تفسير سورة المنافقون
إحدى عشرة آية، مدنية.
1201 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقْرِئُ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي ذَكَرْنَا، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْمُنَافِقِينَ بَرِئَ مِنَ النِّفَاقِ» .
بسم الله الرحمن الرحيم {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ {1} اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {2} ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ {3} وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ {4} } [المنافقون: 1-4] .
{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون: 1] يعني: عبد الله بن أبي وأصحابه، {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] وتم الخبر عنهم، ثم ابتدأ فقال: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} [المنافقون: 1] أي: أنه أرسلك، فهو يعلم إنك رسوله، {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] جعلهم كاذبين، لأنهم أضمروا غير ما أظهروا، فدل هذا على أن حقيقة الإيمان بالقلب، ومن قال شيئًا واعتقد خلافه فهو كاذب، ألا ترى أنهم كانوا يقولون بألسنتهم: نشهد إنك لرسول الله.
وسماهم الله تعالى كاذبين.
{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون: 2] تقدم تفسيره في { [المجادلة، قال الضحاك: حلفهم إنهم لمنكم.
] فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة المنافقون: 2] منعوا الناس عن الجهاد والإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ذلك أي: ذلك الكذب، بأنهم آمنوا باللسان، ثم كفروا في السر، {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [المنافقون: 3] بالكفر، {فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 3] الإيمان والقرآن.
{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون: 4] يعني: أن لهم أجسامًا ومناظر، {وَإِنْ يَقُولُوا} [المنافقون: 4] إنك لرسول الله، تسمع لقولهم فتحسب أنه حق وصدق منهم، كأنهم خشب لا أرواح فيها، فلا(4/302)
تعقل ولا تفهم، وكذلك المنافقون لا يسمعون الإيمان ولا يعقلونه، قال الزجاج: وصفهم بتمام الصور، وحسن الإبانة، ثم أعلم أنهم في تركهم التفهم، والاستبصار بمنزلة الخشب.
وقوله: مسندة أي: ممالة إلى الجدار، من قولهم: أسندت الشيء.
أي: أملته، والتفعيل للتكثير، لأنه صفة خشب، وهي جمع، وأراد أنها ليست بأشجار تثمر وتنمو، أو تحسن منظرها، بل هي خشب مسندة إلى حائط، ثم عابهم بالجبن، فقال: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون: 4] لا يسمعون صوتًا إلا ظنوا أنهم قد أوتوا، إن نادى مناد في العسكر، أو انفلتت دابة، أو نشدت ضالة، ظنوا أنهم هم المرادون، مما في قلوبهم من الرعب أن يكشف الله أسرارهم، ثم أخبر بعداوتهم، فقال: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون: 4] أي: احذر أن تأمنهم على سرك، لأنهم عيون لأعدائك من الكفار، {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4] مفسر في { [براءة.
] وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ {5} سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ {6} هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ {7} يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ {8} } [سورة المنافقون: 5-8] .
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 5] وذلك: أن عبد الله بن أبيّ لما رجع من أحد بكثير من الناس، مقته المسلمون وعنفوه، فقال له بنو أبيه: إيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى يستغفر لك.
فقال: لا أذهب إليه، ولا أريد أن يستغفر لي.
فذلك قوله: لووا رءوسهم قال مقاتل: عطفوا رءوسهم رغبة عن الاستغفار.
ورأيتهم يصدون عن الاستغفار، وهم مستكبرون متكبرون عن استغفار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم.
ثم ذكر أن استغفاره لا ينفعهم، فقال: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} [المنافقون: 6] الآية.
{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} [المنافقون: 7] الآية.
1202 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَامِدٍ، أنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْحَافِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفَقِيهُ، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاذٍ، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَمِّي، " فَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ يَقُولُ: لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا، وَلَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ(4/303)
الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمِّي، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَانِي، فَحَدَّثْتُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ، فَحَلَفُوا مَا قَالُوا، فَكَذَّبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَدَّقَهُمْ فَأَصَابَنِي هَمٌّ لَمْ يُصِبْنِي مِثْلُهُ قَطُّ، وَجَلَسْتُ فِي الْبَيْتِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون: 1] فَأَرْسَلَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَرَأَهَا ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ صَدَّقَكَ "، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ
وقوله: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [المنافقون: 7] أي: أنه هو الرازق لهؤلاء المهاجرين لا هؤلاء، لأن خزائن الرزق من السموات والأرض، هو المطر والنبات لله، {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 7] قال ابن عباس: لا يفقهون أن أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون.
{يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ} [المنافقون: 8] من هذه الغزوة، وهي غزوة بني المصطلق، {لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون: 8] عنى بالأعز نفسه، والأذل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرد الله عليه، فقال: ولله العزة المنعة والقوة، ولرسوله وللمؤمنين بإعزاز الله، ونصره إياهم، وإظهار دينهم على سائر الأديان، {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8] ذلك، ولو علموا ما قالوا هذه المقالة.
قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ {9} وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ {10} وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ {11} } [المنافقون: 9-11] .
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ} [المنافقون: 9] يعني: لا تشغلكم أموالكم، {وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون: 9] عن الصلوات المفروضة، {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} [المنافقون: 9] أي: من شغله ماله، وولده عن ذكر الله {فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9] .
{وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [المنافقون: 10] قال ابن عباس: يريد زكاة الأموال.
{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المنافقون: 10] فيسأل الرجعة إلى الدنيا، وهو(4/304)
قوله: {فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [المنافقون: 10] يعني: استزاده في أجله، حتى يتصدق ويتزكى، وهو قوله: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10] قال الضحاك: لا ينزل بأحد الموت لم يحج، ولم يؤد الزكاة، إلا سأل الله تعالى الرجعة.
وقرأ هذه الآية، وقال في قوله: {وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10] يعني: الحج.
وروي ذلك عن أبي عباس.
1203 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْقَاضِي، نا دَعْلَجُ بْنُ أَحْمَدَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ، نا فَيَّاضُ بْنُ زُهَيْرٍ، نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي حَبَّةَ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مَالٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَلَمْ يَزَلْ يَسْأَلِ اللَّهَ الرَّجْعَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ» ، فَقَالُوا: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ إِنَّمَا كُنَّا نَرَى هَذَا الْكَافِرَ، فَقَالَ: أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ بِهَا قُرْآنًا: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون: 9] إِلَى قَوْلِهِ: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10] .
قال الزجاج: معناه: هلا أخرتني، وجزم أكن عطف على موضع فأصدق، لأنه على معنى: إن أخرتني أصدق وأكن.
ومن قرأ وأكون فهو على لفظ فأصدق.
ثم أخبر الله تعالى أنه لا يؤخر من انقضت مدته، وحضر أجله، فقال: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا} [المنافقون: 11] أي: الموت، {إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 11] من خير وشر.(4/305)
تفسير سورة التغابن
ثماني عشرة آية، مدنية.
1204 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْخَفَّافُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ التَّغَابُنِ دُفِعَ عَنْهُ مَوْتُ الْفَجْأَةِ» .
بسم الله الرحمن الرحيم {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {1} هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {2} خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ {3} يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {4} } [التغابن: 1-4] .
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [التغابن: 1] الآية مفسرة فيما تقدم.
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2] قال عطاء: فمنكم مصدق، ومنكم جاحد.
وقال الوالبي، عن ابن عباس: إن الله تعالى خلق بني آدم مؤمنًا وكافرًا، ثم يعيدهم يوم القيامة كما خلقهم مؤمنًا وكافرًا.
قال الزجاج: جاء في التفسير: أن يحيى بن زكريا، عليهما السلام، خلق في بطن أمه مؤمنًا، وخلق فرعون في بطن أمه كافرًا.
وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {5} ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ(4/306)
بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ {6} } [التغابن: 5-6] .
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} [التغابن: 5] يخاطب أهل مكة، ويخوفهم بما نزله بمن قبلهم من الكفار، وهو قوله: {فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} [التغابن: 5] يعني: ما لحقهم من العذاب في الدنيا، {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التغابن: 5] في الآخرة.
