحا في قوله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي الزلزلة الشديدة من الأرض والصيحة من السماء فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) أي فصاروا في بلدهم خامدين موتى لا يتحركون. والمراد كونهم كذلك عند ابتداء نزول العذاب من غير اضطراب ولا حركة.
روي أنه تعالى لما أهلك عادا قام ثمود مقامهم وطال عمرهم، وكثر تنعمهم، ثم عصوا الله وعبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم صالحا- وكان منهم- فطالبوه بالمعجزة فقال: ما تريدون؟
فقالوا: تخرج معنا في عيدنا، ونخرج أصناما فتسأل إلهك ونسأل أصنامنا فإذا ظهر أثر دعائك اتبعناك، وإن ظهر أثر دعائنا اتبعتنا فخرج معهم ودعوا أوثانهم فلم تجبهم، ثم قال سيدهم جندع بن عمرو لصالح عليه السلام وأشار إلى صخرة منفردة في ناحية الجبل يقال لتلك الصخرة كائبة: أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة كبيرة جوفاء وبراء فإن فعلت ذلك صدقناك، فأخذ صالح عليهم المواثيق أنه إن فعل ذلك آمنوا فقبلوا، فصلى ركعتين ودعا الله تعالى، فتمخضت تلك الصخرة كما تتمخض الحامل، ثم انفرجت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء، وكانت في غاية الكبر، ثم نتجت ولدا مثلها في العظم فآمن به جندع ورهط من قومه وأراد أشراف ثمود أن يؤمنوا به فنهاهم ذؤاب بن عمرو والخباب صاحبا أوثانهم ورباب بن صمعر كاهنهم فمكثت الناقة مع(1/382)
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90)
ولدها ترعى الشجر وتشرب الماء، وكانت ترده غبا فإذا كان يومها وضعت رأسها في البئر فما ترفعه حتى تشرب كل ما فيها، ثم تفرج بين رجليها فيحلبون ما شاءوا حتى تمتلئ أوانيهم فيشربون ويدخرون، وكانت إذا وقع الحر تصيفت بظهر الوادي فيهرب منها أنعامهم، وإذا وقع البرد تشتت ببطن الوادي فتهرب مواشيهم، فشق ذلك عليهم وزينت عقرها لهم امرأتان: عنيزة وصدقة، لما أضرت به من مواشيهم، فعقروها واقتسموا لحمها وطبخوه فرقى ولدها جبلا مسمى بقارة فرغا ثلاثا، وقال صالح عليه السلام لهم: أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب، فلم يقدروا عليه وانفتحت الصخرة بعد رغائه، فدخلها، فقال لهم صالح: تصبحون غدا وجوهكم مصفرة، وبعد غد وجوهكم محمرة، واليوم الثالث وجوهكم مسودة، ثم يصبحكم العذاب فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه، فأنجاه الله تعالى إلى أرض فلسطين، ولما كان اليوم الرابع واشتد الضحى تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالأنطاع، فأتتهم صيحة من السماء ورجفة من الأرض فتقطعت قلوبهم وهلكوا فَتَوَلَّى عَنْهُمْ أي خرج صالح من بينهم قبل موتهم وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ أي بالترغيب والترهيب وبذلت فيكم وسعي ولكن لم تقبلوا مني ذلك كما قال وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) أي لم تطيعوا الناصحين بل تستمروا على عداوتهم.
وروي أن صالحا خرج في مائة وعشرة من المسلمين وهو يبكي فالتفت فرأى الدخان ساطعا، فعلم أنهم قد هلكوا، وكانوا ألفا وخمسمائة دار وَلُوطاً أي وأرسلنا لوطا ابن هاران إلى قومه. أي فأرسله الله تعالى إلى أهل سدوم وهي بلد بحمص إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أي وقت قوله لهم فإرساله إليهم لم يكن في أول وصوله إليهم أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أي أتفعلون اللواطة ما سَبَقَكُمْ بِها أي بهذه الفاحشة مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) .
قال محمد بن إسحاق: كانت لهم ثمار وقرى لم يكن في الأرض مثلها فقصدهم الناس فآذوهم، فعرض لهم إبليس في صورة شيخ: إن فعلتم بهم كذا وكذا نجوتم منهم، فأبوا، فألح عليهم فقصدوهم فأصابوا غلمانا حسانا فاستحكم فيهم ذلك
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ أي إنكم لتأتون أدبار الرجال لمجرد الشهوة لا للولد ولا للألفة متجاوزين فروج النساء اللاتي هن محال الاشتهاء.
وقرأ نافع وحفص عن عاصم «إنكم» بهمزة واحدة مكسورة على الخبر المستأنف، وهو بيان لتلك الفاحشة.
وقرأ ابن كثير بهمزتين بدون ألف بينهما. وبتسهيل الثانية، وأبو عمرو كذلك لكنه أدخل الألف بينهما. وهشام بتحقيق الهمزتين بينهما مد. والباقون بتحقيقهما من غير مدّ بينهما على(1/383)
الأصل، وهذا الاستفهام معناه الإنكار بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) أي مجاوزين الحلال إلى الحرام، وأنتم قوم عادتكم الزيادة في كل عمل وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أي ما كان جوابا من جهة قومه شيء من الأشياء في المرة الأخيرة من مرات المحاورة بينه وبينهم إلا قولهم لبعضهم الآخرين المباشرين لتلك الأمور معرضين عن مخاطبة لوط عليه السلام أَخْرِجُوهُمْ أي لوطا وابنتيه زعورا وريثا مِنْ قَرْيَتِكُمْ سذوم إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) أي يتنزهون عن أدبار الرجال قالوا ذلك على سبيل السخرية بلوط وأهله، وعلى سبيل الافتخار بما هم فيه فَأَنْجَيْناهُ أي لوطا وَأَهْلَهُ وهم بنتاه إِلَّا امْرَأَتَهُ الكافرة واسمها واهلة كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) أي الباقين في ديارهم فهلكت في العذاب مع الهالكين فيها لأنها تسر الكفر موالية لأهل سذوم، وأما لوط فخرج مع بنتيه من أرضهم، وطوى الله له الأرض في وقته حتى نجا ووصل إلى إبراهيم وهو في فلسطين وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً أي وأرسلنا عليهم إرسال المطر آجرا محروقا معجونا بالكبريت والنار.
قال مجاهد: نزل جبريل عليه السلام وأدخل جناحه تحت مدائن قوم لوط، فاقتلعها ورفعها إلى السماء ثم قلبها فجعل أعلاها أسفلها، ثم أتبعوا بالحجارة. وقيل: المعنى وأنزلنا على الخارجين من المداين الخمسة حجارة من السماء معلّمة عليها اسم من يرمى بها.
وروي أن تاجرا منهم كان في الحرم فوقف الحجر له أربعين يوما حتى قضى تجارته وخرج من الحرم فوقع عليه فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) أي فانظر يا من يتأتى منه النظر كيف أمطر الله حجارة من طين مطبوخ بالنار متتابع في النزول على من يعمل ذلك العمل المخصوص، وكيف أسقط مدائنها مقلوبة إلى الأرض وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ أي وأرسلنا إلى أولاد مدين بن إبراهيم عليه السلام أخاهم في النسب لا في الدين شُعَيْباً بن ميكيل. وقيل:
شعيب بن ثويب بن مدين بن إبراهيم قالَ لقومه وهم أهل كفر وبخس للمكيال والميزان:
يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ أي معجزة مِنْ رَبِّكُمْ دالة على رسالة الله وعلى صدق ما جئت به ومن معجزات شعيب أنه دفع عصاه إلى موسى، وتلك العصا حاربت التنين وأنه قال لموسى: إن هذه الأغنام تلد أولادا فيها سواد في أوائلها وبياض في أواخرها، وقد وهبتها منك، فكان الأمر كما أخبر عنه، وأنه وقع على يده عصا آدم عليه السلام فإن جميع ذلك كان قبل استنباء موسى عليه السلام.
وقيل: إن المراد بالبينة نفس شعيب عليه السلام فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ أي أتموا كيل المكيال ووزن الميزان وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ أي ولا تنقصوا حقوق الناس بجميع الوجوه كالغصب والسرقة وأخذ الرشوة وقطع الطريق، وانتزاع الأموال بطريق الحيل. وقيل:(1/384)
كانوا مكّاسين لا يدعون شيئا إلا مكسوة كما يفعل أمراء الجور وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالمعاصي بَعْدَ إِصْلاحِها بعد أن أصلحها الله بتكثير النعم فيها. قال ابن عباس: كانت الأرض قبل أن يبعث الله شعيبا رسولا، تعمل فيها المعاصي وتستحل فيها المحارم وتسفك فيها الدماء فذلك فسادها، فلما بعث الله شعيبا ودعاهم إلى الله صلحت الأرض. وكان كل نبي يبعث إلى قومه فهو صلاحهم، وحاصل هذه التكاليف الخمسة يرجع إلى أصلين:
أحدهما: التعظيم لأمر الله ويدخل فيه الإقرار بالتوحيد والنبوة.
وثانيهما: الشفقة على خلق الله ويدخل فيه ترك البخس وترك الإفساد ذلِكُمْ أي هذه الأمور الخمسة خَيْرٌ لَكُمْ مما أنتم فيه في طلب المال، لأن الناس إذا علموا منكم الوفاء والصدق والأمانة رغبوا في المعاملات معكم فكثرت أموالكم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) أي مصدّقين لي في قولي هذا وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ أي ولا تجلسوا على كل طريق فيه ممر الناس تهددون من مرّ بكم من الغرباء، فكانوا قطّاع طريق وكانوا مكّاسين وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ أي وتصرفون عن دين الله من آمن بالله وَتَبْغُونَها عِوَجاً أي وتطلبون سبيل الله معوجة بإلقاء الشكوك والشبهات فكانوا يجلسون على الطرق ويقولون لمن يريد شعيبا: إنه كذاب ارجع لا يفتنك عن دينك فإن آمنت به قتلناك.
وجملة الأفعال الثلاثة التي هي توعدون، وتصدون، وتبغون أحوال، أي لا تقعدوا موعدين وصادين وباغين وَاذْكُرُوا نعمة الله عليكم إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا بالعدد.
فَكَثَّرَكُمْ بالعدد قيل: إن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت، فرمى الله تعالى في نسلهما بالبركة فكثروا وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) أي كيف صار آخر أمر المشركين قبلكم بالهلاك بتكذيبهم رسلهم وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ من الشرائع والأحكام وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا أي فانتظروا أيها المؤمنون والكافرون حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا جميعا من مؤمن وكافر بإعلاء درجات المؤمنين وبإظهار هوان الكافرين وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87) أي إنه تعالى حاكم عادل منزّه عن الجور قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ أي قال الجماعة الذين أنفوا من قبول قوله وبالغوا في العتو: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا والظرف متعلق بالإخراج لا بالإيمان. أي والله لنخرجنك وأتباعك من مدين أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا أي أو لتصيرن إلى ملتنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) أي قال شعيب:
أتصيروننا في ملتكم وإن كنا كارهين للدخول فيها قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً عظيما حيث نزعم أن لله تعالى ندا إِنْ عُدْنا أي إن دخلنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها أي من ملتكم وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا أي وما يجوز لنا أن ندخل في ملتكم إلا أن يأمر الله بالدخول فيها(1/385)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)
وهيهات ذلك وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أي ربما كان في علمه تعالى حصول بقائنا في هذه القرية من غير أن نعود إلى ملتكم بل الله يجعلكم مقهورين تحت أمرنا ذليلين خاضعين تحت حكمنا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا أي في أن يثبتنا على ما نحن عليه من الإيمان رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ أي يا ربنا احكم بيننا بالعدل وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89) أي الحاكمين. أو المعنى أظهر أمرنا حتى ينفتح ما بيننا وبينهم بأن تنزل عليهم عذابا يتميز به المحق من المبطل وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ أي وقال الرؤساء من قوم شعيب للسفلة لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً في دينه إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) في الدين وفي الدنيا لأنه يمنعكم من أخذ الزيادة من أموال الناس وعند هذا المقال كمل حالهم في الضلال والإضلال فاستحقوا الإهلاك
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي الزلزلة الشديدة المهلكة فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) أي فصاروا في مساكنهم خامدين ساكنين بلا حياة الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أي الذين كذبوا شعيبا استؤصلوا بالمرة وصاروا كأنهم لم يقيموا في قريتهم أصلا، أي عوقبوا بقولهم: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا وصاروا هم المخرجين من القرية إخراجا لا دخول بعده أبدا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) دينا ودنيا دون الذين اتبعوه فإنهم الرابحون في الدارين فَتَوَلَّى عَنْهُمْ أي خرج شعيب من بينهم قبل الهلاك.
وقال الكلبي: ولم يعذب قوم نبي حتى أخرج من بينهم وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي بالأمر والنهي وَنَصَحْتُ لَكُمْ أي حذرتكم من عذاب الله ودعوتكم إلى الإيمان والتوبة، وإنما اشتد حزنه على قومه لأنهم كانوا كثيرين، وكان يتوقع منهم الاستجابة للإيمان فلما أن نزل بهم ذلك الهلاك العظيم بوجود علاماته كحبس الريح عنهم سبعة أيام حصل في قلبه الحزن من جهة القرابة والمجاورة وطول الألفة، ثم عزى نفسه وقال: فَكَيْفَ آسى أي أحزن حزنا شديدا عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93) لأنهم هم الذين أهلكوا أنفسهم بسبب إصرارهم على الكفر.
وقيل: قال شعيب ذلك اعتذارا من عدم شدة حزنه عليهم. والمعنى لقد أعذرت إليكم في الإبلاغ والنصيحة مما حل بكم فلم تسمعوا قولي ولم تقبلوا نصيحتي فكيف آسى عليكم، والمراد أنهم ليسوا مستحقين بأن يأسى الإنسان عليهم، وقرأ يحيى بن وثاب فكيف آسى، بإمالتين وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ فكذبه أهلها إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها أي عاقبناهم بِالْبَأْساءِ أي الشدة في أحوالهم كالخوف وضيق العيش وَالضَّرَّاءِ أي الأمراض والأوجاع لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) أي كي يتذللوا وينقادوا لله تعالى ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ أي ثم أعطيناهم السعة والصحة بدل ما كانوا فيه من البلاء والمرض لأن ورود النعمة في المال والبدن يدعو إلى الاشتغال بالشكر حَتَّى عَفَوْا أي كثروا في أنفسهم وأموالهم وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ كما أصابنا وهذه عادة الزمان في أهله فمرة يحصل فيهم الشدة والنكد، ومرة يحصل لهم الرخاء والراحة(1/386)
تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110)
فصبروا على دينهم، فنحن مثلهم نقتدي بهم وليست عقوبة من الله بسبب ما نحن عليه من الدين والعمل فلما لم ينقادوا بالشدة وبالرخاء لم ينتفعوا بذلك الإمهال أخذهم الله بغتة أينما كانوا قال تعالى: فَأَخَذْناهُمْ بعد ذلك بَغْتَةً أي فجأة بالعذاب وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95) أي وقت نزول العذاب ولا يخطرون ببالهم شيئا من المكاره وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى الذين أهلكناهم آمَنُوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وَاتَّقَوْا ما نهى الله عنه لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ بالمطر وَالْأَرْضِ بالنبات والثمار والمواشي وحصول الأمن والسلامة. وقرأ ابن عامر «لفتحنا» بتشديد التاء للتكثير وَلكِنْ كَذَّبُوا ذلك ولم يتقوا ما حرمه الله فَأَخَذْناهُمْ بالجدوبة والعذاب بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) من الكفر والمعاصي أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أي أبعد ذلك أمن أهل القرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا أي عذابنا بَياتاً أي ليلا وَهُمْ نائِمُونَ (97) أي غافلون عن ذلك أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى أي نهارا وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أي يشتغلون بما ينفعهم، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر بسكون الواو أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ أي عذاب الله فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99) وهم الذين لا يعرفون ربهم لغفلتهم فلا يخافونه. وسمي العذاب مكرا لنزوله بهم من حيث لا يشعرون أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ
يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ.
قرأ الجمهور «يهد» بالياء من تحت، أي أولم يتبين للذين يرثون أرض مكة من المتقدمين بسكونها من بعد هلاك أهلها تعذيبنا إياهم بسبب ذنوبهم لو شئنا ذلك كما عذبنا من قبلهم، وفاعل «يهد» مصدر مؤول من «أن» وما في حيزها أن نزل «يهد» منزلة اللازم وإلا فمفعوله له محذوف والتقدير أولم يوضح للوارثين أرض مكة من بعد هلاك أهلها عاقبة أمرهم أن الشأن لو نشاء الإصابة أصبناهم بجزاء ذنوبهم كما أصبنا من قبلهم وأهلكنا الوارثين كما أهلكنا المورثين وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ أي إن لم نهلكهم بالعقاب نطبع على قلوبهم فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) أي لا يقبلون موعظة من أخبار الأمم المهلكة. والمراد إما الإهلاك وإما الطبع على القلب، لأن الإهلاك لا يجتمع مع الطبع على القلب فإذا أهلك شخص يستحيل أن يطبع على قلبه وإنما يحصل الطبع حال استمراره على الكفر فهو يكفر أولا ثم يصير مطبوعا عليه في الكفر، ولم يكن هذا التقرير منافيا لصحة عطف قوله: و «نطبع» على «أصبناهم»
تِلْكَ الْقُرى وهي قرى قوم نوح، وعاد وثمود، وقوم لوط، وقوم شعيب نَقُصُّ عَلَيْكَ يا أكرم الرسل مِنْ أَنْبائِها كيف أهلكت وإنما خصّ الله أنباء هذه القرى لأنهم اغتروا بطول الإمهال مع كثرة النعم فتوهموا أنهم على الحق فذكرها الله تعالى تنبيها لقوم محمد صلّى الله عليه وسلّم ليحترزوا عن مثل تلك الأعمال وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي وبالله لقد جاء كل أمة من تلك الأمم المهلكة أنبياؤهم الذين أرسلوا إليهم بالمعجزات الواضحة الدالة على صحة رسالتهم الموجبة للإيمان فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما(1/387)
كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ
أي فبعد رؤية المعجزات ما كان أولئك الكفار ليؤمنوا بالشرائع التي كذبوها قبل رؤية تلك المعجزات. والمعنى كانت كل أمة من أولئك الأمم في زمن الجاهلية يتسامعون بكلمة التوحيد من بقايا من قبلهم فيكذبونها، ثم كانت حالهم بعد مجيء نبيهم الذي أرسل إليهم كحالتهم قبل ذلك كأن لم يبعث إليهم أحد كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) أي مثل ذلك الذي طبع الله على قلوب كفار الأمم الخالية يطبع على قلوب الكافرين الذين كتب الله عليهم أن لا يؤمنوا أبدا وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ أي وما وجدنا أكثر الناس على إيمان كما قاله ابن مسعود أو على عهد أول وهو الذي عاهدهم الله وهم في صلب آدم حيث قال: ألست بربكم؟
قالوا: بلى، فلما أقروا بربوبية الله تعالى في عالم الذر ثم خالفوا ذلك في هذا العالم صار كأنه ما كان لهم عهد وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102) أي وإن الشأن.
والحديث: «وجدنا أكثر الأمم في عالم الشهادة خارجين عن الطاعة صارفين عن الدين»
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد انقضاء الرسل المذكورين أو من بعد هلاك الأمم المحكية مُوسى بِآياتِنا التسع الدالة على صدقه إِلى فِرْعَوْنَ واسمه قابوس.
وقيل: اسمه الوليد بن مصعب بن ريان، وكان ملكه أربعمائة سنة، وعاش ستمائة وعشرين سنة ولم ير في تلك المدة مكروها قط من وجع، أو حمى، أو جوع، ولو حصل له ذلك لما ادعى الربوبية وَمَلَائِهِ أي عظماء قومه فَظَلَمُوا بِها أي بتلك الآيات أي وضعوا الإنكار في موضع الإقرار ووضعوا الكفر في موضع الإيمان وذلك ظلم منهم على تلك الآيات الظاهرة فَانْظُرْ أيها المخاطب بعين عقلك كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وكيف فعلنا بهم وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ إليك وإلى قومك مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ.
وقرأ نافع «على» بتشديد الياء، ف «حقيق» فحقيق مبتدأ وخبره ما دخلت عليه «أن» ، أي واجب على ترك القول على الله إلا بالحق. والباقون بمد اللام، والمعنى أنا ثابت بأن لا أقول على الله إلا الصدق. وقرأ أبي «بأن لا أقول بالباء» . وقرأ عبد الله والأعمش «أن لا أقول» بدون حرف جر قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ أي معجزة شاهدة على رسالتي مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) أي فخلهم حتى يذهبوا معي إلى الأرض المقدسة التي هي وطن آبائهم مع أموالهم فكان فرعون عاملهم معاملة العبيد في الاستخدام. قالَ أي فرعون إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها أي إن كنت جئت بآية من عند من أرسلك فأحضرها عندي ليثبت صدقك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) في دعواك أنك رسول فَأَلْقى موسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ أي حية ضخمة صفراء ذكر مُبِينٌ (107) أي ظاهر لا يشك في كونه ثعبانا.(1/388)
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)
روي أنه لما ألقاها صارت ثعبانا أشعر، فاغرا فاه بين لحييه ثمانون ذراعا، وضع لحيه الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر، ثم توجه نحو فرعون ليبتلعه فوثب فرعون عن سريره هاربا، وأحدث، وانهزم الناس مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون ألفا، فصاح فرعون: يا موسى، أنشدك بالذي أرسلك خذه وأنا أومن بك وأرسل معك بني إسرائيل، فأخذه فعاد عصا وَنَزَعَ يَدَهُ أي أخرجها من طوق قميصه فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ بياضا نورانيا غلب شعاعه شعاع الشمس لِلنَّاظِرِينَ (108) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أي الرؤساء منهم وهم أصحاب مشورته إِنَّ هذا أي موسى لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) أي حاذق بالسحر، فإنهم قالوا ذلك مع فرعون على سبيل التشاور يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ أي من أرض مصر فَماذا تَأْمُرُونَ (110) قاله لفرعون خدمه والأكابر فإن الأتباع يفوضون الأمر والنهي إلى المخدوم والمتبوع أولا،
ثم يذكرون ما حضر في خواطرهم من المصلحة بقولهم: أرجه وأخاه. قال تعالى: قالُوا أَرْجِهْ فيه ست قراءات. ثلاثة بإثبات الهمزة التي بعد الجيم وهي كسر الهاء من غير إشباع لابن ذكوان عن ابن عامر، وضمها كذلك لأبي عمرو وبإشباع حتى يتولد من الضمة واو على الأصل لابن كثير، وهشام عن ابن عامر. وثلاثة بحذف الهمزة وهي سكون الهاء وصلا ووقفا لعاصم وحمزة، وكسر الهاء من غير إشباع لقالون وبه حتى يتولد منها ياء لنافع والكسائي. وورش أي أخر أمر موسى ولا تعجل في أمره بحكم. والمراد أنهم حاولوا معارضة معجزته بسحرهم ليكون ذلك أقوى في إبطال قول موسى وَأَخاهُ هارون وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) أي وأرسل في مدائن صعيد مصر شرطا يحشرون إليك ما فيها من السحرة وكان رؤساء السحرة ومهرتهم في أقصى مدائن الصعيد يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) أي ماهر في السحر.
وقرأ حمزة والكسائي «سحار» كما اتفقوا عليه في سورة الشعراء وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ بعد ما أرسل الشرط في طلبهم قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً على الغلبة. قرأ نافع وابن كثير وحفص عن عاصم «أن» بهمزة واحدة. والباقون بهمزتين وأدخل أبو عمرو الألف بينهما إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) لموسى قالَ نَعَمْ. وقرأ الكسائي بكسر العين وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) أي نعم لكم الأجر ولكم المنزلة الرفيعة عندي زيادة على الأجر، أي فإني لا أقتصر بكم على الثواب بل أزيدكم عليه، وتلك الزيادة إني أجعلكم من المقربين إليّ بالمنزلة. قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ عصاك أولا وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) ما معناه من الحبال والعصي أولا، فلما راعوا حسن الأدب حيث قدموا ذكر موسى عليه السلام رزقهم الإيمان ببركة رعاية هذا الأدب قالَ موسى مريدا الإبطال ما أتوا به من السحر وإزراء شأنهم: أَلْقُوا ما تلقون فَلَمَّا أَلْقَوْا عصيا وحبالا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ أي صرفوها عن إدراك حقيقتها فتخيلوا أحوالا(1/389)
قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)
عجيبة مع أن الأمر في الحقيقة ما كان وفق ما تخيلوه. قيل: إنهم أتوا بالحبال والعصي ولطخوا تلك الحبال بالزئبق، وجعلوا الزئبق في دواخل تلك العصي فلما أثر تسخين الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض وكانت كثيرة جدا، فالناس تخيلوا أنها تتحرك وتلتوي باختيارها وقدرتها وَاسْتَرْهَبُوهُمْ أي بالغوا في تخويف عظيم للعوام من حركات تلك الحبال والعصي وخاف موسى أن يتفرقوا قبل ظهور معجزته فكان خوفه لأجل فزع الناس واضطرابهم مما رأوه من أمر تلك الحيات، وليس خوفه لأجل سحرهم لأنه كان على ثقة من الله تعالى أنهم لم يغلبوه وهو غالبهم وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) في باب السحر وعند السحرة وإن كان حقيرا في نفسه قيل:
كانت الحبال والعصي حمل ثلاثمائة بعير وذلك أنهم ألقوا حبالا غلاظا وأخشابا طوالا فإذا هي حيات كأمثال الحبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا وكانت سعة الأرض ميلا في ميل فصارت كلها حيات وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ ولما ألقى موسى العصا صارت حية عظيمة حتى سدت الأفق ثم فتحت فكها فكان ما بين فكيها ثمانين ذراعا، وابتلعت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم فلما أخذها موسى صارت عصا كما كانت من غير تفاوت في الحجم أصلا كما قال تعالى فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ أي تلقم ما
يَأْفِكُونَ
(117) أي الذي يقبلونه عن الحق إلى الباطل فَوَقَعَ الْحَقُّ أي فظهر الحق مع موسى وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) أي واضمحل ما عملوه من السحر وسبب هذا الظهور أن السحرة قالوا: لو كان ما صنع موسى سحرا لبقيت حبالنا وعصينا فلما فقدت ثبت أن ذلك حصل بخلق الله تعالى لا لأجل السحر فَغُلِبُوا أي فرعون وقومه هُنالِكَ أي في المكان الذي وقع فيه سحرهم وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) أي صاروا ذليلين مبهوتين وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) أي خروا سجدا لله تعالى أي فمن سرعة سجودهم كأنهم ألقوا.
قال ابن زيد: كان اجتماعهم بالإسكندرية وبلغ ذنب الحية وراء البحر، ثم فتحت فاها ثمانين ذراعا فكان تبتلع حبالهم وعصيهم واحدا واحدا حتى ابتلعت الكل، وقصدت القوم الذين حضروا ذلك المجمع ففزعوا ووقع الزحام، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا، ثم أخذها موسى فصارت في يده عصا كما كانت، فلما رأى السحرة ذلك عرفوا أنه ليس بسحر فعند ذلك خروا ساجدين
قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) قال فرعون: إياي تعنون؟ قالوا: لا بل رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122) ولما ظفروا بالمعرفة سجدوا لله تعالى في الحال وجعلوا ذلك السجود شكرا لله تعالى على الفوز بالإيمان والمعرفة، وعلامة على انقلابهم من الكفر إلى الإيمان، وإظهارا للخضوع والتذلل لله تعالى فكأنهم جعلوا ذلك السجود الواحد علامة على هذه الأمور الثلاثة على سبيل الجمع وأولئك القوم كانوا عالمين بحقيقة السحر، فلما وجدوا معجزة موسى خارجة عن حدّ السحر علموا أنها أمر إلهي فاستدلوا بها على أن موسى نبي صادق من عند الله تعالى فلأجل كمالهم في علم السحر انتقلوا من الكفر إلى الإيمان، فإذا كان حال علم السحر كذلك فما ظنك(1/390)
بكمال حال الإنسان في علم التوحيد قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ أي برب موسى وهارون واختلف القراء في هذا الحرف هنا، وفي طه وفي الشعراء فإن القراء في ذلك على أربع مراتب.
الأولى: قراءة الأخوين وأبي بكر عن عاصم، وهي تحقيق الهمزتين في السور الثلاث من غير إدخال ألف بينهما، وهو استفهام إنكار، وأما الألف الثالثة فالكل يقرءونها كذلك وهي فاء الكلمة يجب قلبها ألفا لكونها بعد همزة مفتوحة، وأما الأولى فمحققة ليس إلا.
والثانية: قراءة حفص وهي «آمنتم» بهمزة واحدة بعدها ألف.
والثالثة: قراءة نافع وأبي عمرو وابن عامر والبزي عن ابن كثير، وهي تحقيق الأولى وتسهيل الثانية بين بين.
والرابعة: قراءة قنبل عن ابن كثير، فقرأ في هذه السورة حال الابتداء «أآمنتم» بهمزتين أولاهما محققة والثانية مسهلة بين بين وألف بعدها، كقراءة البزي وحال الوصل يقرأ «قال فرعون» و «آمنتم» بإبدال الأولى واوا وتسهيل الثانية بين بين وألف بعدها. وقرأ في سورة طه كقراءة حفص وفي سورة الشعراء كقراءة البزي قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أي بغير أن آذن لكم إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها أي إن إيمان هؤلاء حيلة احتلتموها مع مواطأة موسى في مصر قبل أن تخرجوا إلى الميعاد، وأن غرضهم بذلك إخراج القوم من مصر وإبطال ملكهم، وهاتان شبهتان ألقاهما فرعون إلى أسماع عوام القبط ليمنعهم بها عن الإيمان بنبوة موسى عليه السلام فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) ما أفعل بكم لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ أي من كل شق طرفا ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أي أعلقكم ممدودة أيديكم لتصير على هيئة الصليب أو حتى يتقاطر صليبكم وهو الدهن الذي فيكم أَجْمَعِينَ (124) قالُوا أي السحرة: إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) أي راجعون بالموت بلا شك سواء كان بقتلك أو لا فيحكم بيننا وبينك وإنا إلى رحمة ربنا راغبون وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا أي ما تعب علينا إلا إيماننا آيات ربنا، أو ما لنا عندك ذنب تعذبنا عليه إلا لإيماننا بآيات ربنا حين جاءتنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أي صبّ علينا صبرا كاملا تاما عند القطع والصلب لكيلا نرجع كفارا وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126) أي مخلصين على دين موسى. قيل:
فعل فرعون ما توعدهم به، وقيل: لم يقع من فرعون ذلك بل استجاب الله تعالى الدعاء في قولهم وتوفنا مسلمين لأنهم سألوه تعالى أن يكون توفيهم من جهته تعالى لا بقتل فرعون وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ له لما خلى سبيل موسى أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ من بني إسرائيل لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أي ليفسدوا على الناس في أرض مصر بتغيير دينهم. واعلم أن فرعون بعد وقوع هذه الواقعة كان كلما رأى موسى خافه أشد الخوف فلهذا السبب لم يتعرض له، إلا أن قومه لم يعرفوا ذلك فحملوه على أخذه وحبسه وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ أي معبوداتك بكسر اللام جمع إله.(1/391)
فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)
وقرأ ابن عمر وابن مسعود وابن عباس وأنس وعلي بن أبي طالب «وآلاهتك» بفتح اللام ومدة أي وعبادتك. وقرأ العامة بنصب «يذرك» عطف على «يفسدوا» أو جواب الاستفهام بالواو.
وقرأ الحسن ونعيم بن ميسرة بالرفع عطفا على «أنذر» أو استئنافا أو حالا. وقرئ بالسكون قالَ فرعون لما لم يقدر على موسى أن يفعل معه مكروها لخوفه منه سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ أي أبناء بني إسرائيل ومن آمن موسى صغارا كما قتلناهم أول مرة، وقرأ نافع وابن كثير «سنقتل» بفتح النون وسكون القاف. والباقون بضم النون وفتح القاف وتشديد التاء وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ أي ونتركهن أحياء للخدمة وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127) كما كنا وهم مقهورون تحت أيدينا وإنما نترك موسى وقومه من غير حبس لعدم التفاتنا إليهم لا لعجز ولا لخوف، واختلف المفسرون، فمنهم من قال: كان فرعون يفعل ذلك، ومنهم من قال: لم يفعل ذلك لعدم قدرته لقوله تعالى:
أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ [القصص: 35] قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ بني إسرائيل حين تضجروا من قول فرعون على سبيل التسلية لهم اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ على فرعون وقومه وَاصْبِرُوا على ما سمعتم من أقاويله الباطلة إِنَّ الْأَرْضَ أي أرض مصر لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ.
وقرأ الحسن «يورثها» بفتح الواو وتشديد الراء المكسورة للتكثير. وقرئ «يورثها» بفتح الراء مبنيا للمفعول وَالْعاقِبَةُ أي الجنة أو فتح البلاد والنصر على الأعداء لِلْمُتَّقِينَ (128) أي الذين أنتم منهم فمن اتقى الله تعالى فالله يعينه في الدنيا والآخرة. وقرأ ابن مسعود بنصب العاقبة عطفا على الأرض، فالاسم معطوف على الاسم والخبر على الخبر فهو من عطف المفردات.
قالُوا أي بنو إسرائيل لموسى لما سمعوا تهديد فرعون بالقتل للأبناء مرة ثانية: أُوذِينا من جهة فرعون مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا بالرسالة وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا رسولا. قالوا ذلك استكشافا لكيفية وعد موسى إياهم بزوال تلك المضار هل هو في الحال أو لا؟ لا كراهة لمجيء موسى بالرسالة. قالَ أي موسى مسليا لهم حين رأى شدة جزعهم مما شاهدوه من فعل فرعون:
عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ الذي توعدكم بإعادة فعله وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي يجعلكم خلفاء في الأرض مصر بعد هلاك أهلها فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) أي فيرى سبحانه وتعالى كيف تعملون في طاعته وهذا حث لهم على التمسك بطاعة الله تعالى، فالله تعالى يرى وقوع ذلك منكم لأن الله تعالى لا يجازي عباده على ما يعلمه منهم في الأزل وإنما يجازيهم على ما يقع منهم وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ أي باحتباس المطر وبالجوع وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ أي ذهاب الثمرات بإصابة العاهات لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) أي كي يقفوا على أن ذلك لأجل معاصيهم وينزجوا عمّا هم عليه من العتو والعناد
فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ أي الخصب والسعة في الرزق والسلامة قالُوا لَنا هذِهِ أي نحن مستحقون من كثرة نعمنا على العادة التي جرت وَإِنْ(1/392)
تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ
أي جدوبة وشدة وبلاء يَطَّيَّرُوا أي يتشاءموا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ من المؤمنين، أي يقولوا: إنما أصابنا هذا الشر بشؤم موسى وقومه أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ أي حظهم عِنْدَ اللَّهِ أي كل ما يصيبهم من خير أو شر فهو بقضاء الله تعالى وبتقديره.
وقيل: المعنى إنما جاءهم الشر بقضاء الله تعالى وحكمه. وكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يتفاءل ولا يتطير. وأصل الفأل: الكلمة الحسنة. كانت العرب مذهبها في الفأل
والطيرة واحد فأثبت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الفأل وأبطل الطيرة وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) أن ما يصيبهم من الله تعالى وَقالُوا أي آل فرعون وهم القبط لموسى عليه السلام مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) أي أيّ شيء تظهره لدينا من علامة من عند ربك لتصرفنا عمّا نحن عليه من الدين بذلك الشيء فما نحن لك بمصدقين بالرسالة وكان موسى رجلا حديدا فعند ذلك دعا عليهم فاستجاب الله له فقال تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ أي الماء من السماء فدخل بيوت القبط وقاموا في الماء إلى تراقيهم ودام ذلك عليهم سبعة أيام من سبت إلى سبت، ولم يدخل ذلك الماء بيوت بني إسرائيل مع أنها كانت في خلال بيوت القبط فاستغاثوا بفرعون، فأرسل إلى موسى فقال: اكشف عنا العذاب فقد صارت مصر بحرا واحدا، فإن كشفت هذا العذاب آمنا بك. فأزال الله عنهم المطر وأرسل الرياح فجففت الأرض وخرج من النبات ما لم يروا مثله قط. فقالوا: هذا الذي جزعنا منه خير لنا لكنا لم نشعر فلا والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل فنكثوا العهد وَأقاموا شهر في عافية فأرسل الله تعالى عليهم الْجَرادَ فأكل زروعهم وثمارهم وأبوابهم وسقوفهم وثيابهم ففزعوا إلى موسى، فدعا موسى عليه السلام فأرسل الله تعالى ريحا، فألقته في البحر بعد ما أقام عليهم سبعة أيام من سبت إلى سبت، فنظر أهل مصر إلى ما بقي من زرعهم فقالوا: هذا الذي بقي يكفينا ولا نؤمن بك وَأقاموا شهرا في عافية فأرسل الله عليهم الْقُمَّلَ أي الجراد الصغير بلا أجنحة من سبت، فلم يبق في أرضهم عود أخضر إلا أكله، فصاحوا ودعا موسى فأرسل الله عليه ريحا حارة فأحرقته وألقته في البحر.
وقرأ الحسن «والقمل» بفتح القاف وسكون الميم- وهو المعروف- وعن سعد بن جبير كان إلى جنبهم كثيب أعفر فضربه موسى بعصاه فصار قملا، فأخذت في أبشارهم وأشعارهم وأشفار عيونهم وحواجبهم، فصرخوا وفزعوا إلى موسى، فدعا، فرفع الله عنهم القمل وقالوا:
قد تيقّنا اليوم أنك ساحر حيث جعلت الرمل دواب، وعزة فرعون لا نؤمن بك أبدا وَأقاموا شهرا في عافية، فأرسل الله تعالى عليهم الضَّفادِعَ فخرج من البحر مثل الليل الدامس، ووقع في الثياب والأطعمة فكان الرجل منهم يستيقظ وعلى رأسه ذراع من الضفادع، فصرخوا إلى موسى وحلفوا لئن رفعت عنا هذا العذاب لنؤمن بك، فدعا الله تعالى، فأمات الضفادع، وأرسل(1/393)
عليها المطر فاحتملها إلى البحر بعد ما أقامت عليهم سبعة أيام من سبت إلى سبت، ثم أظهروا الكفر وَأقاموا شهرا في عافية، فأرسل الله عليهم الدَّمَ فصارت مياه قلبهم وأنهارهم دما، فلم يقدروا على الماء العذب حتى بلغ منهم الجهد، وبنو إسرائيل يجدون الماء العذب الطيب، وكان فرعون وأشراف قومه يركبون إلى أنهار بني إسرائيل، فجعل يدخل الرجل منهم النهر فإذا اغترف الماء صار في يده دما، ومكثوا سبعة أيام في ذلك لا يشربون إلا الدم. فقال فرعون لموسى عليه السلام: لئن رفعت عنا العذاب لنصدقن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل مع أموالهم آياتٍ مُفَصَّلاتٍ أي مبينات لا يخفى على كل عاقل أن هذه الخمسة من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره، ومفرقات بعضها من بعض بزمان لامتحان أحوالهم: أيقبلون الحجة أو يستمرون على التقليد. وكان كل عذاب يبقى عليهم أسبوعا من سبت إلى سبت وبين كل عذابين شهر فَاسْتَكْبَرُوا عن الإيمان بها وعن عبادة الله وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) مصرين على الذنب وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ أي كلما نزل عليهم العذاب من الأنواع الخمسة قالُوا في كل مرة:
يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي بما أعلمك به وهو كشف العذاب عنا إن آمنا. أو المعنى أقسمنا بعهد الله عندك وهو النبوة لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ أي لئن رفعت عنا العذاب الذي نزل علينا لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) أي مع أموالهم فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ أي حدّ معين هُمْ بالِغُوهُ لا بدّ وهو وقت إهلاكهم بالغرق في اليم إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) أي فلما رفعنا عنهم العذاب فاجأوا نكث العهد من غير تأمل وتوقف، ثم عند حلول ذلك الأجل لا نزيل عنهم العذاب بل نهلكهم به فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ أي فلما بلغوا الأجل الموقت أهلكناهم فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ أي البحر الملح. والفاء تفسيرية بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا التسع الدالة على صدق رسولنا وَكانُوا عَنْها أي تلك الآيات غافِلِينَ (136) أي معرضين غير ملتفتين إليها وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ بقتل أبنائهم وأخذ الجزية منهم واستعمالهم في الأعمال الشاقة وهم بنو إسرائيل مَشارِقَ الْأَرْضِ أي أرض الشام ومصر وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها بالخصب وسعة الأرزاق، وبالنيل وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي ومضى وعده تعالى عليهم بِما صَبَرُوا أي بسبب صبرهم على الشدائد. فمن قابل البلاء بالصبر وانتظار النصر ضمن الله له الفرج، ومن قابله بالجزع وكله الله إليه. وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ ف «فرعون» اسم «كان» و «يصنع» خبر ل «كان» مقدم. أي وخربنا الذي كان فرعون يصنعه من المدائن والقصور وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137) أي يرفعون من الشجر والكروم أو ما كانوا يرفعونه من البنيان كصرح هامان.
وقرأ ابن عامر وشعبة بضم الراء. والباقون بكسرها وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ مع السلامة بأن فلق الله البحر عند ضرب موسى البحر بالعصا. روي أن موسى عبر بهم يوم عاشوراء(1/394)
وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)
بعد ما أهلك الله تعالى فرعون وصامه شكرا لله تعالى فَأَتَوْا أي فمروا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ أي يواظبون على عبادة أصنام لهم وكانت تماثيل على صور البقر، وهم من الكنعانيين الذين أمر موسى بقتالهم.
وقرأ حمزة والكسائي بكسر الكاف. والباقون بالضم قالُوا عند ما شاهدوا أحوالهم يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً أي عين لنا تماثيل نتقرب بعبادتها إلى الله تعالى كَما لَهُمْ آلِهَةٌ يعبدونها. قالَ موسى: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) فلا جهل أعظم مما ظهر منهم فإنهم قالوا ذلك بعد ما شاهدوا المعجزة العظمى إِنَّ هؤُلاءِ أي القوم الذين يعبدون تلك التماثيل مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ أي مهلك ما هم فيه من الدين. أي إن الله يهدم دينهم عن قريب ويحطم أصنامهم وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) من عبادتها أي فلا يعود عليهم من ذلك العمل نفع ولا دفع ضرر. قالَ موسى: أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) أي أأطلب لكم غير الله معبودا والحال أنه تعالى وحده فضّلكم على عالمي زمانكم بالإسلام. أو فضلكم على العالمين بتخصيصكم بنعم لم يعطها غيركم، كالتخصيص بتلك الآيات القاهرات فإنه لم يحصل مثلها لأحد من العالمين، وإن كان غيرهم فضلهم بسائر الخصال مثاله رجل تعلّم علما واحدا وآخر تعلّم علوما كثيرة سوى ذلك العلم، فصاحب العلم الواحد مفضل على صاحب العلوم الكثيرة بذلك الواحد. وفي الحقيقة إن صاحب العلوم الكثيرة مفضل على صاحب العلم الواحد والمعنى أآمركم أن تعبدوا ربا يتخذ ويطلب بل الإله هو الذي يكون قادرا على الإيجاد وإعطاء الحياة وجميع النعم
وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ أي واذكروا وقت إنجائنا إياكم من فرعون وقومه بإهلاكهم بالكلية.
وقرأ ابن عامر «أنجاكم» بحذف الياء والنون يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ أي يعطونكم أشد العذاب يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ صغارا وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ أي يستخدمون نساءكم كبارا وَفِي ذلِكُمْ أي الإنجاء بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) أي نعمة عظيمة من ربكم ويقال:
وفي ذلكم العذاب بلية عظيمة من ربكم وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً.
روي أن موسى وهو بمصر وعد بني إسرائيل إذا أهلك الله تعالى عدوهم فرعون أن يأتيهم بكتاب من عند الله تعالى فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما أهلك الله تعالى فرعون سأل موسى ربه أن ينزل عليه الكتاب الذي وعد به بني إسرائيل فأمره أن يصوم ثلاثين يوما فصامها وهي شهر ذي القعدة، فلما أتم الثلاثين أنكر خلوف فمه فتسوك بعود خرنوب. فقالت الملائكة: كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك فأمره الله أن يصوم عشر ذي الحجة وقال له: أما علمت أن(1/395)
خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك فكانت فتنة بني إسرائيل في تلك العشر التي زادها الله تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام. وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ
عند ذهابه إلى الجبل للمناداة: اخْلُفْنِي أي كن خليفتي فِي قَوْمِي وراقبهم فيما يأتون وما يذرون وَأَصْلِحْ أمور بني إسرائيل وأمرهم بعبادة الله تعالى وهي صلاحهم وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) أي ومن دعاك منهم إلى طريق المفسدين بالمعاصي فلا توافقه وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا أي لميعادنا في مدن في يوم الخميس يوم عرفة فكلمه الله تعالى فيه من غير واسطة وأعطاه التوراة صبيحة يوم الجمعة يوم النحر وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ أي أزال الحجاب بين موسى وبين كلامه فسمعه من كل جهة.
قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ أي أرني ذاتك بأن تمكنني من رؤيتك فأراك. قالَ تعالى له: لَنْ تَرانِي أي لن تقدر أن تراني في الدنيا يا موسى وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ في مدين فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي أي فإن استقر الجبل مكانه لرؤيتي فلعلك تراني. والرؤية متأخرة عن النظر، لأنه تقليب الحدقة السليمة جهة المرئي التماسا لرؤيته، والرؤية الإدراك بالباصرة بعد النظر فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا أي فلما ظهرت عظمته تعالى لجبل زبير جعله مكسورا. قيل: إن جبل زبير أعظم جبل في مدين فإنه صار ستة أجبل، فوقع ثلاثة منها بالمدينة وهي: أحد، وورقان، ورضوى. وقع ثلاثة بمكة وهي: ثور وثبير وحراء، أي أمر الله تعالى ملائكة السماء السابعة بحمل عرشه، فلما بدا نور العرش انصدع الجبل من عظمة الله تعالى.
وقرأ حمزة الكسائي «دكاء» بالمد أي مستويا بالأرض. وقرأ ابن وثاب «دكا» بضم الدال وبالقصر جمع دكاء أي قطعا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً أي مغشيا عليه من هول ما رآه من النور فَلَمَّا أَفاقَ من غشيته قالَ سُبْحانَكَ أي تنزيها لك عن أن ترى في الدنيا تُبْتُ إِلَيْكَ من الجراءة على السؤال بغير إذن منك وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) أي المقرين بأنك لا ترى في الدنيا لكل الأنبياء، وقد ثبتت الرؤية لنبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم ليلة الإسراء على الصحيح أو يقال: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بأنه لا يجوز السؤال منك إلا بإذنك قالَ تعالى له: قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ أي فضلتك عَلَى النَّاسِ أي بني إسرائيل بِرِسالاتِي أي بكتب التوراة. وقرأ نافع وابن كثير «برسالتي» بالإفراد أي تبليغ رسالتي وَبِكَلامِي أي وبتكلمي معك بغير واسطة فَخُذْ ما آتَيْتُكَ أي فاعمل ما أعطيتك من الرسالة أي الوحي وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) أي واشتغل بشكر الفوز بهذه النعمة وهو القيام بلوازمها علما وعملا، ولا يضق قلبك بسبب منعك الرؤية وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ أي وكتبنا لموسى في ألواح التوراة مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يحتاج إليه موسى وقومه في دينهم من الحلال والحرام والمحاسن والقبائح مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ بدل من قوله تعالى «من كل شيء» باعتبار محله وهو النصب. أي كتبنا له كل شيء من المواعظ التي توجب الرغبة في الطاعة والنفرة عن المعصية، ومن شرح أقسام الأحكام فَخُذْها أي فقلنا(1/396)
اعمل بهذه الأشياء بِقُوَّةٍ أي بجد ونية صادقة وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها أي التوراة. أي يعملوا بمحكمها ويؤمنوا بمتشابهها وقال بعضهم: الحسن يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح، وأحسن هذه الثلاثة الواجبات والمندوبات سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145) أي سأدخلكم الشام بطريق الإيراث، وأريكم منازل الكافرين الذين كانوا متوطنين فيها من الجبابرة والعمالقة لتعتبروا بها فلا تفسقوا مثل فسقهم. وقرئ «سأورثكم» بالثاء المثلثة سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي سأزيل الذين يتكبرون في الأرض بالدين الباطل عن إبطال آياتي بإهلاكهم على يد موسى، وإن اجتهدوا كما اجتهد فرعون في إبطال ما رآه من الآيات فلا يقدرون على منع موسى من تبليغها ولا على منع المؤمنين من الإيمان بها، أي وإنما يرى بنو إسرائيل دار الفاسقين بعد هلاكهم وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها أي وأن يشاهدوا كل معجزة كفروا بكل واحدة منها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ أي الدين الحق والخير لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا أي لا يسلكوا سبيله.
وقرأ حمزة والكسائي «الرشد» بفتح الراء والشين. والباقون بضم الراء وسكون الشين.
وروي عن ابن عامر بضمتين، وقال أبو عمرو بن العلاء: «الرشد» بضم وسكون: الصلاح في النظر. وبفتحتين: الاستقامة في الدين وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ أي الضلال يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا أي يختارونه مسلكا لأنفسهم ذلِكَ أي تكبرهم وعدم إيمانهم بشتى من الآيات وإعراضهم عن سبيل الرشد وإقبالهم التام إلى سبيل الغي بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي حاصل بسبب أنهم كذبوا بكتابنا الدال على بطلان اتصافهم بالقبائح وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) أي وكانوا جاحدين بها وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي بكتابنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ أي وبلقائهم الآخرة التي هي موعد الجزاء حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أي حسناتهم التي لا تتوقف على نية، كصلة الأرحام وإغاثة الملهوفين وإن نفعتهم في تخفيف العذاب، لكن التخفيف لا يقال له: ثواب. هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147) أي ما يجزون في الآخرة إلا على ما كانوا يعملون في الدنيا من الكفر والمعاصي وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا أي صاغ موسى السامري المنافق وهو من بني إسرائيل من بعد انطلاق سيدنا موسى عليه السلام إلى الجبل عجلا من ذهب جَسَداً أتى بهذا البدل لدفع توهم أنه صورة عجل منقوشة على حائط مثلا لَهُ خُوارٌ أي صوت.
وقرأ علي رضي الله عنه «جؤار» بالجيم والهمزة أي صياح. قيل: إن بني إسرائيل كان لهم، عيد يتزينون فيه ويستعيرون من القبط الحلي، فلما أغرق الله القبط بقيت تلك الحلي في أيدي بني إسرائيل وصارت ملكا لهم، فجمع السامري تلك الحلي. وكان رجلا مطاطا فيهم صائغا، فصاغ السامري عجلا وأخذ كفا من تراب حافر فرس جبريل عليه السلام فألقاه في جوف ذلك العجل،(1/397)
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)
فانقلب لحما ودما، وظهر منه الخوار مرة واحدة. فقال السامري: هذا إلهكم وإله موسى أَلَمْ يَرَوْا أي ألم يعلم قوم موسى أَنَّهُ أي العجل لا يُكَلِّمُهُمْ بشيء وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا بوجه من الوجوه اتَّخَذُوهُ أي عبدوه وَكانُوا ظالِمِينَ (148) لأنفسهم حيث أعرضوا عن عبادة الله تعالى واشتغلوا بعبادة العجل وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ أي لما اشتد ندمهم على عبادة العجل.
و «سقط» مبني للمجهول، وأصل الكلام: سقطت أفواههم على أيديهم ف «في» بمعنى على وذلك من شدة الندم، فإن العادة أن الإنسان إذا ندم بقلبه على شيء عضّ بفمه على أصابعه، فسقوط الأفواه على الأيدي لازم للندم فأطلق اسم اللازم وأريد الملزوم على سبيل الكناية وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا أي تبينوا ضلالهم تبيينا كأنهم أبصروه بعيونهم بحيث تيقنوا ضلالهم بعبادة العجل.
قالُوا أي قال بعضهم لبعض: لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا فيعذبنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) بالعقوبة.
وقرأ حمزة والكسائي بتاء الخطاب في الفعلين حكاية لدعائهم وبنصب «ربنا» على النداء وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ من مناجاته غَضْبانَ على قومه لأجل عبادتهم العجل أَسِفاً أي حزينا لأن الله تعالى فتنهم قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أي بئسما قمتم مقامي وكنتم خلفائي من بعد انطلاقي إلى الجبل. وهذا الخطاب إما لعبدة العجل من السامري وأشياعه، أي بئسما خلفتموني حيث عبدتم العجل مكان عبادة الله تعالى، وإما لهارون والمؤمنين معه أي بئسما خلفتموني حيث لم تمنعوهم من عبادة غير الله تعالى والمخصوص بالذم محذوف تقديره بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم هذه أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ أي أعجلتم وعد ربكم من الأربعين فلم تصبروا له وذلك أنهم قدروا أن موسى لما لم يأت على رأس الثلاثين ليلة فقد مات فإنهم عدوا عشرين يوما بلياليها أربعين وَأَلْقَى الْأَلْواحَ أي وضع ألواح التوراة في موضع ليتفرغ لما قصده من مكالمة قومه فلما فرغ عاد إليها فأخذها بعينها وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ أي بشعر رأس هارون يَجُرُّهُ إِلَيْهِ أي إلى نفسه لا على سبيل الإهانة بل ليستكشف منه كيفية تلك الواقعة قالَ هارون ابْنَ أُمَّ.
قراه ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بكسر الميم هنا وفي طه. والباقون بفتحها في السورتين إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي أي وجدوني ضعيفا وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي لأني نهيتهم عن عبادة العجل فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ أي فلا تسر الأعداء أصحاب العجل بما تفعل بي من المكروه وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) أي ولا تظن أني واحد من الذين عبدوا العجل مع براءتي منهم وإنما قال هارون تلك المقالة لأنه يخاف أن يتوهم جهال بني إسرائيل أن موسى عليه السلام غضبان عليه كما أنه غضبان على عبدة العجل.
قالَ موسى: رَبِّ اغْفِرْ لِي فيما(1/398)
أقدمت على أخي هارون من هذا الغضب وَلِأَخِي في تركه التشديد على عبدة العجل وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ أي جنتك بمزيد الأنعام بعد غفران ما سلف منا وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) فأنت أرحم بنا منا على أنفسنا إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ أي عبدوه واستمروا على عبادته كالسامري وأشياعه سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ عظيم كائن مِنْ رَبِّهِمْ في الآخرة وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وهي الاغتراب والمسكنة المنتظرة لهم ولأولادهم جميعا والذلة التي اختص بها السامري هو الانفراد عن الناس والابتلاء بلا مساس، ويروى أن بقاياهم اليوم يقولون ذلك وإذا مس أحدهم أحدا غيرهم حما جميعا في الوقت وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) أي الكاذبين على الله.
والمعنى أن كل مفتر في دين الله فجزاؤه غضب الله والذلة في الدنيا.
قال مالك بن أنس: ما من مبتدع إلا ويجد فوق رأسه ذلة لأن المبتدع مفتر في دين الله وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ أي التي من جملتها عبادة العجل ثُمَّ تابُوا عن تلك السيئات مِنْ بَعْدِها أي من بعد عملها وَآمَنُوا إيمانا صحيحا بالله تعالى بأن صدقوا بأنه تعالى لا إله غيره ولم يصروا على ما فعلوا كالطائفة الأولى إِنَّ رَبَّكَ أي يا أفضل الخلق مِنْ بَعْدِها أي من بعد تلك التوبة المقرونة بالإيمان لَغَفُورٌ للذنوب وإن عظمت وكثرت رَحِيمٌ (153) أي مبالغ في إفاضة فنون الرحمة الدنيوية والأخروية أي من أتى بجميع السيئات ثم تاب فإن الله يغفرها له وهذا من أعظم ما يفيد البشارة للمذنبين وَلَمَّا سَكَتَ أي زال عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ باعتذار أخيه وتوبة القوم. وقرئ «سكن» بالنون، و «أسكت» بالتاء مع الهمزة على أن الفاعل هو الله تعالى أو أخوه أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها أي وفي المكتوب فيها من اللوح المحفوظ هُدىً أي بيان للحق وَرَحْمَةٌ للخلق بإرشادهم إلى ما فيه الخير والصلاح لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) اللام الأولى متعلق بمحذوف وهو صفة لرحمة والثانية لتقوية عمل الفعل المؤخر وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا.
روي أن موسى اختار من اثني عشر سبطا ستة، فصاروا اثنين وسبعين، فقال: ليتخلف منكم رجلان. فتشاجروا، فقال: إن لمن قعد منكم مثل أجر من خرج فقعد كالب ويوشع وذهب مع الباقين وأمرهم أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم، فخرج بهم إلى طور سيناء فلما دنوا من الجبل غشية غمام فدخل موسى بهم الغمام، وخروا سجدا فسمعوه تعالى يكلم موسى بأمره وينهاه، ثم انكشف الغمام فأقبلوا إلى موسى وقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. أي لن نصدقك في أن الآمر بما سمعنا من الأمر بقتل أنفسهم هو الله تعالى حتى نراه فأخذتهم رجفة الجبل يوما وليلة.
تنبيه: «اختار» يتعدى إلى اثنين ثانيهما مجرور ب «من» ثم يحذف حرف الجر ويوصل الفعل إلى المجرور وسبعين مفعول أول فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي الزلزلة الشديدة. قالَ(1/399)
موسى: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ أي من قبل خروجهم إلى الميقات وَإِيَّايَ معهم.
قاله تسليما لقضاء الله تعالى. أي إنا كنا مستحقين للإهلاك ولم يكن من موانعه إلا عدم مشيئتك إياه أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا أي ظن موسى إنما أهلكهم الله بعبادة قومهم العجل وقال هذا على طريق السؤال، وقال المبرد: «هو استفهام استعطاف، أي لا تهلكنا بسبب فعل عباد العجل إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ أي ما الفتنة التي وقع فيها السفهاء إلا محنتك بأن أوجدت في العجل خوارا فزاغوا به وأسمعتهم كلامك فافتتنوا بذلك حتى طمعوا فيما فوق ذلك تُضِلُّ بِها أي بتلك الفتنة مَنْ تَشاءُ إضلالة فلا يهتدي إلى التثبت وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ هدايته إلى الحق فلا يتزلزل في أمثالها فيقوى بها إيمانه أَنْتَ وَلِيُّنا أي أنت القائم بأمورنا الدنيوية والأخروية فَاغْفِرْ لَنا ما قارفناه من المعاصي وَارْحَمْنا بإفاضة آثار الرحمة الدنيوية والأخروية علينا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) لأنك تغفر ذنوب عبادك لا لغرض بل لمحض الفضل والكرم أما غيرك فإنما يتجاوز عن الذنب إما طلبا للثواب الجزيل أو للثناء الجميل أو دفعا للربقة الخسيسة عن القلب وَاكْتُبْ لَنا أي أثبت لنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً أي نعمة وطاعة وَفِي الْآخِرَةِ أي واكتب لنا في الآخرة حسنة وهي الجنة إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ أي رجعنا عمّا صنعنا من المعصية التي جئناك للاعتذار عنها قالَ تعالى: عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وليس لأحد على اعتراض لأن الكل ملكي.
وقرأ الحسن «من أساء» فعل ماض من الإساءة. واختار الشافعي هذه القراءة وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ أي إن رحمته في الدنيا عمّت الكل، وأما في الآخرة فرحمته مختصة بالمؤمنين كما أشار تعالى إليه بقوله تعالى: فَسَأَكْتُبُها أي فسأثبتها في الآخرة لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أي الكفر والمعاصي وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي يعطون زكاة أموالهم وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا أي دلائل وحدانيتنا وقدرتنا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ أي الذي لم يمارس القراءة والكتابة ومع ذلك قد جمع علوم الأولين والآخرين الَّذِي يَجِدُونَهُ يلقون اسمه ونعته مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ اللذين تعبّد بهما بنو إسرائيل يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ أي بالتوحيد وبمكارم الأخلاق وبر الوالدين، وصلة الأرحام. وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ أي عبادة الأوثان والقول في صفات الله بغير علم، والكفر بما أنزل الله على النبيين وقطع الرحم وعقوق الوالدين وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ أي الأشياء المستطابة بحسب الطبع، فكل ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع فهو حلال إلا لدليل منفصل وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ أي كل ما يستخبثه الطبع وتستقذره النفس. فكل ما يستخبثه الطبع حرام إلا لدليل منفصل وعلى هذا فرع الشافعي تحريم بيع الكلب لأنه
روي عن ابن عباس عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الكلب خبيث وخبيث ثمنه وإذا ثبت أن ثمنه، خبيث ثبت أن يكون حراما، والخمر محرّمة لأنها رجس والرجس خبيث بإطباق أهل اللغة عليه(1/400)
والخبيث حرام»
«1» . وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ أي يخفف عنهم ثقلهم، والشدائد التي كانت في عباداتهم: كقطع أثر البول من الجلد والثوب، وإحراق الغنائم وتحريم السبي، وقتل النفس في التوبة، وتعيين القصاص في العمد والخطأ، وقطع الأعضاء الخاطئة.
وعن عطاء: كانت بنو إسرائيل إذا قاموا إلى الصلاة لبسوا المسوح، وغلوا أيديهم إلى أعناقهم تواضعا لله تعالى. فعلى هذا القول الأغلال غير مستعارة، أي وكانت هذه الأثقال في شريعة موسى عليه السلام فلما جاء محمد صلّى الله عليه وسلّم نسخ ذلك كله، ويدل عليه
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «بعثت بالحنيفية السهلة السمحة»
«2» . وقرأ ابن عامر وحده آصارهم على الجمع فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ أي بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم من اليهود كعبد الله بن سلام وأصحابه وَعَزَّرُوهُ أي أعانوه بمنع أعدائه منه وَنَصَرُوهُ أي على أعدائه في الدين بالسيف وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أي واتبعوا القرآن الذي أنزل مع نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم فإن نبوته ظهرت مع ظهور القرآن وعبر عنه بالنور الدال على كونه مظهرا للحقائق أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) أي الفائزون بالمطلوب في الدنيا والآخرة والناجون من السخط والعذاب لا غيرهم من الأمم قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الذي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ.
واعلم أن هذه الدعوى- وهي دعوى رسول الله- لا تظهر فائدتها إلا بتقرير أصول ثلاثة:
أولها: إثبات أن للعالم إلها حيا عالما قادرا، والذي يدل عليه ما في قوله تعالى: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [البروج: 9] لأنه بتقدير عدم حصول مؤثر للعالم في وجوده، أو بتقدير كون المؤثر موجبا بالذات لا فاعلا بالاختيار لم يصح القول ببعثة الأنبياء عليهم السلام.
وثانيها: إثبات أن إله العالم واحد منزه عن الشريك والضد والند وإليه الإشارة بقوله تعالى لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، لأنه إذا لم يثبت كون الإله تعالى واحدا لم يكن إرسال الرسل، وإنزال الكتب جائزا لأنه بتقدير كون إلهين للعالم يجوز أن يكون الإنسان الذي يدعوه رسول أحدهما مخلوقا للإله الثاني، فإيجاب الطاعة للإله الذي لم يخلقه ظلم وباطل.
وثالثها: إثبات أنه تعالى قادرا على الحشر والنشر والبعث والقيامة وإليه الإشارة بقوله تعالى: يُحيِي وَيُمِيتُ لأنه تعالى لما أحيا أولا ثبت كونه تعالى قادرا على
الإحياء ثانيا، ويكون
__________
(1) رواه مسلم في كتاب المساقاة، باب: 41، وأبو داود في كتاب البيوع، باب: في كسب الحجام، والترمذي في كتاب البيوع، باب: 46، والدارمي في كتاب البيوع، باب: في النهي عن كسب الحجام، وأحمد في (م 1/ ص 278) .
(2) رواه أحمد في (م 5/ ص 266) .(1/401)
قادرا على إيصال الجزاء لأنه بتقدير عدم ثبوت الإعادة كان الاشتغال بالطاعة والاحتراز عن المعصية عبثا ولغوا، ولما ثبت القول بصحة هذه الأصول الثلاثة ثبت أنه يصح من الله تعالى إرسال الرسل ومطالبة الخلق بالتكاليف، لأن الخلق كلهم عبيده تعالى ولذلك قال تعالى:
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ.
واعلم أن هذا إشارة إلى المعجزات الدالة على كون محمد نبيا حقا، ومعجزات رسول الله كانت على نوعين:
الأول: المعجزات التي ظهرت في ذاته المباركة وأجلها أنه صلّى الله عليه وسلّم كان رجلا أمّيا لم يتعلم من أستاذ، ولم يطالع كتابا، ولم يتفق له مجالسة أحد من العلماء ومع ذلك فتح الله عليه باب العلم وأظهر عليه القرآن المشتمل على علوم الأولين والآخرين، فظهور هذه العلوم العظيمة على من كان صفته أميا أعظم المعجزات.
والثاني: المعجزات التي ظهرت من خارج ذاته مثل انشقاق القمر ونبوع الماء من بين أصابعه وهي تسمى بكلمات الله تعالى، لأنها لما كانت أمورا غريبة خارقة للعادة تسمى بكلمات الله، كما أن عيسى عليه السلام لما كان حدوثه أمرا غريبا مخالفا للمعتاد سماه الله تعالى كلمة.
وقال ابن عباس: ومعنى كلماته بالجمع كتابه- وهو القرآن- وإن قرئ «وكلمته» بالإفراد كان معناه عيسى، وهذا تنبيه على أن من لم يؤمن به لم يعتدّ بإيمانه وتعريض باليهود، ولما ثبت بالدلائل نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم ذكر الله الطريق الذي به يمكن معرفة شرعه بالتفصيل وهو الرجوع إلى أقواله وأفعاله فقال: وَاتَّبِعُوهُ أي في كل ما يأتي وما يذر من أمور الدين لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) أي رجاء لاهتدائكم إلى المطلوب وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ أي جماعة يَهْدُونَ بِالْحَقِّ أي يدعون الناس إلى الهداية بالحق وَبِهِ أي بالحق يَعْدِلُونَ (159) في الأحكام الجارية فيما بينهم، فقيل: هم اليهود الذين كانوا في زمان الرسول وأسلموا مثل عبد الله بن سلام وابن صوريا. وقيل: إنهم قوم مشوا على الدين الحق الذي جاء به موسى ودعوا الناس إليه وصانوه عن التحريف في زمن تفريق بني إسرائيل وإحداثهم البدع.
وقال السدي وجماعة من المفسرين: إن بني إسرائيل لما كفروا وقتلوا الأنبياء بقي سبط من جملة الاثني عشر، فما صنعوا وسألوا الله تعالى أن ينقذهم منهم ففتح الله لهم نفقا في الأرض فساروا فيه سنة ونصفا حتى خرجوا من وراء الصين عند مطلع الشمس على نهر رمل يسمى أردن وهم اليوم هناك حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً أي فرقنا بني إسرائيل اثنتي عشرة فرقة، لأنهم كانوا من اثني عشر رجلا من أولاد يعقوب، وميزنا بعضهم من(1/402)
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
بعض أسباطا قائم مقام قبيلة وهو تمييز أو بدل من اثنتي عشرة وأمما بدل من أسباطا أي وصيّرناهم أمما، لأن كل سبط كان أمة عظيمة وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ حين استولى عليهم العطش في التيه الذي وقعوا فيه بسوء صنيعهم واستسقاء موسى لهم أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ الذي معك فَانْبَجَسَتْ أي فضرب فانفجرت مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً بعدد الأسباط قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ أي كل سبط مَشْرَبَهُمْ أي عينهم الخاصة بهم وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ في التيه من حر الشمس تسير الغمام بسيرهم وتسكن بإقامتهم، وتضيء لهم في الليل مثل السراج وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وهو شيء حلو كان ينزل عليهم مثل الثلج من الفجر إلى طلوع الشمس ويأخذ كل إنسان صاعا وَالسَّلْوى أي الطير السماني بتخفيف الميم وبالقصر، وتسوقه الريح الجنوب عليهم فيذبح كل واحد منهم ما يكفيه وهو يموت إذا سمع صوت الرعد فيلهمه الله تعالى أن يسكن جزائر البحر التي لا يكون فيها مطر ولا رعد إلى انقضاء أوانهما، فيخرج من الجزائر وينتشر في الأرض، وخاصيته أن أكل لحمه يلين القلوب القاسية كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أي وقلنا لهم: كلوا من مستلذاته من المن والسلوى، والمعنى قصر أنفسهم على ذلك المطعوم وعلى ترك غيره، فامتنعوا من ذلك وسئموا وسألوا غير ذلك وَما ظَلَمُونا بمقابلة تلك النعم بالكفران وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) بمخالفتهم ما أمروا به
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ أي اذكر يا أكرم الرسل لبني إسرائيل وقت قوله تعالى لأسلافهم:
اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ أي قرية الجبارين قوم من بقية عاد رئيسهم عوج بن عنق أي قال الله تعالى على لسان موسى لهم: إذا خرجتم من التيه اسكنوا بيت المقدس أو قال لهم على لسان يوشع بعد خروجهم من التيه اسكنوا أريحاء وَكُلُوا مِنْها أي القرية حَيْثُ شِئْتُمْ ومتى شئتم وَقُولُوا حِطَّةٌ أي أمرك حطّة لذنوبنا وَادْخُلُوا الْبابَ أي باب القرية. وقيل: باب القبة التي كانوا يصلون إليها سُجَّداً شكرا على إخراجهم من التيه نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ.
وقرأ نافع وابن عامر «تغفر» بالتاء المضمومة. وقرأ نافع «خطيئاتكم» بجمع السلامة، وابن عامر «خطيئتكم» على التوحيد، والباقون «نغفر» بنون مفتوحة، وأبو عمرو خطاياكم بجمع التكسير. والباقون خطيئاتكم بجمع السلام وفي قراءة «يغفر» بالياء فعلى هذا لا يقرأ خطابا بالإفراد وعلى التاء لا يقرأ خطابا سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) بالطاعة في إحسانهم فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وهم أصحاب الخطيئة قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ أي غير الذي أمروا به من التوبة وقالوا مكان حطة حنطة.
وروي أنهم دخلوا زاحفين على أدبارهم استخفافا بأمر الله تعالى واستهزاء بموسى فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ عقب ما فعلوا من غير تأخير رِجْزاً مِنَ السَّماءِ أي عذابا كائنا منها وهو الطاعون بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162) أنفسهم لأنهم خرجوا عن طاعة الله تعالى.(1/403)
روي أنه مات منهم في ساعة واحدة أربعة وعشرون ألفا وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ أي واسأل يا أشرف الخلق، اليهود المعاصرين لك، سؤال تقريع عن خبر أهل المدينة التي كانت قريبة من بحر القلزم، وهي أيلة قرية بين مدين والطور. وقيل: هي قرية يقال لها: مقنا بين مدين وعينونا، وسبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا: لم يصدر من بني إسرائيل كفر ولا مخالفة للرب فأمره الله تعالى أن يسألهم عن حال أهل هذه القرية في زمن داود عليه السلام تقريعا، فإنهم يعتقدون أنه لا يعلمه أحد غيرهم، فذكر الله لهم قصة أهل تلك المدينة فبهتوا وظهر كذبهم إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ أي يجاوزون حد الله تعالى بأخذ الحيتان يوم السبت وقد نهوا عنه إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ أي يوم تعظيمهم لأمر السبت بالتجرد للعبادة شُرَّعاً أي ظاهرة على وجه الماء قريبة من الساحل وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ.
وقرئ شاذا بضم الباء. وقرأ علي رضي الله عنه بضم الياء من الرباعي، وعن الحسن بالبناء للمفعول أي لا يدخلون في السبت لا تَأْتِيهِمْ.
قال ابن عباس ومجاهد: إن اليهود أمروا باليوم الذي أمرتم به وهو يوم الجمعة فتركوه واختاروا السبت فابتلاهم الله به وحرم عليهم الصيد فيه، وأمروا بتعظيمه فإذا كان يوم السبت شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر، فإذا انقضى السبت ذهبت وما تعود إلا في السبت المقبل كَذلِكَ أي مثل ذلك البلاء نَبْلُوهُمْ أي نعاملهم معاملة من يختبرهم بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) أي بسبب فسقهم وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ أي جماعة من أهل القرية ومن صلحائهم الذين ركبوا الصعب في موعظة أولئك الصيادين حتى أيسوا من قبولهم لأقوام آخرين لا يقلعون عن وعظهم رجاء للنفع وطمعا في فائدة الإنذار لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أي مخزيهم في الدينا أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً في الآخرة لعدم إقلاعهم عمّا كانوا عليه من الفسق قالُوا أي الواعظون: مَعْذِرَةً.
قرأه حفص عن عاصم بالنصب أي وعظناهم لأجل المعذرة. والباقون بالرفع أي موعظتنا معذرة إِلى رَبِّكُمْ لئلا ننسب إلى نوع تفريط في النهي عن المنكر وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) أي ورجاء لأن يتقوا بعض التقاة فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أي فلمّا تركوا ما وعظوا به بحيث لم يخطر ببالهم شيء من تلك المواعظ أصلا أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ أي عن أخذ الحيتان يوم السبت وهم الفريقان المذكوران وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بأخذ الحيتان ذلك اليوم بِعَذابٍ بَئِيسٍ أي شديد. وقرأ أبو بكر «بيئس» على
وزن ضيغم وابن عامر «بئس» بوزن حذر بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) أي أخذناهم بالعذاب بسبب الفسق الذي هو الخروج عن الطاعة وهو الظلم فالباءان متعلقان بأخذنا فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ أي فلما أبوا عن ترك ما نهوا عنه قُلْنا لَهُمْ كُونُوا(1/404)
قِرَدَةً خاسِئِينَ
(166) أذلاء بعداء عن الناس وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ أي يذيقهم سُوءَ الْعَذابِ أي واذكر يا أكرم الرسل إذ أعلم الله أسلاف اليهود على ألسنة أنبيائهم إن لم يؤمنوا بأنبيائهم أن يسلط عليهم من يقاتلهم إلى أن يسلموا أو يعطوا الجزية وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم وأمته إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ إذا جاء وقته لمن عصاه فيعاقبهم في الدنيا أما قبل مجيء وقت العذاب فهو شديد الحلم وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) لمن تاب من الكفر واليهودية ودخل في دين الإسلام وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً أي فرقنا اليهود الذين كانوا قبل زمن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الأرض فرقا كثيرة حتى لا تكون لهم شوكة فلا يوجد بلد إلا وفيه طائفة منهم مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وهم الذين آمنوا بالمدينة ومن يسير بسيرتهم أو الذين وراء نهر الرمل وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ أي ومنهم من ثبت على اليهودية وخرج من الصلاح وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ أي بالنعم والخصب والعافية وَالسَّيِّئاتِ أي بالجدوبة والشدائد لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) أي لكي يرجعوا عن معصيتهم إلى طاعة ربهم فإن كل واحد من الحسنات والسيئات يدعو إلى الطاعة بالترغيب والترهيب فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أي جاء من بعد هؤلاء الذين وصفناهم بدل سوء وَرِثُوا الْكِتابَ أي أخذوا التوراة من أسلافهم يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى أي متاع الدنيا على تحريف الكلام في صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم وفي الأحكام وهم يستحقرون ذلك الذنب وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أي ويقولون: لا يؤاخذنا الله تعالى وإن يأتهم متاع مثل ما أتاهم أمس يأخذوه لحرصهم على الدنيا ولا يستمتعون منه. أو المعنى أنهم يتمنون المغفرة من الله تعالى، والحال أنهم مصرون على الذنب غير تائبين عنه أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ أي ألم يؤخذ عليهم ميثاق كائن في التوراة أن لا يقولوا على الله إلا الصدق، وقد منعوا فيها عن تحريف الكتاب وتغيير الشرائع لأجل أخذ الرشوة وللتمني ففيه افتراء على الله تعالى، ففيها من ارتكب ذنبا عظيما فإنه لا يغفر له إلا بالتوبة وأن لا يقولوا عطف بيان للميثاق وَدَرَسُوا ما فِيهِ أي ذكروا ما في الكتاب لأنهم قرءوه أو ذكروا ما أخذ عليهم لذلك وهذا عطف على ورثوا أو على ألم يؤخذ فإن المقصود من الاستفهام التقريري إثبات ما بعد النفي. والمعنى قد أخذ عليهم الميثاق ودرسوا ما في ذلك الميثاق وَالدَّارُ الْآخِرَةُ أي الجنة خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ عقاب الله من تلك الرشوة الخبيثة أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) أن الدنيا فانية والآخرة باقية.
وقرأ نافع وابن عامر وحفص بالتاء على الخطاب التفاتا لهم ويكون المراد إعلاما بتناهي الغضب وتشديد التوبيخ، أو يكون خطابا لهذه الأمة أي أفلا تعقلون حالهم. والباقون بالياء على الغيبة مراعاة لها في الضمائر السابقة وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ قرأه أبو بكر عن عاصم بسكون الميم.
والباقون بفتحها وتشديد السين بِالْكِتابِ أي والذين يعملون بما في الكتاب وَأَقامُوا الصَّلاةَ وإنما أفردت بالذكر لأنها أعظم العبادات بعد الإيمان إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وهذه(1/405)
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)
الجملة خبر للموصول والربط حاصل بلفظ المصلحين لأنه قائم مقام الضمير لا سيما وهو فيه الألف واللام فإنها تكفي في الربط عند الكوفيين. وقيل: الخبر محذوف والتقدير مثابون وقوله تعالى: إِنَّا لا نُضِيعُ اعتراض وهذه الآية نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ أي واذكر يا أشرف الخلق إذا قلعنا الجبل الذي سمع موسى عليه كلام ربه وأعطي الألواح وجعلناه فوق رؤوسهم كأنه سقيفة وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ إن لم يقبلوا أحكام التوراة خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ أي وقلنا لهم: اعملوا بما أعطيناكم بجد على احتمال تكاليفه وَاذْكُرُوا ما فِيهِ من الثواب والعقاب ويقال: احفظوا ما فيه من الأمر والنهي ويقال: اعملوا بما فيه من الحلال والحرام لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) أي راجين أن تنتظموا في سلك المتقين وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وقرأه نافع وأبو عمرو وابن عامر على الجمع. والباقون على التوحيد أي واذكر يا أكرم الخلق لليهود حين أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ قال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا وذكر هذه الآية يجري مجرى تقرير الحجة على جميع المكلفين. والمقصود من ذكرها هنا الاحتجاج على اليهود بتذكير الميثاق العام المنتظم للناس كافة ومنعهم عن التقليد وحملهم على الاستدلال.
وفي تفسير هذه الآية طريقان: طريق السلف، وطريق الخلف. فطريق السلف: أن الله تعالى لما خلق آدم أخرج أولا ذرية آدم كالذر من ظهره أي من مسام شعر ظهره إذ تحت كل شعرة ثقبة دقيقة يقال لها: سم مثل سم الخياط في النفوذ فتخرج الذرة الضعيفة منها كما يخرج الصئبان من العرق السائل، ثم أخرج من هذه الذر الذي أخرجه من آدم ذريته ذرا، ثم أخرج من الذر الآخر ذريته ذرا، ثم أخرج من الذر الآخر ذريته ذرا، وهكذا إلى آخر النوع الإنساني وانحصر الجميع قدام آدم ونظر لهم بعينه، وخلق الله تعالى فيهم العقل والفهم والنطق، وجعل الذر المسلم أبيض والكافر أسود، وخاطب الجميع بقوله تعالى: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ فقال الجميع: بلى أي أنت ربنا، ثم أعاد الجميع إلى ظهر آدم. ويجب اعتقاد إخراج الذرية من ظهر آدم كما شاء الله ومعنى قوله تعالى: وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ إلخ أي استنطقهم بربوبيته تعالى فأقروا بذلك.
وقال الحكيم الترمذي: إن الله تعالى تجلى للكفار بالهيبة، فقالوا: بلى مخافة منه تعالى، فلم يك ينفعهم إيمانهم. وتجلى للمؤمنين بالرحمة، فقالوا: بلى مطيعين مختارين، فنفعهم إيمانهم، وطريق الخلف أن الله تعالى أخرج الذرية وهم الأولاد من أصلاب آبائهم، وذلك الإخراج أنهم كانوا نطفة فأخرجها الله تعالى في أرحام الأمهات وجعلها علقة، ثم مضغة، ثم جعلهم بشرا سويا وخلقا كاملا، ثم أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيته وعجائب خلقه وغرائب صنعه، فبالإشهاد صاروا كأنهم قالوا: بلى وإن لم يكن هناك قول(1/406)
باللسان فمحصل هذه الطريقة أنه لا إخراج ولا قول، ولا شهادة بالفعل وإنما هذا كله على سبيل المجاز التمثيلي فشبه حال النوع الإنساني بعد وجوده بالفعل بصفات التكليف من حيث نصب الأدلة على ربوبية الله المقتضية، لأن ينطق ويقر بمقتضاها بأخذ الميثاق عليه بالفعل بالإقرار بما ذكر وحينئذ فمعنى قوله تعالى: وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ أي ونصب الله لهم دلائل ربوبيته وركب في عقولهم ما يدعوهم إلى الإقرار بها حتى صاروا بمنزلة من قيل لهم:
أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى فنزل تمكينهم من العلم بها وتمكنهم منه منزلة الإشهاد والاعتراف على طريقة التمثيل والله أعلم بحقيقة الحال أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ.
وقرأ أبو عمرو بالياء على الغيبة. والباقون بالتاء وفي قوله تعالى: شَهِدْنا قولان، فقيل: إنه من كلام الملائكة وذلك لأنهم لما قالوا: بلى قال الله تعالى للملائكة: اشهدوا، فقالوا: شهدنا عليهم لئلا يقولوا ما أقررنا، أو لئلا تقولوا أيها الكفرة، أو شهدنا عليهم كراهة أن يقولوا.
وقيل: إنه من بقية كلام الذرية أي وأشهدهم على أنفسهم بكذا وكذا لئلا يقولوا يوم القيامة عند ظهور الأمر إنا كنا عن وحدانية الربوبية لا نعرفه، أو كراهية أن يقولوا ذلك وعلى هذا التقدير فلا يجوز الوقف عند قوله: شَهِدْنا ولا يحسن على بلى. وقوله: أَوْ تَقُولُوا معطوف على أَنْ تَقُولُوا.
والمعنى أن المقصود من هذا الإشهاد لئلا يقول الكفار: إنما أشركنا لأن آباءنا أشركوا من قبل زماننا فقلدناهم في ذلك الشرك.
وقال الخلف: معنى هذه الآية أنا نصبنا هذه الدلائل وأظهرناها للعقول كراهة أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين فما نبهنا عليه منبه، أو كراهة أن يقولوا: إنما أشركنا على سبيل التقليد لأسلافنا، لأن نصب الأدلة على التوحيد قائم معهم فلا عذر لهم في الإعراض عنه والإقبال على الاقتداء بالآباء كما قالوا: وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ لا نقدر على الاستدلال بالدليل أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) من آبائنا المضلين فالمؤاخذة إنما هي عليهم، والمعنى لا يمكنهم الاحتجاج بذلك، لأنه قامت الحجة عليهم يوم القيامة لإخبار الرسل إياهم بذلك الميثاق في الدنيا فمن أنكره كان معاندا ناقضا للعهد ولزمتهم الحجة ولا تسقط الحجة بنسيانهم بعد إخبار الرسل وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ
الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
(174) أي مثل ما بيّنا خبر الميثاق في هذه الآية نبين سائر الآيات ليتدبروها فيرجعوا إلى الحق ويعرضوا عن الباطل وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) أي واتل يا أكرم الخلق على اليهود خبر(1/407)
الذي آتيناه علوم الكتب القديمة والتصرف بالاسم الأعظم وهو أحد علماء بني إسرائيل فكان يدعو به حيث شاء فيجاب بعين ما طلب في الحال، وكان بحيث إذا نظر رأى العرش، وكان في مجلسه اثنا عشر ألف محبرة للمتعلمين الذين يكتبون عنه، ثم صار بحيث كان أول من صنف كتابا أن ليس للعلم صانع وهذا معنى فانسلخ منها أي انسلخ من تلك الآيات انسلاخ الحية من جلدها بأن كفر بها فأدركه الشيطان فصار من زمرة الضالين.
قال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد رحمهم الله تعالى: نزلت هذه الآية في بلعم بن باعوراء، وذلك لأن موسى عليه السلام قصد بلده الذي هو فيه وغزا أهله وكانوا كفارا، فطلبوا منه أن يدعو على موسى عليه السلام وقومه وكان مجاب الدعوة وعنده اسم الله الأعظم، فامتنع منه فما زالوا يطلبونه منه حتى دعا عليه فاستجيب له ووقع موسى وبنو إسرائيل في التيه بدعائه فقال موسى: يا رب بأيّ ذنب وقعنا في التيه؟ فقال: بدعاء بلعم، فقال: كما سمعت دعاءه عليّ فاسمع دعائي عليه، ثم دعا موسى عليه أن ينزع منه اسم الله الأعظم والإيمان، فسلخه الله مما كان عليه ونزع منه المعرفة فخرجت من صدره كحمامة بيضاء وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها أي ولو شئنا رفعه لرفعناه للعمل بتلك الآيات، فكان يرفع منزلته بواسطة تلك الأعمال الصالحة وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ أي مال إلى الدنيا فآثر الدنيا الدنية على المنازل السنية وَاتَّبَعَ هَواهُ في إيثار الدنيا معرضا عن تلك الآيات الجليلة فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ أي صفة بلعم كصفتي الكلب في حالتي التعب والراحة، فهذا الكلب إن شد عليه لهث وإن ترك أيضا لهث لأجل أن ذلك الفعل القبيح طبيعة أصلية له فكذلك هذا الحريص الضال إن وعظته فهو ضال، وإن لم تعظه فهو ضال لأجل أن ذلك الضلال طبيعة ذاتية له واللهث إدلاع اللسان بالتنفس الشديد أي فالكلب دائم اللهث سواء أزعجته بالطرد العنيف، أو تركته على حاله بخلاف سائر الحيوانات فإنها لا تحتاج إلى التنفس الشديد إلا عند التعب ذلِكَ أي المثل السيئ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وهم اليهود حيث أوتوا في التوراة ما أوتوا من نعوت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وبشروا الناس باقتراب مبعثه فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به وانسلخوا من حكم التوراة فَاقْصُصِ الْقَصَصَ أي فاقصص يا أكرم الرسل على قومك قصص الذين كذبوا أنبياءهم لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) أي يتعظون ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي ساء مثلا مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا بعد قيام الحجة عليها وعلمهم بها وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177) معطوف على كذبوا داخل معه في حكم الصلة، أي الذين جمعوا بين التكذيب في آيات الله وظلم أنفسهم خاصة.
وقرأ الجحدري ساء مثل القوم مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي أي من يخلق الله فيه الاهتداء فهو المهتدي لدينه بإثبات الياء وصلا ووقفا عند جميع القراء لثبوتها في الرسم بخلاف ما في(1/408)
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)
الكهف والإسراء وَمَنْ يُضْلِلْ أي بأن لم يخلق فيه الاهتداء بل خلق فيه الضلالة لصرف اختياره جهتها فَأُولئِكَ الموصوفون بالضلالة هُمُ الْخاسِرُونَ (178) أي الكاملون في الخسران في الدنيا والآخرة، فالهداية والضلالة من جهة الله تعالى وإنما العظة والتذكير من قبيل الوسائط العادية في حصول الاهتداء من غير تأثير لها فيه سوى كونها دواعي إلى صرف العبد اختياره جهة تحصيله كسائر أفعال العباد وَلَقَدْ ذَرَأْنا أي خلقنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها بسبب امتناعهم عن صرفها إلى تحصيل الفهم فلهم وصف أو حال من كثيرا وقلوب فاعل به وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها شيئا من المبصرات إبصار اعتبار وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أي شيئا من المسموعات سماع تأمل فلا يفهمون بقلوبهم ولا يبصرون بأعينهم ولا يسمعون بآذانهم ما يرجع إلى مصالح الدين أُولئِكَ أي الموصوفون بالأوصاف المذكورة كَالْأَنْعامِ في انتفاء الشعور بَلْ هُمْ أَضَلُّ من الأنعام لأنها تعرف صاحبها وتطيعه، وهؤلاء الكفار لا يعرفون ربهم ولا يطيعونه، وفي الخبر: «كل شيء أطوع لله من ابن آدم» أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179) عمّا أعد الله لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى أي الأسماء التي هي أحسن الأسماء وأجلها لدلالتها على أحسن المعاني وأشرفها فَادْعُوهُ بِها أي فسموه بتلك الأسماء وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ أي واجتنبوا الذين يميلون في شأن أسماء الله تعالى عن الحق إلى الباطل إما بأن يسموه تعالى بما لا إذن فيه من كتاب وسنة، أو بما يوهم معنى فاسدا فلا يجوز أن يقال لله تعالى: يا سخي ولا يا عاقل، ولا يا طبيب، ولا يا فقيه، ولا يجوز أن يقال لله تعالى: يا نجي، يا أبا المكارم، يا أبيض الوجه، لأن أسماء الله تعالى توقيفية أي تعليمية من الشرع لا اصطلاحية، وقوله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها يدل على أن الإنسان لا يدعو ربه إلا بتلك الأسماء الحسنى وهذه الدعوة لا تتأتى إلا إذا عرف معاني تلك الأسماء، وعرف بالدليل أن له إلها وربا خالقا موصوفا بتلك الصفات الشريفة فإذا عرف بالدليل ذلك فحينئذ يحسن أن يدعو ربه بتلك الأسماء والصفات، ثم إنّ لتلك الدعوة شرائط كثيرة منها أن يستحضر الأمرين عزة الربوبية، وذلة العبودية فهناك يحسن ذلك الدعاء ويعظم موقع ذلك الذكر. وقرأ حمزة يلحدون بفتح الياء والحاء ووافقه عاصم والكسائي في النحل سَيُجْزَوْنَ في الآخرة ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180) وهذا تهديد لمن ألحد في أسماء الله تعالى
وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ أي طائفة كثيرة يَهْدُونَ بِالْحَقِّ أي يهدون الناس ملتبسين بالحق ويدلونهم على الاستقامة وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) أي وبالحق يحكمون في الحكومات الجارية فيما بينهم ولا يجورون فيها وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) أي والذين كذبوا بآياتنا التي هي معيار الحق وهو القرآن، سنقربهم إلى ما يهلكهم ونضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد به وذلك لأنهم كما أوتوا بجرم فتح الله عليهم بابا من أبواب النعمة والخير في الدنيا فيزدادون بطرا وانهماكا(1/409)
في الفساد ويتدرجون في المعاصي بسبب ترادف تلك النعم، ثم يأخذهم الله تعالى دفعة واحدة على غرتهم أغفل ما يكونون وَأُمْلِي لَهُمْ أي أمهلهم وأطيل مدة أعمارهم إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أي إن استدراجي قوي لا يدافع بقوة ولا بحيلة. وسمى العذاب كيدا لأن ظاهره إحسان ولطف وباطنه خذلان وقهر أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ أي أكذبوا بآياتنا ولم يتفكروا ليس بنبيهم محمد صلّى الله عليه وسلّم حالة قليلة من الجنون والتعبير عنه صلّى الله عليه وسلّم بصاحبهم للإعلام بأن طول مصاحبتهم له صلّى الله عليه وسلّم مما يطلعهم على نزاهته صلّى الله عليه وسلّم عن شائبة جنون، ف «ما» نافية اسمها «جنة» وخبرها «بصاحبهم» والجملة في محل نصب معمولة ل «يتفكروا» إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أي ما هو إلا رسول مخوف مظهر لهم في التخويف بلغة يعلمونها أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ أي أكذبوا بها ولم ينظروا نظر تأمل فيما يدل عليه السموات والأرض من عظم الملك وكمال القدرة، وفيما خلق فيهما من جليل ودقيق ليدلهم ذلك على العلم بوحدانية الله تعالى وبسائر شؤونه التي تنطق بها تلك الآيات فيؤمنوا بها فإن كل فرد من أفراد الأكوان دليل لائح على الصانع المجيد وسبيل واضح إلى التوحيد وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ أي وفي أن الشأن عسى أن يكون أجلهم قد اقترب أي لعلهم يموتون عن قريب فما لهم لا يسارعون إلى التدبر في الآيات التكوينية الشاهدة بما كذبوه من الآيات القرآنية فيهلكوا على الكفر ويصيروا إلى النار فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) أي فبأي كتاب بعد القرآن يؤمنون إذا لم يؤمنوا به، أي لأنهم إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن مع ما فيه من هذه التنبيهات الظاهرة فكيف يرجى منهم الإيمان بغيره مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ فإن إعراضهم عن الإيمان لإضلال الله إياهم وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ أي ضلالهم يَعْمَهُونَ (186) أي يتحيرون.
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر و «نذرهم» بالنون والرفع على طريقة الالتفات. وأبو عمرو بالياء والرفع. وحمزة والكسائي بالياء والجزم. وقد روي الجزم بالنون عن نافع وأبي عمرو في الشواذ. يَسْئَلُونَكَ يا أشرف الخلق سؤال استهزاء عَنِ السَّاعَةِ أي عن وقت القيامة منهم ممل بن أبي قشير، وشمويل بن زيد. والساعة: من الأسماء الغالبة كالنجم للثريا، وسميت القيامة بالساعة لوقوعها بغتة على حين غفلة من الخلق، أو لأن حساب الخلق يقضى فيها في ساعة واحدة، أو لأنها مع طولها في نفسها كساعة واحدة عند الخلق أَيَّانَ مُرْساها أي متى حصولها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي أي إنه تعالى قد انفرد به بحيث لم يخبر به أحدا من ملك مقرب أو نبي مرسل لا
يُجَلِّيها لِوَقْتِها
أي لا يظهر أمرها الذي تسألونني عنه في وقتها المعين إِلَّا هُوَ أي لا يقدر على إظهار وقتها المعين بالإعلام إلا هو ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ثقل تحصيل العلم بوقتها المعين على أهل السموات والأرض فلم يعلم أحد من الملائكة المقرّبين والأنبياء المرسلين متى وقوعها لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً أي فجأة على غفلة.
قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إن الساعة تفجأ(1/410)
الناس فالرجل يصلح موضعه، والرجل يسقي ماشيته. والرجل يقوم بسلعته في سوقه، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه» .
يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها أي يسألونك عن كنه ثقل الساعة مشبها حالك عندهم بحال من هو بالغ في العلم بها، وحقيقة الكلام كأنك مبالغ في السؤال عنها فإن ذلك في حكم المبالغة في العلم بها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187) أي لا يعلمون السبب الذي لأجله أخفيت معرفة وقته المعين عن الخلق قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أي أنا لا أدعي علم الغيب إن أنا إلا نذير وبشير. ونظيره قوله تعالى في سورة يونس:
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ [يونس: 47، 48] . وقيل: إن أهل مكة قالوا: يا محمد ألا أخبرك ربك بالرخص والغلاء حتى نشتري فنربح، وبالأرض التي تجدب لنرتحل إلى الأرض الخصبة؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقيل: لما رجع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من غزوة بني المصطلق جاءت ريح في الطريق ففرت الدواب منها فأخبر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بموت رفاعة بالمدينة وكان فيه غيظ للمنافقين، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «انظروا أين ناقتي؟» فقال عبد الله بن أبي مع قومه: ألا تعجبون من هذا الرجل يخبر عن موت الرجل بالمدينة ولا يعرف أين ناقته فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن ناسا من المنافقين قالوا: كيت وكيت، وكيت وناقتي في هذا الشعب قد تعلق زمامها بشجرة» . فوجدوها على ما قال، فأنزل الله تعالى
: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ أي أن يفعل بي من النفع والضر وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ أي جلب منافع الدنيا ودفع مضراتها لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ أي لحصلت كثيرا من الخير بترتيب الأسباب وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ لاحترازي عنه باجتناب الأسباب إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ من النار وَبَشِيرٌ بالجنة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) بالجنة والنار هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هو آدم عليه السلام وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها حواء خلقها الله من ضلع آدم من غير أذى لِيَسْكُنَ إِلَيْها أي ليستأنس بها فَلَمَّا تَغَشَّاها أي جامعها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً في مبادئ الأمر فَمَرَّتْ بِهِ أي فاستمرت بالحمل على سبيل الخفة وكانت تقوم وتقعد وتمشي من غير ثقل فَلَمَّا أَثْقَلَتْ أي صارت ذات ثقل لكبر الولد في بطنها دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما أي آدم وحواء لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً أي ولدا سويا مثلنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) لنعمائك فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً أي ولدا آدميا مستوى الأعضاء خاليا من العوج والعرج جَعَلا لَهُ تعالى شُرَكاءَ فِيما آتاهُما أي في تسمية ما آتاهما من الولد.
وقيل: لما آتاهما ذلك الولد السوي الصالح عزما على أن يجعلاه وقفا على خدمة الله وطاعته وعبوديته على الإطلاق، ثم بدا لهما في ذلك فتارة كانوا ينتفعون به في مصالح الدنيا ومنافعها، وتارة كانوا يأمرونه بخدمة الله وطاعته وهذا العمل وإن كان منا قربة وطاعة إلا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين. وقيل: لما ثقل الولد في بطنها أتاها إبليس في صورة رجل، وقال: ما هذا يا حواء إني أخاف أن يكون كلبا أو بهيمة وما يدريك من أين يخرج أمن دبرك(1/411)
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
فيقتلك، أو ينشق بطنك. فخافت حواء وذكرت ذلك لآدم عليه السلام فلم يزالا في همّ من ذلك، ثم أتاها وقال: إن سألت الله أن يجعله صالحا سويا مثلك ويسهل خروجه من بطنك تسميه عبد الحارث، وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث، فآدم وحواء سميا ذلك الولد بعبد الحارث، تنبيها على أنه إنما سلم من الآفات ببركة دعاء هذا الشخص المسمى بالحارث فلما حصل الاشتراك في لفظ العبد لا جرم صار آدم عليه السلام معاتبا في هذا العمل بسبب الاشتراك الحاصل في مجرد لفظ العبد وهذا لا يقدح في كون الولد عبد الله من جهة كونه مملوكه ومخلوقه إلا أنا قد ذكرنا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) . قيل:
إن المشركين كانوا يقولون: إن آدم عليه السلام كان يعبد الأصنام ويرجع في طلب الخير ودفع الشر إليها فذكر تعالى قصة آدم وحواء، وذكر أنه تعالى لو آتاهما ولدا سويا صالحا لاستقلوا بشكر تلك النعمة،
ثم قال تعالى: فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فقوله تعالى: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ ورد بمعنى الاستفهام على سبيل الإنكار والتبعيد والتقدير فلما آتاهما صالحا أجعلا له شركاء فيما آتاهما. ثم قال تعالى: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين الذين يقولون بالشرك وينسبونه إلى آدم أَيُشْرِكُونَ بالله تعالى في العبادة ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً ومن حق المعبود أن يكون خالقا لعابده، والعبد غير خالق لأفعاله لأن من كان خالقا كان إلها، ولما كان ذلك باطلا علمنا أن العبد غير خالق لأفعال نفسه وَهُمْ أي الأصنام يُخْلَقُونَ (191) فهي منحوتة، أو المعنى والكافرون مخلوقون فلو تفكروا في ذلك لآمنوا ولا يشركون بالخالق شيئا وَلا يَسْتَطِيعُونَ أي الأصنام لَهُمْ أي لعبدتهم نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) أي إن الأصنام لا تنصر من أطاعها ولا تدفع عن أنفسها مكروها فإن من أراد كسرها لم تقدر على دفعه عنها، والمعبود يجب أن يكون قادرا على إيصال النفع ودفع الضرر وهذه الأصنام ليست كذلك فكيف يليق بالعاقل عبادتها وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ أي وإن تدعوا يا معشر الكفار الأصنام إلى أن يهدوكم إلى الحق لا يجيبوكم كما يجيبكم الله سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193) أي مستو عليكم في عدم الإفادة دعاؤكم لهم وسكوتكم فلا يتغير حالكم في الحالين كما لا يتغير حالهم عن حكم الجمادية إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ أي إن الذين تعبدونهم من دونه تعالى من الأصنام وتسمونهم آلهة مماثلة لكم من حيث إنها مملوكة لله تعالى مسخرة لأمره عاجزة عن النفع والضر فَادْعُوهُمْ في جلب نفع أو كشف ضر فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) في ادعاء أنها آلهة ومستحقة للعبادة أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أي بل ألهم أيد يأخذون بها ما يرون أخذه أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها؟ وقد قرئ إن الذين تدعون من دون الله عبادا أمثالكم على إعمال إن النافية عمل ما الحجازية أي ما الذين تدعون من دون الله عبادا أمثالكم بل(1/412)
أدنى منكم فيكون قوله تعالى: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ إلخ تقرير النفي المماثلة بإثبات النقصان قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ.
قال الحسن: إن مشركي أهل مكة كانوا يخوفون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بآلهتهم فقال الله تعالى: قل يا أكرم الرسل لهم ادعوا آلهتكم واستعينوا بهم في عداوتي ثُمَّ كِيدُونِ أي اعملوا أنتم وآلهتكم في هلاكي وبالغوا في تهيئة ما تقدرون عليه من مكر فَلا تُنْظِرُونِ (195) أي اعجلوا أنتم وآلهتكم في كيدي ولا تؤجلون فإني لا أبالي بكم وبآلهتكم لاعتمادي على حفظ الله تعالى إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ أي إن ناصري هو الله الذي أنزل الكتاب المشتمل على هذه العلوم العظيمة النافعة وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) أي ينصرهم فلا تضرهم عداوة من عاداهم.
وروي أن عمر بن عبد العزيز ما كان يدخر لأولاده شيئا فقيل له في ذلك، فقال: ولدي إما أن يكون من الصالحين أو من المجرمين، فإن كان من الصالحين فوليه الله ومن كان الله له وليا فلا حاجة له إلى مالي، وإن كان من المجرمين فقد قال تعالى: فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ [القصص: 17] ومن رده الله لم أشتغل بإصلاح مهماته وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ أي والذين تعبدونهم من دون الله تعالى من الأصنام لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ في أمر من الأمور وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) أي يمنعون مما يراد بهم فكيف أبالي بهم وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا أي وإن تدعوا أيها المشركون تلك الأوثان إلى أن يهدوكم إلى ما تحصلون به مقاصدكم لا يجيبوا دعاءكم فضلا عن المساعدة، لأنهم أموات غير أحياء وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ أي وترى يا أشرف الخلق الأصنام يشبهون الناظرين إليك لأنهم مصوّرون بالعين والأنف والأذن وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198) أي والحال أنهم غير قادرين على الإبصار لأنهم أموات غير أحياء خُذِ الْعَفْوَ أي اقبل الميسور من أخلاق الناس من غير تجسس لئلا تتولد العداوة، أو المعنى خذ ما تيسر من المال فما أتوك به فخذه ولا تسأل عما وراء ذلك وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أي بإظهار الدين الحق وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) من غير مماراة ولا مكافاة.
قال عكرمة: لما نزلت هذه الآية قال صلّى الله عليه وسلّم: «يا جبريل ما هذا؟» . قال: «يا محمد إن ربك يقول هو أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك»
. قال أهل العلم: تفسير جبريل مطابق للفظ الآية لأنك لو وصلت من قطعك فقد عفوت عنه، وإذا آتيت من حرمك فقد أتيت بالمعروف، وإذا عفوت عمن ظلمك فقد أعرضت عن الجاهلين وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أي إن يصيبنك وسوسة من الشيطان فالتجئ إليه تعالى في دفعه عنك إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) أي إنه تعالى سميع باستعاذتك بلسانك عليم في ضميرك من استحضاره معاني الاستعاذة، فالقول اللساني بدون المعارف القلبية عديم الفائدة والأثر.(1/413)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
وروي أنه لما نزلت تلك الآية الكريمة قال صلّى الله عليه وسلّم: «كيف يا رب والغضب متحقق» «1» فنزل قوله تعالى
: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا أي اتصفوا بوقاية أنفسهم عمّا يضرها إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ أي إذا أصابهم وسوسة من الشيطان وغضب تَذَكَّرُوا ما أمرهم الله به من ترك إمضاء الغضب ومن أن الإنسان إذا أمضى الغضب كان شريكا للسباع المؤذية والحيات القاتلة، وإن تركه واختار العفو كان شريكا لأكابر الأنبياء والأولياء ومن أنه ربما انقلب ذلك الضعيف قويا قادرا على الغضب فحينئذ ينتقم منه على أسوأ الوجوه أما إذا عفا كان ذلك إحسانا منه إلى ذلك الضعيف فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) أي إذا حضرت هذه التذكرات في عقولهم ففي الحال يحصل الخلاص من وسوسة الشيطان ويحصل الانكشاف فينتهون عن المعصية وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ أي وإخوان الشياطين من الكفار يقوون الشياطين في الضلال، وذلك لأن شياطين الإنس إخوان لشياطين الجن. فشياطين الإنس يضلون الناس فيكون ذلك تقوية منهم لشياطين الجن على الإضلال ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202) أي لا ينكف الغاوون عن الضلال والمغوون عن الإضلال وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ أي أهل مكة بِآيَةٍ كما طلبوا قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها أي هلا جمعتها من تلقاء نفسك تقولا فإنهم يزعمون أن سائر الآيات كذلك أو هلا اقترحتها على إلهك إن كنت صادقا في أن الله يقبل دعاءك ويجيب التماسك وعند هذا أمر الله رسوله أن يذكر الجواب الشافي بقوله تعالى: قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي أي ليس لي أن أقترح على ربي في أمر من الأمور وإنما أنتظر الوحي فكل شيء أكرمني به قلته وإلا فالواجب السكوت وترك الاقتراح فعدم الإتيان بالمعجزات التي اقترحوها لا يقدح في الغرض، لأن ظهور القرآن على وفق دعواه صلّى الله عليه وسلّم معجزة باهرة فإذا ظهرت هذه المعجزة الواحدة كانت كافية في تصحيح النبوة فكان طلب الزيادة من باب التعنت فذكر الله تعالى في وصف القرآن ثلاثة بقوله تعالى:
هذا أي القرآن بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ أي بمنزلة البصائر للقلوب فيه تبصر الحق وتدرك الصواب وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) بالقرآن في حق أصحاب عين اليقين وهم من بلغوا الغاية في معارف التوحيد بصائر وفي حق أصحاب علم اليقين وهم الذين وصلوا إلى درجات المستدلين هدى وفي حق عامة المؤمنين رحمة وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا وهذا خطاب مع الكفار عند قراءة الرسول عليهم القرآن في مسلك الاحتجاج بكونه معجزا على صدق نبوته فإنهم قالوا: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون، فأمروا بالاستماع حتى يمكنهم الوقوف على ما في القرآن ولذا قال تعالى: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) أي لعلكم تطلعون على ما في القرآن من دلائل الإعجاز فتؤمنوا بالرسول فتصيروا مرحومين وَاذْكُرْ
__________
(1) رواه السيوطي في الدر المنثور (3: 154) .(1/414)
رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ أي اذكر ربك عارفا بمعاني الأذكار التي تقولها بلسانك مستحضرا لصفات الكمال والعز والعلو، والجلال والعظمة وذلك لأن الذكر باللسان إذا كان عاريا عن الذكر بالقلب كان عديم الفائدة تَضَرُّعاً وَخِيفَةً أي متضرعا وخائفا إما في تقصير الأعمال أو في الخاتمة، أو في أنه كيف يقابل نعمة الله التي لا حصر لها بالطاعة الناقصة والأذكار القاصرة وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ أي متوسطا بين الجهر والمخافتة بأن يذكر الشخص ربه على وجه يسمع نفسه بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) . والمعنى أن قوله تعالى: بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ دل على أنه يجب أن يكون الذكر حاصلا في كل الأوقات. وقوله تعالى: وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ يدل على أن الذكر القلبي يجب أن يكون دائما وأن لا يغفل الإنسان لحظة واحدة عن استحضار جلال الله بقدر الطاقة البشرية، وتحقيق القول أن بين الروح والبدن علاقة عجيبة، لأن كل أثر حصل في جوهر الروح نزل منه إلى البدن وكل حالة حصلت في البدن صعدت منه نتائج إلى الروح.
ألا ترى أن الإنسان إذا تخيّل الشيء الحامض ضرس سنة، وإذا تخيل حالة مكروهة وغضب سخن بدنه فهذه آثار تنزل من الروح إلى البدن.
واعلم أن قوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ وإن كان ظاهره خطابا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا أنه عام في حق كل المكلفين ولكل أحد درجة مخصوصة بحسب استعداد جوهر نفسه الناطقة إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ أي إن الملائكة مع غاية طهارتهم وبراءتهم عن بواعث الشهوة والغضب وحوادث الحقد والحسد لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ بل يؤدونها حسب ما أمروا به وَيُسَبِّحُونَهُ أي ينزهونه تعالى عن كل سوء وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) أي لا يسجدون لغير الله تعالى. فالتسبيح يرجع إلى المعارف والعلوم والسجود يرجع إلى أعمال الجوارح، وهذا الترتيب يدل على أن الأصل في العبودية أعمال القلوب ويتفرع عليها أعمال الجوارح والله أعلم.(1/415)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
سورة الأنفال
مدنية، غير قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فإنها نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال، خمس وسبعون آية، ألف ومائتان وثلاث وأربعون كلمة، خمسة آلاف وثلاثمائة وثمانية وثمانون حرفا
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ أي يسألك يا أشرف الخلق أصحابك منهم: سعد بن أبي وقاص أو قرابتك عن الغنائم يوم بدر وسميت الغنائم أنفالا، لأن المسلمين فضلوا بها على سائر الأمم الذين لم تحل لهم الغنائم، ولأنها عطية من الله تعالى زائدة على الثواب الأخروي للجهاد. قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أي قل يا أشرف الخلق حكم الأنفال يوم بدر مختص به تعالى يقسمها الرسول صلّى الله عليه وسلّم كيف أمر به من غير أن يدخل فيه رأي أحد فَاتَّقُوا اللَّهَ في أخذ الغنائم واتركوا المنازعة فيها وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ أي أصلحوا الحال فيما بينكم بترك النزاع وتسليم أمر الغنائم إلى الله ورسوله وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في أمر الصلح وارضوا بما حكم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) فالإيمان لا يتم حصوله إلا بالتزام هذه الطاعة فاحذروا الخروج عنها إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي إنما الكاملون في الإيمان الذين فزعت قلوبهم لمجرد ذكر الله من غير أن يذكر هناك ما يوجب الفزع من صفاته وأفعاله استعظاما له تعالى.
وقال أصحاب الحقائق: الخوف على قسمين: خوف العقاب، وخوف العظمة والجلال.
أما خوف العقاب: فهو للعصاة. وأما خوف الجلال والعظمة: فهو لا يزول عن قلب أحد من المحققين سواء كان ملكا مقربا أو نبيا مرسلا وكل من كان أعرف بجلال الله كان هذا الخوف في قلبه أكمل، وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ أي الله التي هي القرآن زادَتْهُمْ إِيماناً أي يقينا بقول الله وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) أي ويعتمدون بالكلية على فضل الله وينقطعون بالكلية عما سوى الله الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي يتمون الصلوات الخمس بحقوقها وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أي ويؤدون زكاة أموالهم أُولئِكَ أي الموصوفون بالصفات الخمس هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا أي(1/416)
إيمانا حقا، لأنهم حققوا إيمانهم بضم الأعمال القلبية والقالبية إليه لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ فمراتب السعادات الحاصلة في الجنة كثيرة ومختلفة وَمَغْفِرَةٌ بأن يتجاوز الله عن سيئاتهم.
وقال العارفون: هي إزالة الظلمات الحاصلة بسبب الاشتغال بغير الله وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) - قال هشام بن عروة هو ما أعد الله لهم في الجنة من لذيذ المآكل والمشارب وهناء العيش كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) أي إنهم رضوا بهذا الحكم في الأنفال وإن كانوا كارهين له كما أخرجك ربك من المدينة بسبب حق يظهر وهو علو كلمة الإسلام والنصر على أعداء الله، والحال أن فريقا من المؤمنين لكارهون الخروج للقتال لقلة العدد، أو المعنى الأنفال ثابتة لله ثبوتا بالحق كإخراجك من بيتك بالمدينة بالحق أي بالوحي،
وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام وفيها تجارة عظيمة ومعها أربعون راكبا منهم: أبو سفيان، وعمرو بن العاص، وعمرو بن هشام. فأخبر جبريل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبر المسلمين فأعجبهم تلقي العير لكثرة الخير وقلة القوم، فلما خرجوا وبلغوا وادي دقران وهو قريب من الصفراء نزل عليه صلّى الله عليه وسلّم جبريل فقال: يا محمد إن الله وعدكم إحدى الطائفتين إما العير وإما قريشا فاستشار النبي أصحابه فقال: «ما تقولون إن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول فالعير أحب إليكم أم النفير؟» - وهو اسم عسكر مجتمع- فقالوا: بل العير أحب إلينا من لقاء العدو.
فتغير وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم ردد عليهم فقال: «إن العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل» - أي بجميع أهل مكة- «ومضى إلى بدر» فقالوا: يا رسول الله عليك بالعير، ودع العدو. فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقام عند ذلك أبو بكر وعمر فأحسنا في القول، ثم قام سعد بن عبادة فقال: انظر أمرك فامض، فو الله لو سرت إلى عدن ما تخلف عنك رجل من الأنصار، ثم قال مقداد بن عمرو: يا رسول الله امض كما أمرك الله فإنا معك حيثما أحببت لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ما دامت عين منا تطرف، فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: «أشيروا عليّ أيها الناس» . فقال سعد بن معاذ: امض يا رسول الله لما أردت، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقي بنا عدونا وإنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقربه عينك فسر بنا على بركة الله ففرح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبسطه قول سعد ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: «سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم»
«1» . يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ تلقي النفير
__________
(1) رواه الطبري في التفسير (9: 124) ، وابن كثير في التفسير (3: 557) ، والبيهقي في دلائل النبوة (3: 34) ، وابن كثير في البداية والنهاية (3: 262) .(1/417)
بَعْدَ ما تَبَيَّنَ أي بعد إعلامك أنهم ينصرون أينما توجهوا وجدالهم هو قولهم ما كان خروجنا إلا للعير وهلا ذكرت لنا القتال لنتأهب له وكان ذلك لكراهتهم القتال كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) أي مشبهين بالذين يساقون بالعنف إلى القتل والحال أنهم ينظرون إلى أسباب الموت وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ أي واذكروا وقت أن يعدكم الله بأن إحدى الطائفتين العير أو العسكر مختصة بكم تسلطون عليها تسلط الملاك وتنصرفون فيهم كيف شئتم وَتَوَدُّونَ أي وتحبون أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ أي القوة تَكُونُ لَكُمْ وهو العير إذ لم يكن فيها إلا أربعون فارسا، ورئيسهم أبو سفيان وذات الشوكة: وهي العسكر وهم ألف مقاتل ورئيسهم أبو جهل وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ أي يثبت النصر على الأعداء بِكَلِماتِهِ أي بأسباب النصر من أوامره تعالى للملائكة بالإمداد وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) والمعنى أنتم تريدون سفساف الأمور وهو العير للفوز بالمال والله تعالى يريد معاليها بأن تتوجهوا إلى النفير لما فيه من إعلاء الدين الحق واستئصال الكافرين لِيُحِقَّ الْحَقَّ أي ليظهر الشريعة ويقوى الدين وَيُبْطِلَ الْباطِلَ أي وليظهر بطلان الباطل بتقوية رؤساء الحق وقهر رؤساء الباطل وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) أي المشركون ذلك الإظهار إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ أي تطلبون منه الغوث كأن يقولوا: ربنا انصرنا على عدوك يا غياث المستغيثين أغثنا أي فرّج عنا.
قال ابن عباس: حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر ونظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المشركين وهم ألف، وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف استقبل القبلة ومديده وهو يقول: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» «1» ولم يزل كذلك حتى سقط رداؤه ورده أبو بكر، ثم التزمه ثم قال: كفاك يا نبي الله مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك، فنزلت هذه الآية
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ بدل من «إذ يعدكم» معمول لعامله، ويجوز أن يكون العامل في «إذ» هو قوله تعالى: «ويبطل الباطل» فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ أي معينكم بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) .
وقرأ عيسى بن عمر، ويروى أيضا عن عمرو «إني» بكسر الهمزة على إضمار القول، أو على إجراء «استجاب» مجرى قال. والعامة على فتح الهمزة بتقدير حرف الجر. وقرأ نافع أبو بكر بن عاصم، ويروى عن قنبل أيضا «مردفين» بفتح الدال، أي إن الله أردف المسلمين بهم وأيدهم بهم بمعنى إن الملائكة كانوا مقدمة الجيش أو ساقتهم. والباقون بكسرها أي متتابعين يأتي بعضهم إثر بعض.
__________
(1) رواه أحمد في (م 1/ ص 32) .(1/418)
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)
وروي أنه نزل جبريل بخمسمائة، وقاتل بها في يمين العسكر وفيه أبو بكر، ونزل ميكائيل بخمسمائة قاتل بها في يسار الجيش وفيه على وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى أي وما جعل إمدادكم بإنزال الملائكة عيانا إلا للبشرى لكم بأنكم تنصرون وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ أي بالأمداد قُلُوبُكُمْ كما كانت السكينة لبني إسرائيل كذلك وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لا من عند غيره أي إن الله ينصركم أيها المؤمنون فثقوا بنصره، ولا تتكلوا على قوتكم إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي قاهر لا يقهر، حَكِيمٌ (10) فيما ينزل من النصرة فيضعها في موضعها
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ أي يجعل الله النعاس مغطيا لكم آمنا من خوف العدو من الله تعالى وإذ بدل ثان من إذ يعدكم.
قال الزجاج: محلها نصب على الظرفية، والمعنى وما جعله الله إلا بشرى في ذلك الوقت.