ذلك الذي لحقهم من العذاب، {بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [التغابن: 6] فينكرون ذلك، ويقولون: أبشر آدمي مثلنا، {يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ} [التغابن: 6] عن إيمانهم وعبادتهم.
ثم أخبر عن إنكارهم البعث، بقوله: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ {7} فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ {8} يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {9} وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ {10} } [التغابن: 7-10] .
{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن: 7] الآية.
{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ} [التغابن: 9] أراد: لتنبؤن يوم يجمعكم، {لِيَوْمِ الْجَمْعِ} [التغابن: 9] يعني: يوم القيامة، يجمع فيه أهل السموات وأهل الأرض، {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن: 9] يغبن فيه أهل الحق أهل الباطل، وأهل الإيمان أهل الكفر، فلا غبن أبين منه، هؤلاء يدخلون الجنة، وهؤلاء يدخلون النار.
وقوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {11} وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ {12} اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ {13} } [التغابن: 11-13] .
{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} [التغابن: 11] قال ابن عباس: بعلمه وقضائه.
{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] قال مقاتل بن حيان: يهد قلبه عند المصيبة، فيعلم أنها من الله، فيسلم لقضائه ويسترجع.
قال أبو ظبيان: كنا(4/307)
نعرض المصاحف عند علقمة بن قيس، فنمر بهذه الآية: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] فسألناه عنها، فقال: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم.
قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {14} إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ {15} فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {16} إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ {17} عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {18} } [التغابن: 14-18] .
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14] قال ابن عباس: هؤلاء رجال من أهل مكة، أسلموا وأرادوا أن يأتوا المدينة، فلم تدعهم أزواجهم وأولادهم.
فهو قوله: {عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14] أن تطيعوهم وتدعوا الهجرة، قوله: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا} [التغابن: 14] قال: هو أن الرجل من هؤلاء إذا هاجر، رأى الناس قد سبقوه في الهجرة، وتفقهوا في الدين، هَمَّ أن يعاقب زوجته، وولده الذين ثبطوه عن الهجرة، وإن لحقوا به في دار الهجرة لم ينفق عليهم، ولم يصبهم بخير.
فأنزل الله تعالى: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {14} إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 14-15] بلاء وشغل عن الآخرة، والإنسان بسبب المال والولد يقع في العظائم، ويتناول الحرام إلا من عصمه الله، ويشهد لهذا ما:
1205 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ، أنا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَالِكٍ الْقَطِيعِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، نا أَبِي زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي بُرَيْدَةَ، يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُنَا فَجَاءَ الْحُسَيْنُ وَالْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَمْشِيَانِ، وَيَعْثُرَانِ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمِنْبَرِ فَحَمَلَهُمَا وَوَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: صَدَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ(4/308)
{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] نَظَرْتُ إِلَى هَذَيْنِ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قَطَعْتُ حَدِيثِي وَرَفَعْتُهُمَا
وقوله: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن: 15] ثواب جزيل وهو الجنة، والمعنى: لا تعصوه بسبب الأولاد، ولا تؤثروهم على ما عند الله من الأجر العظيم.
{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ما أطقتم، وقال الربيع: اتقوا الله جهدكم.
وهذه الآية نسخت قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] ، واسمعوا لله ولرسوله، وأطيعوهما فيما يأمرانكم، وأنفقوا من أموالكم في حق الله، {خَيْرًا لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} [التغابن: 16] حتى يعطي حق الله من ماله، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن: 16] وقد مر هذا في سورة الحشر، وباقي السورة مفسر فيما تقدم.(4/309)
تفسير سورة الطلاق
اثنتا عشرة آية، مدنية.
1206 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الزَّعْفَرَانِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي ذَكَرْنَا، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَاتَ عَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» .
بسم الله الرحمن الرحيم {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] .
{يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] نادى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم خاطب أمته، لأنه السيد المقدم، فإذا نودي وخوطب خطاب الجمع، كانت أمته داخلة في ذلك الخطاب، ومعنى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] إذا أردتم التطليق، كقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] ، {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ} [الإسراء: 45] ، فطلقوهن لعدتهن نزلت في عبد الله بن عمر، لما طلق امرأته وهي حائض، فأمر الله تعالى الزوج أن يطلق امرأته إذا شاء الطلاق في طهرها، وهو قوله: لعدتهن أي: لزمان عدتهن وهو الطهر، والطلاق نوعان: سني، وبدعي، والسني: أن يقع في طهر لم يجامع فيه، فذلك هو الطلاق للعدة، لأنها تعتد بذلك الطهر من عدتها، وتحصل في العدة عقيب الطلاق، فلا يطول عليها زمان العدة، والآية دلت على إيقاع الطلاق في الطهر، ودلت السنة على أن ذلك الطهر يجب أن يكون غير مجامع فيه، حتى يكون الطلاق سنيًا، وهو ما:
1207 - أَخْبَرَنَاهُ(4/310)
مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ أَحْمَدَ الصُّوفِيُّ، أنا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ، نا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى، نا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ يُرَاجِعَهَا ثُمَّ يُمْسِكَهَا حَتَّى تَطْهُرَ وَتَحِيضَ عِنْدَهُ حَيْضَةً أُخْرَى، ثُمَّ يُمْهِلَهَا حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ حَيْضِهَا، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا حِينَ تَطْهُرُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُجَامِعَهَا فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ
والطلاق البدعي: أن يقع في حال الحيض، أو في طهر قد جومعت فيه، وهو واقع، وصاحبه آثم.
1208 - حَدَّثَنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ إِمْلاءً، أنا مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ مَسْعُودٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أنا أَبُو عُمَرَ الْحَوْضِيُّ، نا شُعْبَةُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: طَلَّقَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، فَإِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْهَا إِنْ شَاءَ» ، قُلْتُ: يَحْتَسِبُ بِهَا، قَالَ: «فَمَهْ» .
رَوَاهُ الْبُخَارِيّ، عَن سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بِشْر، عَنْ شَهْرٍ كِلاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ.
1209 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْمَنْصُورِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، قَالَ: قُرِئَ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ مَنِيعٍ، وَأَنَا أَسْمَعُ، حَدَّثَكُمْ سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ، نا إِدْرِيسُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ أَبِي غَالِبٍ، قَالَ: قُلْتُ لابْنِ عُمَرَ: اعْتَدَدْتَ بِتِلْكَ الطَّلْقَةِ؟ فَقَالَ: وَمَا لِي لا أَعْتَدُّ بِهَا، وَإِنْ كُنْتُ عَجَزْتُ وَاسْتَحْمَقْتُ
قوله: {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق: 1] إنما أمر بإحصاء العدة لتوزيع الطلاق على الأقراء، إذا أراد أن يطلق ثلاثًا، وهو أحسن من جمعها(4/311)
في قرء واحد، وللعلم ببقاء زمان الرجعة، ولمراعاة النفقة والسكنى، {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} [الطلاق: 1] فلا تعصوه فيما أمركم به، {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] لا يجوز للزوج أن يخرج المطلقة المعتدة من مسكنه الذي كان يساكنها فيه قبل الطلاق.
{وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1] وعلى المرأة أيضًا ألا تخرج في عدتها إلا لضرورة ظاهرة، فإن خرجت أثمت، سواء خرجت ليلًا أو نهارًا، وقوله: {إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] أكثر المفسرين على أن المراد بالفاحشة ههنا: الزنا، وهو أن تزني فتخرج لإقامة الحد عليها، وقال السدي، والكلبي: الفاحشة: خروجها من البيت في زمان العدة.
وقال الضحاك، وقتادة: هي النشوز، وسوء الخلق.
فهي إذا زنت، أو خرجت في عدتها، أو نشزت، كان للزوج إخراجها من البيت، وقطع سكناها، وقوله: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [الطلاق: 1] يعني: ما ذكر من سنة الطلاق وما بعدها، {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ} [الطلاق: 1] فيطلق لغير السنة، {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1] أثم فيما بينه وبين الله تعالى، {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] يوقع في قلب الزوج المحبة، لرجعتها بعد الطلقة والطلقتين، وهذا يدل على أن المستحب في التطليق أن يوقع متفرقًا، وأن لا يجمع بين الثلاث، قال الزجاج: وإذا طلقها ثلاثًا في وقت واحد، فلا معنى لقوله: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] .