قرأ العامة «يغشيكم» بضم الياء والفتح الغين وتشديد الشين، وقرأ نافع بضم الياء وسكون الغين والفاعل في الوجهين هو الله تعالى، وقرأ أبو عمر وابن كثير «يغشاكم» بفتح الياء والشين وسكون الغين و «النعاس» فاعل، أي إذ يلقى عليكم النوم الخفيف أمانا من الله لكم من عدوكم أن يغلبكم، وحصول النوم لهم في وقت الخوف الشديد يدل على زوال الخوف وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً. قرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ من الأحداث، وفي الخبر:
«أن المشركين سبقوا إلى موضع الماء وطمعوا لهذا السبب أن تكون لهم الغلبة، وعطش المؤمنون وخافوا من أن يأتيهم العدو في تلك الحالة، وأكثرهم احتملوا وموضعهم كان رملا تغوص فيه الأرجل، ويرتفع فيه الغبار الكثير. وكان الخوف في قلوبهم شديدا بسبب كثرة العدو وكثرة آلتهم، فلما أنزل الله ذلك المطر صار ذلك دليلا على حصول النصرة وعظمت النعمة به» وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ أي وسوسته. روي أنهم لما ناموا واحتلم أكثرهم تمثل لهم إبليس وقال: أنتم تزعمون أنكم على الحق وأنتم تصلون على الجنابة وقد عطشتم ولو كنتم على الحق لما غلبوكم على الماء، فأنزل الله تعالى المطر حتى جرى الوادي، واتخذ المسلمون حيضانا واغتسلوا وتلبد الرمل حتى ثبتت عليه الأقدام وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ أي ليحفظ قلوبكم بالصبر وَيُثَبِّتَ بِهِ أي الماء الْأَقْدامَ (11) على الرمل فقدروا على المشي عليه كيف أرادوا إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فإنه تعالى أوحى إلى الملائكة أني مع المؤمنين فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا أي فانصروهم وبشروهم بالنصرة.
وقد روي أنه كان الملك يتشبه بالرجل الذي يعرفونه بوجهه فيأتي ويقول: إني سمعت المشركين يقولون: والله لئن حملوا علينا لننكشفن ويمشي بين الصفين فيقول: أبشروا فإن الله تعالى ناصركم سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ أي المخافة من محمد صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ
(12) أي فاضربوا رؤوسهم واضربوا أطراف(1/419)
الأصابع، أي اضربوهم في جميع الأعضاء من أعاليها إلى أسافلها كيف شئتم لأن الله تعالى ذكر الأشرف والأخس فهو إشارة إلى كل الأعضاء. لِكَ
أي لقاؤهم الخزي من الوجوه الكثيرةأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
أي خالفوهما في الأوامر والنواهي مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ
(13) أي ومن يخالفهما فإن الله يعاقبه في القيامة وهو شديد العقاب فالذي نزل بهم في ذلك اليوم قليل بالنسبة لما أعده الله لهم من العقاب في القيامة ذلِكُمْ أي الأمر ذلكم فالخطاب للكفرة فَذُوقُوهُ في الدنيا وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14) والمعنى حكم الله ذلكم من أن ثبوت هذا العقاب لكم عاجلا وثبوت عذاب النار لكم آجلا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً أي مثل الزاحفين على أدبارهم في بطء السير لاجتماعهم فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) أي لا تجعلوا ظهوركم مما يليهم قل قابلوهم وقاتلوهم مع قلتكم وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ أي يوم اللقاء دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ بأن يخيل عدوه أنه منهزم، ثم ينعطف عليه أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ أي متنحيا إلى جماعة أخرى من المؤمنين لينضم إليهم، ثم يقاتل معهم العدو فَقَدْ باءَ أي رجع بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) والفرار من الزحف من أكبر الكبائر إذا لم يزد العدد على الضعف فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ أنتم بقوتكم وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ لتسليطكم عليهم وإلقاء الرعب في قلوبهم، أي فلم تؤثر قوتكم في قتلهم ولكن التأثير لله وَما رَمَيْتَ يا أكرم الرسل إِذْ رَمَيْتَ أي وما رميت في الحقيقة وقت رميت التراب إلى وجوه المشركين وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى أي أوصل رميك إليهم.
روي أنه لما طلعت قريش من العقنقل قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك اللهم إني أسألك ما وعدتني» . فنزل إليه جبريل وقال له: خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فلما التقى الجمعان قال صلّى الله عليه وسلّم لعلي رضي الله عنه: «أعطني قبضة من التراب من حصباء الوادي، فرمى بها في وجوههم وقال: شاهدت الوجوه فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه»
فانهزموا وردفهم المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «ولكن الله قتلهم» ، «ولكن الله رمى» بكسر النون مخففة ورفع اسم الجلالة وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً أي ولينعم الله عليهم من رمي التراب نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة والثواب، وهذا معطوف على قوله تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لاستغاثتهم عَلِيمٌ (17) بأحوال قلوبهم الداعية إلى الإجابة ذلِكُمْ أي الأمر ذلكم أي البلاء الحسن وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) معطوف على ذلكم. وقرأ حفص عن عاصم موهن كيد بالإضافة وسكون الواو. وقرأ ابن عامر والكوفيون بعدم الإضافة، ونافع وابن كثير وأبو عمرو كذلك لكن مع فتح الواو وتشديد الهاء أي والأمر أن الله مضعف صنيع الكافرين(1/420)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ.
قال الحسن ومجاهد والسدي: وهذا خطاب للكفار على سبيل التهكم بهم. وقال السدي:
إن المشركين لما أرادوا الخروج إلى بدر أخذوا أستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين، وأكرم الحزبين، وأفضل الدينين. والمعنى إن تستنصروا أيها الكفار لأعلى الجندين فقد جاءكم النصر لأعلاهما وقد زعمتم أنكم الأعلى فالتهكم في المجيء أو فقد جاءكم الهزيمة، فالتهكم في نفس الفتح، وإن تنتهوا عن قتال الرسول وعداوته وتكذيبه فهو خير لكم في الدين بالخلاص من العقاب. والفوز بالثواب، وفي الدنيا بالخلاص من القتل والأسر والنهب، وإن تعودوا إلى القتال نعد إلى تسليط المسلمين على قتلكم ولن تدفع عنكم جماعتكم شيئا من الضرر ولو كثرت. وقيل: هذا خطاب للمؤمنين، والمعنى إن تستنصروا أيها المؤمنون فقد جاءكم النصر وإن تنتهوا عن المنازعة في أمر الأنفال وعن طلب الفداء على الأسرى فهو خير لكم، وإن تعودوا إلى تلك المنازعة نعد إلى ترك نصرتكم ثم لا تنفعكم كثرتكم وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) .
قرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم «وأن» بفتح الهمزة وهو خبر مبتدأ محذوف، أي والأمر أن الله مع الكاملين في الإيمان يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في الإجابة إلى الجهاد وإلى ترك المال إذا أمره بتركه وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ أي ولا تعرضوا عن الرسول أي عن قبول قوله وعن معونته في الجهاد وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) دعاءه إلى الجهاد
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا بألسنتهم سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) أي إنا قبلنا تكاليف الله تعالى، والحال أنهم بقلوبهم لا يقبلونها إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) أي إن شر كل حيوان في حكم الله تعالى من لا يسمع الحق ولا ينطق به ولا يفقه أمر الله تعالى.
قال ابن عباس: هم نفر من بني عبد الدار بن قصي كانوا يقولون: نحن صم بكم عمي عما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم، فقتلوا جميعا يوم بدر وكانوا أصحاب اللواء ولم يسلم منهم إلا رجلان مصعب بن عمير وسويبط بن حرملة وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ أي ولو حصل في بني عبد الدار خير لأسمعهم الله الحجج والمواعظ سماع تفهم وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ بعد أن علم أنه لا خير فيهم لَتَوَلَّوْا عنها ولم ينتفعوا بها وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) أي والحال أنهم مكذبون بها. قيل:
إن الكفار سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يحيى لهم قصي بن كلاب وغيره من أمواتهم ليخبروهم بصحة نبوته صلّى الله عليه وسلّم فبين الله تعالى أنه لو علم فيهم خيرا وهو انتفاعهم بقول هؤلاء الأموات لأحياهم الله تعالى حتى يسمعوا كلامهم ولكنه تعالى علم منهم أنهم لا يقولون: أحي لنا قصيا فإنه كان شيخا مباركا حتى يشهد لك بالنبوة فنؤمن بك إلا على سبيل العناد والتعنت وإنه لو أسمعهم الله كلام(1/421)
قصي وغيره لتولوا عن قبول الحق على أدبارهم ولأعرضوا عما سمعوه بقلوبهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ أي أجيبوا الله والرسول بحسن الطاعة إذا دعاكم الرسول إلى ما فيه سبب حياتكم الأبدية من الإيمان أو القرآن أو الجهاد.
وروى أبو هريرة رضي الله عنه: أن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مرّ على باب أبي بن كعب وهو في الصلاة، فدعاه، فعجل في صلاته، ثم جاء فقال صلّى الله عليه وسلّم له: «ما منعك عن إجابتي؟» قال: كنت في الصلاة، قال: «ألم تخبر فيما أوحي إلي اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ» «1» فقال: لا جرم لا تدعوني إلا أجيبك
وَاعْلَمُوا يا معشر المؤمنين أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ أي يحول بين المرء وبين ما يريده بقلبه فإن الأجل يحول دون الأمل، فكأنه قال تعالى: بادروا إلى الأعمال الصالحة ولا تعتمدوا على ما يقع في قلوبكم من توقع طول البقاء فإن ذلك غير موثوق به.
وقال مجاهد: المراد من القلب هنا العقل، أي فإن الله يحول بين المرء وعقله، والمعنى فبادروا إلى الأعمال وأنتم تعقلون فإنكم لا تأمنون زوال العقل والله يحول بين المرء والكافر وطاعته ويحول بين المرء المطيع ومعصيته والقلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكثر أن
يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»
«2» ولا يستطيع المرء أن يؤمن ولا أن يكفر إلا بإذنه تعالى وَأَنَّهُ أي واعلموا أن الشأن إِلَيْهِ أي الله تعالى تُحْشَرُونَ (24) في الآخرة فيجزيكم بحسب مراتب أعمالكم فسارعوا إلى طاعة الله ورسوله وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً أي واحذروا فتنة إن نزلت بكم لم تقتصروا على الظالمين خاصّة بل تتعدى إليكم جميعا وتصل إلى الصالح والطالح، وحذر تلك الفتنة بالنهي عن المنكر فالواجب على كل من رآه أن يزيله إذا كان قادرا على ذلك فإذا سكت عليه فكلهم عصاة هذا بفعله وهذا برضاه وقد جعل الله تعالى الراضي بمنزلة العامل فانتظم في العقوبة.
وعلامة الرضا بالمنكر: عدم التألم من الخلل الذي يقع في الدين بفعل المعاصي فلا يتحقق كون الإنسان كارها له إلا إذا تألم له تألمه لفقد ماله أو ولده فكل من لم يكن
بهذه الحالة فهو راض بالمنكر فتعمه العقوبة والمصيبة بهذا الاعتبار وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25) ولذلك يصيب بالعذاب من لم يباشر سببه، والمعنى الزموا الاستقامة خوفا من عذاب الله تعالى وَاذْكُرُوا يا معشر المهاجرين إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ في العدد في أول الإسلام مُسْتَضْعَفُونَ فِي
__________
(1) رواه ابن حجر في فتح الباري (8: 307) .
(2) رواه الترمذي في كتاب الدعوات، باب: 89، وابن ماجة في كتاب الدعاء، باب: دعاء الرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأحمد في (م 4/ ص 182) .(1/422)
الْأَرْضِ أي مقهورون في أرض مكة تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ تخافون إذا خرجتم من البلد أن تأخذكم مشركو العرب بسرعة لشدة عداوتهم لكم ولقربهم منكم فَآواكُمْ أي نقلكم إلى المدينة فصرتم آمنين من كفار مكة وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ أي قواكم بنصرته يوم بدر وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي من الغنائم وهي كانت محرمة على من كان قبل هذه الأمة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) هذه النعم العظيمة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ في الدين وفي الإشارة إلى بني قريظة أن لا تنزلوا على حكم سعد بن معاذ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ فيما بينكم وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) أن ما وقع منكم خيانة.
روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاصر يهود بني قريظة خمسا وعشرين ليلة حتى أجهدهم الحصار فسألوه صلّى الله عليه وسلّم الصلح كما صالح بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم في أذرعات وأريحا من الشام، فأبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يعطيهم ذلك إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأبوا وقالوا:
أرسل إلينا أبا لبابة وهو رفاعة بن عبد المنذر نستشيره في أمرنا وكان مناصحا لهم لأن ماله وعياله عندهم، فأرسله إليهم فقالوا: يا أبا لبابة ما ترى لنا أننزل على حكم سعد بن معاذ فينا فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه أي حكم سعد هو القتل فلا تفعلوا فكان منه خيانة لله ورسوله وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
أي محنة من الله تعالى ليبلوكم فيهم فلا يحملنكم حبهم على الخيانة كأبي لبابة لأنه يشغل القلب بالدنيا ويصيّره حجابا عن خدمة المولى وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
(28) فإن سعادات الآخرة خير من سعادات الدنيا لأنها أعظم في الشرف وفي المدة لأنها تبقى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً أي نجاة مما تخافون في الدارين وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ أي يسترها في الدنيا وَيَغْفِرْ لَكُمْ أي يزلها في الآخرة وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) على عباده بالمغفرة والجنة وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي واذكر يا أشرف الخلق وقت احتيالهم بك في إيصال الضرر والهلاك لِيُثْبِتُوكَ أي ليسجنوك أو ليثبتوك بالوثائق كما قرئ ليقيدوك أَوْ يَقْتُلُوكَ بسيوفهم أَوْ يُخْرِجُوكَ من مكة وَيَمْكُرُونَ أي يريدون هلاكك يا أكرم الرسل وَيَمْكُرُ اللَّهُ أي يرد مكرهم عليهم، وذلك بأن أخرجهم إلى بدر وقلل المسلمين في أعينهم حتى حملوا عليهم فلقوا ما لقوا وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) أي أقواهم فكل مكر يبطل في مقابلة فعل الله تعالى.
قال المفسرون: إن مشركي قريش عرفوا لما أسلمت الأنصار أن أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يظهر، فاجتمع نفر من كبار قريش في دار الندوة. أي في الدار التي يقع فيها الاجتماع للتحدث ورؤوسهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو سفيان وطعيمة بن عدي، وجبير بن معطم والحرث بن عامر، والنضر بن الحرث، وأبو البحتري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وحكيم بن حزام، وأبو جهل، وأمية بن خلف، ونبيهة ومنبه ابنا الحجاج ودخل عليهم إبليس في صورة شيخ وقال: أنا من أهل(1/423)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
نجد، وتشاوروا في أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال عمرو بن هشام: قيدوه وسدوا باب البيت غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه حتى يهلك كما هلك من قبله من الشعراء. فقال إبليس: لا مصلحة فيه لأنه يغضب له قومه فنسفك فيه الدماء. فقال أبو البحتري بن هشام: أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه لكم، فقال إبليس: لا مصلحة فيه لأنه يجمع طائفة على نفسه ويقاتلكم بهم، وقال أبو جهل: الرأي أن نجمع من كل قبيلة رجلا فيضربوه بأسيافهم ضربة واحدة فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل فلا يقوى بنو هاشم على محاربة قريش كلها، فيرضون بأخذ الدية. فقال إبليس: هذا هو الرأي الصواب. فأوحى الله تعالى إلى نبيه بذلك وأمره أن لا يبيت في مضجعه، وأذن له في الهجرة إلى المدينة،
وأمر عليا أن يبيت في مضجعه وقال له: تسج ببردتي فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه وهم المشركون بالولوج عليه صلّى الله عليه وسلّم فصاحت امرأة من الدار فقال بعضهم لبعض: إنها لسبة في العرب أن يتحدثوا عنا أنا تسورنا الحيطان على بنات العم وهتكنا سر حرمتنا، وباتوا مترصدين على الباب، ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الباب وأخذ تعالى أبصارهم عنه فأخذ قبضة من تراب ونثره على رؤوسهم كلهم ومضى هو وأبو بكر إلى الغار، فلما أصبحوا ساروا إلى مضجعه صلّى الله عليه وسلّم فأبصروا عليا فقالوا له: وأين صاحبك؟ فقال: لا أدري. فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الغار رأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا: لو دخله لم تنسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاثا من الليالي ثم قدم المدينة
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا أي القرآن قالُوا قَدْ سَمِعْنا ما قال محمد صلّى الله عليه وسلّم لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) أي ما هذا القرآن إلا ما كتب الأولون من القصص.
روي أن النضر بن الحرث خرج إلى الحيرة بلدة بقرى الكوفة تاجرا، واشترى أحاديث كليلة ودمنة وكان يقعد مع المستهزئين وهو منهم فيقرأ عليهم أساطير الأولين، كالفرس والروم وكان يزعم أنها مثل ما يذكره محمد من قصص الأولين وإسناد القول إلى الكل مع أن القائل هو النضر لما أنه كان رئيسهم وقاضيهم وهو الذي يقولون بقوله ويأخذون برأيه. وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا أي الذي يقوله محمد صلّى الله عليه وسلّم هُوَ الْحَقَّ بالنصب خبر كان ودخلت هو للفصل مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ عقوبة على إنكارنا أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) غير الحجارة قاله النضر استهزاء وقد أسره المقداد يوم بدر فقتله النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أو قاله أبو جهل وقد ذبحه ابن مسعود يوم بدر وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ أي لا يفعل الله بهؤلاء الكفار عذاب الاستئصال ما دام سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم حاضرا معهم تعظيما له، وأيضا إن عادة الله مع جميع الأنبياء المتقدمين لم يعذب أهل قرية إلا بعد أن يخرج رسولهم منها كما كان في حق هود وصالح ولوط وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) أي وما كان الله معذب هؤلاء الكفار وفيهم مؤمنون يستغفرون لأنه صلّى الله عليه وسلّم لما خرج من مكة بقي فيها من لم يستطع الهجرة من مكة من المسلمين وَما(1/424)
لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ
أي ولا مانع من إهلاك الله لهم بعد ما خرجت من بينهم وحالهم يمنعونك والمسلمين عن الطواف ببيت الله يوم الحديبية وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ أي والحال أنهم ما كانوا أولياء المسجد وهذا رد لقولهم: نحن ولاة البيت والحرم فنصد من نشاء وندخل من نشاء إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ أي ما أولياء المسجد إلا الذين يتحرزون عن المنكرات كما كانوا يفعلونه عند البيت من المكاء والتصدية، ومن كانت هذه حاله لم يكن وليا للمسجد الحرام بل هم أهل لأن يقتلوا بالسيف ويحاربوا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) أنه لا ولاية لهم عليه وَما كانَ صَلاتُهُمْ أي عبادتهم عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً أي صفيرا وَتَصْدِيَةً أي تصفيقا أي ما كان شيء مما يعدونه عبادة إلا هذين الفعلين.
قال ابن عباس: كانت قريش يطوفون بالبيت عراة مشبكين بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون بإحدى اليدين بالأخرى فَذُوقُوا الْعَذابَ أي عذاب السيف يوم بدر بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) بالقرآن وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي عن دينه.
قال مقاتل والكلبي: نزلت هذه الآية في المطعمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلا من كبار قريش أبي جهل وأصحابه يطعم كل واحد منهم كل يوم عشر جزر. وقال سعيد بن جبير ومجاهد: نزلت في أبي سفيان وكان استأجر ليوم أحد ألفين من الأحابيش سوى من استجاش من العرب وأنفق فيهم أربعين أوقية، والأوقية اثنان وأربعون مثقالا، وأخرج ابن إسحاق عن مشايخه أنها نزلت في أبي سفيان ومن كان له في العير من قريش تجارة فَسَيُنْفِقُونَها أي أموالهم ثُمَّ تَكُونُ أي الأموال عَلَيْهِمْ
حَسْرَةً
أي ندامة لفواتها وفوات قصدهم من نصرتهم على محمد ثُمَّ يُغْلَبُونَ آخر الأمر وَالَّذِينَ كَفَرُوا أي أصروا على الكفر أبو جهل وأصحابه إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) أي يساقون يوم القيامة لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ أي ليميز الله الفريق الخبيث من الكفار من الفريق الطيب من المؤمنين و «اللام» متعلقة ب «يحشرون» أو ب «يغلبون» ، أو المعنى ليميز الله نفقة الكافر على عداوة محمد من نفقة المؤمن في جهاد الكفار كإنفاق أبي بكر وعثمان في نصرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
وقرأ حمزة والكسائي: ليميز بضم الياء الأولى وفتح الميم وتشديد الياء المكسورة وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ أي ويجعل الفريق الخبيث بعضه على بعض فَيَرْكُمَهُ أي فيجمعه جَمِيعاً لفرط ازدحامهم فَيَجْعَلَهُ أي يطرحه فِي جَهَنَّمَ. وقيل: المعنى يضم الله تعالى تلك الأموال الخبيثة بعضها إلى بعض فيلقيها في جهنم ويعذبهم بها أُولئِكَ أي(1/425)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50)
الذين كفروا هُمُ الْخاسِرُونَ (37) أي الكاملون في الغبن قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أبي سفيان وأصحابه أي قل يا أشرف الخلق لأجلهم: إِنْ يَنْتَهُوا عن الكفر وعداوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ من الذنوب
قال صلّى الله عليه وسلّم: «الإسلام يجب ما قبله»
«1» وَإِنْ يَعُودُوا إلى الكفر ومعاداة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أي وإن يرتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه ويرجعوا للكفر وقتال النبي ننتقم منهم بالعذاب فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) أي لأنه قد سبقت سيرة الأولين الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتدمير كما جرى على أهل بدر وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ أي قاتلوا كفار أهل مكة لئلا توجد فتنة فقد خرج المسلمون إلى الحبشة وتآمرت قريش أن يفتنوا المؤمنين بمكة عن دينهم حين بايعت الأنصار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيعة العقبة، وليكون الدين كله لله في أرض مكة وما حولها لا يعبد غيره فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر وسائر المعاصي بالتوبة والإيمان فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) أي عالم لا يخفى عليه شيء يوصل إليهم ثوابهم وَإِنْ تَوَلَّوْا عن التوبة والإيمان فَاعْلَمُوا يا معشر المؤمنين أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ أي حافظكم ورافع البلاء عنكم نِعْمَ الْمَوْلى أي الولي بالحفظ وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) لا يغلب من نصره وكل من كان في حماية الله تعالى كان آمنا من الآفات مصونا عن المخوّفات، والمعنى وإن تولوا عن الإيمان فلا تخشوا بأسهم لأن الله مولاكم
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ أي واعلموا يا معشر المؤمنين أن الذي أصبتموه كائنا من شيء قليلا كان أو كثيرا، فواجب أن لله خمسه بمعنى أنه تعالى أمر بقسمته على هؤلاء الخمسة فذكر الله للتعظيم. وقوله: إن لله خمسه خبر مبتدأ محذوف أي فكون خمسه لله واجب وهذه الجملة خبر ل «أن» وَلِلرَّسُولِ أما بعد وفاته فيصرف سهمه إلى مصالح المسلمين عند الشافعي. وقال أبو حنيفة: سهمه ساقط بسبب موته.
وقال مالك: مفوض إلى رأي الإمام وَلِذِي الْقُرْبى أي ولقرابة النبي صلّى الله عليه وسلّم من بني هاشم وبني المطلب دون من عداهم من أغنيائهم وفقرائهم يقسم الخمس بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، وَالْيَتامى أي الذين مات آباؤهم وهم فقراء غير يتامى بني عبد المطلب وَالْمَساكِينِ أي ذوي الحاجة من المسلمين وَابْنِ السَّبِيلِ أي المحتاج في سفره ولا معصية بسفره إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا محمد صلّى الله عليه وسلّم من الآيات والملائكة والفتح يَوْمَ الْفُرْقانِ أي يوم بدر سمي به لفرقه بين الحق والباطل، وهو منصوب ب «أنزلنا» أو ب «آمنتم» يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ أي الفريقان من المسلمين والكافرين وهو بدل من يوم الفرقان أو منصوب بالفرقان. والمعنى إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزّل على محمد يوم بدر فاعلموا أن خمس الغنيمة مصروف إلى هذه الوجوه الخمسة فاقطعوا أطماعكم عنه واقنعوا بالأخماس الأربعة وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) يقدر
__________
(1) رواه السيوطي في الدر المنثور (3: 154) .(1/426)
على نصر القليل على الكثير إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وهو بدل ثان من يوم الفرقان أي إذ أنتم كائنون في شط الوادي القربى من المدينة وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى أي والمشركون في شفير الوادي البعدي منها وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ أي العير التي خرجوا لها التي يقودها أبو سفيان وأصحابه كائنون بمكان أسفل منكم على ساحل البحر على ثلاثة أميال من بدر وَلَوْ تَواعَدْتُمْ أنتم وأهل مكة على القتال لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ أي لخالف بعضكم بعضا في الميعاد هيبة منهم لكثرتهم وقلتكم وَلكِنْ جمع الله بينكم على هذه الحال بغير ميعاد لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا أي ليمضي أمرا كان مفعولا في علمه وهو النصرة والغنيمة للنبي وأصحابه والهزيمة والقتل لأبي جهل وأصحابه ويكون استيلاء المؤمنين على المشركين معجزة دالة على صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وهو بدل من ليقضي أي ليموت من مات عن بينة عاينها ويعيش من يعيش عن بينة شاهدها لئلا يكون له حجة ومعذرة أو ليصدر كفر من كفر وإيمان من آمن عن وضوح بينة وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ لدعائكم عَلِيمٌ (42) بحاجتكم وضعفكم فأصلح مهمكم إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قبل يوم بدر قَلِيلًا مع كثرتهم فأخبر بذلك أصحابه فقالوا: رؤيا النبي حق، فصار بذلك تشجيعا للمؤمنين وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ أي ولو أراك الله المشركين كثيرا لذكرته للقوم ولو سمعوا ذلك لجبنوا وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ أي لاختلفتم في أمر القتال ولتفرقت آراؤكم في الفرار والثبات وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ أي سلمكم من المخالفة فيما بينكم إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43) أي بالخطرات التي تقع في القلوب من الصبر والجزع والجراءة والجبن ولذلك دبر ما دبر وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا أي وإذ يبصركم أيها المؤمنون إياهم قليلا حتى قال ابن مسعود لمن في جنبه: أتراهم سبعين؟ فقال: أراهم مائة، وهم في نفس الأمر ألف تصديقا لرؤيا الرسول صلّى الله عليه وسلّم ولتزداد جراءة المؤمنين عليهم وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ حتى قال أبو جهل: إنما أصحاب محمد أكلة جزور، أي قليل يشبعهم جزور واحد، فلا تقتلوهم واربطوهم بالحبال، وقلل الله عدد المؤمنين في أعين المشركين قبل التحام الحرب لئلا يبالغ الكفار في تحصيل الاستعداد والحذر فيصير ذلك سببا لانكسارهم، فلما التحم القتال أرى الكفار المسلمين مثلي الكفار، وكانوا ألفا فرأوا المسلمين قدر ألفين ليهابوا، وتضعف قلوبهم لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا أي ليصير سببا لاستيلاء المؤمنين عليهم وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) بالبناء للمفعول أي ترد وللفاعل أي تصير ويصرف الله الأمور كلها كيفما يريد ولا تجري على ما يظنه العبيد يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا أي إذا حاربتم جماعة من الكفرة فجدوا في المحاربة ولا تنهزموا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً بالقلب واللسان في أثناء القتال ومن الذكر ما يقع حال القتال من التكبير لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) أي تفوزون بمرامكم من النصرة والمثوبة وَأَطِيعُوا اللَّهَ(1/427)
وَرَسُولَهُ
في أمر القتال وغيره وَلا تَنازَعُوا أي لا تختلفوا في أمر الحرب فَتَفْشَلُوا أي فتجبنوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ أي شدتكم وَاصْبِرُوا على شدائد الحرب إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) بالنصرة والكلاءة وَلا تَكُونُوا في الاستكبار والفخر كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ مكة لحماية العير بَطَراً أي شديد المرح وَرِئاءَ النَّاسِ أي ولثناء الناس عليهم بالشجاعة والسماحة، وذلك أن قريشا خرجوا من مكة لحفظ الغير، فلما بلغوا جحفة أتاهم رسول أبي سفيان وقال: ارجعوا إلى مكة فقد سلمت عيركم. فأبوا إلا إظهار آثار الجلادة، وأيضا لما وردوا الجحفة بعث الحقاف الكناني إلى أبي جهل وهو صديق له بهدايا مع ابن له، فلما أتاه قال: إن أبي يقول لك: إن شئت أن أمدك بالرجال أمددنك، وإن شئت أن أزحف إليك بمن معي من قرابتي فعلت. فقال أبو جهل: قل لأبيك جزاك الله خيرا إن كنا نقاتل الله كما يزعم محمد فو الله ما لنا بالله من طاقة، وإن كنا نقاتل الناس فو الله إن بنا على الناس لقوة، والله ما نرجع عن قتال محمد حتى نرد بدرا فنشرب فيها الخمور وتعزف علينا القيان، وتنحر الجزور في بدر فيقنى الناس علينا بالشجاعة والسماحة وقد بدلهم الله شرب الخمور بشرب كأس
الموت، وبدّل ضرب الجواري على نحو الدفوف بنوح النائحات، وبدّل نحر الجزور بنحر رقابهم حيث قتل منهم سبعون وأسر سبعون.
واعلم أن النعم إذا كثرت من الله تعالى على العبد فإن صرفها إلى مرضاته تعالى وعرف أنها من الله تعالى فذاك هو الشكر، وأما إن توسل بها إلى المفاخرة على الأقران والمغالبة بالكثرة على أهل الزمان فذاك هو البطر. وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي ويمنعون الناس من الدخول في دين الله، وهذا معطوف على «بطرا» ، وإنما ذكر البطر والرياء بصيغة الاسم، والصد بصيغة الفعل لأن أبا جهل ورهطه كانوا مجبولين على المفاخرة والرياء، وأما صدّهم عن سبيل الله فإنما حصل في الزمان الذي ادعى سيدنا محمد النبوة وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) أي واللَّه أعلم بما في دواخل القلوب وهذا كالتهديد عن التصنع فإن الإنسان بما أظهر من نفسه أن الحامل له إلى ذلك الفعل طلب مرضاة الله تعالى مع أنه لا يكون الأمر في الحقيقة كذلك وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ أي واذكر وقت تزيين الشيطان أعمالهم في معاداة المؤمنين وخروجهم من مكة فإن المشركين حين أرادوا المسير إلى بدر خافوا من بني بكر بن كنانة لأنهم كانوا قتلوا منهم واحدا فلم يأمنوا أن يأتوهم من ورائهم فتصور لهم إبليس بصورة سراقة بن مالك بن جعشم وهو من بني بكر بن كنانة، وكان من أشرافهم في جند من الشياطين ومعه راية وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ أي لا غالب عليكم اليوم من بني كنانة ومن محمد صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ أي حافظكم من مضرتهم فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ أي التقى الجمعان جمع المؤمنين وجمع الكافرين بحيث رأت كل واحدة الأخرى، ورأى إبليس نزول الملائكة من السماء نَكَصَ عَلى(1/428)
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
عَقِبَيْهِ
أي رجع إلى خلفه هاربا وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ فكان إبليس في صف المشركين وهو آخذ بيد الحارث بن هشام فقال له الحارث: إلى أين تترك نصرتنا في هذه الحالة؟ قال إبليس: إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ وأرى جبريل بين يدي النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وفي يده اللجام يقود الفرس ولم تروه، ودفع إبليس في صدر الحارث وإِنِّي أَخافُ اللَّهَ أن يهلكني بتسليط الملائكة عليّ.
وقيل: لما رأى إبليس الملائكة ينزلون من السماء خاف أن يكون الوقت الذي أنظر إليه قد حضر، فقال ما قال إشفاقا على نفسه وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48) قاله الشيطان بسطا لعذره، وحينئذ فهو تعليل أو مستأنف من محض كلامه تعالى تهديدا لإبليس إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وهم قوم من الأوس والخزرج وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شك وهم قوم من قريش أسلموا ولم يقو إسلامهم في قلوبهم ولم يهاجروا منهم: عتبة بن ربيعة، وقيس بن الوليد، وأبو قيس الفاكه، والحارث بن زمعة، وعدي بن أمية، والعاص بن منبه، والعامل في «إذ زيّن» أو اذكر مقدرا غَرَّ هؤُلاءِ أي محمدا وأصحابه دِينُهُمْ فإنهم خرجوا وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر يقاتلون ألف رجل وما ذاك إلا أنهم اعتمدوا على دينهم. وقال هؤلاء: لما خرج قريش لحرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نخرج مع قومنا فإن كان محمد في كثرة خرجنا إليه، وإن كان في قلة أقمنا في قومنا، فلما خرجوا مع قريش ورأوا قلة المسلمين وكثرة الكفّار رجعوا للكفر وقالوا ذلك القول، وقتلوا جميعا مع المشركين يوم بدر ولم يحضر منافق في بدر مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلا واحد وهو عبد الله بن أبي وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) أي ومن يعول على إحسان الله ويثق بفضله ويسلم أمره إلى الله فإن الله حافظه وناصره، لأنه عزيز لا يغلبه شيء، حكيم يوصل العذاب إلى أعدائه والرحمة إلى أوليائه وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ أي ولو رأيت يا أشرف الخلق الكفرة حين يتوفاهم الملائكة في بدر يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ ويقولون لهم: وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50) أي النار لأنه كان مع الملائكة مقامع، وكلما ضربوا بها التهبت النار منها في الأجزاء. وجواب «لو» محذوف أي لرأيت أمرا فظيعا لا يكاد يوصف.
ذلِكَ العذاب بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ أي بسبب ما عملت أيديكم من الكفر والمعاصي وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) أي والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من جهتهم كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي عادة كفار قريش فيما فعلوه من الكفر، وما فعل بهم من العذاب كعادة آل فرعون وقوم ونوح وعاد وأضرابهم من الكفر والعناد في ذلك كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أي أنكروا الدلائل الإلهية، وهذه الجملة تفسير لدأب كفار قريش فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ أي بسبب ذنوبهم إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ بالأخذ شَدِيدُ الْعِقابِ (52) أي إذا عاقب ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ أي تعذيب الكفرة بما قدمت أيديهم بسبب أن الله لم يكن مغيرا نعمة أنعم بها عليهم- كالعقل وإزالة الموانع- حتى يغيروا أحوالهم، فإذا صرفوا تلك النعمة إلى الفسق(1/429)
والكفر فقد غيروا نعمة الله تعالى على أنفسهم فاستحقوا تبديل النعم بالنقم والمنح بالمحن وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) أي وبسبب أنه تعال يسمع ويعلم جميع ما يأتون وما يذرون كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي حتى يغيروا ما بأنفسهم تغييرا كائنا كتغيير الأمم الماضية كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ أي كذب آل فرعون ومن قبلهم بأنه تعالى رباهم وأنعم عليهم فأنكروا دلائل التربية والإحسان مع كثرتها وتواليها عليهم كما كذب أهل مكة ذلك فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ أي أهلكنا بعضهم بالرجفة وبعضهم بالخسف، وبعضهم بالحجارة، وبعضهم بالريح، وبعضهم بالمسخ كذلك أهلكنا كفار قريش بالسيف وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54) أي وكل من الفرق المكذبة كانوا ظالمين لأنفسهم بالكفر والمعصية، ولأنبيائهم بالتكذيب، ولسائر الناس بالإيذاء والإيحاش، فالله تعالى إنما أهلكهم بسبب ظلمهم. اللهم أهلك الظالمين وطهر وجه الأرض منهم، فلا يقدر أحد على دفعهم إلا أنت فادفع يا قهار يا جبار يا منتقم إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) أي إن شر الخلق في حكم الله وعلمه الذين أصروا على الكفر فهم لا يرجى منهم إيمان الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ أي من مرات المعاهدة.
قال ابن عباس: هم قريظة، فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان عاهد يهود بني قريظة أن لا يحاربوه ولا يعاونوا عليه فنقضوا العهد وأعانوا عليه مشركي مكة بالسلاح في يوم بدر، ثم قالوا: نسينا وأخطأنا، ثم عاهدهم مرة ثانية فنقضوا العهد أيضا، وساعدوا معهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الخندق، وانطلق كعب بن الأشرف إلى مكة فحالفهم على محاربة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) عن نقض العهد فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) أي إن تظفرن بهؤلاء الكفار الذين ينقضون العهد في أثناء الحرب فافعل بهم فعلا من القتل والتعذيب يفرق بسببهم من خلفهم من أهل مكة واليمن أي إذا فعلت بقريظة العقوبة فرقت شمل قريش إذ يخافون منك أن تفعل بهم مثل ما فعلت بحلفائهم- وهم قريظة- فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يفرقهم في ذلك الوقت تفريقا عنيفا موجبا للاضطراب وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ أي وإن تعلمن من قوم من المعاهدين نقض عهد بأمارات ظاهرة فاطرح إليهم عهدهم على طريق ظاهر مستو، بأن تعلمهم قبل حربك إياهم أنك قطعت ما بينك وبينهم من الوصلة حتى تكون أنت وهم في العلم بنقض العهد سواء، ولا تبادرهم الحرب وهم على توهّم بقاء العهد فيكون ذلك خيانة منك إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58) في العهود. والحاصل إن ظهرت الخيانة بأمارات ظاهرة من غير أمر مستفيض وجب على الإمام أن ينبذ إليهم العهد ويعلمهم الحرب، وذلك كما في قريظة فإنهم عاهدوا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ثم أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم عليه صلّى الله عليه وسلّم: وأما إذا ظهر نقض العهد ظهورا مقطوعا به فلا حاجة للإمام إلى نبذ العهد(1/430)
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)
وإعلامهم بالحرب بل يفعل كما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأهل مكة فإنهم لما نقضوا العهد بقتل خزاعة وهم في ذمة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وصل إليهم جيش النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بمر الظهران وذلك على أربع فراسخ من مكة وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا.
قرأ ابن عامر وحفص عن عاصم بالياء التحتية، أي ولا يحسبنّ الذين كفروا من قريش أنفسهم فاتوا من عذابنا بهر بهم يوم بدر. وقرأ الباقون بالتاء الفوقانية على مخاطبة النبي صلّى الله عليه وسلّم أي ولا تحسبن يا أشرف الخلق الذين كفروا الذين خلصوا منك في بدر فائتين من عذابنا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) أي إنهم بهذا الفرار لا يعجزون الله من الانتقام منهم إما بالقتل في الدنيا، وإما بعذاب النار في الآخرة. وقرأ ابن عامر «أنهم» بفتح الهمزة على التعليل وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ
رِباطِ الْخَيْلِ
. قيل: إنه لما اتفق لأصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في قصة بدر أنهم قصدوا الكفار بلا آلة أمرهم الله تعالى أن لا يعودوا لمثله فقال: وَأَعِدُّوا إلخ أي هيئوا لحرب الكفار ما استطعتم من كل ما يتقوى به في الحرب من كل ما هو آلة للجهاد ومن الخيل المربوط سواء كان من الفحول أو من الإناث.
وروي أنه كانت الصحابة يستحبون ذكور الخيل عند الصفوف وإناث الخيل عند البيات والغارات تُرْهِبُونَ بِهِ أي بذلك الإعداد. وقرئ تخزون عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وهم كفار مكة وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ أي من غير كفار مكة من الكفرة لا تَعْلَمُونَهُمُ على ما هم عليه من العداوة. أي فإن تكثير آلات الجهاد كما يرهب الأعداء الذين نعلم كونهم أعداء كذلك يرهب الأعداء الذين لا نعلم أنهم أعداء، سواء كانوا مسلمين أو كفارا اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ لا غيره. وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ قل أو جل فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعة الله في الجهاد وفي سائر وجوه الخيرات يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أي لا يضيع الله في الآخرة أجره ويعجل عوضه في الدنيا وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) أي لا تنقصون من الأجر
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها أي وإن مال الكفار للصلح بوقوع الرهبة في قلوبهم بمشاهدة ما بكم من الاستعداد فاقبله. وقرأ أبو بكر عن عاصم «للسلم» بكسر السين.
وقرئ «فاجنح» بضم النون. وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي فوّض الأمر فيما عقدته معهم إلى الله ليكون عونا لك على السلام، ولكي ينصرك عليهم إذا نقضوا العهد إِنَّهُ تعالى: هُوَ السَّمِيعُ لما يقولون في خلواتهم من مقالات الخداع، الْعَلِيمُ (61) بنياتهم فيؤاخذهم بما يستحقونه ويرد كيدهم في نحرهم وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ أي وإن يريدوا الكفار بإظهار الصلح خديعتك لتكف عنهم فاعلم أن الله كافيك من شرورهم وناصرك عليهم هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ أي قواك ببصره في سائر أيامك وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) من المهاجرين والأنصار وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ أي إن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعث إلى(1/431)
قوم تكبرهم شديد حتى لو لطم رجل من قبيلة لطمة قاتل عنه قبيلته حتى يدركوا ثاره ثم إنهم انقلبوا عن تلك الحالة حتى قاتل الرجل أخاه وأباه وابنه، واتفقوا على الطاعة وصاروا أنصارا.
وأيضا كانت الخصومة بين الأوس والخزرج شديدة، والمحاربة دائمة، ثم زالت الضغائن وحصلت الألفة- فإزالة تلك العداوة الشديدة وتبديلها بالمحبة القوية مما لا يقدر عليها إلا الله تعالى- وصارت تلك معجزة ظاهرة على صدق نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم. إِنَّهُ تعالى عَزِيزٌ أي قاهر يقلب القلوب من العداوة إلى الصداقة حَكِيمٌ (63) أي يفعل ما يفعله مطابقا للمصلحة يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) أي كفاك الله وكفى أتباعك ناصرا. أو المعنى كفاك الله والمؤمنون. وهذه الآية نزلت في البيداء في غزوة بدر قبل القتال، فالمراد بالمؤمنين هنا أهل غزوة بدر وهم المهاجرون والأنصار.
وقيل: نزلت في إسلام عمر بن الخطاب. قال سعيد بن جبير: أسلم مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة، ثم أسلم عمر رضي الله عنه فنزلت هذه الآية، فعلى هذا القول تكون الآية مكية كتبت في سورة مدنية بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ أي بالغ في حثّهم عليه إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ أي إن يكن منكم عشرون فليصبروا وليجتهدوا في القتال حتى يغلبوا مائتين وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وإنما وجب هذا الحكم عند حصول هذه الشروط: منها: أن يكون المؤمن شديد الأعضاء قويا جلدا. ومنها: أن يكون قوي القلب شديد البأس، شجاعا غير جبان. ومنها: أن يكون غير متحرف لقتال أو متحيزا إلى فئة، فعند حصول هذه الشروط وجب على الواحد أن يثبت للعشرة بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) متعلق بيغلبوا في الموضعين أي بسبب أنهم قوم جهلة بالله تعالى وباليوم الآخر لا يقاتلون امتثالا لأمر الله تعالى وإعلاء لكلمته وابتغاء لمرضاته، وإنما يقاتلون للحمية الجاهلية، وإثارة العدوان. وهم يعتمدون على قوتهم، والمسلمون يستعينون بربهم بالتضرع ومن كان كذلك كان النصر أليق به الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً في البدن أو في معرفة القتال لا في الدين فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ أي بإرادته. وهذه الآية دلت على أن ذلك الشرط مفقود في حق هذه الجماعة فلم يثبت ذلك الحكم. وعلى هذا التقدير لم يحصل النسخ ألبتة، فقد أنكر أبو مسلم الأصفهاني النسخ. وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) أي إن العشرين إن قدروا على مصابرة المائتين بقي ذلك الحكم، وإن لم يقدروا على مصابرتهم، فالحكم المذكور هناك زائل، وهذا يدل على صحة مذهب أبي مسلم ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ أي ما ينبغي لنبي أن يكون له أسرى من الكفار حتى يقوى ويغلب بل اللائق قتلهم تُرِيدُونَ أيها المؤمنون عَرَضَ الدُّنْيا أي متاع الدنيا الذي هو الفداء وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ أي إنما يرضى الله ما يفضي إلى(1/432)
السعادات الأخروية المصونة عن الزوال وَاللَّهُ عَزِيزٌ يغلب أولياءه على أعدائه حَكِيمٌ (67) يعلم ما يليق بكل حال كما أمر بالأثخان، ونهى عن أخذ الفداء حين كانت الشوكة للمشركين، وخير بين أخذ الفداء وبين المن لما تحولت الحال وصارت الغلبة للمؤمنين لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) أي لولا أنه تعالى حكم في الأزل بالعفو عن هذه الواقعة لأصابكم بسبب ما أخذتم من الفداء عذاب شديد فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً أي قد أبحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتم حال كونه حلالا مستلذا.
روي أنهم أمسكوا عن الغنائم في بدر ولم يمدوا أيديهم إليها، فنزلت هذه الآية. وَاتَّقُوا اللَّهَ في مخالفة أمره ونهيه في المستقبل إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) في الحالة الماضية من استباحة الفداء قبل ورود الإذن من الله تعالى فيه يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى.
قرأ أبو عمرو «من الأسارى» بضم الهمزة وفتح السين بعدها ألف، وبالإمالة، أي من الذين أسرتموهم وأخذتم منهم الفداء إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً أي إيمانا وعزما على طاعة الله ورسوله في جميع التكاليف وتوبة عن الكفر وجميع المعاصي يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ من الفداء وَيَغْفِرْ لَكُمْ ما سلف منكم قبل الإيمان وَاللَّهُ غَفُورٌ لمن آمن وتاب من كفره ومعاصيه رَحِيمٌ (70) بأهل طاعته.
روي أن العباس كان أسيرا يوم بدر ومعه عشرون أوقية من الذهب أخرجها ليطعم الناس فكان أحد العشرة الذين ضمنوا الطعام لمن خرجوا من مكة إلى بدر فلم تبلغه التوبة حتى أسر، وأخذ ذلك العشرون منه فقال العباس: كنت مسلما إلا أنهم أكرموني فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن يكن ما تذكره حقا فالله يجزيك، فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا» . قال العباس: فكلمت رسول الله أن يرد ذلك الذهب عليّ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أما شيء خرجت به تستعين به علينا فلا» . قال العباس: وكلفني الرسول فداء ابن أخي عقيل بن أبي طالب عشرين أوقية، وفداء نوفل بن الحارث فقال العباس:
يا محمد تتركني أتكفف قريشا ما بقيت؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها: ما أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حادث فهذا المال لك ولعبد الله، ولعبيد الله، والفضل، وقثم» . وما يدريك يا ابن أخي؟ قال صلّى الله عليه وسلّم:
«أخبرني به ربي» «1» . قال العباس: أنا أشهد أنك صادق وأشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، والله لم يطلع عليه أحد إلا الله ولقد دفعته إليها في سواد الليل، ولقد كنت مرتابا في
__________
(1) رواه الطبري في التفسير (9: 124) ، وابن كثير في التفسير (3: 557) ، والبيهقي في دلائل النبوة (3: 34) ، وابن كثير في البداية والنهاية (3: 262) .(1/433)
وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
أمرك، فأما إذ أخبرتني بذلك فلا ريب وأمر ابني أخيه عقيلا ونوفل بن الحارث فأسلما، قال العباس: فأبدلني الله خيرا مما أخذ مني، ولي الآن عشرون عبدا كلهم تاجر يضرب بمال كثير أدناهم يضرب بعشرين ألفا وأعطاني زمزم وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربي.
وروي أنه قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مال البحرين ثمانون ألفا، فتوضأ لصلاة الظهر وما صلى حتى فرقه، وأمر العباس أن يأخذ منه فأخذ منه ما قدر على حمله، وكان يقول: هذا خير مما أخذ مني وأنا أرجو المغفرة
وَإِنْ يُرِيدُوا أي الأسرى خِيانَتَكَ أي بنقض العهد، فاعلم أنه سيمكّنك منهم فإنه صلّى الله عليه وسلّم كلما أطلقهم من الأسر عهد معهم أن لا يعودوا إلى محاربته صلّى الله عليه وسلّم، وإلى معاهدة المشركين بالعون عليه صلّى الله عليه وسلّم فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ أي من قَبْلُ هذا بما أقدموا عليه من محاربة الرسول يوم بدر فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ أي أقدر المؤمنين عليهم قتلا وأسرا في بدر وَاللَّهُ عَلِيمٌ أي ببواطنهم حَكِيمٌ (71) يفعل كل ما يفعله حسبما تقتضيه حكمته البالغة إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد والقرآن وَهاجَرُوا من مكة إلى المدينة حبا لله تعالى ولرسوله وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ بأن صرفوها إلى السلاح وأنفقوها على المحاويج وَأَنْفُسِهِمْ بمباشرة القتال، وبالخوض في المهالك فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعة الله وَالَّذِينَ آوَوْا أي أنزلوا المهاجرين منازلهم وَنَصَرُوا لهم على أعدائهم يوم بدر أُولئِكَ أي الموصوفون بما ذكر بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي يكونون يدا واحدة على الأعداء ويكون حب كل واحد للآخر جاريا مجرى حبه لنفسه وَالَّذِينَ آمَنُوا بمحمد والقرآن وَلَمْ يُهاجِرُوا من مكة إلى المدينة ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ أي من تعظيمهم مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا فلو هاجروا لحصل الإكرام والإجلال.
وقرأ حمزة «من ولايتهم» بكسر الواو. والباقون بالفتح وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أي إن قطع التعظيم بين تلك الطائفة ليس كما في حق الكفار بل هؤلاء لو استعانوكم في الدين على المشركين فواجب عليكم أن تعاونوهم عليهم إلا على قوم منهم بينكم معاهدة فإنه لا يجوز لكم نقض عهدهم بنصرهم عليهم إذ الميثاق مانع من ذلك وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) فلا تخالفوا أمره كي لا يحل بكم عقابه وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي في النصرة فإن كفار قريش كانوا في غاية العداوة لليهود فلما ظهرت دعوة محمد صلّى الله عليه وسلّم تعاونوا على إيذائه ومحاربته والمشركون واليهود والنصارى لما اشتركوا في عداوة محمد صلّى الله عليه وسلّم صارت هذه الجهة سببا لانضمام بعضهم إلى بعض وقرب بعضهم من بعض. وتلك العداوة لمحض الحسد لا لأجل الدين، لأن كل واحد منهم كان في نهاية الإنكار لدين صاحبه إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73) أي إن لم تفعلوا ما أمرتكم به من التواصل(1/434)
بين المسلمين ومن قطع المحبة بينهم وبين الكفار تحصل فتنة في الأرض ومفسدة عظيمة فإن المسلمين لو اختلطوا بالكفار في زمان ضعف المسلمين وقلة عددهم وزمان قوة الكفار وكثرة عددهم، فربما صارت تلك المخالطة سببا لالتحاق المسلم بالكفار، وأن المسلمين لو كانوا متفرقين لم يظهر منهم جمع عظيم فيصير ذلك سببا لجراءة الكفار عليهم وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا فالله تعالى ذكرهم أولا لتبيين حكمهم وهو إكرام بعضهم بعضا، ثم ذكرهم ها هنا لبيان تعظيم شأنهم وعلو درجتهم، وأثنى عليهم من ثلاثة أوجه وهي: وصفهم بكونهم محقين محققين في طريق الدين لأن من لم يكن محقا في دينه لم يفارق الأهل والوطن ولم يبذل النفس والمال، ولم يكن في هذه الأحوال من المتسارعين لَهُمْ مَغْفِرَةٌ تامة عن جميع الذنوب والتبعات وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) ثواب حسن في الجنة وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ أي بعد الهجرة الأولى وهؤلاء هم التابعون بإحسان وَهاجَرُوا من مكة إلى المدينة بعد المهاجرين الأولين وَجاهَدُوا مَعَكُمْ في بعض مغازيكم فَأُولئِكَ مِنْكُمْ أي من جملتكم أيها المهاجرون والأنصار في السر والعلانية وَأُولُوا الْأَرْحامِ أي ذوو القرابات بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ آخر منهم في التوارث من الأجانب فِي كِتابِ اللَّهِ أي في حكم الله الذي بينه في كتابه بالسهام المذكورة في سورة النساء إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) فالعالم بجميع المعلومات لا يحكم إلا بالصواب.(1/435)
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)
سورة التوبة
مدنية، وقد قيل: إلا الآيتين آخرها فإنهما مكيتان، مائة وتسع وعشرون آية، ألفان وخمسمائة وست كلمات، أحد عشر ألفا ومائة وخمسة عشر حرفا. والصحيح أن التسمية لم تكتب لأن جبريل عليه السلام ما نزل بها في هذه السورة. قاله القشيري
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) أي هذه براءة من جهة الله تعالى ورسوله واصلة إلى الذين عاهدتم من المشركين، فإن الله قد أذن في معاهدة المشركين فاتفق المسلمون مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعاهدهم. ثم إن المشركين نقضوا العهد فأوجب الله النبذ إليهم، فخوطب المسلمون بما يحذرهم من ذلك. وقيل: اعلموا أن الله ورسوله قد برئا مما عاهدتم من المشركين فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أي سيروا أيها المشركون كيف شئتم آمنين من القتل والقتال في هذه المدة من يوم النحر.
روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أراد أن يحج سنة تسع فقيل له: المشركون يحضرون ويطوفون بالبيت عراة فقال: «لا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك» فبعث أبا بكر تلك السنة أميرا على الموسم ليقيم للناس الحج، وبعث معه أربعين آية من صدر براءة، ليقرأها على أهل الموسم، ثم بعث بعده عليا على ناقته العضباء ليقرأ على الناس صدر براءة وأمره أن يؤذن بمكة ومنى وعرفة أن قد برئت ذمة الله وذمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من كل شرك، ولا يطوف بالبيت عريان. فسار أبو بكر أميرا على الحاج، وعلي ابن أبي طالب يؤذن ببراءة، فلما كان قبل يوم التروية بيوم قام أبو بكر رضي الله عنه فخطب الناس وحدّثهم عن مناسكهم، وأقام للناس الحج والعرب في تلك السنة على معاهدهم التي كانوا عليها في الجاهلية من أمر الحج، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأذّن في الناس بالذي أمر به، وقرأ عليهم أول سورة براءة وقال علي: بعثت بأربع: لا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين النبي صلّى الله عليه وسلّم عهد فهو إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يجتمع المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا في الحج. فقال المشركون لعلي عند ذلك: أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء(1/436)
ظهورنا وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف. ثم حج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سنة عشر حجة الوداع
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أي واعلموا يا معشر الكفار أن هذا الإمهال ليس لعجز بل للطف ليتوب من تاب، أي اعلموا أني أمهلتكم وأطلقت لكم فافعلوا كل ما أمكنكم فعله من إعداد الآلات وتحصيل الأسباب فإنكم لا تعجزون الله بل الله يعجزكم وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2) أي مذلهم في الدنيا بالقتل والأسر وفي الآخرة بالعذاب وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ أي وهذا إعلام صادر من الله ورسوله، واصل إلى الناس يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وهو يوم العيد، لأن فيه تمام معظم أفعال الحج، ولأن الإعلام كان فيه، أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الناقضين للعهد وَرَسُولِهِ بالرفع باتفاق السبعة فهو معطوف على الضمير المستتر في برىء فَإِنْ تُبْتُمْ من الشرك فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أي فالتوب خير لكم في الدارين لا شر وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي أعرضتم عن المتاب من الشرك فَاعْلَمُوا يا معشر المشركين أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أي غير فائتين من عذاب الله فإن الله قادر على إنزال أشد العذاب بهم وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) أي أخبرهم بالقتل بعد أربعة أشهر، فالبشارة على سبيل الاستهزاء كما يقال: إكرامهم الشتم وتحيتهم الضرب إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً من شروط الميثاق ولم يضروكم قط.
وقرئ بالضاد المعجمة أي لم ينقضوا عهدكم شيئا من النقض وَلَمْ يُظاهِرُوا أي لم يعاونوا عَلَيْكُمْ أَحَداً من أعدائكم فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إلى وقت أجلهم تسعة.
أشهر والمعنى لا تمهلوا الناكثين للعهد فوق أربعة أشهر لكن الذين عاهدتموهم ثم لم ينكثوا عهدهم فلا تجروهم مجرى الناكثين في المسارعة إلى قتالهم بل أتموا إليهم عهدهم، ولا تجعلوا الوافين كالغادرين، وهم بنو ضمرة، حي من كنانة أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم بإتمام عهدهم إلى مدتهم، وكان قد بقي من مدتهم تسعة أشهر فإنهم ما غدروا من هذين الوجهين إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) عن نقض العهد فإن مراعاة حقوق العهد من باب التقوى، وأن التسوية بين الوافي والغادر منافية لذلك وإن كان المعاهد مشركا فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ أي فإذا خرج الأشهر التي حرم الله القتل والقتال فيها وهي من يوم النحر إلى العاشر من ربيع الآخر فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ الناكثين خاصة حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ أي في حل أو حرم أو في شهر حرام أو غيره وَخُذُوهُمْ أي وأسروهم وَاحْصُرُوهُمْ أي امنعوهم من إتيان المسجد الحرام، ومن التقلب في البلاد وَاقْعُدُوا لَهُمْ أي لأجلهم خاصة كُلَّ مَرْصَدٍ أي في كل ممر يسلكونه لئلا ينبسطوا في البلاد فَإِنْ تابُوا من الشرك آمنوا بالله وَأَقامُوا الصَّلاةَ أي أقروا بالصلوات الخمس وَآتَوُا الزَّكاةَ أي أقروا بأداء الزكاة فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ أي فاتركوهم ولا تتعرضوا بشيء مما ذكر إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) لمن تاب من الكفر والغدر وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ
أي وإن(1/437)
سألك أحد من المشركين الذين أمرت بقتالهم أن تؤمنه بعد انقضاء مدة السياحة فأمنه حتى يسمع قراءتك لكلام الله ويطلع على حقيقة ما تدعو إليه.
ونقل عن ابن عباس أنه قال: إن رجلا من المشركين قال لعلي بن أبي طالب: إن أردنا أن نأتي الرسول بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله أو لحاجة أخرى فهل نقتل؟ فقال علي: لا، فإن الله تعالى قال: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ أي ثم أوصله إلى ديار قومه التي يأمنون فيها على أنفسهم وأموالهم، ثم بعد ذلك يجوز قتالهم وقتلهم ذلِكَ أي إعطاء الأمان بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) أي بسبب أنهم قوم لا يفقهون ما الإيمان وما حقيقة ما تدعوهم إليه، فلا بد من إعطاء الأمان حتى يفهموا الحق ولا يبقى معهم معذرة أصلا كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ أي لا ينبغي أن يبقى للمشركين عهد عند الله وعند رسوله وهم ينقضون العهد. إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي لكن الذين عاهدتم من المشركين عند قرب أرض الحرم يوم الحديبية وهم المستثنون من قبل هذا الاستثناء فقد استثنوا في قوله تعالى سابقا: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً إلخ- وهم بنو كنانة وبنو ضمرة- فتربصوا أمرهم ولا تقتلوهم فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ أي فأيّ زمان استقاموا لكم على العهد فاستقيموا لهم على مثله. أو المعنى فاستقيموا لهم مدة استقامتهم لكم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) عن نقض العهد وقد استقام صلّى الله عليه وسلّم على عهدهم حتى نقضوه بإعانتهم بني بكر وهم كنانة حلفاؤهم على خزاعة حلفائه صلّى الله عليه وسلّم.
روي أنه عدت بنو بكر على بني خزاعة في حال غيبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعاونتهم قريش بالسلاح حتى وفد عمرو بن سالم الخزاعي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنشده:
لا همّ إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيك ألا تلدا
إن قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ذمامك المؤكدا
هم بيتونا بالحطيم هجدا ... وقتلونا ركعا وسجدا
فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا نصرت إن لم أنصركم»
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ أي وحالهم أنهم إن يقدروا عليكم لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ أي لا يحفظوا فيكم إِلًّا أي قرابة وَلا ذِمَّةً أي عهدا.
والمعنى كيف لا تقتلوهم وهم إن يغلبوكم لا يحفظوا في شأنكم قرابة ولا ضمانا بل يؤذوكم ما استطاعوا يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ أي تنكر قلوبهم ما يفيد كلامهم، أي فإنهم يقولون بألسنتهم كلاما حلوا طيبا والذي في قلوبهم بخلاف ذلك فإنهم لا يضمرون إلا الشر والإيذاء إن قدروا عليه وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8) أي ناقضون للعهد مذمومون عند جميع الناس وفي جميع(1/438)
فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
الأديان اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أي تركوا آيات الله الآمرة بالاستقامة في كل أمر وأخذوا بدلها شيئا يسيرا من الدنيا لأجل تحصيل الشهوات، وذلك أن أبا سفيان بن حرب أطعم حلفاءه وترك حلفاء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وحملتهم تلك الأكلة على نقض العهد فنقضوا العهد الذي كان بينهم بسبب تلك الأكلة فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ أي عن دينه أو عن سبيل البيت الحرام حيث كانوا يصدون الحجاج والعمار عنه إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9) أي ساءهم الذي كانوا يعملونه ما مضى من صدهم عن سبيل الله وما معه لا يَرْقُبُونَ أي لا يحفظون فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا أي قرابة وَلا ذِمَّةً كرر ذلك مع إبدال الضمير ب «مؤمن» ، لأن الأول وقع جوابا لقوله تعالى: وَإِنْ يَظْهَرُوا، والثاني وقع خبرا عن تقبيح حالهم، أو هذا خاص بالذين اشتروا والذين جمعهم أبو سفيان وأطعمهم وأشباههم من اليهود وغيرهم. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) أي المجاوزون في الظلم والشرارة
فَإِنْ تابُوا من مساوي أعمالهم وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ أي أقروا بحكمهما وعزموا على إقامتهما فَإِخْوانُكُمْ أي فهم إخوانكم فِي الدِّينِ أي لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، فعاملوهم معاملة الإخوان وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) أي نبين الآيات لقوم يعلمون ما فيها من الأحكام وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ أي عهودهم التي بينكم وبينهم مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ أي لا يقاتلوكم ولا يظاهروا عليكم أحدا من أعدائكم وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ أي عابوا دينكم بالتكذيب وتقبيح الأحكام فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ أي قاتلوا الكفار بأسرهم فإنهم صاروا بذلك ذوي تقدم في الكفر، أحقاء بالقتل والقتال إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ أي إنهم لا عهود لهم على الحقيقة لأنهم لا يعدون نقضها محذورا وهم لما لم يفوا بها صارت أيمانهم كأنها ليست بأيمان وإن أجروها على ألسنتهم.
وقرأ ابن عامر «لا إيمان لهم» بكسر الهمزة أي لا تعطوهم أمانا بعد ذلك أبدا، فيكون «الإيمان» مصدرا بمعنى إعطاء الأمان، فهو ضد الإخافة لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أي ليكن غرضكم في مقاتلتهم سببا في انتهائهم عمّا هم عليه من الكفر والطعن في دينكم والمعاونة عليكم أَلا أي هلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ بعد عهد الحديبية بإعانة بني بكر على خزاعة وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ أي بإخراجه من مكة لكن لم يخرجوه بل خرج باختياره بإذن الله في الهجرة، أو من المدينة لقصد قتله وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بالقتال يوم بدر لأنهم حين سلم العير قالوا: لا ننصرف حتى نستأصل محمدا ومن معه، أو بدءوا بقتال خزاعة حلفاء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأن إعانة بني بكر عليهم بالسلاح قتال معهم، فالإعانة على القتال تسمى قتالا.
أَتَخْشَوْنَهُمْ أي أتخافون أيها المؤمنون أن ينالكم منهم مكروه حتى تتركوا قتالهم؟ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ في ترك أمره إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) . ودلت هذه الآية على أن المؤمن ينبغي أن يخشى ربه وأن لا يخشى أحدا سواه قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ بالقتل تارة، والأسر،(1/439)
أخرى واغتنام الأموال ثالثا وَيُخْزِهِمْ حيث شاهدوا أنفسهم مقهورين في أيدي المؤمنين ذليلين وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ أي يجعلكم جميعا غالبين عليهم أجمعين فإنكم تنتفعون بهذا النصر وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) ممن لم يشهد القتال وهم خزاعة: بطون من اليمن، وسبأ قدموا مكة فأسلموا فلقوا من أهلها أذى كثيرا فبعثوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشكون إليه،
فقال: «أبشروا فإن الفرج قريب»
وكان شفاء صدورهم من زحمة الانتظار فإنه الموت الأحمر وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ من بني بكر فإن من طال تأذيه من خصمه، ثمّ مكّنه الله منه على أحسن الوجوه كان سروره أعظم وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ من بعض أهل مكة كأبي سفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو فهم أسلموا يوم فتح مكة وحسن إسلامهم وَاللَّهُ عَلِيمٌ بكل ما يفعل في ملكه حَكِيمٌ (15) أي مصيب في أفعاله وأحكامه أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً أي بل أحسبتم أن يترككم الله بدون تكليفكم بالقتال الذي سئمتموه. والحال أنه لم يصدر الجهاد عنكم خاليا عن النفاق والرياء والتودد إلى الكفار وإبطال ما يخالف طريقة الدين. والمقصود من هذه الآية بيان أن المكلف في هذه الواقعة لا يتخلص عن العتاب إلا عند حصول أمرين:
الأول: أن يصدر الجهاد عنهم.
الثاني: أن يأتي بالجهاد مع الإخلاص. فإن المجاهد قد يجاهد وباطنه خلاف ظاهره، وهو الذي يتخذ الوليجة من دون الله ورسوله والمؤمنين المخلصين، أي وهو الذي يطلع الكافر على الأسرار الخفية. والمقصود بيان أنه ليس الغرض من إيجاب القتال نفس القتال فقط بل الغرض أن يؤتى به انقياد الأمر الله تعالى وحكمه ليظهر به بذل النفس والمال في طلب رضوان الله تعالى فحينئذ يحصل به الانتفاع وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16) من موالاة المشركين وغيرها فيجازيكم عليه فيجب على الإنسان أن يبالغ في أمر النية ورعاية القلب ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أي ما صحّ للمشركين أن يعمروا المسجد الحرام بدخوله والقعود
فيه وخدمته.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «مسجد الله» على الواحد. والباقون «مساجد» على الجمع وإنما جمع المسجد الحرام لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها، ثم شهادتهم على أنفسهم بالكفر أنهم أقروا بعبادة الأوثان وتكذيب القرآن وإنكار نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وإن أبوا أن يقولوا نحن كفار أُولئِكَ الذين يدعون عمارة المسجد الحرام وما يضاهيها من أعمال البر مع ما بهم من الكفر حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ التي يفتخرون بها بما قارنها من الكفر فصارت هباء منثورا وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) لكفرهم.(1/440)
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما أسر العباس يوم بدر أقبل عليه المسلمون فعيّروه بكفره بالله وقطيعة الرحم وأغلظ علي عليه القول فقال العباس: تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا! فقال له علي: ألكم محاسن؟ قال: نعم، نحن أفضل منكم إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة- أي نخدمها- ونسقي الحجيج، ونفك العاني- أي الأسير- فنزلت هذه الآية إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ أي إنما يصح أن يعمر المساجد عمارة يعتد بها مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ لأن المساجد موضع يعبدون الله فيه، فمن لم يكن مؤمنا بالله لا يبني موضعا يعبد الله فيه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لأن الاشتغال بعبادة الله لا تفيد إلا في القيامة فمن أنكر القيامة لم يعبد، ومن لم يعبد الله لم يبن بناء لعبادة الله تعالى وَأَقامَ الصَّلاةَ فإن المقصود الأعظم من بناء المساجد إقامة الصلوات وَآتَى الزَّكاةَ وإنما اعتبر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في عمارة المسجد، لأن الإنسان إذا كان مقيما للصلاة فإنه يحضر في المسجد فتحصل عمارة المسجد بذلك المسجد، وإذا كان مؤتيا للزكاة فإنه يحضر في المسجد طوائف الفقراء والمساكين لطلب أخذ الزكاة فتحصل عمارة المسجد بذلك الحضور وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ في باب الدين بأن لا يختار علي رضا الله تعالى رضا غيره فَعَسى أُولئِكَ المنعوتون بتلك النعوت الجميلة أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) إلى مطالبهم من الجنة وما فيها
وعن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من ألف المسجد ألفه الله تعالى» .
وعنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد فاشهدوا له بالإيمان»
«1» أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعة الله يوم بدر أي أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام في الفضيلة وعلو الدرجة كمن آمن بالله إلخ. ويقوي هذا التأويل قراءة عبد الله بن الزبير سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام.
قال ابن عباس: إن عليا لما أغلظ الكلام على العباس قال العباس: إن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد فلقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج فنزلت هذه الآية لا يَسْتَوُونَ أي الفريقان عِنْدَ اللَّهِ في الفضل وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) لأنفسهم فإنهم خلقوا للإيمان وهم رضوا بالكفر الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ أي الذين جمعوا بين هذه الصفات الثلاثة أعلى رتبة وأكثر كرامة عند الله ممن لم يجمع بينها وَأُولئِكَ المنعوتون بتلك النعوت الفاضلة هُمُ الْفائِزُونَ (20) بسعادة الدنيا والآخرة
يُبَشِّرُهُمْ أي هؤلاء المؤمنين المهاجرين المجاهدين رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ أي بمنفعة
__________
(1) رواه التبريزي في مشكاة المصابيح (7235) ، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (5: 456) ، والعجلوني في كشف الخفاء (1: 93) .(1/441)
خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم من قبل الله تعالى وذلك هو حد الثواب وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ أي منافع خالصة عن المكدرات مُقِيمٌ (21) أي دائمة غير منقطعة خالِدِينَ فِيها أي الجنات أَبَداً أي لا يخرجون منها إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) لما وصف الله المؤمنين بثلاث صفات الإيمان والهجرة والجهاد بالنفس والمال قابلهم على ذلك بالتبشير بثلاث، وبدأ بالرحمة التي هي النجاة من النيران في مقابلة الإيمان وثنى بالرضوان الذي هو نهاية الإحسان في مقابلة ترك الأوطان، ثم ثلث بالجنات التي هي المنافع العظيمة في مقابلة الجهاد الذي فيه بذل الأنفس والأموال، وإنّما خصوا بالأجر العظيم لأن إيمانهم أعظم الإيمان يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ أي بطانة تفشون إليهم أسراركم إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ أي اختاروه عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ في الدين فَأُولئِكَ المتولون هُمُ الظَّالِمُونَ (23) أي فهو مشرك مثلهم لأنه رضي بشركهم والرضا بالكفر كفر، كما أن الرضا بالفسق فسق.
قيل: إن الله تعالى لما أمر المؤمنين بالتبري عن المشركين قالوا: كيف تمكن المقاطعة التامة بين الرجل وابنه وأمه وأخيه؟ فذكر الله تعالى أن الانقطاع عن الآباء والأولاد والإخوان واجب بسبب الكفر قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ أي أهلكم الأدنون الذين تعاشرونهم.
وقرأ أبو بكر عن عاصم «وعشيراتكم» بالجمع وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها أي اكتسبتموها وَتِجارَةٌ أي أمتعة اشتريتموها للتجارة والربح تَخْشَوْنَ كَسادَها أي عدم رواجها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أي منازل تعجبكم الإقامة فيها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بالحب الاختياري وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ أي طاعته فَتَرَبَّصُوا نزلت هذه الآية لما قال جماعة من المؤمنين: يا رسول الله كيف يمكن البراءة منهم بالكلية، وإن هذه البراءة توجب انقطاعنا عن آباءنا وإخواننا وعشيرتنا، وذهاب تجارتنا، وهلاك أموالنا، وخراب ديارنا؟ فبين الله تعالى أنه يجب تحمل جميع هذه المضار الدنيوية ليبقى الدين سليما، وذكر أنه إن كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية أولى من طاعة الله وطاعة رسوله ومن المجاهدة في سبيل الله فتربصوا بما تحبون حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وهي عقوبة عاجلة أو آجلة وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24) أي الخارجين عن طاعته إلى معصيته لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وهي مشاهد الحروب كوقعات بدر وقريظة، والنضير والحديبية، وخيبر، وفتح مكة وَيَوْمَ حُنَيْنٍ أي واذكروا يوم قتالكم هوازن في حنين. فهوازن قبيلة حليمة السعدية، وحنين واد بينه وبين مكة ثمانية عشر ميلا، وذلك لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة وقد بقيت أيام من شهر رمضان خرج في شوال في تلك السنة وهي سنة ثمان متوجها إلى حنين لقتال هوازن وثقيف إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ(1/442)
كَثْرَتُكُمْ
وهم اثنا عشر ألفا: عشرة من المهاجرين والأنصار الذين فتحوا مكة، وألفان من الطلقاء وهم الأسراء الذين أخذوا يوم فتح مكة وأطلقوا- وهم أسلموا بعد فتحها في هذه المدة اليسيرة بين هوازن وثقيف- وأربعة آلاف ومعهم أمداد سائر العرب. فلما التقوا قال رجل من المسلمين اسمه سلمة بن سلامة الأنصاري: لن تغلب اليوم من قلة أي من أجلها افتخارا بكثرتهم أي نحن كثيرون فلا نغلب، فأحزنت هذه الكلمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً أي فلم تعطكم تلك الكثرة ما تدفعون به حاجتكم شيئا من الدفع، أي فلما أعجبوا بكثرتهم صاروا منهزمين وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ أي إنكم لشدة الخوف ضاقت عليكم الأرض فلم تجدوا فيها موضعا يصلح لفراركم عن عدوكم ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) أي منهزمين من الله.
وقال البراء بن عازب: كانت هوازن رماة فلما حملنا عليهم انكشفوا وأكببنا على الغنائم فاستقبلونا بالسهام، وانكشف المسلمون عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يبق معه صلّى الله عليه وسلّم إلا عمه العباس وهو آخذ بلجام بغلته، وابن عمه أبو سفيان بن الحرث وهو آخذ بركابه، وهو صلّى الله عليه وسلّم يركض بغلته الشهباء نحو الكفار لا يبالي وهو يقول: «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب» ثم قال للعباس: «ناد المهاجرين والأنصار» . وكان العباس رجلا صيتا، فجعل ينادي: يا عباد الله، يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة. فجاء المسلمون حين سمعوا صوته عنقا واحدا، وأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده كفا من الحصى فرماهم بها وقال: «شاهت الوجوه» فما زال أمرهم مدبرا وحدهم كليلا حتى هزمهم الله تعالى ولم يبق منهم يومئذ أحد إلا وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب
فذلك قوله تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ أي رحمته التي يحصل بها سكون وثبات وأمن عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
واعلم أنه لما شق الإعراض عن مخالطة الآباء والأبناء والإخوان والأزواج، وعن الأموال والمساكن على القلوب مشقة عظيمة ذكر الله تعالى ما يدل على أن من ترك
الدنيا لأجل الدين فإنه يوصله إلى مطلوبه من الدنيا أيضا وضرب الله تعالى لهذا مثلا وذلك أن عسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في واقعة حنين كانوا في غاية الكثرة والقوة، فلما أعجبوا بكثرتهم صاروا منهزمين، ثم في حال الانهزام لمّا تضرعوا إلى الله قوّاهم به حتى هزموا عسكر الكفار. وذلك يدل على أن الإنسان متى اعتمد على الدنيا فاته الدين والدنيا، ومتى أطاع الله ورجح الدين على الدنيا أتاه الدين والدنيا على أحسن الوجوه فكان ذكر هذا تسلية لأولئك الذين أمرهم الله بمقاطعة الآباء والأبناء والأموال والمساكن لأجل مصلحة الدين، ووعدا لهم على سبيل الرمز بأنهم إن فعلوا ذلك فالله تعالى يوصلهم إلى أقاربهم وأموالهم على أحسن الوجوه. وَأَنْزَلَ من السماء جُنُوداً لَمْ تَرَوْها أي بأبصارهم. وهم الملائكة عليهم البياض على خيول بلق لتقوية قلوب المؤمنين بإلقاء الخواطر الحسنة في قلوبهم وإلقاء الرعب في قلوب المشركين وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالقتل والأسر(1/443)
وهم قوم مالك بن عوف الدهماني، وقوم كنانة بن عبد ياليل الثقفي وَذلِكَ التعذيب جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) في الدنيا لكفرهم ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي ما جرى عليهم من الخذلان عَلى مَنْ يَشاءُ أن يتوب عليه منهم أي يوفقه للإسلام وَاللَّهُ غَفُورٌ لمن تاب رَحِيمٌ (27) لمن آمن وعمل صالحا.
روي أن ناسا منهم جاءوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فبايعوه على الإسلام وقالوا: يا رسول الله أنت خير الناس وأبر الناس، وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن عندي ما ترون إن خير القول أصدقه اختاروا إما ذراريكم ونساءكم، وإما أموالكم» . قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئا، وهي مفاخر آبائه من الذراري والنساء. فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إن هؤلاء جاءونا مسلمين وإنا خيّرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئا فمن كان بيده أسير وطابت نفسه أن يرده فشأنه- أي فيلزم شأنه- ومن لا، فليعطنا وليكن قرضا علينا حتى نصيب شيئا فنعطيه مكانه» قالوا: قد رضينا وسلمنا. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إنا لا ندري لعل فيكم من لا يرضى فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا»
«1» ، فرفعت إليه العرفاء أنهم قد رضوا ولم تقع غنيمة أعظم من غنيمتهم فقد كان فيها من الإبل اثنا عشر ألفا، ومن الغنم ما لا يحصى عددا، ومن الأسرى ستة آلاف من نسائهم وصبيانهم وكان فيها غير ذلك يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ أي ذوو نجس لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ أي جميع الحرم بَعْدَ عامِهِمْ هذا وهي السنة التي حصل فيها النداء بالبراءة من المشركين، وهي السنة التاسعة من الهجرة ولما امتنع المشركون من دخول الحرم وكانوا يتّجرون ويأتون مكة بالطعام، وكانت معايش أهل مكة من التجارات فخافوا الفقر وضيق العيش وذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنزل الله تعالى قوله: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً أي فقرا بسبب منع الكفار فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي عطائه من وجه آخر إِنْ شاءَ فأرسل الله تعالى السماء عليهم مدرارا أغزر بها خيرهم وأكثر ميرهم، وأسلم أهل جدة، وحنين، وصنعاء، وتبالة وجرش فحملوا الطعام إلى مكة وكفاهم الله الحاجة مما كانوا يخافون إلى مبايعة الكفار، فأغناهم بالفيء والجزية إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بأحوالكم وبمصالحكم حَكِيمٌ (28) فلا يعطى ولا يمنع إلا عن حكمة وصواب لما فرغ من الكلام على مشركي العرب بقوله تعالى: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ [التوبة: 1] إلى هنا أخذ يتكلم على أهل الكتابين فقال: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ فاليهود يعتقدون التجسيم والتشبيه. والنصارى يعتقدون الحلول، وهم يعتقدون بعثة الأرواح دون الأجساد، ويعتقدون أن أهل الجنة لا يأكلون، ولا يشربون، ولا ينكحون، وهم يكذبون أكثر الأنبياء
__________
(1) رواه الطبري في التفسير (10: 72) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (2: 112) .(1/444)
وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أي لا يعملون بما في التوراة والإنجيل بل حرّفوهما وأتوا بأحكام كثيرة من قبل أنفسهم وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ أي لا يعتقدون صحة دين الإسلام الذي هو الدين الحق مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ التوراة والإنجيل وهم اليهود والنصارى.
قال مجاهد: نزلت هذه الآية حين أمر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بقتال الروم فغزا بعد نزولها غزوة تبوك حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ أي حتى يقبلوا أن يعطوا ما يعطى المعاهد على عهده عَنْ يَدٍ أي عن غني فلا تجب الجزية على الفقير العاجز، أو عن إنعام عليهم لأن ترك أرواحهم عليهم بقبول الجزية منهم نعمة عظيمة وَهُمْ صاغِرُونَ (29) أي أذلاء منقادون لحكم الإسلام. وَقالَتِ الْيَهُودُ سلام بن مشكم ونعمان بن قيس، ومالك بن الصيف أو فنحاص بن عازوراء: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ. وسبب هذا القول أن اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى عليه السلام فأضاعوا التوراة، وعملوا بغير الحق فرفع الله عنهم التابوت الذي فيه التوراة، وأنساهم التوراة ومحاها من قلوبهم، فتضرع عزير إلى الله تعالى ودعاه أن يرد إليه التوراة، فبينما هو يصلي مبتهلا إلى الله تعالى إذ نزل نور من السماء فدخل جوفه فعادت التوراة إليه فأعلم قومه وقال: يا قوم قد آتاني الله التوراة وردها عليّ فتعلموا منه عن ظهر لسانه، ثم إن التابوت نزل بعد ذهابه منهم فلما رأوا التابوت عرضوا ما كان يعلمهم عزيز على ما في التابوت فوجدوه مثله فقالوا: ما جمع الله التوراة في صدر عزيز وهو غلام إلا لأنه ابنه وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ.
روي أن أتباع عيسى كانوا على الدين الحق بعد رفع عيسى عليه السلام إحدى وثمانين سنة يصلون إلى القبلة ويصومون رمضان حتى وقع حرب بينهم وبين اليهود وكان في اليهود رجل شجاع يقال له: بولص قتل جماعة من أصحاب عيسى عليه السلام، ثم قال بولص لليهود: إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا والنار مصيرنا، فنحن مغبونون إن دخلنا النار ودخلوا الجنة، فإني سأحتال وأضلهم حتى يدخلوا النار معنا، ثم إنه أتى إلى النصارى فقالوا له: من أنت؟ قال: أنا عدوكم بولص قد نوديت من السماء: إنه ليست لك توبة حتى تتنصر وقد تبت، فأدخله النصارى الكنيسة ومكث سنة في بيت فيها ولم يخرج منه حتى تعلم الإنجيل ثم خرج وقال: قد نوديت: إن الله قد قبل توبتك فصدقوه وأحبوه وعلا شأنه فيهم، ثم إنه عهد إلى أربعة رجال: اسم واحد نسطور، والآخر يعقوب، والآخر ملكان، والآخر من أهل الروم، فعلّم نسطور أن عيسى ومريم والله آلهة ثلاثة، وعلّم يعقوب أن عيسى ليس بإنسان وأنه ابن الله، وعلّم ملكان أن عيسى هو الله لم يزل ولا يزال عيسى، وعلم رجلا آخر من الروم اللاهوت والناسوت وقال: ما كان عيسى إنسانا ولا جسما ولكنه الله، ثم دعا كل واحد منهم في الخلوة وقال له: أنت خليفتي فادع الناس لما علمتك وأمره أن يذهب إلى ناحية من البلاد، ولقد رأيت عيسى في المنام ورضي عني وإني غدا(1/445)
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
أذبح نفسي لمرضاة عيسى، ثم دخل المذبح فذبح نفسه فتفرقوا ودعوا الناس إلى مذاهبهم واختلفوا ووقع القتال فكان ذلك سبب قولهم المسيح ابن الله ذلِكَ أي ما صدر عنهم قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ أي مجردا عن برهان وهو فارغ من معنى معتبر يُضاهِؤُنَ أي يشبهون في الشناعة قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ أي من قبلهم أي يشابه قول اليهود والنصارى قول المشركين: الملائكة بنات الله. وقول أهل مكة: اللات والعزى ومناة بنات الله. كما قالت اليهود: عزير ابن الله. وكذلك قال بعض النصارى: المسيح ابن الله، وقال بعضهم: شريكه، وقال بعضهم: هو الله، وقال بعضهم: ثالث ثلاثة قاتَلَهُمُ اللَّهُ دعاء عليهم بالإهلاك أو تعجب من شناعة قولهم: أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) أي كيف يصرفون عن الحق بعد وضوح الدليل حتى يجعلوا لله ولدا، وهذا التعجب راجع إلى الخلق لأن الله تعالى لا يتعجب من شيء
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ أي اتخذ اليهود علماءهم من ولد هارون، واتخذ النصارى علماءهم من أصحاب الصوامع أربابا من دون الله بأن أطاعوهم في تحريم ما أحله الله تعالى وتحليل ما حرمه أو بالسجود لهم وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ أي اتخذه النصارى ربا معبودا بعد ما قالوا: إنه ابن الله وَما أُمِرُوا أي والحال أن هؤلاء الكفار ما أمروا في التوراة والإنجيل إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً عظيم الشأن هو الله تعالى لا إِلهَ إِلَّا هُوَ صفة ثانية لا لها سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) أي تنزه الله تعالى عن أن يكون له شريك في التكليف وفي كونه معبودا ومسجودا له وفي وجوب نهاية التعظيم والإجلال يُرِيدُونَ أي رؤساء اليهود والنصارى أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ أي دلائل الله المنيرة الدالة على وحدانيته وتنزهه عن الشركاء والأولاد، أي يريدون أن يردوا القرآن فيما نطق به من التوحيد والتنزه عن الشركاء والأولاد ومن الشرائع من أمر الحل والحرمة بِأَفْواهِهِمْ أي بأقوالهم الباطلة وَيَأْبَى اللَّهُ أي لا يريد إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ بإعلاء كلمة التوحيد وإعزاز دين الإسلام وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) وجواب «لو»
محذوف، أي ولو كره الكافرون تمام نوره لأتمه ولم يبال بكراهتهم. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ محمدا صلّى الله عليه وسلّم بِالْهُدى أي ملتبسا بالقرآن وَدِينِ الْحَقِّ أي دين الإسلام لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أي ليعلي الله دين الإسلام على الأديان كلها وهو أن لا يعبد الله طلا به فإن المسلمين قد قهروا اليهود وأخرجوهم من بلاد العرب وغلبوا النصارى على بلاد الشام وما والاها إلى ناحية الروم والغرب، وغلبوا المجوس على ملكهم، وغلبوا عباد الأصنام على كثير من بلادهم مما يلي الترك والهند فثبت أن الذي أخبر الله عنه في هذه الآية قد حصل وكان ذلك إخبارا عن الغيب فكان معجزا.
وروي عن أبي هريرة أنه قال: هذا وعد من الله بأنه تعالى يجعل الإسلام غالبا على جميع الأديان، وتمام هذا إنما يحصل عند خروج عيسى فلا يبقى أهل دين إلا دخلوا في الإسلام وَلَوْ(1/446)
كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) ذلك الإظهار والوصف بالشرك بعد الوصف بالكفر للدلالة على أنهم ضموا الكفر بالرسول إلى الكفر بالله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ أي علماء اليهود وَالرُّهْبانِ أي علماء النصارى لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ أي ليأخذون الأموال من سفلتهم بطريق الرشوة في تخفيف الأحكام والمسامحة في الشرائع وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي لأنهم يمنعون عن متابعة الأخيار من الخلق والعلماء في ذلك في الزمان في المسلك المقرر في التوراة والإنجيل، وفي زمان محمد صلّى الله عليه وسلّم كانوا يبالغون في المنع عن متابعته صلّى الله عليه وسلّم في منهجه الصحيح بجميع وجوه المكر والخداع وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ أي يجمعونهما وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي ولا يخرجون من حملة كل واحد منهما سواء كانت آنية أو دنانير ودراهم ما وجب إخراجه عن تلك الجملة من الزكاة والكفارات ونفقة الحج والجمعة، ومما يجب إخراجه في الدين والحقوق ونفقة الأهل والعيال وضمان المتلفات وأروش الجنايات فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) أي فأخبرهم يا أشرف الخلق بعذاب أليم هو مذكور في قوله تعالى: يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ أي يوم توقد على تلك الأموال التي هي الذهب والفضة نار ذات حرّ شديد في نار جهنم فَتُكْوى بِها أي فتحرق بتلك الأموال جِباهُهُمْ أي جهة أمامهم كلها وَجُنُوبُهُمْ من اليمين واليسار وَظُهُورُهُمْ يقال لهم:
هذا أي الكي ما كَنَزْتُمْ أي جزاء ما جمعتم من الأموال لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) أي فذوقوا جزاء ما كنتم تمنعون حقوق الله تعالى في أموالكم إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ القمرية التي تؤدى فيها الزكاة وعليها يدور فلك الأحكام الشرعية عِنْدَ اللَّهِ أي في حكمه اثْنا عَشَرَ شَهْراً وأيام هذه الشهور ثلاثمائة وخمسة وخمسون يوما، والسنة الشمسية ثلاثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم، فتنقص السنة الهلالية عن السنة الشمسية عشرة أيام وربع يوم، فبسبب هذا النقصان تنتقل الشهور القمرية من فصل إلى فصل آخر فيقع الصوم والحج تارة في الشتاء وتارة في الصيف فِي كِتابِ اللَّهِ أي في اللوح المحفوظ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وهذه الظروف الثلاثة أبدل البعض من البعض، والتقدير أن عدة الشهور اثنا عشر شهرا عند الله في كتاب الله يوم خلق السموات، أي منذ خلق الله الإحرام والأزمنة أي إن ذلك العدد ثابت في علم الله وفي كتاب الله من أول ما خلق الله تعالى العالم مِنْها أي من تلك الشهور الاثني عشر أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ هي ذو القعدة، وذو الحجة والمحرم ورجب ذلِكَ أي عدة الشهور الدِّينُ الْقَيِّمُ أي الحساب الصحيح فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أي في الأربعة الحرم أَنْفُسَكُمْ بإتيان المعاصي فإنه أعظم وزرا كإتيانها في الحرم.
وقال ابن عباس: فلا تظلموا في الشهور الاثني عشر أنفسكم، وذلك منع الإنسان عن إتيان الفساد في جميع العمر وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً أي قاتلوا(1/447)
المشركين بأجمعكم مجتمعين على قتالهم في جميع الأشهر كما إنهم يقاتلونكم على هذه الصفة وكونوا عباد الله متوفقين في مقاتلة الأعداء وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) أي مع أوليائه الذين يخشونه في أداء الطاعات واجتناب المحرمات إِنَّمَا النَّسِيءُ أي إنما تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ لأن ضم هذا العمل إلى الأنواع المتقدمة من الكفر زيادة في الكفر يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا.
قرأ حفص وحمزة والكسائي «يضل» بالبناء للمفعول. والباقون بفتح الياء على البناء للفاعل. وقرأ أبو عمرو في رواية من طريق ابن مقسم ويعقوب من العشرة بضم الياء وكسر الضاد. والمعنى حينئذ يضل بهذا التأخير الذين كفروا تابعيهم والآخذين بأقوالهم يُحِلُّونَهُ عاماً أي يحلون التأخير عاما وهو العام الذي يريدون أن يقاتلوا في المحرم وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً أي ويحرمون التأخير عاما آخر، وهو العام الذي يتركون المحرم على تحريمه. وسبب هذا التأخير أن العرب كانت تعظم الأشهر الأربعة وكان ذلك شريعة ثابتة من زمان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وكانت عامة معايشهم من الصيد والغارة والحروب فشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية وقالوا: إن توالت ثلاثة أشهر حرم لا نصيب فيها شيئا لهلكنا وكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيحرمونه ويستحلون المحرم لِيُواطِؤُا أي ليوافقوا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ من الأشهر الأربعة فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ بخصوصه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنهم ما أحلوا شهرا من الحرام إلا حرموا مكانه شهرا من الحلال، ولم يحرموا شهرا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الحرام لأجل أن يكون عدد الأشهر الحرم أربعة مطابقة لما ذكره الله تعالى.
قال الكلبي: أول من فعل ذلك رجل من كنانة يقال له: نعيم بن ثعلبة وكان يقوم ويخطب في الموسم ويقول: إن صفر العام حرام فإذا قال ذلك حلوا الأوتار ونزعوا الأسنة والأزجة، وإن قال: حلال، عقدوا الأوتار وشدوا الأزجة وأغاروا. وقيل: هو جنادة بن عوف الكناني وكان مطاعا في الجاهلية كان يقول على جمل في الموسم بأعلى صوته: إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه، ثم يقوم في العام القابل فيقول: إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه وقيل: هو رجل من كنانة يقال له: القلمس قال قائلهم:
ومنا ناسئ الشهر قلمس وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أول من سن النسيء عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ. قال ابن عباس: أي زين الشيطان لهم هذا العمل حتى حسبوا هذا(1/448)
القبيح حسنا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37) أي لا يرشدهم إلى دينه لما سبق لهم في الأزل أنهم من أهل النار يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أي أيّ شيء ثبت لكم من الأعذار حال كونكم متثاقلين ومشتهين الإقامة في أرضكم في وقت قول الرسول لكم: أخرجوا إلى الغزو في طاعة الله.
روي أن هذه الآية نزلت في غزوة تبوك مكان على طرف الشام بينه وبين المدينة أربع عشرة مرحلة ويقال لها: غزوة العسر وغزوة الفاضحة، وكانت في رجب في السنة التاسعة من الهجرة بعد رجوعه صلّى الله عليه وسلّم من الطائف إلى المدينة، وسببها ما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أن هرقل جمع أهل الروم وأهل الشام وإنهم قدموا مقدماتهم إلى البلقاء، فأمر صلّى الله عليه وسلّم أصحابه بالجهاد وبعث إلى مكة وقبائل العرب وحضّ أهل الغنى على النفقة والحمل في سبيل الله، وهي آخر غزواته فجهز عثمان عشرة آلاف، وأنفق عليها عشرة آلاف دينار غير الإبل والخيل وهي: تسعمائة بعير ومائة فرس، وغير الزاد وما يتعلق بذلك، وأول من جاء بالنفقة: أبو بكر فجاء بجميع ماله أربعة آلاف درهم، وجاء عمر بنصف ماله، وجاء ابن عوف بمائة أوقية، وجاء العباس بمال كثير، وكذا طلحة والأغنياء. وبعثت النساء بكل ما يقدرن عليه من حليهن. فلما تجهز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالناس وهم ثلاثون ألفا وكانت الخيل عشرة آلاف فرس خلف على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري وتخلف عبد الله بن أبي ومن كان معه من المنافقين بعد أن خرجوا إلى ثنية الوداع وكان من تخلف عشر قبائل وإنما تباطأ الناس في خروجهم للقتال لشدة الزمان في قحط وضيق عيش، ولبعد المسافة والحاجة إلى الاستعداد الزائد على ما جرت به العادة في سائر الغزوات ولشدة الحر في ذلك الوقت، ولمهابة عسكر الروم، ولإدراك الثمار في المدينة في ذلك الوقت فاقتضى اجتماع هذه الأسباب تثاقل الناس عن ذلك الغزو أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا وغرورها مِنَ الْآخِرَةِ أي بدل نعيم الآخرة فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) أي فما التمتع بلذائذ الدنيا في مقابلة نعيم الآخرة إلا قليل لأن سعادة الدنيا بالنسبة إلى سعادة الآخرة
كالقطرة في البحر، وترك الخير الكثير لأجل السرور القليل سفه إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ الله عَذاباً أَلِيماً أي إن لم تخرجوا إلى ما طلب الخروج منكم إليه يهلككم الله بسبب فظيع هائل كقحط ونحوه وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ أي يأتي بعد إهلاككم بدلكم بقوم مطيعين مؤثرين للآخرة على الدنيا كأهل اليمن وأبناء فارس وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً أي لا يضر الله جلوسكم شيئا لأنه غني عن العالمين أو لا يضر الرسول تثاقلكم في نصرة دينه أصلا، لأن الله عصمه من الناس وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) فيقدر على نصر نبيه ودينه ولو من غير واسطة إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا أي إن لم تنصروا محمدا فسينصره الله الذي قد نصره حين لم يكن معه إلا(1/449)
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)
رجل واحد إذ جعله كفار مكة مثل المضطر إلى الخروج حيث أذن له صلّى الله عليه وسلّم في الخروج حين هموا بقتله حال كونه أحد اثنين، والآخر أبو بكر الصديق إذ هما في غار جبل ثور إذ
يقول محمد صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر الصديق: «لا تحزن إن الله معيننا»
«1» وكان الصديق قد حزن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا على نفسه فقال له: يا رسول الله إذا مت أنا فأنا رجل واحد وإذا مت أنت هلكت الأمة والدين.
روي أن قريشا ومن بمكة من المشركين تعاقدوا على قتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمره الله تعالى أن يخرج أول الليل إلى الغار، وخرج هو وأبو بكر أول الليل إلى الغار، وأمر صلّى الله عليه وسلّم عليا أن يضطجع على فراشه ليمنع السواد من طلبه حتى يبلغ إلى ما أمر الله به، فلما وصل إلى الغار دخل أبو بكر فيه أولا يلتمس ما فيه فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ما لك؟» فقال: بأبي أنت وأمي، الغار مأوى السباع والهوام فإن كان فيه شيء كان بي لا بك، وكان في الغار جحر فوضع عقبه عليه لئلا يخرج ما يؤذي الرسول فلما طلب المشركون الأثر وقربوا بكى أبو بكر خوفا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تحزن إن الله معنا بنصره»
«2» . فجعل يمسح الدموع عن خده.
وروي لما دخلا الغار بعث الله تعالى حمامتين فباضتا في أسفله، والعنكبوت نسجت عليه فقال صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم أعم أبصارهم»
«3» فجعلوا يترددون حول الغار ولا يرون أحدا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ أي أمنته التي تسكن عندها القلوب عَلَيْهِ أي على صاحبه صلّى الله عليه وسلّم أبي بكر الصدّيق وَأَيَّدَهُ أي أعانه صلّى الله عليه وسلّم بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وهم الملائكة النازلون يوم بدر والأحزاب وحنين وهذه الجملة معطوفة على جملة «نصره الله» وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى أي جعل الله يوم بدر كلمة الشرك سافلة حقيرة وَكَلِمَةُ اللَّهِ أي قوله لا إله إلا الله هِيَ الْعُلْيا أي الغالبة الظاهرة وَاللَّهُ عَزِيزٌ أي قاهر غالب حَكِيمٌ (40) أي لا يفعل إلا الصواب
انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا أي اخرجوا مع نبيكم إلى غزوة تبوك خفافا في الخروج لنشاطكم له وثقالا عنه لمشقته عليكم وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي جاهدوا في طاعة الله بما أمكن لكم إما بكليهما أو بأحدهما ذلِكُمْ أي الجهاد خَيْرٌ لَكُمْ أي خير عظيم في نفسه لكم إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) أن الجهاد خير فبادروا إليه لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ أي لو كان ما دعوا إليه متاعا قريب المنال سهل المأخذ وسفرا متوسطا بين
__________
(1) رواه البخاري في كتاب أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، باب: مناقب المهاجرين وفضلهم إلخ، ومسلم في كتاب الزهد، باب: 75، وأحمد في (م 1/ ص 3) وفيه «معنا» بدل «معيننا» .
(2) رواه البخاري في كتاب أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، باب: مناقب المهاجرين وفضلهم إلخ، ومسلم في كتاب الزهد، باب: 75، وأحمد في (م 1/ ص 3) . [.....]
(3) رواه ابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (76) .(1/450)
القريب والبعيد لاتبعوك في الخروج إلى تبوك طمعا في تلك المنافع وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ أي المسافة التي تقطع بمشقة فتخلفوا عن الجهاد بسبب إنهم كانوا يستعظمون غزو الروم فكانوا كالآيسين من الفوز بالغنيمة وَسَيَحْلِفُونَ أي المتخلفون عن الغزو عند رجوعك من تبوك وهم عبد الله بن أبي، وجد بن قيس، ومعتب بن قشير وأصحابهم قائلين بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا بالزاد والراحلة لَخَرَجْنا مَعَكُمْ إلى غزوة تبوك يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بسبب الحلف الكاذب فإن الأيمان الكاذبة توجب الهلاك ولهذا
قال صلّى الله عليه وسلّم: «اليمين الغموس تدع الديار بلاقع»
. وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42) في أيمانهم لأنهم كانوا مستطيعين الخروج عَفَا اللَّهُ عَنْكَ يا أشرف الخلق ما وقع منك من ترك الأولى والأكمل لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ أي لأي سبب أذنت لهم في التخلف حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا في اعتذارهم بعدم الاستطاعة من جهة المال أو من جهة البدن وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43) .
في ذلك قال ابن عباس: لم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعرف المنافقين يومئذ حتى نزلت سورة براءة لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أي ليس من عادة المؤمنين الخلص أن يستأذنوك في أن يجاهدوا فضلا عن أن يستأذنوك في التخلف عنه، وكان الأكابر من المهاجرين والأنصار يقولون: لا نستأذن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الجهاد فإن ربنا ندبنا إليه مرة بعد أخرى، فأي فائدة في الاستئذان ولنجاهد معه بأموالنا وأنفسنا، وكانوا بحيث لو أمرهم الرسول بالقعود لشق عليهم ذلك وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) الذين يسارعون إلى طاعته إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي إنما يستأذنك يا أشرف الخلق في التخلف عن الجهاد من غير عذر المنافقون فإنهم لا يرجون ثوابا ولا يخافون عقابا وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ أي شكت قلوبهم في الدين فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) أي فهم حال كونهم في شكهم المستقر في قلوبهم يتحيرون لا مع الكفار ولا مع المؤمنين وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ إلى الغزو معك لَأَعَدُّوا لَهُ أي للخروج عُدَّةً أي أهبة من الزاد والراحلة والسلاح وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ أي ولكن لم يرض الله نهوضهم للخروج معك فَثَبَّطَهُمْ أي حبسهم بالكسل وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46) أي تخلفوا مع المتخلفين والقائل الشيطان بوسوسته أو بعضهم لبعض، أو هو أمر النّبيّ بذلك أمر توبيخ أو ألقاه الله تعالى كراهة الخروج في قلوبهم فلا قول بالفعل لا من الله ولا من النّبيّ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ أي معكم ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا أي فسادا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ أي ولساروا على الإبل وسطكم ولأسرعوا بينكم بالنمائم يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ أي يطلبون لكم ما تفتنون به بإلقاء الرعب في قلوبكم وبإفساد نياتكم وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ أي فيكم قوم ضعفة يسمعون للمنافقين وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لأنفسهم بسبب نفاقهم ولغيرهم بسبب أنهم سعوا في إلقاء غيره في وجوه الآفات لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ أي من(1/451)
قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
قبل واقعة تبوك كما فعل عبد الله بن أبي يوم أحد حيث انصرف مع أصحابه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ أي اجتهدوا في الحيلة عليك وفي إبطال أمرك حَتَّى جاءَ الْحَقُّ أي استمر هؤلاء المنافقون على إثارة الفتنة وتنفير الناس عن قبول الدين حتى جاء النصر الإلهي وكثر المؤمنون وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ أي غلب دينه بظهور الأسباب التي تقوي شرع محمد صلّى الله عليه وسلّم وَهُمْ كارِهُونَ (48) أي والحال أنهم كارهون لمجيء هذا الحق وظهور أمر الله وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أي ومن المنافقين وهو الجد بن قيس من يقول للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ائذن لي في القعود في المدينة ولا توقعني في الإثم بأن لا تأذن لي فإنك إن منعتني من القعود وقعدت بغير إذنك وقعت في الإثم.
وروي أن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما تجهز إلى غزوة تبوك قال للجد بن قيس: «يا أبا وهب هل لك في جلاد بني الأصفر» - أي في جهاد ملوك الروم- فقال الجد: يا رسول الله قد علمت الأنصار أني مغرم بالنساء فلا تفتني ببنات الأصفر وإني أخشى إن رأيتهن لا أصبر عنهن ولكني أعينك بمال فاتركني
أَلا أي تنبهوا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا أي إنهم في عين الفتنة وقعوا فإن أعظم أنواع الفتنة الكفر بالله ورسوله، والتمرد عن قبول التكليف وهم خائفون من نزول آيات في
بيان نفاقهم وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49) أي جامعة لهم يوم القيامة من كل جانب. وقيل: إن أسباب تلك الإحاطة حاصلة في الحال، فكأنهم في وسطها لأنهم كانوا محرومين عن كل السعادات وإنهم اشتهروا بين الناس بالنفاق والطعن في الدين، وقصد الرسول بكل سوء. وكانوا يشاهدون أن دولة الإسلام أبدا في الترقي. وكانوا في أشد الخوف على أنفسهم وأولادهم وأموالهم. إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ أي إن تصبك في بعض الغزوات حسنة من ظفر أو غنيمة أو انقياد بعض ملوك الأطراف يحزنهم ذلك وَإِنْ تُصِبْكَ في بعض الغزوات مُصِيبَةٌ أي شدة وإن صغرت يَقُولُوا متبجحين برأيهم: قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا أي حذرنا بالاعتزال عن المسلمين والتخلف عنهم والمداراة مع الكفرة مِنْ قَبْلُ أي من قبل هذه المصيبة وَيَتَوَلَّوْا عن مقام التحدث بذلك إلى أهاليهم وَهُمْ فَرِحُونَ (50) بما أصابك من المصيبة وبسلامتهم منها.
قُلْ يا أشرف الخلق للمنافقين بيانا لبطلان اعتقادهم:
لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا أي لن يصيبنا خير ولا شر ولا رخاء، ولا شدة ولا خوف، ولا أمن إلا وهو مقدر علينا مكتوب عند الله فإذا صرنا مغلوبين صرنا مستحقين للأجر العظيم، وإن صرنا غالبين صرنا مستحقين للثواب في الآخرة وفزنا بالمال الكثير والثناء الجميل في الدنيا هُوَ أي الله مَوْلانا يحسن منه التصرف في العالم كيف شاء فإن أوصل إلى بعض عبيده أنواعا من المصائب فإنه يجب الرضا بها وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) أي فالواجب على المؤمن أن يفوّض أمره إلى الله وأن يرضى بفعله تعالى وأن يطمع من فضله تعالى ورحمته.
قُلْ يا أشرف الخلق للمنافقين: هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ أي ما تنتظرون(1/452)
بنا إلا إحدى الحالتين الشريفتين، النصر أو الشهادة، وذلك لأن المسلم إذا ذهب إلى الغزو فإن صار مغلوبا مقتولا بالاسم الحسن في الدنيا وهي الرجولية والشوكة وبالثواب العظيم الذي أعده الله للشهداء في الآخرة وإن صار غالبا فاز في الدنيا بالمال الحلال والاسم الجميل وفي الآخرة بالثواب العظيم وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ إحدى الحالتين الخسيستين إما أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ كأن ينزل عليكم صاعقة من السماء كما نزلت على عاد وثمود أَوْ بعذاب بِأَيْدِينا وهو القتل على الكفر، أي إن المنافق إذا قعد في بيته كان مذموما منسوبا إلى الجبن، وضعف القلب والرضا بأمر يشاركه فيه النسوان والصبيان والعاجزون، ثم يكون أبدا خائفا على نفسه وولده وماله، وإن أذن الله في قتله وقع في القتل والأسر والنهب مع الذل وإن مات انتقل إلى العذاب الدائم في الآخرة فَتَرَبَّصُوا بنا إحدى الحالتين الشريفتين إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) وقوعكم في إحدى الحالتين الخسيستين قُلْ يا أشرف الخلق لهذا المنافق وأمثاله وهذه الآية نزلت في الجد بن قيس حين قال للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ائذن لي في القعود وهذا ما لي أعينك به أَنْفِقُوا أموالكم طَوْعاً أي من غير إلزام من الله ورسوله أَوْ كَرْهاً أي إلزاما منهما.
وسمي الإلزام إكراها لأن إلزام المنافقين بالإنفاق كان شاقا عليهم كالإكراه.
وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي النساء والأحقاف «كرها» بضم الكاف. وقرأ عاصم وابن عامر في الأحقاف بالضم من المشقة وفي النساء والتوبة بالفتح من الإكراه. والباقون بفتح الكاف في جميع ذلك لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ والأمر هنا بمعنى الخير أي نفقتكم غير مقبولة سواء كانت طوعا أو كرها إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53) أي منافقين فإنهم كافرون في الباطن وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى أي لا يأتونها في حال من الأحوال إلا حال كونهم متثاقلين فإن هذا المنافق إن كان في جماعة صلى، وإن كان وحده لم يصل لأنه يصلي طاعة لأمر الله وإنما يصلي خوفا من مذمة الناس وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ (54) أي لا رغبة لهم فإنهم لا ينفقون لغرض الطاعة بل رعاية للمصلحة الظاهرة حتى إنهم كانوا يعدون الإنفاق مغرما بينهم فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ والمراد بهذا الخطاب جميع المؤمنين. والمعنى ولا تعجبوا بأموال المنافقين وأولادهم إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها أي بالأموال والأولاد فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وسبب كون المال والولد عذابا في الدنيا هو ما يحصل من المتاعب والمشاق في تحصيلهما فإذا حصلا ازداد التعب وتحمل المشاق في حفظهما ويزداد الغم والخوف بسبب المصائب الواقعة فيهما، وهم اعتقدوا أنه لا سعادة إلا في هذه الخيرات العاجلة، فالمال والولد عذاب على المنافق في الدنيا دون المؤمن لأنه علم أنه يثاب بالمصائب الحاصلة له في الدنيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55) أي يريد الله أن(1/453)
تخرج أرواحهم والحال أنهم كافرون فيكون عذابهم في الآخرة أشد العذاب وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ أي يحلف المنافقون للمؤمنين إذا جالسوهم إنهم على دينكم وَما هُمْ مِنْكُمْ أي ليسوا على دينكم وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) أي يخافون القتل فأظهروا الإيمان وأسروا النفاق لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أي حرزا يلجئون إليه تحصنا منكم من رأس جبل أو قلعة أو جزيرة أَوْ مَغاراتٍ أي كهوفا في الجبل يخفون فيها أنفسهم أَوْ مُدَّخَلًا أي سربا تحت الأرض كالآبار يندسون فيه لَوَلَّوْا أي لصرفوا وجوههم إِلَيْهِ أي إلى أحد هذه الوجوه الثلاثة التي هي شر الأمكنة وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) أي يسرعون إسراعا لا يرد وجوههم شيء لشدة تأذيهم من الرسول ومن المسلمين وَمِنْهُمْ أي المنافقين أبي الأحوص وأصحابه مَنْ يَلْمِزُكَ أي من يعيبك سرا فِي الصَّدَقاتِ قالوا لم يقسم بيننا بالسوية والله ما يعطيها محمد إلا من أحب ولا يؤثرها إلا هواه فنزلت هذه الآية فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها أي الصدقات قدر ما يريدون في الكثرة رَضُوا بالقسمة وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها قدر ما يريدون إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) أي يفاجئون السخط فإن رضاهم وسخطهم لطلب النصيب لا لأجل الدين وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ من الصدقات وطابت نفوسهم وإن قل وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ أي كفانا ذلك سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ أي سيغنينا الله من فضله برزقه فيعطينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أكثر مما أعطانا اليوم إِنَّا إِلَى اللَّهِ أي إلى طاعته وإحسانه راغِبُونَ (59) لكان ذلك أعود عليهم.
ونقل أن عيسى عليه السلام مرّ بقوم يذكرون الله تعالى فقال: ما الذي يحملكم عليه؟
قالوا: الخوف من عقاب الله. فقال: أصبتم. ثم مرّ على قوم آخرين يذكرون الله تعالى فقال: ما الذي يحملكم عليه؟ فقالوا: الرغبة في الثواب. فقال: أصبتم. ومرّ على قوم ثالث مشتغلين بالذكر، فسألهم، فقالوا: لا نذكره للخوف من العقاب ولا للرغبة في الثواب بل لإظهار ذلة العبودية وعزة الربوبية وتشريف القلب بمعرفته، وتشريف اللسان بالألفاظ الدالة على صفات قدسه وعزته فقال: أنتم المحبون المحققون. إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ أي إنما الزكوات مصروفة للفقراء وهم المحتاجون الذين لا يجدون شيئا ولا يسألون الناس وهم أهل صفة مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكانوا نحو أربعمائة رجل لا منزل لهم، والمساكين هم الطوافون الذين يسألون الناس كما قاله ابن عباس، ومن سأل وجد فكان المسكين أقل حاجة وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وهم السعاة لجباية الصدقة وهؤلاء يعطون من الصدقات بقدر أجور أعمالهم وهو قول الشافعي وعبد الله بن عمر وابن زيد.
وقال مجاهد والضحاك: يعطون الثمن من الصدقات وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وهم أصناف:
صنف دخلوا في الإسلام ونيتهم ضعيفة فيتألفون ليثبتوا، وآخرون لهم شرف في قومهم يطلب(1/454)
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)
بتألفهم إسلام نظرائهم وأثبت الشافعي والأصحاب سهم هذين الصنفين وصنف يراد بتألفهم أن يجاهدوا من يليهم من الكفار أو من مانعي الزكاة ويقبضوا زكاتهم، وهذان في معنى الغزاة والعاملين وعلى هذا فيسقط سهم المؤلفة بالكلية لكن يجوز صرفه إليهما كما أفتى به الماوردي وَفِي الرِّقابِ أي وفي فك الرقاب فسهمهم موضوع في المكاتبين ليعتقوا به كما هو مذهب الشافعي والليث بن سعد أو موضوع لعتق الرقاب يشترى به عبيد فيعتقون كما هو مذهب مالك وأحمد وإسحاق.
وقال الزهري: سهم الرقاب نصفان: نصف للمكاتبين من المسلمين، ونصف يشترى به رقاب ممن صلوا وصاموا وقدم إسلامهم فيعتقون من الزكاة وَالْغارِمِينَ أي
المديونين في طاعة الله وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ ويجوز للغازي أن يأخذ من مال الزكاة وإن كان غنيا كما هو مذهب الشافعي، ومالك، وإسحاق، وأبي عبيد. وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يعطى الغازي إلا إذا كان محتاجا. ونقل القفال عن بعض الفقهاء: أنهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الحصون وعمارة المساجد لأن قوله تعالى في سبيل الله عام في الكل وَابْنِ السَّبِيلِ وهو الذي يريد السفر في غير معصية فيعجز عن بلوغ سفره إلا بمعونة، ويصرف مال الزكاة إلى الأصناف الأربعة:
الأول: حتى يتصرفوا فيه كما شاءوا. وفي الأربعة الأخيرة: لا يصرف المال إليهم بل يصرف المال إلى جهات الحاجات المعتبرة في الصفات التي لأجلها استحقوا سهم الزكاة، ومذهب أبي حنيفة أنه يجوز صرف الصدقة إلى بعض هؤلاء الأصناف كما هو قول عمر وحذيفة وابن عباس وسعيد بن جبير.
وقال الشافعي: لا بد من صرفها إلى الأصناف الثمانية كما هو قول عكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز. فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ أي فرض الله الصدقات لهؤلاء فريضة والمقصود من هذا التأكيد تحريم إخراج الزكاة عن الأصناف وَاللَّهُ عَلِيمٌ فيعلم بمقادير المصالح حَكِيمٌ (60) لا يشرع إلا ما هو الأصوب الأصلح
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ.
روي أن جماعة من المنافقين حذام بن خالد وإياس بن قيس، وسماك بن يزيد وعبيد بن مالك، والجلاس بن سويد، ووديعة بن ثابت ذكروا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بما لا ينبغي من القول ثم قالوا: إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمير، وكان عندهم غلام يقال له: عامر بن قيس ثم أتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأخبره فدعاهم وسألهم، فأنكروا وحلفوا أن عامرا كذاب، وحلف عامر أنهم كذبة فصدقهم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فجعل عامر يدعو ويقول: «اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب» فأنزل الله هذه الآية
ومقصود المنافقين بقولهم هو أذن أنه صلّى الله عليه وسلّم ليس له ذكاء بل هو سليم القلب سريع الاغترار بكل ما يسمع قُلْ يا أشرف الخلق لهؤلاء المنافقين أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ.(1/455)
قرأ عاصم في رواية الأعمش، وعبد الرحمن عن أبي بكر عنه «أذن خير» مرفوعين، أي إن كان صلّى الله عليه وسلّم كما تقولون: إنه أذن فأذن يقبل منكم خير لكم من أن يكذبكم. والباقون بالإضافة أي هو أذن خير لا أذن شر، أي يصدقكم بالخير لا بالكذب. ثم بيّن الله كونه صلّى الله عليه وسلّم أذن خير بقوله: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ لما قام عنده من الأدلة وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ أي ويرضى لهم ويصدقهم لما علم فيهم من الخلوص وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ أي وهو رفق بالذين أظهروا الإيمان منكم حيث لا يكشف أسرارهم.
وقرأ حمزة «ورحمة» بالجر عطفا على خير. وقرأ ابن عامر «ورحمة» بالنصب علة لمحذوف، أي ويأذن لكم رحمة وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ بقولهم هو أذن ونحوه لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61) في الدنيا والآخرة يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ أي إنهم حلفوا على أنهم ما قالوا ما حكي عنهم ليرضوا المؤمنين بيمينهم وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ أي والحال أنه تعالى ورسوله أحق بالإرضاء منكم وكان من الواجب أن يرضوهما بالإخلاص والتوبة والمتابعة وإيفاء حقوقه صلّى الله عليه وسلّم في باب الإجلال مشهدا ومغيبا لا بإتيانهم بالأيمان الفاجرة إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62) فليرضوا الله ورسوله بالطاعة فإنهما أحق بالإرضاء أَلَمْ يَعْلَمُوا أي أولئك المنافقون جلاس وأصحابه أَنَّهُ أي الشأن مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ أي من يخالف الله وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ أي فحق أن له نار جهنم أي فيكون نار جهنم له أمر ثابت خالِداً فِيها ذلِكَ أي العذاب الخالد الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) أي الندم الشديد وهي ثمرات نفاقهم يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ أي يخاف المنافقون أن تنزل في شأنهم سورة تذيع ما كانوا يخفونه من أسرارهم إذاعة ظاهرة فتنتشر فيما بين الناس فيسمعونها من أفواه الرجال فكأن السورة تخبرهم بها وهم كانوا إذا سمعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يذكر كل شيء ويقول: إنه بطريق الوحي يكذبونه ويستهزئون به قُلِ اسْتَهْزِؤُا أي افعلوا الاستهزاء بمحمد والقرآن إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64) أي فإن الله مظهر ما تحذرونه من إنزال السورة وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ.
قال الحسن وقتادة: لما سار الرسول إلى تبوك قال المنافقون بينهم: أتراه يظهر على الشام ويأخذ حصونها وقصورها، هيهات هيهات، فعند رجوعه صلّى الله عليه وسلّم دعاهم وقال: أنتم القائلون بكذا وكذا فقالوا: ما كان ذلك بالجد في قلوبنا وإنما كنا نتحدث ونضحك فيما بيننا قُلْ أَبِاللَّهِ أي بتكاليف الله وَآياتِهِ أي وبالقرآن وبسائر ما يدل على الدين وَرَسُولِهِ محمد صلّى الله عليه وسلّم كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لا تَعْتَذِرُوا أي لا تذكروا هذا العذر في دفع هذا الجرم قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ أي وقد ظهر كفركم للمؤمنين بالطعن في الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد أن كنتم عندهم مسلمين إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً.(1/456)
قرأ عاصم «نعف» و «نعذب» بالنون مبنيا للفاعل و «طائفة» بالنصب. والباقون «يعف» بالياء و «تعذب» بالتاء بالبناء للمفعول، و «طائفة» بالرفع.
روي أن الطائفتين كانوا ثلاثة فالواحد: طائفة وهو: جهير بن حمير. والاثنان: طائفة وهما وديعة بن جذام، وجد بن قيس. فالذي عفى عنه جهير بن حمير لأنه كان ضحك معهم ولم يستهزئ معهم فلما نزلت هذه الآية تاب من نفاقه وقال: اللهم إني لا أزال أسمع آية تقشعر منها الجلود وتخفق منها القلوب، اللهم اجعل وفاتي قتلا في سبيلك لا يقول أحد أنا غسلت، أنا كفنت، أنا دفنت فأصيب يوم اليمامة فلم يعرف أحد من المسلمين مصرعه بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66) أي مستمرين على النفاق والاستهزاء فأوجب التعذيب الْمُنافِقُونَ وكانوا ثلاثمائة وَالْمُنافِقاتُ وكن مائة وسبعين بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أي متشابهون في صفة النفاق والأفعال الخبيثة يَأْمُرُونَ أي يأمر بعضهم بعضا بِالْمُنْكَرِ أي بالكفر والمعاصي وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ أي عن الإيمان والطاعة وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ عن كل خير من زكاة وصدقة وإنفاق في سبيل الله نَسُوا اللَّهَ أي تركوا أمر الله فَنَسِيَهُمْ أي فجازاهم بتركهم من رحمته إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) أي الكاملون في الفسق الذي هو الانسلاخ من كل خير وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ أي المجاهرين بالكفر نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فالنار المخلدة من أعظم العقوبات هِيَ حَسْبُهُمْ أي تلك العقوبة كافية ولا شيء أبلغ منها ولا يمكن الزيادة عليها وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ أي أهانهم الله بالذم ملحقا بتلك العقوبة وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) غير النار كالزمهرير وكمقاساة تعب النفاق في الدنيا إذ هم دائما في حذر من أن يطلع المسلمون على نفاقهم كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي فعلكم أيها المنافقون كفعل الكفار الذين كانوا قبلكم في الأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف، وقبض الأيدي عن الخيرات كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً في الأبدان وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ أي فتمتعوا مدة بنصيبهم من لذات الدنيا فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ أي فأنتم أيها المنافقون استمتعتم بنصيبكم استمتاعا كاستمتاع الكفار الذين من قبلكم بحظوظهم الخسيسة من الشهوات الفانية وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أي وتلبستم بتكذيب الأنبياء في السر وبالمكر والغدر بهم كالتلبس الذي تلبسوا به من تكذيب أنبياء الله والغدر بهم أُولئِكَ الموصوفون بالأفعال الذميمة حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي بطلت حسناتهم بسبب الفقر والانتقال من العز إلى الذل، ومن القوة إلى الضعف، وبسبب الموت في الآخرة بسبب أنهم يعاقبون أشد العقاب وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69) حيث أتعبوا أنفسهم في الرد على الأنبياء فما وجدوا منه إلا فوات الخيرات في الدنيا والآخرة، وإلا حصول العقاب في الدنيا والآخرة أَلَمْ يَأْتِهِمْ أي(1/457)
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74) وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
المنافقين نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أي المنقلبات التي جعل الله عالي القرى سافلها أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي المعجزات فكذبوهم فعجّل الله هلاكهم. والله أهلك قوم نوح بالغرق وعادا- قوم هود- بإرسال الريح العقيم، وثمود- قوم صالح- بإرسال الصيحة والصاعقة، وقوم إبراهيم بالهدم وسلب النعمة عنهم، وبتسليط البعوضة على دماغ نمروذ، وقوم شعيب بالظلة أو بالرجفة، وقوم لوط بالخسف وبجعل عالي أرضهم سافلها وبإمطار الحجارة، وإنما ذكر الله تعالى هذه الطوائف الستة لأن آثارهم باقية وبلادهم قريبة من بلاد العرب وهي: الشام، والعراق، واليمن فكانوا يمرون عليها ويعرفون
أخبار أهلها فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ بإيصال العذاب إليهم لأنهم استحقوه بسبب أفعالهم القبيحة وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) بالكفر وتكذيب الأنبياء
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ بسبب المشاركة في الاستدلال والتوفيق والهداية يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ أي بالإيمان بالله ورسوله واتباع أمره وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ أي الشرك والمعاصي وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي المفروضة بإتمام الأركان والشروط وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ الواجبة عليهم وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في كل أمر ونهي في السر والعلانية أُولئِكَ الموصوفون بهذه الصفات سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ أي يفيض عليهم آثار رحمته، والسين للتوكيد والمبالغة إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي لا يمنع من مراده في عباده من رحمة أو عقوبة حَكِيمٌ (71) أي مدبر أمر عباده على ما يقتضيه العدل والصواب وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي تجري من تحت شجرها ومساكنها أنهار الخمر والماء والعسل واللبن خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً وهي قصور من اللؤلؤ والزبرجد والياقوت الأحمر فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وهي أبهى أماكن الجنات وأسناها.
وقال عبد الله بن عمر إن في الجنة قصرا يقال له: عدن، حوله البروج والمروج، وله خمسة آلاف باب، على كل باب خمسة آلاف حوراء لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد، وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ مما هم فيه إذ عليه يدور فوز كل خير وسعادة.
وروي أنه تعالى يقول لأهل الجنة: «هل رضيتم» فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك! فيقول: «أنا أعطيكم أفضل من ذلك» . قالوا: وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: «أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا» .
وقرأ شعبة «رضوان» بضم الراء. والباقون بالكسر ذلِكَ أي المذكور من الأمور الثلاثة هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) لا ما يطلبه المنافقون والكفار من التنعم بطيبات الدنيا يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ أي المجاهرين بالسيف وَالْمُنافِقِينَ أي الساترين كفرهم بظهور الإسلام بإظهار الحجة لا(1/458)
بالسيف لنطقهم بكلمتي الشهادة وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ أي اشدد على كلا الفريقين بالفعل والقول وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) هي وهذه الجملة مستأنفة لبيان عاقبة أمرهم يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ بتوافقهم على فتك النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وطعنهم على نبوته وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ أي أظهروا الكفر وجاهروا بالحرب بعد أن أظهروا الإسلام وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا.
روي أن المنافقين هموا بقتله صلّى الله عليه وسلّم عند رجوعه من تبوك: وهم خمسة عشر رجلا قد اتفقوا على أن يدفعوه صلّى الله عليه وسلّم عن راحلته ليقع في الوادي فيموت، فأخبره الله بما دبروه، فلما وصل إلى العقبة التي بين تبوك والمدينة نادى مناديه بأمره: إن رسول الله يريد أن يسلك العقبة فلا يسلكها أحد غيره، واسلكوا يا معشر الجن بطن الوادي فإنه أسهل لكم وأوسع فسلك الناس بطن الوادي، وسلك النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم العقبة وكان ذلك في ليلة مظلمة فجاء المنافقون وتلثموا وسلكوا العقبة، وكان النبي قد أمر عمار بن ياسر أن يأخذ بزمام ناقته ويقودها، وأمر حذيفة أن يسوقها من خلفها.
فبينما النبي يسير في العقبة إذ زحمه المنافقون فنفرت ناقته حتى سقط بعض متاعه، فصرخ بهم، فولوا مدبرين وعلموا أنه اطلع على مكرهم، فانحطوا من العقبة مسرعين إلى بطن الوادي، واختلطوا بالناس، فصار حذيفة يضرب الناقة فقال له النبيّ: «هل عرفت أحدا منهم» . قال: لا، فإنهم كانوا متلثمين والليلة مظلمة. قال: «هل علمت مرادهم؟» قال: لا، قال النبي: «إنهم مكروا وأرادوا أن يسيروا معي في العقبة فيزحمونني عنها وإن الله أخبرني بهم وبمكرهم» «1» فلما أصبح جمعهم وأخبرهم بما مكروا به فحلفوا بالله ما قالوا بتكذيب النبي ونسبه إلى التصنع في ادعاء الرسالة، ولا أرادوا فتكه، فأنزل الله تعالى هذه الآية:
وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ أي وما أنكروا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا من الأشياء إلا أغناه الله تعالى إياهم من فضله فإن هؤلاء المنافقين كانوا قبل قدوم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل ولا يحرزون الغنيمة، وبعد قدومه أخذوا الغنائم وفازوا بالأموال ووجدوا الدولة وقتل للجلاس مولى فأمر له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بديته اثني عشر ألفا فاستغنى، وذلك يوجب عليهم أن يكونوا محبين له صلّى الله عليه وسلّم مجتهدين في بذل النفس والمال لأجله فعملوا بضد الواجب، فوضعوا موضع شكره صلّى الله عليه وسلّم إن كرهوه وعابوه فَإِنْ يَتُوبُوا من النفاق كما وقع للجلاس بن سويد فإنه تاب وحسنت توبته يَكُ أي التوب خَيْراً لَهُمْ في الدارين وَإِنْ يَتَوَلَّوْا أي يعرضوا عن التوبة يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا بقتلهم وسبي أولادهم وأزواجهم، واغتنام أموالهم لأنه لما ظهر كفرهم بين الناس صاروا مثل أهل الحرب فيحل قتالهم وَالْآخِرَةِ بالنار وغيرها من أفانين العقاب وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مع سعتها مِنْ وَلِيٍّ أي حافظ وَلا نَصِيرٍ (74) ينقذهم من العذاب
__________
(1) رواه البيهقي في دلائل النبوة (5: 257) ، والسيوطي في الدر المنثور (3: 259) .(1/459)
وَمِنْهُمْ أي المنافقين مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا بإجرامهم على العهد وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) بقلوبهم عن أوامر الله تعالى فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ أي فأورثهم البخل نفاقا متمكنا في قلوبهم أي فارتدوا عن الإسلام وصاروا منافقين إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ أي إلى يوم موتهم الذين يلقون فيه جزاء عملهم وهو يوم القيامة بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ أي بسبب إخلافهم الله الوعد من التصدق والصلاح وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أي وبسبب كونهم مستمرين على الكذب في وعدهم.
روي أن ثعلبة بن حاطب كان صحيح الإسلام في ابتداء أمره وصار منافقا في آخر أمره وكان ملازما لمسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى لقب بحمامة المسجد، ثم رآه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يسرع الخروج من المسجد عقب الصلاة فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما لك تفعل فعل المنافقين؟» فقال: إني افتقرت ولي ولامرأتي ثوب أجيء به للصلاة، ثم أذهب فأنزعه لتلبسه وتصلي به فجاء ثعلبة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا فقال صلّى الله عليه وسلّم: «يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه» ثم أتاه بعد ذلك فقال: يا رسول الله ادع الله أم يرزقني مالا فقال له رسول الله: «أما لك في أسوة حسنة، والذي نفسي بيده لو أردت أن تسير الجبال معي ذهبا وفضة لسارت» ثم أتاه بعد ذلك وقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا، والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالا لأعطين كل ذي حق حقه، فدعا له فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود، حتى ضاقت بها المدينة، فنزل واديا من أوديتها فجعل يصلي الظهر والعصر مع رسول الله، ويصلي في غنمه باقي الصلوات، ثم نمت وكثرت فتباعد من المدينة حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، ثم نمت وكثرت حتى تباعد وترك الجمعة فإذا كان يوم الجمعة يتلقى الناس يسألهم عن الأخبار ثم سأل رسول الله فأخبر بخبره فقال: «يا ويح ثعلبة ثلاثا» فنزل قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة: 103] فبعث صلّى الله عليه وسلّم رجلين من بني سليم ومن بني جهينة، وكتب لهما أسنان الصدقة وقال لهما: «مرّا على ثعلبة بن حاطب فخذا صدقاته» فأتياه وأقرآه كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال لهما: ما هذه إلا الجزية أو أخت الجزية فلم يدفع الصدقة، فأنزل الله تعالى هذه الآية فقيل له: قد أنزل فيك كذا وكذا فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسأله أن يقبل صدقته فقال: «إن الله منعني من قبول ذلك» فجعل يحثوا التراب على رأسه فقال صلّى الله عليه وسلّم: «قد قلت لك فما أطعتني»
«1» فرجع إلى منزله وقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم أتى أبا بكر بصدقته، فلم يقبلها اقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم جاء بهما إلى عمر أيام
__________
(1) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (8: 225) ، وابن الجوزي في زاد المسير (3: 473) ، وابن كثير في التفسير (4: 124) ، والطبري في التفسير (10: 131) ، والقرطبي في التفسير (8: 209) ، والواحدي في أسباب النزول (171) .(1/460)
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
خلافته فلم يقبلها، فلما ولي عثمان أتاه بها فلم يقبلها، وهلك ثعلبة في خلافة عثمان وإنما امتنع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أخذ تلك الصدقة لأن المقصود من
الأخذ غير حاصل في ثعلبة مع نفاقه لقوله تعالى:
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التوبة: 103] أَلَمْ يَعْلَمُوا أي المنافقون أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وهو ما تنطوي عليه صدورهم وَنَجْواهُمْ وهو ما يفاوض به بعضهم بعضا فيما بينهم وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) أي ما غاب عن الخلق الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ أي ويطعنون على الذين لا يجدون إلا طاقتهم فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ أي ويهزئون بالفريق الأخير بقلة الصدقة سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وهذه الجملة خبر للموصول.
وقال الأصم: أي قبل الله من هؤلاء المنافقين ما أظهروه من أعمال البر مع أنه لا يثيبهم عليها فكان ذلك كالسخرية.
وقال ابن عباس: فتح الله لهم في الآخرة بابا إلى الجنة وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) . قال ابن عباس: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطبهم ذات يوم وحث على أن يجمعوا الصدقات، فجاءه عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وجاء عمر بنحو ذلك، وجاء عاصم بن عدي الأنصاري بسبعين وسقا من تمر، وجاء عثمان بن عفان بصدقة عظيمة، وجاء أبو عقيل عبد الرحمن بن تيحان بصاع من تمر فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بوضعه في الصدقات. فقال المنافقون على وجه الطعن: ما جاءوا بصدقاتهم إلا رياء وسمعة، وأما أبو عقيل فإنما جاء بصاع ليذكر مع سائر الأكابر والله غني من صاعه فأنزل الله تعالى هذه الآية اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ.
روي أنه لما نزلت الآيات المتقدمة في المنافقين وظهر نفاقهم للمؤمنين جاءوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعتذرون وقالوا: يا رسول الله استغفر لنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سأستغفر لكم» واشتغل بالاستغفار لهم، فنزلت هذه الآية، فترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الاستغفار
. وهذا الأمر تخيير له صلّى الله عليه وسلّم في الاستغفار وتركه، ومعناه إخبار باستواء الأمرين أي إن شئت فاستغفر لهم، وإن شئت فلا تستغفر لهم فاستغفارك لهم وعدمه سواء إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ وقد شاع استعمال السبعة، والسبعين والسبعمائة في التكبير لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد فكأنها العدد بأسره فإن عدة مراتبه سبعة آحاد، عشرات مئين، آحاد ألوف، عشرات ألوف، مئين ألوف، آحاد ألوف، الألوف والسبعون عند العرب غاية مستقصاة لأنه عبارة عن جمع السبعة عشر مرات، والسبعة عدد شريف لأن عدد السموات والأرض، والبحار، والأقاليم، والنجوم، والأيام، والأعضاء هو هذا العدد ذلِكَ أي امتناع المغفرة لهم ولو بعد المبالغة في الاستغفار بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي بسبب كفرهم لا لعدم الاعتداد بالاستغفار وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80) أي فإن تجاوزهم عن الحدود مانع من الهداية
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ أي الذين تركهم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بِمَقْعَدِهِمْ أي في المدينة خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ(1/461)
أي مخالفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيث سار إلى تبوك للجهاد وأقاموا في المدينة وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فإن في المجاهدة إتلاف النفس والمال وَقالُوا لإخوانهم أو للمؤمنين تثبيطا لهم عن الجهاد، ونهيا عن المعروف لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ أي لا تخرجوا إلى الجهاد في الحر الشديد قُلْ تجهيلا لهم: نارُ جَهَنَّمَ التي ستدخلونها بما فعلتم أَشَدُّ حَرًّا مما تحذرون من الحر المعتاد وتحذرون الناس منه لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) أن بعد هذه الدار دارا أخرى، وأن بعد هذه الحياة الدنيا حياة أخرى فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً وهذا إخبار بأنه ستحصل لهم هذه الحالة ورد بصيغة الأمر أي إنهم وإن فرحوا وضحكوا طول أعمارهم في الدنيا فهو قليل بالنسبة إلى بكائهم وحزنهم في الآخرة، لأن الدنيا بأسرها قليلة وعقابهم في الآخرة دائم لا ينقطع جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) في الدنيا من النفاق فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ من غزوة تبوك إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ أي المنافقين في المدينة فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ معك إلى غزوة أخرى بعد غزوة تبوك فَقُلْ لهم يا أشرف الخلق: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً في سفر من الأسفار وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا من الأعداء إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ عن الغزو أَوَّلَ مَرَّةٍ وهي غزوة تبوك فَاقْعُدُوا عن الجهاد مَعَ الْخالِفِينَ (83) أي النساء والصبيان والرجال العاجزين وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ أي لا تقف عليه للدفن أو للدعاء فإنه صلّى الله عليه وسلّم كان إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي لأنهم استمروا على الكفر بالله ورسوله في السر مدة حياتهم وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84) أي متمردون في الكفر بالكذب والخداع والمكر.
عن ابن عباس رضي الله عنهما إنه لما اشتكى عبد الله بن أبي سلول عاده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فطلب منه أن يصلي عليه إذا مات ويقوم على قبره، ثم إنه أرسل إلى الرسول الله صلّى الله عليه وسلّم يطلب منه قميصه ليكفن فيه فأرسل إليه القميص الفوقاني، فرده وطلب منه الذي يلي جلده ليكفن فيه فأرسله إليه، فقال عمر رضي الله عنه: لم تعطي قميصك للرجس النجس؟! فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن قميصي لا يغني عنه من الله شيئا فلعل الله أن يدخل به ألفا في الإسلام» . وكان المنافقون لا يفارقون عبد الله فإنه رأسهم فلما رأوه يطلب هذا القميص ويرجو أن ينفعه أسلم منهم يومئذ ألف، فلما مات عبد الله جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ابنه- واسمه عبد الله- فإنه كان من فضلاء الصحابة وأصدقهم إسلاما، وأكثرهم عبادة، وأشرحهم صدرا، يعرفه صلّى الله عليه وسلّم لعبد الله: «صل عليه وادفنه» «1» . فقال: يا رسول الله إن لم تصل عليه لم يصل عليه مسلم، فقام صلّى الله عليه وسلّم، فقام عمر فحال بين رسول الله وبين القبلة لئلا يصلي عليه،
__________
(1) رواه ابن كثير في التفسير (8: 221) .(1/462)
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
فنزلت هذه الآية فامتنع صلّى الله عليه وسلّم من الصلاة عليه وإنما دفع القميص إليه تطييبا لقلب ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي وإكراما له، لأنه كان من الصالحين، ولأن العباس عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما أخذ أسيرا ببدر لم يجدوا له قميصا وكان رجلا طويلا فكساه عبد الله بن أبي قميصه بأمره صلّى الله عليه وسلّم.
وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ بتمتيعهم بالأموال والأولاد أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا بمكابدتهم الشدائد في شأنها وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85) أي فيموتوا كافرين باشتغالهم بالتمتع بها وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ من القرآن مشتملة على الأمر أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ في التخلف عن الغزو أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ أي ذوو السعة في المال والقدرة على الجهاد بالبدن من رؤساء المنافقين عبد الله بن أبي وجد بن قيس ومعتب بن قيس وَقالُوا ذَرْنا يا محمد نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) أي من الضعفاء من الناس، والساكنين في البلد بغير عذر رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ أي مع النساء اللاتي يلزمن البيوت وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ أي منعت من حصول الإيمان فَهُمْ بسبب ذلك لا يَفْقَهُونَ (87) أي لا يفهمون أسرار حكمة الله في الأمر بالجهاد لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أي إن تخلف هؤلاء المنافقون عن العزو فقد توجه إليه من هو خير منهم وأخلص نية واعتقادا وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ أي منافع الدارين: النصر والغنيمة في الدنيا، والجنة والكرامة في الآخرة. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أي المتخلصون من السخط والعذاب أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ أي هيأ لهم في الآخرة جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أي مقيمين في الجنة ذلِكَ أي نيل الكرامة العظمى الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) الذي لا فوز وراءه وَجاءَ إليك يا أشرف الخلق الْمُعَذِّرُونَ أي الذين أتوا بأعذار كاذبة وتكلفوا عذرا بباطل مِنَ الْأَعْرابِ أي من بني غفار لِيُؤْذَنَ لَهُمْ بالتخلف عن غزوة تبوك فلم يعذرهم الله وَقَعَدَ عن الجهاد بغير إذن الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في ادعائهم الإيمان وهم منافقو الأعراب الذين لم يجيئوا إلى الرسول ولم يعتذروا. سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ أي المعذرين لا من أسلم منهم عَذابٌ أَلِيمٌ (90) في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالنار.
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ كالشيوخ وَلا عَلَى الْمَرْضى من الشباب وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ في الجهاد من الزاد والراحلة لفقرهم كمزينة وجهينة وبني عذرة حَرَجٌ أي إثم في التخلف عن الجهاد إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أي آمنوا بهما وأطاعوا لهما في السر والعلن ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ أي ليس عليهم طريق إلى ذمهم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92) أي وليس على من أتوك يسألوك أن تحملهم إلى غزوة تبوك، ثم خرجوا من عندك يبكون لعدم وجدان ما ينفقون في الجهاد سبيل في لومهم، ولذلك سموا البكائين، وهم سبعة من الأنصار: معقل بن يسار، وصخر بن خنساء، وعبد الله بن كعب، وسالم بن عمير،(1/463)
وثعلبة بن عنمة، وعبد الله بن مغفل، وعبد الله بن زيد
فإنهم أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: نذرنا الخروج فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغز معك فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا أجد ما أحملكم عليه»
«1» فتولوا وهم يبكون، فحمل العباس منهم اثنين، وعثمان ثلاثة زيادة على الجيش الذي جهزه وهو ألف وحمل يامين بن عمرو النضري اثنين إِنَّمَا السَّبِيلُ بالمعاتبة عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ في التخلف وَهُمْ أَغْنِياءُ أي قادرون على أهبة الخروج معك رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ أي رضوا بالدناءة والانتظام في جملة النساء وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لأجل ذلك الطبع لا يَعْلَمُونَ (93) ما في الجهاد من منافع الدين والدنيا يَعْتَذِرُونَ أي هؤلاء المنافقون وهم بضع وثمانون رجلا إِلَيْكُمْ في التخلف إِذا رَجَعْتُمْ من عزوة تبوك إِلَيْهِمْ بالأعذار الباطلة. قُلْ يا أشرف الخلق لهم: لا تَعْتَذِرُوا بما عندكم من المعاذير لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ أي لن نصدقكم فيما تقولون من العلل أبدا قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ أي قد أعلمنا الله بعض أحوالكم مما في ضمائركم من الخبث والنفاق والمكر وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ أي وسيقع عملكم معلوما لله ولرسوله هل تبقون على نفاقكم أم تتوبون منه ثُمَّ تُرَدُّونَ يوم القيامة إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ للجزاء مما ظهر منكم من الأعمال فَيُنَبِّئُكُمْ عند وقوفكم بين يديه بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) في الدنيا. أي فيجازيكم عليه سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ أي إذا رجعتم إليهم من تبوك أنهم معذورون في التخلف لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ أي لتعرضوا عن ذمهم إعراض الصفح فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إعراض المقت وترك الكلام.
قال مقاتل: قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حين قدم المدينة: «لا تجالسوهم ولا تكلموهم»
«2» إِنَّهُمْ رِجْسٌ أي إن خبث باطنهم رجس روحاني، فكما يجب على الإنسان الاحتراز عن الأرجاس الجسمانية يجب الاحتراز عن الأرجاس الروحانية حذرا من أن يميل طبع الإنسان إلى الأعمال القبيحة وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ أي وكفتهم النار توبيخا فلا تتكلفوا أنتم في ذلك جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) في الدنيا من فنون السيئات يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ بالحلف وتستديموا عليهم ما كنتم تفعلون بهم فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96) أي فإن رضيتم أيها المؤمنون عنهم بما حلفوا لكم فلا ينفعهم رضاكم، لأن الله ساخط عليهم ولا أثر لرضاكم لكون إرادتكم مخالفة لإرادة الله تعالى وذلك لا يجوز.
الْأَعْرابُ أي جنس أهل البدو أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً من أهل الحضر لتوحشهم واستيلاء
__________
(1) رواه البيهقي في دلائل النبوة (5: 318) ، والسيوطي في الدر المنثور (3: 268) ، وابن الجوزي في زاد المسير (3: 485) .
(2) رواه ابن الجوزي في زاد المسير (3: 478) .(1/464)
الهواء الحار اليابس عليهم، وبعدهم عن أهل العلم وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ أي أحق بأن لا يعلموا مقادير التكاليف والأحكام وَاللَّهُ عَلِيمٌ بما في قلوب خلقه حَكِيمٌ (97) فيما فرض من فرائضه وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً أي من الأعراب أسد وغطفان من يعتقد أن الذي ينفقه في سبيل الله خسران لأنه لا ينفق إلا رياء وخوفا من المسلمين لا لوجه الله وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ أي ينتظر أن تتقلب الأمور عليكم بموت الرسول، وأن يعلو عليكم المشركون فيتخلص مما ابتلى به من الإنفاق عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ أي عليهم يدور البلاء والحزن فلا يرون في محمّد صلّى الله عليه وسلّم ودينه إلا ما يحزنهم وَاللَّهُ سَمِيعٌ لقولهم عند الإنفاق من كلام لا خير فيه عَلِيمٌ (98) بنياتهم الفاسدة وَمِنَ الْأَعْرابِ مزينة وجهينة وأسلم مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ في السر والعلانية وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أي ويأخذ لنفسه ما ينفقه في سبيل الله سببا لحصول القربات إلى الله في الدرجات وسببا لحصول دعوات الرسول، فإنه صلّى الله عليه وسلّم كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم أَلا أي تنبهوا إِنَّها أي إن نفقتهم قُرْبَةٌ لَهُمْ إلى الله في الدرجات سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ أي جنته، وهذا تفسير للقربة ووعد لهم بإحاطة رحمته الواسعة، كما أن قوله تعالى: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ تهديد للأولين عقب الدعاء عليهم، والسين للدلالة على تحقيق الوقوع إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لسيئاتهم رَحِيمٌ (99) بهم حيث وفقهم لهذه الطاعات.
وروى أبو هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أسلم وغفار وشيء من جهينة ومزينة خير عند الله يوم القيامة من تميم وأسد بن خزيمة وهوازن وغطفان»
«1» . وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ أي في الهجرة والنصرة مِنَ الْمُهاجِرِينَ هم الذين صلوا إلى القبلتين وشهدوا بدرا كما قاله ابن عباس وَالْأَنْصارِ وهم الذين بايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة العقبة الأولى: وكانوا سبعة نفر. والعقبة الثانية: وكانوا اثني عشر رجلا. والعقبة الثالثة: وكانوا سبعين رجلا والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ أي الفريقين بِإِحْسانٍ وهم الذين يذكرون المهاجرين والأنصار بالجنة والرحمة والدعاء لهم ويذكرون محاسنهم رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لأعمالهم وكثرة طاعاتهم وَرَضُوا عَنْهُ لما أفاض عليهم من نعمه الجليلة في الدنيا والآخرة، والسابقون مبتدأ وخبره جملة رضي الله عنهم وَأَعَدَّ لَهُمْ في الآخرة جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ.
وقرأ ابن كثير «من تحتها» بكلمة «من» كما في سائر المواضع وعلى هذا لزم صلة الميم في المواضع الثلاثة، والباقون بغير كلمة «من» وفتح التاء. خالِدِينَ فِيها أَبَداً أي من غير انتهاء
__________
(1) رواه أحمد في (م 2/ ص 420) .(1/465)
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
ذلِكَ أي الرضوان والجنات الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) أي النجاة الوافرة
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ أي حول بلدتكم مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وهم جهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار وكانوا نازلين حول المدينة وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ أي من أهل المدينة كعبد الله ابن أبي وأصحابه من ثبتوا على النفاق ولم يتوبوا عنه لا تَعْلَمُهُمْ أي لا تعلم نفاقهم مع قوة خاطرك وصفاء. نفسك لشدة إبطان الكفر وإظهار الإخلاص نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ أي نحن نعلم سرائرهم التي في ضمائرهم سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ بعذاب الدنيا بجميع أقسامه وعذاب القبر ثُمَّ يُرَدُّونَ في الآخرة إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101) هو النار المؤبدة وَآخَرُونَ أي ومن أهل المدينة قوم آخرون أبو لبابة مروان ابن عبد المنذر، وأوس بن ثعلبة ووديعة بن حزام اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ أي أقروا بذنوبهم وأظهروا الندامة على التخلف خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وهو خروجهم مع الرسول إلى سائر الغزوات وَآخَرَ سَيِّئاً وهو تخلفهم من غزوة تبوك أي خلطوا كل واحد من العمل الصالح والعمل السيء بالآخر عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أي ثبت أن يقبل الله توبتهم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) يتجاوز عن سيئات التائب ويتفضل عليه خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً أي لما أظهروا التوبة عن تخلفهم عن غزوة تبوك وهم أقروا بأن السبب المؤدي لذلك التخلف حبهم للأموال أمر الله رسوله أن يأخذ منهم الزكوات الواجبة عليهم فكأنه قيل لهم: إنما يظهر صحة قولكم في ادعاء هذه التوبة لو أخرجتم الزكاة الواجبة بانشراح قلب، لأن الدعوى إنما يشهد عليها الامتحان، فعند الامتحان يكرم الرجل أو يهان فإن أدوا تلك الزكوات عن طيبة النفس ظهر كونهم صادقين في تلك التوبة وإلا فهم كاذبون تُطَهِّرُهُمْ أي تطهرهم أنت أيها الآخذ بأخذها منهم عن نجاسة الذنوب وَتُزَكِّيهِمْ بِها أي ترفعهم بتلك الصدقة حسناتهم إلى مراتب المخلصين وتثني عليهم عند إخراجها إلى الفقراء وتجعل النقصان الحاصل بسبب إخراج قدر الزكاة سببا لزيادة البركة وَصَلِّ عَلَيْهِمْ أي ادع لهم.
قال الشافعي رضي الله عنه والسنة للإمام: إذا أخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق ويقول:
آجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت وجعله لك طهورا إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ أي إن دعاءك يوجب طمأنينة قلوبهم وَاللَّهُ سَمِيعٌ لقولهم عَلِيمٌ (103) بنياتهم.
قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «صلاتك» على التوحيد. والباقون «صلواتك» على الجمع. أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ أي ألم يعلم أولئك التائبون قبل توبتهم وصدقتهم أن الله يقبل التوبة الصحيحة عن عباده المخلصين، ويقبل الصدقات الصادرة عن خلوص النية وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) أي وأ لم يعلموا أنه تعالى المنفرد ببلوغ الغاية القصوى من قبول التوبة وإيصال الرحمة وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ أي وقل يا أشرف الخلق اعملوا ما تشاؤون من الأعمال فسيرى الله عملكم خيرا كان(1/466)
أو شرا، ويراه رسوله باطلاع الله إياه على أعمالكم، ويراه المؤمنون بقذف الله تعالى في قلوبهم من محبة الصالحين وبغض المفسدين فإن لعملكم في الدنيا حكما، وفي الآخرة حكما. أما حكمه في الدنيا فإنه يراه الله والرسول والمسلمون، فإن كان طاعة حصل منه الثناء العظيم في الدنيا والثواب العظيم في الآخرة، وإن كان معصية حصل منه الذم العظيم في الدنيا، والعقاب الشديد في الآخرة، وهذا ترغيب عظيم للمطيعين وترهيب عظيم للمذنبين. وفي الخبر: «لو أن رجلا عمل في صخرة لا باب لها ولا كوة لخرج عمله إلى الناس كائنا ما كان» «1» وَسَتُرَدُّونَ بعد الموت إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ.
والمراد من الرد تعريف عقاب الخزي والفضيحة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) في الدنيا أي فيعرفكم أحوال أعمالكم من خير وشر فيجازيكم عليها لأن المجازاة من الله تعالى في الآخرة لا تحصل إلا بعد التعريف ليعرف كل أحد أن الذي وصل إليه عدل لا ظلم وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو، وابن عامر وأبو بكر عن عاصم «مرجئون» بهمزة مضمومة وبعدها واو ساكنة. والباقون «مرجون» بدون تلك الهمزة أي ومن أهل المدينة قوم من المتخلفين غير المعترفين مؤخرون عن قبول التوبة لِأَمْرِ اللَّهِ أي لحكمه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في كعب بن مالك ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية لم يسارعوا إلى التوبة والاعتذار. فنزل قوله تعالى: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ فوقف الرسول أمرهم بعد نزول هذه الآية خمسين ليلة بقدر مدة التخلف- إذ كانت غيبته صلّى الله عليه وسلّم عن المدينة خمسين ليلة- ونهى الناس عن مجالستهم، وأمرهم باعتزال نسائهم وإرسالهن أهاليهن لأنه لما تمتعوا بالراحة في المدينة مع تعب غيرهم في السفر عوقبوا بهجرهم تلك المدة فلما مضى خمسون يوما نزلت توبتهم بقوله تعالى: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ [التوبة: 117] وبقوله تعالى:
وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ [التوبة: 118] إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وهذه الجملة في محل نصب على الحال، أي منهم هؤلاء إما معذبين وإما متوبا عليهم، وهؤلاء القوم كانوا نادمين على تأخرهم عن الغزو ولم يحكم الله بكونهم تائبين بل قال:
إما يعذبهم وإما يتوب عليهم، فلعلهم خافوا من أمر الرسول بإيذائهم أو خافوا من الخجلة والفضيحة، وعلى هذا التقدير فتوبتهم غير صحيحة فاستمر عدم قبول التوبة إلى أن سهل أحوال الخلق في قدحهم ومدحهم عندهم، فعند ذلك ندموا على المعصية لنفس كونها معصية، وعند
__________
(1) رواه الحاكم في المستدرك (4: 314) ، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5335) ، والسيوطي في الدر المنثور (1: 78) .(1/467)
ذلك صحت توبتهم، وكلمة «إما» للشك بالنسبة لاعتقاد العباد، والمراد منه: ليكن أمرهم على الخوف والرجاء فجعل أناس يقولون: هلكوا إذا لم ينزل الله لهم عذرا. وأناس يقولون: عسى الله أن يغفر لهم، فالناس مختلفون في شأنهم فصاروا عندهم مرجئين لأمر الله تعالى وَاللَّهُ عَلِيمٌ بما في قلوب هؤلاء المؤمنين حَكِيمٌ (106) فيما يحكم فيهم وفيما يفعل بهم وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً أي ومنهم الذين بنوا مسجدا وكانوا اثني عشر رجلا من المنافقين لإضرار أهل مسجد قباء وَكُفْراً أي ولتقوية الكفر بالطعن على النبي صلّى الله عليه وسلّم ودين الإسلام وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الذين كانوا يصلون في مسجد قباء أي لكي يصلي طائفة من المؤمنين في ذلك المسجد فيؤدي ذلك إلى اختلاف الكلمة وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي انتظارا لأبي عامر الراهب الفاسق مِنْ قَبْلُ متعلق باتخذوا أي اتخذوا ذلك المسجد من قبل أن ينافق بالتخلف حيث كانوا بنوه قبل غزوة تبوك، وكان أبو عامر قد تنصّر في الجاهلية وترهّب- أي لبس المسوح- وطلب العلم،
فلما قدم صلّى الله عليه وسلّم المدينة عاده لأنه زالت رئاسته وقال للنبي صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد: «لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم»
. ولم يزل يقاتله صلّى الله عليه وسلّم إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازن خرج هاربا إلى الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح وابنوا لي مسجدا فإني ذاهب إلى قيصر وآت من عنده بجند، فأخرج محمدا وأصحابه من المدينة فبنوا هذا المسجد إلى جنب مسجد قباء وانتظروا مجيء أبي عامر ليصلي بهم في ذلك المسجد وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى أي قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما أردنا ببناء هذا المسجد إلا الإحسان إلى المؤمنين وهو الرفق بهم في التوسعة على أهل الضعف والعلة والعجز عن الذهاب إلى مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) في حلفهم لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً أي لا تصل في ذلك المسجد أبدا.
روي أنه لما قفل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من غزوة تبوك نزل بذي أوان وهو موضع قريب من المدينة فأتاه المنافقون وسألوه إتيان مسجدهم، فنزلت عليه صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشيا فقال لهم: «انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه»
«1» ففعلوا ذلك وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يجعل ذلك الموضوع مكان كناسة تلقى فيها الجيف والقمامة، ومات أبو عامر الفاسق بالشام بقنسرين غريبا وحيدا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى أي بنى أصله على طاعة الله تعالى وذكره مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ من أيام تأسيسه فقد أسس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسجد قباء وصلى فيه أيام مقامه بقباء وهي يوم الإثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، وخرج صبيحة الجمعة فدخل المدينة أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ أي أن تصلي فيه ذلك
__________
(1) رواه ابن الجوزي في زاد المسير (3: 499) ، والقرطبي في التفسير (8: 53) ، والواحدي في أسباب النزول (176) .(1/468)
المسجد فِيهِ أي في هذا المسجد رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا من الأحداث والجنابات والنجاسات، وسائر النجاسات وهم: بنو عامر بن عوف الذين بنوه وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أي يرضى عنهم.
روى ابن خزيمة عن عويمر ابن ساعدة أنه صلّى الله عليه وسلّم أتاهم في مسجد قباء فقال: «إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم فما هذا الطهور الذي تطهرون به» «1» ؟ أي الذي تحصلون الطهارة بسببه. قالوا: والله يا رسول الله ما نعلم شيئا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود، وكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا.
وفي حديث رواه البزار فقالوا: في جواب سؤاله لهم: نتبع الحجارة بالماء فقال: «هو ذاك فعليكموه»
«2» . أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ أي أبعد ما علم حالهم من أسس بنيان دينه على قاعدة قوية هي الخوف من عقاب الله والرغبة في ثوابه خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ أي أم من أسس بنيان دينه على طرف مسيل متصدع وهو كفر بالله وإضرار بعباد الله فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ أي فسقط المسيل مصاحبا له أي للمؤسس في قعر نار جهنم أي مثل الضلال مثل شفا جرف هار من أودية جهنم فكان قريب السقوط ولكونه على طرف جهنم كان إذا انهار فإنما ينهار في قعر جهنم.
وقرأ نافع وابن عامر «أسس» مبنيا للمفعول، وبنيانه بالرفع نائب الفاعل وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) أي لا يغفر للمنافقين ولا ينجيهم لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ أي لا يزال مسجدهم سبب شك في الدين لأن المنافقين عظم فرحهم ببناء مسجد الضرار فلما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتخريبه ثقل ذلك عليهم وازداد بغضهم له وازداد ارتيابهم في نبوته، وعظم خوفهم منه في جميع الأوقات، وصاروا مرتابين في أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هل يخلي سبيلهم أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم؟! إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ.
وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة بفتح التاء والطاء المشددة. والباقون بضم التاء مبني للمجهول. وعن ابن كثير بفتح الطاء وسكون القاف على الخطاب وقلوبهم بالنصب أي إلا أن تجعل قلوبهم قطعا بالسيف. وقرأ الحسن ومجاهد وقتادة ويعقوب «إلى أن تقطع» ، وأبو حيوة كذلك إلا أنه قرأ بضم التاء وفتح القاف وكسر الطاء مشددة على الخطاب للرسول، و «قلوبهم» بالنصب، وفي قراءة عبد الله ولو قطعت قلوبهم بالبناء للمجهول وعن طلحة ولو قطعت قلوبهم على الخطاب. والمعنى أن هذه الريبة باقية في قلوبهم أبدا ويموتون على هذا النفاق، و «إلا» بمعنى إلى بدليل القراءة الشاذة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوالهم حَكِيمٌ (110) في
__________
(1) رواه ابن ماجة في كتاب الطهارة، باب: الاستنجاء بالماء، وأحمد في (م 3/ ص 422) .
(2) رواه ابن ماجة في كتاب الطهارة، باب: الاستنجاء بالماء، والدارقطني في (ج 1/ ص 62) .(1/469)
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)
الأحكام التي يحكم بها عليهم
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وهذا استئناف لبيان البيع الذي يستلزمه الشراء كأنه قيل: كيف يبيعون أنفسهم وأموالهم بالجنة؟ فقيل: يقاتلون في سبيل الله، أي يبذلون أنفسهم وأموالهم في طاعة الله والمؤمن متى قاتل في سبيل الله حتى يقتله كافر وأنفق ماله في سبيل الله فإنه يأخذ من الله في الآخرة الجنة جزاء لما فعل وهو تسليم المبيع من الأنفس والأموال فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ.
قرأ حمزة والكسائي بتقديم المبني للمفعول على المبني للفاعل، والباقون بعكسه فمعنى تقديم الفاعل على المفعول أنهم يقتلون الكفار ولا يرجعون عنهم إلى أن يصيروا مقتولين وأما تقديم المفعول على الفاعل فالمعنى أن طائفة كبيرة من المسلمين وإن صاروا مقتولين لم يصر ذلك رادعا للباقين عن المقاتلة بل يبقون بعد ذلك مقاتلين مع الأعداء قاتلين لهم بقدر الإمكان وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا أي وعدهم الله وعدا ثابتا على الله فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ أي لا أحد أوفى بعهده من الله تعالى فَاسْتَبْشِرُوا أي فافرحوا غاية الفرح بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ أي بجهادكم الذي فزتم به بالجنة وَذلِكَ أي الجنة التي هي ثمن بذل الأنفس والأموال هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) أي فلا فوز أعظم منه التَّائِبُونَ وهو رفع على المدح، أي هم التائبون من كل معصية كما يدل عليه قراءة عبد الله بن مسعود، وأبي، والأعمش «التائبين» بالياء إلى قوله تعالى: «والحافظين» إما نصبا على المدح أو جرا صفة للمؤمنين، ويجوز أن يكون التائبون رفعا على البدل من الواو في يقاتلون.
واعلم أن التوبة المقبولة إنما تحصل باجتماع أربعة أمور:
أولها: احتراق القلب عند صدور المعصية.
ثانيها: الندم على ما مضى.
ثالثها: العزم على الترك في المستقبل.
رابعها: أن يكون الحامل له على هذه الأمور الثلاثة طلب رضوان الله تعالى وعبوديته فإن كان غرضه منها دفع مذمة الناس وتحصيل مدحهم أو لغرض آخر من الأغراض الدنيوية فليس بتائب، ولا بد من رد المظالم إلى أهلها إن كانت الْعابِدُونَ.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: الذين يريدون عبادة الله واجبة عليهم الْحامِدُونَ أي الذين يقومون بحق شكر الله تعالى على نعمه دينا ودنيا ويجعلون إظهار ذلك عادة لهم السَّائِحُونَ أي الصائمون
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «سياحة أمتي الصيام»
«1» . وقال عكرمة: أي طلاب
__________
(1) رواه القرطبي في التفسير (8: 270) .(1/470)
العلم فإنهم ينتقلون من بلد إلى بلد الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ أي المصلون الصلوات الخمس الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ أي بالإيمان والطاعة وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ أي عن الشرك والمعاصي وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ أي لتكاليف الله المتعلقة بالعبادات وبالمعاملات وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) الموصوفين بهذه الصفات بالجنة ما كانَ لِلنَّبِيِّ أي ما جاز لمحمد صلّى الله عليه وسلّم وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى أي ذوي قرابات لهم مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) أي أهل النار بأن ماتوا على الكفر وسبب نزول هذه الآية استغفار ناس لآبائهم الذين ماتوا على الكفر.
روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت:
أتستغفر لأبويك وهما مشركان؟ قال: أليس قد استغفر إبراهيم لأبيه! فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزل:
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية، فروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المسلمون يستغفرون لآبائهم المشركين حتى نزلت هذه الآية فلما نزلت أمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم ولم ينهوا أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا ثم أنزل الله وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ أي إلا لأجل موعدة وعدها إبراهيم إياه بقوله: لأستغفرن لك، أي لأطلبن مغفرة لك بالتوفيق للإيمان فإنه يمحو ما قبله فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ أي إنه مستمر على الكفر ومات عليه تَبَرَّأَ مِنْهُ أي ترك الاستغفار له أي إن إبراهيم استغفر لأبيه ما كان حيا فلما مات أمسك عن الاستغفار له.
وروى ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال: لما مرض أبو طالب أتاه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال المسلمون: هذا محمد يستغفر لعمه وقد استغفر إبراهيم لأبيه فاستغفروا لقراباتهم من المشركين، فأنزل الله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية. ثم أنزل وما كان استغفار إبراهيم الآية.
وروى ابن جرير عن عمرو بن دينار أن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك فلا أزال أستغفر لأبي طالب حتى ينهاني عنه ربّي» «1» ، فقال أصحابه: لنستغفرن لآبائنا كما استغفر النبي لعمه، فأنزل الله
ما كانَ لِلنَّبِيِّ الآية إلى قوله تعالى تَبَرَّأَ مِنْهُ فظهر بهذه الأخبار أن الآية نزلت في استغفار المسلمين لأقاربهم المشركين لا في حق أبي طالب، لأن هذه السورة كلها مدنية نزلت بعد تبوك، وبينها وبين موت أبي طالب نحو اثني عشر سنة، وأيضا إن عم إبراهيم آزر كان يتخذ أصناما آلهة ولم ينقل عن أبي طالب أنه اتخذ أصناما آلهة وعبد حجرا أو نهى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب التفسير، باب: تفسير سورة 9، وأحمد في (م 1/ ص 131) .(1/471)
عبادة ربه وإنما هو ترك النطق بالشهادتين لخوف مسبة لا للعناد للإسلام، أو ترك بعض الواجبات ومع ذلك قلبه مشحون بتصديق النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومثل هذا ناج في الآخرة على مقتضى ديننا فلا يليق بالحكمة، ولا بمحاسن الشريعة الغرّاء، ولا بقواعد الأثمة من أهل الكلام أن يكون هو وآزر- عم إبراهيم- في مرتبة واحدة فإن أبا طالب رباه صلّى الله عليه وسلّم صغيرا وآواه كبيرا، ونصّره وعزره، ووقره، وذب عنه، ومدحه، ووصى باتباعه. وأما ما
روي أن عليا ضحك على المنبر ثم قال: ذكرت قول أبي طالب ظهر علينا وأنا أصلي ببطن نخلة فقال: ماذا تصنعان؟ فدعاه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى الإسلام فقال: ما بالذي تقول من بأس ولكن والله لا يعلوني استي أبدا.
فهذا في أول الإسلام قبل أن تفرض الصلاة، وقد قرأ بأنه لا بأس بالتوحيد وإباؤه عن صلاة النفل لا يدل على إبائه عن التوحيد، ليس في حديث عمرو بن دينار السابق دلالة قطعية على شركه، وأما
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك فلا أزال أستغفر لأبي طالب» «1»
فهذا يمكن أن يكون معناه أن إبراهيم استغفر لأبيه مع شركه فكيف لا أستغفر أنا لأبي طالب مع خطيئته دون الشرك فلا أزال أستغفر له حتى ينهاني عنه ربي ولم ينه صلّى الله عليه وسلّم بل نهى عن الاستغفار للمشركين لا لخصوص عمه كما صرح بهذا ما
روي عن قتادة أن رجلا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سألوه عن الاستغفار لآبائهم فقال:
«والله إني لأستغفرن لأبي- أي لعمي- كما استغفر إبراهيم لأبيه» . فأنزل الله ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت أن لا أستغفر لمن كان كافرا» «2»
فقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إني لأستغفرن لأبي»
ولم يقل: أمرت أن لا أستغفر له بل
قال: «لمن مات مشركا»
جواب لسؤال أصحابه مع إشارة خفية إلى أن عمه لم يكن مشركا والله أعلم. إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ أي كثير الدعاء والتضرع حَلِيمٌ (114) أي صبور على المحنة وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ أي ما يجب أن يحترزوا عنه أي لما نزل المنع من الاستغفار للمشركين خاف المؤمنون من المؤاخذة بما صدر عنهم منه قبل المنع وقد مات قوم منهم قبل النهي عن الاستغفار فوقع الخوف في قلوب المسلمين على من مات منهم أنه كيف يكون حالهم، فأزال الله تعالى ذلك الخوف عنهم بهذه الآية وبين أنه تعالى لا يؤاخذهم بعمل إلا بعد أن يبين لهم أنه يجب عليهم أن يحترزوا عنه أي وما كان الله ليقضي عليكم بالضلال بسبب استغفاركم لموتاكم المشركين بعد أن رزقكم الهداية ووفقكم للإيمان به وبرسوله حتى يبين لكم بالوحي ما يجب الاحتراز عنه من محظورات الدين فلا تنزجروا عما نهيتم عنه إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) فيعلم حاجتهم إلى بيان قبح ما لا يستقل العقل في معرفته فبين لهم ذلك إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من غير شريك
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب التفسير، باب: تفسير سورة 9، وأحمد في (م 1/ ص 131) . [.....]
(2) رواه السيوطي في الدر المنثور (3: 283) .(1/472)
له فيه يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ أي متولى الأمور. وَلا نَصِيرٍ (116) أي لما أمر الله بالبراءة من الكفار بين أن له ملك السموات والأرض فإذا كان هو ناصرا لكم فهم لا يقدرون على إضراركم أي إنكم صرتم محرومين عن معاونتهم فالإله الذي هو المالك للسموات والأرض والمحيي والمميت ناصركم فلا يضركم أن ينقطعوا عنكم، والواجب عليكم أن تنقادوا لحكم الله وتكليفه لكونه إلهكم ولكونكم عبيدا له لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ أي في الزمان الذي صعب الأمر عليهم جدا في السفر إلى تبوك وكانت لهم عسرة من الزاد وعسرة من الظهر، وعسرة من الحر، وعسرة من الماء فربما مصّ التمرة الواحدة جماعة يتناوبونها حتى لا يبقى من التمرة إلا النواة وكان معهم شيء من شعير مسوس فكان أحدهم إذا وضع اللقمة في فيه أخذ أنفه من نتن اللقمة وكان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم وكانوا قد خرجوا في قيظ شديد وأصابهم فيه عطش شديد حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه ويشربه أي لقد عفى الله عن النبي في إذنه للمنافقين في التخلف عنه في غزوة تبوك وهو شيء صدر عنه من باب ترك الأفضل لا أنه ذنب يوجب عقابا. وعفى الله عن المهاجرين والأنصار من الوساوس التي كانت تقع في قلوبهم في ساعة العسرة كما قال تعالى: مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أي من بعد ما قرب أن تميل قلوب بعضهم إلى أن يفارق النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في ذلك الغزو لحر شديد ولم ترد الميل عن الدين وربما وقع في قلوب بعضهم أنا لا نقدر على قتال الروم وكيف لنا بالخلاص منها ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ أي عفى الله عنهم ما وقع في قلوبهم من هذه الخواطر والوساوس النفسانية لما صبروا وندموا على ذلك الهم إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) فلا يحملوهم ما لا يطيقون من العبادة ويوصل إليهم المنافع وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا أي وتاب الله على الثلاثة الذين أخروا في قبول التوبة عن الطائفة الأولى ابن لبابة وأصحابه وهؤلاء الثلاثة كعب بن مالك الشاعر، وهلال بن أمية الذي نزلت فيه آية اللعان ومرارة بن الربيع حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ أي أخر أمرهم إلى أن ضاقت الأرض عليهم مع سعتها بسبب مجانبة الأحباء، ونظر الناس لهم بعين الإهانة لأن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان معرضا عنهم، ومنع المؤمنين من مكالمتهم وأمرهم باعتزال أزواجهم وبقوا على هذه الحالة خمسين يوما وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ أي ضاقت قلوبهم إذا رجعوا إلى أنفسهم لا يطمئنون بشيء بسبب تأخير أمرهم عن قبول التوبة وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ أي علموا أنه لا ملجأ لأحد من سخطه تعالى إلا إليه بالتضرع ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ أي ثم وفقهم للتوبة الصحيحة المقبولة لِيَتُوبُوا أي ليحصلوا التوبة إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
ولما نزلت هذه الآية خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى حجرته وهو عند أم سلمة فقال: «الله أكبر» قد أنزل الله عذر أصحابنا، فلما صلى الفجر ذكر ذلك لأصحابه وبشّرهم بأن الله تاب عليهم فانطلقوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتلا(1/473)
وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
عليهم ما نزل فيهم كعب: توبتي إلى الله تعالى أن أخرج مالي صدقة فقال: «لا» . قلت:
فنصفه. قال: «لا» . قلت: فثلثه. قال: «نعم»
«1» . يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ في مخالفة أمر الرسول وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) أي مع الرسول وأصحابه في الغزوات، ولا تكونوا جالسين مع المنافقين في البيوت.
وقرئ شاذة «من الصادقين» فعلى هذا ف «مع» بمعنى «من» ، أي كونوا ملازمين الصدق.
روي أن واحدا جاء إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقال: إني رجل أريد أن أومن بك إلا أني أحب الخمر، والزنا، والسرقة، والكذب، والناس يقولون: إنك تحرم هذه الأشياء، ولا طاقة لي على تركها بأسرها فإن قنعت مني بترك واحد منها آمنت بك. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «اترك الكذب» فقبل ذلك ثم أسلم فلما خرج من عند النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عرضوا عليه الخمر فقال: إن شربت وسألني الرسول عن شربها وكذبت فقد نقضت العهد وإن صدقت أقام الحد عليّ فتركها، ثم عرضوا عليه الزنا فجاء ذلك الخاطر فتركه، وكذا في السرقة فتاب عن الكل فعاد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: ما أحسن ما فعلت لما منعتني عن الكذب انسدت أبواب المعاصي عليّ
ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أي ما جاز لأهل دار الهجرة ومن حولهم من سكان البوادي أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ إذا دعاهم وأمرهم لأنه تتعين
الإجابة والطاعة لرسول الله وكذلك غيره من الولاة والأئمة إذا ندبوا وعينوا وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ أي ليس لهم أن يكرهوا لأنفسهم ما يرضاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لنفسه ذلِكَ أي وجوب المشايعة لرسول الله بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ أي شدة عطش وَلا نَصَبٌ أي تعب وَلا مَخْمَصَةٌ أي مجاعة شديدة يظهر بها ضمور البطن فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طريق دينه وَلا يَطَؤُنَ أي لا يدوسون بأرجلهم وحوافر خيولهم وأخفاف بعيرهم مَوْطِئاً أي دوسا يَغِيظُ الْكُفَّارَ أي يغضبهم بذلك وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا أي شيئا منا لا أسرا أو قتلا أو هزيمة إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ أي بكل واحد من الأمور الخمسة عَمَلٌ صالِحٌ مستوجب للثواب ومن قصد طاعة الله كان جميع حركاته وسكناته حسنات مكتوبة عند الله إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) أي لا يترك ثوابهم
وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً ولو تمرة أو علاقة سوط وَلا كَبِيرَةً كما أنفق عثمان في جيش العسرة وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً أي ولا يجاوزون مسلكا في سيرهم إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ أي إلا كتب الله لهم ذلك الإنفاق والسير في الذهاب والرجوع لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121) أي ليجزيهم الله على أحسن أعمالهم وهو الواجب والمندوب دون المباح، أو ليجزيهم الله جزاء هو أحسن من
__________
(1) رواه النسائي في كتاب الوصايا، باب: الوصية بالثلث، «بما معناه» .(1/474)
أعمالهم وهو الثواب، فالأحسن صفة عملهم على المعنى الأول وصفة الجزاء على الثاني وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً أي ما استقام لهم أن ينفروا جميعا لنحو غزو وطلب علم فإنه يخل بأمر المعاش هذه الآية إما كلام لا تعلق له بالجهاد، وإما من بقية أحكام الجهاد فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) فعلى الأول يقال: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً إلى حضرة الرسول ليتفقهوا في الدين بل ذلك غير واجب وغير جائز، وليس حال النفقة كحال الجهاد معه صلّى الله عليه وسلّم الذي يجب أن يخرج فيه كل من لا عذر له فهلا نفر من كل فرقة من فرق الساكنين في البلاد طائفة إلى إلى حضرة الرسول ليتفقهوا في الدين ويعودوا إلى أوطانهم فينذروا قومهم لكي يحذروا عقاب الله تعالى بامتثال أمره واجتناب نهيه، وعلى هذا التقدير فيكون المراد وجوب الخروج إلى حضرة الرسول للتعلم، لأنه يحدث كل وقت تكليف جديد أما في زماننا فقد صارت الشريعة مستقرة فإذا أمكنه تحصيل العلم في الوطن لم يكن السفر واجبا. وعلى الاحتمال الثاني يقال: إن النبي لما بالغ في الكشف عن عيون المنافقين في تخلفهم عن غزوة تبوك قال المسلمون: والله لا نتخلف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا عن سرية بعثها، فلما قدم الرسول المدينة من تبوك وأرسل السرايا إلى الكفار نفر المسلمون جميعا إلى الغزو وتركوا النبي وحده في المدينة فنزلت هذه الآية فالمعنى لا يجوز للمؤمنين أن ينفروا جميعا ويتركوا النبي بل يجب أن ينقسموا قسمين: طائفة تنفر إلى الجهاد وقهر الكفار، وطائفة تكون مع رسول الله لتعلم العلم والفقه في الدين لأن أحكام الشريعة كانت تتجدد شيئا بعد شيء، والماكثون يحفظون ما تجدد فإذا قدم الغزاة علموا ما تجدد في غيبتهم وبهذا الطريق يتم أمر الدين، والمعنى: فهلا نفر من كل فرقة من المقيمين مع رسول الله طائفة إلى جهاد العدو ليتفقه المقيمون في الدين بسبب ملازمتهم خدمة الرسول وليخبروا قومهم الخارجين إلى الجهاد إذا رجع الخارجون من جهادهم إليهم بما حصلوا في أيام غيبتهم من العلوم لكي يحذروا معاصي الله تعالى عند ذلك التعلم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ أي لما أمرهم الله بقتال المشركين كافة أرشدهم إلى الطريق الأصلح وهو أن يبدءوا بقتال الأقرب فالأقرب حتى يصلوا إلى الأبعد فالأبعد، وبهذا الطريق يحصل الغرض من قتال المشركين كافة فإن أمر الدعوة وقع على هذا الترتيب، فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قاتل أولا قومه، ثم انتقل منهم إلى قتال سائر العرب، ثم إلى قتال أهل الكتاب وهم قريظة والنضير وخيبر وفدك، ثم انتقل إلى غزو الروم والشام فكان فتحه في زمن الصحابة ثم إنهم انقلبوا إلى العراق وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً أي شدة عظيمة وشجاعة وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) أي معينهم بالنصرة على أعدائهم. والمراد أن يكون الإقدام على الجهاد بسبب تقوى الله، لا بسبب طلب المال والجاه وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ من سور القرآن والحال أن المنافقين ليسوا حاضرين مجلس نزولها وليس في السورة فضيحة لهم(1/475)
فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أي فمن المنافقين فريق يقول لأصحابه استهزاء بالقرآن والمؤمنين أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ السورة إِيماناً قال تعالى تعيينا لحالهم: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بالله تعالى وبما جاء من عنده فَزادَتْهُمْ أي هذه السورة إِيماناً بانضمام إيمانهم بما فيها بإيمانهم السابق لأنهم يقرون عند نزولها بأنها حق من عند الله وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) بنزولها لما فيها من المنافع الدينية والدنيوية وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي نفاق وسوء عقيدة فَزادَتْهُمْ أي هذه السورة رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ عقيدة باطلة مضمومة إلى عقيدتهم الباطلة فإنهم كانوا مكذبين بالسور النازلة قبل ذلك، والآن صاروا مكذبين بهذه السورة الجديدة فقد انضم كفر إلى كفر وإنهم كانوا في العداوة واستنباط وجوه المكر، والآن ازدادت تلك الأخلاق الذميمة بسبب نزول هذه السورة الجديدة وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) وهذه الحالة أقبح من الحالة الأولى فإن الأولى ازدياد الرجاسة وهذه مداومة الكفر وموتهم عليه أَوَلا يَرَوْنَ أي المنافقون فالاستفهام للتوبيخ.
وقرأ حمزة بالتاء على الخطاب للمؤمنين فالاستفهام للتعجيب أي ألا ينظرون ولا يرون أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أي إنهم يبتلون بأفانين البليات مرارا كثيرة من المرض والجوع، ومن إظهار الفضيحة على نفاقهم وعلى تخلفهم من الغزو ثُمَّ لا يَتُوبُونَ من نفاقهم وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) بتلك الفتن الموجبة للتوبة. وقوله تعالى: ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وما بعده عطف على «لا يرون» داخل تحت الإنكار والتوبيخ على قراءة الجمهور، وعطف على «يفتنون» على قراءة الجمهور وعطف على قراءة حمزة. وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فيها بيان حالهم وكانوا حاضرين مجلس نزولها نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ أي تغامزوا بالعيون يدبرون الهرب ليتخلصوا من تأذي سماعها يقولون بطريق الإشارة هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ من المسلمين إن قمتم من المجلس ثُمَّ انْصَرَفُوا جميعا عن مجلس نزول الوحي خوفا من الافتضاح أو غير ذلك صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عن الإيمان وعن استماع القرآن بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127) لسوء الفهم وعدم التدبر لَقَدْ جاءَكُمْ أيها العرب رَسُولٌ عظيم الشأن مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من جنسكم بشر عربي قرشي مثلكم.
وقرئ بفتح الفاء أي من أشرفكم وأفضلكم. قيل: هذه قراءة فاطمة وعائشة رضي الله عنهما. عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ أي شاق شديد على هذا الرسول ما أثمتم فهو يخاف عليكم الوقوع في العذاب حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ في إيمانكم وصلاح حالكم فهو شديد الرغبة على إيصال الخيرات إليكم في الدنيا والآخرة بِالْمُؤْمِنِينَ أي بجميعهم رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فهو تعالى شديد الرحمة بالطائعين منهم، مريد الإنعام على المذنبين فَإِنْ تَوَلَّوْا أي فإن أعرض هؤلاء المنافقون والكفار عن الإيمان والتوبة وناصبوك الحرب فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ أي يكفيني(1/476)
الله فهو ثقتي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي لا حافظ ولا ناصر إلا هو عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ أي وثقت وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ أي السرير الْعَظِيمِ (129) فإن جعل صفة للرب فمعنى العظمة هي وجوب الوجود والتقدس عن الحجمية والإجزاء وكمال العلم والقدرة والتنزه عن أن يتمثل في الأوهام وتصل إليه الأفهام، وإن جعل صفة للعرش فمعنى العظمة كبر الجرم واتساع الجوانب، ووجوب العرش أمر مشهور والكفار سمعوه من أسلافهم أو من اليهود والنصارى.(1/477)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
سورة يونس
مكية، إلا قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ فإنها مدنية لأنها نزلت في اليهود، مائة وتسع آيات، ألف وثمانمائة وإحدى وأربعون كلمة، سبعة آلاف وخمسمائة وواحد وتسعون حرفا
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) أي تلك الآيات الحاصلة في سورة «الر» هي آيات ذلك الكتاب المحكم الذي لا يمحوه الماء ولا يغيره كرور الدهر. أَكانَ لِلنَّاسِ أي لأهل مكة عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا أي إيحاؤنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أي من أهل مكة أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ أي إنه أي الشأن قولنا أنذر الناس أي خوف جميع الناس كافة بالقرآن فإن أهل مكة كانوا يقولون: إن الله ما وجد رسولا إلى خلقه إلا يتيم أبي طالب وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي بأن لهم منزلة رفيعة عند ربهم قالَ الْكافِرُونَ أي المتعجبون إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (2) .
قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي بصيغة اسم الفاعل أي إن الكافرين لما جاءهم رسول منهم فأنذرهم وبشرهم قالوا متعجبين: إن هذا الذي يدّعي أنه رسول وهو سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم ساحر ظاهر. والباقون «لسحر» بكسر السين وسكون الحاء أي إن هذا القرآن لكذب ظاهر، ووصف الكفار القرآن بكونه سحرا يدل على عظم القرآن عندهم من حيث تعذر عليهم فيه المعارضة فأرادوا بهذا الكلام أن القرآن كلام مزخرف حسن الظاهر ولكنه باطل في الحقيقة، وهذا ذم له. أو أرادوا به أنه لكمال فصاحته وتعذر مثله جار مجرى السحر وهذا مدح له وإنما لم يؤمنوا به عنادا إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي مقدار ستة أيام معلومة ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وهو الجسم المحيط بسائر الأجسام. والمعنى ثم تصرف الله في ملكه وليس معناه أنه تعالى خلق العرش بعد خلق السموات والأرض لأن تكوين العرش سابق على تخليق السموات والأرضين بدليل قوله تعالى وكان عرشه على الماء، بل المراد أنه تعالى لما خلق السموات والأرض واستدارت الأفلاك والكواكب، وجعل بسبب دورانها الفصول الأربعة ففي هذا الوقت قد حصل وجود هذه المخلوقات وهذا ملك الله تعالى إنما حصل بعد تخليق السموات(1/478)
والأرض فصحّ إدخال حرف يفيد التراخي على الاستواء على العرش والله أعلم بمراده يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي يقدر على الوجه الأكمل أمر ملكوت السموات والأرض ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ أي إن الله تعالى ينفرد في التدبير فإن تدبيره تعالى للأشياء لا يكون بشفاعة شفيع ولا يستجرئ أحد أن يشفع إليه في شيء إلا بعد إذنه تعالى ولا يدخل أحد في الوجود إلا بعد أن قال تعالى له:
كن حتى كان ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ فإن العبادة لا تصلح إلا له وهو المستحق لجميع العبادات لأجل أنه هو المنعم بجميع النعم أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) فالتفكر في مخلوقات الله تعالى واجب، والاستدلال بها على عزته تعالى وعظمته وجلالته أعلى المراتب، إِلَيْهِ تعالى مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً بالبعث فلا حكم إلا حكمه ولا نافذ إلا أمره وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا أي وعدكم الله بالرجوع إليه وعدا وحق ذلك الوعد حقا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ليأمرهم بالعبادة ثم يميتهم ثُمَّ يُعِيدُهُ من العدم بالبعث لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ أي بعد لهم. والمراد به هنا الإيمان وهذا تنبيه على أن المقصود بالذات من الإبداء والإعادة هو الإثابة وإيصال الرحمة، وأما عقاب الكفرة فكأنه داء ساقه إليهم سوء اعتقادهم وسوء أفعالهم وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ أي ماء حار قد انتهى حره وَعَذابٌ أَلِيمٌ أي بالغ في الإيلام بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4) أي بسبب كفرهم. هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً أي الذي خلق الشمس ذات ضياء، والقمر ذا نور فما بالذات ضوء وما بالعرض نور، فنور القمر مستفاد من الشمس وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ أي جعل للقمر وهيأ له منازل وهي ثمانية وعشرون منزلا، وأسماؤها: السرطان، والبطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرفة، والجبهة، والذبرة، والصرفة، والعواء، والسماك، والغفر، والزباني، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، وسعد الذابح، وسعد بلع، وسعد السعود، وسعد الأخبية، وفرغ الدلو المقدّم، وفرغ الدلو المؤخر، وبطن الحوت. فينزل القمر كل ليلة في واحد منها على تقدير مستو من ليلة المستهل إلى الثامنة والعشرين فإذا كان في آخر منازل له دق واستقوس، ثم لا يرى ليلتين أو ليلة إذا نقص الشهر ويكون مقام الشمس في كل منزلة منها ثلاثة عشر يوما لِتَعْلَمُوا باعتبار نزول كل منهما في تلك المنازل عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ أي حساب الأوقات فيمكنكم ترتيب مهمات المعاش من الزراعة والحراثة ومهمات الشتاء والصيف ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ أي المذكور من الشمس والقمر على تلك الأحوال إِلَّا بِالْحَقِّ أي الأعلى وفق الحكمة ومطابقة المصلحة في أمور المعاملات والعبادات يُفَصِّلُ الْآياتِ أي يذكر هذه الدلائل الباهرة واحدا عقب آخر مع البيان لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) الحكمة في إبداع الكائنات فيستدلون بذلك على شؤون مبدعها من الوحدانية، وكمال القدرة والعلم وفي قوله تعالى: يُفَصِّلُ قراءتان: قراءة ابن كثير، وأبو عمر وحفص عن عاصم بالياء. والباقون بالنون. إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي في تعاقبهما أو في(1/479)
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
تفاوتهما بازدياد وانتقاص، أو في تفاوتهما بحسب الأمكنة في الطول والقصر وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من أنواع الموجودات لَآياتٍ دالة على وجود الصانع ووحدته وكمال علمه وقدرته لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) وخصّ الله تعالى العلامات بالمتقين لأن الداعي إلى التدبير والنظر إنما هو تقوى الله تعالى والحذر من العاقبة إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا أي لا يطمعون في ثوابنا لأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا أي استغرقوا في طلب اللذات الجسمانية وَاطْمَأَنُّوا بِها أي سكنوا في الاشتغال بطلب لذات الدنيا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا أي دلائل وحدانيتنا الظاهرة في الأكوان غافِلُونَ (7) أي لا يتفكرون فيها أصلا أُولئِكَ أي الموصوفون بتلك الصفات مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8) أي من الأعمال القلبية ومن أنواع المعاصي والسيئات إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أي شغلوا قلوبهم وأرواحهم بتحصيل المعرفة وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي شغلوا جوارحهم بالخدمة فعينهم مشغولة بالاعتبار وأذنهم مشغولة بسماع كلام الله تعالى ولسانهم مشغول بذكر الله وجوارحهم مشغولة بنور طاعة الله يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ أي يهديهم إلى الجنة ثوابا لهم على إيمانهم وأعمالهم الصالحة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) أي إنهم يكونون جالسين على سرر مرفوعة في البساتين والأنهار تجري من بين أيديهم دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ أي اشتغال أهل الجنة بتقديس الله تعالى وتمجيده والثناء عليه لأجل أن سعادتهم في هذا الذكر وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ أي تحية بعضهم لبعض تكون بالسلام وتحية الملائكة لهم بالسلام وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10) أي إن أهل الجنة لما عاينوا ما هم فيه من السلامة عن الآفات والمخافات علموا أن كل هذه
الأحوال السنية إنما كانت بإحسان الله تعالى عليهم، فاشتغلوا بالثناء على الله فقالوا:
الحمد لله رب العالمين. وإنما وقع الختم على الحمد لأن الاشتغال بشكر النعمة متأخر عن رؤية تلك النعمة، والمعنى أنهم إذا دخلوا الجنة وعاينوا عظمة الله ووجدوا فيها النعم العظيمة وعرفوا أنه تعالى كان صادقا في وعده إياهم بتلك النعم مجدوه تعالى ونعتوه بنعوت الجلال فقالوا:
سبحانك اللهم، أي نسبحك عن الخلف في الوعد والكذب في القول وعمّا لا يليق بحضرتك العلية، ولما حياهم الله والملائكة بالسلامة عن الآفات وبالفوز بأنواع الكرامات أثنوا عليه تعالى بصفات الإكرام.
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ أي ولو يعجل الله لهم العذاب عند استعجالهم به تعجيلا مثل تعجيله لهم كشف الشدائد عند استعجالهم به لأميتوا وأهلكوا بالمرة وما أمهلوا طرفة عين.
وقرأ ابن عامر «لقضى» بفتح القاف والضاد، و «أجلهم» بالنصب. وقرأ عبد الله، «لقضينا إليهم أجلهم» . فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) أي فنترك الذين لا يؤمنون بالبعث والجزاء مع تمردهم في ضلالتهم يتحيرون في شأنهم وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا(1/480)
لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ
وهذه الآية بيان أن الإنسان قليل الصبر عند نزول البلاء، قليل الشكر عند وجدان النعماء فإذا مسه الضر أقبل على التضرع والدعاء مضطجعا أو قاعدا أو قائما، مجتهدا في ذلك الدعاء طالبا من الله تعالى إزالة تلك المحنة، وتبديلها بالمنحة فإذا كشف الله تعالى عنه بالعافية أعرض عن الشكر ولم يتذكر ذلك الضر ولم يعرف قدر الإنعام، وصار بمنزلة من لم يدع الله تعالى لكشف ضره. فالواجب على العاقل أن يكون صابرا عند نزول البلاء شاكرا عند الفوز بالنعماء، وأن يكون كثير الدعاء والتضرع في أوقات الراحة والرفاهية حتى يكون مجاب الدعوة في وقت المحنة.
وعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من سره أن يستجاب له عند الكرب والشدائد فليكثر الدعاء عند الرخاء»
«1» . كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12) أي هكذا زين لمن بذل العقل والفهم والحواس لأجل لذات الدنيا، وهي خسيسة جدا في مقابلة سعادات الدار الآخرة ما كانوا يعملون من الإعراض عن الذكر، والدعاء والانهماك في الشهوات، والكاف مقحمة للدلالة على زيادة فخامة المشار إليه.
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ أي الأمم مِنْ قَبْلِكُمْ أي من قبل زمانكم يا أهل مكة مثل قوم نوح وعاد وأشباههم لَمَّا ظَلَمُوا أي حين فعلوا الظلم بالتكذيب وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالمعجزات الدالة على صدقهم وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا أي وقد علم الله منهم أنهم يصرون على الكفر كَذلِكَ أي مثل الإهلاك الشديد الذي هو الاستئصال بالمرة نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) أي نجزي كل طائفة مجرمين لاشتراكهم لأولئك المهلكين في الجرائم التي هي تكذيب الرسول ثُمَّ جَعَلْناكُمْ يا أهل مكة خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد إهلاك أولئك القرون لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) أي لنعاملكم معاملة من يطلب العلم بما يكون منكم من خير أو شر فنجازيكم على حسب عملكم وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ أي أهل مكة الوليد بن المخزومي، والعاص بن وائل السهمي، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن الحنظلة، آياتُنا الدالة على بطلان الشرك بَيِّناتٍ أي ظاهرة في دلالتها على وحدانيتنا وصحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا أي لا يرجون في لقائنا خيرا على طاعة لأنهم لا يؤمنون بالبعث بعد الموت ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أي بكتاب آخر على غير ترتيب هذا الكتاب أَوْ بَدِّلْهُ بأن تجعل مكان آية العذاب آية رحمة ومكان الحرام حلالا، ومكان الذم مدحا وإنما قالوا ذلك على سبيل السخرية كقولهم: لو جئتنا بقرآن آخر أو بدلت هذا القرآن لآمنا بك أو على سبيل التجربة حتى إنه صلّى الله عليه وسلّم لو فعل ذلك علموا أنه كذاب في قوله: إن هذا القرآن ينزل عليه من عند الله قُلْ لهم: ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي أي ما يستقيم لي أن أغيره من قبل نفسي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ
__________
(1) رواه الحاكم في المستدرك (1: 544) .(1/481)
أي ما أتبع في شيء مما أفعل وأترك إلا ما يوحى إليّ في القرآن من غير تغيير له في شيء أصلا إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بالإعراض عن اتباع الوحي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) وهو يوم القيامة قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ أي قل يا أشرف الخلق للذين طلبوا منك تغيير القرآن: لو شاء الله عدم تلاوتي للقرآن عليكم بأن لم ينزله عليّ ولم يأمرني بتلاوته ما تلوته عليكم وما أعلمكم به بواسطتي.
وقرأ الحسن «ولا أدرؤكم به» أي ولا أجعلكم بتلاوته عليكم خصما تدرأونني بالجدال وتكذبونني. وقرأ ابن عباس «ولا أنذرتكم به» . وعن ابن كثير و «لأدراكم» بلام التأكيد التي تقع في جواب لو، أي ولأعلمكم به على لسان غيري فإنه حق لا محيص عنه ولو لم يرسلني الله به لأرسل غيري به فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً أي فقد مكثت فيما بينكم مقدار أربعين سنة تحفظون أحوالي طرا مِنْ قَبْلِهِ أي قبل أن يوحى إليّ هذا القرآن لم آتكم بشيء أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) أي ألا تدبرون فلا تعقلون أن القرآن ليس من تلقاء نفسي، ووجه هذا الاحتجاج أن أولئك الكفار كانوا قد شاهدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أول عمره إلى ذلك الوقت وعلموا أحواله وأنه كان أميا لم يطالع كتابا ولم يتلمذ لأستاذ، ثم بعد أربعين سنة جاءهم بهذا الكتاب المشتمل على نفائس العلوم وأخبار الماضين وفيه من الأحكام والأدب والفصاحة ما أعجز العلماء والفصحاء عن معارضته وكل من له عقل سليم يعلم أن هذا القرآن لا يحصل إلا بالوحي من الله تعالى فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أي إني لم أفتر على الله كذبا ولم أكذب عليه في قولي إن هذا القرآن من عند الله ولو لم يكن من عند الله بحيث افتريته على الله لما كان في الدنيا أحد أظلم على نفسه مني فإذا أنكرتم ذلك فقد كذبتم بآيات الله فثبت كونكم أظلم الناس على أنفسكم إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) أي لا ينجو من عذاب الله المشركون وَيَعْبُدُونَ أي هؤلاء المشركون مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ في الدنيا والآخرة وَلا يَنْفَعُهُمْ فيهما وهو الأصنام كان أهل الطائف يعبدون اللات وأهل مكة يعبدون عزى ومناة وهبل وإسافا ونائلة وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ الأوثان شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ أي فإنهم يزعمون أنهم تشفع لهم في الدنيا في إصلاح معايشهم لأنهم كانوا لا يعتقدون بعثا بعد الموت أو تشفع لهم في الآخرة أن يبعثوا لأنهم كانوا شاكين في البعث قُلْ تبكيتا لهم: أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ أي أتخبرون الله بالذي لم يعلمه الله- وهو شفاعة الأصنام- وإذا لم يعلم الله شيئا استحال وجود ذلك الشيء لأنه تعالى لا يعزب عن علمه شيء سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) أي عن شركائهم الذين يعتقدونهم شفعاء لهم عند الله.
وقرأ حمزة والكسائي «تشركون» بالتاء على الخطاب وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً(1/482)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
أي كانوا على دين الإسلام من لدن آدم إلى أن قتل قابيل هابيل فَاخْتَلَفُوا بأن كفر بعضهم وثبت آخرون على دين الإسلام وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ أي لولا أنه تعالى أخبر بأنه يبقى التكليف على عباده وإن كانوا كافرين لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بتعجيل الحساب والعقاب لكفرهم، ولما كان ذلك سببا لزوال التكليف وكان إبقاؤه أصلح أخر الله العقاب إلى الآخرة فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) أي في الدين الذي اختلفوا بسببه وَيَقُولُونَ أي كفار مكة لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ أي هلا أنزل الله على محمد عليه السلام آيَةٌ أخرى سوى القرآن مِنْ رَبِّهِ دالة على صدق ما يقول كما كان لصالح من الناقة، ولموسى من العصا فَقُلْ لهم في الجواب: إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ أي إن ما اقترحتموه وزعمتم أنه من لوازم النبوة، وعلقتم إيمانكم بنزوله هو من الغيوب المختصة بالله تعالى لا علم لي به فَانْتَظِرُوا نزوله إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) لما يفعل الله بكم لاجترائكم على جحود الآيات القرآنية واقتراح غيرها.
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا أي إن مشركي أهل مكة عادتهم اللجاج والعناد لأنه تعالى سلط عليهم القحط سبع سنين حتى كادوا يهلكون، فأنزل الله الأمطار النافعة على أراضيهم حتى أخصبت البلاد وعاش الناس بعد ذلك، ثم إنهم أضافوا تلك المنافع الجليلة إلى الأنواء والكواكب أو الأصنام، وإذا كان كذلك فبتقدير أن يعطوا ما سألوا من إنزال ما اقترحوه فإنهم لا يؤمنون بل يبقون على كفرهم قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً أي إن هؤلاء الكفار لما قابلوا نعمة الله بالمكر فالله تعالى قابل مكرهم بمكر أشد من ذلك، وهو إهلاكهم يوم بدر، وحصول الفضيحة، والخزي في الدنيا، وعذاب شديد يوم القيامة. ومعنى الوصف بالأسرعية أنه تعالى قضى بعقابهم قبل تدبيرهم مكايدهم، والمكر من الله تعالى إما الاستدراج أو الجزاء على المكر أي إخفاء الكيد إِنَّ رُسُلَنا الذين يحفظون أعمالكم يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21) أي مكركم. ويعرض عليكم ما في بواطنكم الخبيثة يوم القيامة هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ مشاة وركبانا وَالْبَحْرِ.
وقرأ ابن عامر «ينشركم» بنون ساكنة فشين معجمة مضمومة أي يبسطكم حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ أي السفن وَجَرَيْنَ أي السفن بِهِمْ أي بالذين فيها بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ موافقة للمقصود وَفَرِحُوا بِها أي بتلك الريح فرحا تاما جاءَتْها أي تلقت تلك الريح الطيبة رِيحٌ عاصِفٌ أي شديد أزعجت سفينتهم وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ العظيم الذي أرجف قلوبهم مِنْ كُلِّ مَكانٍ أي ناحية وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ أي ظنوا القرب من الهلاك دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي من غير أن يشركوا معه تعالى شيئا من آلهتهم، أي وهم مقرون بوحدانية الله وربوبيته لأجل علمهم بأنه لا ينجيهم من ذلك إلا الله تعالى فيكون إيمانهم جاريا مجرى الإيمان الاضطراري قائلين: والله لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ الشدائد لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) لنعمك فَلَمَّا أَنْجاهُمْ من هذه البلية العظيمة إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي يترقون في الفساد والجراءة على الله تعالى بالكفر والمعاصي يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا.(1/483)
قرأ الأكثرون: «متاع» بالرفع «فبغيكم» مبتدأ و «متاع» خبره، أو «على أنفسكم» خبره، و «متاع» خبر محذوف، أي إن ظلم بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا وهي مدة حياتكم لا بقاء لها، أو أن الظلم لبعضكم كائن عليكم في الحقيقة لا على الذين تظلمون عليهم وهو منفعة سريعة الزوال. وقرأ حفص عن عاصم بنصب متاع على أنه مصدر مؤكد لفعل مقدر، أي تتمتعون متاع أو مصدر وقع موقع الحال أي متمتعين بالحياة الدنيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ بعد الموت فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) في الدنيا
من البغي أي قصد الاستعلاء بالظلم فنجازيكم على أعمالكم إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ أي لأنه إذا نزل المطر يثبت بسببه أنواع كثيرة من النبات وتكون تلك الأنواع مختلطة مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ من البقول والزروع والحشيش حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها أي حتى إذا جعلت الأرض آخذة لباسها من كل نبات وَازَّيَّنَتْ بجميع الألوان الممكنة في الزينة من حمرة وخضرة وصفرة وذهبية وبياض وَظَنَّ أَهْلُها أي أهل النبات الموجودة في الأرض أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أي على تحصيل ثماره وعلى حصاده أَتاها أي نبات الأرض أَمْرُنا بهلاكنا بنار أو برد أو ريح لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها أي نبات الأرض حَصِيداً أي شبيها بالمقلوع فلا شيء على الأرض كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ أي كأن تلك النباتات لم تكن قائمة على ظهر الأرض في الزمن الماضي. والمعنى أن هذه الحياة الدنيا التي ينتفع بها المرء مثل النبات الذي لما عظم الرجاء في الانتفاع به وقع اليأس منه بالهلاك، والمتمسك بالدنيا إذا نال منها بغيته أتاه الموت بغتة فسلبه ما هو فيه من نعيم الدنيا ولذتها. كَذلِكَ أي مثل ذلك التفصيل نُفَصِّلُ الْآياتِ أي نبين الآيات القرآنية في فناء الدنيا لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) ويقفون على معانيها وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ.
روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «مثلي ومثلكم شبه سيد بني دارا ووضع مائدة وأرسل داعيا، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المائدة ورضي عنه السيد، ومن لم يجب لم يدخل ولم يأكل ولم يرض عنه السيد»
«1» . فالله السيد والدارين الإسلام، والمائدة الجنة، والداعي محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وعن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان بحيث يسمع كل الخلائق- إلا الثقلين- أيها الناس. هلموا إلى ربكم والله يدعو إلى دار السلام»
«2» . وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) أي إجابة تلك الدعوة لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا أي
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الاعتصام، باب: الاقتداء بسنن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والدارمي في المقدمة، باب: صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم في الكتب قبل مبعثه.
(2) رواه المنذري في الترغيب والترهيب (2: 49) .(1/484)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)
أتوا بالمأمور به واجتنبوا المنهيات الْحُسْنى وَزِيادَةٌ أي نضرة الوجوه ورؤية الله تعالى. وعن ابن عباس: أن الحسنى هي الحسنة والزيادة عشر أمثالها. وعن علي: الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة وَلا يَرْهَقُ أي لا يعلو وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ أي سواد وَلا ذِلَّةٌ أي أثر هوان أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26) أي دائمون بلا انتقال وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ أي الكفر والمعاصي جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها من غير زيادة بعدل الله تعالى وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ أي ويعلو أنفسهم ذلة عظيمة ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ أي ما لهم عاصم من عذاب الله كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أي كأن الوجوه ألبست سوادا من الليل لفرط سوادها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً أي نحشر الكل حال اجتماعهم لا يتخلف منهم أحد وهو يوم القيامة ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أي نقول للمشركين من بينهم: مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ أي الزموا أنتم ومن عبدتموه من دون الله مكانكم حتى تسألوا وتنظروا ما يفعل بكم فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ أي فباعدنا بين المشركين ومعبوداتهم بعد الجمع في الموقف، وتبرأ شركاؤهم منهم ومن عبادتهم وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ لهؤلاء المشركين ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) بأمرنا وإرادتنا إنما كنتم تعبدون أهواءكم وشياطينكم الذين أغووكم فإنها الآمرة لكم بالإشراك فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) أي إنا كنا عن عبادتكم لجاهلين لا نعلمها ولا نرضى بها هُنالِكَ أي في ذلك المقام أو في ذلك الوقت تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ بالتاء، فالباء على القراءة المشهورة أي تذوق كل نفس سعيدة أو شقية ما قدمت من عمل فتعلم نفعه وضره.
وقرأ حمزة والكسائي «تتلو» بتاءين أي تقرأ كل نفس في صحيفة أعمالها ما قدمت من خير أو شر أو تتبع ما أسلفت، لأن عملها هو الذي يهديها إلى طريق الجنة أو إلى طريق النار.
وقرأ عاصم «نبلو كل نفس» بالنون والباء ونصب «كل» ، أي نختبر كل نفس بسبب اختبار ما أسلفت من العمل، أي نفعل بها فعل المختبر، أو المعنى نصيب بالبلاء- الذي هو العذاب- كل نفس عاصية بسبب ما أسلفت من الشر وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أي أعرض الذين أشركوا عن المولى الباطل ورجعوا إلى المولى الحق وأقروا بألوهيته بعد أن كانوا في الدنيا يعبدون غيره، وردوا إلى حكمه وَضَلَّ عَنْهُمْ أي ضاع عنهم في الموقف ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30) أي يدعون أن معبوداتهم آلهة وأنها تشفع لهم
قُلْ لأولئك المشركين: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي رزقا مبتدأ منهما أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ أي بل من يستطيع خلق الأسماع والأبصار ومن يحفظهما من الآفات.
وعن علي رضي الله تعالى عنه كان يقول: سبحان من بصر بشحم، وأسمع بعظم، وأنطق بلحم وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ أي ومن يقدر أن يخرج الإنسان من(1/485)
النطفة، والطائر من البيضة، وأن يخرج النطفة من الإنسان، والبيضة من الطائر وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي من يدبر أحوال العالم جميعا فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ أي إن الرسول إذا سألهم عن مدبر هذه الأحوال كانوا يعرفون الله وهم الذين قالوا في عبادتهم للأصنام: إنها تقربنا إلى الله وإنها تشفع عند الله وكانوا يعلمون أنها لا تنفع ولا تضر، فعند ذلك قال الله تعالى لرسوله فَقُلْ عند ذلك تبكيتا لهم أَفَلا تَتَّقُونَ (31) أي أتعلمون ذلك فلا تتقون أن تجعلوا هذه الأوثان شركاء لله في العبودية مع اعترافكم بأن كل الخيرات في الدنيا والآخرة إنما تحصل من رحمة الله وبأن هذه الأوثان لا تنفع ولا تضر ألبتة فَذلِكُمُ اللَّهُ أي فمن هذه قدرته ورحمته هو الله رَبُّكُمُ الْحَقُّ أي الثابت ربوبيته ثباتا لا ريب فيه فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ أي ليس غير الحق إلا الضلال أي فإذا ثبت أن عبادة الله حق ثبت أن عبادة غيره من الأصنام ضلال محض إذ لا واسطة بينهما فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) أي فكيف تمالون من التوحيد إلى الإشراك وعبادة الأصنام كَذلِكَ أي مثل صرفهم عن الحق بعد الإقرار به حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي حكمه عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أي خرجوا عن حد الصلاح أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33) بدل من كلمة بدل كل من كل قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ أي هل من الأصنام التي أثبتم شركتها لله في استحقاق العبادة مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ أي ينشئ المخلوقات من العدم ثُمَّ يُعِيدُهُ في القيامة للجزاء ولما لم يقدروا على الجواب أمر الله رسوله أن ينوب عنهم في الجواب فقال قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) أي فكيف تقبلون من الحق إلى الباطل قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أي إلى ما فيه صلاح أمركم فإن أدنى مراتب المعبودية هداية المعبود لعابديه إلى ذلك قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ دون غيره وذلك بنصب الأدلة وإرسال الرسال وإنزال الكتب وبالتوفيق للنظر أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وهو الله تعالى أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أي حقيق أن يطاع ويعبد أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى أي أم من لا ينتقل إلى مكان إلا أن ينقل إليه لأن الأصنام خالية عن الحياة والقدرة، أو المعنى أم من لا يهتدي في حال من الأحوال إلا في حال هدايته تعالى له وهذا حال أشراف شركائهم من الملائكة والمسيح وعزير عليهم السلام.
وقرأ ابن كثير وابن عامر وورش عن نافع «أم من لا يهدي» بفتح الياء والهاء وتشديد الدال.
وقرأ عاصم وحفص بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال. وقرأ حماد ويحيى بن آدم عن أبي بكر عن عاصم بكسر الياء والهاء. وقرأ حمزة والكسائي «يهدي» ساكنة الهاء. فَما لَكُمْ أي أيّ شيء ثبت لكم في اتخاذكم هؤلاء شركاء لله تعالى فإنهم عاجزون عن هداية أنفسهم فكيف يمكن أن يهدوا غيرهم كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) أي كيف تحكمون بالباطل وتجعلون لله شركاء وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا أي ما يتبع أكثرهم في معتقداتهم إلا ظنا واهيا أما بعضهم فقد يتبعون العلم فيقفون على بطلان الشرك لكن لا يقبلون العلم عنادا، وفي ذلك دليل على أن تحصيل العلم في الأصول واجب، والاكتفاء بالتقليد والظن غير جائز إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ أي عن العلم
شَيْئاً
من(1/486)
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)
الإغناء في العقائد إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36) من الاتباع للظنون الفاسدة والإعراض عن البراهين القاطعة وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ أي وما صح أن يكون هذا القرآن المشحون بفنون الحجج الناطقة ببطلان الشرك وحقية التوحيد مفترى من الخلق وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي ولكن القرآن تصديق الذي قبله من الكتب الإلهية المنزلة على الأنبياء قبله وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ أي وتفصيل جميع العلوم العقلي والنقلي الذي يمتنع حصوله في سائر الكتب لا رَيْبَ فِيهِ أي منتفيا عنه الريب مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) أي كائنا من رب العالمين أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أي أيقرون بالقرآن بل يقول كفار مكة اختلق محمد صلّى الله عليه وسلّم القرآن من تلقاء نفسه قُلْ لهم إظهارا لبطلان مقالتهم الفاسدة فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ أي إن كان الأمر كما تقولون فأتوا بسورة مثل القرآن في الفصاحة وحسن الصياغة، وقوة المعنى على وجه الافتراء فإنكم مثلي في العربية والفصاحة، وأشد تمرنا مني في النظم والعبارة وَادْعُوا للمعاونة مَنِ اسْتَطَعْتُمْ دعاءه مِنْ دُونِ اللَّهِ أي من سائر خلق الله إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) في أني افتريته بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ أي بل كذبوا بما لم يدرك علمهم به مسرعين في ذلك من غير أن يتدبروا فيه ولم يبلغ أذهانهم معانيه الرائقة المنبئة عن علو شأنه كَذلِكَ أي مثل ذلك التكذيب من غير تدبر كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ما كذبوا من المعجزات التي ظهرت على أيدي أنبيائهم فَانْظُرْ يا أشرف الخلق كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) فإنهم طلبوا الدنيا وتركوا الآخرة فلما ماتوا فاتتهم الدنيا والآخرة فبقوا في الخسار العظيم وَمِنْهُمْ أي ومن هؤلاء المكذبين مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ أي القرآن عند الإحاطة بعلمه أي إما يعتقد بحقية القرآن فقط بأن يصدق به في نفسه ويعلم أنه حق ولكن يعاند، وإما سيؤمن به ويتوب عن الكفر وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ أي بأن لا يصدق به في نفسه لفرط غباوته أو لسخافة عقله وعجزه عن تخليص علوم عن مخالطة الظنون أو بأن يموت على كفره وهم المستمرون على اتباع الظن من غير انقياد للحق وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) أي بالمصرين على الكفر من المعاندين والشاكين
وَإِنْ كَذَّبُوكَ أي أصروا على تكذيبك بعد إلزام الحجة بالتحدي فَقُلْ لهم: لِي عَمَلِي من الإيمان وجزاء ثوابه وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ من الشرك وجزاء عقابه أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) أي لا تؤاخذون بعملي ولا أؤاخذ بعلمكم وَمِنْهُمْ أي من هؤلاء المشركين مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ عند قراءتك القرآن وتعليمك الشرائع أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أي أأنت تقدر على إسماع الصم وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) أي ولو انضم إلى صممهم عدم عقلهم وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أي من يعاين دلائل صدقك أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ أي أعقب ذلك أنت تهديهم وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) أي لا يستبصرون بقلوبهم ولا يعتبرون إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً أي بسبب حواسهم وعقولهم وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) بإفساد الحواس والعقول وتفويت منافعها عليها فإن الفعل منسوب إليهم::(1/487)
أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)
بسبب الكسب، وإن كان قد سبق قضاء الله وقدره فيهم وتقدير الشقاوة عليهم لا يكون ظلما منه تعالى لأنه يتصرف في ملكه كيف يشاء والخلق كلهم عبيده وكل من تصرف في ملكه لا يكون ظالما وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ أي وأنذر المشركين المنكرين للعبث يوم يحشرهم في الموقف مشبهين من لم يلبث في الدنيا ولم يتقلب في نعيمها إلا مقدار ساعة من النهار فإن عاقبة الكافر خالصة مقرونة بالإهانة، ولذات الدنيا مع خساستها لم تكن خالصة بل كانت مخلوطة بالهمومات الكثيرة، وكانت تلك اللذات مغلوبة بالمؤلمات والآفات وكانت لم تحصل إلا في بعض الأوقات، أما آلام الآخرة فهي سرمدية لا تنقطع ألبتة ونسبة عمر جميع الدنيا إلى الآخرة الأبدية أقل من الجزء الذي لا يتجزأ بالنسبة إلى ألف ألف عالم مثل العالم الموجود، فمتى قوبلت الخيرات الحاصلة بسبب الحياة العاجلة بالآفات الحاصلة للكافر وجدت أقل من اللذة بالنسبة إلى جميع العالم يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ أي يوبخ بعضهم بعضا فيقول كل فريق للآخر: أنت أضللتني يوم كذا وزينت لي الفعل الفلاني من القبائح قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45) أي قد هلكوا بتكذيبهم بالبعث بعد الموت، وضلوا وما كانوا عارفين لطريق النجاة وهذه شهادة من الله تعالى على خسرانهم وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ أي وإن أريناك بعض العذاب الذي نعدهم به بأن نعجله لهم في حياتك في الدنيا فتراه، وإن توفيناك قبل نزول العذاب بهم فإنك ستراه في الآخرة لأن العذاب لا يفوتهم بل ننزله بهم في الآخرة ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46) أي ثم الله معاقب على ما يفعلونه. وقرئ ثمة أي هناك وَلِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم الماضية رَسُولٌ يبعث إليهم بشريعة خاصة مناسبة لأحوالهم ليدعوهم إلى الحق فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ فبلغهم ما أرسل إليهم، فكذبه بعضهم وصدقه بعضهم قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي بالعدل، أي فصل بينهم وحكم بهلاك المكذبين وبنجاة الرسول ومن صدقه وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) في ذلك القضاء بتعذيبهم لأنه بجرمهم وَيَقُولُونَ أي قال: كل أهل دين لرسولهم على وجه التكذيب للرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما أخبرهم من نزول العذاب للأعداء مَتى هذَا الْوَعْدُ الذي تعدنا بنزول العذاب إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) في أنه يأتينا قُلْ يا أشرف الخلق لقومك الذين استعجلوا نزول العذاب على طريقة الاستهزاء به والإنكار لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً أي لا أقدر على دفع ضر ولا جلب نفع لنفسي إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أي ولكن ما شاء الله من ذلك كائن لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ أي وقت معين خاص بهم إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ أي وقت هلاكهم فَلا يَسْتَأْخِرُونَ عن ذلك الأجل ساعَةً أي شيئا قليلا من الزمان وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) عليه قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أي قل للذين يستعجلون العذاب أخبروني عن عذاب الله إن أتاكم وقت اشتغالكم بالنوم أو عند اشتغالكم بمشاغلكم أي شيء تستعجلون من عذاب الله وليس شيء من العذاب يستعجله عاقل إذ العذاب كله مر المذاق موجب لنفار الطبع منه
أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ أي أبعد ما وقع العذاب بكم حقيقة::(1/488)
آمنتم به حين لا ينفعكم الإيمان آلْآنَ تؤمنون بالعذاب وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ أي بالعذاب تَسْتَعْجِلُونَ (51) أي تكذبون فإن استعجالهم كان على جهة التكذيب والإنكار ثُمَّ قِيلَ يوم القيامة على لسان ملائكة العذاب لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أي وضعوا الكفر والتكذيب موضع الإيمان والتصديق ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ أي العذاب المؤلم على الدوام هَلْ تُجْزَوْنَ في الآخرة إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) في الدنيا من أصناف الكفر والمعاصي، وهذا استثناء مفرغ والجار والمجرور مفعول ثان «لتجزون» والأول قائم مقام الفعل.
تنبيه: أين ما ذكر الله تعالى العذاب ذكر هذه العلة كأن سائلا يقول: يا رب العزة أنت الغني عن الكل فكيف يليق برحمتك هذا التشديد؟ فهو تعالى يقول: ما أنا عاملته بهذه المعاملة ابتداء بل هذا وصل إليه جزاء على عمله الباطل. وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أي يستخبرونك يا أشرف الخلق- والقائل حيي بن أخطب- لما قدم مكة بطريق الاستهزاء والإنكار: أَحَقٌّ هُوَ أي ما تعدنا من نزول العذاب علينا في الدنيا، وما تعدنا من البعث والقيامة. قُلْ لهم في الجواب هذه الأمور الثلاثة غير ملتفت إلى استهزائهم: إِي وَرَبِّي ف «إي» من حروف الجواب بمعنى «نعم» في القسم خاصة كما أن «هل» بمعنى «قد» في الاستفهام خاصة. إِنَّهُ أي العذاب الموعود لَحَقٌّ أي لثابت وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) لمن وعدكم بالعذاب أن ينزله عليكم وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ وهو لا حق بكم بالشرك أو غيره من أنواع الظلم ولو مرة ما فِي الْأَرْضِ أي ما في الدنيا من الأموال لَافْتَدَتْ بِهِ أي لفادت بما في الدنيا نفسها من عذاب الله وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ أي أخفوا الندامة على ترك الإيمان حين عاينوا العذاب فلم يقدروا على أن ينطقوا بشيء لشدة الأهوال وفظاعة الحال وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي بين الظالمين بالشرك وغيره بِالْقِسْطِ أي بالعدل وَهُمْ أي الظالمون لا يُظْلَمُونَ (54) فيما فعل بهم من العذاب أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ما وجد فيهما أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي إن جميع ما وعد الله به ثابت لا بد أن يقع، ووعده تعالى مطابق للواقع وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55) أي غافلون عن هذه الدلائل هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ في الدنيا وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) بعد الموت للجزاء يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) أي قد جاءكم كتاب فيه بيان ما ينفع المكلف وما يضره ودواء للقلوب وهدي إلى الحق ورحمة للمؤمنين بإنجائهم من الضلال إلى نور الإيمان وتخلصهم من دركات النيران إلى درجات الجنان. والحاصل أن الموعظة إشارة إلى تطهير الظاهر عمّا لا ينبغي وهو الشريعة، والشفاء إشارة إلى تطهير الباطن عن العقائد الفاسدة، والأخلاق الذميمة وهو الطريقة، والهدي إشارة إلى ظهور نور الحق في قلوب الصديقين وهو الحقيقة والرحمة إشارة إلى بلوغ الكمال قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا أي فليفرحوا بتلك النعم لا من حيث هي بل من حيث إنها بفضل الله وبرحمة الله. قال الصديقون::::(1/489)
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
من فرح بنعمة الله من حيث إنها تلك النعمة فهو مشرك، أما من فرح بنعمة الله من حيث إنّها من الله كان فرحه بالله وذلك غاية الكمال ونهاية السعادة.
وقال أبو سعيد الخدري: فضل الله القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله. هُوَ أي المذكور من فضل الله ورحمته خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) من الدنيا لأن الآخرة أبقى. وقرأ ابن عامر بالتاء على الخطاب، وأما «فليفرحوا» فبالياء التحتية عند السبعة ولا يقرؤه بالتاء الفوقية إلا يعقوب من العشرة كما هو مروي عن زيد بن ثابت. والمعنى فبذلك فلتفرحوا يا أصحاب محمد هو خير مما يجمع الكفار قُلْ أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ أي الذي خلقه الله لكم من حرث وأنعام فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا أي فحكمتم بأن بعض الرزق حرام وبعضه حلال مع كون كله حلالا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ فقل تأكيد الأمر بالاستخبار أي أخبروني الله أمركم بذلك الحكم فأنتم ممتثلون بأمره تعالى؟ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) أي أم لم يأذن لكم في ذلك بل على الله تكذبون بنسبة ذلك إليه وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي أيّ شيء ظنهم يوم عرض الأفعال والأقوال أيحسبون أنهم لا يسألون عن افترائهم أو لا يجازون عليه ولأجل ذلك يفعلون ما يفعلون! كلا إنهم لفي أشد العذاب لأن معصيتهم أشد المعاصي إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ بإعطاء العقل وإرسال الرسل وإنزال الكتب، وإمهالهم على سوء أفعالهم وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60) تلك النعم فلا يستعملون العقل في التأمل في دلائل الله تعالى ولا يقبلون دعوة أنبياء الله تعالى ولا ينتفعون باستماع كتب الله
وَما تَكُونُ يا أشرف الخلق فِي شَأْنٍ أي أمر من أمور الدنيا وَما تَتْلُوا مِنْهُ أي الشأن مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ أي أيّ عمل كان إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ أي تشرعون فِيهِ أي في ذلك المذكور وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ أي ولا يغيب عن علم ربك ما يساوي في الثقل نملة صغيرة أو هباء في دائرة الوجود.
وقرأ الكسائي بكسر الزاي وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ أي الذرة وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61) أي في لوح محفوظ. وقرأ حمزة بالرفع على الابتداء والخبر. والباقون بالنصب على أن لا نافية للجنس وما بعدها اسمها وخبرها أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ في الدارين من لحوق مكروه وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) من فوات مطلوب الَّذِينَ آمَنُوا بكل ما جاء من عند الله تعالى وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) والتقوى هنا التجنب عن كل إثم والتنزه عن كل ما يشغل السر عن الله تعالى والتبتل إليه تعالى بالكلية وهذا تفسير للأولياءهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
فالبشرى في الدنيا محبة الناس لهم وذكرهم إياهم بالثناء الحسن، والرؤيا الصالحة، وبشرى الملائكة لهم عند الموت وفي الآخرة تلقى الملائكة إياهم مبشرين بالفوز والكرامة، وبياض::::(1/490)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80)
الوجوه، وإعطاء الصحف بأيمانهم وما يقرءون منها ومن غير ذلك من البشارات تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
أي لا خلف في أقواله لِكَ
أي حصول البشرى لهم في الدارين وَالْفَوْزُ الْعَظِيمُ
(64) الذي لا فوز وراءه وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ أي لا تحزن بما يتفوهون به في شأنك مما لا خير فيه، ولا تبال بتكذيبهم وتشاورهم في تدبير هلاكك وإبطال أمرك.
وقرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً أي إن القوة لله جميعا فهو يعصمك منهم وينصرك عليهم حتى تكون أقوى منهم هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أي يسمع ما يقولون في حقك ويعلم ما يعزمون عليه وهو مكافؤهم بذلك أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ من الملائكة والثقلين، وإذا كان هؤلاء في ملكه تعالى فالجمادات أحق أن لا تكون شركاء له تعالى وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ أي وما يتبع الذين يعبدون من دون الله آلهة شركاء ف «آلهة» مفعول «يدعون» و «شركاء» مفعول «يتبع» إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أي إن المشركين ما اتبعوا شريك الله تعالى إنما اتبعوا شيئا ظنوه شريكا لله تعالى وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) أي ما هم إلا يكذبون فيما ينسبونه إليه تعالى ويقدرون أن معبوداتهم شركاء تقديرا باطلا هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً أي هو الذي صيّر لكم الليل لتستريحوا فيه من تعب النهار والنهار مضيئا لتهتدوا به في حوائجكم بالإبصار ولتتحركوا فيه لمعاشكم إِنَّ فِي ذلِكَ أي الجعل لَآياتٍ أي لعبرات لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) مواعظ القرآن فيعلمون بذلك أن الذي خلق هذه الأشياء كلها هو الله المنفرد بالوحدانية في الوجود قالُوا أي كفار مكة: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً أي الملائكة بنات الله سُبْحانَهُ قال تعالى ذلك تنزيها لنفسه عما نسبوه إليه وتعجيبا من كلمتهم الحمقاء هُوَ الْغَنِيُّ عن كل شيء في كل شيء لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ من ناطق وصامت ملكا وخلقا إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أي ما عندكم حجة بهذا القول الباطل أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (68) أي أتنسبون إليه تعالى ما لا يجوز نسبته إليه تعالى جهلا منكم قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) أي لا يصلون إلى مقاصدهم وكل من قال في ذات الله تعالى وصفاته قولا بغير علم، وبغير حجة بينة كان داخلا في هذا الوعيد مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) أي حياتهم متاع قليل في الدنيا، ثم لا بد من الموت وعند الموت لا بد من الرجوع إلى الله، وعند هذا الرجوع لا بد وأن يذيقهم الله العذاب الشديد بسبب كونهم كافرين فأين هم من الفلاح؟
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ أي المشركين نَبَأَ نُوحٍ أي خبره مع قومه الذين هم أشباه قومك في العناد ليصير داعيا إلى مفارقة الإنكار للتوحيد والنبوة إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ وهم بنو قابيل يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ أي ثقل عَلَيْكُمْ مَقامِي أي مكثي فيكم مدة طويلة وَتَذْكِيرِي أي وعظي إياكم بِآياتِ اللَّهِ أي بحجته فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ أي فوضت أمري(1/491)
إلى الله فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ أي فاعزموا على أمركم الذي تريدون بي من السعي في إهلاكي وَشُرَكاءَكُمْ أي وادعوا من يشاركونكم في الدين والقول، أو ادعوا أوثانكم التي سميتموها بالآلهة وتقدير «ادعوا» هو كما في مصحف أبي، ويصح أن يكون و «شركاءكم» مفعولا معه من الضمير في «فأجمعوا» . وقرأه الحسن وجماعة من القراء بالرفع عطفا عليه ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً أي خفيا. وليكن ظاهرا ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ أي أدوا إليّ ذلك الأمر الذي تريدون بي ونفذوه إليّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) أي لا تمهلون بعد إعلامكم إياي ما اتفقتم عليه فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ أي إن أعرضتم عن نصيحتي فلا ضير علي لأني ما سألتكم بمقابلة وعظي من أجر تؤدونه إليّ حتى يؤدي ذلك إلى إعراضكم إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ أي ما ثوابي على التذكير إلا عليه تعالى يثيبني به آمنتم أو توليتم وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) أي وإني مأمور بالاستسلام لكل ما يصل إليّ منكم لأجل هذه الدعوة فَكَذَّبُوهُ أي استمروا على تكذيب نوح بعد ما بين لهم المحجة فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ أي السفينة من المسلمين من الغرق وكانوا أربعين رجلا وأربعين امرأة وَجَعَلْناهُمْ أي أصحاب نوح خَلائِفَ من الهالكين بالغرق فيسكنون في الأرض وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بالطوفان فَانْظُرْ يا أشرف الخلق كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) أي كيف صار آخر أمر الذين أنذرتهم الرسل فلم يؤمنوا ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ كان منهم هود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي فجاء كل رسول قومه المخصوصين بالمعجزات الدالة على صدق ما قالوا فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ أي فما كانوا ليصدقوا بما كذبوا به من أصول الشرائع التي أجمعت عليها الرسل قاطبة.
ودعوا أممهم إليها من قبل مجيء رسلهم أي كانت حالهم بعد مجيء الرسل كحالهم قبل ذلك كأن لم يبعث إليهم أحد كَذلِكَ أي مثل ذلك الطبع نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) أي المتجاوزين عن الحدود في كل زمن ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد أولئك الرسل مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ أي وأشراف قومه بِآياتِنا أي التسع: اليد، والعصا، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والسنين، وطمس الأموال، فَاسْتَكْبَرُوا أي فأتياهم فبلغاهم الرسالة فاستكبروا عن اتباعهما أي ادعوا الكبر من غير استحقاق وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) أي دوي آثام عظام فلذلك اجترءوا على الاستهانة برسالة الله تعالى فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا وهو العصا واليد البيضاء قالُوا من فرط عنادهم إِنَّ هذا أي الذي جاء به موسى لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) أي ظاهر يعرفه كل أحد قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ ما تقولون من أنه سحر أَسِحْرٌ هذا أي أسحر هذا الذي أمره واضح مكشوف وشأنه مشاهد معروف وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) أي والحال أنه لا يفلح فاعلو السحر وهذه جملة حالية من الواو في أتقولون قالُوا لموسى وهارون عاجزين عن المحاجة أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا أي لتصرفنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أي من عبادة الأصنام(1/492)
فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد، ج 1، ص: 493 وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ أي الملك والعز فِي الْأَرْضِ أي أرض مصر وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78) أي بمصدقين وَقالَ فِرْعَوْنُ لملئه: ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) بفنون السحر حاذق فيه.
وقرأ حمزة والكسائي سحار فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ أي فأتوا بالسحرة قالوا لموسى: إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) أي ما معكم من الحبال والعصي
فَلَمَّا أَلْقَوْا حبالهم وعصيهم واسترهبوا الناس قالَ لهم مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ أي الذي جئتم به هو السحر أي التمويه الذي يظهر بطلانه لا ما سماه فرعون وقومه سحرا فهو من آيات الله تعالى. وقرأ أبو عمرو «السحر» بهمزة الاستفهام بإبدال الهمزة الثانية ألفا ومدها مدا لازما أو بتسهيلها من غير قلب وعلى كليهما تجب الإمالة في موسى، والمعنى الذي جئتم به أهو السحر أم لا؟ وهو استفهام وجه التحقير والتوبيخ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ أي سيهلكه بالكلية ويظهر فضيحة صاحبه للناس والسين للتأكيد إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) أي لا يكمله وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ أي يظهره ويقويه بِكَلِماتِهِ أي بوعده لموسى وقضائه وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) ذلك فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ أي فما آمن من قوم موسى إلا قليل منهم وهم بنو إسرائيل الذين كانوا بمصر من أولاد يعقوب وذلك أن موسى دعا الآباء إلى دينه فلم يجيبوا خوفا من فرعون وأجابته طائفة من شبانهم مع الخوف عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أي مع خوف من فرعون لأنه كان شديد البطش وخوف على رؤساء الذرية فإن أشراف بني إسرائيل كانوا يمنعون أولادهم من إجابة موسى خوفا من فرعون عليهم وعلى أنفسهم أَنْ يَفْتِنَهُمْ أي يصرفهم عن الإيمان بتسليط أنواع العذاب عليهم وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ أي لغالب في أرض مصر وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) أي المجاوزين الحد بكثرة القتل والتعذيب لمن يخالفه في أمره من الأمور، وبالكبر حتى ادعى الربوبية واسترق أسباط الأنبياء وَقالَ مُوسى لمن آمن به يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا ولا تخافوا أحدا غيره إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) أي منقادين لأمره تعالى.
قال الفقهاء: الشرط المتأخر يجب أن يكون متقدما، مثاله: قول الرجل لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق، إن كلمت زيدا فمجموع قوله: إن دخلت الدار فأنت طالق مشروط بقوله: إن كلمت زيدا، والمشروط متأخر عن الشرط، فكأنه يقول لامرأته: حال ما كلمت زيدا إن دخلت الدار فأنت طالق، فلو حصل هذا التعليق قبل أن كلمت المرأة زيدا لم يقع الطلاق فقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ يقتضي أن يكون كونهم مسلمين شرطا لأن يصيروا مخاطبين بقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا فكأنه تعالى يقول للمسلم حال إسلامه: إن كنت من المؤمنين بالله فعلى الله توكل والأمر كذلك، لأن الإسلام هو(1/493)
الانقياد لتكاليف الله وترك التمرد، والإيمان هو معرفة القلب بأن واجب الوجود لذاته واحد وما سواه محدث تحت تصرفه وإذا حصلت هاتان الحالتان فعند ذلك يفوض العبد جميع أموره إلى الله تعالى ويحصل في القلب نور التوكل على الله تعالى فَقالُوا مجيبين له عليه السلام: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا ولا نلتفت إلى أحد سواه، ثم دعوا ربهم قائلين رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) أي لا تجعلنا مفتونين لهم أي لا تمكنهم من أن يحملونا بالقهر على أن ننصرف عن هذا الدين الحق الذي قبلناه وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86) أي خلصنا برحمتك من أيدي فرعون وقومه ومن سوء جوارهم وشؤم مصاحبتهم وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً أي اجعلا بمصر بيوتا لقومكما ومرجعا ترجعون إليه للعبادة وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً أي مصلى وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ في بيوتكم إن موسى ومن معه كانوا في أول أمرهم مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم لئلا يظهروا على الكفرة فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم كما كان المؤمنون في أول الإسلام بمكة على هذه الحالة وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) بالنصر في الدنيا وبالجنة في العقبى وخصّ الله تعالى موسى بالبشارة، لأنه الأصل في الرسالة، وهارون تبع له. وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ أي أشراف قومه زِينَةً أي ما يتزين به من اللباس والمراكب ونحوها. وَأَمْوالًا كثيرة من الذهب والفضة وغيرهما فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ دعا عليهم بلفظ الأمر. والمعنى ربنا ابتلهم بالضلال عن سبيلك رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ.
قال ابن عباس: بلغنا أن الدراهم والدنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحا وأنصافا وأثلاثا وجعل سكرهم حجارة وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ أي اجعلها قاسية ومربوطة حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان فَلا يُؤْمِنُوا جواب للدعاء أو دعاء بلفظ النهي، أو عطف على «ليضلوا» حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) وإذا دعا موسى عليهم بهذا الدعاء لما علم أن سابق قضاء الله وقدره فيهم أنهم لا يؤمنون فوافق دعاء موسى ما قدر وقضى عليهم. قالَ الله لموسى وهارون: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فموسى كان يدعو هارون كان يؤمن والتأمين دعاء، وحصول المدعو به بعد أربعين سنة لأن فرعون لبث بعد هذا الدعاء أربعين سنة فَاسْتَقِيما أي فاثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة وإلزام الحجة ولا تستعجلا وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89) بعادات الله تعالى في تعليق الأمور بالمصالح والحكم، أي ولا تسلكا طريق الجاهلين الذين يظنون أنه متى كان الدعاء مجابا كان المقصود حاصلا في الحال، والاستعجال وعدم الوثوق بوعد الله يصدران من الجهال. وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ أي جعلناهم مجاوزين بحر السويس بأن جعلناه يبسا وحفظناهم حتى بلغوا الشط.