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا {2} وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا {3} } [الطلاق: 2-3] .
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [الطلاق: 2] قاربن انقضاء أجل العدة، فأمسكوهن بأن تراجعوهن، بمعروف بما أمر الله به، وهذا مفسر في { [البقرة،] وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [سورة الطلاق: 2] قال المفسرون: أمروا أن يشهدوا عند الطلاق، وعند(4/312)
الرجعة.
ثم قال للشهداء: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] وهو مفسر فيما سبق، إلى قوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] قال أكثر المفسرين: نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، أسر العدو ابنًا له، فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكر له بذلك، وشكا إليه الفاقة أيضًا، فقال له: " اتق الله واصبر، وأكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ".
ففعل الرجل ذلك، فبينا هو في بيته إذ أتاه ابنه، وقد غفل عنه العدو، فأصاب إبلًا، وجاء بها إلى أبيه.
فذلك قوله: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3] .
1210 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورِ بْنُ طَاهِرٍ، أنا الْقَاسِمُ بْنُ غَانِمِ بْنِ حَمُّوَيْهِ الطَّوِيلُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ، نا عَمْرُو بْنُ الْحُصَيْنِ، نا سَعِيدُ بْنُ رَاشِدٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، نا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] قَالَ: مِنْ شُبُهَاتِ الدُّنْيَا، وَمِنْ غَمَراتِ الْمَوْتِ، وَشَدَائِدِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ".
1211 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَّاجُ، أنا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدُوسٍ الْعَنَزِيُّ، نا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، نا مَهْدِيُّ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّمْلِيُّ، نا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ مُصْعَبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ(4/313)
عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَكْثَرَ الاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا»
وقوله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] أي: ومن يثق به فيما نابه، كفاه الله ما أهمه، كما ورد في الحديث: «من سره أن يكون أقوى من الناس، فليتوكل على الله» ، {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق: 3] سيبلغ أمره فيما يريد منكم، ومن أضاف حذف التنوين وهو مراد، كقوله: {إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ} [القمر: 27] و {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] ، و {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ} [الطلاق: 3] من الشدة، والرخاء أجلا ينتهي إليه قدر الله ذلك كله لا يقدم ولا يؤخر.
وقوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا {4} ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا {5} } [الطلاق: 4-5] .
{وَاللَّائِي يَئِسْنَ} [الطلاق: 4] الآية، لما نزلت عدة النساء المطلقة، والمتوفى عنها زوجها في { [البقرة، قال أبيّ بن كعب: يا رسول الله، إن ناسا يقولون: قد بقي من النساء من لم يذكر فيه شيء.
قال: ما هو؟ قال: الصغار والكبار، وذوات الحمل.
فنزلت:] وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ} [سورة الطلاق: 4] شككتم، فلم تدروا ما عدتهن، {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] أي: هن بمنزلة الكبيرة التي قد يئست، عدتها ثلاثة أشهر، وأولات الأحمال يعني: الحوامل،(4/314)
أجلهن عدتهن، {أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] أجل كل حامل أن تضع ما في بطنها، مطلقة كانت، أو متوفى عنها زوجها، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} [الطلاق: 4] في جميع ما أمره الله بطاعته فيه، {يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4] يسهل عليه أمر الدنيا والآخرة.
ذلك يعني: ما ذكر من الأحكام، {أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} [الطلاق: 5] بطاعته، {يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} [الطلاق: 5] من الصلاة إلى الصلاة، ومن الجمعة إلى الجمعة، ويعظم له في الآخرة، أجرًا.
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى {6} لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا {7} } [الطلاق: 6-7] .
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} [الطلاق: 6] من صلة معناه: أسكنوهن حيث سكنتم، من وجدكم سعتكم وطاقتكم، والوجد معناه: المقدرة، قال الفراء: يقول على ما يجد، فإن كان موسعًا وسع عليها في المسكن والنفقة، وإن كان مقترًا فعلى قدر ذلك.
قال قتادة: وإن لم تجد إلا ناحية بيتك فأسكنها فيه.
{وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] نهى الله تعالى عن مضارتهن، بالتضييق عليهن في المسكن والنفقة، {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] لأن عدتها تكون بوضع الحمل، فلها النفقة إلى أن تضع حملها، وإن كانت مطلقة ثانية أو ثالثة، فإنها تستحق النفقة إذا كانت حاملًا، {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] يعني: حق الرضاع وأجرته، {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 6] قال مقاتل: يتراضى الأب والأم أجر مسمى.
والخطاب للأزواج من الرجال والنساء، يأمرهم أن يأتوا المعروف وما هو الأحسن، ولا يقصدوا التعاسر والضرار، وإن تعاسرتم في الأجرة، ولم يتراض الوالدان على شيء، {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] أي: فليسترضع الوالد غير والدة الصبي.
{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7] أمر أهل التوسعة أن يوسعوا على نسائهم المرضعات أولادهن، على قدر سعتهم، {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] أي: كان رزقه بمقدار القوت، {فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] فلينفق على قدر ذلك، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7] أعطاها من الرزق، {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7] بعد ضيق وشدة غنى وسعة، وكان الغالب على(4/315)
أكثرهم في ذلك الوقت الفقر، ثم فتح الله عليهم بعد ذلك وجعل يسرًا بعد عسر.
{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا {8} فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا {9} أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا {10} رَسُولا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا {11} اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا {12} } [الطلاق: 8-12] .
وكأين وكم، {مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا} [الطلاق: 8] قال ابن عباس: عتوا على الله، وعلى أنبيائهم.
{فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا} [الطلاق: 8] قال مقاتل: حاسبها الله تعالى في الدنيا، فجازاها بالعذاب.
وهو قوله: {وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا} [الطلاق: 8] فجعل المجازاة بالعذاب محاسبة.
{فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} [الطلاق: 9] ثقل عاقبة أمر كفرها، {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} [الطلاق: 9] خسرانًا في الدنيا والآخرة، وهو قوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} [الطلاق: 10] يخوف الله كفار مكة، ثم قال للذين آمنوا: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا {10} رَسُولا} [الطلاق: 10-11] يعني: أنزل إليكم قرآنا، وأرسل ورسولًا، وإنزال الذكر يدل على إرسال الرسول، يتلو عليكم يعني: الرسول، {آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ} [الطلاق: 11] إلى قوله: {قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} [الطلاق: 11] يعني: الجنة التي لا ينقطع نعيمها.
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] خلق من الأرض بعدد السموات، {يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} [الطلاق: 12] قال قتادة: في كل أرض من أرضه، وسماء من سمائه، خلق من خلقه، وأمر من أمره، وقضاء من قضائه.
{لِتَعْلَمُوا} [الطلاق: 12] أي: أعلمكم هذا، لتعلموا قدرته على كل شيء وعلمه، وهو قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] .(4/316)
تفسير سورة التحريم
اثنتا عشرة آية، مدنية.
1212 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقْرِئُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ السَّخْتِيَانِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا الْمَدَايِنِيُّ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] أَعْطَاهُ اللَّهُ تَوْبَةً نَصُوحًا ".
{يَأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ {1} قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ {2} وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ {3} إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ {4} عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا {5} } [التحريم: 1-5] .
بسم الله الرحمن الرحيم {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] قال المفسرون: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيت حفصة، فزارت أباها، فلما رجعت، أبصرت مارية في بيتها مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم تدخل حتى خرجت مارية، ثم دخلت، وقالت: إني رأيت من كان معك في البيت.
وكان ذلك يوم عائشة، فلما رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وجه حفصة الغيرة والكآبة، قال لها: «لا تخبري عائشة، ولك عليّ ألا أقربها أبدًا» .
فأخبرت حفصة عائشة، وكانتا(4/317)
متصافيتين، فغضبت عائشة، ولم تزل بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى حلف ألا يقرب مارية، فأنزل الله هذا ال { [.
قال سعيد بن جبير: جاء رجل إلى ابن عباس، فقال: جعلت امرأتي علىّ حرامًا.
قال: كذبت، ليست عليك بحرام.
ثم تلا هذه ال::] يَأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] الآية، عليك أغلظ الكفارات عتق رقبة، وقوله: {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1] أي: تطلب رضاهن بتحريم مارية على نفسك، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم: 1] غفر لك ما فعلت من تحريم الجارية على نفسك.
{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ} [التحريم: 2] أي: بين وأوجب، {تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] تحليلها بالكفارة، وتحلة أصلها: تحللة، على وزن تفعلة فأدغمت، وتفعلة من مصادر التفعيل، كالتوضية والتسمية، قال مقاتل: قد بين الله كفارة إيمانكم في { [المائدة.
أمر الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكفر يمينه، ويراجع وليدته، فأعتق رقبة، قال الزجاج: وليس لأحد أن يحرم ما أحل الله.
] وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ} [سورة التحريم: 2] وليكم وناصركم، وهو العليم بخلقه، الحكيم فيما فرض من حكمه.
قوله: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم: 3] قال جماعة المفسرين: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما رأى الغيرة، والكراهية في وجه حفصة، أراد أن يترضاها، فأسر إليها بشيئين: تحريم الأمة على نفسه، وتبشيرها بأن الخلافة بعده في أبي بكر وأبيها عمر(4/318)
رضي الله عنهما.
{فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ} [التحريم: 3] أخبرت به حفصة عائشة، {وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ} [التحريم: 3] أطلع الله نبيه على قول حفصة لعائشة، فأخبر النبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حفصة عند ذلك ببعض ما قالت، وهو قوله: عرف بعضه أي: عرف حفصة بعض ما أخبرت به عائشة، {وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم: 3] يعني: ذكر الخلافة، كره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ينتشر ذلك في الناس، فأعرض عنه.
1213 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا سَلامُ بْنُ عِصَامٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ، نا عَمِّي، نا سَيْفُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ عَلِيٍّ، وَعَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «وَاللَّهِ إِنَّ إِمَارَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَفِي كِتَابِ اللَّهِ»
{وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم: 3] قال لحفصة: «أبوك وأبو عائشة واليا الناس من بعدي، وإياك أن تخبري أحدًا» .
وقرئ عَرَفَ بالتخفيف ومعناه: جازي عليه، ولا يكون أن العلم، لأنه لا يجوز أن يعرف البعض مع إطلاع الله إياه على جميعه، وهذا كما تقول لمن يحسن إليك أو يسيء: أنا أعرف لك هذا.
أي: لا يخفى علي فأجازيك بما يكون وفقًا له.
قوله: {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} [التحريم: 3] أي: أخبر حفصة بإفشائها السر، {قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا} [التحريم: 3] من أخبرك بأني أفشيت سرك؟ قال: {نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: 3] .
ثم خاطب عائشة وحفصة، فقال: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} [التحريم: 4] أي: من التعاون على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإيذاء، {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] عدلت ومالت عن الحق، وهو: أنهما أحبتا ما كره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اجتناب جاريته، {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} [التحريم: 4] أي: تتظاهرا، وتتعاونا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإيذاء.
1214 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ النَّضْرَوِيُّ، أنا أَبُو بَكْرٍ الْقَطِيعِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، نا سُفْيَانُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَمَا رَأَيْتُ مَوْضِعًا فَمَكَثْتُ سَنَتَيْنِ، فَلَمَّا كُنَّا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ وَذَهَبَ لِيَقْضِيَ حَاجَتَهُ، فَجَاءَ وَقَدْ قَضَى حَاجَتَهُ، فَذَهَبْتُ أَصُبُّ عَلَيْهِ(4/319)
مِنَ الْمَاءِ، قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَنِ الْمَرْأَتَانِ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ.
قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ} [التحريم: 4] أي: وليه في العون، يعني: يتولى نصرته، وجبريل وليه، وصالح المؤمنين قال عطاء، عن ابن عباس: يريد: أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، يواليان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وينصرانه.
1215 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْمُثَنَّى، نا أَبُو خَيْثَمَةَ، نا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، نا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ سِمَاكٍ، أَنَّ أَبَا زُمَيْلٍ الْحَنَفِي، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ: لَمَّا اعْتَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ دَخَلْتُ عَلَيْهِ، وَأَنَا أَرَى فِي وَجْهِهِ الْغَضَبَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَشُقُّ عَلَيْكَ مِنْ شَأْنِ النِّسَاءِ؟ فَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهُنَّ، فَإِنَّ اللَّهَ مَعَكَ وَمَلائِكَتَهُ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، وَأَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَالْمُؤْمِنُونَ مَعَكَ وَقَلَّ مَا تَكَلَّمْتُ وَأَحْمَدُ اللَّهَ بِكَلامٍ إِلا رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يُصَدِّقُ قَوْلِي الَّذِي أَقُولُ، قَالَ: وَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4] رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ.
1216 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ فَارِسٍ، نا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، نا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ زَيْدٍ الْعَمِّيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} [التحريم: 4] ، قَالَ: صَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَعْنَى الآيَةِ، إِنْ تَعَاوَنْتُمَا عَلَى إِيذَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ أَبَوَيْكُمَا يُوَافِقَانِكُمَا، وَلا يَتَظَاهَرَانِ مَعَكُمَا، فَإِنَّهُمَا وَلِيَّا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
{وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ} [التحريم: 4] قال مقاتل: بعد الله جبريلُ وصالحُ المؤمنين.
ظهير أعوان للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا من الواحد الذي يؤدي عن الجمع، كقوله: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ(4/320)
رَفِيقًا} [النساء: 69] .
ثم خوف نساءه، فقال: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ} [التحريم: 5] أي: واجب من الله إن طلقكن رسوله، {أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التحريم: 5] ، ثم نعت تلك الأزواج التي كان يبدله لو طلق نساءه، فقال: مسلمات خاضعات لله بالطاعة، مؤمنات مصدقات بتوحيد الله، قانتات طائعات، سائحات صائمات، وذكرنا تفسيره عند قوله: {السَّائِحُونَ} [التوبة: 112] ، ثيبات جمع ثيب، وهي: المرأة التي قد تزوجت، ثم بانت عن زوجها، فعادت كما كانت غير ذات زوج، وأبكارًا يريد: عذارى.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ {6} يَأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {7} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {8} } [التحريم: 6-8] .
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ} [التحريم: 6] قال عطاء، عن ابن عباس: أي: بالانتهاء عما نهاكم الله عنه، والعمل بطاعته.
وأهليكم قال عمر: يا رسول الله، نقي أنفسنا، فكيف لنا بأهلينا؟ قال: «تنهونهم عما نهاكم الله عنه، وتأمرونهم بما أمركم الله به» .
قال مقاتل بن حيان: هو أن يؤدب الرجل المسلم نفسه وأهله، فيعلمهم الخير، وينهاهم عن الشر.
وذلك حق على المسلم أن يفعل بنفسه، وأهله، وعبيده وإمائه، في تأديبهم وتعليمهم، قال مقاتل بن سليمان: قوا أنفسكم، وأهليكم بالأدب الصالح النار في الآخرة.
وهو قوله: {نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6] وقد سبق تفسيره، عليها ملائكة يعني: خزنة النار، غلاظ على أهل النار، شداد أقوياء، يدفع الواحد منهم بالدفعة الواحدة سبعين ألفًا في جهنم، وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: {تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8] يعني: ينصح صاحبها بترك العود إلى ما تاب منه، قال أبو زيد: توبة نصوح صادقة، يقال: نصحته.
أي: صدقته، وروى عكرمة، عن ابن عباس،(4/321)
قال: قال معاذ بن جبل: يا رسول الله، ما التوبة النصوح؟ قال: «أن يتوب التائب، ثم لا يرجع في ذنب، كما لا يعود اللبن إلى الضرع» .
وقال ابن مسعود: التوبة النصوح تكفر كل سيئة، وهو في القرآن.
ثم قرأ: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [التحريم: 8] .