قال أهل التفسير: اجتمع يعقوب وبنوه على يوسف وهم اثنان وتسعون، وخرج بنوه مع(1/494)
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)
موسى من مصر وهم ستمائة ألف، وذلك لما أجاب الله دعاء موسى وهارون أمرهما بالخروج ببني إسرائيل من مصر فخرجوا، وقد كان فرعون غافلا عن ذلك، فلما سمع بخروجهم خرج بجنوده في طلبهم فلما أدركهم قالوا لموسى: أين المخلص والبحر أمامنا والعدو وراءنا؟ فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر فضربه، فانفلق، فقطعه موسى وبنو إسرائيل، فلحقهم فرعون وكان على حصان أدهم، وكان معه ثمانية آلاف حصان على لون حصانه سوى سائر الألوان، وكان يقدمهم جبريل على فرس أنثى وميكائيل يسوقهم حتى لا يشذ منهم أحد، فدنا جبريل بفرسه فلما وجد الحصان ريح الأنثى لم يتمالك فرعون من أمره شيئا فنزل البحر وتبعه جنوده حتى إذا اكتملوا جميعا في البحر وهمّ أولهم بالخروج انطبق البحر عليهم فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً أي مفرطين في محبة قتلهم ومجاوزين الحد حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ أي بأن الشأن لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) أي الذين أسلموا نفوسهم لله
فقال له جبريل: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) أي آلآن تؤمن وتتوب وقد صنعت التوبة في وقتها، وآثرت دنياك الفانية على الآخرة الباقية، وقد كنت من الغالين في الضلال والإضلال عن الإيمان، ولم يقبل ذلك من فرعون لأنه إنما آمن عند نزول العذاب وإنما أقر بعزة الربوبية ووحدانية الله تعالى ولم يقر بنبوة موسى ولأن ذلك الإقرار كان مبينا على محض التقليد وهو كان دهريا منكرا لوجود الصانع، وإنما ذكر هذه الكلمة ليتوسل بها إلى دفع تلك البلية الحاضرة فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ أي نلقيك على نجوة من الأرض وهي المكان المرتفع بدرعك وكانت له درع من الذهب يعرف بها.
وقرئ «ننجيك» بالحاء أي نلقيك بناحية الساحل لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً أي لمن وراءك آية وهم بنو إسرائيل إذ قالوا: ما مات فرعون وإنما قالوا ذلك لعظمته عندهم ولما حصل في قلوبهم من الرعب من أجله فأمر البحر فألقاه على الساحل أحمر قصيرا كأنه ثور فرآه بنو إسرائيل فعرفوه، وقرئ «لمن خلفك» فعلا ماضيا أي لتكون لمن يأتي بعدك من الأمم نكالا من الطغيان، وقرئ «لمن خلفك» بالقاف أي لتكون لخالقك آية كسائر آياته فإن إفراده تعالى إياك بالإلقاء إلى الساحل لإبطال دعوى ألوهيتك لأن الإله لا يموت وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92) أي لا يتفكرون فيها وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ أي أسكناهم بعد ما أنجيناهم وأهلكنا أعداءهم منزلا صالحا مرضيا وهو الشام ومصر بلاد البركة والخصب، وأورثهم الله جميع ما كان تحت أيدي فرعون وقومه وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي اللذائذ فَمَا اخْتَلَفُوا في أمر دينهم حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ أي حتى قرءوا التوراة فحينئذ تنبهوا للمسائل والمطالب ووقع الاختلاف بينهم إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ
(93) فيميز المحق من المبطل، والصديق من الزنديق فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ أي القرآن مِنْ رَبِّكَ في خبر الأولين فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) أي(1/495)
الشاكين وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) أنفسا وأعمالا وهذا كله خطاب للنبي ظاهر، أو المراد به غيره ممن عنده شك، ومثل هذا معتاد فإن السلطان الكبير إذا كان له أمير وكان تحت راية ذلك الأمير جمع فإذا أراد أن يأمر الرعية بأمر مخصوص فإنه يوجه الخطاب على ذلك الأمير ليكون ذلك أقوى تأثيرا في قلوبهم. وقيل: هذا الخطاب ليس مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم وذلك أن الناس في زمانه كانوا فرقا ثلاثة المصدقون به والمكذبون له والمتوقفون في أمره، الشاكون فيه فخاطبهم الله تعالى بهذا الخطاب فقال: إن كنت أيها الإنسان في شك مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد فاسأل أهل الكتاب ليدلوك على صحة نبوته وهم عبد الله بن سلام وعبد الله بن صوريا، وتميم الداري، وكعب الأحبار لأنهم هم الذين يوثق بخبرهم إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ أي ثبت عليهم حكمه بأنهم يموتون على الكفر ويخلدون في النار لا يُؤْمِنُونَ (96) أبدا إذ لا كذب في كلامه وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ أي ولو جاءتهم الدلالة التي لا حصر لها لأن الدليل لا يهدي إلا بإعانة الله تعالى حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97) كدأب آل فرعون وأشباههم فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا.
قال أبو مالك صاحب ابن عباس: كل ما في كتاب الله تعالى من ذكر «لولا» فمعناه هلا إلا حرفين فلولا كانت قرية آمنت فمعناه فما كانت قرية آمنت فلولا كان من القرون من قبلكم فمعناه فما كان من القرون وتقدير الآية فما كان أهل قرية آمنوا فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس لما آمنوا أول ما رأوا أمارة العذاب صرفنا عنهم العذاب في الحياة الدنيا وَمَتَّعْناهُمْ بمتاع الدنيا بعد صرف العذاب عنهم إِلى حِينٍ (98) أي إلى وقت انقضاء آجالهم.
روي أن يونس عليه السلام بعث إلى نينوى من أرض الموصل فكذبوه فذهب عنهم مغاضبا فلما فقدوه خافوا نزول العذاب فلبسوا المسوح وعجوا أربعين ليلة وكان يونس قال لهم: إن أجلكم أربعون ليلة فقالوا: إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك فلما مضت خمس وثلاثون ليلة ظهر في السماء غيم أسود هائل فظهر منه دخان شديد، وهبط ذلك الدخان حتى وقع في المدينة، وسوّد سطوحهم، فخرجوا إلى الصحراء، وفرقوا بين النساء وبين الدواب وأولادها، فحنّ بعضها إلى بعض وعلت الأصوات، وكثرت التضرعات، وأظهروا الإيمان والتوبة وتضرعوا إلى الله تعالى فرحمهم، وكشف عنهم، وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء يوم الجمعة. وعن الفضل بن عباس أنهم قالوا: اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم وأجل، افعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله، وخرج يونس ينتظر العذاب فلم ير شيئا فقيل له: ارجع إلى قومك. قال:
وكيف أرجع إليهم فيجدوني كذابا وكان كل من كذب ولا بينة له قتل فانصرف عنهم مغاضبا فالتقمه الحوت وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أي مجتمعين على الإيمان لا(1/496)
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
يختلفون فيه لكنه لا يشاؤه أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ على ما لم يشأ الله منهم حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) أي لا قدرة لك على التصرف في أحد وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي وما يتأتى لنفس واحدة أن يقع بها إيمان في وقت ما إلا بإرادة الله وبإقداره عليه وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ أي الكفر عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100) أي الذين لا يستعملون عقولهم بالنظر في الدلائل والمضارع بمعنى الماضي وهو معطوف على مقدر، والتقدير فأذن الله لبعضهم في الإيمان وجعل الكفر لبعض آخر
قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي قل يا أشرف الخلق مخاطبا لأهل مكة: تفكروا أيّ شيء بديع في السموات والأرض من عجائب صنع الله الدالة على وحدته وكمال قدرته وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) وما تنفع الدلائل السماوية والأرضية والرسل المنذرون عن قوم لا يؤمنون في علم الله تعالى وحكمه. فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ أي فما ينتظر المشركون إلا عذابا مثل عذاب الأمم الماضية من الكفار قُلْ فَانْتَظِرُوا نزول العذاب إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) لذلك ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا أي أهلكنا الأمم ثم نجينا رسلنا المرسلة إليهم وَالَّذِينَ آمَنُوا لأن العذاب لا ينزل إلا على الكفار كَذلِكَ أي مثل ذلك الإنجاء الذي نجينا الرسل ومن آمن بهم حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) بك يا أشرف الخلق من كل شدة وعذاب وجب ذلك علينا وجوبا بحسب الوعد والحكم لا بحسب الاستحقاق، لأن العبد لا يستحق على خالقه شيئا قُلْ لجمهور المشركين: يا أَيُّهَا النَّاسُ أي أهل مكة إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي الذي أدعوكم إليه، أي إن كنتم لا تعرفون ديني فأنا أبينه لكم على سبيل التفصيل فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ في وقت من الأوقات وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ يقبض أرواحكم ثم يفعل بكم ما يفعل من فنون العذاب وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) بما دل عليه العقل ونطق به الوحي وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ أي وأمرت بتوجيه العقل بالكلية إلى طلب الدين وبالاستقامة في الدين بأداء الفرائض والانتهاء عن القبائح وباستقبال القبلة في الصلاة حَنِيفاً أي مائلا إلى الدين ميلا كليا معرضا عمّا سواه إعراضا كليا فقوله: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إشارة إلى تحصيل أصل الإيمان. وقوله:
وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً إشارة إلى الاستغراق في نور الإيمان. وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) أي وأمرت بأن لا ألتفت إلى غير ذلك الدين فمن عرف مولاه والتفت بعد ذلك إلى غيره كان ذلك الالتفات شركا هذا هو الذي تسميه أصحاب القلوب بالشرك الخفي وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي لا تعبد من غير الله ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فلا نافع إلا الله ولا ضار إلا الله، ولا حكم إلا لله، ولا رجوع في الدارين إلا إلى الله وهذه الجملة عطف على جملة الأمر وهي أقم فتكون داخلة في صلة أن المصدرية فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106) أي لو اشتغلت بطلب المنفعة والمضرة من غير الله فأنت من الواضعين للشيء في غير موضعه وطلب الشبع من الأكل،(1/497)
والري من الشرب لا يقدح في الإخلاص لأن وجود الخبز وصفاته كلها بإيجاد الله وطلب الانتفاع بشيء خلقه الله لذلك لا يكون منافيا للرجوع بالكلية إلى الله إلا أن شرط هذا الإخلاص أن لا يقع بصر عقله على شيء من هذه الموجودات إلا ويشاهد بعين عقله أنها معدومة بذواتها وموجودة بإيجاد الله فحينئذ يرى ما سوى الله عدما محضا بحسب أنفسها ويرى نور وجوده تعالى وفيض إحسانه عاليا على الكل وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ أي إن يصبك بضر كمرض وفقر فَلا كاشِفَ لَهُ أي فلا رافع لذلك الضر إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ أي وإن يرد أن يصيبك بخير فلا دافع لعطيته الذي أرادك به ولم يستثن الله تعالى مع الإرادة، لأن إرادة الله تعالى قديمة لا تتغير بخلاف مس الضر فإنه صفة فعل.
قال الرازي: وتقديم الإنسان في اللفظ وهو المشار إليه بالخطاب دليل على أن المقصود هو الإنسان أما سائر الخيرات فهي مخلوقة لأجله يُصِيبُ بِهِ أي يخص بالفضل الواسع المنتظم لما أرادك به من الخير مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ممن كان أهلا لذلك وَهُوَ الْغَفُورُ أي البالغ الستر للذنوب الرَّحِيمُ (107) أي البالغ في الإكرام قُلْ مخاطبا لأولئك الكفرة لأجل أن تنقطع معذرتهم يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ وهو القرآن العظيم المشتمل على محاسن الأحكام فَمَنِ اهْتَدى بالإيمان به فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أي فمنفعة اهتدائه لها خاصة وَمَنْ ضَلَّ بالإعراض عنه فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي فوبال الضلال مقصور على نفسه وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) أي بحفيظ موكول إلى أمركم وإنما أنا بشير ونذير فلا يجب على السعي في إيصالكم إلى الثواب وفي تخليصكم من العذاب وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ أي يؤمر لك في القرآن من تبليغ الرسالة وَاصْبِرْ على ما يطرأ عليك من مشاق التبليغ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بالأمر بالقتال وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109) فحكم بالجهاد وبالجزية على أهل الكتاب وأنشد بعضهم في الصبر شعرا فقال:
سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري ... وأصبر حتى يحكم الله في أمري
سأصبر حتى يعلم الصبر أنني ... صبرت على شيء أمر من الصبر(1/498)
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)
سورة هود
مكية، مائة وثلاث وعشرون آية، ألف وتسعمائة وسبع وأربعون كلمة، سبعة آلاف وثمانمائة وتسعة عشر حرفا
الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ أي نظمت نظما رصيفا متقنا ثُمَّ فُصِّلَتْ أي جعلت فصولا من دلائل التوحيد والنبوة، والأحكام، والمواعظ، والقصص مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) صفة ثانية لكتاب أو صلة للفعلين كأنه تعالى يقول: أحكمت آياته من عند حكيم أي واضع الشيء بالحكمة وفصلت آياته من عند خبير أي عالم بكيفيات الأمور أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ف «أن» تفسيرية لفصلت فإنها في معنى القول إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ أي من جهة الحكيم الخبير نَذِيرٌ بعذابه إن عبدتم غير الله تعالى وَبَشِيرٌ (2) بثوابه إن تمحضتم في عبادته وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ معطوف على أن لا تعبدوا ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ أي اطلبوا من ربكم ستر ما سلف منكم من الشرك ثم أقبلوا إليه بالطاعة والإخلاص يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي يعشكم عيشا مرضيا إلى وقت مقدر عند الله تعالى وهو آخر أعماركم فمن أخلص لله في القول والعمل عاش في أمن من العذاب وراحة مما يخشاه، ومن اشتغل بمحبة الله كان انقطاعه عن الخلق أكمل وسروره أتم لأنه آمن من زوال محبوبه ومن كان مشتغلا بحب غير الله كان أبدا في ألم الخوف من فوات المحبوب وَيُؤْتِ أي يعط في الدنيا وفي الآخرة كُلَّ ذِي فَضْلٍ في الإسلام والطاعة فَضْلَهُ أي ثوابه وَإِنْ تَوَلَّوْا أي تعرضوا عمّا ألقي إليكم من التوحيد والاستغفار والتوبة فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ بموجب الشفقة عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) هو يوم القيامة إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ ثم البعث للجزاء وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) فيقدر على تعذيبكم بأفانين العذاب أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ أي تنبه أن الكفار يضمرون خلاف ما يظهرون ليستخفوا من الله تعالى حين يغطون رؤوسهم بثيابهم للاستخفاء.
روي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في الأخنس بن شريق وأصحابه من منافقي مكة وكان رجلا حلو المنطق، حسن المنظر، يظهر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويضمر في قلبه العداوة يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ(1/499)
في قلوبهم وَما يُعْلِنُونَ بأفواههم إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5) أي إنّه تعالى مبالغ في الإحاطة بمضمرات جميع الناس وأسرارهم الخفية المستكنة في صدرهم فلا فائدة لهم في استخفائهم وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها أي غذاؤها اللائق بها.
روي أن موسى عليه السلام تعلق قلبه بأحوال أهله فأمره الله تعالى أن يضرب بعصاه على صخرة فانشقت وخرجت صخرة، ثم ضرب بعصاه فانشقت وخرجت صخرة ثانية، ثم ضرب بعصاه عليها فانشقت وخرجت صخرة ثالثة، ثم ضربها بعصاه فانشقت فخرجت منها دودة كالذرة، وفي فيها شيء يجري مجرى الغذاء لها ورفع الله الحجاب عن سمع موسى عليه السلام فسمع الدودة تقول سبحان من يراني وسمع كلامي ويعرف مكاني ويذكرني ولا ينساني وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها أي مكانها في الأرض قبل الموت وبعده وَمُسْتَوْدَعَها أي موضعها قبل الاستقرار من صلب أو رحم بيضة كُلٌّ من الدواب ورزقها ومستقرها ومستودعها وأحوالها فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6) أي ثابت في علم الله ومذكور في اللوح المحفوظ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي خلق السموات في يومين، والأرض في يومين، وما عليها من أنواع الحيوانات والنبات وغير ذلك في يومين وَكانَ عَرْشُهُ قبل خلقهما عَلَى الْماءِ
قال صلّى الله عليه وسلّم: «كان الله وما كان معه شيء، ثم كان عرشه على الماء»
«1» أي والعرش الذي هو أعظم المخلوقات قد أمسكه الله تعالى فوق سبع سموات من غير دعامة تحته ولا علاقة فوقه وذلك يدل على كمال قدرته تعالى لِيَبْلُوَكُمْ أي خلق السموات والأرض وما فيهما ورتب فيها جميع ما تحتاجون إليه من مبادي وجودكم وأسباب معايشكم وأودع فيهما ما تستدلون به على مطالبكم الدينية ليعاملكم معاملة من يختبركم أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي أحسن عقلا وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله فإن لكل من القلب والقالب عملا مخصوصا به وَلَئِنْ قُلْتَ يا أشرف الخلق لأهل مكة إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ أي محيون مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا منهم إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أي ما هذا القول إلا خديعة منكم وضعتموها لمنع الناس عن لذات الدنيا وإحرازا لهم إلى الاعتقاد لكم والدخول تحت طاعتكم.
وقرأ حمزة والكسائي «إلا ساحر» أي كاذب وحينئذ فاسم الإشارة عائد على النبي أو القرآن وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ الذي هددهم الرسول الله صلّى الله عليه وسلّم به إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ أي إلى انقراض جماعة من الناس بعد هذا التهديد بالقول لَيَقُولُنَّ بطريق الاستعجال استهزاء ما يَحْبِسُهُ
__________
(1) رواه الحاكم في المستدرك (2: 341) ، والسيوطي في الدر المنثور (3: 322) ، والطبري في التفسير (12) .(1/500)
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20)
أي أيّ شيء يمنع العذاب من المجيء إلينا أَلا أي تنبهوا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ أي العذاب لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ أي فلا يرفع رافع أبدا عذاب الآخرة ولا يدفع عنهم دافع عذاب الدنيا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8) أي أحاط بهم ذلك العذاب وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً أي أعطيناه نعمة كغنى وصحة ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ أي قاطع رجاءه من عود أمثالها لقلة صبره وعدم ثقته بالله كَفُورٌ (9) أي عظيم الكفران لما سلف من النعم وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ كصحة بعد سقم وفرج بعد شدة لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي أي المصائب التي تحزنني إِنَّهُ لَفَرِحٌ أي بطر بالنعم مغتر بها فَخُورٌ (10) على الناس بما أوتي من النعم مشغول بذلك عن الشكر
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا عند البلاء استسلاما لقضاء الله وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ عند الراحة والخير شكرا على ذلك أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ عظيمة لذنوبهم وإن جمت وَأَجْرٌ أي ثواب كَبِيرٌ (11) لأعمالهم الحسنة فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ فلعل للزجر وللتبعيد أي لا تترك تبليغ بعض ما يوحى إليك من البينات الدالة على حقيقة نبوتك ولا يضق صدرك بتلاوته عليهم في أثناء الدعوة والمحاجة كراهة أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ أي على محمد كَنْزٌ أي مال كثير مخزون يدل على صدقه أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ يصدقه.
والمعنى لا تترك التبليغ ولا يضق صدرك به بسبب قول القوم لك إن كنت صادقا في أنك رسول الإله الذي تصفه بالقدرة على كل شيء وبأنك عزيز عنده مع إنك فقير فهلا أنزل عليك ما تستغني به وتغني أحبابك من الكدر والعناء وإن كنت صادقا فهلا أنزل عليك ملكا يشهد لك بالرسالة فتزول الشبهة في أمرك فلما لم يفعل إلهك ذلك فأنت غير صادق فنزل قوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ فلا تبال بما صدر عنهم من الرد والقبول وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أي حفيظ فتوكل عليه في جميع أمورك فإنه فاعل بهم ما يليق بحالهم أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أي بل أيقولون افترى محمد القرآن من تلقاء نفسه وليس من عند الله قُلْ لهم إرخاء للعنان: إن كان الأمر كما تقولون فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ أي القرآن في البلاغة وحسن النظم مُفْتَرَياتٍ من عند أنفسكم فإنكم أقدر ذلك مني لأنكم عرب فصحاء ممارسون للأشعار، ومزاولون أنواع النظم والنثر وَادْعُوا للمعاونة في المعارضة مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي من الأصنام والكهنة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) في ادعاء كون القرآن مفترى على الله فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا أي من تدعونهم من دون الله لَكُمْ أيها الكفار في الإعانة على المعارضة فَاعْلَمُوا يا معشر الكفار أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ أي إن الذي أنزل ملتبس بعلم الله أي هو من عند الله إذ لو كان مفترى على الله لوجب أن يقدر الخلق على مثله ولما لم يقدروا عليه ثبت أنه من عند الله وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي واعلموا أنه لا شريك له في الألوهية ولا يقدر على ما يقدر هو عليه أحد، أي لما ثبت عجز الخصوم عن المعارضة ثبت كون القرآن حقا وثبت كون محمد صلّى الله عليه وسلّم صادقا في دعوى الرسالة وفي خبره أنه لا إله إلا الله فَهَل(1/501)
أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
(14) أي فهل أنتم داخلون في الإسلام. والمعنى فإن لم يستجب لكم آلهتكم وسائر من إليهم تجأرون في ملماتكم إلى المعاونة فاعلموا أن القرآن خارج عن دائرة قدرة البشر وأنه منزل من خالق القوى والقدر، واعلموا أيضا أن آلهتكم بمعزل عن رتبة الشركة في الألوهية فهل أنتم داخلون في الإسلام بعد قيام هذه الحجة القاطعة مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها بعمل الخير من العبادات وإيصال المنفعة إلى الحيوانات نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها أي نوصل إليهم ثمرات أعمالهم في الحياة الدنيا كاملة وَهُمْ فِيها أي في الحياة الدنيا لا يُبْخَسُونَ (15) أي لا ينقصون نقصا كليا ولا يحرمون من ذلك حرمانا كليا وهو ما يرزقون فيها من الصحة والرياسة، وسعة الرزق، وكثرة الأولاد ونحو ذلك أُولئِكَ أي المريدون لزينة الدنيا الموفون فيها ثمرات أعمالهم الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ بسبب هذه الأعمال الفاسدة المقرونة بالرياء.
روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «تعوذوا بالله من جب الحزن» قيل: وما جب الحزن؟ قال:
«واد في جهنم يلقى فيه القراء والمراؤون»
«1» .
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «أشد الناس عذابا يوم القيامة من يرى الناس أن فيه خيرا ولا خير فيه»
«2» . وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وهذا إن تعلق بحبط، فالضمير عائد على «الآخرة» ، أي وظهر في الآخرة حبط ما صنعوه من الأعمال وإن تعلق «بصنعوا» فالضمير يعود على الحياة الدنيا أي وحبط ما صنعوه في الدنيا من أعمال البر وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16) فباطل إما خبر مقدم وما بعده مبتدأ مؤخر، أو عطف على الخبر وما بعده فاعل له، ويرجح هذا قراءة زيد بن على وبطل ما كانوا يعملون على صيغة الماضي معطوف على حبط أي ظهر بطلان عملهم في نفسه في أثناء تحصيل المطالب الدنيوية.
وقرئ «وباطلا» ما كانوا يعملون على أن ما إبهامية أو في معنى المصدر أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أي أفمن كان على برهان من ربه عرف به صحة الدين الحق ويتبع ذلك البرهان شاهد من ربه وهو القرآن ويتبع ذلك البرهان من قبل مجيء الشاهد الذي هو القرآن شاهد آخر وهو كتاب موسى حال كونه مقتدى به في الدين وسببا لحصول الرحمة لأنه يهدي إلى الحق في الدنيا والدين كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها في أنهم ليس لهم في الآخرة إلا النار، لا بل بين الفريقين تباين بين فالحاصل أنه اجتمع في تثبيت صحة هذا الدين أمور ثلاثة:
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب الزهد، باب: 48، وابن ماجة في المقدمة، باب: الانتفاع بالعلم والعمل به.
(2) رواه السيوطي في جمع الجوامع (3264) .(1/502)
أولها: دلالة الدلائل العقلية اليقينية على صحته.
وثانيها: شهادة القرآن بصحته.
وثالثها: شهادة التوراة بصحته فعند اجتماع هذه الثلاثة قد بلغ هذا اليقين في القوة والجلاء إلى حيث لا يمكن الزيادة عليه فلا يبقى في صحته شك أُولئِكَ أي الموصوفون بالصفات الحميدة يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بالقرآن كعبد الله بن سلام وغيره ممن اتصف بتلك الصفات وهذا الفريق ليس له في الآخرة إلا الجنة وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ أي بالقرآن مِنَ الْأَحْزابِ أي أصناف الكفار فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ أي مكان وعده وهي التي فيها ما لا يوصف من أفانين العذاب.
روى سعيد بن جبير عن أبي موسى أن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يسمع ابن يهودي ولا نصراني فلا يؤمن بي إلا كان من أهل النار» .
قال أبو موسى: فقلت في نفسي: إن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا يقول مثل هذا إلا عن القرآن فوجدت الله تعالى يقول: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ من أن مصير من كفر بالقرآن النار أن هذا الوعد هو الثابت ممن يريبك في دينك ودنياك والخطاب للنبي. والمراد غيره وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17) بذلك إما لاختلال أفكارهم وإما لعنادهم وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن نسب إيه ما لا يليق به كقولهم في الأصنام أنها شفعاؤهم عند الله أُولئِكَ الموصوفون بالافتراء على الله تعالى يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ عرضا تظهر به فضيحتهم أي يساقون إلى الأماكن المعدة للحساب والسؤال وَيَقُولُ الْأَشْهادُ من الملائكة الذين كانوا يحفظون أعمالهم في الدنيا والأنبياء عند العرض هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ بالافتراء عليه ثم لما أخبر الله تعالى عن حالهم في القيامة أخبر عن حالهم في الحال بقوله تعالى: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) بالتزام الكفر والضلال أي إنهم في الحال الملعونون من عند الله الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي الذين يمنعون من الدين الحق كل من يقدرون على منعه بإلقاء الشبهات وَيَبْغُونَها عِوَجاً أي يطلبون سبيل الله زيغا بتعويج الدلائل المستقيمة وَهُمْ أي والحال أنهم بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19) أي بالبعث بعد الموت جاحدون أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي لا يمكنهم أن يفلتوا بأنفسهم من عذاب الله بالهرب من الأرض مع سعتها إن أراد الله تعذيبهم وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ أي أنصار يدفعون عذاب الله عنهم أي إن عدم نزول العذاب ليس لأجل أنهم قدروا على منع الله من إنزال العذاب بالفرار ونحوه، ولا لأجل أن لهم ناصرا يمنع العذاب عنهم كما زعموا أن الأصنام شفعاؤهم عند الله بل لأنه تعالى أمهلهم كي يتوبوا عن كفرهم فإذا أبوا إلا الثبات عليه فلا بد من مضاعفة العذاب في الآخرة كما قال تعالى: يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ أي فيعذبون في الآخرة على ضلالهم في أنفسهم وعلى إضلالهم غيرهم، وهذا غير خارج عن قوله تعالى: وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [الأنعام: 160] .(1/503)
أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30)
وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب بالتشديد ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) وهذا تعليل لمضاعفة العذاب أي لأنهم كانوا عاجزين عن الوقوف على دلائل الله تعالى
أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
أي فإنهم اشتروا عبادة الأصنام بعبادة الله تعالى وهذا أعظم وجوه الخسران وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ
(21) من شفاعة الأصنام لهم فلم يبق معهم غير الندامة لا جَرَمَ أي لا بد أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) بذهاب الجنة وما فيها أي أنهم أخسر من كل خاسر لأنهم أظلم من كل ظالم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أي إن الذين آمنوا بكل ما يجب الإيمان به، وأتوا بالأعمال الصالحات، واطمأنت قلوبهم عند أداء الأعمال إلى ذكر الله فارغة عن الالتفات إلى ما سوى الله تعالى، واطمأنت إلى صدق وعد الله بالثواب على تلك الأعمال وخافت قلوبهم من أن يكونوا أتوا بتلك الأعمال مع وجود الإخلال ومن أن لا تكون مقبولة أُولئِكَ المنعوتون بتلك النعوت الجميلة أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) أي دائمون مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ أي صفة الكافر كصفة شخص متصف بالعمى والصمم فلا يهتدى لمقصوده، وصفة المؤمن كصفة شخص متصف بالبصر والسمع فاهتدى لمطلوبه هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أي صفة وحالا أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24) أي أتشكون في عدم الاستواء ولا تتعظون بأمثال القرآن فتؤمنوا وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ للعصاة من العقاب مُبِينٌ (25) أي بين النذارة، فأبين لكم طريق الخلاص من العذاب.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي «أني» بفتح الهمزة أي متلبسا بالإنذار. والباقون بالكسر على معنى فقال: إني لكم. أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ بدل من «أني لكم» إلخ. على قراءة الفتح ومجرور بالباء المقدرة التي للتعدية المتعلقة بأرسلنا إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) في الدنيا أو في الآخرة فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ أي الأشراف منهم ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا أي ما نعلمك إلا آدميا مثلنا ليس فيك مزية تخصك بوجوب الطاعة علينا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا أي أخساؤنا كالحجامين والنساجين والأساكفة بادِيَ الرَّأْيِ.
قرأ أبو عمرو ونصر عن الكسائي «بادئ» بالهمزة. والباقون بالياء ونصبه على الظرفية أي في ابتداء حدوث الرأي ولو احتاطوا في الكفر ما اتبعوك أو في ظاهر رأي العين وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ أي لا نرى لك ولمن تبعوك بعد الاتباع فضلا علينا لا في العقل ولا في رعاية المصالح العاجلة ولا في قوة الجدل بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) أي بل نظنك يا نوح في دعوى النبوة، ونظن أصحابك كاذبين في تصديق نبوتك قالَ أي نوح: يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أي على برهان عقلي في معرفة ذات الله وصفاته وما يجب وما يمتنع وما يجوز عليه وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ أي نبوة ومعجزة دالة على النبوة فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أي وصار ذلك البرهان مشكوكا في عقولكم.(1/504)
وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «فعميت» بضم العين وتشديد الميم. والباقون بفتح العين وتخفيف الميم أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) أي فهل أقدر على أن أجعلكم بحيث تصلون إلى معرفة ذلك البرهان وأنتم منكرون له. والمعنى أنكم زعمتم أن عهد النبوة لا يناله إلا من له فضيلة على سائر الناس أخبروني إن امتزت عنكم بحيازة فضيلة من ربي وهي دليل العقل وآتاني بحسبها نبوة من عنده فخفي عليكم دليل العقل ولم تنالوه، ولم تعلموا حيازتي لها إلى الآن حتى زعمتم أني مثلكم وهي متحققة في نفسها أنلزمكم قبول نبوتي التابعة لها، والحال أنكم كارهون لذلك فيكون الاستفهام لطلب الإقرار وحاصل الكلام أنهم لما قالوا وما نرى لكم علينا من فضل ذكر نوح عليه السلام أن ذلك بسبب أن الحجة عميت عليكم واشتبهت، فأما لو تركتم العناد واللجاج ونظرتم في الدليل لظهور المقصود وتبين أن الله تعالى آتانا عليكم فضلا عظيما وأنا لا أقدر على إعطاءكم الإلهام والمعرفة في تلك الحجة وإنما أقدر على أن أدعوكم إلى الله وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ أي قال نوح عليه السلام: أنا لا أطلب منكم على تبليغ دعوة الرسالة مالا حتى يتفاوت الحال بسبب كون المستجيب فقيرا وغنيا، وما أجري على هذه الطاعة إلا على رب العالمين، وإن ظننتم أني إنما اشتغلت بهذا التبليغ لأجل أخذ أموالكم فهذا الظن منكم خطأ، وإنما أسعى في طلب الدين لا في طلب الدنيا وهذا يوجب فضلي عليكم، فلا تحرموا أنفسكم من سعادة الدين بسبب هذا الظن الفاسد وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا بقولكم لي: امنع واطرد هؤلاء الأسافلة عنك ونحن نتبعك فإنا نستحي أن نجلس معهم في مجلسك إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ أي إنهم فائزون في الآخرة بلقاء الله تعالى فإن طردتهم استخصموني في الآخرة عنده فأعاقب على طردهم وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) إن منزلة المؤمنين عند الله تعالى أعلى وإن طردهم يوجب غضب الله تعالى وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ أي بدفع نزول سخطه عني إِنْ طَرَدْتُهُمْ فإن الطرد ظلم موجب للسخط قطعا أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) أي أتأمرونني بطردهم فلا تتعظون بما أقول لكم
وَلا أَقُولُ لَكُمْ حين أدعي النبوة عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ أي رزقه وأمواله وهذا رد لقولهم: وما نرى لكم علينا من فضل كالمال وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ أي ولا أقول:
إني أعلم الغيب حتى تسارعوا إلى الإنكار والاستبعاد، وهذا رد لقولهم: وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي، أي في ظاهر حالهم وأول فكرهم وفي الباطن لم يتبعوك فقال نوح لهم: إني إنما أعول على الظاهر لا أعلم الغيب فأحكم به وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ رد لقولهم ما نراك إلا بشرا مثلنا فكأن نوحا قال: أنا لم أدّع الملكية حتى تقولوا ذلك. أي إنكم اتخذتم فقدان هذه الأمور الثلاثة ذريعة إلى تكذيبي والحال أني لا أدعي شيئا من ذلك ولا الذي أدعيه يتعلق بشيء منها، وإنما يتعلق بالفضائل النفسية التي بها تتفاوت مقادير البشر وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ أي ولا أقول كما تقولون في حق الذين تحتقرهم أعينكم لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً أي هداية(1/505)
وأجرا اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ أي بما في قلوبهم من الإيمان إِنِّي إِذاً أي إذا قلت ذلك لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) لنفسي ولهم في وصفهم بأنهم لا خير لهم مع أن الله أعطاهم خيري الدارين قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا أي فأتيت بأنواع الجدال فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) فيما تقول قالَ أي نوح إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ أي إن الإتيان بالعذاب الذي تستعجلونه أمر خارج عن دائرة القوى البشرية وإنما يفعله الله تعالى إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) أي بمانعين من العذاب بالهرب أو بالمدافعة كما تدفعونني في الكلام وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ أي إن كان الله يريد أن يضلكم عن الهدى فإن أردت أن أحذركم من عذاب الله وأدعوكم إلى التوحيد لا ينفعكم دعائي إلى التوحيد وتحذيري إياكم من عذاب الله. هُوَ رَبُّكُمْ أي مالك التصرف في ذواتكم وفي صفاتكم قبل الموت وعند الموت وَإِلَيْهِ تعالى تُرْجَعُونَ (34) بعد الموت فيجازيكم على أعمالكم أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أي بل أيقول قوم نوح: إن نوحا افترى بما أتانا به من عند نفسه مسندا إلى الله تعالى. قُلْ يا نوح: إِنِ افْتَرَيْتُهُ أي إن اختلقت الوحي الذي بلغته إليكم من تلقاء نفسي فَعَلَيَّ إِجْرامِي أي فعلي عقاب اكتسابي للذنب وإن كنت صادقا وكذبتموني فعليكم عقاب ذلك التكذيب وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) أي من عقاب كسبكم الذنب بإسناد الافتراء إليّ وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) أي فلا تحزن بما كانوا يتعاطونه من التكذيب والإيذاء في هذه المدة الطويلة فقد انتهى أفعالهم وحان وقت الانتقام منهم وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا أي اصنع السفينة ملتبسا بإبصارنا لك وتعهدنا بتعليمك كيفية صنعها وَوَحْيِنا أي وبأمرنا لك وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا أي لا تدعني باستدفاع العذاب عنهم، أو المعنى لا تراجعني في نجاة الذين كفروا: ابنك كنعان وامرأتك واعلة «1» إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) أي محكوم عليهم بالإغراق بالطوفان وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ أي أقبل نوح يصنعها وجعل يقطع الخشب، ويضرب الحديد، ويهيئ القار وكل ما يحتاج إليه في عملها.
وقال ابن عباس: اتخذ نوح السفينة في سنتين فكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسين ذراعا، وطولها في السماء ثلاثين ذراعا، وكانت من خشب الساج. وجعل لها ثلاث بطون،
__________
(1) ورد في تفسير القرطبي لسورة هود: «وكان اسم امرأة نوح: والهة، واسم امرأة لوط:
والعة قاله مقاتل. وقال الضحّاك عن عائشة رضي الله عنها: إن جبريل نزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبره أن اسم امرأة نوح: واعلة، واسم امرأة لوط: والهة» .
وورد في تفسير الجلالين لسورة هود: «كانت امرأة نوح اسمها: واهلة ... وامرأة لوط واسمها: واعلة» .(1/506)
وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50)
فجعل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام، وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام، وركب هو ومن معه البطن الأعلى، وحمل ما يحتاج إليه من الزاد وغيره. وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ أي طبقة من كبرائهم سَخِرُوا مِنْهُ أي كانوا يتضاحكون لعمله السفينة ويقولون: يا نوح كنت تدعي رسالة الله تعالى فصرت بعد ذلك نجارا، وكان يصنعها في موضع بعيد عن الماء جدا. وكانوا يقولون: ليس هاهنا ماء ولا يمكنك نقلها إلى الأنهار العظيمة وإلى البحار فكانوا يعدون ذلك من باب السفه والجنون قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) اليوم منا.
أي إن حكمتم علينا بالجهل فيما نصنع فإنا نحكم عليكم بالجهل فيما أنتم عليه من الكفر والتعرض لسخط الله وعذابه فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ أي فسوف تعلمون أينا يأتيه عذاب في الدنيا، ويهينه وهو عذاب الغرق من هو أحق بالسخرية ومن هو أحمد عاقبة وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39) أي وأينا ينزل عليه عذاب النار الدائم في الآخرة حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا أي عذابنا الموعود به وَفارَ التَّنُّورُ أي نبع الماء من تنور الخبز وارتفع بشدة كما تفور القدر بغليانها.
روي أنه قيل لنوح عليه السلام: إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب ومن معك في السفينة، فلما نبع الماء أخبرته امرأته فركب وقيل: كان التنور لآدم وكانت حواء تقمر فيه فصار إلى نوح وكان من حجارة وهو في الكوفة على يمين الداخل مما يلي باب كندة في المسجد قُلْنَا احْمِلْ فِيها أي السفينة مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ.
وقرأ حفص «من كل» بالتنوين أي من كل شيء زوجين اثنين كل منهما زوج للآخر.
على قراءة غيره إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بأنه من المغرقين بسبب ظلمهم في قوله تعالى: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا [هود: 37] الآية. والمراد به: ابنه كنعان وأمه واعلة فإنهما كانا كافرين فحمل في السفينة زوجته المؤمنة وأولادها الثلاثة مع نسائهم سام وحام ويافث. فسام أبو العرب، وحام أبو السودان، ويافث أبو الترك. وَمَنْ آمَنَ عطف على زوجين أو على اثنين أي واحمل من آمن من غير أهلك وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) .
وعن ابن عباس قال: كان في سفينة نوح ثمانون. إنسانا نصفهم رجال ونصفهم نساء.
وقال مقاتل: في ناحية الموصل قرية يقال لها: قرية الثمانين سميت بذلك لأن هؤلاء لما خرجوا من السفينة بنوها فسميت بهذا الاسم
وَقالَ أي نوح عليه الصلاة والسلام لمن معه من المؤمنين ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ أي اركبوا في السفينة ذاكرين اسم الله مَجْراها وَمُرْساها أي(1/507)
وقت جريها وإرسائها قيل: كان نوح عليه السلام إذا أراد أن يجريها يقول: بسم الله فتجري وإذا أراد أن يرسيها يقول بسم الله فترسو إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) أي لولا مغفرته تعالى ورحمته إياكم لما نجاكم لأنكم لا تنفكون عن أنواع الزلات وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ في عظمه وارتفاعه وذلك يدل على وجود الرياح الشديدة في ذلك الوقت.
قال علماء السير: أرسل الله تعالى المطر أربعين يوما وليلة وخرج الماء من الأرض وارتفع الماء على أعلا جبل وأطوله أربعون ذراعا حتى أغرق كل شيء وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ كنعان قبل سير السفينة وَكانَ فِي مَعْزِلٍ أي في مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وإخوته وقومه بحيث لم يتناوله الخطاب باركبوا يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا في السفينة وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) أي في المكان وهو وجه الأرض خارج السفينة لا في الدين لأن نوحا عليه السلام يحذر ابنه عن الهلكة لا ينهى عن الكفر في ذلك الوقت قالَ سَآوِي أي ألتجئ إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ لارتفاعه قالَ أي نوح: لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي عذابه إِلَّا مَنْ رَحِمَ أي إلا الله الراحم والتقدير لا فرار من الله إلا إلى الله. وهذا تأويل في غاية الحسن. وقيل: لا مكان يعصم من عذاب الله إلا مكان من رحمة الله وهو السفينة. وقيل: لا ذا عصمة إلا من رحمه الله وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ أي حال الموج بين نوح وابنه كنعان فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) أي فصار كنعان من المهلكين بالطوفان وَقِيلَ أي قال الله يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ أي أنشفي ما على وجهك من ماء الطوفان وَيا سَماءُ أَقْلِعِي أي أمسكي عن إرسال المطر وَغِيضَ الْماءُ أي ونقص ما بين السماء والأرض من الماء وَقُضِيَ الْأَمْرُ أي أتم الأمر من هلاك قوم نوح وَاسْتَوَتْ أي استقرت الفلك عَلَى الْجُودِيِّ أي على جبل بالجزيرة قريب من الموصل يقال له: الجودي وكان ذلك الجبل منخفضا.
روي أنه عليه السلام ركب في الفلك في عاشر رجب، ومرت بالبيت الحرام فطافت به سبعا ونزل عن الفلك عاشر المحرم فصام ذلك اليوم وأمر من معه بصيامه شكر الله تعالى، وبنوا قرية بقرب ذلك الجبل فسموها قرية الثمانين فهي أول قرية عمّرت على الأرض بعد الطوفان وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) أي قال نوح وأصحابه بعدوا بعدا من رحمة الله للقوم المشركين بحيث لا يرجى عودهم وهذا الكلام جار مجرى الدعاء عليهم، لأن الغالب ممن يسلم من الأمر الهائل بسبب اجتماع قوم من الظلمة فإذا هلكوا ونجا منهم قال مثل هذا الكلام وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي كنعان مِنْ أَهْلِي وقد وعدتني إنجاءهم في ضمن قولك واحمل أهلك وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ أي إن كل وعد تعده لا يتطرق إليه خلف وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) أي لأنك أعدل الحاكمين وهذا دعاء سيدنا نوح عليه السلام في غاية التلطف وهو مثل دعاء سيدنا أيوب عليه(1/508)
يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
السلام أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين قالَ أي الله تعالى: يا نُوحُ إِنَّهُ أي هذا الابن الذي سألتني نجاته لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ الذي وعدتك أن أنجيهم معك إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ أي لأن هذا الابن ذو عمل غير مرضي.
وقرأ الكسائي ويعقوب «عمل» على صيغة الفعل و «غير» بالنصب أي لأنه عمل عملا غير مرضي وهو الشرك فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي إذا وقفت على جلية الحال فلا تطلب مني مطلبا لا تعلم يقينا أن حصوله صواب وموافق للحكمة إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) أي إني أنهاك عن أن تكون من الجاهلين بالسؤال. سمي سؤاله عليه السلام جهلا لأنّ حب الولد شغله عن تذكر استثناء من سبق عليه القول منهم بالإهلاك قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ أي أعوذ بك من أن أطلب منك من بعد هذا مطلوبا أعلم أن حصوله مقتضى الحكمة وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي جهلي وإقدامي على سؤال ما ليس لي به علم وَتَرْحَمْنِي بقبول توبتي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) أعمالا وليس في الآيات ما يقتضي صدور ذنب ومعصية من نوح عليه السلام سوى إقدامه على سؤال ما لم يؤذن له فيه وهذا ليس بذنب ولا معصية وإنما لجأ إلى الله تعالى وسأله المغفرة والرحمة لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين قِيلَ أي قال الله: يا نُوحُ اهْبِطْ أي انزل من السفينة بِسَلامٍ أي ملتبسا بأمن من جميع المكاره المتعلقة بالدين مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ أي خيرات نامية عليك وهذا بشارة من الله تعالى بالسلامة من التهديد وبنيل الحاجات من المأكول والمشروب وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ أي وعلى أمم مؤمنة ناشئة من الذين معك إلى يوم القيامة وَأُمَمٌ كافرة متناسلة مِمَّنْ مَعَكَ أي وعلى أمم مؤمنة ناشئة من الذين معك إلى القيامة وَأُمَمٌ كافرة متناسلة ممن معك سَنُمَتِّعُهُمْ مدة في الدنيا ثُمَّ في الآخرة يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) فقوله وأمم مبتدأ وجملة قوله سنمتعهم خبر تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ أي تلك التفاصيل التي بيناها من الأخبار التي كانت غائبة عن الخلق نُوحِيها أي تلك الأخبار إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ بطريق التفصيل مِنْ قَبْلِ هذا أي من قبل إيحائنا إليك بنزول القرآن فَاصْبِرْ على أذى هؤلاء الكفار كما صبر نوح على أذى أولئك الكفار إِنَّ الْعاقِبَةَ أي آخر الأمر بالظفر في الدنيا وبالفوز في الآخرة لِلْمُتَّقِينَ (49) كما عرفته في نوح وقومه ولك فيه أسوة حسنة وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ أي ولقد أرسلنا إلى عاد واحدا منهم في النسب نبيهم هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ بالرفع صفة للمحل وبالجر على قراءة الكسائي صفة للفظ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) أي كاذبون في قولكم: إن الأصنام تستحق العبادة
يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على إرشادكم إلى التوحيد أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أي خلقني أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) أني مصيب في المنع من عبادة الأصنام وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ أي سلوه أن يغفر لكم ما تقدم من شرككم ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ من بعد التوحيد بالندم على ما مضى وبالعزم على أن لا تعودوا لمثله يُرْسِلِ السَّماءَ أي المطر عَلَيْكُمْ مِدْراراً أي كثير السيلان وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ بالمال والولد والشدة(1/509)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68) وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70)
في الأعضاء قيل: حبس الله تعالى عنهم المطر ثلاث سنين وعقمت نساؤهم ثلاثين سنة ولم تلد وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) أي ولا تعرضوا عمّا أدعوكم إليه مصرين على آثامكم قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ أي بمعجزة وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا أي بتاركي عبادتها عَنْ قَوْلِكَ أي لأجل قولك وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) أي بمصدقين بالرسالة إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ أي ما نقول في شأنك إلا قولنا: أصابك بعض آلهتنا بجنون لأنك شتمتها ومنعت عن عبادتها قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ على وَاشْهَدُوا أنتم على أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ أي من إشراككم آلهة من دون الله فَكِيدُونِي جَمِيعاً أي فاعملوا في هلاكي أنتم وآلهتكم جميعا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) أي لا تؤجلوني إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ أي إني فوضت أمري إلى الله مالكي ومالككم ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها أي ما من حيوان إلا وهو تحت قهره وقدرته وهو منقاد لقضائه وقدره إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) أي إنه تعالى وإن كان قادرا على عباده لكنه لا يظلمهم ولا يفعل بهم إلا ما هو الحق والعدل والصواب فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ أي فإن تعرضوا عن الإيمان والتوبة لم أعاتب على تقصير في الإبلاغ لأني قد أبلغتكم وصرتم محجوجين من الله تعالى لأنكم أصررتم على التكذيب وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ أي يخلق ربي بعدكم من هو خير منكم وأطوع وهذا إشارة إلى نزول عذاب الاستئصال وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً أي لا ينقص هلاككم من ملك الله شيئا إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) فيحفظ لأعمال العباد حتى يجازيهم عليها وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا أي عذابنا الدنيوي وهو السموم التي تدخل من أنوفهم وتخرج من أدبارهم فترفعهم في الجو وتصرعهم على الأرض على وجوههم فتتقطع أعضاؤهم نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وكانوا أربعة آلاف بِرَحْمَةٍ عظيمة
كائنة مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) وهو العذاب الأخروي وَتِلْكَ القبيلة عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ أي دلالة المعجزات على صدق هود وَعَصَوْا رُسُلَهُ وجمع الرسول مع أنه لم يرسل إليهم غير هود لبيان أن عصيانهم له عليه السلام عصيان لجميع الرسل السابقين واللاحقين لاتفاق كلمتهم على التوحيد وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ أي مرتفع متمرد عَنِيدٍ (59) أي منازع معارض. أي واتبع السفلة أمر رؤسائهم الدعاة إلى الضلال وإلى تكذيب الرسل وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أي جعل الإبعاد من رحمة الله تعالى ومن كل خير مصاحبا لهم وملازما في الدنيا والآخرة أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أي كفروا بربهم أَلا بُعْداً لِعادٍ وهذا دعاء عليهم بالهلاك وتحقيرهم قَوْمِ هُودٍ (60) عطف على بيان لعاد وهذه عاد القديمة إرم ذات العماد واحترز به عن عاد الثانية
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً وثمود اسم أبي القبيلة وبين صالح وبينه خمسة أجداد، وبين صالح وهود مائة سنة وعاش صالح مائتي سنة وثمانين سنة قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ فإن الإنسان مخلوق من المني وهو متولد من الدم، وهم متولد من الأغذية، وهي إما حيوانية وإما(1/510)
نباتية فانتهاء الحيوانية إلى النبات وهو متولد من الأرض فثبت أن الله تعالى أنشأ الإنسان من الأرض وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها أي جعلكم سكان الأرض وصيّركم عامرين لها أو جعلكم معمرين دياركم تسكنونها مدة أعماركم ثم تتركونها لغيركم فَاسْتَغْفِرُوهُ أي آمنوا بالله وحده ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ من عبادة غيره إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ بالعلم والسمع والرحمة مُجِيبٌ (61) دعاء المحتاجين بفضله ورحمته قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أي قبل نهيك إيانا عن عبادة الأوثان لما كنا نرى منك من دلائل السداد ومخايل الرشاد فإنك كنت تعطف على فقرائنا، وتعين ضعفاءنا، وتعود مرضانا فقوي رجاؤنا فيك أنك من الأحباب ومن أنصار ديننا فكيف أظهرت العداوة ثم قالوا متعجبين تعجبا شديدا: أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أي ما عبدوه من الأوثان وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ من التوحيد وترك عبادة الأوثان مُرِيبٍ (62) أي موقع في اضطراب القلوب وانتفاء الطمأنينة قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ كُنْتُ في الحقيقة عَلى بَيِّنَةٍ أي بصيرة وبرهان مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً أي نبوة فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ أي من ينجيني من عذابه إِنْ عَصَيْتُهُ أي بالمساهلة في تبليغ الرسالة وفي المجاراة معكم فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) أي فما تزيدونني بما تقولون غير بصيرة في خسارتكم أي وما زادني قولكم إلا قولي لكم إنكم لخاسرون وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً أي معجزة دالة على صدق نبوتي فإن الله خلقها من الصخرة في جوف الجبل حاملا من غير ذكر على تلك الصورة دفعة واحدة وقد حصل منها لبن كثير يكفي الخلق العظيم فَذَرُوها أي فاتركوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ أي ترع نباتها وتشرب ماءها فليس عليكم كلفة في مؤنتها وكانت هي تنفعهم ولا تضرهم لأنهم كانوا ينتفعون بلبنها وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ أي لا تضربوها ولا تطردوها، ولا تقربوها بشيء من السوء فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64) أي عاجل لا يتراخى عن مسكم بالسوء إلا يسيرا وهو ثلاثة أيام فَعَقَرُوها أي فقتلها قدار بن سالف ومصدع بن زهر وقيل: زينت عقرها لهم عنيزة أم غنم، وصدقة بنت المختار فضربها قدار بأمرهم في رجليها فأوقعها، فذبحوها وقسموا لحمها على ألف وخمسمائة دار. فَقالَ لهم صالح بعد قتلهم لها: تَمَتَّعُوا أي عيشوا فِي دارِكُمْ أي في بلادكم ثَلاثَةَ أَيَّامٍ من العقر الأربعاء والخميس والجمعة، ثم يأتيكم العذاب في اليوم الرابع يوم السبت وإنما أقاموا ثلاثة أيام، لأن الفصيل رغى ثلاثة وانفجرت الصخرة بعد رغائه فدخلها، ولما عقروا الناقة أنذرهم صالح بنزول العذاب ورغبهم في الإيمان فقالوا: يا صالح وما علامة العذاب؟ فقال: تصير وجوهكم في اليوم الأول: مصفرة، وفي الثاني: محمرة، وفي الثالث: مسودة، وفي الرابع: يأتيكم العذاب صبيحته ذلِكَ أي نزول العذاب عقب ثلاثة أيام وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا أي عذابنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ أي ونجينا صالحا والذين آمنوا معه من العذاب النازل بقومه الكافرين ومن(1/511)
وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
الخزي الذي لزمهم وبقي العيب منسوبا إليهم، لأن معنى الخزي العيب الذي تظهر فضيحته ويستحيا من مثله.
وقرأ الكسائي ونافع في رواية ورش وقالون هنا، وفي المعارج «يومئذ» بفتح الميم لإضافة «يوم» إلى «إذ» ، وهو مبني فيكون مبنيا. والباقون بكسر الميم فيهما لإضافة «يوم» إلى الجملة من المبتدأ والخبر، فلما قطع المضاف إليه عن «إذ» نوّن ليدل التنوين على ذلك، ثم كسرت الذال لسكونها وسكون التنوين ولم يلزم من إضافة يوم إلى المبني أن يكون مبنيا لأن هذه الإضافة غير لازمة إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) فإنه أوصل ذلك العذاب إلى الكافر وصان أهل الإيمان عنه وهذا التمييز لا يصح إلا من القادر الذي يقدر على قهر طبائع الأشياء فيجعل الشيء الواحد بالنسبة إلى إنسان بلاء وعذابا، وبالنسبة إلى إنسان آخر راحة وريحانا. وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ مع الزلزلة أي صيحة جبريل فقد صاح عليهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة، وصوت كل شيء في الأرض فتقطعت قلوبهم في صدورهم، فماتوا جميعا فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) ميتين لا يتحركون ولا يضطربون عند ابتداء نزول العذاب ساقطين على وجوههم كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أي كأنهم لم يقيموا في بلادهم فإنهم صاروا رمادا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68) قوم صالح من رحمة الله وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ من الملائكة جبريل وميكائيل وإسرافيل بِالْبُشْرى أي متلبسين بالبشارة له بالولد من سارة قالُوا سَلاماً أي سلمنا عليك سلاما قالَ سَلامٌ أي قال إبراهيم: أمري سلام أي لست مريدا غير السلامة.
وقرأ حمزة والكسائي هنا «وفي الذاريات» بكسر السين وسكون اللام فَما لَبِثَ أي إبراهيم أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ أي في المجيء بولد بقرة حَنِيذٍ (69) أي مشوي على حجارة محماة في حفرة في الأرض فوضعه بين أيديهم فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ أي العجل نَكِرَهُمْ أي أنكرهم وَأَوْجَسَ أي أدرك مِنْهُمْ خِيفَةً وظن أنهم لصوص حيث لم يأكلوا من طعامه فلما علموا خوفه قالُوا لا تَخَفْ منا يا إبراهيم إِنَّا أُرْسِلْنا بالعذاب إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وهو ابن هاران أخي إبراهيم
وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ تخدم الأضياف وتسمع مقالتهم وإبراهيم عليه السلام جالس معهم فَضَحِكَتْ أي ففرحت سارة بزوال الخوف عنها وعن إبراهيم وبحصول البشارة بحصول الولد، وبهلاك أهل الفساد.
وقال مجاهد وعكرمة: أي حاضت سارة عند فرحها بالسلامة من الخوف فلما ظهر حيضها بشرت بحصول الولد فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ على ألسنة رسلنا وإنما نسبت البشارة لسارة دون سيدنا إبراهيم عليه السلام، لأنها كانت أشوق إلى الولد منه لأنها كانت لم يأتها ولد قط بخلافه فقد أتاه(1/512)
إسماعيل قبل إسحاق بثلاث عشرة سنة وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قرأه ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم ويعقوب بالنصب، أي ووهبنا يعقوب من بعد إسحاق. والباقون بالرفع على الابتداء. أي ومن بعد إسحاق يعقوب مولود. قالَتْ يا وَيْلَتى هي كلمة تقال للتعجب عند أمر عظيم. أي يا ذلي احضر فهذا أوان حضورك أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ بنت ثمان وتسعين سنة وَهذا بَعْلِي أي زوجي شَيْخاً ابن مائة وعشرين سنة إِنَّ هذا أي حصول الولد من هرمين مثلنا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) بالنسبة إلى سنة الله تعالى المسلوكة فيما بين عباده ومقصودها استعظام نعمة الله تعالى عليها في ضمن الاستعجاب العادي لا استبعاد قدرته تعالى على ذلك قالُوا أي الملائكة لسارة: أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي من قدرة الله رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ أي يا أهل بيت إبراهيم، أي رحمة الله الواسعة لكل شيء وخيراته الفائضة منه بواسطة تلك الرحمة لازمة لكم لا تفارقكم، فإذا رأيتم أن الله خرق العادات في تخصيصكم بهذه الكرامات العالية فكيف يليق به التعجب إِنَّهُ حَمِيدٌ أي فاعل ما يستوجب الحمد وموصل العبد المطيع إلى مراده مَجِيدٌ (73) أي كريم لا يمنع الطالب عن مطلوبه فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) أي فلما زال عن إبراهيم الخوف وحصل له السرور بسبب مجيء البشرى بحصول الولد جادل رسلنا في شأن قوم لوط حيث قال للملائكة حين قالوا: إنا مهلكوا أهل هذه القرية: أرأيتم لو كان فيها خمسون رجلا من المؤمنين أتهلكونها؟ قالوا: لا. قال: فأربعون؟ قالوا: لا. قال: فثلاثون؟ قالوا: لا، حتى بلغ العشرة قالوا:
لا. قال: أرأيتم إن كان فيها رجل مسلم أتهلكونها؟ قالوا: لا، فعند ذلك قال: إن فيها لوطا. قالوا:
نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أي غير عجول على كل من أساء إليه فلذلك طلب تأخير العذاب عنهم رجاء إقدامهم على الإيمان والتوبة عن المعاصي أَوَّاهٌ أي كثير التضرع إلى الله عند وصول الشدائد إلى الغير مُنِيبٌ (75) أي رجاع إلى الله في إزالة ذلك العذاب عنهم قالت الملائكة لإبراهيم: يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا أي اترك هذا الجدال إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ بإيصال هذا العذاب إليهم وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) أي غير مصروف عنهم ولا
مدفوع بجدال ولا دعاء ولا غيرهما وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا أي هؤلاء الملائكة لُوطاً سِيءَ بِهِمْ أي حزن بسببهم وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً أي صدرا لأنهم انطلقوا من عند إبراهيم إلى لوط عليهما السلام ودخلوا عليه في صور شبان مرد حسان الوجوه، فخاف أن يقصدهم قومه وأن يعجز عن مدافعتهم وبين القريتين أربع فراسخ وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) أي شديد علي، فلما دخلت الملائكة دار لوط عليه السلام ولم يعلم بذلك أحد خرجت امرأته الكافرة فأخبرت قومها وقالت: دخل دارنا قوم ما رأيت أحسن وجوها ولا أنظف ثيابا، ولا أطيب رائحة منهم. وَجاءَهُ أي لوطا وهو في بيته مع أضيافه قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ أي يسوق بعضهم بعضا إِلَيْهِ لطلب الفاحشة من أضيافه وَمِنْ قَبْلُ أي والحال من قبل مجيء هؤلاء الملائكة إلى لوط كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ وهي إتيان الرجال في(1/513)
قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)
أدبارهم أي فهم معتادون لذلك فلا حياء عندهم. قالَ أي لوط: يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ أي فتزوجوهن. والمراد بالجمع ما فوق الواحد لما صحت الرواية أن لسيدنا لوط عليه السلام بنتين فقط وهما زنتا وزعوراء.
وقال السدي: اسم الكبرى ريا، والصغرى رغوثا وكان في ملته يجوز تزوج الكافر بالمسلمة، أو قال ذلك على سبيل الدفع لا على سبيل التحقيق وكانوا يطلبونهن من قبل ولا يجيبهم لخبثهم وعدم كفاءتهم، لا لعدم جواز تزويج المسلمات من الكفار فَاتَّقُوا اللَّهَ بترك الفواحش وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أي لا تخجلوني في أضيافي لأن مضيف الضيف يلزمه الخجل من كل فعل قبيح يصل إلى الضيف أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) يهتدي إلى الحق ويرعوي عن الباطل، ويرد هؤلاء الأوباش عن أضيافي. قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ يا لوط ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ أي شهوة أي إنك قد علمت أن لا سبيل إلى المناكحة بيننا وبينك وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79) من إتيان الذكران قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) أي لو قويت على دفعكم بنفسي أو رجعت إلى عشيرة قوية لبالغت في دفعكم. وإنما قال ذلك لأنه لم يكن من قومه نسب بل كان غريبا فيهم لأنه كان أولا بالعراق مع إبراهيم فلما هاجرا إلى الشام أرسله الله تعالى إلى أهل سذوم- وهي قرية عند حمص- أو المعنى لو قويت على الدفع لدفعتكم بل أعتصم بعناية الله تعالى
قالُوا أي هؤلاء الملائكة: يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بضرر فافتح الباب ودعنا وإياهم، ففتح الباب ودخلوا فضرب جبريل عليه السلام بجناحه وجوههم فطمس أعينهم فصاروا لا يعرفون الطريق ولا يهتدون إلى بيوتهم فخرجوا وهم يقولون: النجاء النجاء فإن في بيت لوط قوما سحرة فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ أي فاخرج مع أهلك في نصف الليل لتستبقوا العذاب الذي موعده الصبح وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالرفع أي لا يتأخر منكم أحد إلا امرأتك واعلة المنافقة. والباقون بالنصب. والمعنى لا ينظر أحد إلى ورائه منك ومن أهلك إلا امرأتك وإنما نهوا عن الالتفات ليسرعوا في السير فإن من يلتفت إلى ما وراءه لا يخلو عن أدنى وقفة وهذه القراءة تقتضي كون لوط غير مأمور بالإسراء بها وقراءة الرفع تقتضي كونه مأمورا بذلك إِنَّهُ مُصِيبُها أي امرأتك ما أَصابَهُمْ من العذاب إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أي إن وقت عذابهم وهلاكهم الصبح لأنه وقت الراحة فحلول العذاب حينئذ أفظع وهذا تعليل للنهي عن الالتفات المشعر بالحث على الإسراع أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) وهذا تأكيد للتعليل فإن قرب الصبح داع إلى الإسراع في الإسراء للتباعد عن مواضع العذاب فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا أي وقت عذابنا وهو الصبح جَعَلْنا عالِيَها أي عالي قرى قوم لوط وهي خمس مدائن فيها أربعمائة ألف ألف سافِلَها.(1/514)
روي أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه الواحد تحت مدائن قوم لوط وقلعها وصعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نهيق الحمار، ونباح الكلاب، وصياح الديوك ولم تنكفئ لهم جرة ولم ينكب لهم إناء، ثم قلبها دفعة واحدة وضربها على الأرض. وَأَمْطَرْنا عَلَيْها أي على أهل تلك القرى الخارجين عنها في الأسفار وغيرها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ أي من طين متحجر مَنْضُودٍ (82) أي كان بعض الحجارة فوق بعض في النزول مُسَوَّمَةً أي مخططة بالسواد والحمرة والبياض. أي كان عليها علامة تتميز بها عن حجارة الأرض عِنْدَ رَبِّكَ أي في خزائنه التي لا يتصرف فيها أحد إلا هو وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) أي ما هذه الحجارة من كل ظالم ببعيد فإنهم بسبب ظلمهم مستحقون لها أي فإن الظالمين حقيق بأن تمطر عليهم وَإِلى مَدْيَنَ أي وأرسلنا إلى أولاد مدين بن إبراهيم عليه السلام أَخاهُمْ في النسب شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده ولا تشركوا به شيئا ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ أي لا تنقصوا حقوق الناس بالكيل والوزن إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ أي ملتبسين بسعة تغنيكم عن النقص وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن لم توفوا بالكيل والوزن عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) أي يحيط بكم ولا ينفلت منكم أحد وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ أي أتموهما بِالْقِسْطِ أي بالعدل من غير زيادة ولا نقصان وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ بسبب عدم اعتدالهما أَشْياءَهُمْ أي أموالهم التي يشترونها بهما وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) أي ولا تعلموا في إفساد مصالح الغير فإن ذلك في الحقيقة إفساد مصالح أنفسكم بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ أي المال الحلال الذي يبقى لكم خير من تلك الزيادة الحاصلة بطريق التطفيف إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي مصدقين لي في مقالتي لكم.
وقرئ «تقية الله» بالفوقية أي تقواه تعالى عن المعاصي. وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) أي أحفظكم من القبائح ولست بحافظ عليكم نعم الله إذ لو لم تتركوا هذا العمل القبيح لزالت النعم عنكم قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا وقوله: أَوْ أَنْ نَفْعَلَ معطوف على «ما يعبد» ، و «أو» بمعنى الواو. والمعنى هلا صلاتك تأمرك بتكليفك إيانا ترك عبادة ما يعبد آباؤنا من الأوثان، وترك فعلنا ما نشاء من الأخذ والإعطاء والزيادة والنقص.
روي أن شعيبا كان كثير الصلاة في الليل والنهار، وكان قومه إذا رأوه يصلي تغامزوا وتضاحكوا، فقصدوا بقولهم: أصلاتك تأمرك السخرية إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) أي كنت عندنا مشهورا بأنك حليم رشيد فكيف تنهانا عن دين ألفيناه من آبائنا قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أي علم وهداية ودين ونبوة وَرَزَقَنِي مِنْهُ أي من عنده بإعانته بلا كد مني(1/515)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)
رِزْقاً حَسَناً أي مالا حلالا. فهل يجوز لي مع هذا الإنعام العظيم أن أخون في وحيه، وأن أخالفه في أمره ونهيه؟ وهذا الجواب مطابق لقولهم لسيدنا شعيب إنك لأنت الحليم الرشيد فكيف يليق بك مع حلمك ورشدك أن تنهانا عن دين آبائنا؟ فكأن شعيبا قال: إن نعم الله تعالى عندي كثيرة وهو أمرني بهذا التبليغ والرسالة فكيف يليق بي مع كثرة نعم الله تعالى على أن أخالف أمره! ومعنى الآية على هذا الوجه يا قوم أخبروني إن كنت نبيا من عند الله تعالى ورزقني مالا حلالا أستغني به عن العالمين أيصح أن أخالف أمره وأوافقكم فيما تأتون وما تذرون وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ أي ليس مرادي أن أمنعكم عن التطفيف وأن أفعله إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ أي ما أريد إلا أن أصلحكم بموعظتي مدة استطاعتي للإصلاح لا أقصر فيه. والمعنى أنكم تعرفون من حالي أني لا أسعى إلا في الإصلاح وإزالة الخصومة حتى إنكم أقررتم بأني حليم رشيد فلما أمرتكم بالتوحيد وترك إيذاء الناس، فاعلموا أنه دين حق وأنه ليس غرضي منه إيقاع الخصومة فإنكم تعرفون أني أبغض ذلك الطريق ولا أدور إلا على ما يوجب الصلاح بقدر طاقتي وذلك هو الإبلاغ والإنذار. وَما تَوْفِيقِي أي ما قدرتي على تنفيذ كل الأعمال الصالحة إِلَّا بِاللَّهِ أي إلا بمعونته وهدايته عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ أي عليه تعالى اعتمدت في جميع أموري وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) أي عليه أقبل وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أي لا تكسبنكم معاداتكم لي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ من الغرق أَوْ قَوْمَ هُودٍ من الريح العقيم أَوْ قَوْمَ صالِحٍ من الصيحة والرجفة وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) أي وما خبر إهلاك قوم لوط بالخسف منكم ببعيد فإن لم تعتبروا بمن قبلكم من الأمم المعدودة فاعتبروا بهم فإن بلادهم قريبة من مدين وإهلاكهم أقرب الإهلاكات التي عرفها الناس في زمان شعيب وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ عن عبادة الأوثان ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ عن النجس إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ أي عظيم الرحمة للتائبين وَدُودٌ (90) أي محب لهم
قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ أي ما نفهم مرادك وإنما قالوا ذلك لأنهم لم يجدوا إلى محاورته سبيلا سوى المنع عن طريق الحق كما هو ديدن المفحم المحجوج وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا أي فيما بيننا ضَعِيفاً أي لا تقدر على منع القوم عن نفسك إن أرادوا بك سوءا وَلَوْلا رَهْطُكَ أي لولا حرمة قومك عندنا بسبب كونهم على ملتنا لَرَجَمْناكَ
أي لقتلناك بالحجارة أو لشتمناك وطردناك وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) أي معظم فيسهل علينا قتلك وإيذاؤك وإنما نمتنع من ذلك لرعاية حرمة عشيرتك لموافقتهم لنا في الدين لا لقوة شوكتهم. قالَ لهم: يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ والمعنى حفظكم إياي رعاية الأمر الله تعالى أولى من حفظكم إياي رعاية لحق رهطي فالله تعالى أولى أن يتبع أمره وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا أي جعلتم الله شيئا منبوذا خلف ظهرك منسيا لا يعبأ به إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ من الأعمال السيئة مُحِيطٌ (92) أي عالم فلا يخفى عليه شيء منها فيجازيكم عليها وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي على غاية استطاعتكم من إيصال الشرور إلى إِنِّي عامِلٌ بقدر ما آتاني الله(1/516)
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)
تعالى من القدرة سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ أي سوف تعرفون الشقي الذي يأتيه عذاب يهلكه والذي هو كاذب في ادعاء القوة والقدرة على رجم شعيب عليه السلام وفي نسبته إلى الضعف وَارْتَقِبُوا أي انتظروا عاقبة ما أقول إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) أي منتظر وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا أي عذابنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ من ذلك العذاب بِرَحْمَةٍ مِنَّا أي بسبب مرحمة كائنة منا لهم وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ أي صيحة جبريل والزلزلة أيضا فأهلكوا بهما فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) أي ميتين ملازمين لأماكنهم كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أي كأنهم لم يقيموا في ديارهم أحياء مترددين أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ أي هلاكا لقوم شعيب كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) أي كما هلكت قوم صالح أي فإنهما أهلكا بنوع من العذاب وهو الصيحة إلا أن هؤلاء صيح بهم من فوقهم وأولئك من تحتهم وهذا في أهل قرية شعيب وأما أصحاب الأيكة فأهلكوا بعذاب الظلة وهو نار نزلت من السماء أحرقتهم وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) أي ولقد أرسلنا موسى بالتوراة مع ما فيها من الأحكام وأيدناه بمعجزات قاهرة دالة على صدق نبوته ورسالته إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ أي جماعته فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ أي أمره إياهم بالكفر بموسى ومعجزاته وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) أي بمرشد إلى خير فإنه كان دهريا نافيا للصانع والمعاد، وكان يقول: لا إله للعالم وإنما يجب على أهل كل بلد أن يشتغلوا بطاعة سلطانهم وعبوديته رعاية لمصلحة العالم يَقْدُمُ قَوْمَهُ أي يقود قومه جميعا، يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ أي إن فرعون كان قدوة لقومه في الضلال وفي دخول البحر والغرق في الدنيا، فكذلك يتقدمهم يوم القيامة في دخول النار والحرق وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) أي بئس الورد الذي يردونه النار لأن الورد، إنما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد والنار على ضد ذلك وَأُتْبِعُوا أي الملأ الذين تبعوا أمر فرعون فِي هذِهِ أي في الدنيا لَعْنَةً من الأمم بعدهم إلى يوم القيامة وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أيضا من أهل الموقف قاطبة بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) أي بئس العون المعان عونهم، أي بئس اللعنة الأولى المعان باللعنة الثانية عونهم وهي اللعنة في الدارين، وسميت اللعنة عونا لأنها إذا تبعتهم في الدنيا أبعدتهم عن رحمة الله وأعانتهم على ما هم فيه من الضلال وسميت رفدا أي عونا لهذا المعنى على التهكم وسميت معانا لأنها أرفدت في الآخرة بلعنة أخرى ليكونا هاديين إلى طريق الجحيم وَالْعادِياتِ أي الذي ذكرناه في هذه السورة من القصص السبعة مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ أي ذلك بعض أخبار القرى المهلكة بجناية أهلها مقصوص عليك لتخبر به قومك لعلهم يعتبرون وإلا فينزل بهم مثل ما نزل بالقرى المهلكة مِنْها أي القرى قائِمٌ أي أثر باق وَمنها حَصِيدٌ (100) أي ذاهب الأثر فشبه ما بقي من آثار القرى وجدرانها بالزرع القائم على ساقه وما محي منها بالزرع المحصود
وَما ظَلَمْناهُمْ بالعذاب والإهلاك وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر والمعصية فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ أي فما نفعتهم أصنامهم الذين يعبدونها في شيء(1/517)
ألبتة، ولا دفعت شيئا من عذاب الله عنهم حين جاءهم وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) أي وما زادت الأصنام عابديها غير إهلاك فإن الكفار كانوا يعتقدون في الأصنام أنها تعين على تحصيل المنافع ودفع المضار، ثم زال عنهم بسبب ذلك الاعتقاد منافع الدنيا والآخرة، وجلب إليهم مضار الدنيا والآخرة فكان ذلك من أعظم موجبات الخسران.
وقرئ «آلهتهم اللاتي» بالجمع، و «يدعون» بالبناء للمجهول وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وقرأ عاصم والجحدري «إذ أخذ» بألف واحدة. وَهِيَ ظالِمَةٌ أي ومثل ذلك الأخذ المذكور أخذ ربك أهل القرى إذا أخذهم وهم ظالمون أنفسهم بالكفر أي إن كل من شارك أولئك المتقدمين في فعل ما لا ينبغي فلا بد وأن يشاركهم في ذلك الأخذ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) أي وجيع صعب على المأخوذ لا يرجى منه الخلاص إِنَّ فِي ذلِكَ أي القصص السبعة لَآيَةً أي لموعظة لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ فينتفع بسماع هذه القصص ويعلم أن القادر على إنزال عذاب الدنيا قادر على إنزال عذاب الآخرة فإن في هذه القصص عذاب الدارين وقد حصل عذاب الدنيا ذلِكَ أي يوم الآخرة يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ أي يجمع في ذلك اليوم الأولون والآخرون للمحاسبة والجزاء وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) أي يحضر فيه أهل السماء وأهل الأرض وَما نُؤَخِّرُهُ أي ذلك اليوم إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) أي إلا لأجل انقضاء وقت محدود وهو مدة الدنيا يَوْمَ يَأْتِ أي حين يأتي ذلك اليوم المؤخر لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ أي الله تعالى في التكلم فالمأذون في الكلام هو الجوابات الصحيحة والممنوع عنه هو ذكر الأعذار الباطلة فَمِنْهُمْ أي من أهل الموقف شَقِيٌّ أي من مات على الكفر وإن تقدم منه إيمان وَسَعِيدٌ (105) أي من مات على الإيمان وإن تقدم منه كفر. فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ أي فمستقرون فيها لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ أي صوت شديد وَشَهِيقٌ (106) أي صوت ضعيف خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ وإلا في المعنى بمعنى واو العطف، والاستثناء منقطع بقدر بلكن أو بسوى. فالمعنى دائمين في النار مثل دوام السموات والأرض منذ خلقت إلى أن تفنى، وزيادة على هذه المدة وهي ما شاء مما لا نهاية له إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107) من غير اعتراض وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ أي مثل دوام السموات والأرض منذ خلقتا سوى ما شاء ربك زائدا على ذلك وهو لا منتهى له عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) أي غير مقطوع وعطاء نصب على المصدرية أي يعطيهم عطاء وهذا ظاهر في أنه ليس المراد من هذا الاستثناء كون هذه الحالة منقطعة وما ذكر من أن عذاب الكفار في جهنم دائم أبدا هو ما دلت عليه الآيات والأخبار، وأطبق عليه جمهور الأمة سلفا وخلفا ولا ظلم على الله في ذلك لأن الكافر كان عازما على الكفر ما دام حيا فعوقب دائما فهو لم يعاقب بالدائم إلا على دائم فلم يكن عذابه إلا جزاء وفاقا.(1/518)
وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)
وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «سعدوا» بضم السين. والباقون بفتحها. فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ أي فلا تك يا أشرف الخلق في شك من حال ما يعبد كفار قريش من الأوثان في أنها لا تنفع لهم ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ أي ليس لهم في عبادة الأصنام مستند إلا تقليد آبائهم فإنهم أشبهوا آباءهم في لزوم الجهل والتقليد وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) أي إنا معطو هؤلاء الكفرة ما يخصهم من العذاب ونصيبهم من الرزق والخيرات الدنيوية تاما كما أعطينا آباءهم أنصباءهم من ذلك وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة فَاخْتُلِفَ فِيهِ أي في شأنه. فآمن به قوم وكفر به قوم آخرون كما اختلف قومك في القرآن فلا تحزن فإن ما وقع لك وقع لمن قبلك. وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي لولا الحكم الأزلي بتأخير العذاب عن أمتك إلى يوم القيامة لأوقع القضاء بين المختلفين من قومك بإنزال العذاب الذي يستحقه المبطلون ليتميزوا به عن المحقين وَإِنَّهُمْ أي وإن كفار قومك لَفِي شَكٍّ عظيم مِنْهُ أي القرآن مُرِيبٍ (110) أي ظاهر الشك أو موقع في الشك
وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ.
قرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر عن عاصم «إن» و «لما» مخففتين، وأبو عمرو والكسائي شددا «إن» وخففا «لما» ، وحمزة وابن عامر وحفص شددوهما، أي وإن كل المختلفين فيه المؤمنين منهم والكافرين والله لفريق يوفيهم ربك أجزية أعمالهم، أو المعنى وإن جميعهم والله لَيُوَفِّيَنَّهُمْ الآية.
قالوا: وأحسن ما قيل إن أصل لما لمّا بالتنوين بمعنى جميعا إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) أي إن ربك بما يعمله كل فرد من المختلفين من الخير والشر عالم لا يخفى عليه شيء من أعمال عباده وإن دقت فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ أي مثل الاستقامة التي أمرت في العقائد والأعمال والأخلاق فإن الاستقامة في العقائد اجتناب التشبيه والتعطيل، وفي الأعمال الاحتراز عن الزيادة والنقصان وفي الأخلاق التباعد عن طرفي الإفراط والتفريط وهذا في غاية العسر
وعن بعضهم قال: رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في النوم فقلت له: روي عنك أنك قلت: شيبتني هود وأخواتها، فقال: «نعم» فقلت: وبأي آية؟ فقال بقوله تعالى: «فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ»
«1» . وَمَنْ تابَ مَعَكَ من الكفر وشاركك في الإيمان ف «من» منصوب على أنه مفعول معه أو مرفوع عطف على الضمير في أمرت وَلا تَطْغَوْا أي لا تتحرفوا عمّا حد لكم بإفراط أو تفريط فإن كلّا طرفي قصد الأمور ذميم إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) فيجازيكم على ذلك وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أي ولا تميلوا أدنى ميل إلى الذين وجد منهم الظلم فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ أي فتصيبكم بسبب ذلك وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ أي من أنصار ينقذونكم من النار ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113) من جهة الله تعالى.
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب التفسير، باب: تفسير سورة 56.(1/519)
قال المحققون: الركون المنهي عنه هو الرضا بما عليه الظلمة من الظلم ومشاركتكم في شيء من تلك الأبواب فأما مداخلتهم لدفع ضرر أو اجتلاب منفعة عاجلة فغير داخل في الركون وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ أي غدوة وعشية فالصبح في الغدوة والظهر والعصر في العشية وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ أي ساعات منه قريبة من النهار وهي المغرب والعشاء إِنَّ الْحَسَناتِ كالصلوات الخمس يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ أي يكفرنها
وفي الحديث: «إن الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر»
«1» .
روي أن أبا اليسر بن عمرو الأنصاري قال: أتتني امرأة تشتري تمرا فقلت لها: إن في البيت تمرا أطيب من هذا. فدخلت معي البيت، فقبلتها، فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال: استر على نفسك، وتب ولا تخبر أحدا. فأتيت عمر فذكرت ذلك له فقال: استر على نفسك، وتب ولا تخبر أحدا. فلم أصبر حتى أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكرت ذلك له فقال لي: «أخنت رجلا غازيا في سبيل الله في أهله بمثل هذا» وأطرق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طويلا حتى نزلت هذه الآية فقرأها علي فقال:
«نعم اذهب فإنها كفارة لما عملت»
«2» . ذلِكَ أي القرآن ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) أي عظة للمتعظين أو ذلك الحسنات كفارات لذنوب التائبين. وَاصْبِرْ يا أشرف الخلق على مشاق ما أمرت به فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) أي إن الله يوفي الصابرين أجور أعمالهم من غير بخس أصلا فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ والمراد بالتخصيص النفي أي فما كان من القرون الماضية المهلكة بالعذاب جماعة أصحاب جودة في العقل، وفضل ينهون عن الفساد إلا قليلا وهم من أنجيناهم من العذاب نهوا عن الفساد وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ أي واتبع الذين تركوا النهي عن المنكرات ما أنعموا من الشهوات واشتغلوا بتحصيل الرياسات وأعرضوا عما وراء ذلك وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116) أي كافرين فإن سبب استئصال الأمم المهلكة فشو الظلم وشيوع ترك النهي عن المنكرات مع الكفر وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (117) أي لا يهلك ربك أهل القرى بمجرد كونهم مشركين، إذا كانوا مصلحين في المعاملات بينهم، أي إن عذاب الاستئصال لا ينزل لأجل كون القوم معتقدين للشرك بل إنما ينزل ذلك إذا أساءوا في المعاملات وسعوا في الإيذاء للناس، وظلم الخلق لفرط مسامحته تعالى في حقوقه ولذلك تقدم حقوق العباد على حقوقه تعالى عند تزاحم الحقوق وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً أي أهل ملة
__________
(1) رواه ابن حجر في فتح الباري (8: 357) .
(2) رواه الترمذي في كتاب التفسير، باب: تفسير سورة 11.(1/520)
وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
واحدة وهي الإسلام بحيث لا يختلف فيه أحد ولكن لم يشأ ذلك وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ أي ولا يزالون مخالفين لدين الحق إلا قوما قد هداهم الله تعالى بفضله إليه فلم يخالفوه وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ أي وللمذكور من الاختلاف والرحمة خلق الناس كافة فإن الله تعالى خلق أهل الباطل وجعلهم مختلفين، ومصيرهم النار. وخلق أهل الحق وجعلهم متفقين ومصيرهم الجنة. وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي ثبت قول ربك لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) أي من كفارهما أجمعين وَكُلًّا أي كل نبأ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ أي من أخبارهم وما جرى لهم مع قومهم ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ أي ما نقوي به قلبك لتصير على أذى قومك وتتأسى بالرسل الذين خلوا من قبلك وَجاءَكَ فِي هذِهِ الأنباء المقصوصة عليك الْحَقُّ أي البراهين الدالة على التوحيد والنوبة وَمَوْعِظَةٌ أي تنفير عن الدنيا وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) أي إرشاد لهم إلى الأعمال الصالحة
وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بهذا الحق اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي ثابتين على حالتكم وهي الكفر إِنَّا عامِلُونَ (121) على حالتنا وهي الإيمان. أو المعنى افعلوا كل ما تقدرون عليه في حقي من الشر فنحن عاملون على قدرتنا. والمراد بهذا الأمر: التهديد وَانْتَظِرُوا ما يعدكم الشيطان به من الخذلان إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) ما وعدنا الرحمن من أنواع الغفران والإحسان وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فإن علمه تعالى نافذ في جميع الكليات والجزئيات والحاضرات والغائبات عن العباد وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ أي أمر الخلق كلهم في الدنيا والآخرة فَاعْبُدْهُ أي فاشتغل بالعبادات الجسدانية والروحانية أما العبادات الجسدانية فأفضل الحركات الصلاة وأكمل السكنات الصيام وأنفع البر الصدقة وأما العبادات الروحانية فهي الفكر والتأمل في عجائب صنع الله في ملكوت السموات والأرض وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ أي ثق به تعالى في جميع أمورك فإنه كافيك وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) .
وقرأ نافع وابن عامر وحفص بالتاء على الخطاب، أي فإنه تعالى لا يضيع طاعات المطيعين، ولا يهمل أحوال المتمردين الجاحدين، وذلك بأن يحضروا في موقف القيامة ويحاسبوا على النقير والقمطير، ويعاتبوا في الصغير والكبير، ثم يحصل عاقبة الأمر فريق في الجنة وفريق في السعير.(1/521)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)
سورة يوسف
مكية، مائة وإحدى عشرة آية، ألف وسبعمائة وخمس وتسعون كلمة، سبعة آلاف وثلاثمائة وسبعة أحرف
وعن ابن عباس أنه قال: سألت اليهود النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: حدثنا عن أمر يعقوب وولده، وشأن يوسف. فنزلت هذه السورة الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) أي تلك الآيات التي نزلت إليك في هذه السورة المسماة الر هي آيات الكتاب المبين وهو القرآن الذي بين الهدى وقصص الأولين إِنَّا أَنْزَلْناهُ أي هذا الكتاب الذي فيه قصه يوسف في حال كونه قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) أي لكي تفهموا معانيه في أمر الدين فتعلموا أن قصه كذلك ممن لم يتعلم القصص معجز لا يتصور إلا بالإيحاء. نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ أي بسبب إيحائنا إليك يا أكرم الرسل هذه السورة لما فيه من العبر من أنه لا مانع من قدرة الله تعالى، وأن الحسد سبب للخذلان، وأن الصبر مفتاح الفرج وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ أي وإنه أي الشأن كنت من قبل إيحائنا إليك هذه السورة لَمِنَ الْغافِلِينَ (3) عن هذه القصة لم تخطر ببالك ولم تقرع سمعك قط إِذْ قالَ يُوسُفُ منصوب بقال: يا بني، أي قال يعقوب: يا بني وقت قول يوسف له: كيت وكيت أو بدل من أحسن القصص بدل اشتمال لِأَبِيهِ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ في منام النهار أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) . قال وهب: رأى يوسف
عليه السلام وهو ابن سبع سنين أن إحدى عشرة عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدائرة وإذا عصا صغيرة وثبت عليها حتى ابتلعتها، فذكر ذلك لأبيه فقال: إياك أن تذكر هذا لإخوتك، ثم رأى وهو ابن ثنتي عشرة الشمس والقمر والكواكب تسجد له فقصها على أبيه فقال: لا تذكرها لهم فيبغوا لك الغوائل.
روي عن جابر رضي الله عنه أن يهوديا جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا محمد أخبرني عن النجوم التي رآهن يوسف عليه السلام، فسكت النبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزل جبريل عليه السلام فأخبره بذلك فقال صلّى الله عليه وسلّم لليهودي: «إذا أخبرتك بذلك هل تسلم» فقال: نعم، قال: «جريان، والطارق،(1/522)
والذيال، وقابس، وعمودان، والفليق، والمصبح، والضروخ، والفرغ، ووثاب، وذو الكتفين رآها يوسف عليه السلام، والشمس والقمر نزلن من السماء وسجدن له» «1» فقال اليهودي: إي والله إنها لأسماؤها،
قالَ أي يعقوب ليوسف في السر يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً أي فيفعلوا لأجل هلاكك كيدا خفيا عن فهمك لا تتصدى لمدافعته إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ أي لنبي آدم عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) أي ظاهر العداوة فلا يقصر في إضلال إخوتك وحملهم على الحسد وما لا خير فيه كما فعل بآدم وحواء، وإخوة يوسف الذين يخشى غوائلهم، الأحد عشر هم يهوذا وروبيل وشمعون، ولاوى، وربالون، ويشجر، ودينة فهؤلاء بنو يعقوب من ليا بنت خالته، ودان ونفتالى، وجاد وآشر فهؤلاء بنوه من سريتين زلفة وبلهة، وأما بنيامين فهو شقيق يوسف وأمهما راحيل التي تزوجها يعقوب بعد وفاة أختها ليا، وَكَذلِكَ أي كما اجتباك لهذه الرؤية الدالة على كبر شأنك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ للنبوة وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أي تعبير الرؤيا إذ هي أحاديث الملك إن كانت صادقة، وأحاديث النفس والشيطان إن كانت كاذبة، وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بسعادات الدنيا والآخرة، أما سعادات الدنيا: فالإكثار من الأولاد والخدم والأتباع والتوسع في المال والجاه، والإجلال في قلوب الخلق وحسن الثناء، وأما سعادات الآخرة: فالعلوم الكثيرة والأخلاق الفاضلة والاستغراق في معرفة الله تعالى وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ أي أولاده كَما أَتَمَّها أي نعمته عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل هذا الوقت إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ عطف بيان لأبويك إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) فالله أعلم حيث يجعل رسالته ومقدس عن العبث فلا يضع النبوة إلا في نفس قدسية وهذا يقتضي حصول النبوة لأولاد يعقوب، وأيضا إن رؤية يوسف إخوته كواكب دليل على مصير أمرهم إلى النبوة، فإن الكواكب يهتدى بأنوارها.
وكانت تأويلها بأحد عشر نفسا لهم فضل يستضيء بعلمهم ودينهم أهل الأرض، لأنه لا شيء أضوأ من الكواكب. وأما ما وقع منهم في حق يوسف فهو قبل النبوة، فالعصمة من المعاصي إنما تعتبر وقت النبوة لا قبلها على خلاف في ذلك. لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ أي في قصتهم آياتٌ أي عبرات لِلسَّائِلِينَ (7) أي لكل من سأل عن قصتهم وعرفها أو للطالبين للآيات المعتبرين بها فإنهم المنتفعون بها دون من عداهم إِذْ قالُوا أي بعض العشرة لبعضهم لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ الشقيق بنيامين بكسر الباء وفتحها أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ أي والحال أنّا جماعة قائمون بدفع المفاسد والآفات مشتغلون بتحصيل المنافع والخيرات، وقائمون بمصالح الأب فنحن أحق بزيادة المحبة منهما لفضلنا بذلك وبكوننا أكبر سنا. ونقل عن علي رضي الله عنه أنه قرأ و «نحن عصبة» بالنصب. إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ عن رعاية المصالح في الدنيا
__________
(1) رواه الطبري في التفسير (12: 90) .(1/523)
قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
مُبِينٍ (8) أي ظاهر الحال وإنما خصص على يوسف أبوه بالبر لأنه كان يرى فيه من آثار الرشد والنجابة ما لم يجد في سائر الأولاد، ولأنه وإن كان صغيرا كان يخدم أباه بأنواع من الخدمة أعلى مما كان يصدر عن سائر الأولاد.
قال شمعون: ودان والباقون كانوا راضين إلا من قال: لا تقتلوا إلخ. اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يحصل اليأس من اجتماعه مع أبيه يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ أي يقبل عليكم أبوكم بكليته ولا يلتفت إلى غيركم وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد يوسف من قتله أو تغريبه في أرض بعيدة قَوْماً صالِحِينَ (9) أي تائبين إلى الله تعالى من الكبائر ومتفرقين لإصلاح أمور دنياكم وصالحين مع أبيكم بإصلاح ما بينكم وبينه قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ أي من إخوة يوسف هو يهوذا فإنه أقدمهم في الرأي والفضل وأقربهم إلى يوسف سنا لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ.
وقال قتادة: القائل لإخوته روبيل حتى قال: القتل كبيرة عظيمة وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ أي في قعره.
وقرأ نافع «غيابات» بالجمع في الموضعين. قال قتادة: الجب هنا هو بئر بيت المقدس. وقال وهب: هو في أرض الأردن. وقال ابن زيد: هو بحيرة طبرية. يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ أي يرفعه بعض طائفة تسير في الأرض إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10) بمشورتي ولم يقطع القول عليهم بل إنما عرض عليهم ذلك تأليفا لقلبهم وحذرا من نسبتهم له إلى الافتيات أو إن كنتم فاعلين ما عزمتم عليه من إزالته من عند أبيه ولا بد فافعلوا هذا القدر أي إلقاءه في البئر. والأولى أن لا تفعلوا شيئا من القتل والتغريب.
قالُوا لأبيهم إعمالا للحيلة في الوصول إلى مقاصدهم مستفهمين على وجه التعجب لأنه علم منهم السوء، وهذا مبني على مقدمات محذوفة، وذلك أنهم قالوا أولا ليوسف: اخرج معنا، إلى الصحراء إلى مواشينا فنستبق ونصيد، وقالوا له: سل أباك أن يرسلك معنا، فسأله فتوقف يعقوب فقالوا له: يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ أي أيّ شيء ثبت لك لا تجعلنا أمناء عليه مع أنه أخونا وأنك أبونا ونحن بنوك وَالحال وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) أي لعاطفون عليه قائمون بمصلحته وبحفظه، أي هم أظهروا عند أبيهم أنهم في غاية المحبة ليوسف وفي غاية الشفقة عليه أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً إلى الصحراء يَرْتَعْ أي نتسع في أكل الفواكه ونحوها وَيَلْعَبْ بالاستباق والانتضال تمرينا لقتال الأعداء، وبالإقدام على المباحات لأجل انشراح الصدر لا للهو.
وقرأ نافع وعاصم وحمزة، والكسائي بمثناة تحتية على إسناد الفعل ليوسف لأنهم سألوا إرسال يوسف معهم ليفرح هو باللعب لا ليفرحوا به وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12) من أن يناله مكروه قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ أي ليؤلم قلبي ذهابكم به لأني لا أصبر عنه ساعة وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ لكثرة الذئب في تلك الأرض. وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) لاشتغالكم بالاتساع(1/524)
في الملاذ وبنحو التناضل قالُوا: لأبيهم. لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ أي جماعة كثيرة عشرة تكفي الخطوب بآرائنا إِنَّا إِذاً أي إذا لم نقدر على حفظ أخينا لَخاسِرُونَ (14) أي لقوم عاجزون وهذا جواب عن عذر يعقوب الثاني وأما عذره الأول فلم يجيبوا عنه لكون غرضهم إيقاعه في الحزن، ولكون حقدهم بسبب ذلك العذر وهو شدة حبه له فتغافلوا عنه فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ أي فأرسله معهم فلما ذهبوا به وعزموا على جعله في ظلمة البئر فجعلوه فيها.
قال السدي: إن يوسف عليه السلام لما برز مع إخوته أظهروا له العداوة الشديدة وجعل هذا الأخ يضر به فيستغيث بالآخر فيضربه ولا يرى فيهم رحيما، فضربوه حتى كادوا يقتلونه وهو يقول: يا يعقوب لو تعلم ما يصنع بابنك لأباك فقال يهوذا: أليس قد أعطيتموني موثقا أن لا تقتلوه. فانطلقوا به إلى الجب يدلونه فيه وهو متعلق بشفير البئر فنزعوا قميصه وكان غرضهم أن يلطخوه بالدم ويعرضوه على يعقوب. فقال لهم: ردوا علي قميصي لأتوارى به. فقالوا: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا لتؤنسك، ثم دلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه ليموت، وكان في البئر ماء فسقط فيه، ثم آوى إلى صخرة فقام بها وهو يبكي، فنادوه فظن أن رحمة أدركتهم فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه بصخرة، فقام يهوذا فمنعهم من ذلك، وكان يهوذا يأتيه بالطعام وبقي فيها ثلاث ليال.
وروي أنه عليه السلام لما ألقي في الجب قال: يا شاهدا غير غائب ويا قريبا غير بعيد، ويا غالبا غير مغلوب اجعل لي من أمري فرجا ومخرجا.
وروي أن إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار جرد عن ثيابه فجاءه جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة وألبسه إياه، فدفعه إبراهيم إلى إسحاق، ودفعه إسحاق إلى يعقوب فجعله يعقوب في تميمة وعلقها في عنق يوسف، فجاءه جبريل فأخرجه من التميمة وألبسه إياه.
وروي أن جبريل قال له: إذا رهبت شيئا فقل: يا صريخ المستصرخين ويا غوث المستغيثين، ويا مفرج كرب المكروبين قد ترى مكاني وتعلم حالي ولا يخفى عليك
شيء من أمري. فلما قالها يوسف حفته الملائكة واستأنس في الجب. وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ في الجب إزالة لوحشته عن قلبه، وتبشيرا له بما يؤول إليه أمره. وكان ابن سبع عشرة سنة. لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا أي لتخبرن يا يوسف إخوتك بصنيعهم هذا بك بعد هذا اليوم وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15) في ذلك الوقت أنك يوسف حتى تخبرهم لعلو شأنك وبعد حالك عن أوهامك. والمقصود تقوية قلبه بأنه سيحصل له الخلاص عن هذه المحنة ويصيرون تحت قهره وقدرته. وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) أي لما طرحوا يوسف في الجب رجعوا إلى أبيهم وقت العشاء في ظلمة الليل متباكين.
وقرئ «عشيا» بالتصغير «لعشي» أي آخر النهار. وقرئ «عشى» بالضم والقصر جمع(1/525)
أعشى فعند ذلك فزع يعقوب. وقال هل أصابكم في غنمكم شيء قالوا: لا، قال: وأنّى يوسف.
قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ يسابق بعضنا بعضا في الرمي.
روي أن في قراءة عبد الله «إنا ذهبنا ننتضل» وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا من ثياب وأزواد وغيرهما ليحفظه فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا أي بمصدق لنا في هذه المقالة وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) أي ولو كنا عندك موصوفين بالصدق والثقة لشدة محبتك ليوسف فكيف وأنت سيئ الظن بنا غير واثق بقولنا: وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ أي فوق قميص يوسف بِدَمٍ كَذِبٍ أي بدم ملابس لكذب.
وقرئ «كذبا» على أنه حال من الضمير أي جاءوا كاذبين أو مفعول له. وقرأت عائشة رضي الله عنها «بدم كذب» بالدال المهملة أي كدر أو طري. قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً أي قال يعقوب: ليس الأمر كما تقولون بل زينت لكم أنفسكم أمرا غير ما تصفون. قيل: لما جاءوا على قميصه بدم جدي وقد ذهلوا عن خرق القميص فلما رأى يعقوب القميص صحيحا قال: كذبتم لو أكله الذئب لخرق قميصه، وقال بعضهم: بل قتله اللصوص فقال: كيف قتلوه وتركوا قميصه وهم إلى قميصه أحوج منه إلى قتله؟ وقيل: إنهم أتوه بذئب وقالوا: هذا أكله فقال يعقوب: أيها الذئب أنت أكلت ولدي وثمرة فؤادي فأنطقه الله عز وجل وقال: والله ما أكلت ولدك ولا رأيته قط ولا يحل لنا أن نأكل لحوم الأنبياء فقال له يعقوب: فكيف وقعت في أرض كنعان؟ قال: جئت لصلة الرحم قرابة لي فأخذوني وأتوا بي إليك فأطلقه يعقوب. فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أي فصبري صبر جميل أو فصبر جميل أولى من الجزع وهو أن لا يشكو البلاء لأحد غير الله تعالى وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ أي المطلوب منه العون عَلى ما تَصِفُونَ (18) أي على تحمل ما تصفون من هلاك يوسف وكأن الله تعالى قد مضى على يعقوب أن يوصل إليه تلك الغموم الشديدة، والهموم العظيمة ليكثر رجوعه إلى الله تعالى وينقطع تعلق فكره عن الدنيا فيصل إلى درجة عالية في العبودية لا يمكن الوصول إليها إلا بتحمل المحن الشديدة والله أعلم. وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ أي رفقة تسير من جهة مدين يريدون مصر فأخطأوا الطريق فانطلقوا يهيمون في الأرض حتى وقعوا في الأراضي التي فيها الجب- وهي أرض دوثن بين مدين ومصر- فنزلوا عليه فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ أي ساقيهم ليطلب لهم الماء وهو من يهيئ الأرشية والدلاء فيتقدم الرفقة إلى الماء يقال له: مالك بن ذعر الخزاعي ابن أخي سيدنا شعيب عليه السلام وهو رجل من العرب من أهل مدين فَأَدْلى دَلْوَهُ أي فأرخى دلوه في جب يوسف فتعلق هو فلم يقدر الساقي على نزعه من البئر فنظر فيه فرأى غلاما قد تعلق بالدلو فنادى أصحابه قالَ يا بُشْرى أي يا أصحابي، وقال الأعمش: إنه دعا امرأة اسمها بشرى.
وقال السدي: إنه نادى صاحبه واسمه بشرى كما قرأه حمزة وعاصم والكسائي بغير ياء(1/526)
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)
المتكلم بعد الألف المقصورة، وقال أبو علي الفارسي: والوجه أن يجعل البشرى اسما للبشارة، فنادى ذلك بشارة لنفسه كأنه يقول: يا أيتها البشرى هذا الوقت وقتك ولو كنت ممن يخاطب لخوطبت الآن ولأمرت بالحضور، ويدل على هذا قراءة الباقين «يا بشراي» بفتح ياء المتكلم بعد الياء على الإضافة قالوا: ماذا لك يا مالك؟ قال: هذا غُلامٌ أحسن ما يكون من الغلمان. فكان يوسف حسن الوجه، جعد الشعر، ضخم العينين، مستوي الخلق، أبيض اللون، غليظ الساعدين، والعضدين والساقين، خميص البطن، صغير السرة. وكان إذا تبسم ظهر النور من ضواحكه، وإذا تكلم ظهر من ثناياه ولا يستطيع أحد وصفه اه. فاجتمعوا عليه فأخرجوه من الجب بعد مكثه فيها ثلاثة أيام وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً أي أخفوه حال كونه متاعا للتجارة، أي كتم الوارد مالك وأصحابه من بقية القوم وذلك لأنهم قالوا: إن قلنا للسيارة التقطناه شاركونا فيه، وإن قلنا: اشتريناه سألونا الشركة فالأصوب أن نقول: إن أهل الماء جعلوه بضاعة عندنا على أن نبيعه لهم بمصر وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19) أي بما ينشأ من عمل إخوة يوسف ليوسف من إيقاعه في البلاء الشديد وهو سبب لوصوله إلى مصر ولتنقله في أحوال إلى أن صار ملك مصر وحصل ذلك الذي رآه في النوم فرحم الله به العباد والبلاد وَشَرَوْهُ أي باع يوسف من استخرجوه من البئر بِثَمَنٍ بَخْسٍ أي حرام دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ فإنهم في ذلك الزمان كانوا لا يزنون ما كان أقل من أربعين دينارا وَكانُوا أي البائعون فِيهِ أي في يوسف مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) أي من الذين لا يرغبون لأنهم خافوا أن يظهر المستحق فينزعه من يدهم فكذلك باعوه من أول مساوم بأوكس الأثمان.
وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ أي في مصر من مالك بن ذعر وكان اشتراؤه بعشرين درهما وحلة ونعلين، فالذي اشتراه في مصر هو قطفير خازن الملك الريان بن الوليد، وهو صاحب جنوده، وقد آمن الملك بيوسف ومات في حياة يوسف عليه السلام فملك بعده قابوس بن مصعب، فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى واشترى ذلك الوزير يوسف وهو ابن سبع عشرة سنة، وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة، واستوزره ريان بن الوليد وهو ابن ثلاثين سنة وآتاه الله الملك والحكمة وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وتوفي وهو ابن مائة عشرين سنة. لِامْرَأَتِهِ زليخا. وقال ابن إسحاق: اسمها راعيل بنت رعيائيل: أَكْرِمِي مَثْواهُ أي اجعلي منزله عندك كريما حسنا مرضيا: والمعنى أحسني تعهده عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أي يقوم بإصلاح مهماتنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً أي نتبناه، وكان قطفير لا يأتي النساء وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ أي وكما نجينا يوسف من القتل والجب وجعلنا في قلب الوزير حنوا عليه تعطيه مكانة أي رتبة عالية في أرض مصر وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أي تعبير بعض المنامات التي أعظمها رؤيا الملك وصاحبي السجن وهذا عطف على مقدر متعلق بمكنا، أي جعلنا يوسف وجيها بين أهل مصر ومحببا في قلوبهم لينشأ منه ما جرى بينه وبين امرأة العزيز ولنعلمه بعض تأويل الرؤيا وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ أي أمر نفسه لأنه فعال لما يريد لا دافع لقضائه ولا مانع عن حكمه في(1/527)
أرضه وسمائه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ وهم الكفار لا يَعْلَمُونَ (21) أن الأمر كله لله وأن قضاء الله غالب فمن تأمل في أحوال الدنيا عرف ذلك وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وهو ما بين الثلاثين والأربعين آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً أي حكمة عملية وحكمة نظرية وإنما قدم الحكمة العملية هنا على العلمية لأن أصحاب الرياضات يشتغلون بالحكمة العملية، ثم يترقون منها إلى الحكمة النظرية. وأما أصحاب الأفكار العقلية والأنظار الروحانية: فإنهم يصلون إلى الحكمة النظرية أولا، ثم ينزلون منها إلى الحكمة العملية. وطريقة يوسف عليه السلام هو الأول لأنه صبر على البلاء والمحنة ففتح الله تعالى عليه أبواب المكاشفات. وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء العجيب نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) أي كل من يحسن في عمله وعن الحسن من أحسن عبادة ربه في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ أي طلبت زليخا من يوسف أن يجامعها وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ أي أبواب البيت السبعة، ثم دعته إلى نفسها وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ.
قرأ نافع وابن عامر في رواية ابن ذكوان «هيت» بكسر الهاء وفتح التاء، وقرأ ابن كثير «هيت» بضم التاء وفتحها مع فتح الهاء، وقرأ هشام بن عمار عن أبي عامر «هئت لك» بكسر الهاء وبالهمزة الساكنة وضم التاء، والباقون بفتح الهاء وإسكان الياء وفتح التاء وإن قرئ «هيت» بفتح الهاء والتاء أو ضم التاء فمعناه تعال وبادر أنالك وإن قرأت بكسر الهاء، ثم بالهمزة الساكنة وضم التاء فمعناه تهيأت لك قالَ يوسف: مَعاذَ اللَّهِ أي أعوذ بالله معاذا مما تدعينني إليه إِنَّهُ أي الشأن العظيم رَبِّي أي سيدي العزيز أَحْسَنَ مَثْوايَ أي تعهدي حيث أمرك بإكرامي فلا يليق بالعقل أن أجازيه على ذلك الإحسان بالخيانة في حرمه إِنَّهُ أي الشأن لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) أي المجازون للإحسان بالإساءة وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها أي قصدت زليخا مخالطة يوسف مع التصميم وقصد مخالطتها بمقتضى الطبيعة البشرية وشهوة الشباب لا بقصد
اختياري وذلك مما لا يدخل تحت التكليف بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل من الله تعالى من يكف نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهم ولهذا قال بعض أهل الحقائق: الهم قسمان: هم ثابت وهو إذا كان معه عزم وعقد ورضا- مثل هم امرأة العزيز- فالعبد مأخوذ به. وهم عارض وهو الخطرة وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم- مثل هم يوسف عليه السلام- والعبد غير مأخوذ به ما لم يتكلم أو يعمل لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ أي لولا أن أيقن بحجة ربه الدالة على كمال قبح الزنا وجواب لولا محذوف. أي لولا مشاهدته برهان ربه في شأن الزنا لجرى على موجب ميله الجبلي، لكنه حيث كان البرهان الذي هو الحكم والعلم حاضرا لديه حضور من يراه بالعين فلم يهم أصلا. والحاصل أن هذا البرهان عند المحققين المثبتين لعصمة الأنبياء هو حجة الله تعالى في تحريم الزنا والعلم بما على الزاني من العقاب، أو المراد برؤية البرهان حصول الأخلاق الحميدة وتذكير الأحوال الرادعة لهم عن الإقدام على المنكرات.(1/528)
وقيل: إن البرهان هو النبوة المانعة من إتيان الفواحش. وقيل: إنه عليه السلام رأى مكتوبا في سقف البيت ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا. وأما الذين نسبوا المعصية إلى يوسف فقالوا: إنه رأى يعقوب عاضا على إبهامه أو هتف به هاتف وقال له: لا تعمل عمل السفهاء واسمك في ديوان الأنبياء، أو تمثل له يعقوب فضرب في صدره فخرجت منيه من أنامله أو رأى كفا من غير ذراع مكتوبا فيه وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً [يونس: 61] ، الآية.
كَذلِكَ أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ أي مقدمات الفاحشة من القبلة والنظر بشهوة وَالْفَحْشاءَ أي الزنا إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) . قرأه ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بكسر اللام في جميع القرآن أي الذين أخلصوا دينهم الله تعالى، والباقون بفتح اللام أي الذين اختارهم الله تعالى لطاعته بأن عصمهم عما هو قادح فيها أو أخلصهم من كل سوء وَاسْتَبَقَا الْبابَ أي تسابقا إلى الباب البراني الذي هو المخلص فإن سبق يوسف فتح الباب للخروج وإن سبقت زليخا أمسكت الباب لمنع الخروج وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ أي شقت قميص يوسف من خلف بنصفين من وسطه إلى قدميه فغلبها يوسف وخرج وخرجت خلفه وَأَلْفَيا سَيِّدَها أي صادفا زوجها قطفير لَدَى الْبابِ أي البراني.
روى كعب رضي الله عنه: أنه لما هرب يوسف عليه السلام صار فراش القفل يتناثر حتى خرج من الأبواب قالَتْ لزوجها خائفة من التهمة ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً قيل: إن يوسف أراد أن يضربها ويدفعها عن نفسه وكان ذلك بالنسبة إليها جاريا مجرى السوء فذكرت كلاما مبهما، ثم خافت أن يقتله العزيز وهي شديدة الحب له فقالت: إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) أي ليس جزاؤه إلا السجن أو الضرب الوجيع، وإنما أخرت ذكر الضرب لأن المحب لا يشتهي إيلام المحبوب وإنما أرادت أن يسجن يوما أو أقل على سبيل التخفيف، أما الحبس الطويل فلا يعبر عنه بهذه العبارة بل يقال: يجب أن يجعل من المسجونين قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ولم يقل هذه ولا تلك لفرط استحيائه- وهو أدب حسن حيث أتى بلفظ الغيبة- ولم يكن يوسف يريد أن يهتك سترها، ولكن لما لطخت عرضه احتاج إلى إزالة هذه التهمة عن نفسه فصرّح بالأمر فقال: هي طالبتني للمواتاة وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها وهو ابن داية زليخا أو ابن خال لها وكان عمره شهرين أنطقه الله تعالى لبراءة يوسف. وروي أن العزيز اشترى يوسف، بوزنه ذهبا ووزنه فضة، ووزنه لؤلؤا، ووزنه مرجانا، ووزنه مسكا، ووزنه عنبرا فلما ذهب به إلى البيت شغفت به زليخا فقالت لحاضنتها: ما الحيلة؟ فقالت لها: يا سيدتي لو نظر إليك لكان أسرع حبا منك إليه، ولو رأى حسنك وجمالك وصفاء لونك ما قرّ له قرار دونك فقالت: وكيف ذلك؟
فقالت: مكنيني من الأموال، فقالت: خزائني بين يديك فخذي ما شئت لا حساب عليك وأمرت بإحضار أهل البناء والهندسة، وقالت: أريد بيتا يرى الوجه في سقفه وفي حيطانه كما يرى في(1/529)
المرآة المصقولة فقالوا: نعم، فبنوا لها بيتا سمته القيطون، فلما تم دعت المصور وأمرته بصنع سرير من ذهب مرصّع بالجواهر واليواقيت، وفرشته بالديباج والسندس، وصوّرت صورة يوسف وزليخا متعانقين، ثم زينت زليخا وخرجت إلى يوسف مستعجلة وقالت: يا يوسف أجب سيدتك فإنها تدعوك في بيتها القيطون، وكان سميعا مطيعا، وكان بيده قضيب من ذهب يلعب به فرماه وأسرع لباب البيت فلما وضع قدمه الواحدة أحس قلبه بالشر وأراد الرجوع فأسرعت زليخا إليه وجرته للسرير فغمض عينيه، وأطرق رأسه، وبكى حياء من الله تعالى وراودته عن نفسه فأبى، فقالت له: لم تخالف أمري؟ فقال: خوفا من الله وإكراما لسيدي الذي أحلني محل أولاده، فقالت: أما إلهك فأنا أعطيك جميع الأموال تصدّق بها لربك ليغفر لك هذا الذنب، وأما سيدك فأنا أطعمه السم حتى يهرى لحمه وأكون أنا وأموالي ملكك، فقام وبادر إلى الباب من غير أن يكون بينه وبينها سبب من الأسباب فجذبته مزقت قميصه من خلفه وهو فار، فوافق ذلك الوقت أن العزيز مر بالباب، فنظر العزيز لزليخا فرآها مزينة حاسرة عن وجهها، ونظر إلى يوسف فرآه منكس الرأس، باكي العين. فوقف متحيرا في أمرهما ينظر إليه مرة، وإليها مرة، فقالت له:
إن غلامك هذا يريد أن يخونك في أهلك أي شيء جزاؤه أن يسجن أو عذاب أليم. فقال له العزيز: يا يوسف ما كان هذا جزائي منك أحللتك محل أولادي وتخونني في أهلي! فقال يوسف عليه السلام: إن لي شاهدا يشهد لي بالبراءة فقال له: أين الشاهد وليس معكما في البيت ثالث؟
فقال: هذا الطفل يشهد لي بالبراءة، فأوحى الله لجبريل أن اهبط على الطفل وشق له لسانه حتى يشهد لعبدي يوسف بالبراءة فعند ذلك تنحنح الطفل وقال: أيها الملك إن عندي في أمرك هذا ما لك فيه فرج ومخرج، انظر إلى قميص الغلام العبراني إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ أي شق من قدام فَصَدَقَتْ أي فقد صدقت المرأة وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) في قوله: هي راودتني وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ أي من خلف فَكَذَبَتْ أي فقد كذبت المرأة في دعواها وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) في قوله: هي راودتني فَلَمَّا رَأى أي زوجها قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ لها زوجها قطفير وقد قطع بصدقه وكذبها إِنَّهُ أي هذا القذف له في ضمن قولك: ما جزاء من أراد بأهلك سوءا مِنْ كَيْدِكُنَّ أي من جنس مكركن أيتها النساء إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) لأن لهن في هذا الباب من الحيل ما لا يكون للرجال ولأن كيدهن في هذا الباب يورث من العار ما لا يورثه كيد الرجال يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا أي يا يوسف أعرض عن ذكر هذه الواقعة حتى لا ينتشر خبرها ولا يحصل العار العظيم بسببها، واكتمه فقد ظهر صدقك ونزاهتك، اسْتَغْفِرِي يا زليخا لِذَنْبِكِ الذي صدر عنك أي توبي إلى الله تعالى مما رميت يوسف به وهو بريء منه إِنَّكِ كُنْتِ بسبب ذلك مِنَ الْخاطِئِينَ (29) . في هذا القول الذي لا يليق بمقام الأنبياء وكان العزيز رجلا حليما، فاكتفى بهذا القدر من مؤاخذتها، وكان قليل الغيرة قال: في البحر أن(1/530)
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)
تربة مصر تقتضي هذا ولهذا لا ينشأ فيها الأسد ولو دخل فيها ما يبقى، ثم أخبرت زليخا بعض النساء بما حصل لها وأمرتهن بالكتم فلم يكتمن بل أشعن الأمر. وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ أي أشعن الأمر في مصر: امْرَأَتُ الْعَزِيزِ أي الملك قطفير تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ أي وقال جماعة من النساء: وكن خمسا وهن امرأة صاحب دواب الملك وامرأة صاحب سجنه، وامرأة خبازه، وامرأة صاحب مطبخه، وامرأة ساقيه فتحدثن فيما بينهن وقلن: امرأة العزيز تراود عبدها الكنعاني عن نفسه وهو يمتنع منها قَدْ شَغَفَها حُبًّا أي قد شق فتاها شغاف قلبها من جهة الحب.
وقرأ جماعة من الصحابة والتابعين «شغفها» بالعين المهملة أي قد أحرق حبها فتاها حجاب قلبها. والمعنى أن اشتغالها بحبه صار حجابا بينها وبين كل ما سوى هذه المحبة فلا يخطر ببالها إلا هو إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) أي إنا نعلمها في ضلال واضح عن طريق الرشد بسبب حبها إياه
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أي قولهن المستدعي لنظرهن إلى وجه يوسف أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ أي أرادت إظهار عذرها فاتخذت مأدبة ودعت أربعين امرأة من أشرف مدينتها فيهن الخمس المذكورات وَأَعْتَدَتْ أي أحضرت لَهُنَّ مُتَّكَأً أي وسائد يتكئن عليها، هذا «إن» قرئت مشددة فإن قرئت مخففة فمعناها اترنجة فإنهم كانوا يتكئون على المسانيد عند الطعام والشراب والحديث على عادة المتكبرين ولذلك جاء النهي عنه في الحديث وهو
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا آكل متكئا»
. وَآتَتْ أي أعطت كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً لأجل أكل الفاكهة واللحم لأنهم كانوا لا يأكلون من اللحم إلا ما يقطعون بسكاكينهم وَقالَتِ أي زليخا ليوسف وهي مشغولات بأعمال الخناجر في الطعام: اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ أي ابرز لهن ومر عليهن فإن يوسف عليه السلام ما قدر على مخالفتها خوفا منها فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ أي أعظمنه وهبنه ودهشن
عند رؤيته من شدة جماله وقيل:
معنى أكبرن أي حضن والهاء إما للسكت أو ضمير راجع إلى يوسف على حذف اللام، أي حضن له من شدة الشبق وأيضا إن المرأة إذا فزعت فربما أسقطت ولدها فحاضت ويقال: أكبرت المرأة أي دخلت في الكبر وذلك إذا حاضت، لأنها بالحيض تخرج من حد الصغر إلى حد الكبر وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ أي جرحن أيديهن حتى سال الدم ولم يجدن الألم لفرط دهشتهن وشغل قلوبهن بيوسف وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ أي تنزيها لله تعالى من العجز حيث قدر على خلق جميل مثل هذا ما هذا بَشَراً أي ليس يوسف آدميا.