وقوله: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التحريم: 8] أي: لا يعذبهم الله بدخول النار، {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [التحريم: 8] مفسر في { [الحديد،] يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [سورة التحريم: 8] إذا رأى المؤمنون نور المنافقين يطفأ، سألوا الله أن يتمم لهم نورهم، ويبلغهم به الجنة، قال ابن عباس: ليس أحد من الموحدين إلا يعطى نورًا يوم القيامة، فأما المنافق فيطفأ نوره، والمؤمن مشفق مما رأى من إطفاء نور المنافق.
فهو يقول: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8] من إطفاء نور المنافقين، وإثبات نور المؤمنين.
{يَأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ {9} ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ {10} } [التحريم: 9-10] .
{يَأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التحريم: 9] مفسر في { [براءة.
ثم خوف عائشة وحفصة في تظاهرهما على الرسول، وذكر أنهما إن عصتا ربهما، لم يغن محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنهما شيئًا، وضرب لهما امرأة نوح، وامرأة لوط مثلًا، فقال:] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ} [سورة التحريم: 10] ثم ذكر حالهما، فقال: {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} [التحريم: 10] يعني: نوحا ولوطا، {فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم: 10] قال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط، إنما كانت خيانتهما في الدين: كانت امرأة نوح تخبر الناس أنه مجنون، وكانت امرأة لوط تدل على الأضياف: إذا نزل بلوط ضيف بالليل أوقدت النار، وإذا نزل بالنهار دخنت، ليعلم قومه أنه قد نزل به ضيف.
وقال الكلبي: أسرتا النفاق وأظهرتا الإيمان.
{فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [التحريم: 10] لم يدفعا عنهما عذاب الله أعلم الله تعالى، أن الأنبياء لا يغنون عمن عمل بالمعاصي شيئًا، فقطع الله تعالى بهذه الآية طمع من ركب المعصية، ورجا أن ينفعه صلاح غيره.
ثم أخبر أن معصية غيره لا تضره إذا كان مطيعًا، وهو قوله:(4/322)
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {11} وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ {12} } [التحريم: 11-12] .
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ} [التحريم: 11] وهي: آسية ابنة مزاحم، كانت قد آمنت بموسى، وسألت الله بيتًا في الجنة، فقالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم: 11] أي: حيث لا يتصرف فيه إلا بإذنك وهو الجنة، قال أبو هريرة: إن فرعون أوتد لامرأته بأوتاد في يديها ورجليها، فكانت إذا تفرقوا عنها، ظللتها الملائكة.
فقالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم: 11] فكشف الله لها بيتها في الجنة، حتى رأته قبل موتها، وقوله: {وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} [التحريم: 11] قال مقاتل: وعمله الشرك.
وروى أبو صالح، عن ابن عباس: {وَعَمَلِهِ} [التحريم: 11] قال: جماعة: {وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم: 11] المشركين أهل دينه.
قال مقاتل: يقول الله تعالى لعائشة، وحفصة: لا تكونا بمنزلة امرأة نوح وامرأة لوط في المعصية، كونا بمنزلة امرأة فرعون ومريم.
وهو قوله: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [التحريم: 12] وقد تقدم تفسيره، {فَنَفَخْنَا فِيهِ} [التحريم: 12] أي: في جنب درعها، وذلك: أن جبريل عليه السلام مد جيب درعها بإصبعه، ثم نفخ في جيبها، فحبلت، والكناية من غير مذكور.
1217 - أَخْبَرَنَا بِالْإِسْنَادِ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ حَمْشَادَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ غَالِبِ بْنِ حَرْبٍ، نا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ النُّعْمَانِ، نا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، أَنَّهُ سَمِعَ مُرَّةَ الْهَمَذَانِيَّ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،(4/323)
قَالَ: «كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إلا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ»
{وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا} [التحريم: 12] يعني: الشرائع التي شرعها الله للعباد بكلماته المنزلة في كتبه، وهو قوله: وكتبه قال ابن عباس: يعني: التي أنزلت على إبراهيم، وموسى، وداود، وعيسى عليهم السلام.
وقرئ: وكتابه والمراد به الكثرة أيضًا، {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12] قال قتادة: من القوم المطيعين لربهم.
وقال عطاء: من المصلين، كانت تصلي بين المغرب والعشاء.
ويجوز أن يريد بالقانتين رهطها وعشيرتها الذين كانت منهم مريم، وكانوا مطيعين لله، أهل بيت صلاح وطاعة.(4/324)
تفسير سورة المُلك
ثلاثون آية، مكية.
1218 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحِيرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِيرِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ تَبَارَكَ فَكَأَنَّمَا أَحْيَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ»
1219 - أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدُونَ بْنِ الْفَضْلِ، أنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، نا عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ، أنا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ تُجَادِلُ عَنْ صَاحِبِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
1220 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أنا أَبُو خَلِيفَةَ، نا الْحَوْضِيُّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مُرَّةَ الْهَمَذَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: أُتِيَ رَجُلٌ مِنْ جَوَانِبِ قَبْرِهِ فَجَعَلَتْ سُورَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ ثَلاثُونَ آيَةً تُجَادِلُ عَنْهُ حَتَّى مَنَعَتْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، قَالَ: فَنَظَرْتُ أَنَا وَمَسْرُوقٌ، فَلَمْ نَجِدْهَا إِلا تَبَارَكَ.
بسم الله الرحمن الرحيم {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {1} الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ {2} الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ(4/325)
فُطُورٍ {3} ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ {4} وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ {5} } [الملك: 1-5] .
{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {1} الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: 1-2] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد: الموت في الدنيا، والحياة في الآخرة.
وقال قتادة: يعني: موت الإنسان أذل الله به ابن آدم، والحياة حياته في الدنيا.
{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [الملك: 2] اللام في: ليبلوكم تتعلق بخلق الحياة دون خلق الموت، لأن الابتلاء بالحياة، وفيها قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [الملك: 2] : «أيكم أحسن عقلا، وأورع عن محارم الله» ، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أتمكم عقلًا، أشدكم خوفًا لله، وأحسنكم فيما أمر الله به، ونهى عنه نظرًا» .
وقال الحسن: أيكم أزهد في الدنيا، وأترك لها.
وهو العزيز في انتقامه ممن عصاه، الغفور لمن تاب إليه.
ثم أخبر عن صنعه الذي يدل على توحيده، فقال: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا} [الملك: 3] بعضها فوق بعض، {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك: 3] قال مقاتل: يعني: ما ترى يابن آدم في خلق السموات من عيب.
وقال قتادة: ما ترى خللًا ولا اختلافًا.
وقال الكلبي: وهو الذي يفوت بعضه بعضًا.
وقرئ تفاوت وهما بمنزلة واحدة، مثل: تصعد وتصاعد، وتعهد به وتعاهدته، فارجع البصر كرر النظر، {هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك: 3] شقوق، وصدوع، وخروق.
{ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4] قال ابن عباس: مرة بعد مرة.(4/326)
{يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا} [الملك: 4] مبعدًا صاغرًا، لم ير ما يهوى، وهو حسير كليل منقطع، قال الزجاج: أي: وقد أعيا من قبل أن يرى في السماء خللًا.
وهو فعيل بمعنى: فاعل، من الحسور وهو الإعياء.
{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا} [الملك: 5] الأولى إلى الأرض، وهي التي يراها الناس، بمصابيح واحدها: مصباح وهو السراج، ويسمى الكوكب أيضًا مصباحًا لإضاءته.
قال ابن عباس: بنجوم لها نور.
{وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5] يرجم بها الشياطين الذين يسترقون السمع، وأعتدنا لهم في الآخرة، عذاب السعير النار الموقدة.
{وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ {6} إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ {7} تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ {8} قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ {9} وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ {10} فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ {11} } [الملك: 6-11] .
{وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} [الملك: 6] الآية، وهي ظاهرة.
{إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا} [الملك: 7] صوتًا مثل أول نهيق الحمار، وهو أقبح الأصوات، {وَهِيَ تَفُورُ} [الملك: 7] تغلي بهم كغلي المرجل، وقال مجاهد: تفور بهم كما يفور الماء الكثير بالحب القليل.
{تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك: 8] تنقطع من تغيظها عليهم، قال ابن قتيبة: تكاد تنشق غيظًا على الكفار.
{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ} [الملك: 8] جماعة منهم، سألهم خزنتها سؤال توبيخ، {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك: 8] وهذا التوبيخ زيادة لهم في العذاب.
{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ} [الملك: 10] الهدى، أو نعقله، قال الزجاج: لو كنا نسمع سمع من يعي ويفكر، أو نعقل عقل من يميز وينظر.
ما كنا من أهل النار.
1221 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَّاجُ إِمْلاءً، أنا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الْعَتَكِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَشْرَسَ السُّلَمِيُّ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ عِيسَى السِّجْزِيُّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ لِكُلِّ(4/327)
شَيْءٍ دِعَامَةً وَدِعَامَةُ الْمُؤْمِنِ عَقْلُهُ، فَبِقَدْرِ مَا يَعْقِلُ يَعْبُدُ رَبَّهُ، وَلَعَمْرِي لَقَدْ نَدِمَ الْكُفَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10] .
1222 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا الْعَبَّاسُ الدُّورِيُّ، نا مَنْصُورُ بْنُ سُفْيَانَ، نا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُكُونُ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ، وَمِنْ أَهْلِ الصَّلاةِ وَالصِّيَامِ، وَمِمَّنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمَا يُجْزَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلا عَلَى قَدْرِ عَقْلِهِ» .
1223 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْفَارِسِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَطِيَّةَ، نا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، نا دَاوُدُ بْنُ الْمُحَبَّرِ، نا سَلامٌ أَبُو الْمُنْذِرِ، عَنْ مُوسَى بْنِ جَابَانَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: أَثْنَى قَوْمٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَبْلَغُوا الثَّنَاءَ فِي خِصَالِ الْخَيْرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ عَقَلَ الرَّجُلُ؟» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نُخْبِرُكَ عَنِ اجْتِهَادِهِ فِي الْعِبَادَةِ، وَأَصْنَافِ الْخَيْرِ، وَتَسْأَلُنَا عَنْ عَقْلِهِ؟ فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْأَحْمَقَ لَيُصِيبُ بِحُمْقِهِ أَعْظَمَ مِنْ فُجُورِ الْفَاجِرِ، وَإِنَّمَا يَرْتَفِعُ الْعِبَادُ غَدًا فِي الدَّرَجَاتِ وَيَنَالُونَ الزُّلْفَى مِنْ رَبِّهِمْ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ» .
وقال الله تعالى: فاعترفوا بذنبهم يعني: بتكذيبهم الرسل، وهو قولهم: {فَكَذَّبْنَا} [الملك: 9] ، فسحقًا فبعدًا، {لأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 11] من رحمة الله.
ثم أخبر عن المؤمنين، وعما أعد لهم في الآخرة، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ {12} وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {13} أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ {14} هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ {15} } [الملك: 12-15] .
{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} [الملك: 12] يخافون عذاب ربهم، ولم يروه، فيؤمنون به خوفًا من عذابه، {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك: 12] وهو الجنة.
ثم عاد إلى خطاب الكفار، فقال: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ(4/328)
اجْهَرُوا بِهِ} [الملك: 13] قال ابن عباس: كانوا ينالون من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيخبره جبريل، فقال بعضهم لبعض: أسروا قولكم كيلا يسمع إله محمد.
فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ألا يعلم ما في الصدور من خلقها، وهو اللطيف لطف علمه بما في القلوب، الخبير بما فيها من السر، والوسوسة.
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولا} [الملك: 15] لم يجعلها بحيث يمتنع المشي فيها بالحزونة، والغلظ، {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك: 15] جبالها وإكامها، وقال مجاهد، والكلبي، ومقاتل: طرقها، وأطرافها، وجوانبها.
{وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15] مما خلقه رزقًا لكم في الأرض، وإليه النشور وإلى الله تبعثون من قبوركم.
ثم خوف كفار مكة، فقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ {16} أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ {17} وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ {18} أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ {19} } [الملك: 16-19] .
{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] قال المفسرون: يعني: عقوبة من السماء، أو عذاب من في السماء.
والمعنى: من في السماء سلطانه، وملكه، وقدرته، لا بد من أن يكون المعنى هذا، لاستحالة أن يكون الله في مكان أو موصوفًا بجهة، وأهل المعاني يقولون: من في السماء هو الملك الموكل بالعذاب وهو جبريل.
والمعنى: {أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك: 16] بأمره، {فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16] تضطرب، وتتحرك، والمعنى: أن الله يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى تضطرب وتتحرك، فتلعو عليهم، وهم يخسفون فيها، والأرض تمور فوقهم، فتقلبهم إلى أسفل.
{أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الملك: 17] كما أرسل على قوم لوط، فستعلمون في الآخرة، وعند الموت، كيف نذير أي: إنذاري إذا عاينتم العذاب.
{وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الملك: 18] يعني: كفار الأمم السابقة، {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الملك: 18] أي: إنكاري عليهم بالعذاب.
{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} [الملك: 19] تصف أجنحتها في الهواء، ويقبضن أجنحتها بعد البسط، وهذا معنى الطيران، وهو: بسط الأجنحة، وقبضها بعد البسط، {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَنُ} [الملك: 19] أي: في الحالين: في حال الصف، والقبض،(4/329)
وفي هذا أكبر آية على قدرة الله تعالى، إذ أمسكها في الهواء على ثقلها ضخم أبدانها، وهذا كقوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ} [النحل: 79] الآية.
قوله: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ {20} أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ {21} أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {22} قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ {23} قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ {24} وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {25} قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ {26} فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ {27} } [الملك: 20-27] .
{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ} [الملك: 20] لفظ الجند موحد، لذلك قيل: هذا الذي هو استفهام إنكار، أي: لا جند لكم، ينصركم يمنعكم من عذاب الله، قال ابن عباس: ينصركم مني إن أردت عذابكم.
{إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ} [الملك: 20] أي: من الشيطان، يعدهم بأن العذاب لا ينزل بهم.
{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} [الملك: 21] أي: من الذي يرزقكم بالمطر، إن أمسكه الله عنكم؟ {بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [الملك: 21] أي: ليسوا يعتبرون ولا يتفكرون، بل لجوا في طغيانهم، وتماديهم، وتباعدهم عن الإيمان.
ثم ضرب مثلًا، فقال: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ} [الملك: 22] الآية، والإكباب مطاوع الكب، يقال: كببته فأكب.
ضرب المكب على وجهه مثلًا للكافر، لأنه ضال أعمى القلب، فهذا {أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا} [الملك: 22] معتدلًا يبصر الطريق، {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك: 22] يعني به: الإسلام، وقال قتادة: هذا في الآخرة، يحشر الله الكافر مكبًا على وجهه يوم القيامة.
كما قال: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} [الإسراء: 97] ، والمؤمن يمشي سويًا.
{قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ} [الملك: 23] إلى قوله: {قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك: 23] قال مقاتل: يعني: أنهم لا يشكرون رب هذه النعم، فيوحدونه.
وذكر الله أنهم يستعجلون العذاب بقوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [الملك: 25] .
ثم ذكر حالهم عند معاينة العذاب، فقال: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً} [الملك: 27] يعني: رأوا العذاب قريبًا،(4/330)
{سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الملك: 27] اسودت، وعلتها الكآبة، ومعنى سيئت أي: قبحت وجوههم بالسواد، يقال: ساء الشيء يسوء فهو سيئ، إذا قبح، وقيل لهم، هذا العذاب، {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} [الملك: 27] قال الفراء: يريد: تدعون وهما واحد، مثل تذكرون، والمعنى: كنتم به تستعجلون، وتدعون الله بتعجيله.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ {28} قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ {29} قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ {30} } [الملك: 28-30] .
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ} [الملك: 28] بعذابه، ومن معي من المؤمنين، أو رحمنا فلم يعذبنا، {فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ} [الملك: 28] يمنعهم، ويؤمنهم، {مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الملك: 28] والمعنى: إنا مع إيماننا بين الخوف والرجاء، فمن يجيركم مع كفركم من العذاب؟ أي: أنه لا رجاء لكم كما للمؤمنين.