وقرأ ابن مسعود «ما هذا بشر» بالرفع. وقرئ «ما هذا بشرى» أي ما هو بعبد مملوك للبشر حاصل بشراء إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) على الله فإنه قد ثبت في العقول أنه لا شيء أحسن من الملك كما ثبت فيها أن لا شيء أقبح من الشيطان.(1/531)
وقيل: إن النسوة لما رأين يوسف لم يلتفت إليهن ألبتة، ورأين عليه هيبة النبوة والرسالة وسيما الطهارة قلن: إنا ما رأينا فيه أثرا من آثار الشهوة ولا صفة من الإنسانية فهذا قد تطهر عن جميع الصفات المغروزة في البشر وقد ترقى عن حد الإنسانية ودخل في الملكية قالَتْ أي زليخا لهن: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ أي فهذا الذي ترينه هو ذلك العبد الكنعاني الذي عيبتنني في الافتتان به قبل أن تتصورنه حق تصوره ولو حصلت صورته في خيالكن لتركتن هذه الملامة وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ حسبما سمعتن وقلتن فَاسْتَعْصَمَ أي فامتنع عني بالعفة وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ أي إن لم يفعل يوسف مقتضى أمري إياه من قضاء شهوتي لَيُسْجَنَنَّ أي ليعاقبن بالحبس وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) أي من الذليلين في السجن فقلن ليوسف: أطع مولاتك قالَ أي يوسف مناجيا لربه عز وجل: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ أي يا رب دخول السجن أحب عندي مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ من مواتاتها التي تؤدي إلى الشقاء والعذاب الأليم وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ بالتثبيت على العصمة فإن كل واحدة منهن كانت ترغب يوسف على موافقة زليخا وتخوّفه على مخالفتها أَصْبُ إِلَيْهِنَّ أي أمل إلى إجابتهن على قضية الطبيعة البشرية وحكم القوة الشهوية وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) أي وأصر من الذين لا يعملون بعلمهم فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ دعاءه الذي في ضمن قوله وإلا تصرف عني إلخ فإن فيه التجاء إلى الله تعالى جريا على سنن الأنبياء والصالحين في قصر نيل الخيرات وطلب النجاة من الشرور على جناب الله تعالى كقول المستغيث أدركني وإلا هلكت فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ حسب دعائه وثبته على العصمة والعفة حتى وطّن نفسه على مشقة السجن إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لدعاء المتضرعين إليه الْعَلِيمُ (34) للنيات فيجيب ما طاب منه العزم ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ أي ثم ظهر للعزيز وأصحابه المشاركين له في الرأي من بعد ما رأوا الشواهد الدالة على براءة يوسف عليه السلام كشهادة الصبي، وقد القميص من دبر وقطع النساء أيديهن سجنه عليه السلام قائلين والله لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) أي إلى انقطاع مقالة الناس في المدينة فإن زليخا لما أيست من يوسف بجميع حيلها كي تحمله على موافقة مرادها قالت لزوجها: إن هذا العبد العبراني فضحني في الناس يقول لهم: إني راودته عن نفسه فإما أن تأذن لي فأخرج وأعتذر إليهم وإما أن تسجنه، فسجنه وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ أي عبدان لملك مصر الكبير وهو الريان بن الوليد العمليق سمى أحدهما: وهو صاحب شرابه سرهم، وسمى الآخر وهو صاحب مطبخه برهم.
وقيل: اسم الأول: مرطش، والثاني: رأسان، وسبب سجنهما أن جماعة من أهل مصر أرادوا قتل الملك فجعلوا لهما رشوة على أن يسما الملك في طعامه وشرابه فأجاباهم إلى ذلك، ثم إن الساقي ندم ورجع عن ذلك وقبل الخباز الرشوة وسمّ الطعام، فلما حضر الخبز بين يدي(1/532)
الملك قال الساقي: لا تأكل أيها الملك فإن الخبز مسموم وقال الخباز: لا تشرب أيها الملك فإن الشراب مسموم، فقال الملك للساقي: اشربه فشربه، فلم يضره وقال الخباز: كل من الطعام فأبى فأطعم من ذلك الطعام دابة فهلكت فأمر بحبسهما فاتفق أنهما دخلا مع يوسف فلما دخل السجن جعل ينشر علمه ويقول: إني أعبر الأحلام قالَ أَحَدُهُما وهو صاحب شراب الملك إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً أي إني رأيت نفسي أعصر عنبا وأسقي الملك وَقالَ الْآخَرُ وهو الخباز إِنِّي أَرانِي أي رأيتني أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ أي أخبرنا بتفسير رؤيانا إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) أي من العالمين بتفسير الرؤيا ومن المحسنين إلى أهل السجن فيسليهم ويقول: اصبروا وأبشروا تؤجروا فقالوا: بارك الله فيك يا فتى ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك لقد بورك لنا في جوارك فمن أنت يا فتى؟ فقال: أنا يوسف ابن صفي الله يعقوب ابن ذبيح الله إسحاق ابن خليل الله إبراهيم. فقال له: صاحب السجن يا فتى والله لو استطعت خليت سبيلك ولكني أحسن جوارك واختر أي بيوت السجن شئت، أي إن الساقي قال لسيدنا يوسف: أيها العالم إني رأيت في المنام كأني في بستان وفيه شجرة عنب فيها ثلاثة أغصان وعليها ثلاثة عناقيد من العنب فجنيتها وكأن كأس الملك في يدي فعصرتها وسقيت الملك فشربه. وقال الخباز: إني رأيت في المنام كأني أخرج من مطبخ الملك وعلى رأسي ثلاث سلال من الخبز فوقع طير على أعلاها وأكل منها ولما قصا عليه الرؤيا كره أن يعبرها لهما حين سألاه لما علم ما فيها من المكروه لأحدهما فأعرض عن سؤالهما وأخذ في غيره من إظهار المعجزة والنبوة والدعاء إلى التوحيد لأنه علم أن أحدهما هالك فأراد أن يدخله في الإسلام فبدأ بإظهار المعجزة لهذا السبب قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ أي لا يأتيكما طعام ترزقانه في منزلكما على حسب عادتكما المطردة إلا أخبرتكما بعاقبته فهو يفيد الصحة أو السقم وبلونه وجنسه قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما وكيف لا أعلم تعبير رؤياكما وهذا راجع إلى أن يوسف ادعى الإخبار عن الغيب وهو يجري مجرى قول عيسى: وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ذلِكُما أي هذا التأويل والإخبار بالمغيبات مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي بالوحي والإلهام لا على جهة الكهانة والنجوم إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) أي إني امتنعت عن دين قوم لا يؤمنون بالله وبالبعث بعد الموت وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وإنما قال يوسف: ذلك ترغيبا لصاحبيه في الإيمان والتوحيد وتنفيرا لهما عمّا كانا عليه من الشرك والضلال. ما كانَ أي لا يصح لَنا معاشر الأنبياء أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي أيّ شيء كان من ملك أو جني أو إنسي فضلا عن أن نشرك به صنما لا يسمع ولا يبصر ذلِكَ أي التوحيد الذي هو ترك الإشراك مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا بالوحي وَعَلَى النَّاسِ بإرسالنا إليهم وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) أي لا يوحدون الله تعالى يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أي يا(1/533)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
صاحبي في السجن أو يا ساكني السجن كما قيل لسكان الجنة أصحاب الجنة أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ أي مختلفون في الكبر والصغر واللون من ذهب وفضة وحديد وصفر وخشب وحجارة وغير ذلك خَيْرٌ لكما أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) أي هذه الأصنام معمولة ومقهورة فإن الإنسان إذا أراد كسرها قدر عليها فهي مقهورة ولا ينتظر حصول منفعة من جهتها وإله العالم فعال قهار قادر على إيصال الخيرات ودفع الآفات. والمراد أعبادة آلهة شتى مقهورة خير. أم عبادة الله المتوحد بالألوهية الغالب على خلقه ولا يغالب خير. ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ أي من غير الله شيئا إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ أي إلا ذوات. أوجدتم وآباؤكم لها أسماء آلهة بمحض ضلالتكم ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها أي بتلك التسمية المتتبعة للعبادة مِنْ سُلْطانٍ أي من حجة تدل على صحتها وتحقيق
مسمياتها في تلك الذوات فكأنكم لا تعبدون إلا الأسماء المجردة عن الذوات. والمعنى أنكم سميتم ما لم يدل على استحقاقه الألوهية عقل ولا نقل آلهة ثم أخذتم تعبدونها باعتبار ما تطلقون عليها إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أي ليس الحكم في أمر العبادة إلا لله فليس لغير الله حكم واجب القبول ولا أمر واجب الالتزام أَمَرَ على ألسنة الأنبياء عليهم السلام أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ لأن العبادة نهاية التعظيم فلا تليق إلا بمن حصل منه نهاية الأنعام وهو الله تعالى لأن منه الخلق والإحياء والرزق والهداية، ونعم الله كثيرة وجهات إحسانه إلى الخلق غير متناهية ذلِكَ أي تخصيصه تعالى بالعبادة الدِّينُ الْقَيِّمُ أي الذي تعاضدت عليه البراهين عقلا ونقلا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40) أن ذلك هو الدين المستقيم لجهلهم بتلك البراهين
ولما فرغ سيدنا يوسف من الدعاء إلى عبادة الله تعالى رجع إلى تعبير رؤياهما فقال: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما وهو الشرابي فَيَسْقِي رَبَّهُ أي سيده خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ وهو الخباز فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ.
روي أن الساقي لما قصّ رؤياه على يوسف قال له: ما أحسن ما رأيت. أما الكرم: فهو العمل الذي كنت فيه، وأما العنب: فهو عزك في ذلك العمل، وأما الأغصان الثلاثة: فثلاثة أيام يوجه إليك الملك عند انقضائهن، وأما العنب الذي عصرت وناولت الملك: فهو أن يردك إلى عملك فتصير كما كنت بل أحسن، ولما قص الخباز رؤياه على يوسف قال له: بئسما رأيت. أما خروجك من المطبخ: فهو أن تخرج من عملك، وأما ثلاث سلال: فهي ثلاثة أيام تكون في السجن، وأما أكل الطير من رأسك: فهو أن يخرجك الملك بعد ثلاثة أيام ويصلبك وتأكل الطير من رأسك ففزعا لتعبير رؤيا الخباز وقالا جميعا: ما رأينا شيئا إنما كنا نلعب فقال لهما يوسف: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) أي تم الأمر الذي تسألان عنه رأيتما أو لم تريا فكما قلتما وقلت لكما كذلك يكون وَقالَ أي يوسف عليه السلام لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ أي للرجل الذي ظنه ناجيا من القتل مِنْهُمَا أي من صاحبيه وهو الساقي: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ أي عند سيدك الملك الكبير فقل له: إن في السجن غلاما يحبس ظلما خمس سنين فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ أي أنسى الشيطان بوسوسته الشرابي ذكره ليوسف عند الملك. ويقال: فأنسى الشيطان يوسف أن يذكر ربه حتى طلب(1/534)
الفرج من مخلوق مثله وذلك غفلة عرضت ليوسف عليه السلام فإن الاستعانة بالناس في دفع الظلم جائزة في الشريعة، إلا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين فالأولى بالصديقين أن لا يشتغلوا إلا بمسبب الأسباب ولذلك جوزي يوسف بسنتين في الحبس كما قال تعالى: فَلَبِثَ أي يوسف فِي السِّجْنِ بسبب ذلك القول بِضْعَ سِنِينَ (42) أي سبع سنين خمس منها قبل ذلك القول وثنتان بعده هذا هو الصحيح وَقالَ الْمَلِكُ الريان بن الوليد إِنِّي أَرى أي رأيت في منامي سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ قد خرجن من النهر ثم خرج منه بعدهن سبع بقرات مهازيل يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ أي ابتلعت العجاف السمان ودخلن في بطونهن ولم يتبين على العجاف شيء منهن وَإني أرى وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ أي قد انعقد حبها وَأُخَرَ أي وسبعا أخر يابِساتٍ أي قد بلغت أوان الحصد فالتوت اليابسات على الخضر حتى علون عليهن ولم يبق من خضرتهن شيء فقلق الملك لما رأى الناقص الضعيف قد استولى على القوي الكامل حتى غلبه فجمع سحرته كهنته ومعبريه وأخبرهم بما رأى في منامه وسألهم عن تأويلها فأعجزهم الله تعالى عن تأويل هذه الرؤيا ليكون ذلك سببا لخلاص يوسف من السجن فهذا هو قوله: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أي السحرة والكهنة والمعبرون للرؤيا أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ أي بينوا لي تعبير رؤياي هذه إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) أي إن كنتم تعلمون بانتقال الرؤيا من الصور الخيالية إلى المعاني النفسانية التي هي مثالها قالُوا أي أشراف العلماء والحكماء: أَضْغاثُ أَحْلامٍ أي هذه الرؤيا مختلطة من أشياء كثيرة لا حقيقة لها وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ أي المنامات الباطلة التي لا أصل لها بِعالِمِينَ (44) أي لأنه لا تأويل لها وإنما التأويل للرؤيا الصادقة. وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما أي الذي خلص من السجن من صاحبي يوسف بعد أن جلس بين يدي الملك أي قال الشرابي للملك إن في الحبس رجلا فاضلا صالحا كثير العلم، كثير الطاعة قصصت أنا والخباز عليه منامين فذكر تأويلهما فصدق في الكل وما أخطأ في حرف فإن أذنت مضيت إليه وجئتك بالجواب وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أي تذكر الشرابي يوسف بعد مدة طويلة. وقرأ الأشهب العقيلي «بعد أمة» بكسر الهمزة أي بعد ما أنعم عليه بالنجاة.
وقرئ «بعد أمه» بفتح الهمزة والميم، ثم بالهاء أي بعد نسيان. أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ أي أنا أخبرك أيها الملك بتعبير رؤياك فَأَرْسِلُونِ (45) إلى السجن فأرسله إليه فأتى يوسف فقال له: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أي البالغ في الصدق أَفْتِنا أي بين لنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ من البقر عِجافٌ في وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ في سبع وَأُخَرَ من السنابل يابِساتٍ أي في رؤيا ذلك رآها الملك لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ أي أعود إلى الملك وجماعته بفتواك لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) فضلك وعلمك فإن الساقي علم عجز سائر المعبرين عن جواب هذه المسألة فخاف أن يعجز يوسف عنه أيضا قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً أي متتابعة على عادتكم في الزراعة فَما حَصَدْتُمْ من الزرع في كل سنة فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ أي كوافره ولا تدوسوه لئلا يقع(1/535)
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57) وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60)
فيه السوس فإن ذلك أبقى له على طول الزمان إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) أي إلا كل ما أردتم أكله فدوسوه في تلك السنين وهذا تأويل السبع السمان والسبع الخضر ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد السبع سنين المخصبة سَبْعٌ شِدادٌ أي سبع سنين قحطة صعاب على الناس وهذا تأويل السبع العجاف والسبع اليابسات يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ أي تأكلون الحب المزروع وقت السنين المخصبة المتروك في سنبله في السنين المجدبة إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) أي تدخرون للبذر فأكل ما جمع أيام السنين المخصبة في السنين المجدبة تأويل ابتلاع العجاف السمان ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد السنين المجدبة عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ أي ينقذ الناس من كرب الجدب وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) ما من عادته أن يعصر من العنب والقصب والزيتون والسمسم ونحوها من الفواكه لكثرتها.
وقيل: معنى يعصرون يحلبون الضروع. وقيل: معناه يمطرون. وقيل: معناه ينجون من الشدة وعلى هذين يقرأ بالبناء للمفعول. وهذا من مدلولات المنام، لأنه لما كانت العجاف سبعا دل ذلك على أن السنين المجدبة لا تزيد على هذا العدد، فالحاصل بعده هو الخصب على العادة الإلهية حيث يوسع الله على عباده بعد تضييقه عليهم فلما رجع الشرابي إلى الملك وأخبره بما ذكره يوسف استحسنه الملك وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أي بيوسف لما علم من فضله وعلمه فرجع الساقي إلى يوسف فَلَمَّا جاءَهُ أي يوسف الرَّسُولُ وقال له: أجب الملك. قالَ أي يوسف له: ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ أي إلى سيدك الملك الكبير فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ أي فاسأل الملك بأن يفتش عن شأن النسوة ليعلم براءتي عن تلك التهمة، وإنما لم يخرج يوسف من السجن في الحال لأنه لو خرج قبل ظهور براءته من تلك التهمة عند الملك فلربما يقدر الحاسد على أن يتوسل إلى الطعن فيه بعد خروجه إِنَّ رَبِّي أي سيدي ومربيّ، وهو ذلك الملك بِكَيْدِهِنَّ أي بمكرهن عَلِيمٌ (50) فلما أبى يوسف أن يخرج من السجن قبل تبين الأمر رجع الرسول إلى الملك فأخبره بما قال يوسف عليه السلام، فأمر الملك بإحضارهن وكانت زليخا معهن،
قالَ أي الملك مخاطبا لهن لأن كل واحدة منهن راودت يوسف لأجل امرأة العزيز بقولها ليوسف أطع مولاتك: ما خَطْبُكُنَّ أي ما شأنكن إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ أي خادعتنه هل وجدتن فيه ميلا إلى قولكن قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ أي تنزيها له ما عَلِمْنا عَلَيْهِ أي يوسف مِنْ سُوءٍ أي من خيانة في شيء من الأشياء قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أي الآن تبين الحق ليوسف أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ أي أنا دعوته إلى نفسي وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) أي في قوله: حين افتريت عليه هي راودتني عن نفسي وإنما أقرت زليخا بذنبها، وأشهدت لبراءة يوسف عن الذنب مكافأة على فعل يوسف حيث ترك ذكرها. وقال: ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن مع أن الفتن كلها إنما نشأت من جهتها وقد عرفت أن ذلك لرعاية حقها ولتعظيمها(1/536)
ولإخفاء الأمر عليها فجاء الرسول إلى يوسف فأخبره بجواب النسوة وبقول زليخا فقال يوسف وهو في السجن: ذلِكَ أي الذي فعلت من ردي الرسول لطلب البراءة إنما كان لِيَعْلَمَ أي الملك الصغير الذي هو قطفير زوج زليخا أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ في حرمته كما زعمه بِالْغَيْبِ أي وأنا غائب عنه أو هو غائب عني وَليعلم أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) أي لا ينفذه ولو كنت خائنا لما خلصني الله تعالى من هذه الورطة وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي أي والحال أني لم أقصد بذلك تنزيه نفسي من الزلل وبراءتها منه إِنَّ النَّفْسَ البشرية لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ أي ميالة إلى القبائح راغبة في المعصية. ولما كان قوله ذلك ليعلم أني لم أخنه جاريا مجرى مدح النفس استدركه بقوله: وما أبرئ نفسي أي لا أمدحها إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي أي إلا نفسا عصمها ربي من الوقوع في المهالك إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ للهم الذي هممت به رَحِيمٌ (53) لمن تاب وهذا ما عليه أكثر المفسرين. وقال بعضهم من اسم الإشارة إلى هنا من كلام امرأة العزيز. والمعنى ذلك الذي قلت ليعلم يوسف أني لم أخنه بالغيب، أي أني لم أقل في يوسف وهو في السجن خلاف الحق فإني وإن أحلت الذنب عليه عند حضوره ما أحلت الذنب عليه عند غيبته وأن الله لا يهدي كيد الخائنين، أي لا يرضاه فإني لما أقدمت على المكر لا شك افتضحت، وأن يوسف لما كان بريئا من الذنب لا شك طهره الله عنه وما أبرئ نفسي مع ذلك من الخيانة حيث راودته وقلت في حقه ما قلت، وأودعته في السجن.
ومقصود زليخا بهذا الكلام الاعتذار مما كان، وتنزيه يوسف من الذنب إن كل نفس لأمارة بالسوء إلا نفسا رحمها الله بالعصمة- كنفس يوسف عليه السلام- إن ربي
غفور لمن استغفر من ذنبه، رحيم له. فعلى هذا يكون تأتيه عليه السلام في الخروج من السجن لعدم رضاه ملاقاة الملك حتى يتبين أنه إنما سجن بظلم عظيم مع ما له من نباهة الشأن ليتلقاه الملك بما يليق به من الإجلال وقد حصل ذلك. وَقالَ الْمَلِكُ أي الكبير وهو الريان: ائْتُونِي بِهِ أي بيوسف أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي أي أجعله خاصا بي دون العزيز.
روي أن الرسول قال ليوسف عليه السلام: «قم إلى الملك متنظفا من درن السجن بالثياب النظيفة والهيئة الحسنة» فكتب على باب السجن هذه منازل البلوى وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء، فلما أراد الدخول على الملك قال: اللهم إني أسألك بخيرك من خيره، وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره، ثم دخل على الملك فسلم عليه بالعربية فقال له الملك: ما هذا اللسان؟ قال: لسان عمي إسماعيل، ثم دعا له بالعبرانية فقال له: وما هذا اللسان؟ قال: هذا لسان آبائي وكان الملك يتكلم بسبعين لغة ولم يعرف هذين اللسانين وكان الملك كلما كلمه بلسان أجابه يوسف به وزاد عليه بالعربية والعبرانية.(1/537)
وروي أنه لما رآه الملك شابا وهو في ذلك الوقت ابن ثلاثين سنة قال للشرابي: أهذا هو الذي علم تأويل رؤياي؟ قال: نعم، فأقبل على يوسف وقال: إني أحب أن أسمع تأويل الرؤيا منك شفاها فأجاب بذلك الجواب شفاها وشهد قلبه بصحته فذلك قوله تعالى: فَلَمَّا كَلَّمَهُ أي كلم الملك يوسف قالَ أي الملك: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أي ذو منزلة رفيعة أَمِينٌ (54) أي ذو أمانة على كل شيء فما ترى أيها الصديق قالَ أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعا كثيرا، وتبني الخزائن وتجمع فيها الطعام فإذا جاءت السنون المجدبة بعنا الغلات فيحصل بهذا الطريق مال عظيم فقال الملك: ومن لي بهذا الشغل فقال يوسف: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ أي ولني أمر خزائن أرض مصر إِنِّي حَفِيظٌ لما وليتني ولجميع مصالح الناس عَلِيمٌ (55) بوجوه التصرف في الأموال وبجميع ألسن الغرباء الذين يأتونني وفي هذا دليل على جواز طلب الولاية إذا كان الطالب ممن يقدر على إقامة العدل وإن كان الطلب من يد الكافر وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الأنعام الذي أنعمنا عليه من تقريبنا إياه من قلب الملك وإنجائنا إياه من غم الحبس مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ أي أقدرناه على ما يريد برفع الموانع في أرض مصر يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ أي نازلا في أي موضع يريد يوسف من بلادها.
روي أنها كانت أربعين فرسخا في أربعين فرسخا.
وقرأ ابن كثير «نشاء» بالنون مسندا إلى الله تعالى. روي أنه لما تمت السنة من يوم سأل يوسف الإمارة دعاه الملك فتوجه وأخرج خاتم الملك وجعله في إصبعه وقلده بسيفه، وجعل له سريرا من ذهب مكللا بالدر والياقوت، طوله ثلاثون ذراعا وعرضه عشرة أذرع عليه ستون فراشا وضرب له عليه حلة من إستبرق فقال يوسف عليه السلام: أما السرير فأشد به ملكك، وأما الخاتم فأدبر به أمرك، وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي فقال الملك: وضعته إجلالا لك وإقرارا بفضلك وأمره أن يخرج فخرج متوجا لونه كالثلج ووجهه كالقمر يرى الناظر وجهه فيه من صفاء لونه فانطلق حتى جلس على ذلك السرير ودانت له الملوك وفوض الملك الأكبر إليه ملكه وأمر مصر وعزل قطفير عما كان عليه وجعل يوسف مكانه ومات قطفير بعد ذلك فزوجه عليه السلام الملك امرأته زليخا، فلما دخل يوسف عليها قال لها: أليس هذا خيرا مما كنت تريدين قالت: أيها الصدّيق لا تلمني فإني كنت امرأة حسناء ناعمة كما ترى، وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله في حسنك وهيئتك، فغلبتني نفسي وعصمك الله. فأصابها يوسف فوجدها عذراء فولدت له ذكرين أفراثم وميشا، فاستولى يوسف على ملك مصر وأقام فيها العدل وأحبه الرجال والنساء، وأسلم على يديه الملك وكثير من الناس، وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام في السنة الأولى: بالدنانير والدراهم. وفي الثانية: بالحلي والجواهر. وفي(1/538)
الثالثة: بالدواب. وفي الرابعة: بالجواري والعبيد. وفي الخامسة: بالضياع والعقار. وفي السادسة: بأولادهم وفي السابعة: برقابهم حتى لم يبق بمصر حر ولا حرة إلا صار عبدا له عليه السلام. فقال أهل مصر: ما رأينا كاليوم ملكا أجل وأعظم من يوسف. فقال يوسف للملك:
كيف رأيت صنع الله بي فيما خولني فما ترى في هؤلاء؟ قال الملك: الرأي رأيك ونحن لك تبع.
قال: فإني أشهد الله وأشهدك أني قد أعتقت أهل مصر عن آخرهم ورددت عليهم أملاكهم، وكان يوسف لا يبيع من أحد من الممتارين أكثر من حمل بعير تقسيطا بين الناس ومات الملك في حياة يوسف نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا أي بعطائنا في الدنيا من الملك والغني وغيرهما من النعم مَنْ نَشاءُ من عبادنا وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) لأن إضاعة الأجر إما أن تكون للعجز أو للجهل أو للبخل والكل ممتنع في حق الله تعالى فكانت الإضاعة ممتنعة وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57) أي ولأجر المحسنين وهم الذين آمنوا بالله والكتب والرسل، واتقوا الفواحش في الآخرة خير لهم. والمراد أن يوسف وإن كان قد وصل إلى الدرجات الرفيعة في الدنيا فثوابه الذي أعده الله له في الآخرة أفضل وأكمل وقد ثبت أن الله تعالى شهد بأن يوسف عليه السلام كان من المتقين ومن المحسنين ومن المخلصين وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ إلى مصر وهم عشرة ليمتاروا أي لما وصل القحط إلى البلدة التي يسكنها يعقوب عليه السلام وهي ثغور الشام من أرض فلسطين قال لبنيه: إن بمصر ملكا صالحا يبيع الطعام فتجهزوا إليه واقصدوه لتشتروا منه ما تحتاجون إليه من الطعام، فخرجوا غير بنيامين حتى قدموا مصر فَدَخَلُوا عَلَيْهِ أي على يوسف وهو في مجلس ولايته فَعَرَفَهُمْ بأول نظرة نظر إليهم لقوة فهمه وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) أي والحال أنهم لا يعرفونه لطول المدة فبين أن ألقوه في الجب ودخولهم عليه أربعون سنة، ولأنهم رأوه جالسا على سرير الملك وعليه ثياب حرير وفي عنقه طوق من ذهب، وعلى رأسه تاج من ذهب، فكلموه بالعبرانية فقال لهم: من أنتم وأيّ شيء أقدمكم بلادي؟ فقالوا: قدمنا لأخذ الميرة، ونحن قوم رعاة من أهل الشام، أصابنا الجهد. فقال: لعلكم عيون تطلعون على عوراتنا وتخبرون بها أعداءنا. فقالوا: معاذ الله، قال: من أين أنتم؟ قالوا: من بلاد كنعان نحن إخوة بنو أب واحد وهو شيخ كبير صدّيق، نبي من أنبياء الله اسمه يعقوب، قال: كم أنتم؟ قالوا: كنا اثني عشر فهلك منا واحدا، فقال: كم أنتم هاهنا؟ قالوا: عشرة. قال: فأين الحادي عشر؟ قالوا: هو عند أبيه يتسلى به عن الهالك، لأنه أخوه الشقيق. قال: فمن لم يشهد لكم أنكم لستم عيونا وأن ما تقولون حق؟ قالوا: نحن ببلاد غربة لا يعرفنا فيها أحد فيشهد لنا! قال: فأتوني بأخيكم الذي من أبيكم إن كنتم صادقين فأنا أكتفي بذلك منكم. قالوا: إن أبانا يحزن لفراقه. قال: فاتركوا بعضكم عندي رهينة حتى تأتوني به، فاقترعوا فيما بينهم فأصابت القرعة شمعون وكان أحسنهم رأيا في يوسف في أمر الجب فتركوه عنده فأمر بإنزالهم وإكرامهم وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ أي فلما أوقر(1/539)
قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)
يوسف إبلهم بالميرة وأصلحهم بالزاد وما يحتاج إليه المسافر قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ إذا رجعتم لتمتاروا مرة أخرى لأعلم صدقكم فيما قلتم: إن لنا أخا من أبينا عند أبينا. أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ أي أتمه وأزيدكم حمل بعير آخر لأجل أخيكم وحملا آخر لأبيكم لأنهم قالوا: إن لنا أبا شيخا كبيرا وأخا آخر بقي معه، لأن يوسف لا يزيد لأحد على حمل بعير وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) أي خير المضيفين فإنه عليه السلام كان قد أحسن ضيافتهم مدة إقامتهم عنده فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ أي بأخيكم من أبيكم إذا عدتم مرة أخرى فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي أي فلا طعام لكم يكال عندي وَلا تَقْرَبُونِ (60) أي لا تدخلوا بلادي فضلا عن وصولكم إلى
قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ أي سنطلبه من أبيه ونحتال على أن ننزعه من يده وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61) ما أمرتنا به من أن نجيئك بأخينا فإنهم كانوا محتاجين إلى تحصيل الطعام ولا يمكن إلا من عنده وَقالَ لِفِتْيانِهِ أي لخدامه الكيالين.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «لفتيانه» بالألف والنون. والباقون «لفتيته» بالتاء من غير الألف. اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ أي دسوا دراهمهم التي اشتروا بها الطعام في أوعيتهم التي يحملون فيها الطعام لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها أي لكي يعرفوا بضاعتهم إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ أي إذا رجعوا إلى أبيهم وفرغوا أوعيهم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) أي لعل معرفتهم ذلك تدعوهم إلى الرجوع إلينا، لأنهم إذا علموا أن ذلك من سخاء يوسف بعثهم على العود عليه والرغبة في معاملته وأيضا أن سيدنا يوسف يخاف من أن لا يكون عند أبيه من الدراهم ما يرجعون به مرة أخرى فَلَمَّا رَجَعُوا أي إخوة يوسف غير شمعون إِلى أَبِيهِمْ بكنعان قالُوا قبل أن يشتغلوا بفتح المتاع: يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ أي حكم العزيز بمنع الطعام بعد هذه المرة إن لم يذهب معنا بنيامين إليه، فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا بنيامين إلى مصر. وقال يعقوب: أين شمعون؟
قالوا:
ارتهنه ملك مصر وأخبروه بالقصة نَكْتَلْ أي نرفع المانع من الكيل بسببه ونكتل بسببه من الطعام ما نشاء.
وقرأ حمزة والكسائي «يكتل» بالياء أي يكتل أخونا لنفسه مع اكتيالنا. وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) من أن يصيبه مكروه وضامنون برده إليك قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ أي قال لهم يعقوب: كيف آمنكم على بنيامين وقد فعلتم بأخيه يوسف ما فعلتم وإنكم ذكرتم مثل هذا الكلام بعينه في يوسف وضمنتم لي حفظه فما فعلتم فلما لم يحصل الأمن والحفظ هناك فكيف يحصل هاهنا وإنما أفوّض الأمر إلى الله فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً منكم.
قرأ حفص وحمزة والكسائي بفتح الحاء وبألف بعدها على التمييز أي حفظ الله بنيامين خير من حفظكم. وقرأ الباقون «حفظا» بكسر الحاء وسكون الفاء. وقرأ الأعمش «فالله خير حافظا» .(1/540)
وقرأ أبو هريرة «خير الحافظين» . وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وهو أرحم به من والديه ومن إخوته وقيل: إن يعقوب لما ذكر يوسف قال: فالله خير حافظا إلخ أي حفظا ليوسف لأنه كان يعلم أن يوسف حي. وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ أي أوعيتهم التي وضعوا فيها الميرة بحضرة أبيهم وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ وهي ثمن الميرة الذي دفعوه ليوسف رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي أي ما نكذب بما قلنا من أنا قدمنا على خير رجل أنزلنا وأكرمنا كرامة عظيمة أو المعنى أي شيء نريد من إكرام الملك هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا هل من مزيد على ذلك فقد أحسن الملك مثوانا وباع منا ورد علينا متاعنا فلا نطلب وراء ذلك إحسانا. وقيل المعنى نحن لا نطلب منك يا أبانا عند رجوعنا إلى الملك بضاعة أخرى فإن هذه التي ردت إلينا كافية لنا في ثمن الطعام وَنَمِيرُ أَهْلَنا أي نأتي بالطعام إلى أهلنا برجوعنا إلى ذلك الملك بتلك البضاعة وهذا معطوف على محذوف، والتقدير فنستعين بهذه البضاعة ونمير أهلها وَنَحْفَظُ أَخانا بنيامين من المكاره في الذهاب والإياب وَنَزْدادُ بسببه كَيْلَ بَعِيرٍ أي وقر بعير له ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) أي ذلك الحمل الذي نزداده كيل قليل على الملك، لأنه قد أحسن إلينا وأكرمنا بأكثر من ذلك ويقال: ذلك الذي نطلب منك أمر يسير قالَ لهم أبوهم: لَنْ أُرْسِلَهُ أي بنيامين مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ أي حتى تعطوني عهدا من الله أي حتى يحلفوا بالله لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ أي في حال أن تموتوا أو في حال أن تصيروا مغلوبين فلا تقدروا الإتيان به إلى فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ أي أعطوا أباهم عهدهم من الله على رده إلى أبيهم فقالوا في حلفهم: بالله رب محمد لنأتينك به. قالَ أي يعقوب: اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66) أي شهيد فإن وفيتم بالعهد جازاكم الله بأحسن الجزاء، وإن غدرتم به كافأكم بأعظم العقوبات. وَقالَ ناصحا لهم لما أزمع على إرسالهم جميعا: يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مصر مِنْ بابٍ واحِدٍ من أبوابها الأربعة وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ إنما أمرهم بذلك لأنه خاف عليهم العين فإنهم كانوا ذوي جمال وشارة حسنة، وكانوا أولاد رجل واحد وقد تجملوا في هذه الكرة أكثر مما في المرة الأولى وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي لا أدفع عنكم بتدبيري شيئا مما قضى الله عليكم فإن الحذر لا يمنع القدر، والإنسان مأمور بأن يحذر عن الأشياء المهلكة والأغذية الضارة، وأن يسعى في تحصيل المنافع ودفع المضار بقدر الإمكان، إِنِ الْحُكْمُ أي ما الحكم بالإلزام والمنع إِلَّا لِلَّهِ وحده عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ أي إليه وحده فوّضت أمري وأمركم وَعَلَيْهِ دون غيره فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) أي فليثق الواثقون وَلَمَّا دَخَلُوا أي المدينة مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ أي من الأبواب المتفرقة ما كانَ أي دخولهم متفرقين يُغْنِي أي يخرج عَنْهُمْ أي الداخلين مِنَ اللَّهِ أي من قضائه مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها أي لكن الدخول على صفة التفرق أظهر حاجة في قلب يعقوب وهي خوفه عليهم من إصابة العين وهذا تصديق الله لقول يعقوب وما أغني عنكم من الله من شيء وَإِنَّهُ أي(1/541)
قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)
يعقوب لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ أي لفوائد ما علمناه أي أنه عامل بما علمه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68) إن يعقوب بهذه الصفة والعلم وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ أي في محل حكمه آوى إِلَيْهِ أَخاهُ أي أنزله معه في منزله أي لما أتى إخوة يوسف بأخيه بنيامين قالوا له: هذا أخونا قد جئناك به. فقال لهم: أحسنتم وستجدون ذلك عندي فأكرمهم وأضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة، فبقي بنيامين وحيدا فبكى وقال: لو كان أخي يوسف حيا لأجلسني معه. فقال يوسف: بقي أخوكم فريدا، فأجلسه معه على مائدة وجعل يواكله، ثم أنزل كل اثنين منهم بيتا. فبقي بنيامين وحده وقال هذا لا ثاني له فاتركوه معي فضمه يوسف إليه وشمّ ريح أبيه منه حتى أصبح، فلما خلا به قال له يوسف: ما اسمك؟ قال: بنيامين، قال: وما بنيامين؟ قال: المثكل وهو لما ولد هلكت أمه، قال: وما اسم أمك؟ قال: راحيل بنت لاوى
. قال: فهل لك من ولد؟ قال: لي عشرة بنين قال: فهل لك من أخ لأمك؟ قال: كان لي أخ فهلك، قال يوسف: أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال: بنيامين ومن يجد أخا مثلك أيها الملك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل! فبكى يوسف عليه السلام وقام إليه وعانقه وقالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ أي فلا تحزن بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) أي لا تلتفت إلى ما صنعوه فيما تقدم من أعمالهم المنكرة وفيما يعملون بك من الجفاء ويقولون لك من التعيير والأذى، قال بنيامين: فأنا لا أفارقك، وقال يوسف: قد علمت اغتمام والدك بي فإذا حبستك عندي ازداد غمه ولا يمكنني هذا إلا بعد أن أشهرك بأمر فظيع، وأنسبك إلى ما لا يحمد قال: لا أبالي فافعل ما بدا لك فإني لا أفارقك. قال يوسف: فإني أدس صاعي في رحلك، ثم أنادي عليك بالسرقة لأحتال في ردك بعد إطلاقك معهم. قال: فافعل ما شئت فذلك قوله تعالى: فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ أي فلما هيأ يوسف لهم ما يحتاجون للسفر وحمل لهم أحمالهم من الطعام على إبلهم جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ أي دسّ مشربته التي كان يشرب فيها في وعاء طعام أخيه الشقيق بنيامين، ثم أمرهم بالسير، ثم أرسل خلفهم عبده ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أي نادى مناد مع رفع صوت مرارا كثيرة أَيَّتُهَا الْعِيرُ أي يا أصحاب الإبل التي عليها الأحمال إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) وهذا الكلام إما على سبيل الاستفهام، وإما على قصد المعاريض. والمعنى إنكم لسارقون ليوسف من أبيه ليكون للمنادي مندوحة عن الكذب.
قالُوا أي إخوة يوسف وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ أي والحال إنهم التفتوا إلى جماعة الملك المؤذن وأصحابه: ماذا تَفْقِدُونَ (71) أي أي شيء صاع منكم. قالُوا أي أصحاب الملك: نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ أي نطلب إناء الملك الذي كان يشرب فيه ويكيل وإنما اتخذ هذا الإناء مكيالا لعزة ما يكال به في ذلك الوقت قال المؤذن:
وَلِمَنْ جاءَ بِهِ أي بالإناء من عند نفسه مظهرا له قبل التفتيش حِمْلُ بَعِيرٍ من الطعام أجرة له وَأَنَا بِهِ أي بالحمل زَعِيمٌ (72) أي كفيل أؤديه إليه، لأن الإناء كان من الذهب وقد اتهمني الملك. قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ يا أهل مصر ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ أي أرض مصر بمضرة(1/542)
الناس وَما كُنَّا سارِقِينَ (73) لأنه قد ظهر من أحوالهم امتناعهم من التصرف في أموال الناس بالكلية لا بالأكل ولا بإرسال الدواب في مزارع الناس، ولأنهم لما وجدوا بضاعتهم في رحالهم حملوها من بلادهم إلى مصر ولم يستحلوا أخذها. قالُوا أي أصحاب يوسف: فَما جَزاؤُهُ أي فما جزاء سرقة الصواع في شريعتكم إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) في نفي كون الصواع فيكم: قالُوا أي إخوة يوسف: جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ أي جزاء سرقة الصواع هو أخذ الإنسان الذي وجد الصواع في متاعه فَهُوَ جَزاؤُهُ أي فاسترقاق ذلك الشخص سنة هو جزاء سرقته لا غير، فأفتوا بشريعتهم كَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) بالسرقة في أرضنا هذا من بقية كلام إخوة يوسف. وقيل: من كلام أصحاب يوسف جوابا لقول إخوته ذلك فَبَدَأَ أي يوسف بعد ما رجعوا إليه بِأَوْعِيَتِهِمْ أي بتفتيش أوعية الإخوة العشرة قَبْلَ تفتيش وِعاءِ أَخِيهِ بنيامين لنفي التهمة.
روي أنه لما بلغت النوبة إلى وعائه قال: ما أظن هذا أخذ شيئا؟ فقال إخوة يوسف: والله لا نتركك حتى تنظر في رحله فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا ثُمَّ اسْتَخْرَجَها أي الصواع مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ فقال له: فرجك الله كما فرجتني كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ أي كما ألهمنا إخوة يوسف إن جزاء السارق أن يسترق كذلك ألهمنا يوسف حتى دسّ الصواع في رحل أخيه ليضمه إليه على ما حكم به إخوته ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي لم يكن يوسف يأخذ أخاه في حكم الملك بسبب من الأسباب إلا بسبب مشيئة الله، وهو حكم أبيه. أي وكان حكم ملك مصر في السارق أن يضرب ويغرم مثلي قيمة المسروق، فما كان يوسف قادرا على حبس أخيه عند نفسه إلا أن الله تعالى كادله ما جرى على لسان إخوته أن جزاء السارق هو الاسترقاق نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتنوين. والباقون بالإضافة، أي نرفع رتبا كثيرة عالية من العلم من نشاء رفعه وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) أي إن إخوة يوسف كانوا علماء فضلاء، ويوسف كان زائدا عليهم في العلم ففوق كل عالم عالم إلى أن ينتهي العلم إلى الله تعالى فليس فوقه أحد. قالُوا أي إخوة يوسف تبرئة لأنفسهم: إِنْ يَسْرِقْ أي بنيامين سقاية الملك فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ أي قالوا للملك: إن هذا الأمر ليس بغريب من بنيامين فإن أخاه الذي هلك كان سارقا أيضا. قال سعيد بن جبير: كان جد يوسف أبو أمه كافرا يعبد الأوثان فأمرته أمه بأن يسرق تلك الأوثان ويكسرها فلعله يترك عبادة الأوثان ففعل ذلك فهذا هو السرقة فَأَسَرَّها أي إجابتهم يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ أي في قلبه وَلَمْ يُبْدِها أي لم يظهر الإجابة لَهُمْ قالَ أي يوسف في نفسه أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً أي منزلة في السرقة من يوسف حيث سرقتم أخاكم من أبيكم وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77) أي بحقيقة ما تذكرون من أمر يوسف هل يوجب عود مذمة إليه أم لا؟ قالُوا مستعطفين: يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ أي ملك مصر إِنَّ لَهُ أي(1/543)
ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)
بنيامين أَباً شَيْخاً كَبِيراً في السن لا يكاد يستطيع فراقه وهو يفرح به إن رددناه فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ أي بدلا منه في الاسترقاق إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) إلينا في حسن الضيافة ورد البضاعة إلينا فأتمم إحسانك إلينا بهذه التتمة قالَ مَعاذَ اللَّهِ أي نعوذ بالله معاذا من أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ لأن أخذنا له إنما هو بقضية فتواكم إِنَّا إِذاً أي إن أخذنا بريئا بمذنب لَظالِمُونَ (79) في مذهبكم وما لنا ذلك ولهذا الكلام معنى باطن وهو أن الله تعالى إنما أمرني بالوحي بأن آخذ بنيامين لمصالح يعلمها الله تعالى فلو أخذت غيره كنت عاملا بخلاف الوحي فصرت ظالما لنفسي فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ أي من يوسف خَلَصُوا نَجِيًّا أي تفردوا عن سائر الناس يتناجون قالَ كَبِيرُهُمْ في السن وهو روبيل أو في العقل وهو يهوذا، أو رئيسهم وهو شمعون أَلَمْ تَعْلَمُوا يا إخوتاه أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ في رد بنيامين إليه وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ ف «ما» مزيدة، والجار والمجرور متعلق ب «فرطتم» أي ومن قبل أخذكم العهد في شأن بنيامين قصرتم في شأن يوسف، ولم تفوا بوعدكم على النصح والحفظ له، «أو» مصدرية عطفا على مفعول «تعلموا» أي ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقا وتفريطكم السابق في شأن يوسف أو وترككم ميثاقه في حق يوسف، «أو» موصولة عطفا على مفعول «تعلموا» أيضا أي ألم تعلموا أخذ أبيكم موثقا والذي قدمتموه في حق يوسف من الخيانة العظيمة من قبل تقصيركم في بنيامين فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ أي فلن أفارق أرض مصر حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي في الرجوع إليه أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي بالخروج منها على وجه لا يؤدي إلى نقض الميثاق أو بخلاص أخي من يد العزيز بسبب من الأسباب وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) لأنه لا يحكم إلا بالعدل والحق.
روي أنهم كلموا العزيز في إطلاق بنيامين فقال روبيل: أيها الملك لتردن إلينا أخانا أو لأصيحن صيحة لا تبقى بمصر حامل إلا ألقت ولدها ووقفت كل شعرة في جسده فخرجت من ثيابه فقال يوسف لابنه: قم إلى جنب روبيل فمسه فذهب ذلك الابن فمسه، فسكن غضبه. فقال روبيل: إن هذا بذر من بذر يعقوب وهمّ أن يصيح فركض يوسف عليه السلام على الأرض وأخذ بملابسه وجذبه فسقط على الأرض. وقال له: أنتم يا معشر العبرانيين تزعمون أن لا أحد أشد منكم فلما رأوا ما نزل بهم ورأوا أن لا سبيل إلى الخلاص خضعوا،
ثم قال لهم كبيرهم:
ارْجِعُوا يا إخوتي إِلى أَبِيكُمْ دوني فَقُولُوا له متلطفين بخطابكم: يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ صواع الملك من ذهب وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا أي رأينا أن الصواع استخرجت من وعائه وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ أي باطن الحال حافِظِينَ (81) أي إن حقيقة الأمر غير معلومة لنا فإن الغيب لا يعلمه إلا الله فلعل الصواع دس في رحله ونحن لا نعلم ذلك وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها أي واسأل أهل قرية من قرى مصر التي كنا فيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها أي واسأل(1/544)
أصحاب الإبل التي عليها الأحمال الذين جئنا معهم وهم قوم من كنعان من جيران يعقوب عليه السلام وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) في أقوالنا فرجع التسعة إلى أبيهم فقالوا له: ما قال كبيرهم قالَ أي يعقوب: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً أي بل زيّنت لكم أنفسكم إخراج بنيامين عني إلى مصر طلبا للمنفعة فعاد من ذلك ضرر فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أي فعلي صبر بلا جزع ولما رجع القوم إلى يعقوب عليه السلام وأخبروه بالواقعة بكى وقال: يا بني لا تخرجون من عندي مرة إلا ونقص بعضكم، ذهبتم مرة فنقص يوسف، ومرة ثانية نقص شمعون، ومرة ثالثة نقص روبيل وبنيامين ثم بكى وقال: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ أي بيوسف وأخيه الشقيق وأخيه الذي توقف في مصر جَمِيعاً فلا يتخلف منهم أحد وإنما قال يعقوب هذه المقالة على سبيل حسن الظن بالله تعالى، لأنه إذا اشتد البلاء كان أسرع إلى الفرج، ولأنه علم بما جرى عليه وعلى بنيه من رؤيا يوسف إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بحالي وحالهم الْحَكِيمُ (83) أي الذي لم يبتلني إلا لحكمة بالغة وَتَوَلَّى عَنْهُمْ أي وأعرض يعقوب عن بنيه حين بلغوه خبر بنيامين، وخرج من بينهم كراهة لما سمع منهم. وَقالَ يا أَسَفى أي يا شدة حزني عَلى يُوسُفَ أي أشكو إلى الله أسفي ولم يسترجع يعقوب أي لم يقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، لأن الاسترجاع خاص بهذه الأمة وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ أي ضعف بصره من كثرة البكاء، فإن الدمع يكثر عند غلبة البكاء، فتصير العين كأنها بيضاء من بياض الماء الخارج منها فَهُوَ كَظِيمٌ (84) أي ممسك على حزنه فلا يظهره أو ممتلئ من الحزن أو مملوء من الغيظ على أولاده. قالُوا أي الجماعة الذين كانوا في الدار من أولاد أولاده وخدمه: تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ أي والله لا تزال تذكر يوسف حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أي فاسدا في جسمك وعقلك أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) أي من الأموات فكأنهم قالوا: أنت الآن في بلاء شديد، ونخاف عليك أن يحصل فيك ما هو أزيد منه وأرادوا بهذا القول منعه عن كثرة البكاء. الَ
أي يعقوب لهم: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
أي لا أذكر الحزن العظيم ولا الحزن القليل إلا مع الله أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ
(86) أي أعلم من رحمته ما لا تعلمون وهو أنه تعالى يأتيني بالفرج من حيث لا أحتسب، أي إنه يعلم أن رؤيا يوسف صادقة، ويعلم أن يوسف حي لأن ملك الموت قال له:
اطلبه هاهنا وأشار إلى جهة مصر ويعلم أن بنيامين لا يسرق، وقد سمع أن الملك ما آذاه وما ضرّ به فغلب على ظنه أن ذلك الملك هو يوسف فمن ذلك قال: يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ أي استعلموا بعض أخبار يوسف وأخيه بنيامين فإن حالهما مجهولة ومخوفة بخلاف حال روبيل وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ أي لا تقنطوا من فرج الله وفضله. وقرأ الحسن وقتادة «من روح الله» بضم الراء، أي من رحمته إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87) لأن اليأس من رحمة الله تعالى لا يحصل إلا إذا اعتقد الإنسان أن الإله غير قادر على الكمال أو غير عالم(1/545)
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
بجميع المعلومات، أو بخيل وكل واحد من هذه الثلاثة يوجب الكفر، فثبت أن اليأس لا يحصل إلا لمن كان كافرا أي فقبلوا من أبيهم تلك الوصية فعادوا إلى مصر مرة ثالثة فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ أي يوسف قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ أي الملك القادر القوي: مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ أي أصابنا ومن تركناهم وراءنا الهزال من شدة الجوع وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ أي بدراهم رديئة لا تقبل في ثمن الطعام، وتقبل فيما بين الناس فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ أي أتممه لنا ما تتمم لنا بالدراهم الجياد وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا بالمسامحة عن ما بين الثمنين إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) في الدنيا والآخرة.
وروي أنهم لما قالوا ذلك وتضرعوا إليه اغرورقت عيناه فعند ذلك قالَ مجيبا عما عرصوا به من طلب رد أخيهم بنيامين: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ أي ما أعظم ما أتيتم من أمر يوسف وأخيه من تفريق يوسف من أبيه وإفراده عن أخيه لأبيه وأمه إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) أي حال كونكم جاهلين عقبى فعلكم ليوسف من خلاصه من الجب وولايته السلطنة قالُوا أي إخوته: أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ.
قرأ ابن كثير «إنك» على لفظ الخبر. وقرأ نافع «أإنك» بفتح الألف غير ممدودة وبالياء.
كان ليعقوب وإسحاق مثل ذلك، فلما عرفوه بتلك العلامة قالوا ذلك. قالَ جوابا لسؤالهم: أَنَا يُوسُفُ وَهذا أي بنيامين أَخِي أي شقيقي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بالجمع بيننا بعد التفرقة وبكل عز ولم يقل عليه السلام في الجواب: هو أنا، بل صرّح بالاسم تعظيما لما نزل به عليه السلام من ظلم إخوانه وما عوّضه الله من النصر والملك فكأنه قال: أنا يوسف الذي ظلمتموني على أعظم الوجوه، وأنا العاجز الذي قصدتم قتله، والله تعالى أوصلني إلى أعظم المناصب كما ترون فكان في إظهار الاسم هذه المعاني ولهذا قال: وهذا أخي مع أنهم كانوا يعرفونه، لأن مقصوده عليه السلام أن يقول وهذا أيضا مظلوم، ثم صار هو منعما عليه من الله تعالى كما ترون إِنَّهُ أي الشأن والمحدث مَنْ يَتَّقِ معاصي الله وَيَصْبِرْ على أذى الناس والمحن فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) ويقوم الظاهر مقام الضمير لاشتماله على النعتين اللذين هما التقوى والصبر
قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ أي فضلك الله عَلَيْنا بالعلم والحلم والحسن والعقل والملك وَإِنْ كُنَّا أي وإن الشأن كنا لَخاطِئِينَ (91) أي لمتعمدين في الإثم فهم اعتذروا منه وتابوا. قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ خبر ثان، أي إني حكمت في هذا اليوم بأن لا توبيخ مطلقا، وتقدير الكلام:(1/546)
اليوم حكمت بهذا الحكم العام المتناول لكل الأوقات، لأن «لا تثريب» نفي للماهية فيقتضي انتفاء جمع أفراد الماهية فذلك مفيد للنفي المشتمل لكل الأوقات يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ما كان منكم وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) يغفر الصغائر والكبائر أي لما بين يوسف لهم أنه أزال عنهم ملامة الدنيا بعد اليوم طلب من الله أن يزيل عنهم عقاب الآخرة، وروي أن إخوة يوسف لما عرفوه أرسلوا إليه إنك تحضرنا في مائدتك بكرة وعشيا، ونحن نستحي منك لما صدر منا من الإساءة إليك فقال يوسف عليه السلام: إن أهل مصر وإن ملكت فيهم كانوا ينظرون إلي بالعين الأولى ويقولون: سبحان من بلغ عبدا بيع بعشرين درهما، ولقد شرفت الآن بإتيانكم وعظمت في العيون لما علم الناس أنكم إخوتي وأني من حفدة إبراهيم عليه السلام فقال يوسف: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ إلي بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) من النساء والذراري والموالي وكانوا نحو سبعين إنسانا، وحمل القميص يهوذا وقال: أنا أحزنته بحمل القميص ملطخا بالدم إليه فأفرحه كما أحزنته فحمله وهو حاف حاسر من مصر إلى كنعان وبينهما مسيرة ثمانين فرسخا. وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ أي خرجت الإبل التي عليها الأحمال لإخوة يوسف من العريش وهي قرية بين مصر وكنعان قالَ أَبُوهُمْ يعقوب لمن حضر عنده من أولاد بنيه وقرابته: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ أي إني لأشم ريح الجنة من قميص يوسف لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) أي لولا أن تنسبوني إلى الخرف وفساد الرأي من هرم لصدقتموني. والتحقيق أن يقال: إنه تعالى أوصل تلك الرائحة إلى سيدنا يعقوب على سبيل إظهار المعجزات، لأن وصول الرائحة إليه من المسافة البعيدة ثمانية أيام مثلا أمر مناقض للعادة فيكون معجزة له قالُوا أي الحاضرون عنده: تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) أي لفي حبك الأول ليوسف لا تنساه ولا تذهل عنه وكان يوسف عندهم قد مات فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ وهو يهوذا بالقميص أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ أي ألقى البشير القميص على وجه يعقوب فَارْتَدَّ بَصِيراً أي فصار يعقوب بصيرا لعظم فرحه قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) من حياة يوسف وأن رؤياه صدق، وأن الله يجمع بيننا قالُوا اعتذارا عمّا حصل منهم: يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا أي اطلب لنا من الله غفر ذنوبنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) أي متعمدين للإثم في أمر يوسف قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي أي أدعو لكم ربي ليلة الجمعة وقت السحر، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فقام إلى الصلاة في وقت السحر، فلما فرغ منها رفع يديه وقال: اللهم اغفر لي جزعي على يوسف، وقلة صبري عليه، واغفر لأولادي ما فعلوه في حق يوسف. فأوحى الله تعالى إليه إني قد غفرت لك ولهم أجمعين.
روي أن يوسف عليه السلام وجّه إلى أبيه جهازا ومائتي راحلة مع إخوته ليأتوا بجميع أهله إلى مصر، وهم يومئذ اثنان وسبعون ما بين رجل وامرأة، وكانوا حين خرجوا من مصر مع موسى عليه السلام ستمائة ألف وخمسمائة وبضعة وسبعين رجلا سوى الذرية والهرمى وكانت الذرية(1/547)
ألف ألف ومائتي ألف، فقد بورك فيهم كثيرا حتى بلغوا هذا العدد في مدة موسى مع أن بينه وبين يوسف أربعمائة سنة، فخرج يوسف في أربعة آلاف من الجند لكل واحد منهم جبة من فضة وراية خز وقصب فتزينت الصحراء بهم واصطفوا صفوفا، ولما صعد يعقوب ومعه أولاده وحفدته ونظر إلى الصحراء مملوءة بالفرسان مزينة بالألوان فنظر إليهم متعجبا فقال جبريل: انظر إلى الهواء فإن الملائكة قد حضرت سرورا بحالك، وكانوا باكين محزونين مدة لأجلك، وهاجت الفرسان بعضهم في بعض وصهلت الخيول، وسبحت الملائكة، وضرب بالطبول والبوقات، فصار اليوم كأنه يوم القيامة، وكان دخولهم في مصر يوم عاشوراء فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ في محل ضرب فيه يوسف خيامه حين خرج من مصر لتلقي أبيه آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ أي ضم يوسف إليه أباه وخالته واعتنقهما فإن أمه ماتت في النفاس بأخيه بنيامين. فمعنى بنيامين بالعبرانية: ابن الوجع ولما ماتت أمه تزوج أبوه بخالته فإن الرابة تدعى أما. وَقالَ أي يوسف لجميع أهله: ادْخُلُوا مِصْرَ للإقامة بها إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) على أنفسكم وأموالكم وأهليكم لا تخافون أحدا، وكانوا فيما سلف يخافون ملوك مصر. وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ أي لما نزلوا في مصر أجلس يوسف أباه وخالته معه في السرير الرفيع الذي كان يجلس عليه وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً أي وخروا الله سجدا شكرا لأجل يوسف واجتماعهم به وكان يوسف كالقبلة لهم كما سجدت الملائكة لآدم فإن الله أمر يعقوب بالسجود لحكمة خفية وذلك، لأن إخوة يوسف ربما حملهم التكبر عن السجود على سبيل التواضع لا على سبيل العبادة ويوسف لم يكن راضيا بذلك السجود في قلبه لكن لما علم أن الله أمر يعقوب بذلك سكت، ولأن يعقوب علم أنهم لو لم يفعلوا ذلك لظهر الفتر والأحقاد القديمة بعد كمونها، فالسجود لزوال الاستعلاء والنفرة عن قلوبهم وذلك جائز في ذلك الزمان، فلما جاءت هذه الشريعة نسخت هذه الفعلة. ويقال: كان سجودهم تحيتهم فيما بينهم كهيئة الركوع نحو فعل الأعاجم. وَقالَ أي يوسف: يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ أي هذا السجود تصديق رؤياي الكائنة من قبل المصائب التي وقعت فكأن يوسف يقول: يا أبت لا يليق بمثلك على جلالتك في العلم والدين والنبوة أن تسجد لولدك إلا أن هذا أمر أمرت به فإن رؤيا الأنبياء حق وذلك قوله تعالى حكاية عن قول يوسف: قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وكأنه قيل ليعقوب:
إنك كنت دائم الرغبة في وصال يوسف، ودائم الحزن بسبب فراقه، فإذا وجدته فاسجد له، فكان الأمر بذلك السجود من تمام التشديد من الله تعالى على يعقوب عليه السلام قال سلمان: كان بين رؤياه وتأويلها أربعون عاما وَقَدْ أَحْسَنَ بِي أي وقد لطف بي محسنا إلي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ إنما ذكر إخراجه من السجن ولم يذكر إخراجه من الجب لئلا تخجل إخوته، ولأن خروجه من السجن كان سببا لصيرورته ملكا ولوصوله إلى أبيه وإخوته ولزوال التهمة عنه وكان ذلك من أعظم نعمه تعالى عليه وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ أي من البادية وكان يعقوب وأولاده أصحاب ماشية فسكنوا البادية.(1/548)
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
وقال علي بن طلحة: أي من فلسطين مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي أي من بعد أن أفسد الشيطان بيننا بالحسد إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ أي مدبر لما يشاء من خفايا الأمور فإذا أراد الله حصول شيء سهل أسبابه فحصل، وإن كان في غاية البعد عن الحصول عند العقول إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بالوجه الذي يسهل تحصيل ذلك الصعب الْحَكِيمُ (100) أي المحكم في فعله مبرأ عن العبث والباطل.
وروي أن يعقوب عليه السلام أقام معه أربعا وعشرين سنة فلما حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه يوسف أن يحمل جسده إلى الشام ويدفنه عند قبر أبيه إسحاق فلما مات بمصر حمله يوسف وجعله في تابوت من ساج فوافق ذلك موت عيص أخي يعقوب، وكانا قد ولدا في بطن واحد فدفنا في قبر واحد، وكان عمرهما مائة وسبع وأربعين سنة فلما دفن يوسف أباه رجع إلى مصر وعاش بعد أبيه ثلاثا وعشرين سنة فلما تم أمره وعلم أن نعيم الدنيا لا يدوم سأل الله حسن العاقبة فقال: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ أي بعضا منه وهو ملك مصر وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أي بعضا من تعبير الرؤيا فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي يا خالقهما أَنْتَ وَلِيِّي أي أنت الذي تتولى إصلاح جميع مهماتي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً دعا يوسف بذلك مع علمه بأن كل نبي لا يموت إلا مسلما إظهارا للعبودية والافتقار، وشدة الرغبة في طلب
سعادة الخاتمة، وتعليما لغيره. والمطلوب هاهنا كمال حال المسلم وهو أن يستسلم لحكم الله تعالى على وجه يستقر قلبه على ذلك الاستسلام، ويرضى بقضاء الله وقدره ويكون مطمئن النفس منشرح الصدر منفسح القلب في ذلك، وهذه الحالة زائدة على الإسلام الذي هو ضد الكفر وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) أي بآبائي المرسلين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ويعقوب في ثوابهم ودرجاتهم في الجنة وولد ليوسف أفراثيم وميشا، وولد لأفرائيم نون وولد لنون يوشع فتى موسى عليه السلام، ولقد توارثت الفراعنة من العمالقة مصر بعد يوسف ولم يزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف، وآبائه إلى أن بعث الله تعالى موسى عليه السلام ذلِكَ أي خبر يوسف وإخوته مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ الذي لا يحوم حوله أحد نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ أي عند إخوة يوسف إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ أي حين عزموا على إلقائهم يوسف في غيابة الجب وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) أي والحال أنهم يحتالون بيوسف ويريدون بذلك قتل يوسف أي ذلك الخبر لا سبيل إلى معرفتك إياه إلا بالوحي، وأما ما ينقله أهل الكتاب فليس على ما هو عليه، ومثل هذا التحقيق بلا وحي لا يتصور إلا بالحضور فيكون معجزا، لأن محمدا لم يطالع الكتب ولم يأخذ عن أحد من البشر وما كانت بلده بلد العلماء فإتيانه بهذه القصة على وجه لم يقع فيه غلط كيف لا يكون معجزا وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وهم قريش واليهود وَلَوْ حَرَصْتَ أي بالغت في طلب إيمانهم بإظهار الآيات الدالة على صدقك بِمُؤْمِنِينَ (103) لإصرارهم على العناد.
روي أن اليهود وقريشا لما سألوا عن قصة يوسف وعدوا أن يسلموا فلما أخبرهم بها على(1/549)
موافقة التوراة فلم يسلموا حزن النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت هذه وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ أي على تبليغ الأنباء التي أوحينا إليك مِنْ أَجْرٍ كما يفعله حملة الإخبار إِنْ هُوَ أي القرآن الذي أوحينا إليك إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) عامة أي عظة من الله تعالى لهم في دلائل التوحيد والنبوة، والمعاد والتكاليف والقصص فإن الوعظ العام ينافي أخذ الأجر من البعض، وهذا القرآن مشتمل على هذه المنافع العظيمة ولا تطلب منهم مالا فلو كانوا عقلاء لقبلوا منك وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ أي وكم من عدد شئت من العلامات الدالة على وجود الصانع ووحدته وكمال قدرته وعلمه وحكمته غير هذه الآية التي جئت بها كائنة فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الأجرام الفلكية وتغير أحوالها ومن الجبال والبحار وسائر ما في الأرض من العجائب يَمُرُّونَ عَلَيْها أي يشاهدونها ولا يتأملون فيها.
وقرئ برفع «والأرض» على الابتداء و «يمرون عليها» خبره. وقرأ السدي بنصبها على معنى ويطؤن الأرض. وَهُمْ عَنْها أي الآية مُعْرِضُونَ (105) أي غير متفكرين فيها فلا عجب إذا لم يتأملوا في الدلائل الدالة على نبوتك يا أشرف الخلق وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أي لا يؤمن أكثرهم بوجود الله إلا في حال شركهم فالكافرون مقرون بوجود الله لكنهم يثبتون له شريكا في المعبودية. وعن ابن عباس أن أهل مكة قالوا: الله ربنا وحده لا شريك له والملائكة بناته.
وقال عبدة الأصنام: ربنا الله وحده والأصنام شفعاؤنا عنده، وقالت اليهود: ربنا الله وحده وعزيز ابن الله، وقالت النصارى: ربنا الله وحده لا شريك له والمسيح ابن الله، وقال عبدة الشمس والقمر: ربنا الله وحده وهؤلاء أربابنا وكل من هؤلاء لم يوحدوا بل أشركوا. وقال المهاجرون والأنصار: ربنا الله وحده ولا شريك معه أَفَأَمِنُوا أي أهل مكة أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أي أفلم يخافوا أن تأتيهم في الدنيا عقوبة تشملهم أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أي فجأة من غير سبق علامة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107) بإتيانها غير مستعدين لها. قُلْ يا أشرف الخلق لأهل مكة:
هذِهِ أي الدعوة إلى التوحيد والإيمان بالإخلاص سَبِيلِي أي ديني أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ بهذا الدين عَلى بَصِيرَةٍ أي حجة واضحة أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي «فأدعوا» إما مستأنف أو حال من الياء «وعلى بصيرة» إما حال من فاعل «أدعوا» أو من الياء، و «أنا» إما توكيد للمستكن في «أدعوا» أو في «على بصيرة» ، «ومن اتبعني» عطف على فاعل «أدعو» .
قال صلّى الله عليه وسلّم: «العلماء أمناء الرسل على عباد الله من حيث يحفظون لما يدعونهم إليه»
«1» . وَسُبْحانَ اللَّهِ أي وأسبح سبحان الله وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) الذين اتخذوا مع الله ضدا وولدا وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى وهذا رد على أهل مكة حيث أنكروا نبوة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: هلا بعث الله
__________
(1) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (1: 388) ، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1: 185) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (28952) . [.....](1/550)
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
ملكا. والمعنى كيف يتعجبون من إرسالنا إياك مع أن سائر الرسل الذين كانوا من قبلك بشر مثلك حالهم كحالك ولم يبعث الله رسولا من أهل البادية.
قال صلّى الله عليه وسلّم: «من بدا جفا ومن اتبع الصيد غفل»
«1» . وقرأ حفص عن عاصم «نوحي» بالنون مبنيا للفاعل. والباقون بالياء مبنيا للمفعول أَفَلَمْ يَسِيرُوا أي أهل مكة فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي كيف صار آخر أمر المكذبين للرسل والآيات ممن قبلهم فيعتبروا بما حل بهم من عذابنا وَلَدارُ الْآخِرَةِ أي الجنة خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا معاصي الله أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) .
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بالتاء على الخطاب لأهل مكة. والباقون على الغيبة حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ أي لا يغررهم تماديهم فيما هم فيه من الراحة والرخاء فإن من قبلهم أمهلوا حتى أيس الرسل عن النصر عليهم في الدنيا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف الذال المكسورة. والمعنى وظن القوم أن الرسل أخلفوا في وعدهم بالنصر، أي أخلف الله وعده لرسلهم بالنصر. وقرأ الباقون بالتشديد.
والمعنى وظن الرسل أنهم قد كذبهم الأمم الذين آمنوا بهم بما جاءوا به من الله وهذا التأويل منقول عن عائشة رضي الله عنها وهو أحسن الوجوه، وقالت: إن البلاء لم يزل من الأنبياء حتى خافوا من أن يكذبهم الذين كانوا قد آمنوا بهم جاءَهُمْ نَصْرُنا لهم بهلاك أعدائهم فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ هم الرسل والمؤمنون بهم. وقرأ ابن عامر وعاصم بنون واحدة فعل ماض مبني للمفعول. والباقون بنونين الثانية ساكنة وبسكون الياء فعل مضارع وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا أي عذابنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) أي المشركين إذا نزل بهم
لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ بفتح القاف أي قصص يوسف وإخوته وأبيه عليهم السلام. وقرئ بكسر القاف أي قصص الأنبياء وأممهم عِبْرَةٌ أي عظة عظيمة لِأُولِي الْأَلْبابِ أي لذوي العقول الذين انتفعوا بمعرفتها ما كانَ أي هذا القرآن فقد تقدم ذكره في قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [طه: 113] حَدِيثاً يُفْتَرى فلا يصح من محمد أن يختلق فيه ولا يصح الكذب من القرآن فليس بكذب في نفسه وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي ولكن كان القرآن مصدق الكتب التي قبله وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ أي ومبينا بين الحلال والحرام وسائر ما يتصل بالدين وَهُدىً في الدنيا من الضلالة وَرَحْمَةً أي سببا لحصول الرحمة من العذاب يوم القيامة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) أي يصدقونه فإنهم المنتفعون به.
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الأضاحي، باب: في اتباع الصيد، والترمذي في كتاب الفتن، باب: 69، والنسائي في كتاب الصيد، باب: اتباع الصيد، وأحمد في (م 1/ ص 357) ، وفيه «من سكن البادية» بدل «من بدا» .(1/551)
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)
سورة الرعد
مكية، إلا آيتين فهما مدنيتان وهما قوله تعالى: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ الآية. وقوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ. وقيل: مدنية، سوى قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ الآيتين، ثلاث وأربعون آية، ثمانمائة وأربع وخمسون كلمة، ثلاثة آلاف وخمسمائة وخمسة وأربعون حرفا
المر اسم للسورة أي هذه السورة مسماة بهذا الاسم.
وقال ابن عباس في رواية عطاء معناه أنا الله الملك الرحمن. وقال في رواية غيره: أنا الله أعلم وأرى ما تعملون وتقولون. تِلْكَ أي آيات السورة المسماة ب «آلمر» آياتُ الْكِتابِ أي الكتاب العجيب الكامل وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وهو القرآن الْحَقُّ أي هو المطابق للواقع في كل ما نطق به وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ أي مشركي مكة لا يُؤْمِنُونَ (1) بالقرآن لإخلالهم بالنظر اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ أي بغير دعائم تَرَوْنَها كلام مستأنف أو حال من السموات أي وأنتم ترون السموات مرفوعة بلا عماد، أو صفة لعمد. والمعنى أن الله رفع السموات بغير عمد مرئية، لكم من العيون بل لها عمد غير مرئية وهي قدرة الله تعالى أي إنما بقيت السموات واقفة في الجو العالي بقدرة الله تعالى. ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أي استولى الله على العرش بالحفظ والتدبير وظهر تصرفه في هذه الأشياء بعد خلق السموات. ويقال للسلطان والملك إذا استقام أمره: إنه استوى على عرشه أي سريره الذي يجلس عليه فالاستواء على العرش كناية عن جريان التدبير والحكم وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أي وذللهما لمنافع الخلق كُلٌّ منهما يَجْرِي في فلكه حسبما أريد منهما لِأَجَلٍ مُسَمًّى لمدة معينة فيها تتم دورته.
قال ابن عباس: للشمس مائة وثمانون منزلا كل يوم لها منزل وذلك يتم في ستة أشهر، ثم إنها تعود مرة أخرى إلى واحد منها في ستة أشهر أخرى وكذلك القمر له ثمانية وعشرون منزلا، فالله تعالى قدر لكل واحد منهما سيرا خاصا إلى جهة خاصة بمقدار خاص من السرعة والبطء فلزم أن يكون لهما بحسب كل لحظة حالة أخرى لم تكن حاصلة قبل ذلك يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي يدبر أمر(1/552)
الخلق بالإيجاد والإعدام والإحياء، والإماتة والإغناء والإفقار، وبإنزال الوحي، وبعثة الرسل وتكليف العباد يُفَصِّلُ الْآياتِ أي يحدث الله بعض الآيات الدالة على وحدانيته وكمال قدرته عقب بعض على سبيل التمييز والتفصيل لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) أي لكي تصدقوا بالبعث بعد الموت فهذه الدلائل المذكورة كما تدل على وجود الصانع تدل على صحة القول بالحشر والنشر، لأن من قدر على خلق هذه الأشياء وتدبيرها على كثرتها فلأن يقدر على النشر والحشر أولى.
ويروى أن رجلا قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: كيف يحاسب الله الخلق دفعة واحدة؟ فقال: كما يرزقهم الآن دفعة واحدة، وكما يسمع نداءهم، ويجيب دعاءهم الآن دفعة واحدة
. وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ أي بسطها طولا وعرضا على الماء وَجَعَلَ فِيها أي الأرض رَواسِيَ أي جبالا ثوابت أوتادا لها وَأَنْهاراً أي مجاري للماء واسعة لمنافع الخلق وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ أي وجعل كل نوع من أنواع الثمرات الموجودة في الدنيا صنفين: إما في اللون كالأبيض والأسود، أو في الطعم: كالحلو والحامض، أو في القدر: كالكبير والصغير أو في الكيفية: كالحار والبارد وما أشبه ذلك. يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أي يستر النهار بالليل إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من مد الأرض وإيتادها بالرواسي وإجراء الأنهار، وخلق الثمرات، وإغشاء الليل النهار لَآياتٍ دالة على وحدانية الله تعالى لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) فيستدلون بالصنعة على الصانع وبالسبب على المسبب وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ أي بقاع مختلفة في الأوصاف مُتَجاوِراتٌ أي متقاربات فمنها أرض سبخة رديئة وبجنبها أرض عذبة جيدة ومنها صلبة وبقربها رخوة إلى غير ذلك والاختلاف من دلائل قدرته تعالى وَجَنَّاتٌ أي بساتين مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ أي تنبت من أصل واحد ثلاث نخلات فأكثر أي مجتمع أصول الأربعة مثلا في أصل واحد وَغَيْرُ صِنْوانٍ أي هو مفترق أصولها واحدة واحدة.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم «وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان» كلها بالرفع عطفا على قوله: «وجنات» . والباقون بالجر عطفا على «أعناب» . وقرأ حفص عن عاصم في رواية القواس صنوان بضم الصاد والباقون بكسرها يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ في الطبع سواء كان السقي بماء الأمطار أو بماء الأنهار.
قرأ عاصم وابن عامر يسقي بالياء أي كل المذكور من القطع وما بعده. والباقون بالتاء أي جنات وَنُفَضِّلُ بَعْضَها أي الجنات عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ بضم الهمزة أي في المهيأ للأكل طعما وشكلا ورائحة، وحلاوة وحموضة، ولونا وقدرا، ونفعا وضرا. وقرأ حمزة والكسائي «يفضل» بالياء عطفا على يدبر. والباقون بالنون إِنَّ فِي ذلِكَ أي المفضل من أحوال القطع والجنات لَآياتٍ أي دلالات كثيرة ظاهرة لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) أي يستعملون عقولهم في(1/553)
التدبر وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي وإن تعجب يا أكرم الخلق من تكذيبهم إياك بعد ما كانوا قد حكموا عليك إنك من الصادقين فحقيق بالعجب قولهم: أنعاد خلقا جديدا بعد الموت، وبعد أن صرنا ترابا، وفينا الروح كما كنا قبل الموت، فإنهم عرفوا أن الله على كل شيء قدير فمن كانت قدرته وافية بهذه الأشياء العظيمة كيف لا تكون وافية بإعادة الإنسان بعد موته، لأن القادر على الأقوى قادر على الأضعف بالأولى أُولئِكَ أي المنكرون لقدرته تعالى على البعث بعد ما عاينوا الآيات الباهرة الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ لأنهم أنكروا قدرته وعلمه وصدقه في خبره وَأُولئِكَ أي أهل الكفر الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ يوم القيامة وَأُولئِكَ أي أهل الأغلال أَصْحابُ النَّارِ أي سكان النار هُمْ فِيها أي النار خالِدُونَ (5) لا ينكفون عنها وَيَسْتَعْجِلُونَكَ استهزاء منهم بِالسَّيِّئَةِ أي بنزول العذاب عليهم قَبْلَ الْحَسَنَةِ أي قبل طلب الإحسان إليهم بالإمهال، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يهددهم تارة بعذاب القيامة وتارة بعذاب الدنيا فكلما هددهم بعذاب القيامة، أنكروا البعث والجزاء وكلما هددهم بعذاب الدنيا قالوا له استهزاء بإنذاره: فجئنا بهذا العذاب وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ أي والحال أنه قد مضت العقوبات النازلة على أمثالهم من المكذبين فما لهم لا يعتبرون بها وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ أي لذو إمهال لهم وتأخير للعذاب عنهم عَلى ظُلْمِهِمْ أي حال كونهم ظالمين أنفسهم بالمعاصي وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) فيعاقب من يشاء منهم حين يشاء فتأخير ما استعجلوه ليس للإهمال وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا وهم المستعجلون بالعذاب أيضا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ أي قالوا عنادا: هلا أنزل على محمد من ربه علامة لنبوته كما أنزل على موسى وعيسى عليهما السلام قال تعالى له صلّى الله عليه وسلّم إزالة لرغبته في حصول مقترحاتهم: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ أي إنما أنت يا أشرف الخلق رسول مخوف من سوء عاقبة ما يأتون ويذرون ولا حاجة إلى إلزامهم بإتيان ما اقترحوا من الآيات وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7) أي نبي مخصوص له هداية مخصوصة فلما كان الغالب في زمان موسى هو السحر جعل معجزته من جنس ذلك وهو العصا واليد، ولما كان الغالب في أيام عيسى الطب جعل معجزته ما كان من جنس ذلك وهو إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ولما كان الغالب في أيام الرسول صلّى الله عليه وسلّم الفصاحة جعل معجزته ما كان لائقا بذلك الزمان، وهو فصاحة القرآن، فلما كان العرب لم يؤمنوا بهذه المعجزة مع كونها أليق بطباعهم فبأن لا يؤمنوا عند إظهار سائر المعجزات أولى اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى من حين العلوق إلى زمن الولادة من أي شيء متحمل وعلى أي حال وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ أي في عدد الولد واحد واثنين وثلاثة وأربعة، وفي جثته فقد يكون الولد مخدجا وتاما وفي مدة ولادته فقد يكون مدة الحمل تسعة أشهر وأزيد عليها إلى سنتين عند أبي حنيفة وإلى أربعة سنين عند الشافعي وإلى خمسة عند مالك. وَكُلُّ شَيْءٍ من الأشياء عِنْدَهُ أي في علمه تعالى بِمِقْدارٍ (8) أي(1/554)
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20)
بحد لا يجاوزه ولا ينقص عنه عالِمُ الْغَيْبِ أي ما غاب عن العباد وَالشَّهادَةِ أي ما علمه العباد الْكَبِيرُ أي العظيم الذي يصغر غيره بالنسبة إلى كبريائه الْمُتَعالِ (9) أي المنزه عن كل ما لا يجوز عليه في ذاته سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ في نفسه فلم يظهره على أحد وَمَنْ جَهَرَ بِهِ أي أظهره لغيره.
قال ابن عباس: أي سواء ما أضمرته القلوب وأظهرته الألسنة وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ أي مستتر بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ أي بارز يراه كل أحد بِالنَّهارِ (10) .
وقال مجاهد: أي وسواء من أقدم على القبائح سرا في ظلمات الليل ومن أتى بها ظاهرا بالنهار، أي فإن علمه تعالى محيط بالكل
لَهُ أي لكل ممن أسر أو جهر والمستخفي والسارب أو لعالم الغيب والشهادة مُعَقِّباتٌ أي ملائكة حفظة يعقب بعضهم بعضا في المجيء إلى من ذكر ويعقبون أقواله وأفعاله بالكتب مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أي يحيطون بمن ذكر فيعدون عليه أعماله وأقواله ولا يشذ من حفظهم إياها شيء أصلا يَحْفَظُونَهُ أي من ذكر مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي من
بأس الله حين أذنب بالاستمهال أو يراقبون أحواله من أجل أمر الله وقد قرئ به أو بسبب أمر الله كما تدل له قراءة علي وابن عباس، وزيد بن علي وعكرمة بأمر الله إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ من أمن ونعمة حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ بترك الشكر وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً أي هلاكا فَلا مَرَدَّ لَهُ أي لم تغن المعقبات شيئا فلا راد لعذاب الله ولا ناقض لحكمه وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ أي من غير الله مِنْ والٍ (11) أي مانع من عذاب الله الذي أراده بهم بتغيير ما بهم هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ وهو لمعان يظهر من خلال السحاب خَوْفاً أي خائفين من وقوع الصواعق وَطَمَعاً أي وطامعين في نزول الغيث، أو ذا خوف لمن له في المطر ضرر كالمسافر، وكمن يجفف التمر والزبيب والقمح وذا طمع لمن له فيه نفع كالحراث وَيُنْشِئُ السَّحابَ أي ويرفع الغمام المنسحب في الجو الثِّقالَ (12) بالماء وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ. قيل: الرعد اسم ملك موكل بالسحاب، والصوت المسموع لنا هو صوته بالتسبيح، وقيل: هو صوت الآلة الذي يتولد عند ضرب السحاب بها،
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن اليهود سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الرعد ما هو؟ فقال: «ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق- أي آلات من نار- يسوق بها السحاب حيث شاء الله» قالوا: فما الصوت الذي نسمع؟ قال: «زجره السحاب»
«1» ويقال: الرعد صوت السحاب وتسبيحه هو دلالته على وحدانية الله تعالى وفضله المستلزم لحمده وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ أي وتسبح جميع الملائكة من هيبة الله تعالى. وفي رواية عن ابن عباس: الرعد ملك موكل بالسحاب يسوقه حيث يؤمر، وأنه يحوز الماء في نقرة إبهامه وأنه يسبح الله تعالى، فإذا
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب التفسير، باب: تفسير سورة 13، وأحمد في (م 1/ ص 274) .(1/555)
سبح لا يبقى ملك في السماء إلا رفع صوته بالتسبيح فعندها ينزل المطر. وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ وهي نيران تنشأ من السحاب فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ أي في شأن الله وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) أي العقاب نزلت هذه الآية في عامر بن الطفيل، وأربد بن ربيعة أخي لبيد بن ربيعة فإنهما أتيا النبي صلّى الله عليه وسلّم يخاصمانه ويريدان الفتك به صلّى الله عليه وسلّم فقال أربد أخو لبيد: أخبرنا عن ربنا أمن نحاس هو أم حديد؟ فلما رجع أرسل الله عليه صاعقة في يوم صحو صائف فأحرقته، ورمى عامرا بغدة كغدة البعير فمات على ظهر فرسه.
وعن الحسن أنه قال: كان رجل من طواغيت العرب بعث إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم نفرا يدعونه إلى الله تعالى ورسوله فقال لهم: أخبروني من رب محمد هذا الذي تدعونني إليه فهل هو من ذهب أم من فضة أم من حديد أم من نحاس؟
فاستعظموا مقالته فرجعوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله ما رأينا رجلا أكفر قلبا ولا أعتى على الله منه؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ارجعوا إليه» فرجعوا إليه فقال: أجيب محمدا إلى رب لا أراه ولا أعرفه، فرجعوا إليه صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: يا رسول الله ما زادنا على مقالته الأولى بل أخبث منها فقال صلّى الله عليه وسلّم:
«ارجعوا إليه» فرجعوا إليه فبينما هم عنده ينازعونه ارتفعت سحابة فكانت فوق رؤوسهم فرعدت وبرقت ورمت بصاعقة فاحترق الكافر وهم جلوس عنده، فرجعوا ليخبروا النبي صلّى الله عليه وسلّم بالخبر، فاستقبلهم الأصحاب فقالوا: احترق صاحبكم قالوا: من أين علمتم؟ قالوا: أوحى الله إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم قوله تعالى: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ
إلخ. لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ أي لله الدعوة المطابقة للواقع حيث جعلها افتتاح الإسلام بحيث لا يقبل بدونها وهي شهادة أن لا إله إلا الله، وهي كلمة الإخلاص. وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ والأصنام الذين يعبدهم الكفار من غير الله لا يستجيبون لهم بشيء من طلباتهم إلا استجابة كاستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه من بعيد لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ أي ليبلغ الماء بنفسه من غير أن يغترف إلى فيه وما الماء ببالغ فيه أبدا لكونه جمادا لا يشعر بعطشه، ولا يبسط يده إليه، فكما لا يبلغ الماء في هذا الرجل العطشان كذلك لا تنفع الأصنام من عبدها وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ (14) أي وما عبادة الكافرين إلا في ضياع لا منفعة فيها، لأنهم إن عبدوا الأصنام لم يقدروا على نفعهم، وإن عبدوا الله لم يقبل منهم لإشراكهم وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً أي ولله يعبد من في السموات ومن في الأرض من الملائكة، وبعض المؤمنين من الثقلين حال كونهم طائعين بسهولة ونشاط وحال كونهم كارهين للعبادة بمشقة لصعوبة ذلك على بعض المؤمنين وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15) أي ولله يسجد ظلال من يسجد غدوة عن أيمانهم وعشية عن شمائلهم. قُلْ يا أشرف الخلق لقومك: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ أمر الله رسوله بهذا الجواب إشعارا بأنه متعين للجوابية وبأنهم لا ينكرونه ألبتة، ثم ألزمهم الحجة فقال: قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أي أبعد إقراركم هذا عبدتم من غير الله أربابا لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً يستجلبونه وَلا ضَرًّا يدفعونه(1/556)
عن أنفسهم فبالأولى أن يكونوا عاجزين عن تحصيل المنفعة للغير، ودفع المضرة عن الغير، فإذا عجزوا عن ذلك كانت عبادتهم محض العبث والسفه، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أي قل لهم: هل يستوي الجاهل بمستحق العبادة والعالم بذلك، وهل يستوي الظّلمت والنّور أي قل لهم: هل يستوي الجاهل بمستحق العبادة والعالم بذلك، وهل يستوي الجهل بالحجة والعلم بها أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ أي بل أجعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم بسبب ذلك وقالوا: هؤلاء خلقوا كخلقه تعالى فاستحقوا العبادة كما استحقها، أي هذه الأشياء التي زعموا أنها شركاء لله ليس لها خلق يشبه خلق الله حتى يقولوا: إنها تشارك الله في كونها خالقة فوجب أن تشاركه في الألوهية واستحقاق العبادة، بل هؤلاء المشركون يعلمون بالضرورة إن هذه الأصنام لم يصدر عنها فعل ألبتة، وإذا كان الأمر كذلك كان حكمهم بكونها شركاء لله في الألوهية محض الجهل قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فلا شريك له في الخلق فلا يشاركه في استحقاق العبادة أحد وَهُوَ الْواحِدُ أي المنفرد بالألوهية الْقَهَّارُ (16) لكل ما سواه أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي من جهتها ماءً فَسالَتْ بذلك الماء أَوْدِيَةٌ أي أنهار بِقَدَرِها من الماء فإن صغر الوادي قل الماء وإن اتسع الوادي كثر الماء فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ أي الجاري زَبَداً أي غثاء رابِياً أي منتفخا فوق الماء وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ أي من الجواهر كالنحاس والذهب والفضة ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ أي لطلب اتخاذ زينة أو اتخاذ متاع كالأواني زَبَدٌ أي خبث مِثْلُهُ أي مثل وسخ الماء في أن كلا منهما شيء من الأكدار كَذلِكَ أي مثل هذا التبيين للأمور الأربعة الماء والجوهر والزبدين، يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ أي يبين الله مثل الإيمان والكفر فَأَمَّا الزَّبَدُ من الماء والجوهر فَيَذْهَبُ جُفاءً أي يرميه الماء إلى الساحل ويرميه الكير، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ من الماء الصافي والفلز الخالص فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ فالماء: يثبت بعضه في منافعه ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون والآبار، والفلز: يصاغ من بعضه أنواع الحلي، ويتخذ من بعضه أصناف الآلات فينتفع بكل من ذلك مدة طويلة. والحاصل إن القرآن شبه بالماء فالله أنزله من سماء الكبرياء والإحسان. وشبهت القلوب المنورة بالأودية لأن القلوب تستقر فيها أنوار علوم القرآن، كما أن الأودية يستقر فيها الماء فيحصل في كل قلب من أنوار علوم القرآن ما يليق به من قوة فهمه وقصوره كما يحصل في كل واد من مياه الأمطار ما يليق به من سعته وضيقه، وكما أن الماء يعلوه وضر، والفلز يخالطه خبث، ثم إن ذلك يذهب
ويبقى الخالص منه كذلك بيانات القرآن تختلط بها شبهات، ثم تزول ويبقى العلم والدين في الآخر، وشبهت القلوب المظلمة بالسيل أي فاحتملت القلوب المنورة الحق بقدر سعتها بالنور واحتملت القلوب المظلمة باطلا كثيرا بهواها. كَذلِكَ أي مثل ذلك الضرب العجيب يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) أي يبين الله أمثال الحق والباطل فيجليها في غاية الوضوح لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى أي للذين أجابوا ربهم إلى ما دعاهم إليه من التوحيد والتزام(1/557)
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)
الشرائع الواردة على لسان رسوله المنفعة الدائمة الخالصة عن شوائب المضرة، المقرونة بالإجلال وهي الجنة وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أي والأشقياء الذين عاندوا الحق الجلي لو أن لهم ما في الأرض من أصناف الأموال جميعا لجعلوا ما في الأرض، ومثله فداء أنفسهم من العذاب، لأن
محبوب كل إنسان ذاته فإذا كانت في ضرر وكان مالكا لكل شيء فإنه يرضى أن يجعل جميع ملكه فداء لها لأنه حب ما سواها ليكون وسيلة إلى مصالحها أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ بأن يحاسبوا بكل ذنب فلا يغفر منه شيء وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18) أي المستقر هي أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى أي أفمن يعلم أن القرآن الذي مثل بالماء النازل من السماء وبالأبريز الخالص في المنفعة هو الحق كمن لا يعلم! إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) أي إنما يتعظ بالقرآن وينتفع بهذه الأمثلة ذوو العقول الذين يطلبون من كل صورة معناها الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ أي بما كلف الله العبد به فيدخل فيه الإتيان بجميع المأمورات والوفاء بالعقود في المعاملات وأداء الأمانات وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وهو ما التزمه العبد من أنواع الطاعات بحسب اختيار نفسه كالنذر بالطاعات والخيرات
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وهو رعاية جميع الحقوق الواجبة للعباد فيدخل فيه صلة الرحم والقرابة الثابتة بسبب أخوة الإيمان وعيادة المريض وشهود الجنائز، وإفشاء السلام على الناس، والتبسم في وجوههم، وكف الأذى عنهم ويدخل في العباد كل حيوان حتى الدجاجة والهرة وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ والخشية نوعان: خوف من أن يقع خلل في طاعاته، وخوف هيبة، وإن كان العبد في عين طاعته وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا وَالَّذِينَ صَبَرُوا على فعل العبادات وعلى ثقل الأمراض والمضار والغموم وعلى ترك المشتهيات ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ أي طلبا لرضاه خاصة من غير أن ينظروا إلى جانب الخلق رياء وسمعة، ولا إلى جانب النفس زينة وعجبا، فكما أن العاشق يرضى بضرب معشوقه لالتذاذه بالنظر إلى وجهه فكذلك العبد يرضى بالمحنة لاستغراقه في معرفة نور الله تعالى وَأَقامُوا الصَّلاةَ وأفردها بالذكر تنبيها على كونها أشرف من سائر العبادات ولا يمتنع إدخال النوافل فيها وَأَنْفَقُوا نفقة واجبة ومندوبة مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا لمن لم يعرف بالمال أو لمن لا يتهم بترك الزكاة أو عند إعطائه من تمنعه المروءة من أخذه ظاهرا أو في التطوع وَعَلانِيَةً لغير ذلك وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أي يدفعون المعصية بالتوبة ولا يجازون الشر بالشر بل يجازون الشر بالخير أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) أي عاقبة الدنيا ومرجع أهلها جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ أي يدخل جنات عدن المنعوتون بتلك النعوت الجليلة، ومن آمن كما آمنوا من أصولهم وإن علوا ذكورا كانوا أو إناثا، ومن أزواجهم اللاتي متن في عصمتهم وذرياتهم وإن لم يعمل مثل أعمالهم، لأن الله تعالى جعل من ثواب المطيع سروره بحضور أهله معه في الجنة وإنما يلحق بهم من آمن(1/558)
من أهلهم وإن لم يبلغ مبلغ فضلهم كرامة لهم وتعظيما لشأنهم وهو دليل على أن الدرجة تعلو بالشفاعة وقوله: «جنات عدن» بيان ل «عقبى» أو خبر مبتدأ مضمر. وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) لكل واحد منهم خيمة من درة مجوفة لها أربعة آلاف باب لكل باب مصراع من ذهب يدخل عليهم من كل باب ملائكة يقولون لهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ أي سلمكم الله دعاء لهم وبشارة بدوام السلامة بِما صَبَرْتُمْ متعلق بعليكم أو بمحذوف أي هذه الكرامة العظمى بسبب صبركم على الطاعات، وترك المحرمات، وعلى المحن فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) أي نعم عاقبة الدار التي كنتم عملتم فيها هذه الكرامات التي ترونها وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ أي لا يعملون مقتضى الأدلة مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ أي من بعد أن وثق الله تلك الأدلة، أو المعنى يتركون فرائض الله من بعد توكيده وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ أي ما أوجب الله وصله فيدخل فيه وصل الرسول بمعاونة دينه ووصل سائر من له حق وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالدعاء إلى غير دين الله وبالظلم في النفوس والأموال أُولئِكَ أي الموصوفون بالقبائح لَهُمُ اللَّعْنَةُ أي الأبعاد من خيري الدنيا والآخرة إلى نقمة وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) أي سوء عاقبة الدنيا اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ أي يوسعه لِمَنْ يَشاءُ من عباده وَيَقْدِرُ أي يعطي من يشاء منهم بقدر كفايته لا يفضل عنه شيء أي إن فتح باب الرزق في الدنيا لا تعلق له بالكفر والإيمان، بل هو متعلق بمجرد مشيئته تعالى فقد يوسع على الكافر استدراجا، ويضيق على المؤمن امتحانا لصبره وتكفيرا لذنوبه، فالدنيا دار امتحان وَفَرِحُوا أي فرح من بسط الله له رزقه من كفار مكة فرح بطر بِالْحَياةِ الدُّنْيا لا فرح سرور بفضل الله تعالى وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ (26) أي إنهم رضوا بحظ الدنيا معرضين عن نعيم الآخرة، والحال أن ما بطروا به في مقابلة ما أعرضوا عنه شيء قليل النفع سريع النفاد كمتاع البيت وزاد الراعي وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي أهل مكة لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ أي هلا أنزل على محمد من ربه علامة لنبوته كما كانت للرسل الأولين قُلْ لهؤلاء المعاندين: إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ عن دينه وَيَهْدِي إِلَيْهِ أي يرشد إلى دينه مَنْ أَنابَ (27) أي من أقبل إليه أي ما أعظم عنادكم في الآيات التي ظهرت على يد الرسول إن الله يضل من كان على صفتكم من شدة الشكيمة على الكفر فلا سبيل إلى اهتدائهم وإن أنزلت عليهم كل
آية طلبوها، ويهدي إليه بأدنى آية جاء بها الرسول من كان على خلاف صفتكم الَّذِينَ آمَنُوا بما جاء به الرسول وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أي بكلام الله أي إن علم المؤمنين بكون القرآن معجزا يوجب حصول الطمأنينة لهم في كون محمد صلّى الله عليه وسلّم نبيا حقا من عند الله وإن شكهم في أنهم أتوا بالطاعات كاملة يوجب الوجل في قلوبهم. أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) أي إن الإكسير إذا وقعت منه ذرة على الجسم النحاسي انقلب ذهبا باقيا على كر الأزمان، فإكسير جلال الله تعالى إذا وقع في القلب أولى أن يقلبه جوهرا صافيا نورانيا لا يقبل التغير الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ.(1/559)
وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)
روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «طوبى شجرة في الجنة غرسها الله بيده تنبت الحلي والحلل وإن أغصانها لترى من وراء سور الجنة»
. ويقال: طوبى شجرة في الجنة ساقها من ذهب وثمرها من كل لون، وثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها فتنبت الحلي والحلل وأصلها في دار النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأغصانها متدليات في كل دار وغرفة في الجنة وتحتها كثبان المسك والعنبر والزعفران وينبع من أصلها عينان الكافور والسلسبيل وَحُسْنُ مَآبٍ (29) أي مقر كَذلِكَ أي مثل إرسالنا الأنبياء إلى أمم وإعطائنا إياهم كتبا تتلى عليهم أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ أي إلى جماعة كثيرة قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ أي قد تقدمتها أمم كثيرة لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ أي على أمتك الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ فلماذا اقترحوا غيره وَهُمْ أي والحال أن أمتك يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ الذي رحمته وسعت كل شيء وما بهم من نعمة فمنه وكفروا بنعمته في إرسال مثلك إليهم وفي إنزال هذا القرآن المعجز عليهم.
روى الضحاك عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم:
«اسجدوا للرحمن» أي اخضعوا بالصلاة وغيرها للرحمن أي الذي لا نعمة لكم إلا منه قالوا: وما الرحمن؟ متجاهلين في معرفته فضلا عن معرفة نعمته معبرين بأداة ما لا يعقل. قال الله تعالى:
قُلْ لهم يا أشرف الخلق: هُوَ أي الرحمن الذي أنكرتم معرفته رَبِّي أي خالقي، ومبلغي إلى مراتب الكمال لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي لا مستحق للعبادة سواه. عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في جميع أموري لا على أحد سواه وَإِلَيْهِ مَتابِ (30) أي مرجعي في الآخرة.
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ أي زعزعت بتلاوته الْجِبالُ من أماكنها كما فعل ذلك بالطور لموسى عليه السلام أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أي شققت وجعلت أنهارا وعيونا كما فعل بالحجر حين ضربه موسى بعصاه أو جعلت قطعا بعيدة أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بعد أن أحييت بقراءته عليها كما أحييت لعيسى عليه السلام لكان هو هذا القرآن لكونه ينطوي على عجائب آثار قدرة الله تعالى.
روي أن أهل مكة منهم أبو جهل بن هشام وعبد الله بن أمية قعدوا في فناء الكعبة فأتاهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم وعرض الإسلام عليهم، فقال له عبد الله بن أمية المخزومي: إن سرّك أن نتبعك فسير جبال مكة بالقرآن فادفعها عنا حتى ينفسح المكان علينا، لأنها ضيقة لمزارعنا، واجعل لنا فيها أنهارا وعيونا لنغرس الأشجار، ونزرع، فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حيث سخّر له الجبال تسير معه، أو سخر لنا الريح لنركبها إلى الشام لميرتنا وحوائجنا، ونرجع في يومنا كما سخرت لسليمان فلست بأهون على ربك من سليمان كما زعمت أو أحيي لنا جدك قصيا لنسأله أحق ما تقول أم باطل؟ فإن عيسى كان يحيي الموتى ولست بأهون على الله منه فأنزل الله تعالى هذه الآية وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً إلخ بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أي بل الله الأمر الذي يدور عليه فلك(1/560)
الأكوان وجودا وعدما إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل فالله قادر على الإتيان بما اقترحوه من الآيات إلا أن إرادته لم تتعلق بذلك لعلمه بأنه لا تلين له شكيمتهم أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً أي أغفل المؤمنون عن كون الأمر جميعا لله تعالى فلم يعلموا أن الله تعالى لو شاء هداية جميع الناس إلى دينه لهداهم، لكنه تعالى لم يشأها فلم يظهر ما اقترحوا من الآيات قيل: لما سأل الكفار تلك الآيات طمع المؤمنون في إيمانهم فطلبوا نزولها ليؤمنوا، وعلم الله أنهم لا يؤمنون برؤيتها وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا من سوء أعمالهم قارِعَةٌ أي داهية تقرعهم بما ينزل الله عليهم في كل وقت من أنواع البلايا والمصائب في نفوسهم وأولادهم وأموالهم أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ أي أو تنزل تلك القارعة مكانا قريبا منهم فيفزعون منها حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ وهو موتهم أو القيامة إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31) أي الوعد والمقصود من هذا تقوية قلب الرسول صلّى الله عليه وسلّم وإزالة الحزن عنه وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ أي إن أقوام سائر الأنبياء استهزءوا بهم كما أن قومك استهزءوا بك فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي فتركتهم بعد الاستهزاء مدة طويلة في راحة وأمن ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بالعقوبة فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32) أي على أيّ حالة كان عقابي إياهم هل كان ظلما لهم أو كان عدلا أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ أي أفمن هو حافظ كل نفس مع ما عملت من خير وشر وهو الله القادر على كل الممكنات العالم بجميع الجزئيات والكليات كالأصنام التي لا تضر ولا تنفع: وَجَعَلُوا أي الكفار لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أي سموهم بالآلهة وهذا أمر على سبيل التهديد. والمعنى سواء سميتموهم بهذا الاسم أو لم تسموهم به فإنها لا تستحق أن يلتفت العاقل إليها لحقارتها. أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ أي أتقدرون على أن تخبروا الله بشركاء مستحقين للعبادة لا يعلمهم الله تعالى أم تتفوهون بإظهار قول من غير اعتبار معنى؟ أي أتقولون بأفواهكم من غير فكر وأنتم ألباء فتفكروا في ذلك لتعلموا بطلانه! وإنّما خصّ بنفي الشريك عن الأرض وإن لم يكن له تعالى شريك ألبتة، لأن الكفار ادعوا أن له تعالى شركاء في الأرض لا في غيرها. بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ أي تمويههم الأباطيل فإنهم أظهروا أن شركاءهم آلهة حقا وهم يعلمون بطلان ذلك وليس فيهم في الباطن إلا تقليد الآباء وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ.
قرأ عاصم وحمزة والكسائي هنا، وفي «حم المؤمن» بضم الصاد أي منعوا عن سبيل الحق.
والباقون بفتح الصاد أي أعرضوا عنه أو صرفوا غيرهم عنه. وقرئ بكسر الصاد على نقل حركة الدال المكسورة إليها. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ عن دينه بسوء اختياره فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) أي موفق للهدى لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
بالقتل والسبي واغتنام الأموال واللعن وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ
أي أشد من عذاب الدنيا بالقوة وكثرة الأنواع وعدم الانقطاع وعدم اختلاط شيء من الراحة وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ
أي عذابه مِنْ واقٍ
(34) أي حافظ يعصمهم من ذلك مَثَلُ الْجَنَّةِ أي صفة الجنة الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ عن(1/561)
الكفر والمعاصي تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي أنهار الخمر والماء والعسل واللبن أُكُلُها دائِمٌ أي ثمرها لا ينقطع وَظِلُّها كذلك أيضا فليس هناك حر ولا برد ولا شمس ولا قمر ولا ظلمة تِلْكَ أي الجنة عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا أي منتهى أمرهم وَعُقْبَى الْكافِرِينَ أي آخر أمرهم النَّارُ (35) لا غير وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ أي أعطيناهم علم التوراة والإنجيل، وهم من أسلم من اليهود كعبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما، ومن أسلم من النصارى وهم ثمانون رجلا أربعون بنجران، وثمانية باليمن، واثنان وثلاثون بالحبشة يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ أي بالقرآن لكونهم آمنوا به وَمِنَ الْأَحْزابِ أي بقية أهل الكتاب وسائر المشركين مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ أي بعض القرآن وهو الشرائع الحادثة قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وحده فعبادة الله واجبة على المرء فبهذا يبطل القول بالجبر المحض، وقول نفاة التكاليف ولا تمكن عبادة الله إلا بعد معرفة الله ولا سبيل إلى معرفته إلا بالدليل. فهذا دليل على أن المرء مكلف بالنظر والاستدلال في معرفة ذات الصانع وصفاته وما يجب وما يجوز وما يستحيل عليه وَلا أُشْرِكَ بِهِ وهذا يدل على نفي الشركاء فيبطل من أثبت معبودا سوى الله تعالى سواء قال: إن المعبود هو الشمس أو القمر أو الكواكب، أو الأصنام، أو الأرواح العلوية، أو يزدان وأهرمن على ما يقوله المجوس أو النور والظلمة على ما يقوله الثنوية. إِلَيْهِ أي إلى الله خاصة أَدْعُوا خلقه فكما يجب عليه صلّى الله عليه وسلّم الإتيان بالعبادة كذلك يجب عليه صلّى الله عليه وسلّم الدعوة إلى عبودية الله تعالى. وهذا إشارة إلى نبوته صلّى الله عليه وسلّم وَإِلَيْهِ أي إلى الله تعالى وحده مَآبِ (36) أي مرجعي للجزاء. وهذا إشارة إلى النشر والحشر، والبعث والقيامة. فإذا تأمل الإنسان في هذه الألفاظ القليلة عرف أنها محتوية على جميع المطالب في الدين. وَكَذلِكَ أي كما أنزلنا الكتب على الأنبياء بلسانهم أَنْزَلْناهُ أي ما أنزل إليك حُكْماً أي حاكما يحكم في القضايا والواقعات عَرَبِيًّا أي مترجما بلسان العرب وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ أي الكفار بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ الفائض من ذلك الحكم العربي ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ أي قريب ينفعك وَلا واقٍ (37) أي مانع يمنعك من مصارع السوء.
روي أن المشركين دعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ملة آبائه فهدده الله تعالى على اتباع أهوائهم في ذلك وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً أي نساء فقد كان لسليمان ثلاثمائة امرأة حرة وسبعمائة سرية وكان لأبيه داود مائة امرأة وَذُرِّيَّةً أي أولادا مثل إبراهيم وإسحاق ويعقوب وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ مما اقترح عليه إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بإرادته لِكُلِّ أَجَلٍ أي لكل وقت من الأوقات كِتابٌ (38) أي حكم معين مكتوب في صحف الملائكة التي تنسخها من اللوح المحفوظ فقد أثبت فيها أن أمر كذا يكون في وقت كذا على ما تقتضيه الحكمة يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ من الأحكام لما تقتضيه الحكمة بحسب الوقت وَيُثْبِتُ أي يبقيه على حاله وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) أي أصله وهو اللوح المحفوظ إذ ما من شيء من الذاهب والثابت إلا وهو(1/562)
مكتوب فيه كما هو. فالحكمة فيه أن يظهر للملائكة كونه تعالى عالما بجميع المعلومات على سبيل التفصيل، فعند الله كتابان كتاب يكتبه الملائكة على الخلق: وهو محل المحو والإثبات، وكتاب كتبه القلم بنفسه في اللوح المحفوظ: وهو الباقي.
روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «كان الله ولا شيء ثم خلق اللوح وأثبت فيه أحوال جميع الخلق إلى قيام الساعة»
. اعلم أن القوم كانوا يذكرون أنواعا من الشبهات في إبطال نبوة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم.
فالشبهة الأولى: إنهم عابوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكثرة الزوجات وبأكل الطعام والمشي في الأسواق، وبكونه من جنس البشر. وقالوا: لو كان محمد رسولا من عند الله لما اشتغل بالنسوة بل كان مشتغلا بالنسك والزهد وقالوا: الرسول الذي يرسله الله إلى الخلق لا بد وأن يكون من جنس الملائكة، وقالوا: لو كان محمد رسولا من الله لما أكل الطعام ولما مشى في الأسواق فأجاب الله تعالى عن ذلك بقوله ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية أي إن الأنبياء الذين كانوا قبل محمد كانوا من جنس البشر فاتصفوا بصفاته من الزواج والأكل ونحو ذلك ولم يقدح ذلك في نبوتهم فكيف يجعلون ذلك قادحا في نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم.
والشبهة الثانية: قولهم: لو كان محمد رسولا من عند الله لكان أي شيء طلبناه من المعجزات أتى به، ولم يتوقف فأجاب الله تعالى عنه بقوله: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي إن المعجزة الواحدة كافية في إظهار الحجة، فالزائدة عليها مفوضة إلى مشيئة الله تعالى إن شاء أظهرها وإن شاء لم يظهرها.
والشبهة الثالثة: أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يخوفهم بنزول العذاب فيهم وظهور النصرة له ولأصحابه فلما تأخر ذلك طعنوا في نبوته صلّى الله عليه وسلّم، وقالوا: لو كان محمد نبيا لما ظهر كذبه فأجاب الله تعالى عنه بقوله: لكل أجل كتاب أي إن نزول العذاب على الكفار وظهور النصرة للأولياء قضى الله بحصولهما في أوقات مخصوصة ولكل حادث وقت معين ولكل أجل كتاب فقبل حضور ذلك الوقت لا يحدث ذلك الحادث فتأخر تلك المواعيد لا يدل على كونه صلّى الله عليه وسلّم كاذبا.
والشبهة الرابعة: قولهم: لو كان محمد صادقا في دعوى الرسالة لم ينسخ الأحكام التي نص الله تعالى على ثبوتها في الشرائع المتقدمة لكنه حرفها كما في القبلة ونسخ أكثر أحكام التوراة والإنجيل فوجب أن لا يكون نبيا فأجاب الله عنه بقوله يمحو الله ما يشاء ويثبت: وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ أي إن نرك بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ به من العذاب في حياتك أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ أي نقبضنك قبل أن نرينك فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ أي سواء أريناك بعض ما وعدناهم من العذاب الدنيوي في حياتك أو توفيناك قبل ظهوره، فالواجب عليك تبليغ أحكام الله تعالى وأداء رسالته وأمانته، فلا تهتم بما(1/563)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
وراء ذلك، فنحن نكفيكه ونتم ما وعدناك من الظفر، ولا يضجرك تأخره فإن ذلك لما نعلم من المصالح الخفية، وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) أي وعلينا لا عليك محاسبة أعمالهم السيئة ومجازاتها.
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أي أأنكر أهل مكة نزول ما وعدناهم ولم يروا أنا نأخذ أرضهم نفتحها من نواحيها للمسلمين شيئا فشيئا، ونلحقها بدار الإسلام، ونذهب منها أهلها بالقتل والأسر والإجلاء أليس هذا من ذلك؟! وَاللَّهُ يَحْكُمُ ما يشاء كما يشاء وقد حكم للإسلام بالعزة والإقبال وعلى الكفر بالذلة والإدبار لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ أي لا راد له وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) أي فبعد زمن قليل يحاسبهم في الآخرة غب ما عذبهم في الدنيا بالقتل والأسر والإخراج من ديارهم وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي وقد مكر الكفار الذين مضوا من قبل كفار مكة بأنبيائهم فنمرود مكر بإبراهيم، وفرعون مكر بموسى، واليهود مكروا بعيسى كما مكر هؤلاء بك. فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً أي إن مكر جميع الماكرين حاصل بتخليقه تعالى وإرادته فوجب أن لا يكون الخوف إلا من الله تعالى يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ فكل ما علم الله وقوعه فهو واجب الوقوع فلا قدرة للعبد على الفعل والترك وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ.
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «الكافر» على لفظ المفرد، وقرأ جناح ابن حبيش «وسيعلم» على صيغة المجهول من الأعلام أي سيخبر لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) أي لمن العاقبة الحميدة وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي اليهود وغيرهم لَسْتَ مُرْسَلًا من الله يا محمد قُلْ لهم يا أكرم الرسل: كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فإنه تعالى قد أظهر المعجزات الدالة على كوني صادقا في دعوى الرسالة وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43) أي السماوي ككعب الأحبار وسلمان الفارسي وعبد الله بن سلام وتميم الداري، وآصف بن برخيا فكل من كان عالما بالتوراة والإنجيل علم أن محمدا مرسل من عند الله.
وقرئ ومن عنده علم الكتاب بمن الجارة التي لابتداء الغاية أي ومن عند الله حصل علم القرآن لأن أحدا لا يعلمه إلا من تعليمه، ثم على هذه القراءة. قرئ أيضا علم الكتاب على البناء للمفعول أي لما أمر الله نبيه أن يحتج عليهم بشهادة الله على رسالته ولا يكون ذلك إلا بإظهار القرآن ولا يعلم العبد كون القرآن معجزا إلا بعد العلم بما فيه من أسراره بين الله تعالى إن هذا العلم لا يحصل إلا من عند الله.(1/564)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)
سورة إبراهيم
مكية، اثنتان وخمسون آية، ثمانمائة وإحدى وثلاثون آية، ثلاثة آلاف وخمسمائة وتسعة وثلاثون حرفا
الر كِتابٌ أي السورة المسماة ب «الر» كتاب أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ يا أشرف الخلق لِتُخْرِجَ النَّاسَ كافة بدعائك إياهم مِنَ الظُّلُماتِ أي ظلمات الكفر والضلالة والجهل إِلَى النُّورِ أي الإيمان وهذه الآية دالة على أن طرق الكفر والبدعة كثيرة وطريق الحق واحد بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أي بتسهيله فإن الرسول لا يمكنه إخراج الناس من الظلمات إلى النور إلا بمشيئة الله وتخليقه إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) أي إلى دين الكامل القدوة المستحق للحمد في كل أفعاله اللَّهِ.
قرأه نافع وابن عامر بالرفع الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وملكا وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) أي لما ترك الكفار عبادة الله الذي هو المالك للسموات والأرض ولكل ما فيهما وعبدوا ما لا يملك ضرا ولا نفعا فالويل ثم الويل لمن كان كذلك أي يولولون أي يصيحون من عذاب غليظ ويقولون: يا ويلاه الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ أي يختارون الدنيا على الآخرة فهم ضالون وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي يمنعون الناس عن قبول دين الله فهم مضلون وَيَبْغُونَها عِوَجاً أي يطلبون لسبيل الله زيغا ويقولون لمن يريدون إضلاله: إنها زائغة غير مستقيمة فهذا نهاية الضلال والإضلال أُولئِكَ الموصوفون بتلك القبائح فِي ضَلالٍ عن طريق الحق بَعِيدٍ (3) أي في غاية البعد عنه فلا يوجد ضلال أكمل من هذا الضلال وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ أي إلا متكلما بلغة من أرسل إليهم الرسول أيا كان وهم بالنسبة لغير سيدنا محمد خصوص عشيرة رسولهم وبالنسبة إليه كل من أرسل إليه من أصناف الخلق، لأن رسالته عامة لجميع الخلق وهو صلّى الله عليه وسلّم كان يخاطب كل قوم بلغتهم، وإن لم يثبت أنه تكلم باللغة التركية لأنه لم يصادف أنه خاطب أحدا من أهلها ولو خاطبه لكلمه بها لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ما كلفوا به بلغاتهم فيكون فهمهم لأسرار الشريعة أسهل(1/565)
ووقوفهم على المقصود أكمل فَيُضِلُّ اللَّهُ عن دينه مَنْ يَشاءُ أي يمنع ألطافه تعالى به وَيَهْدِي لدينه بمنح الألطاف مَنْ يَشاءُ فتقوية البيان لا توجب حصول الهداية فربما قوي البيان ولا تحصل الهداية وربما ضعف البيان، وحصلت الهداية لأن الهداية والضلال لا يحصلان إلا من الله تعالى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) فلا يغالب في مشيئته ولا يفعل شيئا إلا لحكمة وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وهي معجزاته التي أظهرها لبني إسرائيل أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ أي ظلمات الكفر إِلَى النُّورِ أي نور الإيمان فإن مفسرة لأرسلنا وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ أي بنعم الله عليهم كانفلاق البحر وتظليل الغمام وعلى من قبلهم ممن آمن بالرسل فيما سلف من الأيام وببأس الله عليهم، وهي أيامهم تحت قهر فرعون، وبعذاب الله من كذب الرسل فيما سلف من الأيام كما نزل بعاد وثمود وغيرهم ليرغبوا في الوعد فيصدقوا وليحذروا من الوعيد فيتركوا التكذيب إِنَّ فِي ذلِكَ أي في التذكير بالوقائع لَآياتٍ أي دلائل لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) . وهذا تنبيه على أن المؤمن يجب أن لا يخلو زمانه عن أحد الأمرين الصبر والشكر، لأن الحال إما أن يكون حال بلية أو حال عطية فإن جرى الوقت على ما يلائم طبعه كان شكورا، وإن جرى بما لا يلائم طبعه كان صبورا فالانتفاع بهذا التذكير لا يكون إلا لمن كان صابرا أو شاكرا وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي مستقرة عليكم إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ أي وقت إنجائه إياكم منهم يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ أي يطلبون منكم الأعمال الشاقة وَيُذَبِّحُونَ تذبيحا كثيرا أَبْناءَكُمْ صغارا وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ أي يستخدمونهن كبارا بالاستحياء ويبقونهن منفردات عن الرجال وَفِي ذلِكُمْ أي المذكور من الأفعال الفظيعة بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) لا يطاق وفي الخلاص من ذلك نعمة عظيمة وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ أي واذكروا حين أعلم ربكم في الكتاب وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وإذ قال ربكم: لَئِنْ شَكَرْتُمْ يا بني إسرائيل نعمة الإنجاء وإهلاك العدو وغير ذلك بالإيمان الخالص والعمل الصالح لَأَزِيدَنَّكُمْ نعمة إلى نعمة وحقيقة الشكر هو الاعتراف بنعمة المنعم مع تعظيمه ومزيد النعم الجسمانية أن كل من كان اشتغاله بشكر نعم الله أكثر كان وصول نعم الله إليه أكثر، ومزيد النعم الروحانية أن النفس إذا اشتغلت بمطالعة أنواع فضل الله وإحسانه أوجب ذلك الاشتغال تأكد محبة العبد لله تعالى، ثم قد يترقى العبد من ذلك الحالة إلى أن يصير حبه للمنعم شاغلا له عن الالتفات إلى النعم فالشكر مقام شريف يوجب السعادة في الدين والدنيا. وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ أي أنكرتم نعمتي فعسى يصيبكم عذابي إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) وكفران النعمة لا يكون إلا عند الجهل بكون تلك النعمة نعمه من الله تعالى والجاهل بها جاهل بالله والجهل بالله من أعظم أنواع العذاب وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا نعمة تعالى ولم تشكروها أَنْتُمْ يا بني إسرائيل وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً لم يرجع
ضرر الكفر إلا عليكم فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عن شكر(1/566)
قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)
الشاكرين حَمِيدٌ (8) أي مستحق للحمد في ذاته، وإن لم يحمده أحد بل كل ذرة من ذرات العالم ناطقة بحمده أَلَمْ يَأْتِكُمْ يا بني إسرائيل نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد هؤلاء المذكورين لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ أي لا يعلم عددهم إلا الله لكثرتهم وهذه الجملة حال من الذين أو من الضمير المستكن في من بعدهم جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالدلائل الواضحة على صدقهم وهذه الجملة تفسير لنبأ الذين من قبلكم فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ أي وعض الكفار أيديهم من الغيظ من شدة نفرتهم عن استماع كلام الرسل أو وضعوا أيديهم على أفواههم مشيرين إلى الرسل أي كفوا عن هذا الكلام واسكتوا وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ على ادعائكم فإنهم ما أقروا بأن أوامر الرسل ومنهياتهم من الله تعالى وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ عظيم مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ من الإيمان بالله والتوحيد.
وقرئ «تدعونا» بإدغام النون مُرِيبٍ (9) أي ذي قلق النفس قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ أي أفي وجود الله ووحدته شك وهو أظهر من كل ظاهر فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مبدعهما وما فيهما يَدْعُوكُمْ إلى التوحيد بإرساله إيانا لِيَغْفِرَ لَكُمْ بسببه مِنْ ذُنُوبِكُمْ في الجاهلية وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي يؤخر موتكم إلى وقت معين عند الله إن آمنتم وإلا عاجلكم الله بالاستئصال قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا من غير فضل تُرِيدُونَ بالدعوة أَنْ تَصُدُّونا أي تصرفونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا أي عن عبادة ما استمر آباؤنا على عبادته فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) أي وإن كنتم رسلا من الله فأتونا بحجة ظاهرة تدل على صحة ما تدعونه من النبوة حتى نترك ما لم نزل نعبده قالوا ذلك عنادا فإن الرسل قد أتوهم بالآيات الظاهرة
قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ مجاراة معهم في أول مقالتهم إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ كما تقولون وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ بالنبوة فإنها عطية من الله من غير سبب وَما كانَ لَنا أي ما استقام لنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ أي بحجة إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بإرادته وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) ومقصود الرسل بهذا القول حمل أنفسهم على التوكل فإن الكفار أخذوا في التخويف حتى قالوا للرسل: توكلوا أنتم على الله حتى تروا ما يفعل بكم فقالت الرسل:
وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا أي أيّ عذر لنا في ترك التوكل على الله والحال أنه قد هدانا طرقه التي نعرفه بها ونعلم أن الأمور كلها بيده وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا بالعناد واقتراح الآيات وغير ذلك فإن الصبر مفتاح الفرج ومطلع الخيرات وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) أمر الرسل في هذا أتباعهم بالتوكل بعد أمر أنفسهم به وذلك يدل على أن الآمر بالخير لا يؤثر إلا بعد الإتيان به فالإنسان إما أن يكون ناقصا أو كاملا، فالناقص إما أن يكون ناقصا غير ساع في تنقيص حال غيره فهو ضال، وإما أن يكون ساعيا في ذلك فهو مضل، وإما خاليا عن الوصفين فهو مهتد. والكامل إما أن يكون غير قادر على تكميل الغير فهو ولي، وإما قادرا على(1/567)
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
ذلك فهو نبي فالولي: هو الإنسان الكامل، والنبي: هو الإنسان الكامل المكمل. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي الغالون في الكفر لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أي من مدينتنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا أي لتصيرن داخلين في ملتنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أي الرسل رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ أي أرض الظالمين وديارهم مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد هلاكهم ذلِكَ أي إسكان الأرض ثابت لِمَنْ خافَ مَقامِي أي لمن خافني وخاف حفظي لأعماله وَخافَ وَعِيدِ (14) أي عذابي الموعود للكفار وَاسْتَفْتَحُوا أي طلب كل من الرسل والقوم النصرة على عدوه فنصر الله الرسل وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ أي خسر عند الدعاء من النصرة كل متكبر عن عبادة الله عَنِيدٍ (15) أي منحرف عن الحق مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ أي من بعد هذه الخيبة جهنم يلقى فيها وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) أي مما يسيل من جلود أهل النار من القبح والدم يَتَجَرَّعُهُ أي يتناوله جرعة جرعة على الاستمرار لغلبة العطش والحرارة عليه وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ أي لا يكاد أن يجريه في الحلق بل يستمسكه فيه لمرارته ونتنه فوصوله إلى الجوف ليس بإجازة وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ أي يجد ذلك الكافر ألم الموت من كل مكان من أعضائه حتى من أصول شعره وإبهام رجله والحال أنه لا يموت من ذلك العذاب وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17) أي ومن بعد ذلك العذاب عذاب أشد مما هو عليه لا ينقطع ولا يخف بسبب الاعتياد كما في عذاب الدنيا مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ أي صفة أعمالهم الصالحة كصدقة وصلة رحم، وإعتاق رقاب وفداء أسير، وقري ضيف وبر والد، وإغاثة ملهوف كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ أي ذرت بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ أي شديد الريح لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ أي لا يجدون يوم القيامة أثرا مما عملوا في الدنيا من ثواب أو تخفيف عذاب كما لا يوجد من الرماد شيء إذا ذرته الريح وذلك لفقد شرط الأعمال وهو الإيمان ذلِكَ أي عملهم هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18) أي الضياع البعيد عن نيل الثواب أَلَمْ تَرَ أي قد أخبرت أيها المخاطب أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي ملتبسا بالحكمة وليس عبثا.
وقرأ حمزة والكسائي «خالق السموات» على اسم الفاعل والإضافة إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أي يهلككم بالمرة وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) سواكم أطوع لله منكم. وَما ذلِكَ أي إذهابكم والإتيان ببدلكم عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) أي بمتعسر لأن القادر لا يصعب عليه شيء
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً أي ويخرجون من قبورهم إلى الله ليحاسبهم ويجازيهم على قدر أعمالهم فَقالَ الضُّعَفاءُ في الرأي وهم السفلة لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا عبادة الله وهم أكابرهم إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً في الدنيا في تكذيب الرسل والإعراض عن نصيحتهم فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي فهل أنتم في هذا اليوم دافعون عنا بعض شيء هو عذاب الله؟ قالُوا أي القادة: لَوْ(1/568)
هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ
أي لو خلصنا الله من العقاب وهدانا إلى طريق الجنة لهديناكم طريق النجاة ودفعنا عنكم بعض العذاب ولكن سد الله عنا طريق الخلاص سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا مما لقينا أَمْ صَبَرْنا على ذلك أي الصياح، فالتضرع والصبر مستويان علينا في عدم الإنجاء ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) أي محل هرب من العقاب وَقالَ الشَّيْطانُ أي يقول إبليس رئيس الشياطين خطيبا في محفل الأشقياء من الثقلين لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ أي فرغ منه بأن استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار وقد قالوا له: اشفع لنا فإنك أضللتنا إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وهو الوعد بالبعث والجزاء على الأعمال فصدق في وعده إياكم وَوَعَدْتُكُمْ أن لا بعث ولا حساب ولا جنة ولا نار ولئن كان فالأصنام شفعاؤكم فَأَخْلَفْتُكُمْ أي كذبت لكم وتبين خلف وعدي وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ أي حجة تدل على صدقي أو قهر فأقهركم على الكفر والمعاصي إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ أي إلا دعائي إياكم إلى الضلالة بوسوستي فَاسْتَجَبْتُمْ لِي أي أجبتموني فَلا تَلُومُونِي بوعدي إياكم حيث لم يكن ذلك على طريقة القسر وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ حيث أجبتموني باختياركم حين دعوتكم بلا دليل فما كان مني إلا الدعاء وإلقاء الوسوسة وقد سمعتم دلائل الله، وجاءتكم الرسل، وكان من الواجب عليكم أن لا تغتروا بقولي فلما رجحتم قولي على الدلائل الظاهرة كان اللوم عليكم لا علي في هذا الباب ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ أي بمغيثكم من عذابكم وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ أي بمغيثي من عذابي إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ أي إني الآن تبرأت من إشراككم إياي مع الله في الطاعة من قبل هذا اليوم، أي في الدنيا أي، لأن الكفار كانوا يطيعون إبليس في أعمال الشر كما يطاع الله في أعمال الخير. ومعنى إشراكهم إبليس بالله تعالى طاعتهم لإبليس في تزيينه لهم في عبادة الأوثان. إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22) هذا تمام كلام إبليس قطعا لأطماع أولئك الكفار عن الإغاثة فالوقف على من قبل حسن أو ابتداء كلام من حضرة الله تعالى إيقاظا للسامعين حتى يحاسبوا أنفسهم ويتدبروا عواقبهم فالوقف على من قبل تام كما هو عند أبي عمرو وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ متعلق بأدخل أي أدخلتهم الملائكة بأمر ربهم تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23) فإن بعضهم يحيي بعضا بهذه الكلمة، والملائكة يحيونهم بها والرب الرحيم يحييهم أيضا بهذه الكلمة.
وقرأ الحسن «وأدخل» على صيغة التكلم وعلى هذه القراءة فقوله: «بإذن» ربهم متعلق «بتحيتهم» أي تحييهم الملائكة بالسلام بإذن ربهم. أَلَمْ تَرَ أي ألم تخبر يا أشرف الخلق كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً أي كيف جعل الله كلمة طيبة وهي لا إله إلا الله مثلا وهي كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ وهي النخلة أَصْلُها ثابِتٌ أي ضارب بعروقه في الأرض وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) أي أعلاها في الهواء تُؤْتِي أُكُلَها أي تعطي هذه الشجرة ثمرها كُلَّ حِينٍ أي(1/569)
كل وقت وكل ساعة ليلا أو نهارا شتاء أو صيفا، فيؤكل منها الجمار والطلع والبلح، والخلال والبسر، والمنصف والرطب وبعد ذلك يؤكل التمر اليابس إلى حين الطري الرطب فأكلها دائم في كل وقت بِإِذْنِ رَبِّها أي بإرادة خالقها كذلك كلمة التوحيد ثابتة في قلب المؤمن بالبرهان وعمل المؤمن المخلص يرفع إلى السماء وفي كل حين يعمل خيرا بأمر ربه وحكمة تمثيل كلمة التوحيد بالشجرة أن الشجرة تكون بثلاثة أشياء عرق راسخ، وأصل قائم، وفرع عال كذلك التوحيد يكون بثلاثة أشياء تصديق بالقلب، وقول باللسان وعمل بالأبدان وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ أي يبين الله صفات التوحيد لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) أي يتعظون لأن في ضرب الأمثال تصويرا للمعاني فيحصل به الفهم التام والوصول إلى المطلوب وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ وهي الشرك بالله كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ كالحنظل والكشوت وهي نبت يتعلق بأغصان الشجر من غير أن يضرب بعرق في الأرض اجْتُثَّتْ أي استؤصلت مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ لكون عروقها في وجه الأرض أي ليس لها أصل ولا عرق يغوص في الأرض فتسميتها شجرة للمشاكلة فكذلك الشرك بالله ليس له حجة ولا قوة ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) أي ثبات على وجه الأرض فلا يقبل مع الشرك عمل يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ أي الذي
يثبت بالحجة عندهم وتمكن في قلوبهم وهو شهادة أن لا إله إلا الله فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فلا يزالون عن تلك الشهادة إذا افتتنوا في دينهم كزكريا ويحيى، وجرجيس، وشمسون والذين فتنهم أصحاب الأخدود وَفِي الْآخِرَةِ أي في القبر حين يقال له: من ربك، وما دينك، ومن نبيك؟ فيقول: ربي الله، وديني الإسلام؟ ونبيي محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وحكي أن سهل بن عمار العملي يقول: رأيت يزيد بن هارون في منامي بعد موته فقلت:
ما فعل الله بك؟ قال: أتاني في قبري ملكان فظان فقالا: من ربك، وما دينك، ومن نبيك؟
فأخذت بلحيتي البيضاء فقلت لهما: ألمثلي يقال هذا وقد علّمت النّاس جوابكما ثمانين سنة! فذهبا، وكلما كانت مواظبة العبد على ذكر لا إله إلا الله وعلى التأمل في دقائقها أتم وأكمل كان رسوخ هذه المعرفة في قلبه بعد الموت أقوى وأكمل.
قال ابن عباس: من داوم على الشهادة في الحياة الدنيا يثبته الله عليها في قبره ويلقنه إياها وإنما فسر الآخرة هاهنا بالقبر، لأن الميت انقطع بالموت عن أحكام الدنيا ودخل في أحكام الآخرة وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ أي يصرف الله المشركين عن قول لا إله إلا الله في الدنيا وفي القبر وعند خروجهم من القبور فإنهم إذا سئلوا في قبورهم قالوا: لا ندري وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27) من الإضلال والتثبيت ومن صرف منكر ونكير أَلَمْ تَرَ أي ألم تنظر إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً كأهل مكة حيث أسكنهم الله حرمه الآمن، ووسّع عليهم أبواب رزقه،(1/570)
قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40)
وشرّفهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم فكفروا ذلك فقحطوا سبع سنين فقتلوا وأسروا يوم بدر وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ أي أنزل بعض قريش المطعمون يوم بدر وهم بنو أمية وبنو المغيرة أتباعهم، وهم بقية قريش بسبب إضلالهم إياهم دارَ الْبَوارِ (28) أي دار الهلاك جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها أي يدخلونها يوم القيامة مقاسين لحرها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) أي بئس المنزل جهنم وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً أي أشباها وشركاء في التسمية والحظ والعبادة لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ الذي هو التوحيد.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء فاللام للعاقبة. والباقون بضمها فاللام إما للعاقبة لأن عبادة الأوثان سبب يؤدي إلى الضلال، أو للتعليل فالذين اتخذوا الأوثان يريدون إضلال غيرهم وتحقيق لام العاقبة أن المقصود من الشيء لا يحصل إلا في آخر المراتب كما قيل: أول الفكر آخر العمل وكل ما حصل في العاقبة كان شبيها بالأمر المقصود في هذا المعنى قُلْ تَمَتَّعُوا بعبادتكم الأوثان وعيشوا بكفركم وهذا الأمر تهديد لهم فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ أي مرجعكم يوم القيامة إِلَى النَّارِ (30) ليس إلا
قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وهذان إما مجزومان في جواب أمر محذوف أي قل لهم أقيموا الصلاة فإن قلت لهم ذلك يقيموا الصلاة أو مجزومان بلام أمر مقدر، أي ليقيموا الصلاة أي الواجبة، وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ أي أعطيناهم سِرًّا وَعَلانِيَةً أي أنفقوا إنفاق سر وعلانية. والمراد حث المؤمنين على الشكر لنعم الله تعالى بالعبادة البدنية والمالية، وعلى ترك التمتع بمتاع الدنيا كما هو صنيع الكفرة مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ أي معاوضة فِيهِ وَلا خِلالٌ (31) أي مصادقة تنفع وهو يوم القيامة وإنما الانتفاع فيه للمؤمن بالعمل الصالح، أو الإنفاق لوجه الله تعالى اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وهما أصلان في دلالة وجود الصانع وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي السحاب ماءً فلولا السماء لم يصح إنزال الماء منها ولولا الأرض لم يوجد ما يستقر الماء فيه فَأَخْرَجَ بِهِ أي بذلك الماء مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ تعيشون به فإذا علم المكلفون أن في تحصيل هذه المنافع القليلة تحمل المتاعب فالمنافع العظيمة الدائمة في الآخرة أولى بتحمل المشاق في طلبها وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ أي السفن لِتَجْرِيَ أي الفلك جريا تابعا لإرادتكم بِأَمْرِهِ أي بمشيئته التي نيط بها كل شيء فإن الانتفاع بما ينبت من الأرض لا يكمل إلا بوجود الفلك لنقله إلى البلد الآخر المحتاج أهلها إليه وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) أي لتنتفعوا بها في نحو الشرب وسقي الزراعات وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ أي جاريين فيما يعود إلى مصالح العباد لا يفتران في سيرهما إلى انقضاء عمر الدنيا ولولاهما لاختلت مصالح العالم بالكلية، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) لمنامكم ومعاشكم وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ أي كل ما لم تصلح أحوالكم إلا به فكأنكم سألتموه أو من كل ما طلبتموه بلسان الحال. وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ التي أنعم الله بها عليكم لا تُحْصُوها أي لا تطيقوا على عد أنواعها فضلا عن عد أفرادها فإنها غير متناهية إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) أي فإن(1/571)
الإنسان مجبول على النسيان والملالة، فإذا وجد نعمة نسيها في الحال، وترك شكرها فذلك ظلم، وإن لم ينسها فإنه يملها فيقع في كفران النعمة، وأيضا إن نعم الله كثيرة فمتى حاول الإنسان التأمل في بعضها غفل عن الباقي. وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ أي مكة آمِناً من الخراب ومن الخوف لمن التجأ إليه وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) أي ثبتنا على ما كنا عليه من التوحيد وملة الإسلام ومن البعد عن عبادة الأصنام. أو المراد أعصمنا من الشرك الخفي وهو عند الصوفية تعليق القلب بالوسائط وبالأسباب الظاهرة رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ أي إن الأصنام ضلّ بهن كثير من الناس أي لما حصل الإضلال عند عبادتها نسب إليها فَمَنْ تَبِعَنِي في ديني واعتقادي فَإِنَّهُ مِنِّي أي فإنه جار مجرى بعضي لقربه مني وَمَنْ عَصانِي أي خالف ديني فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) أي فإنك قادر على أن تغفر له وترحمه بأن تنقله عن الكفر إلى الإسلام رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي أي بعض ذريتي إسماعيل ومن سيولد له بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ أي في واد ليس فيه زرع عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ أي المعظم الذي يهابه كل جبار أو الذي منع من الطوفان وهو مكة شرفها الله تعالى فلعله قال ذلك باعتبار ما سيؤول إليه أو باعتبار ما كان رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ أي يا ربنا إنما أسكنت قوما من ذريتي وهم إسماعيل وأولاده في هذا الوادي الذي لا زرع فيه ليقيموا الصلاة نحو الكعبة فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ أي فاجعل قلوب بعض الناس تسرع إلى ذريتي شوقا إليهم بنقل المعاشات إليهم بسبب التجارات بالنسك والطاعة لله تعالى.
وقرأ العامة «تهوي» بكسر الواو، وقرأ أمير المؤمنين علي، وزيد بن علي، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، ومجاهد بفتح الواو أي تحبهم. وقرئ على البناء للمفعول أي اجعل قلوب بعض الناس ممالة إليهم، وَارْزُقْهُمْ أي ذريتي مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) تلك النعمة فإن إبراهيم عليه السلام إنما طلب تيسير المنافع على أولاده لأجل أن يتفرغوا لإقامة الصلاة وأداء الواجبات رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ من الحاجات وغيرها فلا حاجة بنا إلى الدعاء، إنما ندعوك إظهارا للعبودية لك وافتقارا إلى ما عندك وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) وهذه الجملة من كلام الله تعالى تصديقا لإبراهيم عليه السلام، وهي اعتراض بين كلامي إبراهيم، فالوقف على «نعلن» حسن كالوقف على «في السماء» الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ أي حال كوني بعد الكبر إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ. روي أنه لما ولد إسماعيل كان سن إبراهيم تسعا وتسعين سنة، ولما ولد إسحاق كان سنه مائة واثنتي عشرة سنة إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39) أي لمجيب الدعاء وهو عالم بالمقصود رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ أي مثابرا عليها وَمِنْ ذُرِّيَّتِي أي واجعل بعض ذريتي كذلك رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) .(1/572)
رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50)
وقال ابن عباس: أي عبادتي.
أن لا ينتقم للمظلوم من الظالم إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ بلا عذاب الاستئصال لِيَوْمٍ أي لأجل يوم تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) أي تبقى مفتوحة لا تتحرك أجفانهم للدهشة مُهْطِعِينَ أي مسرعين نحو البلاء ناظرين إلى الداعي وهو جبريل حيث يدعو إلى الحشر من صخرة بيت المقدس مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ أي رافعي رؤوسهم إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ أي يدوم شخوص أبصارهم لدوام الحيرة في قلوبهم وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) أي خالية عن جميع الأفكار لعظم ما ينالهم من الحيرة لما تحققوه من العقاب وحصول هذه الصفات الخمس عند المحاسبة وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ أي وخوف الكفار يا أكرم الرسل أهوال يوم القيامة فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي كل من ظلم بالشرك رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أي أخر العذاب عنا وردنا إلى الدنيا وأمهلنا إلى حد من الزمان قريب نُجِبْ دَعْوَتَكَ لنا على ألسنة الرسل إلى التوحيد وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ فيما جاءونا به أي نتدارك في الدنيا ما فاتنا من إجابة الدعوة واتباع الرسل فيقول الله لهم توبيخا أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ أي أطلبتم هذا المطلوب وهل لم تكونوا خلفتم مِنْ قَبْلُ هذا اليوم أي في الدنيا ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) أي كانوا يقولون بالحلف لا زوال لنا من هذه الحياة إلى حياة أخرى ومن هذه الدار إلى دار المجازاة، أما زوالهم من غنى إلى فقر، ومن شباب إلى هرم، ومن حياة إلى موت فلا ينكرونه وَسَكَنْتُمْ معطوف على أقسمتم فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر والمعصية وهم قوم نوح وعاد وثمود، لأن من شاهد هذه الأحوال وجب عليه أن يعتبر فإذا لم يعتبر كان مستحقا للتقريع وَتَبَيَّنَ لَكُمْ أي وظهر لكم حالهم بمشاهدة الآثار وبتواتر الأخبار كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ من الإهلاك بما فعلوا من الفساد. وقرئ «وبين» على المجهول، وقرئ أيضا «وتبين» بنون المتكلم، أي أولم نبين لكم. وَضَرَبْنا لَكُمُ(1/573)
الْأَمْثالَ
(45) أي بينا لكم الأمثال في القرآن مما يعلم به أنه تعالى قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء، وقادر على التعذيب المؤجل كما يفعل الهلاك المعجل وَقَدْ مَكَرُوا أي المهلكون مَكْرَهُمْ حال من الضمير في فعلنا بهم أي فعلنا بهم ما فعلنا، والحال أنهم قد مكروا في إبطال الحق مكرهم الذي جاوزوا فيه كل حد معهود بحيث لا يقدر عليه غيرهم وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ أي أخذه بهم بالعذاب الذي يستحقونه يأتيهم به من حيث لا يشعرون وهذه الجملة حال من الضمير في مكروا وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46) أي وإن كان مكرهم في غاية العظم والشدة بحيث تزول منه الجبال فإن وصلية. وقيل: «إن» نافية و «اللام» لتأكيدها، وينصره قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وما كان مكرهم فالجملة حينئذ حال من الضمير في «مكروا» أي ومكروا مكرهم. والحال أن مكرهم لم يكن لتزول منه الشرائع والمعجزات. وقيل:
هي مخففة من «أن» أي وأنه كان مكرهم ليزول منه ما هو كالجبال في الثبات من الشرائع والمعجزات.
وقرأ الكسائي وحده «لتزول» بفتح اللام الفارقة ورفع الفعل. فالجملة حينئذ حال من قوله تعالى: وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ أي وعند الله المكر بهم. والحال أن مكرهم في غاية القوة بحيث تزول منه الجبال. فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ تفريع على ولا تحسبن الله إلخ فكأنه قيل: وإذ قد وعدناك بعذاب الظالمين يوم القيامة وأخبرناك بما يلقونه من الشدائد وبما يسألونه من الرد إلى الدنيا وبما أجبناهم به وقرعناهم بعدم تأملهم في أحوال من سبقهم من الأمم الذين أهلكناهم بظلمهم بعد ما وعدنا رسلهم بإهلاكهم فدم على ما كنت عليه من اليقين بعدم إخلافنا رسلنا وعدنا فمخلف إما متعد لاثنين مضاف لمفعوله الثاني، وإما متعد لواحد مضاف لمفعوله ورسله مفعول لوعده إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي غالب لا يماكر ذُو انتِقامٍ (47) لأوليائه من أعدائه يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ أي تغير في صفاتها فتسير عن الأرض جبالها وتفجر بحارها وتسوّى فلا يرى فيها عوج ولا أمت وَالسَّماواتُ أي تبدل السموات غير السموات فتنتثر كواكبها، وتكسف شمسها، ويخسف قمرها وتكون السماء أبوابا، وذكر شبيب بن إبراهيم بن حيدرة أن الأرض والسموات يبدلان كرتين إحداهما قبل نفخة الصعق فتنتثر أولا الكواكب وتكسف الشمس والقمر، وتصير السماء كالمهل، ثم تكشط عن رؤوسهم، ثم تسير الجبال، ثم تموج الأرض، ثم تصير البحار نيرانا، ثم تنشق الأرض من قطر إلى قطر، فإذا نفخ في الصور نفخة الصعق طويت السماء وبدلت السماء سماء أخرى من ذهب، ودحيت الأرض أي مدت مد الأديم، وأعيدت كما كانت فيها القبور أو البشر على ظهرها وفي بطنها، وتبدل تبديلا ثانيا إذا وقفوا في المحشر فتبدل لهم ساهرة يحاسبون عليها وهي أرض بيضاء من فضة، وحينئذ يقوم الناس على الصراط، وعلى متن جهنم وهي أرض من نار، فإذا جاوزوا الصراط وحصل أهل(1/574)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
الجنان من وراء الصراط في الجنان وأهل النيران في النار بدلت الأرض خبزا نقيا فأكلوا من تحت أرجلهم، وعند دخولهم الجنة كانت الأرض قرصا واحدا يأكل منه جميع من دخل الجنة وإدامهم زيادة كبد ثور الجنة وزيادة كبد النون. وحاصل كلام القرطبي أن تبديل هذه الأرض بأرض أخرى من فضة يكون قبل الصراط وتكون الخلائق إذ ذاك مرفوعة في أيدي ملائكة سماء الدنيا، وأن تبديل الأرض بأرض من خبز يكون بعد الصراط وتكون الخلائق إذ ذاك على الصراط وهذه الأرض خاصة بالمؤمنين عند دخولهم الجنة.
وقال الرازي: لا يبعد أن يقال: المراد من تبديل الأرض والسموات هو أنه تعالى يجعل الأرض جهنم، ويجعل السموات الجنة وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) أي واذكروا يوم يبرز الخلائق جميعا من قبورهم للحساب والجزاء وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ أي وتبصر يا أكرم الخلق الكافرين يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ برزوا له تعالى مُقَرَّنِينَ أي قرن بعضهم ببعض بحسب مشاركتهم في العقائد والأعمال فِي الْأَصْفادِ (49) أي القيود سَرابِيلُهُمْ أي قمصانهم مِنْ قَطِرانٍ وهو ما يتحلب من شجر الأبهل فيطبخ ويطلى به الإبل الجربي. فيحرق الجرب بحرارته وقد تصل إلى الجوف. والمراد أنه تطلى به جلود أهل النار ليجتمع عليهم الأنواع الأربعة من العذاب لذع القطران ووحشة لونه ونتن ريحه، وإسراع النار في جلودهم وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) أي تعلوها النار وخصّ الله هذا العضو بظهور آثار العقاب، كما خصّ القلب بذلك في قوله تعالى: نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ [الهمزة: 6، 7] لأن الرأس محل الفكر والوهم والخيال، والقلب موضع العلم والجهل، ولا يظهر أثر هذه الأحوال إلا في الوجه ولأنه مجمع الحواس ولخلوه عن القطران ويفعل الله بهم تلك الأمور الثلاثة
لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مجرمة ما كَسَبَتْ من أنواع الكفر والمعاصي جزاء موافقا لعملها إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51) فلا يشغله حساب عن حساب ولا يظلمهم ولا يزيد على عقابهم الذي يستحقونه هذا أي الموعظة التي في هذه السورة بَلاغٌ أي كفاية في الموعظة لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ عطف على مقدر متعلق ببلاغ أي كفاية لهم لينتصحوا ولينذروا به أي بهذا البلاغ وَلِيَعْلَمُوا بما فيه من الأدلة أَنَّما هُوَ أي الله إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52) أي وليتعظوا بذلك وهذه الآيات مشعرة بأن التذكير بهذه المواعظ يوجب الوقوف على التوحيد والإقبال على العمل الصالح.(1/575)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10)
سورة الحجر
مكية، تسع وتسعون آية، ستمائة وثمان وخمسون كلمة، ألفان وثمانمائة وثلاثة وثمانون حرفا
الر قال ابن عباس: أي أنا الله أرى تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) أي تلك الآيات آيات ذلك الكتاب الكامل في كونه كتابا، وفي كونه قرآنا مفيدا للبيان لسبيل الرشد والغي، وللفرق بين الحق والباطل وهو الكتاب الذي وعد الله تعالى به محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وتنكير القرآن للتفخيم كتعريف الكتاب. فالمقصود الوصفان، وقيل: «الواو» للقسم أي أقسم بالقرآن المبين بالحلال والحرام وبالأمر والنهي رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) أي إن الكافر بالقرآن كلما رأى حالا من أحوال العذاب ورأى حالا من أحوال المسلم تمنى كونه في الدنيا منقادا لحكمه، ومذعنا لأمره وذلك عند الموت، وعند اسوداد وجوه الكفار، وعند دخولهم النار، وعند رؤيتهم خروج عصاة المسلمين من النار. ف «ربّ» للتكثير باعتبار مرات التمني، وللتقليل باعتبار أزمان الإفاقة فأزمان إفاقتهم قليلة بالنسبة لأزمان الدهشة، وكونه للتقليل أبلغ في التهديد. ومعناه أنه يكفيك قليل الندم في كونه زاجرا لك عن هذا العمل فكيف كثيره وأيضا إنه يشغلهم العذاب عن تمني ذلك إلا في القليل.
وقرأ نافع وعاصم «ربما» بتخفيف الباء. والباقون بالتشديد ذَرْهُمْ أي اترك كفار مكة يا أشرف الرسل عن النهي عمّا هم عليه بالنصيحة إذ لا سبيل إلى ارعوائهم عن ذلك بل مرهم بتناول ما يتناولونه يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا أي يأخذوا حظوظهم من دنياهم فتلك أخلاقهم ولا خلاق لهم في الآخرة وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ أي يشغلهم الأمل عند الأخذ
بحظهم عن الإيمان والطاعة فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) عند الموت وفي القبر ويوم القيامة ماذا يفعل بهم
وعن علي رضي الله عنه أنه قال: إنما أخشى عليكم اثنين طول الأمل واتباع الهوى، فإن طول الأمل ينسي الآخرة واتباع الهوى يصد عن الحق
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ من القرى بالخسف بها وبأهلها كما فعل ببعضها وبإخلائها عن أهلها غب إهلاكهم بعذاب الاستئصال كما فعل ببعض آخر إِلَّا وَلَها في ذلك الشأن(1/576)
وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)
كِتابٌ مَعْلُومٌ (4) أي أجل مؤقت لهلاكها مكتوب في اللوح المحفوظ لا يغفل عنه ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ من الأمم المهلكة وغيرهم أَجَلَها المكتوب في كتابها فلا يجيء هلاكها ولا موتها قبل مجيء كتابها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5) عن أجلها وَقالُوا أي كفار مكة عبد الله بن أمية المخزومي وأصحابه استهزاء للنبي صلّى الله عليه وسلّم: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ أي القرآن في زعمه إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) أي إنك لتقول قول المجانين حتى تدعي أن الله تعالى نزل عليك القرآن لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ أي هلا أتيتنا بالملائكة يشهدون بصحة نبوتك ويعضدونك في الإنذار إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) في مقالتك إنك نبي وإن هذا القرآن من عند الله فأجاب الله تعالى عن قولهم بقوله تعالى: ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ أي فالحق في حق الكفار تنزيل الملائكة بعذاب الاستئصال كما فعل بأمثالهم من الأمم السالفة لا التنزيل بما اقترحوا من أخبارها لهم بصدق الرسول فإن ذلك من باب التنزيل بالوحي الذي لا يكاد يفتح على غير الأنبياء من أفراد كل المؤمنين فكيف على أولئك الكفرة.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «ما ننزل» بنون المتكلم وبكسر الزاي المشددة، «والملائكة» بالنصب. وقرأ شعبة عن عاصم «ما تنزل» ببناء الفعل للمفعول «والملائكة» بالرفع.
والباقون «تنزل الملائكة» . وَما كانُوا إِذاً أي إذ نزلت عليهم الملائكة بالعذاب مُنْظَرِينَ (8) أي مؤخرين ساعة أي ولو نزلنا الملائكة ما أخر عذابهم ونحن لا نريد عذاب الاستئصال بهذه الأمة فلهذا السبب ما أنزلنا الملائكة إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ الذي أنكروا نزوله عليك ونسبوك بذلك إلى الجنون وَإِنَّا لَهُ أي الذكر لَحافِظُونَ (9) من الشياطين حتى لا يزيدوا فيه ولا ينقصوا منه ولا يغيروا حكمه.
ويقال: وإنا لمحمد لحافظون من الكفار والشياطين وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رسلا مِنْ قَبْلِكَ يا أكرم الرسل فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) أي في أمم الأولين
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) أي عادة هؤلاء الجهّال مع الرسل ذلك الاستهزاء كما يفعله هؤلاء الكفرة بك وهذا تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) أي مثل ذلك السلك الذي سلكناه في قلوب أولئك المستهزئين برسلهم وبما جاءوا به من الكتاب نسلك الذكر في قلوب كفار مكة. لا يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بالذكر. وهذا حال من ضمير نسلكه أو لا محل له من الإعراب تفسير للجملة السابقة. والمراد من هذا السلك هو أنه تعالى يسمعهم هذا القرآن ويخلق في قلوبهم حفظ هذا القرآن ويخلق فيها العلم بمعانيه ومع هذه الأحوال لا يؤمنون به عنادا منهم وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) أي وقد مضت سيرة الأولين بتكذيب الرسل ومضت سيرة الله فهم بإهلاكه إياهم بعد التكذيب، وهذه الجملة استئناف جيء بها تكملة للتسلية وتهديدا لكفار مكة وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أي كفار مكة الذين اقترحوا نزول الملائكة باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ أي في ذلك(1/577)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)
الباب يَعْرُجُونَ (14) أي يصعدون ويرون ما فيها من العجائب عيانا لَقالُوا لفرط عنادهم:
إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا أي غشيت بالسحر. وقرأ ابن كثير بتخفيف الكاف. والباقون بتشديدها فهو يوجب تكثيرا أو حيرت من السكر كما يعضده قراءة من قرأ سكرت أي حارت بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) أي قد سحر محمد عقولنا كما قالوه عند ظهور سائر المعجزات من انشقاق القمر ومن القرآن الذي لا يستطيع الجن والإنس أن يأتوا بمثله وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً أي محال تسير فيها الكواكب السيارة وهي المريخ بكسر الميم وهو كوكب في السماء الخامسة وله الحمل والعقرب والزهرة بضم ففتح وهي في السماء الثالثة، ولها الثور والميزان وعطارد بفتح العين وهي في الثانية، ولها الجوزاء والسنبلة والقمر، وهو في الأولى، وله السرطان والشمس وهي في الرابعة، ولها الأسد والمشتري وهو في السادسة، وله القوس والحوت وزحل وهو في السابعة، وله الجدي والدلو وجملة البروج اثنا عشر، ووجه دلالة البروج على وجود الصانع المختار هو أن طبائع هذه البروج مختلفة، فالفلك مركب من هذه الأجزاء المختلفة، وكل مركب لا بد له من مركب يركب تلك الأجزاء بحسب الاختيار والحكمة فثبت أن كون السماء مركبة من البروج يدل على وجود الفاعل المختار وهو المطلوب وَزَيَّنَّاها أي السماء بالشمس والقمر والنجوم لِلنَّاظِرِينَ (16) بأبصارهم وبصائرهم فيستدلون بها على قدره صانعها ووحدته وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) أي مرمي بالشهاب فلا يقدر أن يصعد إليها ويوسوس في أهلها ويقف على أحوالها إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ أي إلا من اختلس المسموع سرا من غير دخول فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ أي لحقه شعلة نار ساطعة تنفصل من الكوكب مُبِينٌ (18) أي ظاهر أمره للمبصرين وَالْأَرْضَ مَدَدْناها أي بسطناها على وجه الماء وَأَلْقَيْنا فِيها أي على الأرض رَواسِيَ أي جبالا ثوابت لكيلا تميل بأهلها ولتكون دلالة للناس على طرق الأرض لأنها كالأعلام فلا تميل الناس عن الجادة المستقيمة ولا يقعون في الضلال وَأَنْبَتْنا فِيها أي الأرض مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) أي مستحسن مناسب أو موزون بوزن فالمعادن كلها موزونة وذلك مثل الذهب والفضة والحديد والرصاص وغير ذلك والنباتات ترجع عاقبتها إلى الوزن، لأن الحبوب توزن وكذلك الفواكه في الأكثر وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها أي الأرض مَعايِشَ أي ما تعيشون به من المطاعم والملابس وغيرهما مما يتعلق به البقاء مدة حياتكم في الدنيا وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20) أي وجعلنا لكم من لستم برازقيه من العيال والخدم والعبيد والدواب والطيور وما أشبهها، فالناس يظنون في أكثر الأمر أنهم الذين يرزقونهم وذلك خطأ فإن الله هو الرزاق يرزق الكل
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ أي إن جميع الممكنات مقدورة له تعالى يخرجها من العدم إلى الوجود كيف شاء شبهت مقدوراته تعالى الفائتة للحصر في كونها مستورة عن علوم العالمين وكونها مهيأة لإيجاده بحيث متى تعلقت الإرادة بوجودها وجدت من غير تأخر بنفائس الأموال المخزونة في(1/578)
الخزائن السلطانية وَما نُنَزِّلُهُ أي ما نوجد شيئا إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) أي إلا ملتبسا بمقدار معين تقتضيه الحكمة فقوله تعالى: إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ إشارة إلى كون مقدوراته غير متناهية وقوله تعالى: وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ إشارة إلى أن كل ما يدخل في الوجود منها فهو متناه ومتى كان الخارج إلى الوجود منها متناهيا كان مختصا بوقت مقدر وبحيز معين وبصفات معينة بدلا عن أضدادها، فتخصيص كل شيء بما اختص به لا بد له من حكمة تقتضي ذلك.
وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال: إن في العرش تمثال جميع ما خلق الله في البحر والبر
وهو تأويل قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ. وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ أي حوامل لأنها تحمل الماء وتمجه في السحاب فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ أي السحاب ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ أي جعلناه لكم سقيا وفي هذا دلالة على جعل الماء معدا لهم ينتفعون به متى شاؤوا وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) أي نحن القادرون على إيجاده وخزنه في السحاب وإنزاله في الأرض وما أنتم على ذلك بقادرين. وقيل: ما أنتم بخازنين له بعد ما أنزلناه في الغدران والآبار والعيون بل نحن نخزنه فيها لنجعلها سقيا لكم أي معدا لسقي أنفسكم ومواشيكم وأراضيكم مع أن طبيعة الماء تقتضي الغور وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ أي لا قدرة على الإحياء ولا على الإماتة إلا لنا وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) أي الباقون بعد فناء الخلق المالكون للملك عند انقضاء زمان الملك المجازي وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ أي من تقدم منكم ولادة وموتا وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) أي من تأخر ولادة وموتا.
وقال ابن عباس: في رواية عطاء معنى المستقدمين: أهل طاعة الله تعالى. ومعنى المستأخرين: المتخلفون عن طاعة الله تعالى وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ للجزاء إِنَّهُ حَكِيمٌ أي متقن في أفعاله فيأتي بالأفعال على ما ينبغي وعالم بحقائق الأشياء على ما هي عليه عَلِيمٌ (25) أي وسع علمه كل شيء وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ أي آدم مِنْ صَلْصالٍ أي من طين يابس غير مطبوخ يصوت عند نقره مِنْ حَمَإٍ أي كائن من طين متغير أسود بطول مجاورة الماء مَسْنُونٍ (26) أي مصور بصورة الآدمي.
قال المفسرون: خلق الله تعالى آدم عليه السلام من طين فصوره وتركه في الشمس أربعين سنة فصار صلصالا كالخزف، ولا يدري أحد ما يراد به ولم يروا شيئا من الصور يشبهه إلى أن نفخ فيه الروح وَالْجَانَّ وهو أبو الجن والأصح أن الشياطين قسم من الجن فكل من كان منهم مؤمنا فإنه لا يسمى بالشيطان وكل من كان منهم كافرا يسمى بهذا الاسم خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ أي من قبل خلق الإنسان مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) أي من نار الحر الشديد النافذ في المسام أو من نار الريح الحارة وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً أي جسما كثيفا يلاقي بخلاف الجن والملائكة(1/579)
إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)
فإنهم لا يلاقون للطف أجسامهم مِنْ صَلْصالٍ أي من طين يتصلصل مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) أي من طين منتن رطب فَإِذا سَوَّيْتُهُ أي أتممت خلقه باليدين والرجلين والعينين وغير ذلك وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي أي جعلت الروح فيه وليس ثمّ نفخ ولا منفوخ وإنما هو تمثيل لإفاضة ما يحيا آدم به من الروح التي هي من أمره تعالى فَقَعُوا أي خروا لَهُ أي لذلك البشر ساجِدِينَ (29) بوضع الجبهة على الأرض لا بالانحناء تعظيما له، فالسجود كان لآدم في الحقيقة. أو المعنى اسجدوا لله تعالى بوضع الجبهة على الأرض، وآدم عليه السلام بمنزلة القبلة لذلك السجود حيث ظهر فيه تعاجيب آثار قدرته تعالى وحكمته فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) أي فخلقه فسواء فجعل فيه الحياة فسجد الملائكة. فمعنى «كلهم» أي لم يشذ منهم أحد، ومعنى «أجمعون» أي لم يتأخر في ذلك أحد منهم عن أحد، أي فالكل سجدوا دفعة واحدة
إِلَّا إِبْلِيسَ رئيسهم أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ أي الله تعالى يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) أي أيّ سبب لك في أن لا تكون مع الساجدين لآدم قالَ أي إبليس: لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ أي لا يصح مني أن أسجد لِبَشَرٍ أي جسم كثيف لأنه مخلوق من أشرف العناصر وأعلاها وأنا روحاني لطيف خَلَقْتَهُ أي البشر مِنْ صَلْصالٍ ناشئ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ الله تعالى: فَاخْرُجْ مِنْها أي من زمرة الملائكة المعززين ويقال: من رحمتي والفاء في جواب شرط مقدر أي فحيث عصيت وتكبرت فاخرج منها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) أي مطرود عن الرحمة وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ أي الإبعاد عن الرحمة إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35) أي الجزاء أي إنك مدعو باللعنة في السموات والأرض إلى يوم الحساب من غير أن يعذب فإذا جاء ذلك اليوم عذب عذابا بنسى اللعن معه فيصير اللعن حينئذ كالزائل بسبب أن شدة العذاب تذهل عنه قالَ إبليس: رَبِّ فَأَنْظِرْنِي أي أخرني ولا تمتني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) أي آدم وذريته للجزاء بعد فنائهم وأراد الملعون بهذا السؤال أن لا يذوق الموت لاستحالته بعد يوم البعث وأن يجد فسحة في إغوائهم قالَ الله تعالى: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) أي المؤجلين إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) وهو وقت النفخة الأولى التي علم أنه يموت كل الخلائق فيه قالَ إبليس: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أي أقسم بإغوائك إياي لأزينن لذرية آدم المعاصي في الدنيا التي هي دار الغرور وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) .
قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بكسر اللام في كل القرآن أي الذين أخلصوا دينهم عن كل شائب يناقض التوحيد. وقرأ الباقون بفتح اللام أي الذين أخلصهم الله تعالى بالتوفيق والعصمة وعصمهم من كيد إبليس
قال تعالى: قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) أي هذا الإخلاص طريق يؤدي إلى كرامتي وثوابي من غير اعوجاج. وقرأ يعقوب «علي» بالرفع والتنوين على أنه صفة «لصراط» أي هذا الإخلاص طريق رفيع لا عوج فيه إِنَّ عِبادِي سواء كانوا(1/580)
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
مخلصين أو لم يكونوا مخلصين لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أي قدرة أصلا على الإغواء إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) ولما أوهم إبليس في كلامه أن له على بعض عباد الله تسلطا بالإغواء بين الله كذبه فيه وذكر أن إغواءه للغاوين ليس بطريق تصرفه بالإغواء بل بطريق اتباعهم له بسوء اختيارهم وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أي لمصير المتبعين أَجْمَعِينَ (43) لَها أي لجهنم سَبْعَةُ أَبْوابٍ أي سبع طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم في المتابعة وهي جهنم ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية لِكُلِّ بابٍ أي دركة مِنْهُمْ أي الأتباع جُزْءٌ أي حزب معين مَقْسُومٌ (44) أي مفرز من غيره ففي الدركة الأولى: أهل التوحيد الذين أدخلوا النار يعذبون بقدر ذنوبهم، ثم يخرجون منها. وفي الثانية: النصارى. وفي الثالثة: اليهود. وفي الرابعة: الصابئون.
وفي الخامسة: المجوس. وفي السادسة: أهل الشرك. وفي السابعة: المنافقون.
والحاصل أن الله تعالى يجزئ أتباع إبليس سبعة أجزاء فيدخل كل جزء منهم دركة من النار والسبب في التجزئة أن مراتب الكفر مختلفة بالغلظ والخفة فصارت مراتب العذاب مختلفة بذلك إِنَّ الْمُتَّقِينَ من الكفر فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) أي مستقرون فيهما لكل منهم عدة منهما ادْخُلُوها بِسَلامٍ أي ادخلوا الجنة سالمين من كل آفة آمِنِينَ (46) من كل خوف، أي لما ملكوا جنات كثيرة فكلما أرادوا أن ينقلوا من جنة إلى أخرى قيل لهم: ادخلوها بسلام آمنين. وقرئ «ادخلوها» أمرا من الله تعالى للملائكة بإدخالهم في الجنة. وقرأ الحسن «ادخلوها» مبينا للمفعول على صيغة الماضي المزيد فيه. وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ أي عداوة كانت بينهم في الدنيا إِخْواناً حال من ضمير صدورهم أو من فاعل ادخلوها عَلى سُرُرٍ من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت تدور بهم الأسرة حيثما داروا مُتَقابِلِينَ (47) في الزيارة أي إنهم إذا اجتمعوا، ثم أرادوا الانصراف يدور سرير كل واحد منهم به بحيث يصير راكبه مقابلا بوجهه لمن كان عنده وقفاه إلى الجهة التي يسير لها السرير وهذا أبلغ في الإنس والإكرام لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ أي تعب لحصول كل ما يريدونه من غير مزاولة عمل أصلا وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48) لأن تمام النعمة بالخلود نَبِّئْ عِبادِي أي أخبر يا أشرف الرسل كل من كان معترفا بعبوديتي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ للعصاة من المؤمنين الرَّحِيمُ (49) بهم وَأَنَّ عَذابِي للعصاة إن عذبت هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50) .
وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرّ بنفر من أصحابه وهم يضحكون فقال: «أتضحكون والنار بين أيديكم» «1» فنزل قوله تعالى:
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
وَنَبِّئْهُمْ أي خبر يا سيد
__________
(1) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (10: 387) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (39784) ، بما معناه.(1/581)
فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70)
المرسلين عبادي عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) وهم ملائكة على صور غلمان حسان منهم جبريل إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً أي فسلموا سلاما، أي قالوه تحية لإبراهيم قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) أي خائفون. قال إبراهيم ذلك حين امتنعوا من أكل ما قربه إليهم من العجل الحنيذ، لأن العادة أن الضيف إذا لم يأكل مما قدم له يكون خائنا قالُوا لا تَوْجَلْ أي لا تخف يا إبراهيم منا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ أي ولد هو إسحاق عَلِيمٍ (53) في صغره حليم في كبره قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي بذلك عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ أي بعد ما أصابني الكبر فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) أي فبأي أعجوبة تبشرونني؟! «فما» استفهام بمعنى التعجب. أراد إبراهيم بهذا السؤال أن يعرف أنه تعالى يعطيه الولد مع إبقائه على صفة الشيخوخة، أو بعد قلبه شابا؟ فبينوا أن الله تعالى أعطاه الولد مع إبقائه على صفة الشيخوخة.
قرأ نافع «تبشرون» بكسر النون خفيفة في كل القرآن. وقرأ ابن كثير بكسر النون وتشديدها. والباقون بفتح النون خفيفة قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ أي بطريقة هي حق
وهو أمر الله تعالى فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55) أي من الآيسين من الولد فإن الله قادر على أن يخلق بشرا بغير أبوين فكيف من شيخ فان وعجوز عاقر قالَ إبراهيم: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) أي لا يقنط من رحمة ربه إلا المخطئون طريق الاعتقاد الصحيح في ربهم فلا يعرفون سعة رحمة الله تعالى وكمال علمه وقدرته. ومراد سيدنا إبراهيم بهذا القول نفي القنوط عن نفسه على أبلغ وجه أي ليس بي قنوط من رحمته تعالى، وإنما الذي أقول لبيان منافاة حالي لفيضان تلك النعمة الجليلة عليّ.
وقرأ أبو عمرو والكسائي «يقنط» بكسر النون، وقرئ شاذا بضم النون. قالَ إبراهيم لجبريل وأعوانه: فَما خَطْبُكُمْ أي شأنكم الخطير سوى البشارة أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) لإهلاكهم إِلَّا آلَ لُوطٍ ابنتيه زاعورا وريثا وامرأته الصالحة إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أي لوطا وآله أَجْمَعِينَ (59) أي مما يصيب القوم إِلَّا امْرَأَتَهُ واعلة المنافقة قَدَّرْنا أي قضينا عليها إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60) أي الباقين مع الكفرة لتهلك معهم، وقرأ أبو بكر عن عاصم «قدرنا» بتخفيف الدال هاهنا وفي النمل. وقرأ حمزة والكسائي «لمنجوهم» بسكون النون فخرجوا من عند إبراهيم وسافروا من قريته إلى قرية لوط وكان بينهما أربعة فراسخ
فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) هم الملائكة الذين ضافوا إبراهيم قالَ لوط لهم: إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) أي تنكركم نفسي فأخاف أن تصيبوني بشر ولا أعرف غرضكم، لأي غرض دخلتم علي! قالُوا أي الملائكة: بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) أي ما جئناك بما تنكرنا لأجله بل جئناك بالعذاب الذي هددت قومك به فيشكون في مجيئه لهم ويكذبونك وهو ما(1/582)
قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80)
يشفيك من عدوك وما فيه سرورك وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ أي بالأخبار بمجيء العذاب وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64) في مقالتنا إن العذاب نازل عليهم فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ أي فسر ببنتيك وامرأتك الصالحة في جزء من الليل عند السحر وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ أي امش خلفهم جهة صعر لأجل أن تطمئن عليهم وتعرف أنهم ناجون وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إلى ورائه إذا سمع الصيحة لئلا ترتاعوا من عظيم ما نزل بهم من البلاء وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) أي سيروا إلى المكان الذي أمركم الله بالذهاب إليه وهو صعر، وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) أي وأخبرنا لوطا عن ذلك الأمر إن آخر هؤلاء المجرمين مستأصل حال دخولهم في الصبح أي يتم استئصالهم حال ظهور الصبح حتى لا يبقى منهم أحد. وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أي مدينة سذوم إلى دار لوط:
يَسْتَبْشِرُونَ (67) أي يظهرون السرور بأضياف لوط وقالوا: نزل بلوط ثلاثة من المرد ما رأينا قط أصبح وجها ولا أحسن شكلا منهم فذهبوا إلى دار لوط طلبا منه لأولئك المرد قالَ لهم لوط:
إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) أي فلا تظهروا عاري عندهم فإن الضيف يجب إكرامه فإذا قصدتموهم بالسوء كان ذلك إهانة بي وَاتَّقُوا اللَّهَ في فعل الفاحشة وَلا تُخْزُونِ (69) أي ولا تخجلوني قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) أي ألسنا قد نهيناك عن أن تكلمنا في أحد من الناس إذا قصدناه بالفاحشة وكان لوط ينهاهم عنها بقدر وسعه
قالَ هؤُلاءِ بَناتِي فتزوجوهن إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) قضاء الوطر لَعَمْرُكَ قسمي. وهذا قسم من الملائكة بحياة لوط عليه السلام إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ أي في شدة غلمتهم التي أزالت عقولهم يَعْمَهُونَ (72) أي يتحيرون فكيف يقبلون قولك ويلتفتون إلى نصيحتك فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ أي صيحة عظيمة مهلكة مُشْرِقِينَ (73) أي داخلين في وقت شروق الشمس فَجَعَلْنا عالِيَها أي المدينة سافِلَها وكانت قراهم أربعة فيها أربعمائة ألف مقاتل وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ أي على أهل المدينة قبل تمام الانقلاب أو على من كان منهم خارجا عن المدينة بأن كان غائبا في سفر أو غيره حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) أي وحل مطبوخ بالنار عليه كتاب إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر من قصة إبراهيم وقصة لوط لَآياتٍ أي لعبرات لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) أي للمتفكرين وَإِنَّها أي مدينة قوم لوط لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) أي في طريق ثابت لم يخف والذين يمرون من الحجاز إلى الشام يشاهدونها إِنَّ فِي ذلِكَ أي في كون المدينة مشاهدة للناس في ذهابهم وإياهم لَآيَةً أي لعبرة عظيمة لِلْمُؤْمِنِينَ (77) أي لكل من آمن بالله وصدق الأنبياء فإنهم عرفوا أن ما حاق بهم من العذاب لمخالفتهم لرسل الله تعالى أما الذين لا يؤمنون فيحملونه على حوادث العالم وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ أي وإن الشأن كان أصحاب بقعة الأشجار، وكانوا يسكنونها وكان أكثر شجرهم الدوم لَظالِمِينَ (78) بتكذيبهم شعيبا عليه السلام فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ.
روي أن الله تعالى سلط عليهم الحر سبعة أيام حتى أخذ بأنفاسهم وقربوا من الهلاك فبعث(1/583)
وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90)
الله لهم سحابة كالظلة، فالتجأوا إليها واجتمعوا تحتها للتظلل بها، فبعث الله عليهم منها نارا، فأحرقتهم جميعا. وَإِنَّهُما أي قريات لوط وقريات شعيب لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79) أي لفي طريق واضح يمر أهل مكة عليهما وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) أي صالحا وجملة المرسلين فالقوم براهمة منكرون لكل الرسل، والحجر واد بين المدينة الشريفة والشام وآثاره باقية يمر عليها ركب الشام في ذهابه إلى الحجاز وكان ثمود يسكنونه.
وَآتَيْناهُمْ آياتِنا أي أعطيناهم الناقة، وكان فيها آيات كثيرة كخروجها من الصخرة، وعظم جثتها وقرب ولادتها عند خروجها من الصخرة وكثرة لبنها وشربها فَكانُوا عَنْها أي تلك الآيات مُعْرِضِينَ (81) فلا يستدلون بها على صدق صالح عليه السلام حتى قتلوا الناقة وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) من الانهدام ونقب اللصوص، وتخريب الأعداء لوثاقتها فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) أي صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شيء في الأرض فتقطعت قلوبهم في صدورهم عند الصباح فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84) أي فلم يدفع عنهم ما كانوا يعملون من تحت تلك الجبال بنقرها بالمعول وجمع الأموال ما نزل بهم من البلاء وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ أي إلا بسبب العدل فكيف يليق بحكمته إهمال أمرك يا أكرم الرسل وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فإن الله لينتقم لك فيها من أعدائك ويجازيك على حسناتك ويجازيهم على سيئاتهم فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) أي أعرض عنهم واحتمل ما تلقى منهم إعراضا جميلا بحلم.
والمقصود من هذا الكلام أن يظهر الرسول الخلق الحسن والعفو فلا يكون منسوخا إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) أي إنه تعالى خلق الخلق مع اختلاف طبائعهم وتفاوت أحوالهم وعلم كونهم كذلك لمحض إرادته وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي أي سبع آيات هي المثاني وهي الفاتحة وهذا قول عمر وعلي وابن مسعود وأبي هريرة، والحسن وأبي العالية، ومجاهد، والضحاك، وسعيد بن جبير، وقتادة.
وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ الفاتحة وقال: «هي السبع المثاني»
. وقيل: سميت الفاتحة مثاني لأنها قسمان ثناء ودعاء، وأيضا النصف الأول منها حق الربوبية وهو الثناء والنصف الثاني حق العبودية وهو الدعاء وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) وهذا من عطف الكل على البعض فبعض الشيء مغاير لمجموعه فيكفي هذا القدر من المغايرة في حسن العطف. ونقل عن ابن عباس وطاوس أن السبع المثاني هو القرآن كله. وعلى هذا فهو عطف أحد الوصفين على الآخر مع وحدة ذات الموصوف وإنما حسن العطف لاختلاف اللفظين فإن القرآن سبعة أسباع كل سبع صحيفة وكله مثان أمر ونهي ووعد ووعيد، وحلال وحرام، وناسخ ومنسوخ، وحقيقة ومجاز، ومحكم ومتشابه، وخبر ما كان وما يكون، ومدحة لقوم ومذمة لقوم. وسبب نزول هذه الآية أن سبع قوافل أقبلت من بصرى وأذرعات ليهود قريظة والنضير في يوم واحد فيها أنواع من البز والطيب(1/584)
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
والجواهر، وسائر الأمتعة فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقوّينا بها ولأنفقناها في سبيل الله فقال الله تعالى لهم لقد أعطيتكم سبع آيات هي خير لكم من هذه القوافل السبع ويدل على صحة هذا قوله تعالى: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ أي لا تنظرن بالرغبة إلى ما أعطيناه رجالا من الكفرة من متاع الدنيا وزخارفها فإن ما في الدنيا بالنسبة إلى ما أعطيت مستحقر وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي لا تحزن لأجل عدم إيمانهم وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) أي تواضع لهم ولين جانبك لهم وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) أي إني منذر آت بالبينات فأنذرتكم مثل ما نزل بالذين اقتسموا طرق مكة يصدون الناس عن الإيمان ويقولون لمن سلكها: لا تغتروا بهذا الخارج فينا يدعي النبوة فإنه مجنون، وربما قالوا: ساحر، وربما قالوا: شاعر، وربما قالوا: كاهن. وسمّوا المقتسمين لأنهم اقتسموا هذه الطرق فأماتهم الله شر ميتة.
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) أي الذين جزأوا القرآن أجزاء فقالوا: سحر وشعر وكهانة ومفترى وأساطير الأولين. فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) يوم القيامة عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) في الدنيا من قول وفعل وترك فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ أي أظهر ما تؤمر به وافرق بين الحق والباطل وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) أي لا تبال بهم ولا تلتفت إلى لومهم إياك على إظهار الدعوة وهذا ليس بمنسوخ، لأن معنى هذا الإعراض ترك المبالاة بهم إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) أي الذين يبالغون في الاستهزاء بك، وفي إيذائك الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) ماذا يفعل بهم فأهلكهم الله في يوم وليلة وكانوا خمسة من أشراف قريش الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والحرث بن قيس، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث فأما الوليد المخزومي فمر بنبال، فأصاب النبل عرقا في عقبه فقطعه فمات، وأما العاص السهمي فدخلت في أخمصه شوكة فقال: لدغت لدغت، وانتفخت رجله حتى صارت كالرحا، فمات. وأما الحرث السهمي: فإنه أكل حوتا مالحا فأصابه العطش فشرب عليه الماء حتى انشق بطنه فمات. وأما الأسود بن المطلب: فرماه جبريل بورقة خضراء فذهب بصره ووجعته عينه، فجعل يضرب برأسه الجدار حتى هلك. وأما الأسود بن عبد يغوث: فإنه خرج في يوم شديد الحر فأصابه السموم، فاسود حتى عاد حبشيا فرجع إلى بيته فلم يفتحوا عليه الباب فنطع رأسه ببابه حتى مات وكلهم كانوا يقولون: قتلنا رب محمد صلّى الله عليه وسلّم. وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بحسب الطبيعة البشرية وإن كان جميع أموره صلّى الله عليه وسلّم مفوضا لربه بِما يَقُولُونَ (97) أي بسبب ما يقولون من كلمات الشرك والطعن في القرآن والاستهزاء به وبك فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي فافزع إلى الله تعالى فيما نابك من الغم بالتسبيح ملتبسا بحمده تعالى وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) أي من المصلين وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا حزّ به أمر فزع إلى الصلاة وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) أي الموت فإنه متيقن اللحوق بكل حي مخلوق أي واعبد ربك في زمان حياتك ولا تخل لحظة من لحظات الحياة عن هذه العبادة.(1/585)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10)
سورة النحل
وتسمى سورة النعم. مكية، إلا ثلاث آيات في آخرها، مائة وثمان وعشرون آية، ألف وثمانمائة وخمس وأربعون كلمة، سبعة آلاف وثمانمائة وأربعة وثلاثون حرفا
أَتى أَمْرُ اللَّهِ أي العذاب الموعود للكفرة. والحاصل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما أكثر من تهديدهم بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة ولم يروا شيئا نسبوه إلى الكذب فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله تعالى: أتى أمر الله أي قد حصل حكم الله بنزول العذاب من الأزل إلى الأبد وإنما لم يحصل المحكوم به لأنه تعالى خصص حصوله بوقت معين فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ أي لا تطلبوا حصوله قبل حضور ذلك الوقت ولما قالت الكفار: إنا سلمنا لك يا محمد صحة ما تقوله من أنه تعالى حكم بإنزال العذاب علينا إما في الدنيا وإما في الآخرة إلا أنا نعبد هذه الأصنام فإنها شفعاؤنا عند الله فهي تشفع لنا عنده فنتخلص من هذا العذاب المحكوم به بسبب شفاعة هذه الأصنام فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله تعالى: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) فنزه الله تعالى نفسه عن شركة الشركاء وأن يكون لأحد أن يشفع عنده إلا بإذنه ولما قال الكفار: إنه تعالى قضى على بعض عباده بالسراء وعلى آخرين بالضراء، ولكن كيف يمكنك يا محمد أن تعرف هذه الأسرار التي لا يعلمها إلا الله تعالى! وكيف صرت بحيث تعرف أسرار الله وأحكامه في ملكه وملكوته؟ فأجاب الله تعالى عن ذلك بقوله تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ أي جبريل ومن معه من الملائكة بِالرُّوحِ أي بكلام الله تعالى مِنْ أَمْرِهِ أي إن الروح هي أمره تعالى عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وهم الأنبياء أَنْ أَنْذِرُوا أي أعلموا الناس أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) بالإتيان بعبادتي.
وتقرير هذا الكلام أنه تعالى ينزل الملائكة على من يشاء من عبيده، ويأمر الله ذلك العبد الذي نزلت عليه الملائكة بأن يبلغ إلى سائر الخلق أن إله العالم واحد كلفهم بمعرفة التوحيد وبالعبادة له، وبين أنهم إن فعلوا ذلك فازوا بخيري الدنيا والآخرة، وإن تمردوا وقعوا في شر الدنيا والآخرة فبهذا الطريق صار ذلك العبد مخصوصا بهذه المعارف من دون سائر الخلق فقوله تعالى: لا إِلهَ إِلَّا أَنَا إشارة إلى الأحكام الأصولية وقوله تعالى: فَاتَّقُونِ إشارة إلى الأحكام(1/586)
الفروعية خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي أوجدهما على صفات خصصها بحكمته ولما احتج تعالى بخلق السموات والأرض على حدوثهما قال بعده: تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) فالقائلون بقدم السموات والأرض كأنهم أثبتوا لله شريكا في القدم، فنزه تعالى نفسه عن ذلك وبيّن أنه لا قديم إلا هو. فالمقصود من قوله أولا سبحانه وتعالى عما يشركون إبطال قول من يقول: إن الأصنام تشفع للكفار في دفع عقاب الله عنهم. والمقصود هاهنا إبطال قول من يقول أجسام السموات والأرض قديمة فنزه الله تعالى نفسه عن أن يشاركه غيره في القدم خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ منتنة فَإِذا هُوَ بعد قوة عقله وعظم فهمه خَصِيمٌ لربه مُبِينٌ (4) أي ظاهر الخصومة منكر لخالقه قائل من يحيي العظام وهي رميم وهذا إشارة إلى الاستدلال بأحوال نفس الإنسان على وجود الصانع الحكيم فإن الانتقال من الحالة الخسيسة إلى الحالة العالية لا يحصل إلا بتدبير مدبر حكيم عليم وَالْأَنْعامَ أي الإبل والبقر والغنم خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ أي ما يتدفأ به من اللباس المتخذة من الأصواف والأوبار والأشعار وَمَنافِعُ هي درها وركوبها والحراثة بها وغير ذلك وَمِنْها أي من لحومها تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ أي منظر حسن عند الناس حِينَ تُرِيحُونَ أي تردونها من مراعيها إلى مراحها بالعشي وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) أي تخرجونها من حظائرها إلى المرعى بالغداة وَتَحْمِلُ أي الإبل أَثْقالَكُمْ أي أمتعتكم إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ أي واصلين إليه على غير الإبل إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ أي إلا بتعب النفس أو إلا بذهاب نصف قوة البدن، والشق بكسر الشين وفتحها معناه المشقة والنصف إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7) ولذلك أصبغ عليكم هذه النعم الجليلة ويسّر لكم الأمور الشاقة وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً أي وخلق هذه الأشياء للركوب وللمنظر الحسن، واحتج بهذه الآية من يحرم لحوم الخيل وقالوا: لأن الله تعالى خصّ هذه بالركوب فعلمنا أنها مخلوقة للركوب لا للأكل وهو قول ابن عباس وإليه ذهب الحكم ومالك وأبو حنيفة، وذهب جماعة من أهل العلم إلى إباحة لحوم الخيل، وهو قول الحسن وشريح وعطاء وسعيد بن جبير وإليه ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق، واحتجوا على إباحة لحوم الخيل بما روي عن أسماء بنت أبي بكر الصدّيق قالت: نحرنا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرسا ونحن بالمدينة أخرجه البخاري ومسلم.
روى الشيخان عن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل.
وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8) أي ويخلق في الدنيا غير ما عدد من أصناف النعم.
روي عن ابن عباس أنه قال: إن عن يمين العرش نهرا من نور مثل السموات السبع والأرضين السبع والبحار السبعة يدخل فيه جبريل عليه السلام كل سحر، فيغتسل، فيزداد نورا(1/587)
يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)
إلى نور، وجمالا إلى جمال، وعظما إلى عظم، ثم ينتفض فيخلق الله تعالى من كل قطرة تقع من ريشة كذا وكذا ألف ملك فيدخل منهم كل يوم سبعون ألف ملك البيت المعمور، وسبعون ألف ملك الكعبة، لا يعودون إليه إلى يوم القيامة وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ أي وعلى الله بيان استقامة الطريق وهو الإسلام وَمِنْها أي من السبيل جائِرٌ
أي مائل عن الحق وهو أنواع الكفر والضلال وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9) إلى استقامة الطريق هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ ولكل حي مِنْهُ أي الماء شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ أي من الماء ما ينبت على الأرض فِيهِ أي في الشجر تُسِيمُونَ (10) ترعون مواشيكم
يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ أي بالماء الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ والإنسان خلق محتاجا إلى الغذاء وهو إما أن يكون من الحيوان أو من النبات والغذاء الحيواني إنما يحصل من أسامة الحيوانات، وأما الغذاء النباتي فقسمان:
حبوب، وفواكه. فالحبوب: هي ما به قوام بدن الإنسان. وأشرف الفواكه: الزيتون والنخيل والأعناب، أما الزيتون فلأنه فاكهة من وجه وإدام من وجه آخر لكثرة ما فيه من الدهن، ومنافع الأدهان كثيرة في الأكل والطلي واشتعال السرج، وأما امتياز النخيل والأعناب من سائر الفواكه فظاهر. وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ مما لا يمكن على الناس تفصيل أجناسها وأنواعها وصفاتها ومنافعها إِنَّ فِي ذلِكَ أي في إنزال الماء وإنبات ما ذكر لَآيَةً دالة على تفرده تعالى بالألوهية لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) ألا ترى أن الحبة الواحدة إذا وضعت في الأرض ومر عليها مقدار من الزمان مع رطوبة الأرض، فإنها تنتفخ وينشق أعلاها فيصعد منه شجرة إلى الهواء وأسفلها تغوص منه عروق في الأرض، ثم ينمو الأعلى ويقوى وتخرج منه الأوراق والأزهار والأكمام والثمار المشتملة على أجسام مختلفة الطباع والطعوم والألوان والروائح والأشكال والمنافع ومن تفكر في ذلك علم أن من هذه أفعاله وآثاره لا يمكن أن يشبهه أحد في شيء من صفات الكمال وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ.
قرأ ابن عامر «والشمس والقمر والنجوم» بالرفع على الابتداء و «مسخرات» خبرها. وقرأ حفص عن عاصم و «النجوم» بالرفع. والباقون بالنصب في الجميع و «مسخرات» حال منه، أي أنه تعالى سخر للناس هذه الأشياء وجعلها موافقة لمصالحهم حال كونها مسخرات لله تعالى بِأَمْرِهِ أي بإرادته كيف شاء إِنَّ فِي ذلِكَ أي تسخير الليل وما بعده لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) أي يعلمون أن تسخيرها من الله تعالى وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي وسخر لكم ما خلق لكم في الأرض من حيوان ونبات مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ أي اختلاف ما في الأرض لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) أي يتعظون فإن اختلاف طبائع ما في الأرض وأشكاله مع اتحاد مواده إنما هو بصنع حكيم عليم قادر مختار منزه عن كونه جسمانيا وذلك هو الله تعالى وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ ومعنى تسخير الله تعالى إياها للخلق جعلها بحيث يتمكن الناس من(1/588)
الانتفاع بها إما بالركوب أو بالغوص لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً أي سمكا طَرِيًّا والتعبير عن السمك باللحم مع كونه حيوانا لانحصار الانتفاع به في الأكل ووصفه بالطراوة للإشعار بلطافته والتنبيه على طلب المسارعة إلى أكله لسرعة فساده وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً أي لؤلؤا ومرجانا تَلْبَسُونَها أي تلبسها نساؤكم لأجلكم فإن زينة النساء بالحلي إنما هو لأجل الرجال فهي حلية لكم بهذا الاعتبار وَتَرَى الْفُلْكَ أي تبصر السفن مَواخِرَ فِيهِ أي جواري في البحر مقبلة ومدبرة، ومعترضة بريح واحدة تشقه بحيزومها وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي لتركبوها للوصول إلى البلدان الشاسعة فتطلبوا الرزق بالتجارة وغيرها من فضل الله تعالى وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) أي تعرفون حقوق نعمه الجليلة فتقومون بأدائها بالطاعة والتوحيد وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أي جعل فيها جبالا ثوابت أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي كراهة أن تميل بكم الأرض وتضطرب وَأَنْهاراً أي جعل في الأرض أنهارا جارية لمنافعكم وَسُبُلًا أي جعل فيها طرقا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) أي لكي تهتدوا بها في أسفاركم إلى مقاصدكم وَعَلاماتٍ أي جعل في الأرض أمارات الطرق التي يستدل بها المارون: وهي الجبال والرياح والتراب فإن جماعة يشمون التراب ويتعرفون بذلك الشم الطرق وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) بالليل في البراري والبحار.
وقال السدي: هو الثريا والفرقدان وبنات نعش والجدي أَفَمَنْ يَخْلُقُ هذه الأشياء وهو الله تعالى كَمَنْ لا يَخْلُقُ شيئا أصلا وهو الأصنام أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) أي ألا تلاحظون فلا تتذكرون فإن هذا القدر لا يحتاج إلى تفكر ولا إلى شيء سوى التذكر فيكفي فيه أن تتنبهوا على ما في عقولكم من أن العبادة لا تليق إلا بالمنعم الأعظم، فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بعبادة من لا يستحق العبادة ويترك عبادة من يستحقها وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها أي إنكم لا تعرفونها على سبيل التمام وإذا لم تعرفوها امتنع منكم القيام بشكرها على سبيل التمام ومما يدل قطعا على أن عقول الخلق قاصرة عن معرفة أقسام نعم الله تعالى أن كل جزء من أجزاء البدن الإنساني لو ظهر فيه أدنى خلل لتنغص العيش على الإنسان ولتمنى أن ينفق كل الدنيا حتى يزول عنه ذلك الخلل، ثم إنه تعالى يدبر أحوال بدن الإنسان على الوجه الأكمل مع أن الإنسان لا علم له بوجود ذلك الجزء ولا بكيفية مصالحه فليكن هذا المثال حاضرا في ذهنك، ثم تأمل في جميع ما خلق الله في هذا العالم من المعادن والنبات والحيوان وجعلها مهيأة لانتفاعك بها حتى تعلم أن عقول الخلق تفنى في معرفة حكمة الرحمن في خلق الإنسان فضلا عن سائر وجوه الإحسان، ثم الطريق إلى الشكر أن يشكر الله تعالى على جميع نعمه مفصلها ومجملها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ للتقصير الصادر عنكم في القيام بشكر نعمه رَحِيمٌ (18) بكم حيث لم يقطع نعمه عنكم بسبب تقصيركم وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ أي تضمرونه من العقائد والأعمال وَما تُعْلِنُونَ (19) أي تظهرونه منهما وهذه(1/589)
أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)
الأصنام جمادات لا معرفة لها بشيء أصلا فكيف تحسن عبادتها وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً أي والآلهة الذين يعبدهم الكفار من دون الله لا يقدرون أن يخلقوا شيئا.
قرأ حفص عن عاصم «يسرون» ، و «يعلنون» ، و «يدعون» بالياء على الغيبة. لكن نقل عن السمين أن قراءة الياء التحتية شاذة في الفعلين الأولين. وقرأ أبو بكر عن عاصم «يدعون» خاصة بالياء على المغايبة. وقرئ على صيغة المبني للمفعول. وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أي أن الأصنام مخلوقة لله تعالى منحوتة من الحجارة وغيرها
أَمُوتُ أي جمادات لا روح فيها غَيْرُ أَحْياءٍ أي لا تأتيها الحياة أصلا وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) أي وما يشعر أولئك الآلهة متى يبعث عبدتهم من القبور وفي هذا تهكم بالمشركين في أن آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم فكيف وقت جزائهم على عبادتهم.
وقيل: المعنى أن هذه الأصنام لا تعرف متى يبعثها الله تعالى.
قال ابن عباس: إن الله تعالى يبعث الأصنام ولها أرواح ومعها شياطينها فيؤمر بها إلى النار إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا يشاركه شيء في شيء فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ولا يرغبون في حصول الثواب ولا يرهبون من الوقوع في العقاب قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ لوحدانية الله تعالى ولكل كلام يخالف قولهم وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) عن الرجوع من الباطل إلى الحق لا جَرَمَ أي حقا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ من قلوبهم وَما يُعْلِنُونَ من استكبارهم إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) على خلقه فما بالك بالمستكبرين على التوحيد واتباع الرسول صلّى الله عليه وسلّم وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ أي وإذا قال وفود الحاج لأولئك المنكرين المستكبرين عمّا أنزل الله تعالى على محمد عليه السلام قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) أي هذا الذي تذكرون أنه منزل من ربكم هو أكاذيب الأولين ليس فيه شيء من العلوم والحقائق لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ أي آثامهم الخاصة بهم وهي آثام ضلالهم كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ أي لم يخفف من عقابهم شيء يوم القيامة بمصيبة أصابتهم في الدنيا فقوله: «ليحملوا» متعلق «بقالوا» ف «اللام» للعاقبة. وقوله: «يوم القيامة» ظرف «ليحملوا» .
وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ أي وليحملوا أيضا من جنس آثام من ضل بإضلالهم أي فيحصل للرؤساء مثل أوزار الأتباع بِغَيْرِ عِلْمٍ أي إن هؤلاء الرؤساء يقدمون على الإضلال جهلا منهم بما يستحقونه من العذاب الشديد في مقابلته أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25) أي بئس ما يحملونه من الذنوب حملهم هذا قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ أي قد رتبوا منصوبات ليمكروا بها أنبياء الله تعالى فأهلكهم الله تعالى وجعل هلاكهم مثل هلاك قوم بنوا بنيانا شديدا ودعّموه فانهدم ذلك البنيان وسقط عليهم سقف بنيانهم، فأهلكهم. شبهت حال أولئك الماكرين في تسويتهم المكايد وفي إبطاله تعالى تلك الحيل،(1/590)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
وجعله تعالى إياها أسبابا لهلاكهم بحال قوم بنوا بنيانا وعمدوه بالأساطين فضعضعت تلك الأساطين، فسقط عليهم السقف، فهلكوا. فهو مثل ضربه الله تعالى لمن مكر
بآخر فأهلكه الله بمكره ومنه المثل السائر على ألسنة الناس من حفر لأخيه قليبا وقع فيه قريبا. وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) أي إنهم اعتمدوا على منصوباتهم ثم تولد البلاء منها بأعيانها فهؤلاء الماكرون القائلون: إن القرآن أساطير الأولين سيأتيهم العذاب العاجل من جهة لا تخطر ببالهم مثل ما أتاهم ثُمَّ الله تعالى يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ أي يذل الكفار بعذاب وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ أي يقول الله لهم تفضيحا أين شركائي في زعمكم الذين كنتم تخاصمون الأنبياء والمؤمنين في شأن الشركاء حين بينوا لكم بطلانها. وقرأ نافع «تشاقون» بكسر النون قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي يقول المؤمنون الذين أوتوا علما بدلائل التوحيد حين يرون خزي الكفار وهم في الموقف: إِنَّ الْخِزْيَ أي الفضيحة الْيَوْمَ وَالسُّوءَ أي العذاب عَلَى الْكافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ أي عزرائيل وأعوانه ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ أي مستمرين على الكفار فإنهم ظلموا أنفسهم حيث عرضوها للعذاب المخلد. وقرأ حمزة «يتوفاهم» بالياء مع الإمالة في الموضعين فَأَلْقَوُا السَّلَمَ أي أسلموا وأقروا لله بالعبودية عند الموت قائلين: ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ أي شرك في زعمنا فتقول الملائكة بَلى كنتم تعملون أعظم الشرك إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) من الشرك فلا فائدة لكم في إنكاركم فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ أي ليدخل كل صنف من الكفرة في طبقة هو موعود بها. والمراد دخولهم فيها في وقته فإن ذلك تخويف عظيم وإن تراخى المخوف به لا دخول القبر الذي هو حفرة من حفر النيران خالِدِينَ فِيها أي دركات جهنم لا يخرجون منها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) عن قبول التوحيد وسائر ما أتت به الأنبياء وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أي خافوا الشرك وأيقنوا أنه لا إله إلا الله محمد رسول الله ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً أي أنزل خيرا.
قال المفسرون: كان في أيام الموسم يأتي الرجل مكة فيسأل المشركين عن محمد وأمره فيقولون: إنه ساحر وكاهن وكذاب. فيأتي المؤمنين ويسألهم عن محمد وما أنزل الله عليه.
فيقولون خيرا. أي أنزل خيرا والذي قالوه من الجواب موصوف بأنه خير لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا أي قالوا: لا إله إلا الله مع الاعتقاد الحق فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ أي ثناء ورفعة وتعظيم، وهذه الجملة بدل من قوله: خيرا أو تفسيرا له وذلك أن الخير هو الوحي الذي أنزل الله تعالى فيه قوله من أحسن في الدنيا بالطاعة فله حسنة في الدنيا وحسنة في الآخرة وقوله تعالى: «في هذه الدنيا» متعلق بقوله: «حسنة» . وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ مما حصل لهم في الدنيا، وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) والمخصوص بالمدح إما محذوف تقديره دار الآخرة أو هي دار الدنيا، لأن المتقين يتزودون فيها للآخرة
وأما قوله تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ وهذه تدل على القصور والبساتين وعلى الدوام(1/591)
يَدْخُلُونَها يوم القيامة صفة لجنات أو حال تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي أنهار الخمر والماء والعسل واللبن وهذه تدل على أن هناك أبنية يرتفعون عليها وتكون الأنهار جارية من تحتهم لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ من أنواع المشتهيات والمتمنيات وهذه الكلمة تدل على حصول كل الخيرات والسعادات كَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء الأوفى يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) أي كل من يتقى من الشرك والمعاصي الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ أي قبضتهم طَيِّبِينَ أي طاهرين من الكفر مبرئين عن العلائق الجسمانية متوجهين إلى حضرة القدس فرحين ببشارة الملائكة إياهم بالجنة حتى صاروا كأنهم مشاهدون لها ومن هذا حاله لا يتألم بالموت يَقُولُونَ أي الملائكة عند الموت وهذه حال من الملائكة وطيبين حال من المفعول سَلامٌ عَلَيْكُمْ أي لا يلحقكم مكروه. وعن محمد بن كعب القرظي قال: إذا أشرف العبد المؤمن على الموت جاءه ملك فقال: السلام عليك يا ولي الله الله يقرأ عليك السلام ويبشرك بالجنة ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أي جنات عدن وهي خاصة لكم كأنكم فيها، والمراد دخولهم فيها في وقته فإن ذلك بشارة عظيمة، وإن تراخى المبشر به لا دخول القبر الذي هو روضة من رياض الجنة فإن الملائكة لما بشروهم بالجنة صارت الجنة كأنها دارهم وكأنهم فيها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) أي بسبب ثباتكم على التقوى والطاعة
هلْ يَنْظُرُونَ أي ما ينتظر الكفار الذين طعنوا في القرآن وأنكروا النبوة
إلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ لقبض أرواحهم بالتهديد
أوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ أي عذاب ربك في الدنيا بهلاكهم
كذلِكَ أي مثل فعل هؤلاء من الشرك والتكذيب والاستهزاء
فعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم فأصابهم العذاب المعجل
وما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ بذلك فإنه أنزل بهم ما استحقوه بكفرهم
ولكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) بأن كذبوا الرسل فاستحقوا ما نزل بهم
فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا أي عقاب سيئات أعمالهم
وَحاقَ أي وأحاط بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34) أي عقاب استهزائهم من جوانبهم
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أي من أهل مكة للرسول صلّى الله عليه وسلّم تكذيبا له وطعنا في الرسالة لَوْ شاءَ اللَّهُ عدم عبادتنا لشيء غيره ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا الذين نقتدي بهم في ديننا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ من البحيرة والسائبة، والوصيلة والحامي وإشراكنا بالله الأوثان، وتحريمنا الأنعام، والحرث بمشيئته تعالى فهو راض بذلك، وحينئذ فلا فائدة في مجيئك إلينا بالأمر والنهي وفي إرسالك كَذلِكَ أي مثل ذلك الفعل الشنيع فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم فأشركوا بالله وحرموا حله وردوا رسله، وجادلوهم بالباطل حين نهوهم عن الخطأ، وهدوهم إلى الحق فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) أي ليست وظيفة الرسل إلا تبليغ الرسالة تبليغا واضحا فهو واجب عليهم، وأما حصول الإيمان فلا يتعلق بالرسول وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ من الأمم السالفة رَسُولًا خاصا بهم كما بعثناك إلى قومك أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحدوه وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ أي اجتنبوا عبادة ما تعبدون من دون الله، أو اجتنبوا طاعة الشيطان(1/592)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
في دعائه لكم إلى الضلالة فَمِنْهُمْ أي من تلك الأمم مَنْ هَدَى اللَّهُ إلى الحق الذي هو عبادته وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ أي ثبتت عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فلم يجب الرسول إلى الإيمان فضل عن الحق وعمي عن الصدق، ووقع في الكفر فَسِيرُوا يا معشر كفار قريش فِي الْأَرْضِ أي فإن كنتم في شك من أخبار الرسل فسيروا في الأرض فَانْظُرُوا في أكنافها واعتبروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) بالرسل من عاد وثمود وأمثالهم لتعرفوا أن العذاب نازل بكم كما نزل بهم إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ أي إن تطلب يا سيد الرسل توحيد كفار قريش بجهدك فلا تقدر على ذلك فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ أي لأنه تعالى لا يخلق الهداية قسرا فيمن يخلق فيه الضلالة لسوء اختياره. وقرئ «لا يهدي» بالبناء للمفعول وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37) أي وليس لهم أحد يعينهم على مطلوبهم في الدنيا والآخرة من دفع العذاب عنهم وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي حلف الذين أشركوا غاية إيمانهم وإذا حلف الرجل بالله فقد حلف جهد يمينه فإن الكفار كانوا يحلفون بآبائهم وآلهتهم فإذا كان الأمر عظيما حلفوا بالله وهذا عطف على قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إعلاما بأنهم كما أنكروا التوحيد أنكروا البعث مقسمين لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ فإنهم
يجدون في عقولهم أن الشيء إذا صار عدما محضا لا يعود بعينه، بل العائد يكون شيئا آخر ولقد رد الله تعالى عليهم أبلغ رد بقوله بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا أي بلى يبعثهم الله بالبعث وعدا حقا لا خلف فيه ثابتا على الله فينجزه لامتناع الخلف في وعده وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ أي أهل مكة لا يَعْلَمُونَ (38) أنهم يبعثون لقصور نظرهم بالمألوف فيتوهمون امتناع البعث ولجهلهم بشئون الله تعالى من العلم والقدرة والحكمة وغيرها من صفات الكمال لِيُبَيِّنَ لَهُمُ أي بلى يبعثهم ليبين لمن يموت الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ من أمور البعث وغيرها من أمور الدين فيثيب المحق من المؤمنين ويعذب المبطل من الكافرين وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله بالإشراك وإنكار البعث والنبوة يوم القيامة أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39) فيما أقسموا فيه وفي كل ما يقولون إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ أي شيء كان إِذا أَرَدْناهُ أي وقت إرادتنا لوجوده أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ أي أحدث وهو خبر المبتدأ فَيَكُونُ (40) أي فيحدث عقب ذلك من غير توقف، وهذا تمثيل لنفي الكلام والتعب فليس هناك قول ولا مقول له ولا أمر ولا مأمور بل هو تمثيل لسهولة حصول المقدورات عند تعلق إرادته تعالى بها، وتصوير لسرعة حدوثها، ولكن العباد خوطبوا بذلك على قدر عقولهم، ولو أراد الله خلق الدنيا وما فيها في قدر لمح البصر لقدر على ذلك، فالمعنى إنما إيجادنا لشيء عند تعلق إرادتنا به أن نوجده في أسرع ما يكون
وَالَّذِينَ هاجَرُوا من مكة إلى المدينة فِي اللَّهِ أي لإظهار دينه مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً أي أرضا كريمة آمنة وهي المدينة وهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذين أخرجهم أهل مكة من ديارهم فهاجروا إلى الحبشة ثم إلى المدينة وعلى هذا يكون نزول الآية في أصحاب الهجرتين فيكون نزولها في المدينة بين الهجرتين.(1/593)
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في ستة من الصحابة صهيب وبلال، وعمار، وخباب، وعابس وجبير أخذهم المشركون بمكة يعذبونهم ليرجعوا عن الإسلام إلى الكفر فأما بلال فيخرجونه إلى بطحاء مكة في شدة الحر ويشدونه ويجعلون على صدره الحجارة وهو يقول: أحد أحد، فاشتراه منهم أبو بكر وأعتقه، وأما صهيب فقال: أنا رجل كبير إن كنت معكم لم أنفعكم وإن كنت عليكم لم أضركم، فافتدى منهم وهاجر، وأما سائرهم فقد قالوا:
بعض ما أراد أهل مكة من كلمة الكفر فتركوا عذابهم، ثم هاجروا، فبسبب هجرتهم ظهرت قوة الإسلام كما أن بنصرة الأنصار قويت شوكتهم فلذلك غلبوا على أهل مكة وعلى العرب قاطبة وعلى أهل المشرق والمغرب، وعن عمر أنه كان إذا أعطى رجلا من المهاجرين عطاء قال: خذ بارك الله لك فيه هذا ما وعدك الله في الدنيا وما ادخر لك في الآخرة أكبر وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ أي وللأجر الكائن في الآخرة وهو النعيم الكائن في الجنة أعظم من الأجر الكائن في الدنيا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) أي لو علم الكفار أن الله تعالى يجمع لهؤلاء المهاجرين خير الدارين لوافقوهم في الدين الَّذِينَ صَبَرُوا على أذية الكفار ومفارقة الأهل والوطن وعلى المجاهدة وبذل الأموال والأنفس في سبيل الله وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) أي إليه خاصة يفوّضون الأمر كله معرضين عما سواه وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ يا أكرم الرسل إلى الأمم من طوائف البشر إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ بواسطة الملائكة وهذا رد لقريش حين قالوا: الله أعلى وأعظم من أن يكون رسوله واحدا من البشر، بل لو أراد بعثة رسول إلينا لبعث ملكا. فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ أي أهل العلم بأخبار الماضين فإذا سألوهم فلا بد أن يجيبوا بأن الرسل الذين أرسلوا إليهم كانوا بشرا فإذا أخبروهم بذلك زالت الشبهة من قلوبهم إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) أن الرسل من البشر بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ متعلق بمحذوف على أنه صفة لرجالا أي رجالا ملتبسين بالمعجزات الدالة على صدق من يدعي الرسالة وبالتكاليف التي يبلغونها من الله تعالى إلى العباد، أو متعلق بيوحى، أي يوحى إليهم بالحجج الواضحة وبالكتب، أو متعلق بذلك، أي فاسألوا أهل العلم بالحجج وبالكتب القديمة من التوراة والإنجيل، أو متعلق بلا تعلمون أي إن كنتم لا تعلمون الله لم يرسل الرسل إلا إنسيا بالعلامات وبخبر كتب الأولين فاسألوا كل من يذكر بعلم وتحقيق، واسألوا أهل الكتب الذين يعرفون معاني كتب الله تعالى وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ أي القرآن سمي ذكرا، لأن فيه تنبيها للغافلين لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ كافة ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ في ذلك الذكر من الأحكام والشرائع وغير ذلك من أحوال الأمم المهلكة بأفانين العذاب على حسب أعمالهم الموجبة لذلك وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) فيما نزل إليهم فيتنبهوا لما فيه من العبر، ويحترزوا عما يؤدي إلى مثل ما أصاب الأولين من العذاب أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أي سعوا من أهل مكة ومن حول المدينة في إيذاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه على سبيل الخفية أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ كما خسف بقارون(1/594)
وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
وأصحابه أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أي في حال غفلتهم فيهلكهم بغتة كما فعل بقوم لوط أَوْ يَأْخُذَهُمْ بالعقوبة فِي تَقَلُّبِهِمْ أي في أسفارهم وحركتهم إقبالا وإدبارا فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أي وهم لا يعجزون الله بسبب سفرهم في البلاد البعيدة بل يدركهم الله حيث كانوا أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ أي على أن ينقص شيئا بعد شيء في أموالهم وأنفسهم حتى يهلكوا، أو على مخافة من العذاب بأن يهلك قوما قبلهم فيتخوفوا فيأتيهم العذاب وهم متخوفون فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) حيث لا يعاجلكم بالعقوبة ويحلم عنكم مع استحقاقكم لها أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ أي ألم ينظر أهل مكة ولم يروا بأبصارهم إلى جسم قائم له ظل من جبل وشجر وبناء يرجع ظلاله من المشرق ومن المغرب واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة الساجد وَهُمْ داخِرُونَ (48) أي منقادون لقدرة الله تعالى وتدبيره ولما وصفت الظلال بالانقياد لأمره تعالى أشبهت العقلاء، فعبر عنها بلفظ «من يعقل» . وقرأ حمزة والكسائي «تروا» بالتاء على الخطاب. وقرأ أبو عمرو وحده «تتفيؤا» بالتاء. وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ من الشمس والقمر والنجوم وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ عطف على «ما في السموات» .
ولما بيّن الله تعالى أولا أن الجمادات بأسرها منقادة لله تعالى. بيّن بهذه الآية أن الحيوانات بأسرها منقادة لله تعالى فأخسها الدواب وأشرفها الملائكة. وذلك دليل على أن كل المخلوقات منقادة لله تعالى. وَهُمْ أي الملائكة مع علو شأنهم لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) عن عبادته تعالى يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وهذه الجملة بيان لقوله: «لا يستكبرون» أو حال من ضميره، أي خائفين لمالك أمرهم خوف هيبة وإجلال وهو فوقهم بالقهر وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50) به من الطاعات والتدبيرات فبواطنهم وظواهرهم مبرأة من الأخلاق الفاسدة والأفعال الباطلة
وَقالَ اللَّهُ لجميع المكلفين: لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ أي لا تعبدوا الله والأصنام ولما بين الله تعالى أولا أن كل ما سوى الله سواء كان من عالم الأرواح، أو من عالم الأجسام فهو منقاد خاضع لجلال الله تعالى أتبعه في هذه الآية بالنهي عن الشرك. والمقصود من التكرير تأكيد التنفير عن الإشراك بالله، وتكميل وقوف العقل على ما فيه من القبح إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ أي لما دلت الدلائل السابقة على أنه لا بد للعالم من الإله وقد ثبت أن وجود الإلهين محال ثبت أنه لا إله إلا الواحد الأحد فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) أي إن كنتم راهبين شيئا فارهبوني لا غير فإني ذلك الواحد الذي يسجد له ما في السموات والأرض ولما كان الإله واحدا والواجب لذاته واحدا كان كل ما سواه حاصلا بتخليقه وإيجاده فثبت أن تكون أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، لأن أفعال العباد من جملة ما في السموات والأرض ووجب أن يكون جميع المخلوقات في ملكه وتصرفه وتحت قهره. وذلك قوله تعالى:
وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خلقا وملكا وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أي لله تعالى الطاعة دائما فليس من أحد يطاع إلا انقطعت تلك الطاعة بالموت أو بسبب في حال الحياة إلا الله تعالى فإن طاعته واجبة(1/595)
أبدا، وفي الآية دقيقة أخرى فمعنى قوله تعالى: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أن كل ما سوى الله محتاج في انقلابه من العدم إلى الوجود ومن الوجود إلى العدم إلى مخصص، ومعنى قوله تعالى: وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أن هذا الاحتياج إلى المرجح حاصل دائما أبدا، لأن الممكن حال بقائه لا يستغني عن المرجح، لأن علة الحاجة هي الإمكان وهو من لوازم الماهية فوجب أن تكون الحاجة حاصلة حال حدوثها وحال بقائها أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) أي إنكم بعد ما عرفتم أن إله العالم واحد، وأن كل ما سواه محتاج إليه في وقت حدوثه، وفي وقت دوامه فبعد العلم بهذه الأصول كيف يعقل أن يكون للإنسان رغبة في غير الله أو رهبة من غير الله تعالى وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ أي أيّ شيء يصاحبكم من نعمة أية نعمة كانت فهي من الله فيجب على العاقل أن لا يخاف إلا الله وأن لا يشكر إلا الله ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ كالأسقام فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) أي ترفعون أصواتكم بالاستغاثة في كشفه لا إلى غيره ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ أي إذا فريق كافر وهم أنتم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) غيره وهذا ضلال كامل لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ أي إن عاقبة تلك التضرعات ما كانت إلا كفران نعمة إزالة المكروه عنهم. وقيل: إن هذه «اللام» لام الأمر الوارد للتهديد، كقوله تعالى: فَتَمَتَّعُوا أي عيشوا في الكفر فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) عاقبة أمركم وما ينزل بكم من العذاب وَيَجْعَلُونَ أي المشركون لِما لا يَعْلَمُونَ أي للأصنام التي لا يعلم المشركون أنها تضر من حيث عبادتها ولا تنفع نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ من الزرع والأنعام وغيرهما تقربا إليها تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ يوم القيامة سؤال توبيخ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) أي تكذبون على الله من أنه أمركم بذلك الجعل وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ أي يقول خزاعة وكنانة الملائكة بنات الله سُبْحانَهُ نزه الله ذاته عن نسبة الولد إليه وأمر الله تعالى الخلق بالتعجب من جراءتهم على وصف الملائكة بالأنوثة ثم نسبتها بالولدية إلى الله تعالى وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) ويجعلون لأنفسهم ما يختارون من البنين وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى أي والحال أنه إذا أخبر بولادة الأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا أي صار وجهه متغيرا تغير معتم من الحياء من الناس وَهُوَ كَظِيمٌ (58) أي ممتلئ غما وحزنا وغيظا من زوجته فكيف ينسب البنات إليه تعالى! وجملة «وإذا بشر» حال من الواو في «ويجعلون» . يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ أي يختفي من قومه مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أي من أجل كراهية الأنثى التي أخبر
بها من حيث كونها لا تكتسب، وكونها يخاف عليها الزنا، وكان الرجل في الجاهلية إذا ظهر آثار الطلق بامرأته اختفى عن القوم إلى أن يعلم ما يولد له فإن كان ذكرا فرح به، وإن كان أنثى حزن ولم يظهر للناس أياما يدبر فيها ماذا يصنع بها، وذلك قوله تعالى:
أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أي أيحفظ ما بشر به من الأنثى مع رضاه بذل نفسه أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أي أم يخفيه في التراب بالوأد فالعرب كانوا مختلفين في قتل البنات فمنهم من يحفر الحفيرة ويدفنها فيها إلى أن تموت، ومنهم من يرميها من شاهق جبل، ومنهم من يغرقها، ومنهم من يذبحها وهم(1/596)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
كانوا يفعلون ذلك تارة للغيرة والحمية وتارة خوفا من الفقر ولزوم النفقة أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) حكمهم هذا حيث يجعلون له تعالى ما عادته عندهم حقارة. والحال أنهم يتباعدون عنه لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي بالبعث بعد الموت مَثَلُ السَّوْءِ أي الصفة القبيحة وهي احتياجهم إلى الولد ليقوم مقامهم عند موتهم وللاستعلاء به وكراهتهم الإناث خوف الفقر والعار مع احتياجهم إليهن للنكاح وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي الصفة المقدسة وهي صفة الألوهية المنزهة عن صفات المخلوقين وعن الولد وَهُوَ الْعَزِيزُ أي المنفرد بكمال القدرة الْحَكِيمُ (60) أي الذي يفعل ما يفعل بالحكمة البالغة
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها أي الأرض مِنْ دَابَّةٍ أي لو يؤاخذهم الله بما كسبوا من كفر ومعصية لا يبقى لهم نسل فيلزم أن لا يبقى في العالم أحد من الناس فحينئذ لا يبقى في الأرض أحد من الدواب أيضا، لأنها مخلوقة لمنافع البشر وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي معين عند الله تعالى لأعمارهم ليتوالدوا فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ عن ذلك الأجل ساعَةً أي فذة وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وإنما ذكر الاستقدام مع أنه لا يتصور عند مجيء الأجل مبالغة في بيان عدم الاستئخار بنظمه في سلك ما يمتنع وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ أي وينسبون إليه تعالى البنات التي يكرهونها لأنفسهم وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى بدل من الكذب أي يصفون أنفسهم بأنهم فازوا برضوان الله تعالى بسبب إثبات البنات له تعالى وبأنهم على الدين الحق لا جَرَمَ أي ثبت أَنَّ لَهُمُ النَّارَ التي ليس وراء عذابها عذاب وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) أي متروكون في النار. وقرأ نافع وقتيبة عن الكسائي بكسر الراء أي مفرطين على أنفسهم في الذنوب تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا رسلا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فدعوهم إلى الحق فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ القبيحة فرأوها حسنة فكذبوا الرسل فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ أي فالشيطان متول أمورهم في الدنيا بإغوائهم وقرينهم في النار وَلَهُمْ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ (63) هو عذاب النار وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ أي القرآن إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ أي إلا لتبين للناس بواسطة بيانات القرآن الأشياء التي اختلفوا فيها من التوحيد والشرك والجبر والقدر وأحوال المعاد والأحكام كتحريم الميتة وتحليل نحو البحيرة وَهُدىً وَرَحْمَةً أي وللهداية من الضلالة وللرحمة من العذاب لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) بالقرآن لأنهم المغتنمون آثاره وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي والله خلق السماء على وجه ينزل منه الماء، ويصير ذلك الماء سببا لنبات الزرع والشجر ولخروج النور والثمر إِنَّ فِي ذلِكَ أي في إنزال الماء وإحياء الأرض اليابسة لَآيَةً دالة على وحدته تعالى وعلمه وقدرته وحكمته لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) هذه المواعظ سماع تفكر، لأن من لم يسمع بقلبه فكأنه أصم وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً عظيمة إذا تفكرتم فيها نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ أي الأنعام.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي «نسقيكم» بضم النون.(1/597)
والباقون بالفتح. مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ أي روث في الكرش وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً أي لا يخالطه الفرث ولا الدم وقوله: «لبنا» مفعول ثان. وقوله: «من بين» حال من «ما» التي للتبعيض، أو للابتداء، أو من لبنا. وعن ابن عباس أنه قال: إذا استقر العلف في الكرش صار أسفله فرثا وأعلاه دما، وأوسطه لبنا فيجري الدم في العروق، واللبن في الضرع، ويبقى الفرث كما هو سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) أي جاريا في حلوقهم لذيذا فلا يغص أحد باللبن وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ أي ونسقيكم من عصير ثمرات النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً أي خمرا وَرِزْقاً حَسَناً كالدبس والخل، والتمر والزبيب والله تعالى ذكر ما في هذه الأشياء من المنافع، وخاطب بها المشركين والخمر من أشربتهم فهي منفعة في حقهم، ثم نبه في هذه الآية على تحريمها، لأنه ميّز بينهما وبين الرزق الحسن في الذكر، فوجب أن لا تكون الخمر رزقا حسنا والخمر يكون حسنا بحسب الشهوة ولا يكون حسنا بحسب الشريعة، وهذه الآية جامعة بين العتاب والمنة، وهذا إذا كانت الخمر محرمة قبل نزولها وإن كانت سابقة النزول على تحريم الخمر فهي دالة على كراهتها إِنَّ فِي ذلِكَ أي في إخراج اللبن من بين الروث والدم وفي إخراج الخمر والرزق الحسن من الثمرات لَآيَةً دالة على قدرته تعالى لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) أي يستعملون عقولهم بالتأمل في الآيات فيعلمون أن هذه الأحوال لا يقدر عليها إلا الله تعالى وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أي ألهم ربك النحل: أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً أي أوكارا وَمِنَ الشَّجَرِ أي مما يوافق مصالحك ويليق بك وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) أي مما يرفعه الناس ويبنونه لك، أي إن الله قدّر في أنفس النحل الأعمال العجيبة التي تعجز عنها العقلاء من البشر، وذلك أن النحل تبني بيوتا على شكل مسدس من أضلاع متساوية لا يزيد بعضها على بعض بمجرد طباعها ولو كانت البيوت مدورة أو مثلثة أو مربعة أو غير ذلك من الأشكال لكان فيها فرج خالية ضائعة. فإلهام ذلك الحيوان الضعيف بهذه الحكمة الخفية والدقيقة اللطيفة من الأعاجيب، والعقلاء من البشر لا يمكنهم بناء مثل تلك البيوت إلا بآلات مثل المسطر والفرجار. ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي من كل ثمرة تشتهيها مرها وحلوها فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ أي فإذا أكلتها فاسلكي راجعة إلى بيوتك سبل ربك ذُلُلًا حال من السبل أي مسخرة لك أو من الضمير في «اسلكي» ، أي فاسلكي منقادة لما أمرت به، ولذا يقسم يعسوبها أعمالها بينها فبعض يعمل الشمع وبعض يعمل العسل وبعض يستقي الماء ويصبه في البيت، وبعض يبني البيوت. يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ أي عسل مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ من أبيض وأسود، وأصفر وأحمر على قدر ما تأكل من الثمار والأزهار، أو بحسب اختلاف الفصل أو سن النحل فيستحيل المأكول في بطونها عسلا بقدرة الله تعالى، ثم يخرج من أفواهها يسيل كاللعاب فِيهِ أي في ذلك الشراب شِفاءٌ لِلنَّاسِ من الأوجاع لا سيما البلغمية فإنه فيها عظيم النفع.
وعن ابن مسعود: العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور فعليكم بالشفاءين(1/598)
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)
العسل والقرآن. إِنَّ فِي ذلِكَ أي في اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة وفي اهتدائها إلى جمع الأجزاء العسلية من أطراف الأشجار والأوراق لَآيَةً أي لعبرة لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) فإن من تفكّر في شؤون النحل جزم قطعا بأن لها خالقا قادرا حكيما يلهمها ذلك وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ فإن خالق الأبدان هو الله تعالى ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ أي يقبض أرواحكم عند انقضاء آجالكم فإن الحياة والموت إنما حصلا بتخليق الله تعالى وبتقديره وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أي أحقره وهو الهرم.
قال العلماء: عمر الإنسان له أربع مراتب:
أولها: سن النشوء وهو من أول العمر إلى بلوغ ثلاث وثلاثين سنة وهو غاية سن الشباب.
وثانيها: سن الوقوف وهي من ذلك إلى أربعين سنة وهو غاية القوة وكمال العقل.
وثالثها: سن الانحطاط القليل وهو سن الكهولة وهو من ذلك إلى ستين سنة.
ورابعها: سن الانحطاط الكبير وهو سن الشيخوخة وهو من ذلك إلى خمسة وستين سنة وفيه يتبين النقص والهرم.
قال علي بن أبي طالب: أرذل العمر خمسة وسبعون سنة
. وقال قتادة: تسعون سنة. وقال السدي: إنه الخرف أي زوال العقل. وقيل: والمسلم لا يزداد بسبب طول العمر إلا كرامة على الله تعالى. وقال عكرمة: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً أي ليصير إلى حالة شبيهة بحال الطفولية في نقصان العقل وسوء الفهم وفي النسيان إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بمقادير أعمالكم قَدِيرٌ (70) على تحويلكم من حال إلى حال وكان الإنسان ميتا حين كان نطفة، ثم صار حيا، ثم مات فلما كان الموت الأول جائزا كان عود الموت جائزا فكذلك لما كانت الحياة الأولى جائزة وجب أن يكون عود الحياة جائزا في المرة الثانية، ومتى كان الأمر كذلك ثبت أن القول بالبعث والنشر والحشر حق.
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ أي فاوت بينكم في الرزق كما فاوت بينكم في الذكاء، والبلادة، والحسن، والقبح، والصحة، والسقم فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي
رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ
أي فليس الذين فضلوا في الرزق على غيرهم بجاعلي رزقهم لعبيدهم حتى تكون عبيدهم فيه معهم سواء في الملك وهم أمثالهم في البشرية والمخلوقية والمرزوقية.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في نصارى نجران حين قالوا: إن عيسى ابن مريم ابن الله فالمعنى أنكم لا تشركون عبيدكم فيما ملكتم فتكونون سواء فكيف جعلتم عبدي عيسى ابنا لي وشريكا بي في الإلهية أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) فإن من أثبت لله شريكا فقد أسند إليه بعض الخيرات فكان جاحدا لكونها من عند الله تعالى، وأيضا إن أهل الطبائع وأهل(1/599)
النجوم يضيفون أكثر هذه النعم إلى الطبائع وإلى النجوم وذلك يوجب كونهم جاحدين لكونها من الله تعالى. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «تجحدون» بالتاء على الخطاب وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من جنسكم أَزْواجاً أي زوجات لتأنسوا بها وتقيموا بها مصالحكم.
قال الأطباء: والتفاوت بين الذكر والأنثى إن الذكر أسخن مزاجا، والأنثى أكثر رطوبة، فالمني إذا انصب إلى الخصية اليمنى من الرجل، ثم انصب منها إلى الجانب الأيمن من الرحم كان الولد ذكرا تاما في الذكورة. وإن انصب إلى الخصية اليسرى من الرجل ثم انصب منها إلى الجانب الأيسر من الرحم كان الولد أنثى تاما في الأنوثة، وإن انصب إلى الخصية اليمنى ثم انصب منها إلى الجانب الأيسر كان الولد ذكرا في طبيعة الإناث، وإن انصب إلى الخصية اليسرى، ثم انصب منها إلى الجانب الأيمن من الرحم كان الولد أنثى في طبيعة الذكور وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ أي من نسائكم بَنِينَ وَحَفَدَةً أي خدما يسرعون في طاعتكم وهم إما أولاد الأولاد وإما البنات فإنهن يخدمن البيوت أتم خدمة وإما الأختان على البنات أي فيحصل لهم الأختان بسبب البنات وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي بعض اللذائذ من النبات والحيوان فالمرزوق في الدنيا أنموذج لما في الآخرة وكل الطيبات في الجنة أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ أي أيكفرون بالله الذي شأنه ذلك المذكور ويؤمنون بالباطل بأن يحرموا على أنفسهم طيبات أحلها الله لهم مثل البحيرة والسائبة والوصيلة، ويبيحوا لأنفسهم محرمات حرمها الله عليهم وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح على النصب أي لم يحكمون بتلك الأحكام الباطلة وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) أي وبأنعام الله في تحليل الطيبات وتحريم الخبيثات يجحدون وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً أي أيعبدون الأصنام التي لا تملك لعبدتهم رزقا من المطر والنبات لا قليلا ولا كثير، فشيئا بدل من رزقا وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) أي وليس للأصنام استطاعة تحصيل الملك وهذا معطوف على ما لا يملك وعبر عن الأصنام بلفظ ما اعتبارا للحقيقة، وبلفظ جمع العقلاء اعتبارا لاعتقادهم فيها أنها آلهة فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ أي لا تشبهوا الله تعالى بخلقه في شأن من الشؤون فإن عبدة الأوثان كانوا يقولون: إن إله العالم أعظم من أن يعبده الواحد منا بل نحن نعبد الكواكب أو هذه الأصنام، ثم إن الكواكب والأصنام عبيد الإله الأكبر الأعظم فإن أصاغر الناس يخدمون أكابر خدم الملك وأولئك الأكابر يخدمون الملك فكذا هاهنا فعند هذا قال الله تعالى لهم: اتركوا عبادة هذه الأصنام والكواكب ولا تجعلوا لله الأمثال التي ذكرتموها وكونوا مخلصين في عبادة الإله القدير الحكيم إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أن خطأ قولكم الاشتغال بعبادة عبيد الملك أدخل في التعظيم من الاشتغال بعبادة نفس الملك، لأن هذا الدليل قياس، والقياس يجب تركه عند ورود النص وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74) ذلك فتقعون في مهاوي الضلال ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا بالعبد والحر عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ من التصرفات وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً أي(1/600)
مستحسنا عند الناس مرضيا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً أي حال السر والجهر هَلْ يَسْتَوُونَ أي هل يستوي العبيد والأحرار الموصوفون بتلك الصفات مع أن الفريقين سيان في البشرية والمخلوقية لله تعالى، وأن ما ينفقه الأحرار ليس مما لهم دخل في إيجاده بل هو مما أعطاه الله تعالى إياهم فحيث لم يستو الفريقان فما ظنكم برب العالمين حيث تشركون به ما لا ذليل أذل منه وهو الأصنام. والمعنى لو فرضنا عبدا مملوكا لا يقدر على التصرف، وحرا غنيا كريما كثير الإنفاق في كل وقت، فصريح العقل يشهد بأنه لا تجوز التسوية بينهما في التعظيم والإجلال فلما لم تجز التسوية بينهما مع استوائهما في الصورة البشرية، فكيف يجوز للعاقل أن يسوي بين الله القادر على الرزق وبين الأصنام التي لا تقدر ألبتة. الْحَمْدُ لِلَّهِ أي كل الحمد له تعالى لأنه معطي جميع النعم لا يستحقه أحد غيره فضلا عن استحقاق العبادة بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75) إن كل الحمد لله وحده فيسندون نعمه تعالى إلى غيره ويعبدونه لأجلها، وبعض الكفار يعلمون ذلك وإنما لا يعلمون سبب الحمد عنادا كقوله تعالى: يعرفون نعمة الله، ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون. وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ أي الذي لا يحسن الكلام ولا يعقل لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ للعجز التام وللنقصان الكامل وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أي هذا الأبكم ثقيل على من يعوله أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ أي أينما يرسله من يلي أمره في وجه معين لا يأت بمطلوب لأنه عاجز لا يحسن شيئا ولا يفهم هَلْ يَسْتَوِي هُوَ أي
هذا الموصوف بهذه الصفات الأربع وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ أي من هو منطيق فهم ينفع الناس بحثهم على العدل وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) أي وهو عادل مبرأ عن العبث وإذا ثبت في بديهة العقل أن الأبكم العاجز لا يساوي الناطق القادر الكامل في الفضل والشرف مع استوائهما في البشرية، فلأن نحكم بأن الجماد لا يكون مساويا لرب العالمين في المعبودية أولى. وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ولله تعالى خاصة الأمور الغائبة عن علوم المخلوقين قاطبة، فإن علمه تعالى حضوري وتحقق الغيب في أنفسها علم بالنسبة إليه تعالى. وهذا بيان كمال العلم. وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أي وما أمر إقامة الساعة وهي إماتة الأحياء وإحياء الأموات من الأولين والآخرين، وتبديل صور الأكوان أجمعين إلا كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها في سهولته! أَوْ هُوَ أَقْرَبُ أي بل أمر إقامة الساعة أقرب من طرف العين في السرعة بأن يكون في زمان نصف تلك الحركة فالله تعالى يحيي الخلق دفعة، وهي في جزء غير منقسم، وهذا بيان كمال القدرة إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) فإن الله تعالى متى أراد شيئا إيجاده أو إعدامه حصل في أسرع ما كان وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً أي غير عارفين شيئا أصلا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ أي جعل لكم هذه الأشياء آلات تحصلون بها المعرفة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أي لكي تستعملوها في شكر ما أنعم الله به عليكم طورا غبّ(1/601)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
طور فتسمعوا مواعظ الله وتبصروا دلائل الله وتعقلوا عظمة الله أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ أي ألم ينظر كفار مكة بأبصارهم إليها. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «تروا» بالتاء على خطاب العامة مُسَخَّراتٍ أي مذللات للطيران فِي جَوِّ السَّماءِ أي في الهواء المتباعد من الأرض.
قال كعب الأحبار: إن الطير ترتفع في الجو مسافة اثني عشر ميلا، ولا ترتفع فوق ذلك ما يُمْسِكُهُنَّ في الجو حين قبض أجنحتهن وبسطها ووقوفهن إِلَّا اللَّهُ بقدرته الواسعة فإن جسد الطير ثقيل يمتنع بقاؤه في الجو معلقا من غير دعامة تحته ولا علاقة فوقه، فبقاؤه في الجو معلقا فعله وحاصل باختياره، فثبت أن خالق فعل العبد هو الله تعالى. إِنَّ فِي ذلِكَ- أي تسخير الطير للطيران بأن جعل لها أجنحة خفيفة وأذنابا كذلك فإذا بسطت أجنحتها وأذنابها تخرق ما بين يديها من الهواء- لَآياتٍ أي لعلامات لوحدانية الله تعالى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) أي يصدقون أن إمساكهن من الله تعالى فإنه تعالى أعطى الطير جناحا يبسطه مرة ويكسره مرة أخرى، وخلق الهواء خلقة رقيقة يسهل الطيران بسبب خرقه، ولولا ذلك لما أمكن الطيران وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ التي تبنونها سَكَناً أي موضعا تسكنون فيه وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً مغايرة لبيوتكم المعهودة هي الخيام تَسْتَخِفُّونَها أي تجدونها خفيفة عليكم في حملها ونقلها ونقضها في أسفاركم، يَوْمَ ظَعْنِكُمْ أي وقت سيركم في أسفاركم. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وبفتح العين. وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ أي وقت نزولكم في الضرب وَمِنْ أَصْوافِها أي الأنعام وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً أي وجعل لكم من أصواف الضأن وأوبار الإبل وأشعار المعز أنواع متاع البيت من الفرش والأكسية وَمَتاعاً أي ما ينتفع به في البيت خاصة ويتزين به إِلى حِينٍ (80) أي إلى وقت البلاء
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ من غير صنع من جهتكم ظِلالًا أي ما يستظلون به من شدة الحر وهي ظلال الجدران والأشجار والجبال والغمام. وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ
أَكْناناً
أي مواضع تستكنون فيها من شدة البرد والحر من الكهوف والغيران والسروب وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ أي ثيابا من القطن والكتان والصوف وغيرها تَقِيكُمُ الْحَرَّ في الصيف والبرد في الشتاء ولم يذكر الله تعالى وقاية البرد لتقدمه في قوله تعالى فيها دفء وَسَرابِيلَ أي جواشن تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ أي الشدة التي تصل إلى بعضكم من بعض في الحرب من الطعن والضرب والرمي كَذلِكَ أي مثل ما خلق الله هذه الأشياء لكم وأنعم بها عليكم يُتِمُّ نِعْمَتَهُ في الدنيا عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ يا أهل مكة تُسْلِمُونَ (81) أي تؤمنون به تعالى وتنقادون لأمره. وقرئ «تسلمون» بفتح التاء واللام، أي لكي تسلموا من الجراحات أو من الشرك فَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن الإسلام وآثروا متابعة الآباء فلا نقص من جهتك فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) أي لأن وظيفتك هي البلاغ الواضح فقد فعلته يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ أي يقرون أن هذه النعم كلها من الله ثُمَّ يُنْكِرُونَها أي لا يشكرونها بالتوحيد لأنهم قالوا: إنما(1/602)
حصلت هذه النعم بشفاعة هذه الأصنام وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83) أي المنكرون بقلوبهم غير مقرين بأن هذه النعم من الله وَيَوْمَ نَبْعَثُ أي وخوفهم يوم نأتي مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً يشهد لهم بالإيمان وعليهم بالكفر وهو نبيها، ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا في الاعتذار وفي كثرة الكلام ليظهر لهم كونهم آيسين من رحمة الله تعالى وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) أي لا يكلفون أن يرضوا ربهم بالعبادات فلا يقال لهم: ارضوا ربكم بالتوبة لأن الآخرة ليست بدار عمل وإنما هي دار الجزاء وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر الْعَذابَ أي عذاب جهنم بعد شهادة الشهداء فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ ذلك العذاب وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) أي يمهلون فعذابهم يكون دائما لأن التوبة هناك غير موجودة وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا أي إذا أبصروا يوم القيامة شُرَكاءَهُمْ أي الأصنام التي يسمونها شركاء الله تعالى قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا أي آلهتنا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا أي نعبدهم مِنْ دُونِكَ أي هؤلاء الذين كنا نقول: إنهم شركاء الله في المعبودية فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) أي فبادر شركاؤهم بالجواب إلى المشركين بقولهم: إنكم لكاذبون في قولكم إنا نستحق العبادة وإنكم عبدتمونا حقيقة بل إنما عبدتم أهواءكم.