قل لهم، {هُوَ الرَّحْمَنُ} [الملك: 29] الذي نعبده، {آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ} [الملك: 29] عند معاينة العذاب، من الضال منا، أنحن أم أنتم؟ ومن قرأ بالياء فهو إخبار عن الكافرين الذين تقدم ذكرهم.
ثم احتج عليهم بقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ} [الملك: 30] يعني: ماء زمزم، غورًا ذاهبًا في الأرض غائرًا، {فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك: 30] ظاهر تراه العيون، وتناله الدلاء.(4/331)
تفسير سورة القلم
اثنتان وخمسون آية، مكية.
1224 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ ن وَالْقَلَمِ أَعْطَاهُ اللَّهُ ثَوَابَ الَّذِينَ حَسُنَ أَخْلاقُهُمْ»
بسم الله الرحمن الرحيم {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ {1} مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ {2} وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ {3} وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ {4} فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ {5} بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ {6} إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ {7} } [القلم: 1-7] .
ن قال ابن عباس: يعني: الحوت الذي على ظهر الأرض.
وهو قول مجاهد، ومقاتل، والسدي، قالوا: هو الحوت الذي يحمل الأرض.
وروى عكرمة، عن ابن عباس، أن: {ن} [القلم: 1] ههنا آخر حروف الرحمن.
{وَالْقَلَمِ} [القلم: 1] قال جماعة المفسرين:(4/332)
هو القلم الذي كتب الله به اللوح المحفوظ.
1225 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَيَّانَ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا الْمُحَارِبِيُّ، وَعُبَيْدَةُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ، فَقِيلَ لَهُ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ: ثُمَّ خَلَقَ نُونًا فَبَسَطَ الْأَرْضَ عَلَى ظَهْرِهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {ن وَالْقَلَمِ} [القلم: 1]
وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: {ن} [القلم: 1] الدواة.
وهو قول الحسن، وقتادة، وروي ذلك مرفوعًا.
1226 - أَخْبَرَنَاهُ أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا الْوَلِيدُ بْنُ أَبَانٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ، نا أَبُو مَرْوَانَ هِشَامُ بْنُ خَالِجٍ الْأَزْرَقُ، نا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى الْخُشَنِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى بَنِي أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللَّهُ الْقَلَمُ، ثُمَّ خَلَقَ النُّونَ وَهِيَ الدَّوَاةُ، ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنْ عَمَلٍ أَوْ أَثَرٍ أَوْ رِزْقٍ أَوْ أَجَلٍ فَكَتَبَ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ ختَمَ عَلَى الْقَلَمِ فَلَمْ يَنْطِقْ وَلا يَنْطِقُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ".
وقوله: وما يسطرون يعني: ما تكتب الملائكة الحفظة من أعمال بني آدم.
{مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم: 2] هذا جواب لقولهم: {يَأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6] ، فأقسم الله بنون، وبالقلم، وبأعمال بني آدم، فقال: ما أنت يا محمد بنعمة ربك، أي: بإنعامه عليك بالإيمان والنبوة، بمجنون.
وقال الزجاج: هذا كما تقول: أنت بنعمة الله فهم، وما أنت بنعمة الله بجاهل.
{وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا} [القلم: 3] بصبرك على بهتهم، وافترائهم عليك، ونسبتهم إياك إلى الجنون، {غَيْرَ مَمْنُونٍ} [القلم: 3] غير منقوص، ولا مقطوع.
قوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى(4/333)
خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد: دين عظيم، لم أخلق دينًا أحب إلىّ ولا أرضى عندي منه.
وهذا قول الأكثرين، قالوا: يعني: الإسلام والدين.
وروى عكرمة، عن ابن عباس، قال: يعني: القرآن.
وهو قول الحسن، والعوفي: أدب القرآن.
وفسره قتادة، فقال: هو ما كان يأتمر به من أمر الله، وينتهي عنه من الله.
واختاره الزجاج، فقال: المعنى: إنك على الخلق الذي أمرك الله في القرآن.
1227 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْشَاذٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ السُّلَمِيُّ، نا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْمَاسَرْجِسِيُّ، نا الْحَسَنُ بْنُ عِيسَى، نا ابْنُ الْمُبَارَكِ، نا الْمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنِي الْحَسَنُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: مَا كَانَ خُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَتْ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] فَخُلُقُهُ الْقُرْآنُ.
1228 - أَخْبَرَنَا مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْبَزَّازُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْحِيرِيُّ، أنا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الدِّمَشْقِيُّ، نا مَرْوَانُ، نا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، نا زَيْدُ بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ يُسْرِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلانِيِّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: سُئِلَتْ عَائِشَةُ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، يَسْخَطُ لِسَخَطِهِ، وَيَرْضَى لِرِضَاهُ
قوله: فستبصر يا محمد، ويبصرون يعني:(4/334)
أهل مكة، قال مقاتل: هذا وعيد بالعذاب ببدر.
يعني: سترى، ويرى أهل مكة إذا نزل بهم العذاب ببدر.
بأيكم الباء زائدة، والمعنى: أيكم، المفتون المجنون الذي فتن بالجنون، أأنت أم هم؟ يعني: أنهم يعلمون عند العذاب أن الجنون كان بهم حين عبدوا الأصنام، وتركوا دينك لا بك.
أخبر أنه عالم بالفريقين، فقال: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ} [القلم: 7] الآية.
{فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ {8} وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ {9} وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ {10} هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ {11} مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ {12} عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ {13} أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ {14} إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ {15} سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ {16} } [القلم: 8-16] .
{فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} [القلم: 8] يعني: رؤساء أهل مكة، وذلك: أنهم دعوه إلى دين آبائه، فنهاه الله أن يطيعهم.
{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] تلين لهم، فيلينون لك، قال مجاهد: تركن إليهم، وتترك ما أنت عليه من الحق، فَيُمَالئونك.
قال ابن قتيبة: كانوا أرادوه على أن يعبد ألهتهم مدة، ويعبدوا الله مدة.
{وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ} [القلم: 10] كثير الحلف بالباطل، مهين فعيل من المهانة، وهي: القلة في الرأي والتمييز، قال عطاء: يعني: الأخنس بن شريق.
وقال مقاتل: يعني: الوليد بن المغيرة، عرض على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المال ليرجع عن دينه.
هماز مغتاب، طعان للناس، مشاء بنميم يمشي بالنميمة بين الناس، ليفسد بينهم.
مناع للخير بخيل بالمال، معتد ظلوم، يتعدى الحق، أثيم في جميع أفعاله.
عتل قال الفراء: هو الشديد الخصومة في الباطل.
وقال الزجاج: الغليظ الجافي.
وقال الليث: هو الأكول المنوع.
والمفسرون يقولون: هو الشديد الخلق، الفاحش الخلُق.
بعد ذلك أي: مع ما وصفناه به، زنيم قال عطاء، عن ابن عباس: يريد مع هذا هو دعي في قريش ليس منهم.
والزنيم: الملصق في القوم، وليس منهم.
1229 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْحِذَامِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ، نا أَحْمَدُ بْنُ مِهْرَانَ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، نا إِسْرَائِيلُ، نا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:(4/335)
{عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 13] قَالَ: يُعْرَفُ بِالشَّرِّ كَمَا تُعْرَفُ الشَّاةُ بِزَنَمَتِهَا
قال ابن قتيبة: ولا نعلم أن الله وصف أحدًا، ولا بلغ من ذكر عيوبه ما بلغه من ذكر عيوب الوليد بن المغيرة، لأنه وصفه بالحلف، والمهانة، والغيب للناس، والمشي بالنمائم، والبخل، والظلم، والإثم، والجفاء، والدعوة، فألحق به عارًا لا يفارقه في الدنيا والآخرة.
قوله: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} [القلم: 14] قال الفراء، والزجاج: {أَنْ كَانَ} [القلم: 14] أي: لأن كان.