والمعنى أنه تعالى يخلق الحياة والعقل والنطق في تلك الأصنام حتى تقول هذا القول وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ أي أسرع المشركون إلى الله يومئذ الانقياد لحكم الله فأقروا بالبراءة عن الشركاء وبربوبية الله بعد أن كانوا في الدنيا متكبرين عنه لما عجزوا عن الجواب لكن الانقياد في هذا اليوم لا ينفعهم لانقطاع التكليف فيه وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87) أي ذهب عنهم افتراؤهم على الله من أن لله شريكا وبطل أملهم من أن آلهتهم تشفع لهم عند الله تعالى الَّذِينَ كَفَرُوا في أنفسهم وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي منعوا الناس عن الدخول في الإسلام وحملوهم على الكفر زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ أي بحيات وعقارب، وجوع وعطش، وزمهرير وغير ذلك فيخرجون من النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة البرد إلى النار بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88) بذلك الصد وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وهو أعضاؤهم. فالله تعالى ينطق عشرة من أعضاء الإنسان حتى إنها تشهد عليه وهي العينان والأذنان، والرجلان، واليدان، والجلد واللسان وَجِئْنا بِكَ يا سيد الرسل شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ أي الأمم كلهم وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ أي القرآن تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ من أمور الدين ينص فيه على بعضها وبإحالته لبعضها على السنّة أو على الإجماع، أو على القياس فكانت السنّة والإجماع والقياس مستندة إلى تبيان الكتاب وَهُدىً وَرَحْمَةً للعالمين فإن حرمان الكفرة من مغانم آثار الكتاب من تفريطهم لا من جهة الكتاب وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89) خاصة لأنهم المنتفعون بذلك إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ أي بالتوسط في الأمور وهو رأس الفضائل كلها فيندرج تحته فضيلة القوة العقلية، فالحكمة(1/603)
متوسطة بين الحرمزة والبلادة، وفضيلة القوة الشهوية البهيمية، فالعفة متوسطة بين الخلاعة والخمود وفضيلة القوة الغضبية السبعية فالشجاعة متوسطة بين التهور والجبن ويندرج فيه أيضا الحكم الاعتقادية، فالتوحيد متوسط بين التعطيل والتشريك، فنفي الإله تعطيل محض وإثبات أكثر من إله واحد تشريك. والعدل هو إثبات الإله الواحد وهو قول: لا إله إلا الله، والقول بالكسب متوسط بين الجبر والقدر فإن القول: بأن العبد ليس له قدرة واختيار جبر محض.
والقول: بأن العبد مستقل بأفعاله قدر محض. والعدل أن يقال: إن العبد يفعل الفعل لكن بواسطة قدرة وداعية يخلقهما الله تعالى فيه، والقول: بأن الله تعالى لا يؤاخذ عبده على شيء من الذنوب مساهلة عظيمة، والقول: بأنه تعالى يخلد في النار عبده الآتي بالمعصية الواحدة تشديد عظيم والعدل هو القول بأنه تعالى يخرج من النار كل من اعتقد أنه لا إله إلا الله ويندرج تحته أيضا الحكم العملية، فالتعبد بأداء الواجبات متوسط بين البطالة والترهب. والختان: مأمور به في شريعتنا، فإن إبقاء الجلدة مبالغة في تقوية اللذة والإخصاء وقطع الآلات كما عليه المانوية إفراط، فكانت الشريعة إنما أمرت بالختان سعيا في تقليل تلك اللذة حتى يصير ميل الإنسان إلى قضاء شهوة الجماع إلى حد الاعتدال، لئلا تصير الرغبة فيه غالبة على الطبع ويندرج تحته أيضا الحكم الخلقية، فالجود متوسط بين البخل والتبذير وشريعة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم وسط بين التشديد والتساهل قال الله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] أي متباعدين عن طرفي الإفراط والتفريط في كل الأمور. ولما بالغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في العبادات قال تعالى: طه، ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى [طه: 1] ولما أخذ قوم في المساهلة قال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً [المؤمنون: 115] والمطلوب رعاية العدل بين طرفي الإفراط والتفريط وَالْإِحْسانِ أي المبالغة في أداء الطاعات إما بحسب الكمية كالتطوع بالنوافل، وإما بحسب الكيفية كالاستغراق في شهود مقامات الربوبية.
والحاصل أن العدل عبارة عن القدر الواجب والإحسان عبارة عن الزيادة في ذلك وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى أي إعطاء الأقارب ما يحتاجون إليه.
قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن أعجل الطاعة ثوابا صلة الرحم»
«1» وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ أي المعاصي كلها وَالْمُنْكَرِ وهو ما لا يعرف في شريعة وَالْبَغْيِ أي الاستعلاء على الناس والترفع.
والحاصل أن الفحشاء هي الإفراط في متابعة القوة الشهوية، فهي إنما ترغب في تحصيل اللذات الشهوانية الخارجة عن إذن الشريعة، وأن المنكر هو الإفراط في إظهار آثار القوة الغضبية
__________
(1) رواه ابن حبان في المجروحين (3: 149) ، وابن القيسراني في تذكرة الموضوعات (253) .(1/604)
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
السبعية فهي إنما تسعى في الإيذاء إلى سائر الناس وإيصال البلاء إليهم، فالناس ينكرون تلك الحالة، وأن البغي من آثار القوة الوهمية الشيطانية، فهي إنما تسعى في التطاول على الناس والترفع عليهم وإظهار الرياسة والتقدم يَعِظُكُمْ أي يأمركم بتلك الثلاثة وينهاكم عن هذه الثلاثة لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) أي لإرادة أن تتذكروا طاعته تعالى وهذا يدل على أن الله تعالى يطلب الإيمان من الكل.
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وهو العهد الذي يلتزمه الإنسان باختياره فيدخل فيه المبايعة على الإيمان بالله وبرسوله وعهد الجهاد وعهد الوفاء بالمنذورات والأشياء المؤكدة باليمين. وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها بالقصد ففرق بين اليمين المؤكد بالعزم وبين لغو اليمين وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا أي شاهدا، فإن من حلف بالله قد جعل الله كفيلا بالوفاء بسبب ذلك الحلف، وهذه واو الحال أي لا تنقضوا الأيمان وقد قلتم الله شاهد علينا بالوفاء إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) من النقض والوفاء فيجازيكم على ذلك إن خيرا فخير وإن شرا فشر وفي هذا ترغيب وترهيب وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أي من بعد قوة العزل بفتلها وإبرامها أَنْكاثاً أي أنقاضا وهو مفعول ثان لنقضت بمعنى جعلت أو حال من عزلها مؤكدة لعاملها أي منكوثا.
قيل: المشبه به معين وهي امرأة في مكة اسمها: رائطة بنت سعد بن تيم. وقيل: تلقب بجعرانة، وكانت حمقاء اتخذت مغزلا قدر ذراع وسنارة مثل إصبع وفلكة عظيمة على قدرها، فكانت تغزل الصوف والوبر هي وجواريها من الغداة إلى الظهر، ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا أي مكرا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ وهو استفهام بمعنى الإنكار. والمعنى أتصيرون أيمانكم غشا بينكم بسبب أن أمة أزيد في القوة والكثرة من أمة أخرى؟
قال مجاهد: كان قريش يحالفون الحلفاء ثم إذا وجدوا شوكة في أعادي حلفائهم نقضوا عهدهم مع الحلفاء وعاهدوا أعداء حلفائهم إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ أي يعاملكم بالأكثر معاملة من يختبركم لينظر أتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله أم تغترون بكثرة قوم وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) في الدنيا أي حين يجازيكم على أعمالكم بالثواب والعقاب وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مشيئة قسر لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً متفقة على الإسلام وَلكِنْ لم يشأ ذلك بل شاء اختلافكم لقضية حكمة يعلمها الله ولذلك يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ.
وروى الواحدي أن عزيرا قال: يا رب خلقت الخلق فتضل من تشاء وتهدي من تشاء، فقال: يا عزيز أعرض عن هذا. فأعاده ثانيا، فقال: أعرض عن هذا. فأعاده ثالثا فقال: أعرض عن هذا وإلا محوت اسمك من النبوة وَلَتُسْئَلُنَّ جميعا يوم القيامة عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) في(1/605)
الدنيا وهذا إشارة إلى الكسب الذي عليه يدور أمر الهداية والضلال وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا أي خديعة بَيْنَكُمْ أي لا تنقضوا عهدكم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الإيمان به وبشرائعه فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها على الطريق الحق بالإيمان أي فتزلوا عن طاعة الله فإن من نقض عهد الإسلام فقد سقط عن الدرجات العالية ووقع في الضلالة وَتَذُوقُوا السُّوءَ أي العذاب في الدنيا بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي بامتناعكم عن دين الله وبصرفكم الناس عنه بأيمانكم التي أردتم بها خفاء الحق وَلَكُمْ مع ذلك في الآخرة عَذابٌ عَظِيمٌ (94) أي غير منفك إذا متم على ذلك وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ أي لا تأخذوا بمقابلة بيعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثَمَناً قَلِيلًا أي عرض الدنيا وكانت قريش يعدون ضعفة المسلمين على الارتداد بحطام الدنيا، أي إنكم وإن وجدتم على نقض عهد الإسلام خيرا من خيرات الدنيا لا تلتفوا إليه وإن كان كثيرا، لأن الذي أعده الله تعالى على الاستمرار على الإسلام أفضل مما تجدونه في الدنيا على نقض عهد الإسلام إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ من ثواب الدارين الغنيمة والثواب الأخروي هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ مما يعدونه إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) تفاوت ما بين العوضين ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وإن جمّ عدده وَما عِنْدَ اللَّهِ من خزائن رحمته الدنيوية والأخروية باقٍ لا نفاد له. وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا على مشاق التزام شرائع الإسلام أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96) أي بحسب أحسن أفراد أعمالهم. والمعنى لنعطينهم بمقابلة الفرد الأدنى من أعمالهم ما نعطيه بمقابلة الفرد الأعلى منها من الأجر الجزيل وفي هذا من العدة الجميلة باغتفار ما قد يطرأ عليهم في أثناء الصبر من بعض جزع وينظمه في سلك الصبر الجميل.
وقرأ ابن كثير وعاصم «ولنجزينهم» بنون العظمة على طريقة الالتفات. والباقون بالياء من غير التفات «واللام» لام قسم أي والله ليجزين الله مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً في الدنيا فيعيش عيشا طيبا فالموسر ظاهر، والمعسر يطيب عيشه بالقناعة، والرضا بالقسمة وتوقع الأجر العظيم، فإن قلب المؤمن منشرح بنور معرفة الله تعالى والقلب إذا كان مملوءا من هذه المعارف لم يتسع للأحزان الواقعة بسبب أحوال الدنيا، أما قلب الجاهل فإنه خال عن معرفة الله تعالى فيصير مملوءا من الأحزان الواقعة بسبب مصائب الدنيا.
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ في الآخرة أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97) أي بجزاء أحسن من أعمالهم فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) أي فإذا أردت قراءة القرآن فاسأل الله أن يعصمك من وساوس الشيطان المطرود من رحمة الله لئلا يوسوسك في القراءة، أي فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وهذا الأمر للندب عند الجمهور وللوجوب عند عطاء وحيث أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالاستعاذة عند قراءة القرآن فما ظنكم بمن عداه صلّى الله عليه وسلّم فيمن عدا القراءة من الأعمال! إِنَّهُ أي الشيطان لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ أي تسلط عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)(1/606)
وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)
أي وإلى ربهم يفوضون أمورهم وبه يعوذون في كل ما يأتون ويذرون فإن وسوسته لا تؤثر فيهم ودعوته غير مستجابة عندهم إِنَّما سُلْطانُهُ أي ولايته بدعوته عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ أي يطيعونه وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ أي بربهم مُشْرِكُونَ (100) أي والذين هم بسبب حمل الشيطان إياهم على الشرك بالله صاروا مشركين
وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ أي وإذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكما آخر وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ من التغليظ والتخفيف في مصالح العباد وما الشرائع إلا مصالح للعباد في المعاش والمعاد فالمصالح تدور.
وهذه الجملة اعتراضية بين الشرط وجوابه لتوبيخ الكفرة على كونهم ينسبون رسول الله إلى الافتراء في التبديل وللتنبيه على فساد رأيهم. قالُوا أي الكفار من أهل مكة للنبي صلّى الله عليه وسلّم:
إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ أي مختلق من تلقاء نفسك.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: إذا نزلت آية فيها شدة، ثم نزلت آية ألين منها تقول كفار قريش والله ما محمد إلا يسخر بأصحابه اليوم يأمر بأمر وغدا ينهى عنه، وإنه لا يقول هذه الأشياء إلا من عند نفسه فأنزل الله تعالى هذه الآية بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) إن الله لا يأمر عباده إلا بما يصلح لهم وإن في النسخ حكما بالغة وإسناد هذا الحكم إلى الأكثر لما أن منهم من يعلم ذلك وإنما ينكره عنادا قُلْ نَزَّلَهُ أي القرآن رُوحُ الْقُدُسِ أي الروح المطهر من الأدناس البشرية وهو جبريل مِنْ رَبِّكَ يا أكرم الخلق بِالْحَقِّ أي بالموافق للحكمة لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا على الإيمان بأن القرآن كلام الله فإنهم إذا سمعوا الناسخ وتدبروا ما فيه من رعاية المصالح اللائقة بالحال رسخت عقائدهم واطمأنت قلوبهم وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وهذان معطوفان على «ليثبت» ، فهما منصوبان باعتبار محله، ومجروران باعتبار المصدر المؤول. وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ أي كفار مكة يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ أي إنما يعلم محمدا القرآن بشر لا جبريل كما يدّعى.
قال عبد الله بن مسلم الحضرمي: عنوا عبدين لنا أحدهما يقال له: يسار، والآخر جبر وكانا يصنعان السيف بمكة ويقرءان التوراة والإنجيل وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمر عليهما ويسمع ما يقرءانه فأجاب الله تعالى عن ذلك بقوله تعالى: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) أي كلام الذي ينسبون إليه عبراني لم يتكلم بالعربية ولم يأت بفصيح الكلام وهذا القرآن كلام عربي ذو بيان وفصاحة، فكيف يعلم محمدا وهو جاءكم بهذا القرآن الفصيح الذي عجزتم عنه وأنتم أهل الفصاحة! فكيف يقدر من هو أعجمي على مثل هذا القرآن وأين فصاحة هذا القرآن من عجمه هذا الذي تشيرون إليه؟! فثبت بهذا الدليل أن القرآن وحي أوحاه الله إلى محمد وليس هو من تعليم الذي تشيرون إليه، ولا هو آت به من تلقاء نفسه بل هو(1/607)
وحي من الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ أي لا يصدقون أنها من عند الله بل يسمونها افتراء أو معلمة من البشر لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ إلى طريق الجنة وَلَهُمْ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ (104) أي بل يسوقهم إلى النار إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ أي إن المفتري هو الذي يكذب بآيات الله ويقول: إنها افتراء ومعلمة من البشر وهذا رد لقولهم: إنما أنت مفتر وقلب للأمر عليهم ببيان أنهم هم المفترون وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105) أي الكاملون في الكذب إذ لا كذب أعظم من تكذيب آيات الله تعالى مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ أي من تلفظ بكلمة الكفر من بعد إيمانه به تعالى فعليه غضب من الله. «فمن» موصولة مبتدأ وخبره محذوف لدلالة الخبر الآتي عليه إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ على التلفظ بالكفر فتلفظ به بأمر لا طاقة له به كالتخويف بالقتل وكالضرب الشديد، وكالإيلامات القوية مما يخاف على نفسه أو على عضو من أعضائه وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ أي والحال أن قلبه لم تتغير عقيدته وهذا دليل على أن الإيمان هو التصديق بالقلب وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً أي ولكن من اعتقد الكفر وانشرح به قلبا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) .
روي أن قريشا أكرهوا عمارا وأباه ياسرا وأمه سمية على الارتداد فربطوا سمية بين بعيرين وضربها أبو جهل بحربة في فرجها، فماتت وقتل ياسر. وأما عمار فأعطاهم بلسانه ما أكرهوا عليه فقيل: يا رسول الله إن عمارا كفر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كلا إن عمارا مليء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه» «1» . فأتى عمار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يبكي فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمسح عينه.
وقال مالك: إن عادوا لك فقل لهم ما قلت فنزلت هذه الآية ذلِكَ أي الكفر بعد الإيمان، بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ أي بسبب أنهم رجّحوا الدنيا على الآخرة وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أي وبأنه تعالى ما هداهم إلى الإيمان وما عصمهم عن الكفر أُولئِكَ الموصوفون بتلك القبائح الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ فأبت عن التأمل في الحق وإدراكه وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) عمّا يراد بهم في الآخرة من العذاب، فلا غفلة أعظم من الغفلة عن تدبر عواقب الأمور لا جَرَمَ أي حق أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109) حيث صرفوا أعمارهم فيما أفضى بهم إلى العذاب المخلد ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا إلى المدينة أي ناصرهم مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا أي عذبوا. نزلت هذه الآية في عياش بن ربيعة أخي أبي جهل من الرضاعة أو من أمه وفي أبي
__________
(1) رواه أبي نعيم في حلية الأولياء (1: 139) ، وابن حجر في فتح الباري (7: 92) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (33540) ، والواحدي في أسباب النزول (190) .(1/608)
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)
جندل بن سهل والوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعبد الله بن أسد الثقفي فتنهم المشركون وعذبوهم فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم، ثم إنهم بعد ذلك هاجروا وجاهدوا.
وقرأ ابن عامر «فتنوا» بالبناء للفاعل، أي عذبوا المؤمنين، كعامر بن الحضرمي أكره مولاه جبرا الرومي حتى ارتد ثم أسلما وحسن إسلامهما وهاجروا ثُمَّ جاهَدُوا في سبيل الله وَصَبَرُوا على الطاعة والمرازي. إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها أي من بعد. هذه الأعمال الثلاثة لَغَفُورٌ لما فعلوا من قبل رَحِيمٌ (110) فينعم عليهم مجازاة على ما صنعوا من بعد وهذه الآية إن كانت نازلة فيمن أظهر الكفر، فالمراد أن حاله إذا هاجر وجاهد وصبر كحال من لا يكره فلا إثم له في ذلك. وإن كانت واردة فيمن ارتد، فالمراد أن التوبة والقيام بما يجب عليه يحصلان له الغفران والرحمة ويزيلان العتاب.
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها فالظرف منصوب برحيم أو بمحذوف أي ذكرهم يوم يأتي كل إنسان يعتذر عن ذاته ويسعى في خلاصه من العذاب كقولهم: هؤلاء أضلونا السبيلا. وقولهم: والله ربنا ما كنا مشركين، ونحو ذلك من الاعتذارات.
وروى عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية قال: ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة حتى يخاصم الروح الجسد، فيقول الروح: يا رب لم يكن لي يد أبطش بها ولا رجل أمشي بها ولا عين أبصر بها، فضعف عليه العذاب. فيقول الجسد: يا رب أنت خلقتني كالخشبة ليس لي يد أبطش بها ولا رجل أمشي بها، ولا عين أبصر بها فجاء هذا الروح كشعاع النور فبه نطق لساني وبه أبصرت عيناي وبه مشت رجلاي، فيضرب الله لهما مثلا: أعمى ومقعدا دخلا بستانا فيه ثمار، فالأعمى لا يبصر الثمر والمقعد لا يتناوله فحمل الأعمى المقعد فأصابا الثمر فعلى من يكون العذاب؟! قالا: عليهما، قال الله تعالى: عليكما جميعا العذاب وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ أي وتعطى كل نفس جزاء ما عملت كاملا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) بالعقاب بغير ذنب، وبالزيادة في العقاب على الذنوب. وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً أي جعل الله مثلا أهل قرية مكة كانَتْ آمِنَةً أي كان أهلها ذوي أمن فلا يحتاجون إلى الانتقال عنها بسبب الخوف من العدو، مُطْمَئِنَّةً أي كان أهلها صحاحا، لأن هواء ذلك البلد لما كان ملائما لأمزجتهم اطمأنوا إليه واستقروا فيه فلا يحتاجون إلى الانتقال منه بسبب الأمراض يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ أي يأتي أهل تلك القرية أقوات واسعة من نواحيها من بر وبحر فلا يحتاجون إلى الانتقال عنها بسبب ضيق الرزق. قالت العقلاء من بحر الرجز:
ثلاثة ليس لها نهاية ... الأمن والصحة والكفاية
فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ أي كفر أهلها بنعمه تعالى وهي: نعمة الأمن والصحة والرزق الواسع، فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ أي أذاق الله أهلها ضرر الجوع والخوف من حرب(1/609)
محمد صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، فإن الأحوال التي حصلت لهم عند الجوع والخوف نوعان:
أحدهما: أنه لما فقدوا الطعام صاروا كأنهم يذوقون الجوع والخوف فأشبها الطعام.
وثانيهما: أن أثر الجوع والخوف لما اشتد صار كأنه أحاط بهم من كل الجهات فأشبه اللباس، وقد ظهر أثرهما عليهم من الهزال وصفرة اللون، ونهكة البدن، وسوء الحال، وكسوف البال. ويشبه أيضا أثر الخوف باللباس في الإحاطة واللزوم، وأثر الجوع بالطعام المر البشع في الكراهة. بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) من تكذيب النبي صلّى الله عليه وسلّم وإخراجه من مكة والهمّ بقتله.
فالله تعالى ابتلاهم بالجوع سبع سنين، فقطع عنهم المطر وقطعت العرب عنهم الميرة بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أكلوا العظام المحرقة والجيف والكلاب الميتة والعلهز وهو وبر يخلط بالدم والقد وهو جلد الماعز الصغير حتى كان ينظر إلى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع، وأما خوفهم فهو لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يبعث إليهم السرايا فيغيرون على من حولهم من العرب فكان أهل مكة يخافونهم، ثم إن رؤساء مكة أرسلوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا سفيان بن حرب في جماعة فقدموا المدينة عليه، وقال له أبو سفيان: يا محمد إنك جئت تأمر بصلة الرحم والعفو وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم فدعا لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأذن للناس بحمل الطعام إليهم وهم بعد مشركون.
وهذه الآية نزلت في المدينة، لأن الله تعالى وصف القرية بصفات ست كانت هذه الصفات موجودة في أهل مكة فضربها الله مثلا لأهل المدينة يحذرهم أن يصنعوا مثل صنيعهم فيصيبهم مثل ما أصابهم من الجوع والخوف، والنبي صلّى الله عليه وسلّم لم يؤمر بالقتال وهو بمكة وإنما أمر بالقتال لما هاجر إلى المدينة، فكان يبعث السرايا إلى حول مكة يخوفهم بذلك وهو بالمدينة. وَلَقَدْ جاءَهُمْ أي جاء أهل تلك القرية وهي مكة رَسُولٌ مِنْهُمْ أي من جنسهم يعرفونه بأصله ونسبه، فأخبرهم بوجوب الشكر على النعمة، وأنذرهم سوء عاقبة ما يأتون وما يذرون فَكَذَّبُوهُ في رسالته فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ بالجوع الذي كان بمكة وَهُمْ ظالِمُونَ (113) أي والحال أنهم كافرون بتكذيب رسول الله فَكُلُوا يا معشر المسلمين مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي من الغنائم حَلالًا طَيِّباً أي إنكم لما آمنتم وتركتم الكفر فكلوا الحلال الطيب، وهو الغنيمة، واتركوا الخبائث، وهي الميتة والدم وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ أي واعرفوا حقها ولا تقابلوها بالكفران إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) أي تطيعون إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فهذه الآية دالة على حصر المحرمات في هذه الأربع: فالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع داخلة في الميتة، وما ذبح على النصب داخل تحت قوله تعالى: وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ. فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) أي فمن دعته ضرورة المخمصة إلى تناول شيء من ذلك غير ظالم على مضطر آخر ولا متجاوز(1/610)
شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
قدر الضرورة وسد الرمق، فالله لا يؤاخذه بذلك وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ أي ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لأجل ذكر ألسنتكم الكذب ولتعودها به لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وهذا بدل من التعليل الأول أي إنهم كانوا ينسبون ذلك التحليل والتحريم إلى الله تعالى ويقولون: إن الله أمرنا بذلك. إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ في أمر من الأمور لا يُفْلِحُونَ (116) أي لا يفوزون بخير لا في الدنيا ولا في الآخرة مَتاعٌ قَلِيلٌ أي منفعتهم في أفعال الجاهلية منفعة قليلة وَلَهُمْ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا خاصة حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ يا أشرف المرسلين مِنْ قَبْلُ أي من قبل تحريمنا على أهل ملتك ما عدا ذلك من
المحرمات وهو الذي سبق ذكره في سورة الأنعام وَما ظَلَمْناهُمْ بتحريم ذلك وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) حيث فعلوا ما يؤدي إلى ذلك التحريم ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ أي الكفر والمعاصي بِجَهالَةٍ أي بسبب جهالة، لأن أحدا لا يختار الكفر ما لم يعتقد كونه حقا، ولا يفعل المعصية ما لم تصر الشهوة غالبة للعقل فكل من عمل السوء يكون بسبب الجهالة. ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي عمل السوء وَأَصْلَحُوا بأن آمنوا وأطاعوا الله إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها أي التوبة لَغَفُورٌ لذلك السوء رَحِيمٌ (119) يثيب على طاعتهم تركا وفعلا أي لما بالغ الله في تهديد المشركين على أنواع قبائحهم من إنكار البعث والنبوة وكون القرآن من عند الله، وتحريم ما أحل الله وتحليل ما حرمه بين الله أن أمثال تلك القبائح لا تمنعهم من قبول التوبة وحصول المغفرة والرحمة إذا ندموا على ما فعلوا وآمنوا فالله يخلصهم من العذاب إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً على انفراده لكماله في صفات الخير وجمعه الفضائل، وهو رئيس أهل التوحيد، لأنه كان مؤمنا وحده والناس كلهم كانوا كفارا ولذلك وصفه بتسع صفات. قانِتاً لِلَّهِ أي مطيعا له تعالى قائما بأمره. حَنِيفاً أي مائلا عن كل دين باطل إلى الدين الحق لا يزول عنه وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) في أمر من أمور دينهم فإنه كان من الموحدين في الصغر والكبر
شاكِراً لِأَنْعُمِهِ.
روي أن إبراهيم عليه السلام كان لا يتغذى إلا مع ضيف، فلم يجد ذات يوم ضيفا، فأخر غذاءه، فإذا هو بقوم من الملائكة في صورة البشر، فدعاهم إلى الطعام فأظهروا أن بهم علة الجذام، فقال: الآن يجب علي مؤاكلتكم فلولا عزتكم على الله تعالى لما ابتلاكم بهذا البلاء.
اجْتَباهُ أي اصطفاه للنبوة وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) أي هداه في الدعوة إلى طريق موصل إلى الله تعالى وهو ملة الإسلام. وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً أي ولدا صالحا وسيرة حسنة عند كل أهل الأديان، فجميع الملل يترصون عن إبراهيم ولا يكفر به أحد. وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) أي لمن أصحاب الدرجات العالية في الجنة ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا سيد المرسلين مع علو طبقتك أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أي في كيفية الدعوة إلى التوحيد وهو أن يدعو إليه بطريق الرفق والسهولة وإتيان الدلائل مرة بعد أخرى بأنواع كثيرة على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن(1/611)
حَنِيفاً أي مائلا عن الباطل حال من إبراهيم، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) وهذا تكرير لما سبق لزيادة تأكيد في الرد على المشركين حيث زعموا أنهم كانوا على ملة إبراهيم. إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ أي إنما فرض تعظيم يوم السبت على الذين خالفوا نبيهم موسى عليه السلام لأجل يوم السبت، فإن أهل الملل اتفقوا على أنه تعالى خلق العالم في ستة أيام، وبدأ تعالى بالتكوين من يوم الأحد، وتمّ في يوم الجمعة. وكان يوم السبت يوم الفراغ فأمر سيدنا موسى عليه السلام اليهود أن يعظموا يوم الجمعة- كما هو ملة إبراهيم عليه السلام- بالتفرغ للعبادة فيه وترك الأشغال، فيكون عيدا، فخالفوا كلهم وقالوا: نحن نوافق ربنا في ترك الأعمال، فاختاروا السبت، فأذن الله تعالى لهم فيه وشدّد عليهم بتحريم الاصطياد فيه. وقالت النصارى:
مبدأ التكوين هو يوم الأحد فنجعل هذا اليوم عيدا لنا وقد جاءهم عيسى عليه السلام بالجمعة أيضا فقالوا: لا نريد أن يكون عيد اليهود بعد عيدنا، واتخذوا الأحد عيدا لهم وقلنا معشر الأمة المحمدية: يوم الجمعة هو يوم الكمال فحصول التمام يوجب الفرح الكامل، فهو أحق بالتعظيم، وبجعله عيدا. وأيضا إن الله تعالى خلق في يوم الجمعة أبا البشر آدم عليه السلام وهو أشرف خلقه وتاب عليه فيه فكان يوم الجمعة أشرف الأيام لهذا السبب، ولأن الله تعالى اختار يوم الجمعة لهذه الأمة ولم يختاروه لأنفسهم. وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) في الدين فإنه تعالى سيحكم للمحقين بالثواب وللمبطلين بالعقاب. ادْعُ يا أشرف الرسل من بعثت إليهم من الأمة قاطبة إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ أي إلى دينه بِالْحِكْمَةِ أي الحجة القطعية المفيدة للعقائد اليقينية وهذه أشرف الدرجات، وهي التي قال الله تعالى في صفتها: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة: 269] وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ أي الأمارات الظنية والدلائل الإقناعية وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي بدليل مركب من مقدمات مقبولة فالناس على ثلاثة أقسام:
الأول: أصحاب العقول الصحيحة الذين يطلبون معرفة الأشياء على حقائقها.
والثاني: أصحاب النظر السليم الذين لم يبلغوا حدّ الكمال ولم ينزلوا إلى حضيض النقصان.
والثالث: الذين تغلب على طباعهم المخاصمة لا طلب العلوم اليقينية فقوله تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ إلخ. معناه: ادع الأقوياء الكاملين إلى الدين الحق بالدلائل القطعية اليقينية حتى يعلموا الأشياء بحقائقها، وهم خواص الصحابة وغيرهم. وادع عوام الخلق بالدلائل الإقناعية الظنية وهم أرباب السلامة، وفيهم الكثرة، وتكلّم مع المشاغبين بالجدل على الطريق الأحسن الأكمل وهي التي تفيد إفحامهم وإلزامهم. والجدل ليس من باب الدعوة،(1/612)
بل المقصود منه قطع الجدل عن باب الدعوة، لأنها لا تحصل به أي ولما أمر الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم باتباع إبراهيم بين الشيء الذي أمره بمتابعته فيه وهو أن يدعو الناس بأحد هذه الطرق الثلاثة وهي الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالطريق الأحسن. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ الذي أمرك بدعوة الخلق إليه وأعرض عن قبوله وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) إليه أي إنك مكلف بالدعوة إلى الله تعالى بهذه الطرق الثلاثة، وحصول الهداية لا يتعلق بك فإنه تعالى هو العالم بضلال النفوس المظلمة الكدرة وباهتداء النفوس المشرقة الصافية وَإِنْ عاقَبْتُمْ أي إن أردتم المعاقبة فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ أي بمثل ما فعل بكم ولا تزيدوا عليه. وقد مر أنه تعالى أمر محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يدعو الخلق إلى الدين الحق بأحد الطرق الثلاثة وتلك الدعوة تتضمن أمرهم بالرجوع عن دين آبائهم، وبالحكم عليه بالضلالة وذلك مما يشوش قلوبهم ويحمل أكثرهم على قصد ذلك الداعي بالقتل تارة وبالضرب ثانيا، وبالشتم ثالثا، ثم إن ذلك الداعي إذا عرف ذلك يحمله طبعه على تأديب أولئك السفهاء بالقتل أو بالضرب، فعند هذا أمر الله الداعي في هذا المقام برعاية العدل وترك الزيادة ظلم وهو ممنوع في عدل الله ورحمته والله تعالى أمر في هذه الآية برعاية الإنصاف فيدخل فيها ما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما رأى عمه حمزة قد مثل به المشركون في أحد فقطعوا أنفه وأذنيه وذكره وأنثييه وفجروا بطنه قال: «لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين منهم مكانك» «1» فنزلت هذه الآية فكفر عن يمينه وكف عما أراده وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ عن المعاقبة بالمثل لَهُوَ أي الصبر خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) لأن الرحمة أفضل من القسوة والنفع أفضل من الإيلام. والمقصود من هذه الآية تعليم حسن الأدب في كيفية الدعوة إلى الله تعالى وطلب ترك الزيادة من الظالم وهذا ليس بمنسوخ وَاصْبِرْ على ما أصابك من جهتهم من فنون الأذية وَما صَبْرُكَ بشيء من الأشياء إِلَّا بِاللَّهِ أي بذكره وبالاستغراق في مراقبة شؤونه تعالى وبالتبتل إليه تعالى بمجامع الهمة وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي الكافرين بسبب إعراضهم عنك واستحقاقهم للعذاب الدائم وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ أي غم.
وقرأ ابن كثير بكسر الضاد مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) أي من مكرهم بك في المستقبل فالضيق إذا قوى صار كالشيء المحيط بالإنسان من كل الجوانب إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) وهذا يدل على أن كمال السعادة للإنسان في هذين الأمرين التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله. والمراد بالمعية هي بالرحمة والفضل والرتبة.
__________
(1) رواه ابن الجوزي في زاد المسير (4: 507) .(1/613)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)
سورة الإسراء
سورة بني إسرائيل، وتسمى سورة الإسراء، وسُبْحانَ مكية، غير قوله:
وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ إلى قوله: سُلْطاناً نَصِيراً فهذه الآيات الثمانية مدنيات، مائة وإحدى عشر آية، ألف وخمسمائة وتسعة وخمسون كلمة، ستة آلاف وستمائة واثنان
وأربعون حرفا
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ أي تبرأ عن الشريك من سير عبده محمدا صلّى الله عليه وسلّم لَيْلًا أي في جزء قليل من الليل مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي من حرم مكة من بيت أم هانئ بنت أبي طالب إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أي الأبعد من الأرض وأقرب إلى السماء وهو مسجد بيت المقدس وسمي أقصى، لأنه أبعد المساجد التي تزار ويطلب بها الأجر من المسجد الحرام.
وروي أن عبد الله بن سلام قال في حضرة النبي صلّى الله عليه وسلّم عند قراءته هذه الآية لأنه وسط الدنيا لا يزيد شيئا ولا ينقص فقال صلّى الله عليه وسلّم: «صدقت» ثم قال: «ويقال له البيت المقدس والزيتون ولا يقال له الحرم»
اه. والحكمة في إسرائه صلّى الله عليه وسلّم إلى بيت المقدس ليحصل له العروج إلى السماء مستويا من غير تعريج لما روي عن كعب أن باب السماء الذي يقال له: مصعد الملائكة يقابل بيت المقدس قال: وهو أقرب من الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا. وقيل: الحكمة في ذلك أن الشام خيرة الله تعالى من أرضه كما في حديث صحيح فهي أفضل الأرض بعد الحرمين وأول إقليم ظهر فيه ملكه صلّى الله عليه وسلّم.
وروي أن صخرة بيت المقدس من جنة الفردوس. وقيل: الحكمة في ذلك لإظهار الحق على من عاند، لأنه لو عرج به من مكة إلى السماء لم يجد لمعانده سبيلا إلى الإيضاح فلما ذكر أنه أسرى به إلى بيت المقدس سألوه عن أشياء من بيت المقدس كانوا علموا أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يكن رآها قبل ذلك لما أخبرهم بها حصل التحقق بصدقه فيما ذكر من الإسراء به إلى بيت المقدس في ليلة وإذا صح خبره في ذلك لزم تصديقه في بقية ذلك من خبر المعراج إلى السموات. وقيل: الحكمة في ذلك ليجمع الله له صلّى الله عليه وسلّم بين القبلتين الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ أي المسجد الأقصى من أرض الشام بركة(1/614)
قوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى إلخ. معنى التنزيه والتعجب أشار الله تعالى بذلك إلى أعجب أمر جرى بينه تعالى وبين أفضل خلقه لِنُرِيَهُ أي محمدا صلّى الله عليه وسلّم مِنْ آياتِنا أي بعض عجائب قدرتنا العظيمة التي من جملتها ذهابه في برهة من الليل مسيرة شهر، وثبت بالدليل أن خالق العالم قادر على كل الممكنات، فحصول الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد في جسد محمد صلّى الله عليه وسلّم ممكن، وحينئذ يلزم أن القول بثبوت هذا المعراج أمر ممكن الوجود في نفسه، لكن يبقى التعجب، لأنه حاصل في جميع المعجزات. فانقلاب العصا ثعبانا تبلغ سبعين ألفا من الحبال والعصي، ثم تعود في الحال عصا صغيرة كما كانت أمر عجيب وخروج الناقة العظيمة من الجبل الأصم، وإظلال الجبل العظيم في الهواء عجيب، وكذا القول في جميع المعجزات، فإن كان مجرد التعجب يوجب الإنكار، لزم الجزم بفساد القول بإثبات المعجزات وهو فرع على تسليم أصل النبوة. وإن كان مجرد التعجب لا يوجب الإبطال فكذا هاهنا فثبت أن المعراج ممكن غير ممتنع إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) أي إنه تعالى هو السميع لأقوال محمد صلّى الله عليه وسلّم وأحواله بلا إذن، البصير بأفعاله بلا عين فيكرمه ويقربه بحسب ذلك أي فهو عالم بكونها مهذبة خالصة من شوائب الهوى، مقرونة بالصدق والصفا، متأهلة للقرب والزلفى ويقال: إنه تعالى هو السميع لمقالة قريش البصير بهم.
روي عن ابن عباس أنه صلّى الله عليه وسلّم كان نائما في بيت أم هاني بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته، وقص القصة على أم هانئ وقال: «مثل لي النبيون فصليت بهم» فلما قام ليخرج إلى المسجد تشبثت هي بثوبه صلّى الله عليه وسلّم فقال مالك: قالت: أخشى أن يكذبك الناس وقومك إن أخبرتهم، قال: «وإن كذبوني» . فلما خرج جلس إليه أبو جهل فأخبره بحديث الإسراء، فقال أبو جهل:
يا معشر كعب بن لؤي بن غالب، هلم فحدّثهم، فمن مصفّق، وواضع يده على رأسه تعجبا وإنكارا، وارتد ناس ممن كان آمن به صلّى الله عليه وسلّم وذهب رجال إلى أبي بكر وقالوا له: إن صاحبك يقول كذا وكذا فقال أبو بكر: إن كان قد قال ذلك فهو صادق. قالوا: أتصدقه على ذلك؟ قال: إني أصدقه على أبعد من ذلك أي كأنه قال: لما سلمت رسالته فقد صدقته فيما هو أعظم من هذا فكيف أكذبه في هذا؟ ثم جاء أبو بكر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكر الرسول له تلك التفاصيل فكلما ذكر صلّى الله عليه وسلّم شيئا قال له أبو بكر: صدقت. فلما تمم الكلام قال أبو بكر: أشهد أنك رسول الله حقا.
فقال له الرسول: «وأنا أشهد أنك الصدّيق حقا» ويقال: إن هذا العبد الذي اختصصناه بالإسراء هو خاصة السميع لكلامنا البصير لذاتنا فهو السميع أذنا وقلبا بالإجابة لنا والقبول لأوامرنا البصير بصرا وبصيرة، وتوسيط ضمير الفصل للإشعار باختصاصه صلّى الله عليه وسلّم وحده بهذه الكرامة، ولهذا عقب الله تعالى بقوله هذا:
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة أي لما ذكر الله تعالى تشريف محمد صلّى الله عليه وسلّم بالإسراء ذكر عقبه تشريف موسى عليه السلام بإنزال التوراة عليه مع ما فيه من دعوته عليه السلام(1/615)
إلى الطور وما وقع فيه من المناجاة جمعا بين الأمرين المتحدين في المعنى. أي آتيناه التوراة بعد ما أسرينا به إلى الطور. وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ والضمير يعود إلى الكتاب أو إلى موسى أي جعلنا موسى يخرجهم بواسطة ذلك الكتاب من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والدين الحق أَلَّا تَتَّخِذُوا فلا ناهية و «أن» بمعنى أي التفسيرية أو زائدة و «تتخذوا» على إضمار القول أي فقلنا: لا تتخذوا وقرأ أبو عمرو «أن لا يتخذوا» بالياء خبرا عن بني إسرائيل فإن مصدرية ولا نافية ولام التعليل مقدرة والمعنى آتينا موسى الكتاب لهداية بني إسرائيل لئلا يتخذوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) أي ربا تفوضون إليه أموركم ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ نصب على الاختصاص على قراءة النهي وعلى مفعول «يتخذوا» الأول ومن دوني حال من وكيلا والتقدير:
لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح، من دوني وكيلا فالناس كلهم ذرية نوح، لأنه كان معه في السفينة ثلاثة بنين سام وحام ويافث، فالناس كلهم من ذرية أولئك إِنَّهُ أي نوحا كانَ عَبْداً شَكُوراً (3) أي كثير الشكر في جميع حالاته وفي هذا إعلام بأن إنجاء من معه كان ببركة شكره، وحث للذرية على الاقتداء به، وزجر لهم عن الشرك. والمعنى ولا تشركوا بي، لأن نوحا كان عبدا شكورا وأنتم من ذريته فاقتدوا به كما أن آباءكم اقتدوا به، وإنما يكون العبد شكورا إذا كان موحدا لا يرى حصول شيء من النعم إلا من فضل الله تعالى.
روي أن نوحا عليه السلام كان إذا أكل قال: الحمد لله الذي أطعمني ولو شاء أجاعني.
وإذا شرب قال: الحمد لله الذي سقاني ولو شاء أظمأني. وإذا اكتسى قال: الحمد لله الذي كساني ولو شاء أعراني. وإذا احتذى قال: الحمد لله الذي حذاني ولو شاء أحفاني. وإذا قضى حاجته قال: الحمد لله الذي أخرج عني أذاه في عافية ولو شاء حبسه. وإذا أراد الإفطار عرض طعامه على من آمن به فإن وجده محتاجا آثره به. وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ أي أخبرناهم في التوراة بحصول الفساد مرتين لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ أي أرض الشام مَرَّتَيْنِ الأولى مخالفة حكم التوراة وحبس أرمياء عليه السلام حين أنذرهم سخط الله تعالى وقتل شعياء نبي الله في الشجرة، وذلك أنه لما مات صدقيا ملكهم تنافسوا في الملك وقتل بعضهم بعضا، وهم لا يسمعون من نبيهم فقال الله تعالى له: «قم في قومك» فلما فرغ مما أوحى الله إليه عدوا عليه ليقتلوه، فهرب، فانفلقت له شجرة، فدخل فيها، وأدركه الشيطان، فأخذ هدبة من ثوبه فأراهم إياها فوضعوا المنشار في وسطها، فنشروها حتى قطعوها وقطعوه في وسطها والثاني قتل زكريا ويحيى وقصد قتل عيسى عليهم الصلاة والسلام. وَلَتَعْلُنَّ أي لتغلبن الناس بغير الحق عُلُوًّا كَبِيراً (4) أي مجاوزا للحدود ويقال لكل متجبر: قد علا. فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما أولى مرتي الفساد بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ أي قتال شَدِيدٍ
عن حذيفة قال: قلت: يا رسول الله لقد كان بيت المقدس عند الله عظيما جسيم الخطر عظيم القدر فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هو من أجل(1/616)
البيوت ابتناه الله تعالى لسليمان بن داود عليهم السلام من ذهب وفضة، ودرّ وياقوت وزمرد» وذلك أن سليمان بن داود لما بناه سخّر له الجن يأتونه بالذهب والفضة من المعادن، وأتوه بالجواهر والياقوت والزمرد، وسخّر له الجن حتى بنوه من هذه الأصناف. قال حذيفة: فقلت:
يا رسول الله كيف أخذت هذه الأشياء من بيت المقدس؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن بني إسرائيل لما عصوا الله وقتلوا الأنبياء سلط الله عليهم بختنصر، وهو من المجوس، وكان ملكه سبعمائة سنة»
«1» . وهو قوله تعالى: فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ.
فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ أي فترددوا في أوساط الديار، ودخلوا بيت المقدس، وقتلوا الرجال، وسبوا النساء والأطفال وأخذوا الأموال وجميع ما كان في بيت المقدس من هذه الأصناف فاحتملوها على سبعين ألفا ومائة ألف عجلة حتى أودعوها أرض بابل فأقاموا يستخدمون بني إسرائيل ويستملكونهم بالخزي والعقاب والنكال مائة عام. وَكانَ أي ذلك البعث وَعْداً مَفْعُولًا (5) أي منجزا ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ أي الدولة عَلَيْهِمْ أي على الذين فعلوا بكم ما فعلوا بعد مائة سنة حين تبتم عن ذنوبكم ورجعتم عن الإفساد بظهور كورش الهمذاني على بختنصر. وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ كثيرة بعد ما نهبت أموالكم وَبَنِينَ بعد ما سبيت أولادكم وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) أي رجالا وعددا، أي ثم إن الله عز وجل رحمهم فأوحى إلى ملك من ملوك فارس وهو كورش الهمذاني أن تسير إلى المجوس في أرض بابل وأن تستنقذ من في أيديهم من بني إسرائيل، فسار إليهم ذلك الملك حتى دخل أرض بابل فاستنفذ من بقي من بني إسرائيل من أيدي المجوس، واستنقذ ذلك الحلي الذي كان من البيت المقدس ورده الله إليه كما كان أول مرة إِنْ أَحْسَنْتُمْ بفعل الطاعات أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فإنّ ببركة تلك الطاعات يفتح الله عليكم أبواب الخيرات، وَإِنْ أَسَأْتُمْ بفعل المحرمات فَلَها أي فقد أسأتم إلى أنفسكم فإن بشؤم تلك المعاصي يفتح الله عليكم أبواب العقوبات فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أي وعد المرة الآخرة بعثنا تطوس بن إسبيانوس الرومي مع جنوده لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ أي ليجعلوا آثار الحزن ظاهرة في وجوهكم.
وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وحمزة «ليسوء» بالتوحيد أي ليحزن الله، أو الوعد أو البعث وجوهكم، وقرأ الكسائي «لنسوء» بنون العظمة وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ أي بيت المقدس كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ أي كما دخل الأعداء فيه في أول مرة وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا أي ليهلكوا البلاد التي علوا عليها تَتْبِيراً (7) أي إهلاكا، أي فلما رجعت بنو إسرائيل إلى البيت المقدس عادوا إلى المعاصي فسلط الله عليهم ملك الروم قيصر، فغزاهم في البر والبحر فسباهم وقتلهم،
__________
(1) رواه الشجري في الأمالي (2: 231) ، والطبراني في المعجم الكبير (10: 179) .(1/617)
وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)
وأخذ أموالهم ونساءهم، وأخذ جميع ما في بيت المقدس، واحتمله على سبعين ألفا ومائة ألف عجلة حتى أودعه في كنيسة الذهب، فهو فيها الآن حتى يأخذه المهدي ويرده إلى بيت المقدس وهو ألف سفينة وسبعمائة سفينة يرسي بها على بابل حتى ينقل إلى بيت المقدس عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ أي لعل ربكم أن يرحمكم بعد المرة الآخرة إن تبتم توبة أخرى من المعاصي يا بني إسرائيل وَإِنْ عُدْتُمْ إلى الفساد مرة أخرى عُدْنا إلى صب البلاء عليكم في الدنيا مرة أخرى، وإن عدتم إلى الإحسان عدنا إلى الرحمة، وقد عادوا إلى فعل ما لا ينبغي وهو التكذيب لمحمد صلّى الله عليه وسلّم وكتمان ما ورد في التوراة والإنجيل، فعاد الله عليهم بالتعذيب على أيدي العرب فجرى القتل والجلاء على قريظة وبني النضير وبني قينقاع ويهود خيبر، والباقي منهم مقهورون بضرب الجزية وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8) أي سجنا لا يستطيعون الخروج منها أبدا إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ الذي آتيناكه يَهْدِي كل الناس لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ أي للطريقة التي هي أقوم الطرائق وهي ملة الإسلام فبعضهم يصل بهدايته وهم المؤمنون وبعضهم لا وهم الكافرون وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ من التقوى والإحسان أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) أي بأن لهم في مقابلة تلك الأعمال أجرا كبيرا بحسب الذات وبحسب التضعيف وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) وهو عذاب جهنم وهذا عطف على قوله: «أن لهم» فالقرآن يبشر المؤمنين ببشارتين بأجر كبير وبتعذيب أعدائهم.
واعلم أن أكثر اليهود ينكرون الثواب والعقاب الجسمانيين وأن بعضهم قال: لن تمسنا النار إلا أياما معدودات، فهم بذلك صاروا كالمنكرين للآخرة
وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ في الإلحاح، أي إن الإنسان قد يبالغ في الدعاء طلبا لشيء يعتقد أن خيره فيه مع أن ذلك الشيء يكون منبع ضرره وهو يبالغ في طلبه لجهله بحال ذلك الشيء، وإنما يقدم على مثل هذا العمل لكونه مغترا بظاهر الأمور غير متفحص عن حقائقها وأسرارها.
روي أن النضر بن الحرث قال: اللهم انصر خير الحزبين اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك إلى آخره فأجاب الله تعالى دعاءه، وضربت رقبته يوم بدر. وقيل: المراد أن الإنسان في وقت الضجر يلعن نفسه وأهله وولده وماله، ولو استجيب له في الشر كما يستجاب له في الخير لهلك. وَكانَ الْإِنْسانُ بحسب جبلته عَجُولًا (11) أي ضجرا لا يتأنى إلى أن يزول عنه ما يطرأ عليه فإن كل أحد من الناس لا يخلو عن عجلة ولو تركها لكان تركها أصلح في الدنيا والدين.
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ أي علامتين دالتين على تمام علمنا وكمال قدرتنا، فلما بيّن الله تعالى أن هذا القرآن يدل على الطريق الأقوم ذكر الدلائل الدالة على وحدته تعالى. وهو عجائب العالم العلوي والسفلي فالقرآن نعم الدين ووجود الليل والنهار نعم الدنيا، فلولاهما لما حصل للخلق(1/618)
الراحة والكسب والقرآن ممتزج من المحكم والمتشابه، فكذلك الدهر مركب من الليل والنهار، فالمحكم كالنهار، والمتشابه كالليل، فكما أن المقصود من التكليف لا يتم إلا بذكر المحكم والمتشابه فكذلك الزمان لا يحصل الانتفاع به إلا بالليل والنهار فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وهي القمر، لأنه يبدو في أول الأمر على صورة الهلال، ثم لا يزال يتزايد نوره حتى يصير بدرا كاملا، ثم يشرع في الانتقاص قليلا قليلا إلى أن يعود إلى المحاق وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ وهي الشمس مُبْصِرَةً أي مضيئة ذات أشعة تظهر بها الأشياء المظلمة فالإضاءة سبب لحصول الإبصار لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أي لتطلبوا في الليل والنهار فضل ربكم من الرزق الحلال بالكسب ومن الثواب الجزيل بأداء الطاعات والاحتراز عن المنهيات وَلِتَعْلَمُوا بتعاقبهما عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ أي حساب ما دون السنين من الشهور والأيام والساعات لإقامة مصالحكم الدينية والدنيوية وَكُلَّ شَيْءٍ تفتقرون إليه في مصالح دينكم ودنياكم فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا (12) أي بيّناه في القرآن تبيينا بليغا لا شبهة فيه، فظهر كون القرآن يهدي للتي هي أقوم ظهورا بيّنا وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ أي عمله الذي قدرناه عليه من خير وشر فِي عُنُقِهِ وذكر العنق كناية عن شدة اللزوم، أي ألزمناه عمله كلزوم القلادة أو الفاء للصفة بحيث لا يفارقه عمله أبدا فإن كان خيرا كان زينة له كالطوق، وإن كان شرا كان شينا له كالغل على رقبته. وإنما يكنى العمل بالطير لأن العرب إذا أرادوا الإقدام على عمل اعتبروا أحوال الطير، فهل يطير متيامنا أو متياسرا أو صاعدا إلى الجو إلى غير ذلك فيستدلون بكل واحد منها على الخير والشر والسعادة والنحوسة فلما كثر ذلك منهم سمي نفس الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه. وقيل: المراد بالطائر صحيفة الأعمال التي كتبتها الملائكة الحفظة، فإذا مات العبد طويت تلك الصحيفة وجعلت معه في قبره حتى تخرج له يوم القيامة.
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله ما أول ما يلقى الميت إذا أدخل قبره قال: «يا ابن مسعود ما سألني عنه أحد إلا أنت فأول ما يناديه ملك اسمه رومان يجوس خلال المقابر فيقول: يا عبد الله اكتب عملك، فيقول: ليس معي دواة ولا قرطاس ولا قلم، فيقول:
كفنك قرطاسك، ومدادك ريقك وقلمك إصبعك فيقطع له قطعة من كفنه، ثم يشرع العبد يكتب وإن كان غير كاتب في الدنيا فيذكر حينئذ حسناته وسيئاته كيوم واحد، ثم يطوي الملك القطعة ويعلقها في عنقه» . ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ»
«1» أي عمله فيه وقيل: المراد بالطائر كتاب إجابته في القبر لمنكر ونكير وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً أي مكتوبا فيه عمله يَلْقاهُ أي يلقى الإنسان.
__________
(1) رواه الخطيب الهندي في الفقيه والمتفقه (11) .(1/619)
وقرأ ابن عامر «يلقاه» بضم الياء وفتح اللام، والقاف المشددة أي يعطاه مَنْشُوراً (13) أي مفتوحا ويقال له: اقْرَأْ كِتابَكَ.
قال الحسن وقتادة يقرأ ذلك اليوم من لم يكن في الدنيا قارئا. وقال بكر بن عبد الله: يؤتى بالمؤمن يوم القيامة بصحيفته وهو يقرؤها وحسناته في ظهرها يغبطه الناس عليها وسيئاته في جوف صحيفته وهو يقرؤها حتى إذا ظن أنها قد أوبقته قال الله تعالى: اذهب فقد غفرتها لك فيما بيني وبينك فيعظم سروره. كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) أي محاسبا. قال الحسن: ومن عدل الله في حقك جعلك حسيب نفسك.
وقال السدي: يقول الكافر يومئذ له تعالى: إنك قضيت أنك لست بظلام للعبيد فاجعلني أحاسب نفسي فيقال له: اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً. مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أي من اهتدى بهداية القرآن وعمل بما في تضاعيفه من الأحكام وانتهى عما نهاه عنه فإنما تعود منفعة اهتدائه إلى نفسه لا تتخطاه إلى من لم يهتد فإن ثواب العمل الصالح مختص بفاعله وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي ومن ضل عن الطريقة التي يهديه إليها فإنما وبال ضلاله عليها لا على من لم يباشره وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تحمل نفس حاملة للإثم إثم نفس أخرى بطيبة النفس حتى يمكن تخلص النفس الثانية عن إثمها، ولكن يحمل عليها بالقصاص فلا تؤخذ نفس بذنب نفس أخرى فكل أحد مختص بذنب نفسه، وهذا قطع لأطماع الكفار حيث كانوا يزعمون أنهم إن لم يكونوا على الحق فالعقاب على أسلافهم الذين قلدوهم الدين الفاسد وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ قوما بالهلاك حَتَّى نَبْعَثَ إليهم رَسُولًا (15) يهديهم إلى الحق ويردعهم عن الضلال ويقيم الحجج، ويمهد الشرائع. وأهل الفترتين بين نوح وإدريس وبين عيسى ومحمد عليهم السلام ثلاثة عشر قسما ستة سعداء وأربعة أشقياء وثلاثة تحت المشيئة. فأما السعداء:
فقسم وحّد الله تعالى بنور وجده في قلبه كقس بن ساعدة فإنه كان إذا سئل هل لهذا العالم إله قال:
البعرة تدل على البعير، وأثر الأقدام يدل على المسير. وقسم وحّد الله تعالى بما تجلى لقلبه من النور الذي لا يقدر على دفعه. وقسم ألقي في نفسه، واطلع من كشفه على منزلة محمد صلّى الله عليه وسلّم فآمن به في عالم الغيب. وقسم اتبع ملة حق ممن تقدمه. وقسم طالع في كتب الأنبياء فعرف شرف محمد صلّى الله عليه وسلّم فآمن به وقسم آمن بنبيه الذي أرسل إليه وأدرك رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم وآمن به فله أجران.
وأما الأشقياء: فقسم عطل بلا نظر بل بتقليد. وقسم عطل بعد ما أثبت بلا استقصاء نظر. وقسم أشرك عن تقليد محض. وقسم علم الحق وعانده. وأما الذي تحت المشيئة: فقسم عطل فلم يقر بوجود الإله عن نظر ناقص لضعف في طبائعه. وقسم أشرك عن نظر أخطأ فيه. وقسم عطل بعد ما أثبت بغير نظر قوي. ونقل عن السيوطي أن أبوي النبي صلّى الله عليه وسلّم لم تبلغهما الدعوة والله تعالى يقول:(1/620)
وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا وحكم من لم تبلغه الدعوة أنه يموت ناجيا ولا يعذب ويدخل الجنة وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها
أي وإذا دنا وقت تعلق إرادتنا بإهلاك قرية بعذاب الاستئصال أمرنا على لسان الرسول المبعوث إلى أهلها رؤساءها بالأعمال الصالحات وهي الإيمان والطاعة.
وروي برواية غير مشهورة عن نافع وابن عباس «أمرنا مترفيها» بمد الهمزة أي كثرنا أغنياءها وفساقها. وعن أبي عمرو «أمرنا» بتشديد الميم أي جعلنا جبابرتها أمراء. فَفَسَقُوا فِيها
أي فخرجوا عما أمرهم الله وعملوا المعاصي فيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
أي فثبت عليها ما توعدناهم به على لسان رسولنا من الإهلاك فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
(16) أي فأهلكناها إهلاك الاستئصال وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ أي وكثيرا أهلكنا من الأمم الماضية من بعد قوم نوح فإن الطريق الذي ذكرناه هو عادتنا مع الذين يفسقون من القرون الذين كانوا بعد نوح وهم عاد وثمود وغيرهم وإنما قال تعالى: مِنْ بَعْدِ نُوحٍ لأنه أول من كذبه قومه وخوّف تعالى بهذه الآية كفار مكة وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17) فإنه تعالى عالم بجميع المعلومات راء لجميع المرئيات وثبت أنه قادر على كل الممكنات فكان قادرا على إيصال الجزاء إلى كل أحد بقدر استحقاقه فإنه منزه عن الظلم، وهذه بشارة عظيمة لأهل الطاعة وتخويف عظيم لأهل المعصية مَنْ كانَ يُرِيدُ بالذي يعمله الْعاجِلَةَ أي الدار العاجلة فقط عَجَّلْنا لَهُ فِيها أي في تلك الدار ما نَشاءُ تعجيله له من نعيمها لِمَنْ نُرِيدُ تعجيل ما نشاء له وهذا بدل من الضمير بإعادة الجار بدل بعض من كل فلا يجد كل واحد جميع ما يهواه فإن كثيرا من الكفار يعرضون عن الدين في طلب الدنيا، ثم يبقون محرومين عن الدنيا والدين ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ في الآخرة مكان ما عجلناه جَهَنَّمَ وما فيها من أنواع العذاب يَصْلاها أي يدخلها مَذْمُوماً أي مهانا بالذم مَدْحُوراً (18) أي مطرودا من رحمة الله تعالى.
قيل: نزلت هذه الآية في مرثد بن ثمامة وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ أي أراد بعمله ثواب الآخرة وَسَعى لَها أي للدار الآخرة سَعْيَها بأن يكون العمل من باب القرب والطاعات وَهُوَ مُؤْمِنٌ إيمانا صحيحا فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ أي عملهم مَشْكُوراً (19) أي مقبولا عند الله أحسن القبول. قيل: نزلت هذه الآية في بلال المؤذن كُلًّا أي كل واحد من الفريقين مريد الدنيا ومريد الآخرة نُمِدُّ أي نزيد بالعطاء هؤُلاءِ أي الذين يريدون الدنيا وَهَؤُلاءِ أي الذين يريدون الآخرة وهذان بدلان من كلا فإن الله يوسع عليهما في الرزق من الأموال والأولاد وغير ما من أسباب العز والزينة في الدنيا مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ أي من معطاه الواسع وهذا متعلق «بنمد» رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ أي معطاه في الدنيا مَحْظُوراً (20) أي ممنوعا من أحد، مؤمنا كان أو(1/621)
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)
كافرا، لأن الكل مخلوقون في دار العمل فأزاح تعالى العذر عن الكل، وأوصل تعالى متاع الدنيا إلى الكل على القدر الذي يقتضيه الصلاح
انْظُرْ أيها الإنسان بنظر الاعتبار كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ فيما أمددناهم به من العطايا في الدنيا فمن وضيع ورفيع، وضالع وضليع، ومالك ومملوك، وموسر وصعلوك وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ من درجات الدنيا فإن درجات الآخرة باقية غير متناهية ونعم الدنيا فانية متناهية وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) من تفضيل درجات الدنيا أي التفاوت في الآخرة أكبر، لأن التفاوت فيها بالجنة ودرجاتها والنار ودركاتها، ثم ذكر الله تعالى من أنواع التكاليف خمسة وعشرين نوعا بعضها أصلي وبعضها فرعي وهي: تفصيل لثلاثة شروط لأهل الثواب وهي إرادة الآخرة بالعمل، وأن يسعى سعيا موافقا لطلب الآخرة وأن يكون مؤمنا فقال: لا تَجْعَلْ أيها الإنسان مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ أي فتمكث في الناس أو فتعجز عن سعادة الآخرة أو فتصير مَذْمُوماً من الملائكة والمؤمنين مَخْذُولًا (22) من الله تعالى وَقَضى رَبُّكَ أي أمر أمرا جزما.
وقرأ علي وابن عباس وعبد الله «ووصى ربك» ، أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ف «أن» إما مفسرة أو مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن و «لا» ناهية وَبِالْوالِدَيْنِ أي أحسنوا بهما إِحْساناً عظيما كاملا فإن إحسانهما إليك قد بلغ الغاية العظيمة فوجب أن يكون إحسانك إليهما كذلك ومع ذلك لا تحصل المكافأة، لأن إنعامهما عليك كان على سبيل الابتداء وفي الأمثال المشهورة أن البادئ بالبر لا يكافأ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ أي إن يبلغا إلى حالة الضعف وهما عندك في آخر العمر كما كنت عندهما في أول العمر فلا تتضجر لواحد منهما بما تستقذر منه ولا تستثقل من مؤنه، أي ولا تقل له كلاما رديئا إذا وجدت منه رائحة تؤذيك كما أنهما لا يتقذران منك حين كنت تخرأ أو تبول.
وقرأ حمزة والكسائي «يبلغان» فأحدهما بدل من ضمير التثنية. وقرأ ابن كثير وابن عامر «أف» بفتح الفاء من غير تنوين ونافع وحفص بكسر الفاء مع التنوين. والباقون بكسر الفاء من غير تنوين. وَلا تَنْهَرْهُما أي لا تغلظ لهما في الكلام. والمراد من قوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ لمنع من إظهار الضجر بالقليل أو الكثير ومن قوله وَلا تَنْهَرْهُما المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الرد عليه وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً (23) أي لينا حسنا بأن يخاطبه بالكلام المقرون بأمارات التعظيم وَاخْفِضْ لَهُما
جَناحَ الذُّلِ
أي لين لهما جانبك المذلول. والمراد افعل التواضع لهما مِنَ الرَّحْمَةِ أي من أجل فرط عطفك عليهما ورقتك لهما بسبب ضعفهما لا لأجل خوفك من العار. وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) أي ادع لهما بالرحمة ولو خمس مرات في اليوم والليلة بأن تقول: رب ارحمهما برحمتك الدنيوية والأخروية رحمة مثل تربيتهما(1/622)
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)
إياي في صغري؟ ويجوز أن تكون الكاف للتعليل، أي لأجل تربيتهما لي رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ من الإخلاص وعدمه في برهما إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ أي صادقين في نية البر بالوالدين إن كنتم رجاعين إلى الله تعالى فَإِنَّهُ تعالى كانَ لِلْأَوَّابِينَ أي للرجاعين إليه تعالى عما فرط منهم غَفُوراً (25) فيكفر عنهم سيئاتهم وَآتِ ذَا الْقُرْبى أي أعط ذا القرابة من جهة الأب والأم وإن بعد حَقَّهُ من صلة الرحم بالمال أو غيره وَالْمِسْكِينَ أي أعط المسكين حقه من الإحسان إليه وَابْنَ السَّبِيلِ أي أعط الضيف النازل بك حقه وهو إكرامه ثلاثة أيام وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) وهو إنفاق المال في المعصية وفي الفخر والسمعة إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ أي أتباعهم في الصرف في المعاصي وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) فإنه يستعمل بدنه في المعاصي والإفساد في الأرض، وكذلك كل من رزقه الله تعالى مالا أو جاها فصرفه إلى غير مرضاة الله تعالى كان كفورا لنعمة الله تعالى فكان المبذرون موافقين للشياطين في تلك الصفة وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها أي إن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل حياء من التصريح بالرد لكونك كنت فقيرا في وقت طلبهم منك فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً (28) أي لينا سهلا بأن تعدهم بالإعطاء عند مجيء الرزق أو تقول لهم الله يسهل.
وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان بعد نزول هذه الآية إذا لم يكن عنده ما يعطي وسئل يقول: يرزقنا الله تعالى وإياكم من فضله اه. وقوله تعالى: ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها كناية عن الفقر، لأن فاقد المال يطلب رحمة الله فسمى الفقر بابتغاء رحمة الله من إطلاق اسم المسبب عن اسم السبب وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ أي لا تجعل يدك في انقباضها كالمغلولة الممنوعة من الانبساط أي لا تمسك عن الإنفاق بحيث تضيق على نفسك وأهلك وَلا تَبْسُطْها في الإنفاق كُلَّ الْبَسْطِ أي في وجوه صلة الرحم وسبيل الخيرات أي ولا تتوسع في الإنفاق توسعا مفرطا بحيث لا يبقى في يدك شيء فَتَقْعُدَ مَلُوماً أي فتصير ملوما عند الله وعند أصحابك فهم يلومونك على تضييع المال بالكلية، وإبقاء الأهل والولد في الضر وتبقى ملوما عند نفسك بسبب سوء تدبيرك وترك الحزم في مهمات معاشك مَحْسُوراً (29) أي نادما أو منقطعا عنك الأحباب بسبب ذهاب الأسباب إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي إن الله يوسع الرزق على البعض ويضيقه على البعض الآخر وهو يربي المربوب ويدفع حاجاته على مقدار الصلاح فعلى العباد أن يقتصدوا في الإنفاق وأن يستنوا بسنته تعالى إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) فيعلم من مصالحهم ما يخفى عليهم ويعلم أن مصلحة كل إنسان في أن لا يعطيه إلا ذلك القدر فالتفاوت في أرزاق العباد لأجل رعاية الصلاح لا لأجل البخل
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ أي خشية وقوع فقر بكم فقتل الأولاد، إن كان لخوف الفقر فهو سوء ظن بالله وإن كان لأجل الغيرة على النبات فهو سعي في تخريب العالم. فالأول: ضد التعظيم لأمر الله تعالى. والثاني: ضد الشفقة على خلق الله.(1/623)
قال بعضهم: والذي حملهم على قتل الأولاد البخل وطول الأمل نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ أي نرزقهم من غير أن ينقص من رزقكم شيء فيطرأ عليكم ما تخشونه من الفقر إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) أي ذنبا عظيما.
وقرأ الجمهور بكسر الخاء وسكون الطاء. وقرأ ابن عامر بفتح الخاء والطاء مع القصر بمعنى ضد الصواب. وقرأ ابن كثير بفتح الخاء والطاء مع المد وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى بإتيان مقدماته إِنَّهُ أي الزنا كانَ فاحِشَةً أي ظاهرة القبح لاشتماله على فساد الأنساب وعلى التقاتل فإن الإنسان لا يعرف أن الولد الذي أتت به الزانية أهو منه أو من غيره فلا يقوم بتربيته وذلك يوجب ضياع الأولاد وانقطاع النسل وخراب العالم وَساءَ سَبِيلًا (32) لأنه لا يبقى فرق بين الإنسان والبهائم في عدم اختصاص الذكران بالإناث فالله تعالى وصف الزنا في آية أخرى بصفات ثلاثة، فالذي لم يذكر هنا كونه مقتا فإن المرأة إذا تمرنت على الزنا يستقذرها كل طبع سليم وكل خاطر سليم وإذا اشتهرت بالزنا تنفر عن مقارنتها طباع أكثر الخلق فحينئذ لا تحصل لها الألفة ولا يتم الازدواج وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قتلها بالإسلام والعهد إِلَّا بِالْحَقِّ أي بسبب الحق وهو عند القصاص فهو متعلق بلا تقتلوا وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً بغير حق يبيح القتل للقاتل فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ من الوارث أو السلطان عند عدم الوارث سُلْطاناً أي استيلاء على القاتل يؤاخذه بالقصاص أو بالدية فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ أي فلا يسرف الولي في أمر القتل بأن يزيد على القتل المثلة وقطع الأعضاء أو بأن يقتل غير القاتل من أقاربه، أو بأن يقتل الاثنين مكان الواحد أو بأن يقتل القاتل مع أخذ الدية. وقيل: المعنى ولا يسرف القاتل الظالم والإسراف هو إقدامه على القتل بالظلم. وقرأ حمزة والكسائي «فلا تسرف» بالتاء على الخطاب، أي لا تسرف في القتل أيها الولي، أي اكتف باستيفاء القصاص ولا تطلب الزيادة. أو لا تسرف أيها الإنسان أي لا تفعل القتل الذي هو ظلم محض، فإنك إن قتلت مظلوما استولى في القصاص منك. ويعضد هذا قراءة «ولا تسرفوا» . إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) .
قال مجاهد: إن المقتول المظلوم كان منصورا في الدنيا بإيجاب القود على قاتله، وفي الآخرة بكثرة الثواب له وبكثرة العقاب لقاتله.
وقال قتادة: إن ولي المقتول كان منصورا على القاتل حيث أوجب الله له القصاص أو الدية وأمر الحكام بمعونته في استيفاء حقه فليكتف بهذا القدر ولا يطمع في الزيادة. وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وهي حفظه وإرباحه حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ أي حتى يبلغ إلى حيث يمكنه بسبب رشده القيام بمصالح ماله فحينئذ تزول ولاية غيره عنه فإن بلغ غير كامل العقل لم تزل الولاية عنه وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ سواء جرى بينكم وبين ربكم أو جرى بينكم وبين الناس إِنَّ الْعَهْدَ(1/624)
كانَ مَسْؤُلًا
(34) أي مسؤولا عنه فيسأل الناكث ويعاتب عليه يوم القيامة وَأَوْفُوا الْكَيْلَ أي أتموه إِذا كِلْتُمْ لغيركم وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ أي بميزان العدل بحيث لا يميل إلى أحد الجانبين. ذلِكَ أي الوزن بالميزان المعتدل وإيفاء الكيل والعهد خَيْرٌ في الدنيا، فإنه يوجب الذكر الجميل بين الناس وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) أي عاقبة في الآخرة فإنه يخلص من العقاب الشديد وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي لا تكن أيها الإنسان في اتباع ما لا علم لك به من قول أو فعل كمن يتبع مسلكا لا يدري أنه يوصله إلى مقصده. والمراد بالعلم هو الظن المستفاد من سند إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ أي كل واحد من تلك الأعضاء كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا (36) أي كان كل واحد منها مسؤولا عن نفسه أي عما فعل به صاحبه ولا يبعد أن يخلق الله الحياة والعقل والنطق في هذه الأعضاء، ثم إنه تعالى يوجه السؤال عليها وفي هذا دليل على أن العبد مؤاخذ بعزمه على المعصية.
روي عن شكل بن حميد قال: أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا نبي الله علمني تعويذا أتعوذ به فأخذ بيدي ثم قال: «قل أعوذ بك من شر سمعي وشر بصري وشر لساني وشر قلبي وشر منيي» «1» قال: فحفظتها
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي ذا شدة فرح أي لا تمش مشيا يدل على الكبرياء والعظمة إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ أي لن تنقبها بشدة وطأتك وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا (37) أي لن يبلغ طولك الجبال. والمعنى تواضع ولا تتكبر فإنك خلق ضعيف من خلق الله فلا يليق بك التكبر كُلُّ ذلِكَ أي المذكور من الخصال الخمس والعشرين كانَ سَيِّئُهُ بضم الهمزة والهاء أي السيء منه وهي المنهيات الاثنا عشر عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) أي محرما مبغوضا فاعله معاقبا عليه.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «سيئة» بالتاء وبالنصب، وهو خبر كان وعند ربك صفة لسيئة ومكروها خبر ثان لكان. والمعنى كل ما تقدم من المنهيات وهي اثنتا عشرة خصلة كان سيئة أي ذنبا ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ أي ذلك التكاليف الأربعة والعشرون نوعا بعض ما أوحى إليك ربك مِنَ الْحِكْمَةِ التي هي معرفة الحق لذاته ومعرفة الخير لأجل العمل به وهذا خبر ثان وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً يلومك نفسك وغيرها مَدْحُوراً (39) أي مبعدا من رحمة الله تعالى أَ
فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ
أي اختاركم ربكم فخصكم بالذكور وَاتَّخَذَ لنفسه مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً أي إن كفار مكة اعتقدوا أن أشرف الأولاد البنون: وأخسهم البنات، ثم إنهم أثبتوا البنين لأنفسهم مع علمهم بنهاية نقصهم، وأثبتوا البنات لله مع علمهم بأن الله هو الموصوف
__________
(1) رواه النسائي في كتاب الاستعاذة، باب: الاستعاذة من شر السمع والبصر.(1/625)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50)
بالكمال الذي لا نهاية له وذلك يدل على نهاية جهلهم إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ بسبب ذلك الاعتقاد قَوْلًا عَظِيماً (40) في الفرية على الله حيث تجعلونه تعالى من نوع الأجسام، ثم تنسبون إليه ما تكرهون من أخس الأولاد، ثم تصفون الملائكة الذين هم من أشرف الخلائق بالأنوثة التي هي أخس أوصاف الحيوان
وَلَقَدْ صَرَّفْنا أي كررنا هذه الدلائل فِي هذَا الْقُرْآنِ أي في مواضع منه لِيَذَّكَّرُوا بفتح الذال والكاف وتشديدهما أي ليعرفوا بطلان ما يقولونه. وقرأ حمزة والكسائي «ليذكروا» ساكنة الذال مضمومة الكاف أي ليفهموا ما في القرآن أو ليذكروه بألسنتهم فإن الذكر باللسان قد يؤدي إلى تأثر القلب بمعناه. وَما يَزِيدُهُمْ أي والحال ما يزيدهم ذلك التكرير إِلَّا نُفُوراً (41) أي تباعدا عن الإيمان، وهذا دليل على أن الله ما أراد الإيمان من الكفار قُلْ في إظهار بطلان ذلك من جهة أخرى: لَوْ كانَ مَعَهُ تعالى آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ أي كونا موافقا لما يقولون: إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) أي لطلبوا إلى من له الملك سبيلا بالمغالبة كما هو ديدن الملوك بعضهم مع بعض. وقيل: المعنى لو كانت هذه الأصنام تقربكم إلى الله زلفى كما تقولون لطلبت لأنفسها المراتب العالية فلما لم تقدر على ذلك فكيف يدرك في العقل أن تقربكم إلى الله منزلة سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) أي تنزه الله وارتفع بصفات الكمال عن الشركاء والنقائص ارتفاعا عظيما تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ أي تنزه الله تعالى السموات السبع والأرض عن كل نقص بدلالة أحوالها على توحيد الله تعالى وقدرته ولطيف حكمته فكأنها تنطق بذلك، ويصير لها بمنزلة التسبيح، وتسبح العقلاء بلسان المقال.
وقرأ ابن كثير «كما يقولون» و «عما يقولون» و «يسبح» بالياء في هذه الثلاثة. وقرأ حمزة والكسائي كلها بالتاء. وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم في الأول بالتاء على الخطاب.
وفي الثاني والثالث بالياء. وقرأ حفص عن عاصم الأولين بالياء على الحكاية والأخير بالتاء.
وقرأ أبو عمرو الأول والأخير بالتاء والأوسط بالياء وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ أي ما من شيء من الأشياء حيوانا كان أو نباتا أو جمادا إلا ينزهه تعالى متلبسا بحمده بلسان الحال عما لا يليق بذاته تعالى من لوازم الإمكان فالأكوان بأسرها شاهدة بتلك النزاهة وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ أيها المشركون تَسْبِيحَهُمْ فإن الكفار وإن كانوا مقرين بألسنتهم بإثبات إله العالم لم يتفكروا في أنواع الدلائل ولم يعلموا كمال قدرته تعالى فاستبعدوا كونه تعالى قادرا على النشر والحشر فهم غافلون عن أكثر دلائل التوحيد والنبوة والمعاد، لأنهم أثبتوا لله شركاء وزوجا وولدا.
وقرئ «لا يفقهون» على صيغة المبني للمفعول مع فتح الفاء وتشديد القاف. إِنَّهُ كانَ حَلِيماً ولذلك لم يعاجلكم بالعقوبة مع غفلتكم وسوء نظركم وجهلكم ولذا كان غَفُوراً (44) لمن تاب منكم وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ بمكة جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي المنكرين للبعث حِجاباً مَسْتُوراً (45) .(1/626)
روى ابن عباس أن أبا سفيان والنضر بن الحرث وأبا جهل وغيرهم كانوا يجالسون النبي صلّى الله عليه وسلّم ويستمعون إلى حديثه فقال النضر: يوما ما أدري ما يقول محمد غير أني أرى شفته تتحرك بشيء. وقال أبو سفيان: إني لا أرى بعض ما يقوله حقا، وقال أبو جهل: هو مجنون.
وقال أبو لهب: هو كاهن. وقال حويطب بن عبد العزى: هو شاعر. فنزلت هذه الآية، والله تعالى خلق حجابا في عيونهم يمنعهم عن رؤية النبي صلّى الله عليه وسلّم وعن إدراك ما عليه من النبوة وعن فهم قدره الجليل وذلك الحجاب شيء لا يراه أحد فكان مستورا من هذا الوجه وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أي موانع من أَنْ يَفْقَهُوهُ أي يفهموا القرآن حق الفهم وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً أي صمما مانعا من سماعه اللائق به أي كان بعضهم يحجب بصره عن رؤية النبي إذا أراده بمكروه وهو يقرأ القرآن وبعضهم يحجب قلبه عن إدراك القرآن ويحجب سمعه عن سماعه وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ أي غير مقرون بآلهتهم في الألوهية، وهذا منصوب على الحال من ربك أو على الظرف وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46) أي متباعدين عن قولك أي كان الكفار عند استماع القرآن على حالتين، فإذا سمعوا من القرآن ما ليس فيه ذكر الله بقوا متحيرين لا يفهمون منه شيئا، وإذا سمعوا آية فيها ذكر الله تعالى وذم الشرك بالله تركوا ذلك المجلس ولا يستطيعون سماع القرآن نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ إلى قراءة القرآن بِهِ أي بسببه من الهزء والتكذيب إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أي إلى قراءتك.
وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم كان كلما قرأ القرآن قام عن يمينه رجلان وعن يساره رجلان وعن يساره رجلان من ولد قصي أو من بني عبد الدار فيصفقون ويصفرون، ويخلطون عليه بالأشعار. وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً (47) أي ونحن أعلم بما يتناجون به فيما بينهم إذ هم ذوو نجوى، إذ يقول المشركون بعضهم لبعض: إنكم إن اتبعتم محمدا فقد اتبعتم رجلا زال عقله عن حدّ الاعتدال.
روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر عليا أن يتخذ طعاما ويدعو إليه أشراف قريش من المشركين ففعل على ذلك ودخل عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى التوحيد وقال:
«قولوا: لا إله إلا الله حتى تطيعكم العرب وتنقاد لكم العجم» فأبوا عليه ذلك وكانوا عند استماعهم من النبي صلّى الله عليه وسلّم القرآن والدعوة إلى الله تعالى يقولون بينهم متناجين: هو ساحر وهو مسحور وما أشبه ذلك من القول فأخبر الله تعالى بأنهم يقولون: ما تتبعون إن وجد منكم الأتباع إلا رجلا مخدوعا من قبل الشيطان فإنه يتخيل له فيظن أنه ملك ومن جهة الناس فإن محمدا يتعلم من بعض الناس هذه الكلمات وأولئك يخدعونه بهذه الحكايات
انْظُرْ يا أشرف الرسل كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فكل أحد شبهك بشيء آخر فقالوا: إنه كاهن وساحر وشاعر ومعلم ومجنون فَضَلُّوا في جميع ذلك القول عن طريق الحق فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) إلى طعن يمكن أن(1/627)
أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52) وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
يقبله أحد فيأتون بما لا يرتاب في بطلانه أحد وَقالُوا أَإِذا كُنَّا أي صرنا عِظاماً بالية وَرُفاتاً أي ترابا رميما أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) أي مخلوقين تجدد الروح فينا بعد الموت.
قُلْ لهم يا أكرم الرسل: كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50)
أَوْ خَلْقاً آخر مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ. والمعنى لو تكونون حجارة مع أنها لا تقبل الحياة، بحال أو حديدا مع أنه أصلب من الحجارة أو خلقا غيرهما كائنا من الأشياء التي تعظم في اعتقادكم عن قبول الحياة، كالسماوات والأرض، فلا بد من إيجاد الحياة فيكم فإن قدرته تعالى لا تعجز عن إحيائكم لاشتراك الأجسام في قبول الأعراض فكيف إذا كنتم عظاما ممزقة وقد كانت طرية موصوفة بالحياة من قبل والشيء أقبل لما اعتيد فيه مما لم يعتد فَسَيَقُولُونَ تماديا في الاستهزاء مَنْ يُعِيدُنا أي من الذي يقدر على إعادة الحياة إلينا إذا صرنا كذلك قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أي قل إرشادا لهم إلى طريقة الاستدلال فالذي ابتدأ خلقكم أول مرة من غير مثال يعيدكم إلى الحياة بالقدرة التي ابتدأكم بها فكما لم تعجز تلك عن البداءة لا تعجز عن الإعادة فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ أي فسيحركونها جهتك تعجبا وتكذيبا لقولك وَيَقُولُونَ استهزاء مَتى هُوَ أي الذي وعدتنا من الإعادة قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ ذلك قَرِيباً (51) إذ كل آت قريب يَوْمَ يَدْعُوكُمْ على لسان إسرافيل بالنداء الذي يسمعكم من القبور وهو
النفخة الأخيرة، فإن إسرافيل ينادي: أيتها الأجسام البالية، والعظام النخرة، والأجزاء المتفرقة عودي كما كنت بقدرة الله تعالى وبإذنه فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ. قال سعيد بن جبير: أي فيخرجون من قبورهم وينفضون التراب عن رؤوسهم، ويقولون: سبحانك اللهم وبحمدك.
قال المفسرون: حمدوا حين لا ينفعهم الحمد. وقال الزمخشري: بحمده حال منهم أي حامدين وهذا مبالغة في انقيادهم للبعث وَتَظُنُّونَ عند ما ترون الأهوال الهائلة إِنْ لَبِثْتُمْ أي ما مكثتم في القبور أو في الدنيا إِلَّا قَلِيلًا (52) كالذي مر على قرية وَقُلْ لِعِبادِي أي المؤمنين إذا أردتم إتيان الحجة على المخالفين فاذكروها غير مخلوطة بالشتم والسب فيقابلونهم بمثله ولا يخاشنوهم بل يَقُولُوا لهم الكلمة الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ كأن يقولوا: يهديكم الله. وقيل: نزلت هذه الآية في عمر بن الخطاب شتمه بعض الكفار فأمره الله تعالى بالعفو إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ أي يهيج الشر بين الناس ويغري بعضهم على بعض لتقع بينهم المخاصمة إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ في قديم الزمان لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) أي ظاهر العداوة رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ أي بعاقبة أمركم إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ بأن يوفقكم للإيمان والمعرفة إلى أن تموتوا فينجيكم من العذاب أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ بأن يميتكم على الكفر فيعذبكم إلا أن تلك المشيئة غائبة عنكم فاجتهدوا أنتم في طلب الدين الحق، ولا تصروا على الباطل لئلا تصيروا محرومين عن السعادات الأبدية. ويقال: هذه تفسير للتي هي أحسن أي قولوا لهم: هذه الكلمة ولا تقولوا أيها المؤمنون للمشركين: إنكم من أهل(1/628)
النار، فإنه مما يهيجهم على الشر مع أن عاقبة أمرهم مغيبة عنكم فعسى يهديهم الله إلى الإيمان.
ويقال: إن يشأ ينجكم منهم، وإن يشأ يسلطهم عليكم. وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) أي موكولا إليك أمرهم فتقسرهم على الإيمان، وإنما أرسلناك بشيرا ونذيرا فدارهم ومر أصحابك بالمداراة عليهم، فإن اللين عند الدعوة يؤثر في القلب، ويفيد حصول المقصود. وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي بأحوالهم فيختار منهم لنبوته وولايته من يشاء ممن يستحق ذلك وهو رد عليهم إذ قالوا: بعيد أن يكون يتيم أبي طالب نبيا ولا يجوز إطلاق يتيم على النبي صلّى الله عليه وسلّم لإشعاره بالتحقير حتى أفتى بعض المالكية بقتل قائله كما في الشفاء وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ بالفضائل النفسانية لا بكثرة الأموال والأتباع وهذا إشارة إلى تفضيل رسول الله سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55) فيه ذكر فضل سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم وكونه خاتم النبيين وأمته خير الأمم، وكون الأرض يرثها عباد الله الصالحون وهم محمد وأمته وهذا بيان أن تفضيل داود بإيتاء الزبور لا بإيتاء الملك والسلطنة ورد لقول اليهود لا نبي بعد موسى ولا كتاب بعد التوراة أي فإذا أعطى الله تعالى التوراة فلم يبعد أن يعطي داود زبورا وعيسى الإنجيل، ومحمدا القرآن، ولم يبعد أن يفضل محمدا على جميع الخلق فكيف تنكر اليهود ذلك وكفار قريش فضل محمد وإعطاءه القرآن؟! قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ أي قل يا أشرف الخلق للكفار: ادعوا عند الشدة الذين عبدتم من دون الله كعيسى ومريم وعزير، وطائفة من الملائكة، وطائفة من الجن فَلا يَمْلِكُونَ أي لا يستطيعون كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ أي رفع الشدة عنكم وَلا تَحْوِيلًا (56) للضر إلى غيركم أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ أي الذين يتألهونهم يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ أي يحرص من هو أقرب إلى ربهم القربة بالطاعة إليه فأولئك مبتدأ وخبره يبتغون والذين عطف بيان والوسيلة مفعول ليبتغون وإلى ربهم متعلق بالوسيلة وأي موصولة بدل من فاعل يبتغون. وقيل: إن اسم الموصول خبر لاسم الإشارة ويبتغون حال من فاعل يدعون، والمعنى أولئك المعبودون لهم يعبدون ربهم يطلبون بتلك العبادة القربة إلى ربهم والفضيلة عنده وهم أقرب إليه وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ بها وَيَخافُونَ عَذابَهُ بتركها كدأب سائر العباد فأين هم من كشف الضر! فكيف يكونون آلهة؟ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57) أي يجب الحذر عنه وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً أي وما من قرية طائعة أهلها أو عاصية إلا وتهلك إما بالموت، وإما بالعذاب. فالصالحة: يكون إهلاكها بالموت. والطالحة: يكون إهلاكها بالعذاب بنحو السيف. أو المعنى ما من قرية من قرى الكفار إلا وتخرب إما بالاستئصال بالكلية أو تعذب بعذاب شديد دون ذلك كقتل كبرائهم وتسليط المسلمين عليهم بالسبي واغتنام الأموال، وأخذ الجزية وبفنون العقوبات الأخروية كانَ ذلِكَ أي الإهلاك والتعذيب فِي الْكِتابِ أي اللوح المحفوظ مَسْطُوراً (58) أي مكتوبا وقد بين فيه أسباب ذلك ووقته.(1/629)
وروي عن بعضهم أن خراب مكة من الحبشة، وخراب المدينة بالجوع، والبصرة بالغرق، والكوفة بالترك، وخراب الهند واليمن من قبل الجراد والسلطان.
وعن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «آخر قرية من قرى الإسلام خرابا»
«1» المدينة. وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ أي ما منعنا من إرسال المعجزات التي طلبتها قريش من إحياء الموتى وقلب الصفا ذهبا، وإزالة الجبال عن مكة ليزرعوا مكانها إلا تكذيب الأولين بالمعجزات حين جاءتهم باقتراحهم فيستحقوا عذاب الاستئصال، أي لو أظهر الله تلك المعجزات المقترحة لقريش، ثم لم يؤمنوا بها صاروا مستحقين لعذاب الاستئصال لكن إنزاله على هذه الأمة غير جائز، لأن الله تعالى علم أن فيهم من سيؤمن أو يؤمن أولادهم فلهذه المصلحة ما أجابهم الله تعالى إلى مطلوبهم وَآتَيْنا ثَمُودَ باقتراحهم النَّاقَةَ مُبْصِرَةً بكسر الصاد أي مبنية لنبوة صالح فَظَلَمُوا بِها أي ظلموا أنفسهم بتكذيبهم بها وأقبلوا أنفسهم للهلاك بعقرها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ المقترحة إِلَّا تَخْوِيفاً (59) من نزول العذاب المستأصل على المقترحين فإن لم يخافوا ذلك نزل أو ما نرسل بعير مقترحة كالمعجزات وآيات القرآن إلا تخويفا بعذاب الآخرة، فإن أمر المكذبين بها مؤخر إلى يوم القيامة وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ أي واذكر يا أشرف الخلق إذ بشرناك بأن الله يغلب أهل مكة ويقهرهم ويظهر دولتك عليهم، وهذه بشارة بوقعة بدر وعبر الله بالماضي، لأن كل ما أخبر الله بوقوعه فهو واجب الوقوع فكان كالواقع وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ ليلة المعراج وهي ما رآه النبي صلّى الله عليه وسلّم على اليقظة بعيني رأسه من عجائب الأرض والسماء إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ أي إلا امتحانا لأهل مكة لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما ذكر لهم قصة الإسراء فمنهم من كذبه ومنهم من كفر بعد إسلامه ومنهم من نافق ومنهم من توقف في حاله ومنهم من تردد في قلبه ومنهم من صدق كلامه صلّى الله عليه وسلّم وازداد المخلصون إيمانا وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ أي المذمومة فِي الْقُرْآنِ وهي الزقوم أي وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس حيث قالوا: إن محمدا يزعم أن نار جهنم تحرق الحجارة، ثم يقول: ينبت فيها الشجر فكيف تنبت في النار شجرة رطبة وهي تحرق الشجر، فينسبون لله العجز عن خلق شجرة في النار غافلين عن قدرته تعالى على كل شيء، فإن النعامة تبتلع الجمر والحديد المحمّى بالنار ولا يحرقها، وأن السمندل وهي دويبة في بلاد الترك يتخذ من وبره مناديل فإذا اتسخت طرحت في النار فيذهب وسخها وتبقى هي سالمة لا تعمل فيها النار وَنُخَوِّفُهُمْ بشجرة الزقوم وبعذاب الدنيا والآخرة فَما يَزِيدُهُمْ ذلك التخويف إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً (60) أي إلا تماديا في المعصية وتجاوزا عن الحد فلو أنا أرسلنا بما اقترحوه من الآيات لازدادوا تماديا في العناد فأهلكوا بعذاب الاستئصال كعادة من قبلهم وقد حكمنا بتأخير
__________
(1) رواه الترمذي في المناقب، باب: 67.(1/630)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
العقوبة العامة لهذه الأمة إلى الطامة الكبرى
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ الذين كانوا في الأرض اسْجُدُوا لِآدَمَ بوضع الجبهة عليه، إما هو المسجود له أو هو قبلة للسجود والمسجود له هو الله تعالى فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ وكان داخلا تحت الأمر بالسجود لأنه مندرج تحت زمرتهم قالَ عند ما وبخه الله تعالى: أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) أي من طين. قالَ أي إبليس بعد الاستنظار: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ أي أخبرني عن هذا الذي فضلته علي بأمرك لي بالسجود له لم فضلته علي وأنا خير منه من حيث أنا مخلوق من العنصر العالي لَئِنْ أَخَّرْتَنِ حيا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ أي لأستأصلنهم بالإغواء أو لأقودنهم إلى المعاصي كما تقاد الدابة بحبلها إِلَّا قَلِيلًا (62) لا أقدر أن أقاوم شكيمتهم. قرأ ابن كثير «أخرتن» بإثبات
ياء المتكلم في الوصل والوقف. وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بالحذف. وقرأ نافع وأبو عمرو بإثباته في الوصل دون الوقف. قالَ تعالى له: اذْهَبْ أي امض لشأنك الذي اخترته. واعلم فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أي من ذرية آدم في دينك فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ أي جزاؤك ومن تبعك جَزاءً مَوْفُوراً (63) أي مكملا فكل معصية توجد يحصل لإبليس مثل وزر ذلك العامل لأنه هو الأصل فيها فلذلك يخاطب بالوعيد. وَاسْتَفْزِزْ أي استزل مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ استزلاله بِصَوْتِكَ أي بدعائك إلى معصية الله تعالى وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ أي واجمع عليهم مصحوبا بجنودك الركاب والمشاة، فروى أبو الضحى عن ابن عباس أنه قال: كل راكب أو ماش في معصية الله تعالى فهو من خيل إبليس وجنوده.
وقرأ حفص عن عاصم «ورجلك» بكسر الجيم. وقرأ غيره بالضم أو بالسكون.
وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ أي في كل تصرف قبيح فيها وَالْأَوْلادِ أي في الأفعال القبيحة والحرف الذميمة والأديان الزائغة والأسماء المنكرة وَعِدْهُمْ أي بالأماني الباطلة وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً (64) أي ما يعدهم من الأماني الكاذبة إلا لأجل الغرور. وهذه الجملة اعتراض واقع بين الجمل التي خاطب الله بها الشيطان. إِنَّ عِبادِي المخلصين لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أي غلبة وقدرة على إغوائهم وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) أي حفيظا. فإن الشيطان وإن كان قادرا على الوسوسة فإن الله أرحم بعباده فهو يدفع عنهم كيد الشيطان رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ أي الذي يسوق لمنافعكم السفن على وجه البحر لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي رزقه تعالى بالتجارة وغيرها إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) حيث سهل عليكم ما يعسر من أسباب ما تحتاجون إليه وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ أي خوف الغرق فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ أي ذهب عن خواطركم ما كنتم تعبدون من دون الله إِلَّا إِيَّاهُ تعالى فتسألون من الله تعالى النجاة لأنكم تعلمون أنه لا ينجيكم سواه. فَلَمَّا نَجَّاكُمْ من الغرق وأخرجكم من البحر إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ عن الشكر والتوحيد ورجعتم إلى الإشراك، وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) أي منكرا لنعم الله. أَفَأَمِنْتُمْ(1/631)
يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77) أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)
أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ
أي أنجوتم من هول البحر فأمنتم أن نغور البر بكم. جانِبَ الْبَرِّ الذي أنتم فيه ونصيركم تحت الثرى كما خسف بقارون. أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ من فوقكم حاصِباً أي ريحا ترمي حجارة كما أرسل على قوم لوط ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أي حافظا يحفظكم من ذلك أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ أي في البحر تارَةً أُخْرى بأسباب تلجئكم إلى أن تركبوه وإن كرهتم فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً أي كاسرا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بعد كسر فلككم في البحر بِما كَفَرْتُمْ أي بسبب إشراككم وكفرانكم لنعمة الإنجاء ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69) أي ثائرا يطالبنا بما فعلنا بكم.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو هذه الخمسة «أن نخسف» ، «أو نرسل» ، «أن نعيدكم» ، «فنرسل» ، «فنغرقكم» بنون العظمة على سبيل الالتفات. والباقون بياء الغيبة. وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ بالصورة والقامة المعتدلة والتسلط على ما في الأرض والتمتع به والتمكن من الصناعات والعلم والنطق وتناول الطعام باليد وغير ذلك وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ على الدواب وغيرها وَالْبَحْرِ على السفن وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي من أنواع المستلذات الحيوانية كاللحم والسمن واللبن والنباتية، كالثمار والحبوب وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا (70) أي فضلناهم على غير الملائكة تفضيلا عظيما بالعقل والقوى المدركة التي يتميز بها الحق من الباطل والحسن من القبيح فحق عليهم أن يشكروا هذه النعم ويستعملوا قواهم في تحصيل العقائد الحقة
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ أي بمن اقتدوا به.
روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنه ينادى يوم القيامة: يا أمة إبراهيم، يا أمة موسى، يا أمة عيسى، يا أمة محمد، فيقوم أهل الحق الذين اتبعوا الأنبياء فيأخذون كتبهم بأيمانهم، ثم ينادي يا أتباع فرعون، يا أتباع نمروذ، يا أتباع ثمود»
. وقال الضحاك وابن زيد: أي بكتابهم الذي أنزل عليهم فينادي في القيامة يا أهل القرآن يا أهل التوراة يا أهل الإنجيل. وقال الربيع وأبو العالية والحسن: أي بكتاب أعمالهم كأن يقال: يا أصحاب كتاب الخير يا أصحاب كتاب الشر. وقيل:
بمذاهبهم فيقال: يا حنفي، يا شافعي، يا معتزلي، يا قدري، ونحو ذلك. وقرئ «يدعي كل أناس» على البناء للمفعول. فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ وهم أولو البصائر في الدنيا فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ الذي أعطوه تبجحا بما سطر فيه من الحسنات وَلا يُظْلَمُونَ أي لا ينقصون من أجور أعمالهم المكتوبة في كتبهم فَتِيلًا (71) أي قدر فتيل، وهو القشرة التي في شق النواة وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى أي من كان في الدنيا أعمى عما يرى من قدرة الله في خلق السموات والأرض والبحار، والجبال، والناس، والدواب، وعن الشكر عن النعم المذكورة في الآيات المتقدمة فهو في الآخرة أعمى لا يرى طريق النجاة ويستولي الخوف والدهشة على قلبه فيثقل لسانه عن قراءة كتابه. وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) من الأعمى لتعطل الآلات(1/632)
بالكلية وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي إن الشأن قاربوا أن يزيلوك عن حكم القرآن لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ أي لتكذب علينا غير الذي أوحينا إليك وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) أي لو اتبعت أهواءهم لكنت وليا لهم ولخرجت من ولايتي.
قال ابن عباس في رواية عطاء: قدم وفد ثقيف على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسألوه شططا وقالوا:
متعنا باللات سنة وحرم وادينا كما حرمت مكة شجرها وطيرها ووحشها، فأبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك ولم يجبهم، فكرروا ذلك الالتماس وقالوا: إنا نحب أن تعرف العرب فضلنا عليهم فإن كرهت ما نقول وخشيت أن تقول العرب أعطيتهم ما لم تعطنا فقل: الله أمرني بذلك فأمسك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنهم وداخلهم الطمع، فصاح عليهم عمر وقال: أما ترون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أمسك عن الكلام كراهية لما تذكرونه فأنزل الله تعالى هذه الآية وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا (74) أي لولا تثبيتنا إياك على الحق بعصمتنا إياك لقاربت أن تميل إليهم شيئا يسيرا فيما طلبوك إِذاً لو قاربت الميل من قلبك لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ أي لصار عذابك مثلي عذاب المشرك في الدنيا ومثلي عذابه في الآخرة، ثُمَّ إذا أذقناك العذاب المضاعف لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75) أي أحدا يخلصك من عذابنا وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ أي ليستزلونك مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) أي وإذا لو أخرجوك لا يلبثون بعد إخراجك إلا زمانا قليلا حتى نهلكهم.
قال ابن عباس: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما هاجر إلى المدينة حسدته اليهود وكرهوا قربه منهم فقالوا: يا أبا القاسم إن الأنبياء إنما بعثوا بالشام وهي بلاد مقدسة وكانت مسكن إبراهيم، فلو خرجت إلى الشام آمنا بك واتبعناك وقد علمنا أنه لا يمنعك من الخروج إلا خوف الروم، فإن كنت رسول الله فالله مانعك منهم فعسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أميال من المدينة حتى يجتمع إليه أصحابه ويراه الناس عازما على الخروج إلى الشام لحرصه على دخول الناس في دين الله، فنزلت هذه الآية، فرجع، ثم قتل منهم بني قريظة وأجلي بني النضير بعذر من قليل وعلى هذا فالآية مدنية. والمراد بالأرض: أرض المدينة، وهذا قول الكلبي:
وقال قتادة ومجاهد: همّ المشركون أن يخرجوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكة فكفهم الله تعالى عنه حتى أمره بالهجرة، فخرج بنفسه، فأهلكوا ببدر بعد هجرته صلّى الله عليه وسلّم. وعلى هذا فالآية مكية والمراد بالأرض: أرض مكة. وهذا اختيار الزجاج.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وشعبة «خلفك» بفتح الخاء وسكون اللام. والباقون «خلافك» بكسر الخاء وفتح اللام مع المد سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا أي سننا سنته فيمن قد أرسلنا قبلك أي إن عادة الله أن يهلك كل قوم أخرجوا نبيهم من بينهم وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا (77) أي تغييرا أي إن ما(1/633)
أجرى الله تعالى به العادة لا يقدر أحد أن يبدل تلك العادة أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ أي لأجل زوال الشمس عن كبد السماء إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ أي إلى اجتماع ظلمة الليل وهو وقت صلاة العشاء. والمعنى أقم الصلاة من وقت زوال الشمس إلى ظلمة الليل بأن تديم كل صلاة في وقتها فيدخل في هذا الظهر والعصر والمغرب. وَقُرْآنَ الْفَجْرِ أي
أقم صلاة الفجر إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) تحضره الملائكة الكاتبون والحفظة، فإنهم يتعاقبون على ابن آدم في صلاة الصبح وصلاة العصر وتشهده شواهد القدرة من تبدل الظلمة بالضياء، وتبدل النوم بالانتباه، فتشهد العقول بأنه لا يقدر على تقليب كلية هذا العالم إلا الخالق المدبر بالحكمة البالغة، وتشهده الجماعة الكثيرة وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ أي وقم بعض الليل فاترك النوم في ذلك الوقت للصلاة.
وقيل: المعنى تهجد بالقرآن بعض الليل أي صل في ذلك بالقرآن نافِلَةً لَكَ أي زيادة لك في كثرة الثواب وارتفاع الدرجات مختصة بك فإن كل طاعة يأتي بها النبي صلّى الله عليه وسلّم سوى المكتوبة لا يكون تأثيرها في كفارة الذنوب ألبتة، لأن الله تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر بل يكون تأثيرها في زيادة الدرجات وكثرة الثواب، فلهذا سميت نافلة بخلاف الأمة فإن لهم ذنوبا محتاجة إلى الكفارات فهذه الطاعات لهم لتكفير الذنوب فلهذا السبب قال تعالى: نافلة لك أي إن الطاعات هذه زوائد في حقك لا في غيرك كما نقل عن مجاهد والسدي، ومن قال: إن صلاة الليل كانت واجبة على النبي صلّى الله عليه وسلّم قالوا: معنى نافلة لك أن صلاة الليل فريضة عليك زائدة على الصلوات الخمس خاصة بك دون أمتك عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) أي إن يقيمك ربك مقاما محمودا عندك وعند جميع الناس.
وروى أبو هريرة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «المقام المحمود هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي»
. وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ أي في المدينة وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ أي من مكة إليها وذلك حين أمر النبي بالهجرة كما قاله ابن عباس والحسن. أو المعنى وأخرجني من المدينة إلى مكة غالبا عليها بفتحها. وقيل: الأكمل مما سبق أن يقال: رب أدخلني في الصلاة وأخرجني منها مع الصدق والإخلاص وحضور قلبي بذكرك، ومع القيام بلوازم شكرك. والأكمل من ذلك أن يقال: رب أدخلني في القيام بمهمات أداء شريعتك، وأخرجني بعد الفراغ منها إخراجا لا يبقى علي منها تبعة والأعلى مما سبق أن يقال: رب أدخلني في بحار دلائل توحيدك وتنزيهك، ثم أخرجني من الاشتغال بالدليل إلى ضياء معرفة المدلول ومن التأمل في آثار حدوث المحدثات إلى الاستغراق في معرفة الفرد المنزه عن التغيرات. وقيل: رب أدخلني القبر إدخالا مرضيا وأخرجني منه عند البعث إخراجا مرضيا ملقى بالكرامة. وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80)(1/634)
وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90)
أي اجعل لي في هذا البلد من لدنك قوة ظاهرة في تثبيت دينك وإظهار شرعك أو اجعل لي من عندك حجة بينة تنصرني بها على جميع من يخالفني
وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ أي ظهر الإسلام وَزَهَقَ الْباطِلُ أي هلك الشرك وتسويلات الشيطان إِنَّ الْباطِلَ أي أيّ باطل كان كانَ بجبلته زَهُوقاً (81) زائلا على أسرع الوجوه وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ من جميع الأمراض الظاهرة والباطنة وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ لأن القرآن يعلم كيفية اكتساب العلوم العالية والأخلاق الفاضلة التي يصل بها الإنسان إلى قرب رب العالمين وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً (82) أي لا يزيد القرآن المشركين إلا هلاكا بتكذيبهم وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ بأن وصل إلى مطلوبه أَعْرَضَ أي اغتر وصار غافلا عن طاعة الله وَنَأى بِجانِبِهِ أي تباعد من أهل الحق ولم يقتد بهم تعظما لنفسه كديدن المستكبرين وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ أي أصابه بلاء كانَ يَؤُساً (83) أي قنوطا من رحمة الله حزينا ولم يتفرغ لذكر الله تعالى قُلْ كُلٌّ أي كل أحد يَعْمَلُ عمله عَلى شاكِلَتِهِ أي طريقته التي توافق حاله في الهدى والضلالة فإن كانت نفسه طاهرة صدرت عنه أفعال جميلة، وإن كانت نفسه خبيثة صدرت عنه أفعال رديئة فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا (84) أي أصوب طريقا وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ الذي هو سبب حياة البدن بنفخه فيه قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي أي من فعل ربي أو من علم ربي فإنه مما اختص الله تعالى بعلمه.
روي أن اليهود قالوا لقريش: سلوا محمدا عن أصحاب الكهف. وعن ذي القرنين وعن الروح فإن أجاب عنها جميعا أو سكت فليس بنبي وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي فبين صلّى الله عليه وسلّم لهم القصتين وأبهم شأن الروح وهو مبهم في التوراة وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) فإن عقول الخلق عاجزة عن معرفة حقيقة الروح، وقال بعضهم جاء في الخبر في بعض الروايات أن الله تعالى خلق ثلاثمائة وستين ألف عالم ولكنه جعلها محصورة في عالمين وهما الخلق والأمر كما قال تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [الأعراف: 54] فعبر عن عالم الدنيا وهو ما يدرك بالحواس الخمس الظاهرة السمع والبصر، والشم والذوق، واللمس بالخلق. وعبر عن عالم الآخرة وهو ما يدرك بالحواس الخمس الباطنة العقل والقلب والسر والروح والخفي بالأمر فعالم الأمر هو الأوليات التي خلقها الله تعالى للبقاء بمحض الأمر التكويني من غير تحصيل من أصل وهي الروح والعقل والقلم واللوح والعرش والكرسي، والجنة والنار وسمي عالم الأمر أمرا، لأن الله أوجده بلا واسطة شيء بل بأمر كن من لا شيء. ولما كان أمره تعالى قديما فما يكون بالأمر القديم كان باقيا، وإن كان حادثا. وسمي عالم الخلق خلقا، لأنه تعالى أوجده بوسائط شيء مخلوق خلقه للفناء، فمعنى الروح من أمر ربي أنه من عالم الأمر والبقاء لا من عالم الخلق والفناء اهـ. فلا يمكن تعريف الروح بمباديه ولا يحيط بكنهه دائرة إدراك البشر وإنّما الممكن هذا القدر الإجمالي ولذا قال تعالى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أي وما(1/635)
أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
أعطيتم من العلم فيما عند الله إلا علما قليلا تستفيدونه من طرق الحواس وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ من القرآن أي لنزيلن العلم به عن القلوب وعن المصاحف ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ أي القرآن عَلَيْنا وَكِيلًا (86) أي من تتوكل عليه في استرداد شيء منه محفوظا مسطورا إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي لكن أبقيناه إلى قرب قيام الساعة رحمة من ربك فعند ذلك يرفع من الصدور والمصاحف إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) بإبقاء العلم والقرآن عليك وبجعلك سيد ولد آدم وخاتم النبيين وإعطائك المقام المحمود. قُلْ لمن يزعمون أن القرآن من كلام البشر:
لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ أي لئن اتفق الإنس والجن والملائكة على أن يأتوا بمثل هذا القرآن في البلاغة وحسن النظم وكمال المعنى لا يقدرون على إتيان مثله، وتخصيص الثقلين بالذكر، لأن المنكر في كونه من عند الله تعالى منهما لا من غيرهما، لا لأن غيرهما قادر على المعارضة. وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) أي معينا بضم أقوى ما فيه إلى أقوى ما في صاحبه وَلَقَدْ صَرَّفْنا أي كررنا بوجوه مختلفة توجب زيادة بيان لِلنَّاسِ أي لأهل مكة فِي هذَا الْقُرْآنِ المنعوت بالنعوت الفاضلة مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي من كل معنى بديع يشبه المثل في الغرابة ليتلقوه بالقبول فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ أي فلم يرض أكثر أهل مكة إِلَّا كُفُوراً (89) أي جحودا للحق وَقالُوا عند ظهور عجزهم بالقرآن وغيره من المعجزات الباهرة: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ أي أرض مكة يَنْبُوعاً (90) أي عينا لا ينضب ماؤها
أَوْ تَكُونَ لَكَ وحدك جَنَّةٌ أي بستان تستر أشجاره ما تحتها من العرصة مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ أي وأشجار عنب وعبر بالثمرة لأن الانتفاع بغيرها من الكرم قليل فَتُفَجِّرَ أي أنت الْأَنْهارَ خِلالَها أي وسطها تَفْجِيراً (91) والمراد إجراء الأنهار في وسط البستان عند سقيها أو إدامة إجرائها و «تفجر» الأولى تكون بفتح التاء وسكون الفاء وضم الجيم عند عاصم وحمزة والكسائي، وبضم التاء وفتح الفاء وكسر الجيم المشددة عن الباقين. ولم تختلف السبعة في «تفجر» الثانية أنها مشددة. أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ بقولك: إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء عَلَيْنا كِسَفاً أي قطعا بالعذاب أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا (92) أي مقابلين ومرئيين لنا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أي ذهب وفضة كامل الحسن أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ أي تصعد إليها وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ أي لصعودك إلى السماء أصلا حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً من الله نَقْرَؤُهُ فيه أنك رسول الله إلينا أي لما ظهر لهم كون القرآن معجزا التمسوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ستة أنواع من المعجزات كما حكي
عن ابن عباس أن رؤساء أهل مكة أرسلوا إلى رسول الله وهو جلوس عند الكعبة فأتاهم فقالوا: يا محمد إن أرض مكة ضيقة فسيّر جبالها لننتفع بها وفجر لنا فيها عيونا نزرع فيها فقال: «لا أقدر عليه» فقال قائل منهم: أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا؟! فقال: «لا أقدر عليه» . فقيل: أو يكون لك بيت(1/636)
من زخرف فيغنيك عنا؟! فقال: «لا أقدر عليه» فقيل له: أما تستطيع أن تأتي قومك بما يسألونك؟
فقال: «لا أستطيع» . قالوا: فإذا كنت لا تستطيع الخير فاستطع الشر فأسقط السماء كما زعمت علينا كسفا. فقال: عبد الله بن أمية المخزومي وهو ابن عاتكة عمته صلّى الله عليه وسلّم: لا أومن بك أبدا حتى تشد سلما إلى السماء فتصعد فيه ونحن ننظر إليك فتأتي بنسخة منشورة معك بأربعة من الملائكة يشهدون لك بالرسالة، ثم بعد ذلك لا أدري أنؤمن بك أم لا؟ فانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهله حزينا فأنزل الله تعالى هذه الآية
قُلْ.
وقرأ ابن كثير وابن عامر «قال» بصيغة الماضي: سُبْحانَ رَبِّي أي أنزه ربي عن أن يكون له إتيان وذهاب وأتعجب من اقتراحاتهم هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا (93) أي مأمورا من قبل ربي بتبليغ الرسالة كسائر الرسل لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله عليهم من الآيات وَما مَنَعَ النَّاسَ أي أهل مكة أَنْ يُؤْمِنُوا بنبوتك إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى أي القرآن إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا (94) إلينا أي وما منع الناس من الإيمان وقت مجيء الوحي إلا اعتقادهم أن الله تعالى لو أرسل رسولا إلى الخلق لوجب أن يكون من الملائكة وإنكارهم أن يكون من جنس البشر قُلْ لهم من جهتنا جوابا لقولهم: لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ عليها مُطْمَئِنِّينَ أي قارين فيها من غير أن يعرجوا في السماء لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا (95) أي لو كان أهل الأرض ملائكة لوجب أن يكون رسولهم من الملائكة أما لو كان أهل الأرض من البشر لوجب أن يكون رسولهم من البشر لتمكنهم من الاجتماع والفهم منه لمماثلتهم له في الجنس قُلْ لهم: كَفى بِاللَّهِ وحده شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ بأني رسوله إليكم إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96) أي محيطا ببواطن أحوالهم وظواهرها، أي فإنكم إنما أنكرتم هذا لمحض الحسد والاستنكاف من الانقياد للحق وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ بحذف الياء من الرسم هنا، وفي الكهف. وأما في النطق فقرأ نافع وأبو عمرو بإثبات الياء وصلا وحذفها وقفا. وحذفها الباقون في الحالين. وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ أي أنصارا مِنْ دُونِهِ تعالى يهدونهم إلى طريق الحق أي فمن سبق لهم حكم الله بالإيمان وجب أن يصيروا مؤمنين ومن سبق لهم حكم الله بالضلال استحال أن ينقلبوا عن ذلك الضلال وأن يوجد من يصرفهم عنه وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ فقد
روي أنه قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كيف يمشون على وجوههم؟ قال: «إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم»
«1» . عُمْياً لا يبصرون ما يسر
__________
(1) رواه البخاري في كتاب التفسير، باب: تفسير سورة 25، ومسلم في كتاب المنافقين، باب: 54، والترمذي في كتاب التفسير، باب: تفسير سورة 17، وأحمد في (م 2:
354) .(1/637)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)
أعينهم وَبُكْماً لا ينطقون ما يقبل منهم وَصُمًّا لا يسمعون ما يلذ مسامعهم مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ أي سكن لهبها بعد أكل جلودهم ولحومهم بأن لم يبق فيهم ما تتعلق به النار زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) أي توقدا بإعادة الجلود واللحوم ولعل ذلك عقوبة لهم على إنكارهم الإعادة بعد الفناء بتكريرها مرة بعد أخرى ليروها عيانا حيث لم يعلموها برهانا ذلِكَ العذاب جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا الدالة على صحة الإعادة دلالة واضحة وَقالُوا منكرين لقدرتنا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أي ترابا رميما أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) أي بعثا جديدا أَوَلَمْ يَرَوْا أي ألم يتفكروا ولم يبصروا بعيون قلوبهم أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ أي يعيد بالإحياء مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ أي وقتا معلوما عند الله لا شك فيه عند المؤمنين وهو يوم القيامة فَأَبَى الظَّالِمُونَ أي لم يقبل المشركون بعد هذه الدلائل الظاهرة إِلَّا كُفُوراً (99) أي جحودا للأجل قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي أي خزائن رزقه التي أفاضها على كافة الموجودات إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ ما ملكتم خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ أي مخافة الفقر فلا فائدة في إسعافكم بذلك المطلوب الذي التمستموه وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100) أي بخيلا
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ أي واضحات الدلالة على نبوته وهي اليد والعصا، والجراد والقمل، والضفادع والدم، والطوفان والسنون، ونقص الثمرات فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ أي فاسأل يا أشرف الرسل بني إسرائيل الذين كانوا في زمانك عن موسى فيما جرى بينه وبين فرعون وقومه، ليظهر صدق ما ذكرته عند المشركين، فيكون هذا السؤال سؤال استشهاد. وهذه الجملة اعتراضية بين العامل والمعمول إِذْ جاءَهُمْ أي حين جاء موسى بني إسرائيل الذين كانوا في زمانه عليه السلام وهذا الظرف متعلق بآتينا فأظهر ما آتيناه من الآيات عند فرعون وبلغه ما أرسل به فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101) أي مغلوب العقل قالَ لفرعون: لَقَدْ عَلِمْتَ.
قرأ الكسائي بضم التاء. والباقون بفتحها، فالضم قراءة على والفتح قراءة ابن عباس ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ الآيات عليّ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ أي أدلة ظاهرة يستدل بها على صدقي ولكنك تنكرها للحسد وحب الدنيا وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ أي لأعلمك يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) أي ملعونا ممنوعا من الخير فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ أي أراد فرعون أن يخرج موسى وقومه مِنَ الْأَرْضِ بالقتل فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) في البحر وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد إغراقه لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ أي أرض الشام ومصر فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أي البعث بعد الموت جِئْنا بِكُمْ من قبوركم إلى المحشر لَفِيفاً (104) أي مختلطين أنتم وهم فيختلط جميع الخلق المسلم والكافر والبر والفاجر، ثم نحكم بينكم ونميز سعداءكم من أشقيائكم وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ أي ما أردنا بإنزال القرآن إلا إثبات الحق وكما أردنا هذا المعنى فكذلك حصل هذا المعنى ووصل إليهم بعد إنزاله عليك ليس فيه تبديل أو يقال: وما أنزلنا القرآن إلا ملتبسا بالحكمة(1/638)
المقتضية لإنزاله وما نزل إلا ملتبسا بما اشتمل عليه من العقائد والأحكام ونحوها. وَما أَرْسَلْناكَ يا أفضل الخلق إِلَّا مُبَشِّراً للمطيع بالثواب وَنَذِيراً (105) للعاصي بالعقاب فهؤلاء الجهال الذين اقترحوا عليك تلك المعجزات وتمردوا عن قبول دينك لا شيء عليك من كفرهم وَقُرْآناً فَرَقْناهُ.
وقرأ العامة بتخفيف الراء، أي بينا حلاله وحرامه أو فرقنا فيه بين الحق والباطل، وقرأ علي وجماعة من الصحابة وغيرهم بالتشديد أي فرقنا آياته بين أمر ونهي وحكم وأحكام، ومواعظ وأمثال، وقصص وأخبار ماضية ومستقبلة. أو نزلناه مفرقا في ثلاثة وعشرين سنة، أو في عشرين سنة على الخلاف في تقارن النبوة والرسالة وتعاقبهما لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ بضم الميم وفتحها أي على تأن لتكون الإحاطة على دقائقه وحقائقه أسهل وَنَزَّلْناهُ من عندنا تَنْزِيلًا (106) متفرقا آية وآيتين وثلاثا وهكذا بحسب ما تقتضيه الحكمة وما يحصل من الواقعات قُلْ للذين اقترحوا تلك المعجزات: آمِنُوا بِهِ أي القرآن أَوْ لا تُؤْمِنُوا فإن إيمانكم به لا يزيده كمالا وامتناعكم عن الإيمان به لا يورثه نقصا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل نزول القرآن منهم زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي إِذا يُتْلى أي القرآن عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ أي يسقطون على وجوههم بغاية الخوف سُجَّداً (107) لله شكرا على إنجاز وعده في تلك الكتب من بعثتك ونزول القرآن وَيَقُولُونَ في سجودهم سُبْحانَ رَبِّنا أي تنزيها له عن خلف وعده إِنْ أي إن الشأن كانَ وَعْدُ رَبِّنا بإنزال القرآن وبعث محمد صلّى الله عليه وسلّم لَمَفْعُولًا (108) أي منجزا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ للسجود لما أثر فيهم من مواعظ القرآن يَبْكُونَ من خشية الله وَيَزِيدُهُمْ أي القرآن أو البكاء أو السجود أو المتلو خُشُوعاً (109) أي تواضعا لله كما يزيدهم يقينا بالله تعالى قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أي سموا المعبود بحق بهذا الاسم.
قال ابن عباس: سجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة فجعل يقول في سجوده: «يا الله يا رحمن» . فقال أبو جهل: إن محمدا ينهانا عن آلهتنا وهو يدعو إلهين فأنزل الله هذه الآية
أي إن شئتم قولوا: يا الله، وإن شئتم قولوا: يا رحمن أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى أي أيّ هذين الاسمين سميتم فهو حسن، لأن للمسمى بذلك الأسماء الحسنى.
ومعنى حسن أسماء الله كونها مفيدة لمعاني التحميد والتقديس والتمجيد والتعظيم وعلى صفات الجلال والكمال وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ أي بقراءة صلاتك وَلا تُخافِتْ بِها أي بقراءتها.
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرفع صوته بالقراءة فإذا سمعه المشركون سبوه وسبوا من جاء به فأوحى الله تعالى إليه ولا تجهر بصلاتك فيسمع المشركون(1/639)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
فيسبوا الله عدوا بغير علم، ولا تخافت بها فلا تسمع أصحابك وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ أي اطلب بين الجهر والمخافتة سَبِيلًا (110) أي أمرا وسطا.
روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم طاف بالليل على دور الصحابة وكان أبو بكر يخفي صوته بالقراءة في صلاته، وكان عمر يرفع صوته فلما حاء النهار وجاء أبو بكر وعمر فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر:
«لم تخفي صوتك؟» فقال: أناجي ربي وقد علم حاجتي وقال لعمر: «لم ترفع صوتك؟» فقال:
أزجر الشيطان وأوقظ الوسنان. فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أبا بكر أن يرفع صوته قليلا، وعمر أن يخفض صوته قليلا.
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً كما يزعم اليهود والنصارى وبنو مليح حيث قالوا:
عزير ابن الله والمسيح ابن الله والملائكة بنات الله فكل من له ولد وهو محدث محتاج فلا يقدر على كمال الأنعام فلا يستحق كمال الحمد وكل من له ولد يمسك جميع النعم لولده، فإذا لم يكن له ولد أفاض تلك النعم على عبيده، فلو كان له تعالى ولد لكان منقضيا فلا يقدر على كمال الأنعام في كل الأوقات فلا يستحق الحمد على الإطلاق وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ أي في الألوهية كما يقوله الثنوية القائلون بتعدد الآلهة، لأنه لو كان معه إله آخر لتصرف في الموجودات فلا يعرف حينئذ أن هذه النعم حصلت منه أو من شريكه فلا يعرف كونه مستحقا للحمد والشكر. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ أي ناصر منه لأنه لو جاز عليه ناصر من أجل المذلة لم يجب شكره لجواز أن يكون غيره تعالى حمله على الأنعام أو منعه منه وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111) فالتحميد يجب أن يكون مقرونا بالتكبير والتكبير يكون في ذاته تعالى بأن يعتقد أنه واجب الوجود لذاته، وأنه غني عن كل ما سواه وفي صفاته بأن يعتقد أن كل صفة له فهو من صفات الجلال والكمال، والعز والعظمة، وكل واحد من تلك الصفات لا نهاية له وإن كل صفة له قديمة سرمدية منزّهة عن التغير وفي أفعاله كأن يقول: إنا نحمد الله ونكبره عن أن يجري في سلطانه شيء لا على وفق حكمه وإرادته، فالكل واقع بقضاء الله وقدرته وإرادته وفي أحكامه بأن يعتقد أنه ملك مطاع فلا اعتراض لأحد عليه في شيء من أحكامه يعز من يشاء ويذل من يشاء، وفي أسمائه بأن لا يذكر إلا بأسمائه الحسنى ولا يوصف إلا بصفاته المنزهة، ثم ينبغي للعبد بعد أن يبالغ في التكبير والتنزيه والتحميد والطاعة مقدار عقله وفهمه أن يعترف أن عقله وفهمه لا يفي بمعرفة جلال الله، ولسانه لا يفي بشكره وأعضاءه لا تفي بخدمته فكبر الله عن أن يكون تكبيره وافيا بكنه مجده وعزته.
وروي أن قول العبد الله أكبر خير من الدنيا وما فيها، وعن عمرو بن شعيب كان رسول صلّى الله عليه وسلّم إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الآية واسأل الله الرحمة قبل الموت، وعند الموت، وبعد الموت إنه تعالى ناشر العظام بعد الموت وسامع الصوت.
حسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم آمين.(1/640)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)
سورة الكهف
مكية، غير آيتين، ذكر فيهما عيينة بن حصن الفزاري، مائة وعشر آيات، ألف وخمسمائة وثلاث وثمانون كلمة، ستة آلاف وخمسمائة وأربعة وخمسون حرفا
الْحَمْدُ لِلَّهِ وهو الإعلام بثبوت الحمد لله وإنشاء الثناء بذلك الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ محمد صلّى الله عليه وسلّم الْكِتابَ أي القرآن وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) أي اختلالا في النظم وتنافيا في المعنى، وهو كامل في ذاته وهذه الجملة معطوفة على أنزل قَيِّماً أي وجعله قائما بمصالح العباد وأحكام الدين. وقيل: هاتان الجملتان حالان من الكتاب متواليان أي غير مجعول له عوجا قيما لِيُنْذِرَ تعالى بالكتاب الكافرين بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ أي عذابا شديدا نازلا من عنده تعالى وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ أي المصدقين به. وقرأ حمزة والكسائي بفتح الياء وسكون الموحدة وضم الشين الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) في الجنة ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) أي خالدين في الأجر من غير انتهاء وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) وهم كفار العرب الذين يقولون: الملائكة بنات الله، واليهود القائلون عزير ابن الله، والنصارى القائلون المسيح ابن الله ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ أي ليس لهم ولا لأحد من أسلافهم الذين قلدوه علم بهذا القول أهو صواب أو خطأ بل إنما قالوه رميا عن جهالة من غير فكر كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ فكلمة بالنصب على التمييز وبالرفع على الفاعلية فعلى النصب يكون فاعل «كبرت» مضمرا مفسرا بما بعده وهو للذم، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: كبرت الكلمة، كلمة خارجة من أفواههم تلك المقالة الشنعاء. والنصب أقوى وأبلغ، وفيه معنى التعجب أي ما أكبرها كلمة إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً (5) أي ما يقولون في ذلك الشأن إلا مقولا كذبا فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ. والمراد بالترجي النهي عن الغم أي لا تهلك نفسك بالغم من بعد إعراضهم عن الإيمان بك إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أي بهذا القرآن أَسَفاً (6) أي لفرط الحزن إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ حيوانا كان أو نباتا أو معدنا زِينَةً لَها أي الأرض ليتمتع بها الناظرون من المكلفين وينتفعوا بها نظرا واستدلالا فإن العقارب والحيات من حيث تذكيرهما(1/641)
فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)
لعذاب الآخرة من نوع المنافع بل كل حادث داخل تحت الزينة من حيث دلالته على وجود الصانع ووحدته لِنَبْلُوَهُمْ أي لنعاملهم معاملة من يختبرهم أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) أي أيهم أطوع لله وأشد استمرارا على خدمته وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها أي الأرض من المخلوقات قاطبة عند تناهي عمر الدنيا صَعِيداً جُرُزاً (8) أي ترابا لا نبات فيه أَمْ حَسِبْتَ أي أظننت أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا أي من بين آياتنا عَجَباً (9) أي آية ذات عجب وفي الآيات أي آثار قدرة الله تعالى ما هو أعجب من ذلك وهي السماء والأرض والشمس والقمر، والنجوم والجبال والبحار. و «عجبا» خبر كان و «من آياتنا» حال منه، والكهف: هو الغار الواسع في الجبل، والرقيم: كلب أصحاب الكهف.
وقيل: هو لوح رصاصي أو حجري كتبت فيه أسماؤهم وقصتهم وجعل على باب الكهف وهم كانوا فتية من أشراف الروم، أرادهم دقيانوس على الشرك فهربوا منه بدينهم إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ ظرف ل «عجبا» ، أي حين التجأ الشبان إلى الكهف فَقالُوا عقب استقرارهم فيه: رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً خاصة تستوجب المغفرة والرزق والأمن من الأعداء، وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) أي يسّر لنا من أمرنا الذي نحن عليه من مهاجرة الكفار والمثابرة على طاعتك إصابة للطريق الموصل إلى المطلوب
فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ أي فعقب هذا القول ألقينا على آذانهم حجابا يمنع من أن تصل إلى أسماعهم الأصوات الموقظة من نومهم فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) أي معدودة، وفي الكهف حال من المضاف إليه. ثُمَّ بَعَثْناهُمْ أي أيقظناهم من نومهم الثقيل لِنَعْلَمَ أي لنعاملهم معاملة من يختبرهم أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أي المختلفين في مدة لبثهم أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) أي ضبط غاية لبثهم فيظهر لهم عجزهم ويفوضون ذلك إلى العليم الخبير ويتعرفون ما صنع الله تعالى بهم من حفظ أبدانهم، فيزدادون يقينا بكمال قدرته تعالى وعلمه، ويستبصرون به أمر البعث، ويكون ذلك لطفا لمؤمني زمانهم وآية بينة لكفارهم. فالمراد بالحزبين نفس أصحاب الكهف و «أحصى» فعل ماض و «أمدا» مفعول به. وقرئ «ليعلم» بالياء مبنيا للمفعول ومبنيا للفاعل من الأعلام أي ليعلم الله الناس أي الحزبين أحصى إلخ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ يا أشرف الخلق نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ أي على وجه الصدق إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ أي جماعة من الشبان آمَنُوا بِرَبِّهِمْ بالتحقيق لا بالتقليد وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) أي بأن ثبتناهم على ما كانوا عليه من الدين وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أي قويناها حتى اقتحموا مضايق الصبر على هجر الأهل والإخوان، واجترءوا على الرد على دقيانوس الجبار إِذْ قامُوا أي حين انتصبوا لإظهار شعار الدين أو وقت قاموا
بين يدي الملك دقيانوس الكافر فإنه كان يدعو الناس إلى عبادة الطواغيت، فثبت الله تعالى هؤلاء الفتية حتى عصوا ذلك الجبار، وأقروا بربوبية الله تعالى، وصرحوا بالبراءة من الشركاء فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً أي لن نعبد أبدا معبودا آخر(1/642)
لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) أي والله لئن عبدنا غيره لقد قلنا حينئذ قولا زورا على الله. قال أصحاب الكهف عند خروجهم من عند الملك دقيانوس الكافر: هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا أي عبدوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ف «قومنا» عطف بيان لاسم الإشارة أو خبر له و «اتخذوا» حال منه. لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ أي هلا يأتون على عبادتهم بحجة ظاهرة، وهذا إنكار وتعجيز وتبكيت لهم فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) أي فليس أحد أظلم ممن افترى على الله.
كذبا بنسبة الشريك إليه تعالى فإن الحكم بثبوت الشيء مع عدم الدليل عليه ظلم وافتراء على الله وهذا من أعظم الدلائل على فساد القول بالتقليد. قال بعض الفتية لبعض وقت اعتزالهم: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ أي وإذ أردتم اعتزالهم واعتزال الشيء الذي تعبدونه إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ أي التجئوا إليه وهذا جواب إذ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ أي يبسطها عليكم في الدارين وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) أي ويسهل لكم من أمركم الذي أنتم عليه من الفرار بالدين ما تنتفعون به غدا. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية مرفقا بفتح الميم وكسر الفاء والجمهور بالعكس. وَتَرَى الشَّمْسَ خطاب لكل أحد بيان لحالهم بعد ما صاروا إلى الكهف وهذا ليس إخبارا بوقوع الرؤية تحقيقا بل الأخبار بكون الكهف بحيث لو أبصرته تبصر الشمس إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ.
قرأ ابن عامر «تزور» ساكنة الزاي مشدد الراء. ونافع وابن كثير وأبو عمر «تزاور» بتشديد الزاي وبالألف. وعاصم وحمزة والكسائي «تزاور» بالتخفيف والألف أي تميل، عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ أي جانب الكهف الذي يلي المغرب فلا يقع عليهم شعاع الشمس. وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ أي تعدل عن سمت رؤوسهم إلى جهة الشمال الذي يلي المشرق فإن الله منع ضوء الشمس من الوقوع عليهم وذلك خارق للعادة وكرامة عظيمة خصّ الله بها أصحاب الكهف. وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ أي والحال أنهم في فضاء متسع من الكهف معرض لإصابة الشمس ذلِكَ أي المذكور من إنامتهم وحمايتهم من إصابة الشمس لهم في ذلك الغار تلك المدة الطويلة مِنْ آياتِ اللَّهِ العجيبة على كمال علمه وقدرته وعلى وحدته مَنْ يَهْدِ اللَّهُ إلى الحق بالتوفيق له فَهُوَ الْمُهْتَدِ أي الذي أصاب الفلاح مثل أصحاب الكهف وَمَنْ يُضْلِلْ الله فَلَنْ تَجِدَ لَهُ أبدا وَلِيًّا مُرْشِداً (17) أي ناصرا يهديه إلى الفلاح كدقيانوس الكافر وأصحابه.
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً أي لو رأيتهم أيها الخاطب لانفتاح عيونهم على هيئة الناظر وَهُمْ رُقُودٌ أي نيام وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ لينال النسيم جميع أبدانهم ولئلا يتأثر ما يلي الأرض منها بطول المكث، فالله قادر على حفظهم من غير تقليب ولكن جعل لكل شيء سببا في أغلب الأحوال وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ أي بموضع الباب من الكهف وكان الكلب أنمر، أو أصفر، أو أصهب، أو أحمر، أو أسمر. واسمه: قطمير أو ريان، أو تتوه، أو قطمور، أو ثور، أو(1/643)
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)
حمران، وكان لواحد منهم فلما خرجوا تبعهم فمنعوه، فأنطقه الله وتكلم وقال: أنا أحب أحباب الله فمكنوه من الذهاب معهم، فلما ناموا نام كنومهم، ولما استيقظوا استيقظ معهم، ولما ماتوا مات معهم لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ أي لو شاهدتهم لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً أي لأدبرت عنهم هربا بما شاهدت منهم وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18) أي خوفا يملأ الصدر لما ألبسهم الله تعالى من الهيبة فكل من رآهم فزع فزعا شديدا. وقرأ نافع وابن كثير «لملئت» بتشديد اللام.
وروي أيضا عن ابن كثير بالتخفيف كالجمهور. وقرأ السوسي بإبدال الهمزة ياء وقفا ووصلا، وحمزة في الوقف فقط. وقرأ ابن عامر والكسائي «رعبا» بضم العين في جميع القرآن.
والباقون بالإسكان. وَكَذلِكَ أي كما أنمناهم وحفظنا أجسادهم من البلى آية دالة على كمال قدرتنا بَعَثْناهُمْ أي أيقظناهم من النوم بعد مضي ثلاثمائة سنة وتسع سنين لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ أي ليسأل بعضهم بعضا في مدة لبثهم قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ هو رئيسهم واسمه «مكسلمينا» :
كَمْ لَبِثْتُمْ أي كم مقدار مكثكم في منامكم في هذا الغار قالُوا أي بعضهم: لَبِثْنا يَوْماً لأنهم دخلوا الكهف غدوة، ثم ناموا طلوع الشمس وكان انتباههم آخر النهار فلما خرجوا فنظروا إلى الشمس وقد بقي منه شيء قالوا: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا أي بعض آخر منهم وهو «مكسلمينا» :
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فأنتم لا تعلمون مدة لبثكم فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ هو تمليخا كما قاله ابن إسحاق بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ وهي منبج أو أفسوس بضم الهمزة هذا في الجاهلية وتسمى في الإسلام طرسوس بفتح الراء فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أي أيّ أهلها أَزْكى طَعاماً أي أبعد عن كل حرام لأن ملكهم كان ظالما وعامة أهل بلدهم كانوا مجوسا وفيهم قوم يخفون إيمانهم فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ أي بطعام مِنْهُ أي من ذلك الأزكى. وَلْيَتَلَطَّفْ أي وليرفق في الشراء كي لا يغبن وفي دخول المدينة لئلا يعرف وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) أي لا يخبرن بمكانكم أحدا من أهل المدينة فإن ذلك يستلزم شيوع أخباركم إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ أي إن يطلعوا على أنفسكم أو على مكانكم يَرْجُمُوكُمْ أي يقتلوكم بالرجم أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ أي يصيّروكم إلى ملتهم كرها وَلَنْ تُفْلِحُوا أي لن تسعدوا إِذاً أي إن دخلتم فيها ولو بالكره أَبَداً (20) أي في الدنيا والآخرة
وَكَذلِكَ أي وكما أنمناهم وبعثناهم أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ أي أطلعنا الناس المؤمنين والكافرين على أحوالهم، وكان ملكهم يومئذ مسلما يسمى يستفاد وذلك أن دقيانوس مات وانقضت قرون، ثم ملك أهل تلك البلاد رجل صالح واختلف أهل مملكته في الحشر وبعث الأجساد من القبور، فشك في ذلك بعض الناس واستبعدوه وقالوا:
إنما تحشر الأرواح دون الأجساد، فإن الجسد تأكله الأرض. وقال بعضهم: تبعث الأرواح والأجساد جميعا وكبر ذلك على الملك وبقي حيران لا يدري كيف يبين أمر البعث لهم حتى دخل بيته وأغلق بابه ولبس المسوح وقعد على الرماد، وتضرّع إلى الله تعالى في طلب حجة وبرهان،(1/644)
فأعثره الله على أهل الكهف فإنهم لما بعثوا أحدهم بورقهم إلى المدينة ليأتيهم برزق منها استنكر شخصه واستنكر ورقه، لأنه ظهرت في بشرة وجهه آثار عجيبة تدل على أن مدته قد طالت طولا خارجا عن العادة، لأن ورقه كان على ضرب دقيانوس فاتهموه بأنه وجد كنزا، فذهبوا به إلى الملك وكان صالحا قد آمن هو ومن معه فلما نظر إليه قال: لعل هذا من الفتية الذين خرجوا على عهد دقيانوس الملك فقد كنت أدعو الله أن يرينيهم، وسأل الفتى، فأخبره بأنه ومن معه خرجوا فرارا من الملك دقيانوس فسّر الملك بذلك وقال لقومه: لعل الله قد بعث لكم آية فلنسر إلى الكهف معه، فركب مع أهل المدينة إليهم فلما دنوا إلى الكهف قال تمليخا: أنا أدخل عليهم لئلا يرعبوا فدخل عليهم وأعلمهم بأن الأمة أمة مسلمة فخرجوا إلى الملك وعظموه وعظمهم، ثم رجعوا إلى كهفهم ورجع من شك في بعث الأجساد فهذا معنى أعثرنا عليهم لِيَعْلَمُوا أي الذين أعثرناهم وهم الملك ورعيته على أحوالهم العجيبة أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث للروح والجثة معا حَقٌّ أي صادق بطريق أن القادر على إنامتهم مدة طويلة وإبقائهم على حالهم بلا غذاء قادر على إحياء الموتى.
قال بعض العارفين: علامة اليقظة بعد النوم علامة البعث بعد الموت وَأَنَّ السَّاعَةَ أي وقت بعث الخلائق جميعا للحساب والجزاء لا رَيْبَ فِيها أي لا شك في قيامها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ في صحة البعث وهذا ظرف لقوله تعالى: أَعْثَرْنا لا لقوله لِيَعْلَمُوا أي أعثرناهم عليهم حين يتنازعون بينهم أمرهم ليرتفع الخلاف ويتبين الحق فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً أي لما أعثرناهم عليهم فرأوا ما رأوا، فعاد الفتية إلى كهفهم، فأماتهم الله تعالى فقال بعضهم: ابنوا على باب كهفهم بنيانا لئلا يتطرق إليهم الناس ضنا بتربيتهم. رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ كأن المتنازعين لما رأوا عدم اهتدائهم إلى حقيقة حالهم من حيث النسب والاسم، ومن حيث العدد، ومن حيث اللبث في الكهف قالوا ذلك تفويضا للأمر إلى علام الغيوب قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ وهم الملك والمسلمون أو أولياء أصحاب الكهف أو رؤساء البلد لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) نعبد الله فيه ونستبقي آثارهم بسبب ذلك المسجد سَيَقُولُونَ أي يقول بعض المتنازعين لك يا أشرف الخلق وهم اليهود أو السيد وأصحابه؟ وهم اليعقوبية من نصارى نجران: هم ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ أي النصارى أو العاقب وأصحابه وهم النسطورية منهم: هم خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ أي ظنا بالغيب من غير دليل ولا برهان وَيَقُولُونَ أي المسلمون أو الملكانية من النصارى: هم سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ يا أشرف الخلق رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ من النّاس وكان علي رضي
الله عنه يقول:
كانوا سبعة وأسماؤهم: تمليخا، مكشليينا مشليتيا، هؤلاء الثلاثة أصحاب يمين الملك وكان عن يساره مرنوش برنوش شاذنوش، وكان الملك يستشير هؤلاء الستة في أمره، والسابع الراعي(1/645)
الذي وافقهم حين هربوا من ملكهم دقيانوس واسمه كفشطيطيوش، واسم كلبه: قطمير.
وقال ابن عباس: هم سبعة مكسلمينا تمليخا مرطونس، نينونس ساربونس، ذو نواس فليستطيونس وهو الراعي. وعن ابن مسعود كانوا تسعة وسماهم ابن إسحاق: تمليخا مكسملينا، محسلينا مرطونس، كسوطونس سورس، يكربوس بطسوس قالوس اه.
وقال ابن عباس: رضي الله عنهما، خواص أسماء أهل الكهف تنفع لتسعة أشياء: للطلب، والهرب، ولطف الحريق، تكتب على خرقة وترمى في وسط النار تطفأ بإذن الله تعالى، ولبكاء الطفل، والحمى المثلثة، وللصداع: تشد على العضد الأيمن. ولأم الصبيان، وللركوب في البر والبحر، ولحفظ المال، ولنماء العقل ونجاة الآثمين. فَلا تُمارِ فِيهِمْ أي فلا تجادل معهم في عدد الفتية إِلَّا مِراءً ظاهِراً بأن لا تكذبهم في تعيين ذلك العدد بل تقول هذا التعيين لا دليل عليه وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) أي لا تشاور أحدا من أهل الكتاب في شأن الفتية وَلا تَقُولَنَّ يا أكرم الرسل لِشَيْءٍ أي لأجل شيء تعزم عليه إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ الشيء غَداً (23) أي فيما يستقبل من الزمان إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي إلا قائلا: إن شاء الله أي لا تقل لشيء في حال من الأحوال إلا في حال تلبسك بالتعليق بالمشيئة بأن تقول: إن شاء الله نزلت هذه الآية حين قالت اليهود لقريش: سلوه عن الروح وعن أصحاب الكهف وذي القرنين فسألوه صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ائتوني غدا أخبركم» «1» . ولم يستثن فأبطأ عليه الوحي حتى شق عليه وكذبته قريش وَاذْكُرْ رَبَّكَ بالتسبيح والاستغفار إِذا نَسِيتَ كلمة الاستثناء. وهذا مبالغة في الحث على ذكر هذه الكلمة وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24) أي لعل ربي يؤتيني أعظم دلالة على صحة نبوتي من نبأ أصحاب الكهف وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) وهذا إخبار من الله عن مدة لبثهم ردا على أهل الكتاب المختلفين فيها فقال بعضهم: ثلاثمائة، وبعضهم ثلاثمائة وتسع، والسنون عندهم شمسية. فهذان القولان غير ما أخبر الله به من أن السنين ثلاثمائة وتسع قمرية والتفاوت بين الشمسية والقمرية في كل مائة سنة ثلاث سنين، لأن السنة الشمسية تزيد على السنة القمرية عشرة أيام وإحدى وعشرين ساعة وخمس ساعة.
قرأ حمزة والكسائي «ثلاثمائة» بغير تنوين فهو مضاف ل «سنين» والباقون بالتنوين «فسنين» عطف بيان. قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا أي بالزمان الذي لبثوا فيه في نومهم قبل بعثهم أي الله أعلم بحقيقة ذلك وكيفيته فارجعوا إلى خبر الله دون ما يقوله أهل الكتاب. وهذا إشارة إلى أن الإخبار من الله لا من عنده صلّى الله عليه وسلّم لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي له تعالى علم ما خفي من أحوال
__________
(1) رواه السيوطي في الدر المنثور (4: 217) .(1/646)
أهلهما، لأنه موجدهما ومدبرهما أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ أي ما أبصر الله وما أسمعه بكل شيء وهذا التعجب يدل على أن علمه تعالى بالمبصرات والمسموعات خارج عما عليه إدراك المدركين لا يحجبه شيء ولا يحول عنه حائل ما لَهُمْ أي لأهل السموات والأرض مِنْ دُونِهِ تعالى مِنْ وَلِيٍّ يتولى أمورهم ويقيم لهم تدبير أنفسهم فكيف يعلمون هذه الواقعة من غير إعلامه تعالى وَلا يُشْرِكُ تعالى فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) فلما حكم تعالى أن لبثهم هو هذا المقدار فليس لأحد أن يقول قولا بخلافه.
وقرأ ابن عامر «لا تشرك» بالتاء على الخطاب لكل أحد وبالجزم على النهي أي ولا تسأل أحدا عما أخبرك الله به من عدة أصحاب الكهف ومن مدة لبثهم في الغار واقتصر على حكمه تعالى ولا تشرك أحدا في طلب معرفة هذه الواقعة وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ ولا تسمع لقولهم: أئت بقرآن غير هذا أو بدله لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ أي لا قادر على تبديلها وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ تعالى مُلْتَحَداً (27) أي ملجأ تعدل إليه إن هممت بالتبديل للقرآن وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ أي يعبدونه في كل الأوقات.
قرأ ابن عامر «بالغدوة» بضم الغين وسكون الدال. يُرِيدُونَ وَجْهَهُ أي مريدين بعبادتهم لرضاه تعالى وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ أي لا تنصرف عيناك عنهم إلى غيرهم تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي ترغب في مجالسة الأغنياء وجميل الصورة وَلا تُطِعْ في تنحية الفقراء عن مجالسك مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ أي وجدنا قلبه غافلا عَنْ ذِكْرِنا أي عن توحيدنا وَاتَّبَعَ هَواهُ في عبادة الأصنام وَكانَ أَمْرُهُ في متابعة الهوى فُرُطاً (28) أي ضائعا نزلت هذه الآية في عيينة بن حصن الفزاري فإنه أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يسلم وعنده جماعة من الفقراء منهم سلمان الفارسي وعليه شملة قد عرق فيها وبيده خوص يشقه وينسجه فقال عيينة للنبي أما يؤذيك ريح هؤلاء ونحن سادة مضر وأشرافها إن أسلمنا تسلم الناس وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء فنحهم عنك حتى نتبعك أو اجعل لنا مجلسا ولهم مجلسا وقد أسلم هو رضي الله عنه وحسن إسلامه وكان في حنين من المؤلفة قلوبهم فأعطاه النبي صلّى الله عليه وسلّم منها مائة بعير وكذلك أعطي الأقرع بن حابس، وأعطي العباس بن مرداس أربعين بعيرا.
وروى أبو سعيد رضي الله عنه قال: كنت جالسا في عصابة من ضعفاء المهاجرين وإن بعضهم ليستر بعضا من العرى وقارئ يقرأ من القرآن فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ماذا كنتم تصنعون» ؟ قلنا: يا رسول الله كان واحد يقرأ من كتاب الله ونحن نسمع فقال صلّى الله عليه وسلّم: «الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم» ثم جلس وسطنا وقال: «أبشروا يا صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل الأغنياء بمقدار خمسين ألف(1/647)
أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40)
سنة»
«1» وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ أي قل لأولئك الغافلين هذا الدين الحق إنما أتى من عند الله فإن قبلتموه عاد النفع إليكم وإن لم تقبلوه عاد الضرر إليكم ولا تعلق لذلك بالفقر والغنى والقبح، والحسن والخمول والشهرة فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ فالله تعالى لم يأذن في طرد من آمن وعمل صالحا لأجل أن يدخل في الإيمان جمع من الكفار وهذه الصيغة تهديد وليست بتخيير إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ أي هيأنا لمن أنف عن قبول الحق لأجل أن من قبلوه فقراء ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها أي فسطاطها فلا مخلص لهم منها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا من العطش يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ أي كدردي الزيت أو كالفضة المذابة يَشْوِي الْوُجُوهَ أي إذا قرب إلى الفم ليشرب سقطت فروة وجهه بِئْسَ الشَّرابُ ذلك الماء لأن المقصود بشرب الشراب تسكين الحرارة وهذا يبلغ في احتراق الأجسام مبلغا عظيما وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) أي وساءت النار منزلا ومجتمعا للرفقة مع الكفار والشياطين إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أي لا نبطل ثواب من أخلص عملا
أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ أي من تحت مساكنهم الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ويسور المؤمن في الجنة بسوار من ذهب وبسوار من فضة، وبسوار من لؤلؤ فيكون في يده هذه الأنواع الثلاثة وفي الحديث الصحيح تبلغ حلية المؤمن حيث يبلغ الوضوء وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وهو الديباج اللطيف وَإِسْتَبْرَقٍ وهو الديباج الصفيق فإن الخضرة أحسن الألوان وأكثرها طراوة مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ أي ويجلسون في الجنة متربعين على السرر في الحجال وهي بيوت تزين بأنواع الزينة أما السرير وحده فلا يسمى أريكة نِعْمَ الثَّوابُ ذلك وَحَسُنَتْ أي الأرائك مُرْتَفَقاً (31) أي منزلا ومجتمعا للرفقة مع الأنبياء والصالحين وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أي بيّن لهؤلاء الذين يطلبون طرد المؤمنين لضعفهم مثل حال الكافرين والمؤمنين بحال رجلين شريكين في بني إسرائيل أحدهما كافر اسمه قطروس، والآخر مؤمن اسمه يهوذا أو تمليخا لهما ثمانية آلاف دينار، فاقتسماها فاشترى أحدهما أرضا بألف دينار فقال صاحبه: اللهم إن فلانا قد اشترى أرضا بألف دينار وإني أشتري منك أرضا في الجنة بألف دينار فتصدق بها ثم إن صاحبه بنى دارا بألف دينار فقال هذا: اللهم إن فلانا بنى دارا بألف دينار وإني اشتريت منك دارا في الجنة بألف دينار فتصدق بها، ثم تزوج صاحبه امرأة وأنفق عليها ألف دينار فقال هذا: اللهم إني أخطب إليك امرأة من نساء الجنة بألف دينار فتصدق بها، ثم إن صاحبه
اشترى خدما ومتاعا بألف دينار فقال هذا: اللهم إني أشتري منك خدما ومتاعا في الجنة بألف دينار فتصدق بها، ثم أصابته حاجة شديدة فقال: لو أتيت صاحبي لعله ينالني منه معروف فجلس على طريق حتى مر به في حشمه فقام إليه فنظر إليه صاحبه فعرفه
__________
(1) رواه المتقي الهندي في كنز العمال (16586) ، وأحمد ابن حنبل في الزهد (37) .(1/648)
فقال له: فلان، قال: نعم، فقال: ما شأنك؟ قال: أصابتني حاجة بعدك فأتيتك لتعينني بخير قال: فما فعل بمالك فقص عليه قصته فقال: وإنك لمن المصدقين فطرده ووبخه على التصدق بماله وآل أمرهما إلى ما حكاه الله تعالى فنزل في شأنهما قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما وهو الكافر جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ أي بستانين من كروم متنوعة وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ أي جعلنا النخل محيطا بالجنتين وَجَعَلْنا بَيْنَهُما أي وسط أرض الجنتين زَرْعاً (32) ليكون كل منهما جامعا للأقوات والفواكه فتأتي هذه الأرض في كل وقت بمنفعة فكانت منافعها متواصلة كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها أي أخرجت ثمرها كل عام وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ أي لم تنقص من ثمرها شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما أي أجرينا في داخل تلك الجنتين نَهَراً (33) وفي قراءة يعقوب «وفجرنا» بالتخفيف وَكانَ لَهُ أي لصاحب الجنتين ثَمَرٌ.
قرأ عاصم بفتح الثاء والميم أي ثمر البستان. وقرأ أبو عمرو بضم الثاء وسكون الميم.
والباقون بضم الثاء والميم في الموضعين، أي أنواع المال من الذهب والفضة والحيوان وغير ذلك فَقالَ أي صاحب الجنتين لِصاحِبِهِ الذي جعل مثلا للفقراء المؤمنين وَهُوَ أي صاحب الجنتين يُحاوِرُهُ أي يراجع صاحبه بالكلام الذي فيه الافتخار بالمال والناس: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً (34) أي أكثر أصحابا من الأولاد وغيرهم، ويقال: وهو أي صاحبه المؤمن يراجه الكافر في الكلام بالوعظ والدعاء إلى الإيمان بالله وبالبعث وَدَخَلَ جَنَّتَهُ أي بستانه مع صاحبه يطوف به فيها ويريه حسنها وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ أي ضار لها بكفره وعجبه واعتماده على ماله قالَ استنئاف بيان لسبب الظلم ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) أي ما أظن أن تفنى هذه الجنة أبدا وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ أي القيامة التي هي وقت البعث قائِمَةً أي حاصلة وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي بالبعث عند قيامة كما تقول لَأَجِدَنَّ يومئذ خَيْراً مِنْها أي من هذه الجنة مُنْقَلَباً (36) أي عاقبة وسبب هذه اليمين الفاجرة اعتقاده إنما أعطاه الله المال في الدنيا لكرامته عنده تعالى، وهي معه بعد الموت. وقرأ نافع وابن كثير منهما أي الجنتين. قالَ لَهُ أي لصاحب الجنة صاحِبُهُ الذي هو المؤمن وَهُوَ أي المؤمن يُحاوِرُهُ أي يجاوب الكافر بالتوبيخ على شكه في حصول البعث أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ أي من آدم وهو من تراب ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ لأبيك وأمك ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) أي صيّرك إنسانا ذكرا، وهيّأك هيئة تعقل وتصلح للتكليف فهل يجوز في العقل مع هذه الحالة إهماله تعالى أمرك فإن من قدر على بدء خلقه من تراب قادر أن يعيده منه وجعل الكفر بالبعث كفرا بالله، لأن منشأه الشك في كمال قدرة الله لكِنَّا أي لكن أنا أقول هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) أي أنت كافر بالله لكني مؤمن به موحد، ثم قال المؤمن للكافر: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ أي وهلا حين دخلت بستانك قُلْتَ عند إعجابك بها: ما شاءَ اللَّهُ أي الأمر هو الذي شاءه الله لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ أي لا قوة لأحد على أمر من الأمور إلا بإعانة الله وإقداره.(1/649)
أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)
وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من رأى شيئا فأعجبه فقال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يصره»
«1» . إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً (39) وخدما في الدنيا فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ أي يعطيني في الآخرة خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ لإيماني وَيُرْسِلَ عَلَيْها أي على جنتك حُسْباناً أي نارا مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أي فتصير جنتك أرضا ملساء لا نبات فيها بحيث تزلق الرجل لكفرك
أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً أي غائصا في الأرض فَلَنْ تَسْتَطِيعَ أنت لَهُ أي الماء طَلَباً (41) أي حيلة تدركه بها وقوله تعالى: أَوْ يُصْبِحَ عطف على قوله تعالى: فَتُصْبِحَ وإن كان الحسبان بمعنى النار لأنها الحكم الإلهي بتخريب الجنة فيتسبب عنه صيرورتها ترابا أملس، أو صيرورة مائها غائر إثم أخبر الله تعالى أنه حقق ما قدره هذا المؤمن فقال: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ أي أهلك ثمر بستانه بالكلية وجميع أمواله فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ أي صار يضرب إحداهما على الأخرى، وإنما يفعل هذا ندامة عَلى ما أَنْفَقَ فِيها أي في عمارة جنته لأنه أنفق ما يمكن ادخاره من الأموال الكثيرة في مثل هذا الشيء السريع الزوال وقوله: «على ما أنفق» متعلق ب «يقلب» لأنه ضمن معنى يندم كأنه قيل: فأصبح يندم على ما صنع فإنه من عظمت ندامته يصفق إحدى يديه على الأخرى وَهِيَ أي الجنة خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أي ساقطة على سقوف الجنة، وهي سقطت على الجدران. وهذه اللفظة كناية عن هلاك البستان بالكلية وَيَقُولُ أي الكافر- تلهفا على تلف المال أي تنبهوا يا قومي-: يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وهذا الكافر تذكر كلام المؤمن وعلم إنما هلكت جنته بشؤم شركة فتمنى أن لا يكون مشركا فلم يصبه ما أصابه وَلَمْ تَكُنْ لَهُ أي الكافر فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ بدفع الهلاك عن الجنة أو برد الهالك منها أو بإتيان مثله مِنْ دُونِ اللَّهِ فإنه وحده قادر على ذلك.
وقرأ حمزة والكسائي و «لم يكن» بالياء التحتية. والباقون بالتاء الفوقية وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) أي قادرا بنفسه على واحد من هذه الأمور هُنالِكَ الْوَلايَةُ أي في مثل ذلك الوقت وفي ذلك المقام النصرة لِلَّهِ الْحَقِّ فلا يقدر عليها أحد. وقرأ حمزة والكسائي «الولاية» بكسر الواو بمعنى الملك فالمعنى أي في تلك الدار الآخرة السلطان لله. والباقون بفتحها أي النصرة.
وقرأ أبو عمرو والكسائي «الحق» بالرفع صفة للولاية. وقرأ الباقون بالجر صفة لله أي الثابت الذي لا يزول هُوَ تعالى خَيْرٌ ثَواباً أي إثابة في الآخرة لمن آمن به والتجأ إليه وَخَيْرٌ عُقْباً (44) أي عاقبة لمن رجاه وعمل لوجهه. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو ونافع والكسائي وابن عامر بضم القاف. وعاصم وحمزة بتسكينها. وقرئ «عقبى» كرجعى والكل بمعنى العاقبة. وَاضْرِبْ لَهُمْ
__________
(1) رواه العجلوني في كشف الخفاء (2: 100) . [.....](1/650)
أي واذكر للذين افتخروا بأموالهم على فقراء المسلمين مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي صفتها العجيبة في فنائها كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ أي اختلط بعض أنواع النبات ببعضها الآخر بسبب هذا الماء أي صار النبات في المنظر في غاية الحسن فَأَصْبَحَ هَشِيماً أي فصار النبات بعد بهجتها يابسا مكسورا تَذْرُوهُ الرِّياحُ أي تفرقه ولم يبق منها شيء. وقرأ حمزة والكسائي الريح بالتوحيد وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) أي قادرا على الكمال بتكوينه أولا وتنميته وسطا وإبطاله آخرا، فأحوال الدنيا كذلك تظهر أولا في غاية النضارة، ثم تتزايد قليلا قليلا، ثم تأخذ في الانحطاط إلى أن تنتهي إلى الفناء ومثل هذا الشيء ليس للعاقل أن يفرح به الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وكل ما كان من زينة الدنيا فهو سريع الانقراض فيقبح بالعاقل أن يفتخر به وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ أي أعمال الخيرات التي تبقى له ثمرتها أبدا من الصلوات الخمس وأعمال الحج وصيام رمضان والطيب من القول خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ أي في الآخرة ثَواباً فتعود إلى صاحبها وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) فينال بها صاحبها في الآخرة كل ما كان يرجوه في الدنيا، لأن صاحب تلك الأعمال يأمل في الدنيا نصيبه من ثواب الله في الآخرة. وللغزالي في هذا وجه لطيف فقال: روي أن من قال: سبحان الله حصل له من الثواب عشر حسنات فإذا قال: والحمد لله صارت عشرين فإذا قال: ولا إله إلا الله صارت ثلاثين، فإذا قال: والله أكبر صارت أربعين.
وتحقيق القول في ذلك أن أعظم مراتب الثواب هو الاستغراق في معرفة الله وفي محبته فإذا قال: سبحان الله فقد عرف كونه تعالى منزها عن كل ما لا يليق به، فحصول هذا العرفان سعادة عظيمة وبهجة كاملة، فإذا قال مع ذلك والحمد لله فقد أقر بأن الله تعالى مع كونه منزها عن كل ما لا ينبغي فهو المبتدئ لإفادة كل ما ينبغي
ولإفاضة كل خير وكمال، فإذا قال: مع ذلك ولا إله إلّا الله فقد أقر بأنه ليس في الوجود موجود منزه عن كل ما لا ينبغي مبتدئ لإضافة كل ما ينبغي إلا الواحد فإذا قال والله أكبر ومعنى أكبر أي أعظم من أن يصل العقل إلى كنه كبريائه وجلاله فقد صارت مراتب المعرفة أربعة، فكانت درجات الثواب أربعة، فهذه الكلمات الأربع تسمى الباقيات الصالحات وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ أي واذكر لهم حين نسير أجزاء الجبال عن وجه الأرض بعد أن نجعلها غبارا مفرقا.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «تسير الجبال» بالتاء الفوقية بالبناء للمفعول وبرفع الجبال. وَتَرَى الْأَرْضَ خطاب لكل أحد. وقرئ على صيغة البناء للمفعول بارِزَةً أي ظاهرة ليس عليها ما يسترها من جبال وأشجار وبناء وحيوان وظل وبحار وَحَشَرْناهُمْ أي جمعنا الخلائق إلى الموقف من كل أوب للسحاب فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أي لم نترك من الأولين والآخرين أَحَداً (47) إلا وجمعناهم لذلك اليوم عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ
كعرض الجند على السلطان(1/651)
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)
ليقضي بينهم صفًّا أي مصطفين وقد ورد في الحديث الصحيح: «يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفا» «1»
وفي حديث آخر: «أهل الجنة مائة وعشرون صفا أنتم منها ثمانون» «2» اهـ.
مقولا لهم: لقَدْ جِئْتُمُونا كائنين
كما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ حفاة عراة غرلا بلا أموال وأعوان
بلْ زَعَمْتُمْ في الدنيا
ألَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً أي وقتا للبعث وَوُضِعَ الْكِتابُ أي وضع في هذا اليوم كتاب كل إنسان في يده اليمنى إن كان مؤمنا وفي يده اليسرى إن كان كافرا فقد تطايرت الكتب إلى أيدي الخلق مثل الثلج فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ أي المشركين والمنافقين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ أي خائفين مما في الكتاب من أعمالهم الخبيثة أي يحصل لهم خوف العقاب من الله بذنوبهم وخوف الفضيحة عند الخلق بظهور الجرائم لأهل الموقف وَيَقُولُونَ عند وقوفهم على ما في الكتاب من السيئات يا وَيْلَتَنا أي يا هلكتنا مالِ هذَا الْكِتابِ أي أيّ شيء له لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً من أعمالنا إِلَّا أَحْصاها أي عدها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا في الدنيا من السيئات حاضِراً أي مكتوبا في صحفهم وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) فلا ينقص من حسنات أحد ولا يزيد على سيئات أحد وَإِذْ قُلْنا أي واذكر لهم وقت قولنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا جميعا امتثالا بالأمر إِلَّا إِبْلِيسَ فإنه لم يسجد بل تكبر على آدم، لأنه افتخر بأصله كانَ مِنَ الْجِنِّ أي من نوع الجن الذين هم الشياطين فالذي خلق من نار هو أبوهم فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أي خرج عن طاعته بترك السجود أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ أي أبعد ما وجد من إبليس ما وجد تتخذونه وذريته أصدقاء يا بني آدم مِنْ دُونِي فتطيعونهم بدل طاعتي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ أي والحال أن إبليس وذريته لكم أعداء بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) من الله تعالى في الطاعة إبليس وذريته وعن مجاهد قال: ولد إبليس خمسة بتر والأعور وزلنبور ومشوط، وداسم، فبتر:
صاحب المصائب، والأعور: صاحب الزنا زلنبور الذي يفرق بين الناس ويبصر الرجل عيوب غيره ومشوط صاحب الصخب والأخبار يأتي بها فيلقيها في أفواه الناس ولا يجدون لها أصلا وداسم الذي إذا دخل الرجل بيته ولم يسلم ولم يذكر اسم الله دخل معه وإذا أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه
ما أَشْهَدْتُهُمْ أي ما أحضرت إبليس وذريته خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فإني خلقتهما قبل خلقهم وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ أي ولا أشهدت بعضهم خلق بعض وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ
__________
(1) رواه البخاري في كتاب التفسير، باب: تفسير سورة 17، ومسلم في كتاب الإيمان، باب:
327، والترمذي في كتاب القيامة، باب: 10، والدارمي في كتاب الرقاق، باب: في سجود المؤمنين يوم القيامة، وأحمد في (م 1/ ص 4) .
(2) رواه الطبراني في المعجم الكبير (19: 419) ، والطحاوي في مشكل الآثار (1: 156) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (34512) .(1/652)
للناس وهم الشياطين عَضُداً (51) أي أعوانا في شأن الخلق حتى يتوهم شركتهم بي في بعض أحكام الربوبية. والمعنى ما أطلعتهم على أسرار التكوين وما خصصتهم بفضائل لا يحويها غيرهم حتى يكونوا قدوة للناس، فكيف تطيعونهم يا بني آدم: وَيَوْمَ يَقُولُ أي واذكر لهم يا أشرف الخلق أحوال المشركين وآلهتهم يوم القيامة إذ يقول الله تعجيزا. وقرأ حمزة بنون العظمة. نادُوا شُرَكائِيَ أي نادوا آلهتكم التي قلتم: إنهم شركائي الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أي عبدتم ليمنعوكم من عذابي فَدَعَوْهُمْ للإغاثة فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ إلى ما دعوهم إليه وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ أي المشركين وآلهتهم مَوْبِقاً (52) أي حاجزا بعيدا أو واديا في جهنم من قيح ودم، وذلك أن المشركين الذين اتخذوا من دون الله آلهة الملائكة وعزيرا، وعيسى ومريم عليهم السلام دعوا هؤلاء فلم يجيبوهم استهانة بهم، واشتغالا بأنفسهم، ثم حيل بينهم فأدخل الله تعالى هؤلاء المشركين جهنم، وأدخل عزيرا وعيسى ومريم الجنة، وسار الملائكة إلى حيث أراد الله من الكرامة وحصل بين الكفار ومعبوديهم هذا الحاجز وهو ذلك الوادي وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ أي الكافرون النَّارَ من مكان بعيد فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها أي مخالطوها في تلك الساعة من غير تأخير لشدة ما يسمعون من تغيظها وزفيرها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53) أي معدلا إلى غيرها، لأن الملائكة تسوقهم إليها وَلَقَدْ صَرَّفْنا أن ذكرنا على وجوه كثيرة فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ أي لمنفعتهم مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي من كل نوع من أنواع المعاني البديعة الداعية إلى الإيمان التي هي في الغرابة كالمثل ليتلقوه بالقبول فلم يفعلوا وَكانَ الْإِنْسانُ بجبلته أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) أي وكان خصومة الإنسان بالباطل أكثر شيء فيه وَما مَنَعَ النَّاسَ أي أهل مكة أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى أي القرآن الهادي إلى الإيمان وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ عما فرط منهم من الذنوب إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أي إلا طلب إتيان سنتنا في الأولين وهو عذاب الاستئصال أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا (55) .
وقرأ حمزة وعاصم والكسائي بضم القاف والباء. أي أنواعا من العذاب تتواصل مع كونهم أحياء، والباقون بكسر القاف وفتح الباء أي عيانا. وقرئ بفتحتين أي مستقبلا. وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إلى الأمم إِلَّا مُبَشِّرِينَ بالثواب على أفعال الطاعة وَمُنْذِرِينَ بالعقاب على أفعال المعصية وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا المرسلين بِالْباطِلِ أي باقتراح الآيات بعد ظهور المعجزات لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ أي ليبطلوا بجدالهم الشرائع وَاتَّخَذُوا آياتِي التي هي معجزات الرسل وَما أُنْذِرُوا أي وإنذارهم بالعذاب هُزُواً (56) أي سخرية. وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ أي ليس أحد أظلم ممن وعظ بالقرآن فَأَعْرَضَ عَنْها أي فصرف عن تلك الآيات ولم يتدبرها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ أي تغافل عن كفره وذنوبه ولم يتفكر في عاقبته إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أي أغطية أَنْ يَفْقَهُوهُ أي مانعة من أن يفهموا القرآن وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً أي صمما مانعا من استماعه وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى أي إلى التوحيد فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) أي فلن(1/653)
فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)
يوجد منهم اهتداء ألبتة مدة التكليف وَرَبُّكَ الْغَفُورُ أي البليغ لستر ذنوبهم بالحلم عنها إلى وقت آخر ذُو الرَّحْمَةِ بتأخير العقوبة عنهم لَوْ يُؤاخِذُهُمْ أي لو يريد الله مؤاخذتهم بِما كَسَبُوا من الذنوب لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ في الدنيا بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ أي وقت لهلاكهم لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ أي العذاب مَوْئِلًا (58) أي مرجعا فمن يكون مرجعه العذاب فلا يوجد منه الخلاص وَتِلْكَ الْقُرى أي وأهل قرى عاد وثمود وأمثالهما أَهْلَكْناهُمْ في الدنيا لَمَّا ظَلَمُوا أي حين كفروا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59) أي وقتا معينا لا يتأخرون عنه.
وقرأ شعبة بفتح الميم واللام أي لهلاكهم، وقرأ حفص بفتح الميم وكسر اللام أي لوقت هلاكهم، والباقون بضم الميم وفتح اللام أي لإهلاكنا إياهم وَإِذْ قالَ أي واذكر حين قال مُوسى لِفَتاهُ يوشع بن نون بن أفرايم بن يوسف عليه السلام وكان يوشع من أشراف بني إسرائيل، وإنما سمي فتى موسى عليه السلام لأنه كان يخدمه، وكان موسى عليه السلام وقع في قلبه أن ليس في الأرض أحد أعلم مني فقال الله: يا موسى إن لي في الأرض عبدا أعبد لي منك وأعلم وهو الخضر، فقال موسى: يا رب دلني عليه، فقال الله له: خذ سمكا مالحا وامض على شاطئ البحر حتى تلقى صخرة عندها عين الحياة فانضح على السمكة منها حتى تحيا السمكة فثم تلقى الخضر فأخذ حوتا،
فجعله في مكتل فقال لفتاه: إذا فقدت الحوت فأخبرني فذهبا يمشيان لا أَبْرَحُ أي لا أزال سائرا حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أي ملتقى بحر فارس والروم مما يلي المشرق أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) أو أسير زمانا طويلا أتيقن معه فوات الطلب أو أسير ثمانين سنة
فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما أي بلغا موضعا يجتمع فيه موسى وصاحبه الذي كان يقصده وهو الخضر نَسِيا حُوتَهُما أي نسيا خبر حوتهما وتفقد أمره وقد جعل فقدانه أمارة لوجدان المطلوب. فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) أي فأدركته الحياة بسبب برد الماء الذي أصابه فتحرك في المكتل، فخرج منه وسقط في البحر، فاتخذ الحوت في البحر مسلكا كالسرب. قيل: إن الفتى كان يغسل السمكة لأنها كانت مملحة فطفرت وسارت فَلَمَّا جاوَزا أي موسى وفتاه مجمع البحرين، وذهبا كثيرا، وألقي على موسى الجوع قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا الذي بعد مجاوزة الصخرة نَصَباً (62) أي تعبا.
قيل: إن موسى لم يتعب ولم يجع قبل ذلك قالَ أي فتاه: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ أي أأبصرت حالنا إذ قمنا عند الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ أي خبر الحوت وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ بدل اشتمال من الهاء أي وما أنساني ذكر أمر الحوت لك إلا الشيطان بوسوسته الشاغلة عن ذلك. وقرأ حفص بضم الهاء «من أنسانيه» . وَاتَّخَذَ أي الحوت سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) أي اتخاذا عجبا وهو كون مسلكه كالسرب فلم يلتئم الماء وجمد ما تحت الحوت منه(1/654)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80)
حتى رجع موسى إليه فرأى مسلكه وكون الحوت قد مات وأكل شقه الأيسر، ثم حيي بعد ذلك قالَ أي موسى: ذلِكَ أي الذي ذكرت من أمر الحوت ما كُنَّا نَبْغِ أي الذي كنا نطلبه لأنه أمارة الظفر بالمطلوب وهو لقاء الخضر. وقرأ نافع وأبو عمرو والكسائي بإثبات الياء وصلا لا وقفا، وابن كثير أثبتها في الحالين. والباقون حذفوها في الحالين اتباعا للرسم. فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64) أي فرجعا مفتشين آثارهما أو فاقتصا على آثارهما اقتصاصا حتى آتيا الصخرة فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا وهو الخضر واسمه: بليا بن ملكان، وكنيته أبو العباس وهو من نسل نوح، وكان أبوه من الملوك الذين تزهدوا وتركوا الدنيا. وروي أنهما وجدا الخضر وهو نائم على وجه الماء وهو مغطى بثوب أبيض أو أخضر، طرفه تحت رجليه والآخر تحت رأسه فسلم عليه موسى فرفع رأسه واستوى جالسا وقال: وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل فقال له موسى: ومن أخبرك إني نبي بني إسرائيل؟ فقال: الذي أدراك بي ودلّك علي.
والصحيح أن الخضر نبي، وذهب الجمهور إلى أنه حي إلى يوم القيامة لشربه من ماء الحياة آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا أي أكرمناه بالنبوة- كما قاله ابن عباس- وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) وهو علم الغيوب قالَ لَهُ مُوسى على سبيل التأدب والتلطف في ظرف الاستئذان هَلْ أَتَّبِعُكَ أي أصحبك عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ أثبت الياء نافع وأبو عمرو وصلا لا وقفا، وابن كثير في الحالين، والباقون حذفوها. مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) أي علما يرشدني في ديني.
وقرأ أبو عمرو ويعقوب بفتح الراء والشين، والباقون بضم الراء وتسكين الشين. قال له الخضر: كفى بالتوراة علما وببني إسرائيل شغلا. فقال له موسى: إن الله أمرني بهذا فحينئذ قالَ له الخضر: يا موسى إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) أي على ما لم تعلم به بيانا وحكمة، أي إنك يا موسى لا تصبر على أمور لم تعلم حقائقها يا موسى إني على علم من علم الله تعالى علمنيه لا تعلمه، أي وهو علم الكشف وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه أي وهو علم ظاهر الشريعة. قالَ له موسى: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) عطف على «صابرا» ، أي ستجدني صابرا على ما أرى منك وغير مخالف لأمرك قالَ له الخضر: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي أي صحبتني فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ تشاهده من أفعالي ولو منكرا بحسب علمك الظاهر حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) أي حتى أبتدئ بإخبارك ببيان ذلك الشيء.
وقرأ ابن عامر «فلا تسألن» بالنون المثقلة وبغير ياء. وروي عنه «تسألني» مثقلة مع الياء وهي قراءة نافع، وقرأ باقي السبعة بسكون اللام وتخفيف النون، وقرأ أبو جعفر هنا «تسلن» بفتح السين واللام وتشديد النون من غير همز.
فَانْطَلَقا أي موسى والخضر عليهما السلام على(1/655)
الساحل يطلبان السفينة، وأما يوشع فقد صرفه موسى إلى بني إسرائيل أو كان معهما وإنما لم يذكر في الآية لأنه تابع لموسى فاكتفى بذكر المتبوع عن التابع. فالمقصود ذكر موسى والخضر حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها أي ثقبها الخضر. وعن أبي بن كعب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «مرت بهم سفينة فكلموا أهلها أن يحملوهم فعرفوا الخضر بعلامة فحملوهم بغير نول فلما لجوا- أي وصلوا- إلى الماء الغزير أخذ الخضر فأسا وأخرج بها لوحا من السفينة»
. قالَ له موسى: أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها أي لتغرق أنت أهل هذه السفينة، وقرأ حمزة والكسائي «ليغرق أهلها» بالياء المفتوحة وفتح الراء ورفع «أهلها» . لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) أي لقد فعلت شيئا عظيما شديدا على القوم.
روي أن الماء لم يدخل السفينة. وروي أن موسى لما رأى ذلك أخذ ثوبه فحشى به الخرق قالَ له الخضر: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ موسى لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ أي بما تركت من وصيتك أول مرة أو هذا من التورية وإيهام خلاف المراد فيتقي موسى بها الكذب مع التوصل إلى الغرض وهو بسط عذره في الإنكار، فالمراد بما نسيه شيء آخر غير الوصية لكنه أوهم أنها المنسية وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) أي لا تكلفني مشقة في أمر صحبتي إياك فقبل الخضر عذر موسى فخرجا من السفينة فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً بين قريتين لم يبلغ الحنث يلعب مع عشر صبيان كان وضيء الوجه اسمه «خيشور» فأخذه الخضر فَقَتَلَهُ بذبحه مضطجعا بالسكين أو بفتل عنقه قالَ له موسى: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً أي بريئة من الذنوب بِغَيْرِ نَفْسٍ أي بغير قتل نفس محرمة.
وقرأ نافع وابن كثيرون وأبو عمرو بألف بعد الزاي وبتخفيف الياء، والباقون بالتشديد وبدون ألف. لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) أي لقد فعلت فعلا منكرا قالَ الخضر أَلَمْ أَقُلْ لَكَ يا موسى زاد الخضر لك هنا تقريعا لموسى وتحاملا في الخطأ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قيل: إن يوشع كان يقول لموسى يا نبي الله اذكر العهد الذي أنت عليه قالَ موسى:
إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها أي بعد هذه المرة فَلا تُصاحِبْنِي أي لا تجعلني صاحبك. وقرئ لا تصحبني بضم التاء وسكون الصاد قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) أي قد وجدت من قبلي عذرا حيث خالفتك ثلاث مرات، قرأ نافع وأبو بكر عن عاصم في بعض الروايات بتخفيف النون وضم الدال، وفي بعض الروايات عن عاصم بضم اللام وسكون الدال.
روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «رحم الله أخي موسى استحيا فقال ذلك ولو لبث مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب»
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ بعد الغروب في ليلة باردة ممطرة وهي أنطاكية أو أبرقة اسْتَطْعَما أَهْلَها أي طلبا من أهلها الخبز على سبيل الضيافة فإقدام الجائع على الاستطعام أمر مباح في كل الشرائع بل ربما وجب ذلك عند خوف الضرر الشديد.(1/656)
وعن أبي هريرة قال: أطعمتهما امرأة من أهل بربرة بعد أن طلبا من الرجال فلم يطعموهما فدعوا لنسائهم ولعنا رجالهم فقوله تعالى: «استطعما» جواب «إذا» أو صفة ل «قرية» . فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم كانوا أهل قرية لئاما فَوَجَدا فِيها أي القرية جِداراً مائلا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ أي يقرب من السقوط وكان ارتفاعه مائة ذراع وعرضه خمسون ذراعا وامتداده على وجه الأرض خمسمائة ذراع فَأَقامَهُ أي رفعه الخضر بيده فاستقام أو مسحه بيده فاستوى أو هدمه ثم بناه قالَ موسى: لَوْ شِئْتَ يا خضر لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) أي طلبت على عملك أجرة تصرفها إلى تحصيل المطعوم، وتحصيل سائر المهمات أي كان ينبغي لك أن تأخذ منهم جعلا على فعلك لتقصيرهم فينا مع حاجتنا وليس لنا في إصلاح الجدار فائدة فهو من فضول العمل.
وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «كانت الأولى من موسى نسيانا، والوسطى شرطا، والثالثة عمدا»
«1» قيل في تفسير هذه الآيات التي وقعت لموسى مع الخضر أنها حجة على موسى وعتب عليه، وذلك أنه لما أنكر خرق السفينة نودي: يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت في التابوت مطروحا في اليم؟ فلما أنكر أمر الغلام قيل له: أين إنكارك هذا من وكزك للقبطي وقضائك عليه؟
فلما أنكر إقامة الجدار نودي: أين هذا من رفعك حجر البئر لبنات شعيب دون أجر؟ قالَ له الخضر: هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ أي هذا الإنكار على ترك الأجر سبب فراق حصل بيني وبينك سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) السين للتأكيد لا للاستقبال لعدم تراخي التنبئة أي أظهر لك بيان وجه ما لم تصبر عليه أي حكمة هذه الأمور الثلاثة قبل فراقي لك. أَمَّا السَّفِينَةُ التي خرقتها فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فيعيرون بالناس مؤاجرين للسفينة لحمل الأمتعة ونحوها كانت لعشرة إخوة من المساكين ورثوها من أبيهم خمسة زمنى وخمسة يعملون في البحر فأما العمال منهم.
فأحدهم: كان مجذوما.
والثاني: كان أعور.
والثالث: كان أعرج.
والرابع: كان آدر.
والخامس: كان محموما لا تنقطع عنه الحمى الدهر كله وهو أصغرهم.
__________
(1) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (1: 317) ، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (4: 28) .(1/657)
فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82) وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90)
والخمسة: الذين لا يطيقون العمل أعمى وأصم وأخرس ومقعد ومجنون وكان البحر الذي يعملون فيه ما بين فارس والروم فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها أي أن أجعلها ذات عيب وَكانَ وَراءَهُمْ أي أمامهم كما قرأ به ابن قرأ بذلك ابن عباس وابن جبير. مَلِكٌ كافر اسمه: هدد بن بدد أو جلندى ابن كرر. يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صحيحة- كما قرأ بذلك ابن عباس وابن جبير.
غَصْباً (79) من أصحابها ولم يكن عندهم علم به فلذلك ثقبتها فإذا جاوزوا الملك أصلحوها وَأَمَّا الْغُلامُ الذي قتلته فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ من عظماء تلك القرية اسم الأب كازبرا واسم الأم سهوا. فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما أي فخفنا أن يحمل الوالدين المؤمنين طُغْياناً وَكُفْراً (80) لمحبتهما له. وقرئ «فخاف ربك» أي كره ربك كراهة من خاف سوء عاقبة الأمر أن يلحق الوالدين معصية وكفرا، أو يقال: فعلم ربك أن يوقعهما في الكفر، وقيل: إن أبويه فرحا به حين ولد وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي لكان فيه هلاكهما فليرض العبد بقضاء الله تعالى فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب. وقيل: كان الغلام رجلا كافرا لصا قتالا فمن ذلك قتله الخضر، وكان اسمه: جيسور
فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً أي صلاحا وطهارة من الذنوب والأخلاق الرديئة وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) أي عطفا بأبويه وأوصل رحما بأن يكون أبر بهما.
قال ابن عباس: أبدلا بنتا ولدت نبيا وهو الذي كان بعد موسى الذي قالت له بنو إسرائيل:
ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله وكان اسمه: شمعون.
وقرأ أبو عمرو ونافع بفتح الياء وتشديد الدال، هنا وفي التحريم وفي القلم. وقرأ ابن عامر في إحدى الروايتين عن أبي عمرو «رحما» بضم الحاء. وَأَمَّا الْجِدارُ الذي سويته فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ هما أصرم وصريم ابنا كاشح وأمهما دنيا فِي الْمَدِينَةِ وهي المعبر عنها أولا بالقرية تحقيرا لها لخسة أهلها وعبر عنها هنا بالمدينة تعظيما لها من حيث اشتمالها على هذين الغلامين وأبيهما وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما
عن أبي الدرداء أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كان ذهبا وفضة» «1» رواه البخاري في تاريخه، والترمذي والحاكم
، وقيل: كان لوحا من ذهب مكتوبا فيه: عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن: وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب: وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح: وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل: وعجبت لمن يعرف الدنيا
__________
(1) رواه ابن الجوزي في زاد المسير (5: 163) ، وابن حجر في فتح الباري (11: 550) ، والطبري في التفسير (15: 185) ، والقرطبي في التفسير (11: 18) ، وابن كثير في التفسير (5: 172) .(1/658)
وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها؟ لا إله إلا الله محمد رسول الله: وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً وهذا يدل على أن صلاح الآباء يفيد العناية بأحوال الأبناء وقد روي أن الله يحفظ الصالح في سبعة من ذريته فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما أي قوتهما وكمال رأيهما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما أي دفينهما من تحت الجدار ولولا أني أقمته لا نقض وخرج الكنز من تحته وضاع بالكلية رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ مفعول له وعامله «أراد» أي نعمة لهما من ربك أو عامله مقدر أي فعلت هذه الأفعال وحيا من ربك. وَما فَعَلْتُهُ أي ما فعلت ما رأيت من هذه الأحوال عَنْ أَمْرِي أي عن اجتهادي ورأيي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82) أي ذلك الأجوبة الثلاثة تفسير ما لم تصبر عليه من الوقائع الثلاثة وحذف التاء بعد السين هنا للتخفيف.
روي أن موسى عليه السلام لما أراد أن يفارق الخضر قال له: أوصني، قال: لا تطلب العلم لتحدث به، واطلبه لتعمل به. وقيل: إن الخضر لما أراد أن يفارق موسى قال له موسى:
أوصيني، قال: كن بساما ولا تكن ضحاكا، ودع اللجاجة ولا تمش في غير حاجة، ولا تعب على الخطائين خطاياهم، وابك على خطيئتك با ابن عمران. وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ أي يسألك يا أشرف الخلق أهل مكة عن خبر ذي القرنين: اسمه: إسكندر بن فيلفوس اليوناني، كان عبدا صالحا ملكه الله الأرض وأعطاه العلم والحكمة، وألبسه الهيبة، وكان وزيره الخضر. والصحيح أنه لم يكن نبيا وإنّما كان ملكا صالحا عادلا ملك الأقاليم وقهر أهلها من الملوك وغيرهم، ودانت له البلاد وكان داعيا إلى الله. قُلْ لهم في الجواب: سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) أي سأذكر لكم من حال ذي القرنين خبرا مذكورا. «والسين» للتأكيد وللدلالة على التحقق. إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ أي إنا جعلنا له قدرة على التصرف في الأرض من حيث التدبير والرأي وعلى الأسباب حيث سخر له السحاب وبسط له النور، وكان الليل والنهار عليه سواء وسهل عليه السير في الأرض وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يحتاج إليه في إصلاح ملكه سَبَباً (84) أي طريقا يوصله إلى ذلك الشيء المقصود كآلات السير وكثرة الجند فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) أي فأخذ طريقا يوصله إلى استقصاء بقاع الأرض ليملأها عدلا حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ أي منتهى الأرض من جهة المغرب بحيث لا يمكن أحد من مجاوزته ووقف على حافة البحر المحيط الغربي الذي يقال له:
أوقيانوس الذي فيه الجزائر المسماة بالخالدات التي هي مبدأ الأطوال وَجَدَها أي الشمس تَغْرُبُ في رأى العين فِي عَيْنٍ أي بحر محيط حَمِئَةٍ أي ذات طين أسود شديد السخونة كما يدل عليه قراءة شعبة وحمزة والكسائي وابن عامر حامية بألف بعد الحاء وبياء بعد الميم، وهي قراءة ابن مسعود وطلحة وَوَجَدَ عِنْدَها أي عند تلك العين
قَوْماً
كفارا لباسهم جلود الوحوش وطعامهم ما يلفظه البحر من السمك قُلْنا بإلهام: يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ بالقتل وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) أي أمرا ذا حسن بأن تتركهم أحياء. قالَ أي ذو القرنين: أَمَّا مَنْ(1/659)
كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100)
ظَلَمَ
نفسه باستمراره على الكفر فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ بالقتل بعد طول الدعاء إلى الإسلام ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ في الآخرة فَيُعَذِّبُهُ فيها عَذاباً نُكْراً (87) أي شديدا وهو عذاب النار وَأَمَّا مَنْ آمَنَ بسبب دعوتي وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى.
قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بنصب «جزاء» أي فله الجنة في الآخرة من جهة الجزاء. وقرأ الباقون برفعه والإضافة أي فله في الدارين جزاء الفعلة الحسنى التي هي الإيمان والعمل الصالح وَسَنَقُولُ لَهُ أي لمن آمن مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) أي قولا سهلا مما نأمره به من الزكاة والخراج وغيرهما ولا نأمره بالصعب الشاق ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) أي ثم أخذ ذو القرنين طريقا نحو المشرق من جهة الجنوب حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ أي موضع طلوعها من معمورة الأرض وَجَدَها أي الشمس تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ هم الزنج لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها أي الشمس سِتْراً (90) من اللباس فيكونون عراة أبدا فإذا طلعت الشمس دخلوا الأسراب أو البحر فإذا ارتفع النهار خرجوا إلى معايشهم
كَذلِكَ أي أمر ذي القرنين فيهم كأمره في أهل المغرب فحكم في أهل المطلع كما حكم في أهل المغرب من تعذيب الظالمين والإحسان إلى المؤمنين وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91) أي وقد علمنا بما كان عند ذي القرنين من الخبر ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) أي ثم سلك ذو القرنين طريقا معترضا بين المشرق والمغرب آخذا نحو الروم من الجنوب إلى الشمال حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ أي بين الجبلين العاليين الأملسين فلا يستطاع الصعود عليهما في آخر بلاد الترك مما يلي المشرق ويسمى كل منهما سدا، لأنه سد فجاج الأرض وَجَدَ مِنْ دُونِهِما أي من ورائهما مجاوزا عنهما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) أي أمة من الناس لا يقربون يفهمون قول غيرهم لقلة فطنتهم، وفي قراءة حمزة والكسائي ضم الياء وسكون الفاء وكسر القاف أي لا يفهمون الناس كلامهم لغرابة لغتهم وهم من أولاد يافث وذو القرنين من أولاد سام.
قال أهل التاريخ: أولاد نوح عليه السلام ثلاثة: سام، وحام، ويافث. أما سام: فهو أبو العرب والعجم والروم. وأما حام: فهو أبو الحبشة والزنج والنوبة. وأما يافث: فهو أبو الترك والخزر والصقالبة ويأجوج ومأجوج قالُوا لذي القرنين- بواسطة ترجمان ممن هو مجاورهم، ويفهم كلامهم، أو بغير ترجمان على أن فهم ذي القرنين كلامهم وإفهام كلامه إياهم من جملة ما أعطاه الله تعالى من الأسباب-: يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أي في أرضنا يأكلون كل شيء أخضر، ويحملون كل شيء يابس، ويقتلون أولادنا وسمى يأجوج ومأجوج لكثرتهم.
وروى حذيفة حديثا مرفوعا: «أن يأجوج أمة ومأجوج أمة فكل أمة أربعة آلاف أمة لا يموت الواحد منهم حتى ينظر ألف ذكر من صلبه كلهم قد حملوا السلاح وهم من ولد آدم يسيرون إلى(1/660)
خراب الدنيا وهم ثلاثة أصناف: صنف منهم أمثال شجر الصنوبر طوله عشرون ومائة ذراع في السماء، وصنف منهم طوله وعرضه سواء عشرون ومائة ذراع وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد، وصنف منهم يفترش أحدهم إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه ومن مات منهم أكلوه مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبرية»
فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً.
وفي قراءة حمزة والكسائي بفتح الراء مع مده، والباقين بسكون الراء فقيل: الخرج. ما كان على كل رأس. والخراج: ما كان على البلد، وقيل: الخرج ما كان بالتبرع. والخراج: ما يلزم أداؤه. عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ أي يأجوج ومأجوج سَدًّا (94) أي حاجزا بين هذين الجبلين فلا يصلون إلينا قالَ ذو القرنين: ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ أي ما جعلني فيه ربي قادرا من المال الكثير والملك الواسع وسائر الأسباب خير مما تعرضون علي من الجعل فلا حاجة بي إليه. وقرأ ابن كثير «مكنني» بفك الإدغام فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أي بآلات الحدادين وبصناع يحسنون البناء والعمل أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) أي حاجزا حصينا وبرزخا متينا وهو أكبر من السد وأوثق آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ بمد الهمزة أي أعطوني قطع الحديد الكبيرة. وقرأ حمزة «ائتوني» بوصل الهمزة في الموضعين، ووافقه أبو بكر هنا وخالفه في الموضع الثاني، والمعنى جيئوني بزبر الحديد، ف «زبر» على قراءة همزة الوصل منصوبة على إسقاط الخافض وحفر ذو القرنين الأساس حتى بلغ الماء وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب، والبنيان من زبر الحديد بينها الحطب والفحم حتى سد ما بين الجبلين إلى أعلاهما وكان طوله مائة فرسخ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ أي بين طرفي الجبلين بالبناء أي إنهم جاءوا ذا القرنين بزبر الحديد فشرع يبني شيئا فشيئا حتى إذا جعل ما بين ناحيتي الجبلين من البنيان مساويا لها في السمك وكان ارتفاعه مائتي ذراع وعرضه خمسين ذراعا ووضع المنافخ والنار حول ذلك قالَ للعملة: انْفُخُوا بالكيران في الحديد المبني فنفخوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً أي إذا جعل الحديد مثل النار قالَ للذين يتولون أمر النحاس من الإذابة ونحوها: آتُونِي أي أعطوني نحاسا مذابا أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) أي أصب على الحديد المحمى نحاسا مذابا فأفرغه عليه فدخل مكان الحطب والفحم فامتزج بالحديد والتصق بعضه ببعض وصار جبلا صلدا وهذه كرامة عظيمة حيث صرف الله تأثير الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك النافخين والمفرغين للقطر فَمَا اسْطاعُوا بحذف تاء بعد السين أي فلم يقدر يأجوج ومأجوج أَنْ يَظْهَرُوهُ أي أن يعلوا ظهر الجبل لارتفاعه وملاسته وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97) أي خرقا من أسفله لصلابته وثخنه، لأنه كان خمسين ذراعا وكان ارتفاعه مائتي ذراع وكان طول السد على وجه الأرض مائة فرسخ ومسيرة الفرسخ ساعة ونصف، فتكون مسيرة السد مائة وخمسين ساعة مسيرة اثني عشر يوما ونصف قالَ أي ذو القرنين لمن عنده: هذا السد(1/661)
الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
رَحْمَةٌ أي نعمة عظيمة مِنْ رَبِّي على جميع الخلق فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي أي وقت وعد ربي بخروج يأجوج ومأجوج جَعَلَهُ أي هذا السد دَكَّاءَ بالمد أي أرضا مستوية. وقرئ «دكا» أي مكسورا حتى يصير ترابا وَكانَ وَعْدُ رَبِّي بخروجهم وقت قرب الساعة حَقًّا (98) أي صدقا وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ أي صيرنا بعض يأجوج ومأجوج يوم خروجهم من السد يختلط ببعضهم الآخر من شدة الازدحام عند خروجهم لكثرتهم، وذلك عقب موت الدجال فينحاز عيسى بالمؤمنين إلى جبل الطور فرارا منهم.
روي أنهم يأتون البحر فيشربون ماءه ويأكلون دوابه، ثم يأكلون الشجر ومن ظفروا به من الناس ولا يقدرون أن يأتوا مكة والمدينة وبيت المقدس ولا يصلون إلى من تحصن منهم بورد أو ذكر ويحبس نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار فيتوجهون إلى الله تعالى بالدعاء فيسلط الله تعالى دودا في أنوفهم أو آذانهم فيموتون به، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلّا ملأه رممهم ونتنهم، فيتوجه نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله تعالى فيرسل سبحانه وتعالى عليهم طيرا فتلقيهم في البحر، ثم يرسل مطرا يغسل الأرض حتى تصير كالمرآة، ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك وردي بركتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك في الغنم والإبل حتى إن اللقحة لتكفي الجماعة الكثيرة فبينما هم كذلك إذ بعث الله تعالى عليهم ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة وَنُفِخَ فِي الصُّورِ نفخة ثانية للبعث فَجَمَعْناهُمْ أي يأجوج ومأجوج وغيرهم جَمْعاً (99) أي جمعا عجيبا بعد ما تفرقت أوصالهم وتمزقت أجسادهم في صعيد واحد للحساب والجزاء وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) أي أظهرناها لهم مع قربهم منها يوم إذ جمعنا الخلائق كافة إظهارا هائلا فذلك يجري مجرى عقابهم لحصول الغم العظيم بسبب رؤيتها وسماعها تغيظا وزفيرا
الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ أي أعين قلوبهم في الدنيا فِي غِطاءٍ أي غشاوة كثيفة عَنْ ذِكْرِي على وجه يليق بشأني وعن كتابي فلا يهتدون به وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) إلى قراءة القرآن فلا يؤمنون به. أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي كفروا بي مع جلالة شأني فظنوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي من الملائكة وعيسى وعزير أَوْلِياءَ أي معبودين
ينصرونهم من عذابي. والمعنى أفظنوا أنهم ينتفعون بمن عبدوه من عبادي مع إعراضهم عن تدبر الآيات السمعية والمشاهدة.
وقرأ أبو بكر «أفحسب الذين كفروا» بسكون السين ورفع الباء، وذكر أنه قراءة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أي أفكافيهم اتخاذهم ذلك من دون طاعتي إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا (102) أي منزلا قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا (103) في الآخرة الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ أي بطل عملهم(1/662)
فِي الْحَياةِ الدُّنْيا متعلق بسعيهم لا بضل وذلك كالعتق، والوقف، وإغاثة الملهوف، لأن الكفر لا تنفع معه طاعة وَهُمْ يَحْسَبُونَ أي والحال أنهم يظنون أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أي يحسنون في أعمالهم بالإتيان بها على وجه اللائق ويحسبون أنهم ينتفعون بآثارها. قيل: المراد بهم أهل الكتابين. وقيل: الرهبانية الذين يحبسون أنفسهم في الصوامع ويحملونها على الرياضات الشاقة وجملة وهم يحسبون حال من فاعل ضل، وهو أولى من كونها حالا من المضاف إليه أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ أي بدلائله الداعية إلى توحيده عقلا ونقلا وَلِقائِهِ أي وكفروا بالبعث بعد الموت وبرؤيته تعالى في الآخرة فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أي بطلت لإنكارهم الدلائل فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) أي فلا نجعل لمن حبطت أعمالهم حبوطا كليا يوم القيامة قدر إبل نزدري بهم فليس لهم عندنا قيمة أصلا ولا يوزن من خيراتهم قدر ذرة ذلِكَ جَزاؤُهُمْ أي ذلك الذي ذكرناه من أنواع الوعيد هو جزاؤهم جَهَنَّمُ عطف بيان للخبر بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي الدالة على وحدانيتي وَرُسُلِي المؤيدين بالمعجزات هُزُواً (106) أي مهزوءا بهما إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بآيات ربهم ولقائه وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ من الأعمال كانَتْ لَهُمْ فيما سبق من حكم الله تعالى ووعده جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) أي منزلا خبر كانت ولهم متعلق بمحذوف حال من نزلا خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا (108) أي لا يطلبون تحولا إلى غيرها وهذا يدل على غاية الكمال فلا مزيد عليها في خيرات الجنة حتى يريد أشياء غيرها، فإن الإنسان في الدنيا إذا وصل إلى أي درجة كانت من السعادات فهو طامح الطرف إلى ما هو أعلى منها.
وعن كعب أنه قال: ليس في الجنان أعلى من جنة الفردوس وفيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر.
وعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مسيرة مائة عام، والفردوس أعلاها. وفيها الأنهار الأربعة فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس فإن فوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة»
قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي أي قل يا أشرف الخلق لو كان ماء البحر مداد التحرير كلمات علم ربي وحكمته لنفد البحر مع كثرته في كتابتها ولم يبق منه شيء لتناهيه من غير أن تنفد كلمات ربي لعدم تناهيها.
وقرأ حمزة والكسائي «ينفد» بالياء التحتية. وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ أي بمثل ماء البحر مَدَداً (109) أي زيادة لنفد البحر ولم تنفد كلمات ربي. وقيل: هنا بمعنى غير، أو بمعنى دون.
وروي أن حيي بن أخطب قال: في كتابكم ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، ثم تقرأون وما أوتيتم من العلم إلا قليلا فنزلت هذه الآية أي إن ذلك الحكمة خير كثير ولكنه قطرة من بحر كلمات الله ثم أمر الله تعالى سيدنا محمدا صلّى الله عليه وسلّم بأن يسلك طريقة التواضع فقال: قُلْ لهم بعد ما بينت لهم شأن كلماته تعالى: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ لا أدعي الإحاطة بكلماته تعالى التامة(1/663)
يُوحى إِلَيَّ من تلك الكلمات. أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له في الخلق ولا في سائر أحكام الألوهية وإنما تميزت عنكم بذلك الوحي، فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ أي فمن استمر على رجاء كرامته تعالى فَلْيَعْمَلْ لتحصيل تلك الطلبة العزيزة عَمَلًا صالِحاً لائقا بذلك المرجو كما فعله الذين آمنوا وعملوا الصالحات وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110) إشراكا جليا كما فعله الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه ولا إشراكا خفيا كما يفعله أهل الرياء.
روي أن جندب بن زهير العامري قال لرسول صلّى الله عليه وسلّم: إني لأعمل العمل لله فإذا اطلع عليه سرني فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله لا يقبل ما شورك فيه» «1» . فنزلت هذه الآية تصديقا له
وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال له: «لك أجران أجر السر وأجر العلانية»
«2» .
فالرواية الأولى: محمولة على ما إذا قصد بعمله الرياء والسمعة.
والرواية الثانية: محمولة على ما إذا قصد أن يقتدى به. والمقام الأول مقام المبتدئين والمقام الثاني مقام الكاملين. والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين آمين.
(تم الجزء الأول من تفسير مراح لبيد. ويليه الجزء الثاني أوله سورة مريم)
__________
(1) رواه الطبراني في المعجم الكبير (8: 165) «بما معناه» .
(2) رواه ابن ماجة في كتاب الزهد، باب: الثناء الحسن، والترمذي في كتاب الزهد، باب:
49.(1/664)
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10)
[الجزء الثاني]
سورة مريم
مكية، ثمان وتسعون آية، تسعمائة واثنتان وستون ثلاثة آلاف وثلاثمائة وحرفان
كهيعص (1) وهو من المتشابه الذي انفرد الله تعالى بعلمه، وقيل: هو ثناء من الله على نفسه، وهو وصفه تعالى بأنه كاف لخلقه، هاد لعباده، يده فوق أيديهم، عالم بأمرهم، صادق في وعده. ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ، فإن جعلت كهيعص اسما للسورة على ما عليه اتفاق أكثر العلماء، فهي مبتدأ وخبره ذِكْرُ أي المسمى كهيعص ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) ، أي إصابة الله رحمته عبده زكريا. إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) ، فإنه أدخل في الإخلاص، وأبعد من الرياء، وأقرب إلى الخلاص، عن لوم الناس على طلب الولد في زمان الشيخوخة. قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي أي ضعف بدني، وإنما أسند الضعف إلى العظم لأنه دعامة الجسد، فإذا ضعف كان غيره أضعف. وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً، أي أخذ رأسي شمطا، وقد صار مثل شواظ النار. وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) أي ولم أكن بدعائي إياك يا رب خائبا في وقت من أوقات هذا العمر الطويل، بل كلما دعوتك استجبت لي وقد توسّل سيدنا زكريا عليه السلام، بما سلف منه من الاستجابة عند كل دعوة بعد ذكر ما يتسبب للرأفة من كبر السن، وضعف الحال. وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ، أي الذين يخلفونني في السياسة، وفي القيام بأمر الدين. مِنْ وَرائِي، أي بعد موتي، وهم بنو عمه عليه السلام، وكانوا أشرار بني إسرائيل، فخاف عليه السلام أن لا يحسنوا خلافته في أمته، ويبدّلوا عليهم دينهم، وقوله: مِنْ وَرائِي متعلق بمحذوف أي فعل الموالي، أو جور الموالي لا ب «خفت» لفساد المعنى. وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً أي لا تلد من حين شبابها. فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ، أي أعطني من محض فضلك الواسع، وقدرتك الباهرة. وَلِيًّا (5) أي ولدا من صلبي. يَرِثُنِي، من حيث العلم والدين والنبوة. وَيَرِثُ الملك. مِنْ آلِ يَعْقُوبَ، بن إسحاق، بن إبراهيم عليه السلام، لأن زوجة زكريا هي أخت مريم، وكانت من ولد سليمان بن داود، من ولد يهوذ بن يعقوب. أما زكريا فهو من ولد هارون أخي موسى، وهما من ولد لاوى بن يعقوب بن إسحاق.(2/3)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)
وقرأ أبو عمرو والكسائي «يرث» في الكلمتين بالجزم على جواب الأمر، والباقون بالرفع على أنه صفة. وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) أي مرضيا عندك قولا وفعلا. قال تعالى بواسطة الملك جبريل: يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ، أي ولد يرث العلم والنبوة في حياتك فإنه قتل قبل موت أبيه اسْمُهُ يَحْيى لإحيائه رحم أمه بعد موته بالعقم. لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) ، أي شريكا له في الاسم حيث لم يكن قبل يحيى أحد يسمّى بيحيى، وقيل: أي شبيها في الفضل والكمال، فإنه لم يعص ولم يهم بمعصية من حال الصغر، وأنه صار سيّد الشهداء على الإطلاق.
قالَ زكريا: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ أي من أين يكون لي ولد، وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً أي والحال أنه قد صارت امرأتي لم تلد قط، وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) ، أي يبوسا.
وقرأ أبي ابن كعب وابن عباس «عسيا» بالسين غير المعجمة قالَ أي الله تعالى:
كَذلِكَ أي الأمر، ذلك الوعد، من خلق غلام منكما وأنتما على حالكما، قالَ رَبُّكَ هُوَ، أي خلق يحيى منكما على حالتكما، عَلَيَّ خاصة هَيِّنٌ، وإن كان في العادة مستحيلا. وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) أي وقد أوجدتك يا زكريا من قبل يحيى، والحال أنك إذ ذاك عدم بحت.
وقرأ حمزة والكسائي «خلقناك» . قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً، أي علامة تدلني على حصول حبل امرأتي قالَ أي الله تعالى: آيَتُكَ على تحقق المسؤول أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ، أي أن لا تقدر على أن تكلم الناس ثَلاثَ لَيالٍ مع أيامهن، سَوِيًّا (10) ، أي حال كونك سليم الجوارح، لم يحدث بك مرض ولا خرس.
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ، أي من المصلى، وهم اجتمعوا ينتظرون فتح الباب ليصلّوا فيه بإذنه على العادة، فخرج إليهم للإذن وهو لا يتكلم، متغيرا لونه فأنكروه، فقالوا: ما لك يا نبي الله فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أي أشار إليهم، أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) ، أي صلوا صلاة الفجر، وصلاة العصر.
قال الله تعالى ليحيى بعد ما بلغ: يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ، أي اعمل بما في التوراة بجدّ، وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ أي الفهم في التوراة والفقه في الدين. صَبِيًّا (12) ، أي في صغره.
وعن بعض السلف من قرأ القرآن قبل أن يبلغ، فهو ممن «أوتي الحكم صبيا» . روي أنه عليه السلام دعاه الصبيان إلى اللعب فقال: ما للعب خلقنا. وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً، أي وأعطينا تعظيما من عندنا على يحيى، حيث جعلناه نبيا وهو صغير، وتشريفا له.
ويقال: وأعطينا يحيى رحمة من لدنّا على زكريا وتزكية له، عن أن يصير مردود الدعاء.
ويقال: وأعطينا يحيى تعطفا منا على أمته لعظم انتفاعهم بإرشاده، وتوفيقا للتصدق عليهم، وتطهيرا منا عن الالتفات لغيرنا، وَكانَ تَقِيًّا (13) . بطبعه، ومن جملة تقواه، أنه كان يتقوّت(2/4)
قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)
بالعشب وكان كثير البكاء، فكان لدمعه مجار على خدّه. وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ
، أي لطيفا بهما، محسنا إليهما. وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً
أي متكبرا في دينه. عَصِيًّا
(14) ، أي عاصيا لربه، عاقا بوالديه. وَسَلامٌ عَلَيْهِ
، أي أمان من الله تعالى على يحيى. يَوْمَ وُلِدَ
، من أن يناله الشيطان.
وَيَوْمَ يَمُوتُ
، من فتنة القبر، وَيَوْمَ يُبْعَثُ
، من القبر حَيًّا
(15) ، من هول القيامة، وهذا تنبيه على كونه عليه السلام من الشهداء. وَاذْكُرْ
، يا أكرم الرسل للناس، فِي الْكِتابِ
أي هذه السورة مَرْيَمَ
أي قصتها، إِذِ انْتَبَذَتْ
أي اعتزلت، مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا
(16) أي شرقي بيت المقدس، وشرقي دارها، لتتخلى هناك للعبادة. فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً
أي فأرخت لأجل منع رؤية أهلها سترا لتغتسل من حيضها، فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
رسولنا جبريل، فَتَمَثَّلَ لَها
بعد فراغها من الاغتسال، وبعد لبسها ثيابها، بَشَراً سَوِيًّا
(17) أي لم ينقص من الصورة البشرية شيئا.
وكان موضعها المسجد، فإذا حاضت تحّولت إلى بيت خالتها، وإذا طهرت عادت إلى المسجد، فلما طهرت وهي في مغتسلها، أتاها جبريل بعد لبسها ثيابها في صورة آدمي شاب أمرد، وضيء الوجه، جعد الشعر، كامل البدن لم ينقص من حسان نعوت الآدمية شيئا. وقيل:
تمثّل في صورة ترب لها اسمه يوسف، من خدم بيت المقدس، لتستأنس بكلامه، وتتلقى منه ما يلقى إليها من كلماته تعالى، قالَتْ
أي مريم: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
(18) أي مطيعا لله، يرجى منك أن تتقي الله، ويحصل ذلك بالاستعاذة به، فإني عائذة به منك.
وقيل: كان في ذلك الزمان، رجل فاجر اسمه تقي، يتبع النساء، فظنت مريم أن ذلك المشاهد هو ذلك التقي، فمن ذلك تعوّذت منه، وخصّت الرحمن بالذكر ليرحم ضعفها وعجزها عن دفعه. قالَ
لها جبريل: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ
الذي استعذت به، لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا
(19) ، أي لأكون سببا في هبة ولد طاهر من الذنوب، بالنفخ في الدرع.
قرأ نافع وأبو عمرو «ليهب» بياء مفتوحة بعد اللام، أي ليهب الرب لك ولدا ذكرا، مترقيا من سن إلى سن، على الخير. قالَتْ مريم لجبريل: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ أي من أين يكون لي ولد كما وصفت، والحال أنه لم يباشرني رجل بنكاح، وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) أي فاجرة تبغي الرجال.
قالَ لها جبريل: كَذلِكِ أي الأمر كما قلت لك، قالَ رَبُّكِ الذي أرسلني إليك هُوَ أي هبة الولد من غير أن يمسك بشر أصلا. عَلَيَّ خاصة هَيِّنٌ وإن كان مستحيلا عادة، لأني لا أحتاج إلى الوسائط، وَلِنَجْعَلَهُ أي وهب الولد من غير أب، آيَةً لِلنَّاسِ أي برهانا لهم يستدلون به على كمال قدرتنا نفعل ذلك.
وبهذا إتمام الأنواع الأربعة في خلق البشر، فإنه تعالى خلق آدم من غير ذكر وأنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وخلق بقية البشر من ذكر وأنثى معا.(2/5)
وَرَحْمَةً، عظيمة كائنة مِنَّا عليهم يهتدون بهدايته، وَكانَ، أي خلق الولد بلا أب، أَمْراً مَقْضِيًّا (21) أي لا يتغيّر. فلو لم يقع لا نقلب علم الله جهلا وهو محال. وجميع الممكنات منتهية في سلسلة القضاء إلى واجب الوجود، وإذا كان الأمر كذلك، فلا فائدة في الحزن، وهذا هو سر
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب»
. فَحَمَلَتْهُ أي فنفخ جبريل في طوق قميصها نفخة وصلت إلى فرجها، ودخلت منه جوفها فحملته في الحال، فَانْتَبَذَتْ بِهِ أي فاعتزلت وهو في بطنها، مَكاناً قَصِيًّا (22) ، أي بعيدا من الناس.
قال وهب: إن مريم لما حملت بعيسى، كان معها ابن عم لها يقال له: يوسف النجار، وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند جبل صهيون، وكان يوسف ومريم يخدمان ذلك المسجد، ولا يعلم في أهل زمانهما أحد أشد عبادة منهما. وأول من علم حمل مريم هو يوسف، فتحيّر في أمرها فكلما أراد أن يتهمها ذكر عبادتها، وأنها لم تغب عنه ساعة قط. وإذا أراد أن يبرّئها رأى الذي ظهر بها من الحمل.
فأول ما تكلم به أن قال: قد وقع في نفسي من أمرك شيء وقد حرصت على كتمانه، فغلبني ذلك، فرأيت أن الكلام فيه أشفى لصدري، فقالت: قل قولا جميلا. قال: أخبريني يا مريم، هل ينبت زرع بغير بذر؟ وهل تنبت شجرة من غير غيث؟ وهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم، ألم تعلم أن الله أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر وهذا البذر إنما حصل من الزرع الذي أنبته من غير بذر، ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الشجرة من غير غيث؟ وبالقدرة جعل الغيث حياة الشجر، بعد ما خلق كل واحد منهما على حدة، أو تقول أن الله تعالى لا يقدر على أن ينبت الشجرة حتى استعان بالماء، ولولا ذلك لم يقدر على إنباتها.
فقال يوسف: لا أقول هذا ولكني أقول: إن الله قادر على ما يشاء، فيقول له: كن فيكون.
فقالت له مريم: ألم تعلم أن الله تعالى خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى؟ فعند ذلك زالت التهمة عن قلبه.
وكان ينوب عنها في خدمة المسجد لاستيلاء الضعف عليها بسبب الحمل، وضيق القلب، فلما دنت ولادتها، أوحى الله إليها أن اخرجي من أرض قومك، فخرجت أقصى الدار. فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ أي فألجأها وجع الولادة إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ أي إلى أصل نخلة يابسة لا رأس لها، وكان الوقت شتاء شديد البرد، فلما اعتمدت عليه بصدرها اخضر، وأطلع الجريد، والخوص، والثمر رطبا في وقت واحد، كما أن حمل عيسى وتصويره وولادته في وقت واحد.
وكأن الله أرشدها إلى النخلة ليريها من آياته ما يسكن روعتها، وليطعمها الرطب، الذي هو أشد الأشياء موافقة للنفساء فهو خرسة لها، ولأن النخلة من أقل الأشجار صبرا على البرد،(2/6)
ولأنها لا تثمر إلا عند اللقاح من ذكر النخل، وإذا قطعت رأسها ماتت. فكأنه تعالى قال: كما أن الأنثى لا تلد إلا مع الذكر، فكذا النخلة لا تثمر إلا عند اللقاح. ثم إني أظهر الرطب من غير اللقاح، ليدل ذلك على جواز ظهور الولد من غير ذكر فحملها بمجرد هزها أنسب شيء بإتيانها بولد من غير والد، قالَتْ لما خافت أن يظن بها السوء في دينها، فيقع في المعصية من يتكلم فيها وهي راضية بما بشّرها به جبريل: يا أي أنبهك يا مخاطب، لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا، الوقت الذي فيه الأمر العظيم.
وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي «مت» بكسر الميم. والباقون بالضم. وَكُنْتُ نَسْياً، أي شيئا تافها لا يعتدّ به أصلا كخرقة الطمث، ونحوها.
وقرأ حفص وحمزة وابن وثاب والأعمش بفتح النون، والباقون بالكسر. وقرأ محمد بن كعب القرظي «نسأ» بالهمز وبهما، وهو الحليب المخلوط بالماء الكثير ينساه أهله لقلته واستهلاكه في الماء، مَنْسِيًّا (23) أي متروكا لم يذكر بالبال، وهو نعت للمبالغة. وهذا جرى على عادة الصالحين عند اشتداد الأمر عليهم، فإنهم يقولون مثل ذلك.
كما روي عن أبي بكر أنه نظر إلى طائر على شجرة فقال: طوبى لك يا طائر تقع على الشجرة، وتأكل من الثمر وددت أني ثمرة ينقرها الطائر. وعن عمر أنه أخذ تبنة من الأرض فقال:
يا ليتني هذه التبنة ولم أك شيئا. وعن علي أنه قال يوم الجمل: يا ليتني متّ قبل هذا اليوم بعشرين سنة. وعن بلال أنه قال: ليت بلالا لم تلده أمه. وقرأ الأعمش: «منسيا» بكسر الميم اتباعا للسين. فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) .
وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي: ب «من» الجارة، أي فناداها جبريل من مكان أسفل منها تحت الأكمة، أي لا تحزني يا مريم على ولادة عيسى، قد جعل ربك بمكان أسفل منك، أو قريب منك نهرا صغيرا، أو إنسانا شريفا جليلا.
ويدل على ذلك قراءة ابن عيسى، فناداها ملك من تحتها، ويقال: فناداها المولود كائنا من تحت ذيلها، أي لا تحزني يا أمي، قد جعل ربك تحتك جدولا يجري، ويمسك بأمرك، أو نبيا مرتفع القدر. وقرأ الباقون ب «من» الموصولة.
وقرأ زر وعلقمة «فخاطبها» من تحتها بفتح الميم، أي فناداها عيسى الذي كان تحت ذيلها أي لا تحزني قد جعل ربك تحتك رئيسا عزيزا لا يكاد يوجد له نظير أو جدولا بضرب جبريل الأرض برجله.
ويقال: فناداها جبريل من تحتها يقبل الولد كالقابلة، أو من تحت النخلة بأن لا تحزني، قد جعل ربك قربك عين ماء عذب، تعظيما لشأنك فإن الله تعالى أرسل جبريل إليها ليناديها بهذه الكلمات. كما أرسل إليها في أول الأمر ليكون ذلك تذكيرا لها ما تقدم من أصناف البشارات، أو(2/7)
يقال: إن الله تعالى أنطق عيسى لها حين وضعته تطييبا لقلبها، وإزالة للوحشة عنها، حتى تشاهد في أول الأمر ما بشّرها به جبريل من علوّ شأن ذلك الولد.
كما
قال الحسن بن علي رضي الله عنهما: إن عيسى عليه السلام لو لم يكن كلّمها لما علمت أنه ينطق، فما كانت تشير إلى عيسى بالكلام
. وحمل فاعل «نادى» على عيسى أقرب وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ أي حرّكي أصل النخلة تحريكا عنيفا إلى جهتك، تُساقِطْ عَلَيْكِ أي تسقط النخلة عليك إسقاطا متواترا بحسب تواتر الهز، رُطَباً جَنِيًّا (25) أي طريا استحق أن يجنى.
وقرأ حمزة بفتح التاء والسين مخففة، وفتح القاف. وقرأ حفص بضم التاء، وكسر القاف.
والباقون بفتح التاء، وتشديد السين، وفتح القاف، فَكُلِي وَاشْرَبِي أي فكلي من الرطب، واشربي من النهر، أو كلي من الرطب، واشربي من عصيره. وَقَرِّي عَيْناً أي طيبي نفسا بولدك عيسى، فالعين إذا رأت ما يسّر النفس سكنت إليه من النظر إلى غيره، وأن دمعة السرور باردة، ودمعة الحزن حارة، ولذلك يقال: للمحبوب قرة العين، وللمكروه سخنة العين. فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) ، أن فإن تري يا مريم أحدا من الآدميين فيسألك عن ولدك، فقولي له إن استنطقك: إني نذرت للرحمن صمتا فلن أكلم اليوم آدميا، بعد أن أخبرتك بنذري وإنما أكلم الملائكة، وأناجي ربي. وإنما منعت مريم من الكلام ليكون عيسى المتكلم عنها، فيكون أقوى لحجتها في إزالة التهمة عنها، ولكراهة مجادلة السفهاء. فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ أي فجاءتهم مع ولدها عيسى حاملة له وهو ابن أربعين يوما.
روي عن ابن عباس أن يوسف انتهى بمريم إلى غار فأدخلها فيه أربعين يوما حتى طهرت من النفاس، ثم حملته إلى قومها، فكلّمها عيسى في الطريق، فقال: يا أماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه.
فلما دخلت على أهلها ومعها الصبي بكوا وحزنوا وكانوا أهل بيت صالحين. قالُوا مؤنبين لها:
يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) ، أي لقد فعلت شيئا منكرا عظيما، يا أُخْتَ هارُونَ، أي يا شبيهة هارون في العبادة وكان هارون هذا رجلا صالحا من أفضل الناس من بني إسرائيل، ينسب إليه كل من عرف بالصلاح وهذا لمّا مات تبع جنازته أربعون ألفا كلهم يسمّون هارون تبركا به وباسمه. والمراد أنك يا مريم كنت في الزهد كهارون، فكيف صرت هكذا! ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ، أي ما كان أبوك عمران رجلا زانيا، وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) ، أي وما كانت أمك حنة امرأة فاجرة فَأَشارَتْ، مريم إِلَيْهِ، أي إلى عيسى أن كلموه، قالُوا منكرين لجوابها: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ، أي في الحجر أو في السرير صَبِيًّا (29) أي صغيرا ابن أربعين يوما.
روي أن عيسى كان يرضع، فلما سمع ذلك ترك الرضاع، وأقبل عليهم بوجهه، واتكأ على يساره، وأشار بسبابة يمينه، فتكلم عيسى قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ، وإنما نص عيسى على إثبات عبودية نفسه، لأن إزالة التهمة عن الله تعالى، تفيد إزالة التهمة عن الأم، لأن الله تعالى لا يخص(2/8)
وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)
الفاجرة بولد في هذه الدرجة العالية. أما التكلم بإزالة التهمة عن الأم لا يفيد إزالة التهمة عن الله تعالى، فكان الاشتغال بذلك أولى. وقد وصف عيسى عليه السلام نفسه بصفات ثمانية: أولها:
العبودية، فاعترف بها لئلا يتخذوه إلها. وآخرها: تأمين الله له في أخوف المقامات، وكل هذه الصفات تقتضي تبرئة أمه. آتانِيَ الْكِتابَ، أي علمني التوراة والإنجيل في بطن أمي، وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) بعد الخروج من بطن أمي،
وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أي نفاعا معلما للخير، أَيْنَ ما كُنْتُ، أي في أي مكان كنت.
روى الحسن عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «سلمت مريم عيسى إلى الكتاب، فقالت للمعلم: أدفعه إليك على أن لا تضربه، فقال له المعلم: اكتب. فقال: أيّ شيء أكتب؟ فقال: اكتب أبجد.
فرفع عيسى عليه السلام رأسه فقال: هل تدري ما أبجد؟ فعلاه بالدرة ليضربه، فقال: يا مؤدب لا تضربني، إن كنت لا تدري فاسألني فإني أعلمك الألف من آلاء الله، والباء من بهاء الله، والجيم من جمال الله، والدال من أداء الحق إلى الله»
. وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ أي أمرني بإقامة العبودية وتطهير النفس عن الصفات الذميمة. ما دُمْتُ حَيًّا (31) ، في الدنيا ليكون ذلك حجة على من ادعى أنه عليه السلام إله، لأنه لا شك في أن من يعبد إلها ليس بإله، والله تعالى صيّره حين انفصل عن أمه عاقلا. وَبَرًّا بِوالِدَتِي أي وكلفني برا بأمي، وهذا إشارة إلى غير تنزيه أمه عن الزنا، إذ لو كانت زانية لما كان الرسول المعصوم مأمورا بتعظيمها. وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً، أي متعاظما. شَقِيًّا (32) أي عاصيا لله، عنيدا له لفرط التكبر، بل جعلني متواضعا. وكان من تواضعه أنه كان يأكل ورق الشجر، ويجلس على التراب، ولم يتخذ له مسكنا. وروي أن عيسى عليه السلام، قال: قلبي لين وأنا صغير في نفسي. وَالسَّلامُ عَلَيَّ أي الأمان من الله علي، يَوْمَ وُلِدْتُ، أي حين ولدت من لمزة الشيطان، وَيَوْمَ أَمُوتُ، أي حين أموت من ضغطة القبر، وَيَوْمَ أُبْعَثُ من القبر، حَيًّا (33) . وإنما خصّ هذه المواضع لكونها أخوف من غيرها. ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ، أي عيسى بن مريم كلمة الله، فالحق اسم الله، أو المعنى خبر عيسى ابن مريم خبر الحق، فعيسى عطف بيان.
وقرأ عاصم وابن عامر قول الحق بالنصب على المدح إن فسّر بكلمة الله فحينئذ الوقف في مريم وقف كاف وإن فسّر بالقول الصدق، كان مصدرا مؤكدا لقال: إني عبد الله، ف «عيسى» خبر المبتدأ وعلى قراءة النصب كان اسم الإشارة راجعا لمن بينت نعوته الجليلة. الَّذِي فِيهِ، أي في عيسى يَمْتَرُونَ (34) ، أي يتنازعون.
فيقول اليهود: هو ساحر. ويقول بعض النصارى: هو ابن الله. ويقول بعضهم: هو الله.
ويقول: بعضهم هو شريكه. ما كانَ لِلَّهِ، أي ما صحّ له تعالى، أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ، لأنه يلتزم من اتخاذه ولدا الحاجة، وهو نقص، سُبْحانَهُ، أي تنزه الله عن ذلك، إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) . أي إذا أراد الله أن يحدث أمرا من الأمور، فإنما يريده ويعلق قدرته به، فيكون(2/9)
حينئذ بلا تأخير. وقرأ ابن عامر بنصب «يكون» على الجواب. وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ.
قرأ ابن عامر والكوفيون بكسر «إن» عطف على قوله: «إني عبد الله» أو على الاستئناف، ويؤيده ما قرأه أبي «إن الله» بالكسر بغير واو. وقرأ أبو عمرو والمدنيون بالفتح على حذف حرف الجر متعلقا بما بعده، أي ولأن الله أو بسبب أنه تعالى ربي وربكم فاعبدوه. هذا التوحيد ونفي الولد والزوجة الذي أمرتكم به، صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) ، يوصل إلى الجنة ورضا الله تعالى. فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ، أي اختلف النصارى في شأن عيسى عليه السلام بعد رفعه إلى السماء. فأخرج كل قوم عالمهم، فأخرج منهم أربعة نفر، فقال أحدهم: هو الله تعالى هبط إلى الأرض، فأحيا من أحيا وأمات من أمات، ثم صعد إلى السماء، وهم: اليعقوبية. فقالت الثلاثة كذبت. ثم قال اثنان منهم للثالث: قل فيه، قال: هو ابن الله وهم النسطورية. فقال الاثنان: كذبت. ثم قال أحد الاثنين للآخر قل فيه. فقال: هو ثالث ثلاثة الله إله، وهو إله، وأمه إله، وهم الإسرائيلية، ملوك النصارى، ولذلك سموا ملكانية. فقال الرابع: كذبت، بل هو عبد الله، وروحه، ورسوله، وكلمته، فخصمهم، وقال: أما تعلمون أن عيسى كان يطعم، وينام، وأن الله تعالى لا يجوز عليه ذلك، وهم المسلمون. وكان لكل رجل منهم أتباع على ما قال، فاقتتلوا وغلبوا على المسلمين.
فذلك قول الله تعالى: وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ [آل عمران: 21] فصاروا أحزابا. وذلك قوله تعالى: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فاختلفوا فيه، وهذا معنى قوله تعالى: الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ فَوَيْلٌ أي فشدّة عذاب، لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي اختلفوا في شأن عيسى، مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) ، أي من حضور هول الحساب، والجزاء يوم القيامة، أو من مكان الحضور في الحساب وهو الموقف، أو من وقت حضوره، أو من شهادة ذلك اليوم عليهم، وهو شهادة الملائكة والأنبياء، وشهادة ألسنتهم وأيديهم، وأرجلهم بالكفر وسوء الأعمال، أو من وقت شهادة يوم عظيم الهول أو من مكانها. أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا، أي أن أسماعهم وأبصارهم يوم يأتوننا للحساب والجزاء، جدير بأن يتعجب منهما بعد ما كانوا صما وعميانا في الدنيا. لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) ، أي لكن الكافرون في الدنيا في ضلال مبين، حيث تركوا النظر بالكلية، وهم في الآخرة يعرفون الحق. وَأَنْذِرْهُمْ، أي خوف يا أشرف الخلق، كفار مكة يَوْمَ الْحَسْرَةِ، أي يوم الندامة، إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ أي فرغ من الحساب ببيان أمر الثواب والعقاب، فيندم في ذلك اليوم الناس، المسيء على إساءته في الدنيا، والمحسن على قلة إحسانه فيها.
روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم، سئل عن قوله تعالى: إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ، فقال: «حين يجاء بالموت على صورة كبش أملح فيذبح، والفريقان ينظران فينادي المنادي: يا أهل الجنة، خلود فلا موت، ويا أهل النار، خلود فلا موت، فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرح، وأهل النار غما إلى(2/10)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
غم»
. «1» و «إذ» بدل من «يوم الحسرة» أو ظرف ل «الحسرة» ، و «يوم الحسرة» مفعول به، أي خوفهم نفس ذلك اليوم. وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) ، أي أنذرهم في حال كونهم في جهلة عن ذلك اليوم، وفي حال كونهم لا يصدقون به. إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها، أي إنا لا ندع في الأرض شيئا من عاقل وغيره ونسلب جميع ما في أيديهم وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40) أي وإلى حكمنا يردّون للجزاء، وهذا تخويف عظيم للعصاة.
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ، أي واتل على كفار مكة قصة إبراهيم في هذه السورة، فإنهم ينتسبون إليه عليه السلام، فعساهم باستماع قصته يتركون ما هم فيه من القبائح. إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً أي يبلغ الصدق في أقواله، وأفعاله وأحواله. نَبِيًّا (41) ، رفيع القدر عند الله، وعند الناس، فلا رفعة أعلى من رفعة من جعله الله واسطة بينه، وبين عباده. إِذْ
قالَ لِأَبِيهِ
، آزر، متلطفا في الدعوة: يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ
، ثناءك عليه، وَلا يُبْصِرُ
، خشوعك بين يديه، وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
(42) ، أي ولا يقدر على أن يكفيك شيئا من جلب نفع، أو دفع ضرّ. يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي، من الله، مِنَ الْعِلْمِ، أي علم الوحي، ما لَمْ يَأْتِكَ، منه، فَاتَّبِعْنِي، بالتوجه إلى الله، أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) ، أي طريقا موصلا إلى أسنى المطلب، منجيا عن المعاطب. يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ، فإن عبادتك للأصنام عبادة له، إذ هو الذي يزيّنها بوسوسته. إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) ، فطاعة العاصي عصيان، والعصيان يوجب العذاب. يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ. إن لم تؤمن به، فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45) أي قرينا في العذاب.
روي عن أبي هريرة أنه قال: قال صلّى الله عليه وسلّم: «أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام، أنك خليلي، فحسّن خلقك، ولو مع الكفار، تدخل مداخل الأبرار، فإن كلمتي سبقت لمن حسّن خلقه، أن أظلّه تحت عرشي. وأن أسكنه حظيرة قدسي، وأن أدنيه من جواري»
«2» . قالَ آزر: أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي، أي أمعرض أنت عن آلهتي! يا إِبْراهِيمُ، أنكر آزر نفس الانصراف عن الأصنام مع نوع من التعجب، كان الانصراف عنها مما لا يصدر من العاقل. لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ، عن مقالتك هذه، لَأَرْجُمَنَّكَ، أي لأقتلنك، أي لأظهرن، أمرك للناس ليقتلوك، وهذا تهديد عما كان إبراهيم عليه من العظة. وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) أي تباعد عني لكيلا أراك زمانا طويلا. قالَ
__________
(1) رواه البخاري في كتاب التفسير، باب: قوله: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ، ومسلم في كتاب الجنّة، باب: 4، والترمذي في كتاب التفسير، تفسير سورة 19، باب: 2، والدارمي في كتاب الرقاق، باب: في ذبح الموت، وأحمد في (م 2/ ص 377) .
(2) رواه ابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق (2: 155) ، والعجلوني في كشف الخفاء (1:
308) ، وابن عدي في الكامل في الضعفاء (6: 2432) .(2/11)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)
إبراهيم: سَلامٌ عَلَيْكَ، وهذا توادع ومتاركة، أي لا أشافهك بما يؤذيك بعد. سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي، أي أدعو لك ربي أن يهديك إلى الإيمان، فإن حقيقة الاستغفار للكافر طلب التوفيق للإيمان المؤدي للمغفرة. إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) ، أي بليغا في البرّ والألطاف. وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أي وأترككم وما تعبدون من الأصنام، بالارتحال من بلادكم.
وَأَدْعُوا رَبِّي، أي أعبده وحده. عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي، أي بعبادته، شَقِيًّا (48) ، أي ضائع العمل كما ضاع عملكم بعبادة الأوثان. فارتحل سيدنا إبراهيم من كوثي إلى الأرض المقدسة. فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أي فلما فارقهم إبراهيم في المكان في طريقتهم من عبادة الأوثان وأبعد عنهم إلى الأرض المقدسة، والتشاغل بالعبادة، وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ، يأنس بهما لأنه عاش حتى رأى يعقوب. وَكُلًّا أي كل واحد منهم جَعَلْنا نَبِيًّا (49) ، ينبئهم الله تعالى بعلوم المعارف، وهم ينبّئون الخلق بالله وبالإسلام. وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا، المال، والجاه والأتباع، والذرية الطيبة. وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) ، أي جعلنا لهم ثناء صادقا يفتخر بهم الناس، ويثنون عليهم، ويذكرهم الأمم كلها إلى يوم القيامة، بما لهم من الخصال المرضية.
وتقول هذه الأمة في الصلوات الخمس: كما صلّيت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إلى قيام الساعة.
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً. قرأه عاصم وحمزة والكسائي، بفتح اللام أي معصوما من الأدناس، اختاره الله تعالى. والباقون بالكسر أي مخلصا لعبادته عن الرياء، ولنفسه عما سوى الله. وَكانَ رَسُولًا إلى بني إسرائيل والقبط، نَبِيًّا (51) يخبرهم عن الله تعالى. وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ أي الذي يلي يمين موسى، والطور: جبل بين مصر ومدين، وذلك حين توجه من مدين إلى مصر، أي تمثل له الكلام من تلك الجهة. يقول يا موسى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ [طه: 14] وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) ، أي مناجيا أي رفعنا قدره، وشرّفناه بالمناجاة، بأن أسمعه الله تعالى كلامه بلا واسطة. وقيل: رفعناه مكانا عاليا فوق السموات، حتى سمع صرير القلم حيث كتبت التوراة في الألواح. وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53) ، أي وجعلنا أخاه هارون نبيا من أجل رأفتنا به، ليكون وزيرا له، ومعينا له في تبليغ الرسالة.
وهذا إشارة إلى أن النبوة ليست كسبية، بل هي من مواهب الله تعالى، يهب لمن يشاء النبوة والرسالة، وإشارة إلى أن لموسى اختصاصا بالقربة، والقبول عند الله تعالى، حتى يهب أخاه هارون النبوة والرسالة بشفاعته، كما يهب الأنبياء والرسل بشفاعة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «الناس يحتاجون إلى شفاعتي حتى إبراهيم عليه السلام»
. وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ، فكان إذا وعد الناس بشيء أنجز وعده.
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما إنه عليه السلام وعد صاحبا له أن ينتظر في مكان، فانتظره(2/12)