والمعنى: لا تطع كل حلاف مهين {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} [القلم: 14] أي: لا تطعه لماله وبنيه، ومن قرأ: أأن كان فإنه توبيخ له، أي: جعل مجازاة النعم التي خولها من البنين والمال الكفر بآياتنا، وهو قوله: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [القلم: 15] .
ثم أوعده، فقال: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} [القلم: 16] قال أبو عبيدة، وأبو زيد، والمبرد: الخرطوم الأنف.
قال مقاتل: سنسمه بالسواد على الأنف، وذلك: أنه يسود وجهه قبل دخول النار.
وهو قول الأكثرين، قال الفراء: والخرطوم وإن كان قد خص بالسمة، فإنه في مذهب الوجه، لأن بعض الوجه يؤدي عن بعض.
وقال الزجاج: سنجعل له في الآخرة العَلَم الذي يعرف به أهل النار من اسوداد وجوههم.
وقال قتادة: سنلحق به شيئًا لا يفارقه.
واختاره ابن قتيبة، وقال: العرب تقول: قد وسمه ميسم سوء.
يريدون: ألصق به عارًا لا يفارقه، لأن السمة لا ينمحي، ولا يعفو أثرها.
وقد ألحق الله بما ذكر من عيوبه عارًا لا يفارقه كالوسم على الخرطوم، وأبين ما يكون الوسم على الوجه.
{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ {17} وَلا يَسْتَثْنُونَ {18} فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ(4/336)
نَائِمُونَ {19} فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ {20} فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ {21} أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ {22} فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ {23} أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ {24} وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ {25} فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ {26} بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ {27} قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ {28} قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ {29} فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ {30} قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ {31} عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ {32} كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ {33} } [القلم: 17-33] .
{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} [القلم: 17] أي: بلونا أهل مكة بالجوع والقحط، كما ابتلينا أصحاب الجنة حين هلكت جناتهم، وهم قوم من ثقيف كانوا باليمن مسلمين، ورثوا من أبيهم ضيعة فيها جنان وزروع ونخيل، وكان أبوهم يجعل مما فيها من كل شيء حظًا للمساكين عند الحصاد والصرام، فقال بنوه: المال قليل، والعيال كثير، ولا يسعنا أن نفعل كما كان يفعل أبونا.
وعزموا على حرمان المساكين، فصارت عاقبتهم إلى ما قصّ الله في كتابه، وهو قوله: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17] حلفوا ليقطعن ثمر نخيلهم، إذا أصبحوا بسدفة من الليل، من غير أن يشعر المساكين.
ولا يستثنون لا يقولون: إن شاء الله.
{فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ} [القلم: 19] قال ابن عباس: أحاطت بها النار، فاحترقت.
وقال قتادة: طرقها طارق من أمر الله.
وقال مقاتل: بعث الله نارًا بالليل على جنتهم، فأحرقتها حتى صارت سوداء.
فذلك قوله: فأصبحت كالصريم كالليل المظلم، والصريمان: الليل والنهار، لانصرام أحدهما من الآخر.
{فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ} [القلم: 21] لما أصبحوا، قال بعضهم لبعض: {اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ} [القلم: 22] يعني: الثمار، والزروع، والأعناب، {إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ} [القلم: 22] قاطعين للنخل.
فانطلقوا ذهبوا على جنتهم، {وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} [القلم: 23] يسرون الكلام بينهم، بألا {يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} [القلم: 24] .
{وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} [القلم: 25] الحرد في اللغة يكون بمعنى: المنع، والغضب، والقصد، قال قتادة: على جد من أمرهم.
وهو قول مقاتل، والكلبي، والحسن، ومجاهد، وهذا بمعنى:(4/337)
القصد، لأن القاصد إلى الشيء جاد، وقال أبو عبيدة، والمبرد، والقتيبي: غدوا من بيتهم إلى جنتهم على منع المساكين.
وقال الشعبي، وسفيان: على حنق، وغضب على المساكين.
قادرين عند أنفسهم على جنتهم وثمارهم، لا يحول بينهم وبينها آفة.
{فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} [القلم: 26] لما رأوا الجنة محترفة، قالوا: إنا قد ضللنا طريق جنتنا.
أي: ليست هذه.
ثم علموا أنها عقوبة، فقالوا: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [القلم: 27] أي: حرمنا ثمر جنتنا بمنعنا المساكين.
قال أوسطهم أعدلهم، وأفضلهم، {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} [القلم: 28] هلا تستثنون، فتقولون: إن شاء الله؟ أنكر عليهم ترك الاستثناء في قوله: {أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ {17} وَلا يَسْتَثْنُونَ {18} } [القلم: 17-18] وسمى الاستثناء تسبيحًا، لأنه تعظيم الله، وإقرار بأنه لا يقدر أحد أن يفعل شيئًا إلا بمشيئة الله تعالى.
{قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا} [القلم: 29] نزهوه عن أن يكون ظالمًا فيما صنع، وأقروا على أنفسهم بالظلم، فقالوا: {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [القلم: 29] بمنعنا المساكين.
{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ} [القلم: 30] يلوم بعضهم بعضًا في منع المساكين حقوقهم.
ثم نادوا على أنفسهم بالويل، فقالوا: {يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} [القلم: 31] حين لم نصنع ما صنع آباؤنا من قبل.
ثم رجعوا إلى الله، وسألوه أن يبدلهم بها خيرًا منها، وهو قوله: {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} [القلم: 32] .
قال الله: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ} [القلم: 33] يعني: كما ذكر من إحراقها بالنار، وتمت قصة أصحاب الجنة، ثم قال: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم: 33] يعني: المشركين.
ثم أخبر بما عنده للمتقين، فقال: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ {34} أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ {35} مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ {36} أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ {37} إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ {38} أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ {39} سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ {40} أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ {41} } [القلم: 34-41] .
{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [القلم: 34] قال المشركون: إنا نعطى في الآخرة أفضل مما يعطون.
فقال الله تعالى، مكذبًا لهم: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ {35} مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ {36} } [القلم: 35-36] إذ حكمتم أن لكم ما للمسلمين.
{أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ} [القلم: 37] تقرءون.
إن لكم في ذلك الكتاب، لما تخيرون تختارون.
{أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ} [القلم: 39] يقول: ألكم عهود على الله بالغة؟ {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القلم: 39] أي: مؤكدة، وكل شيء مُتَنَاهٍ في الجودة والصحة فهو: بالغ، ويجوز أن يكون المعنى: بالغة إلى يوم القيامة، أي: تبلغ تلك الأيمان إلى يوم القيامة في لزومها، وتأكدها، {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} [القلم: 39] لأنفسكم به من الخير والكرامة عند الله.
ثم قال لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} [القلم: 40] أيهم كفيل لهم، بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين؟ {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ} [القلم: 41] يعني: الأصنام التي جعلوها شركاء لله، والمعنى: أم عندهم لله شركاء؟ فليأتوا بهؤلاء الشركاء، {إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [القلم: 41] في أنها شركاء لله.
قوله:(4/338)
{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ {42} خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ {43} فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ {44} وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ {45} أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ {46} أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ {47} } [القلم: 42-47] .
{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] يوم ظرف لقوله: {فَلْيَأْتُوا} [القلم: 41] أي: فليأتوا بها في ذلك اليوم لتنفعهم، وتشفع لهم، قال المفسرون: في قوله: {عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] أي: عن شدة من الأمر.
قال مجاهد، عن ابن عباس، قال: هو أشد ساعة في يوم القيامة.
1230 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَصْفَهَانِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] فَقَالَ: إِذَا خَفِيَ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ، فَابْتَغُوهُ فِي الشِّعْرِ، فَإِنَّهُ دِيوَانُ الْعَرَبِ، أَمَا سَمِعْتُمْ قَوْلَ الشَّاعِرِ: وَقَامَتِ الْحَرْبُ بِنَا عَلَى سَاق هُوَ يَوْمُ كَرْبٍ وَشِدَّةٍ.
أخبرنا أحمد بن الحسن الحيري، نا أبو العباس محمد بن يعقوب، نا يحيى بن أبي طالب، أنا حماد بن مسعدة، أنا عمر بن أبي زائدة، قال: سمعت عكرمة سئل عن قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] قال: إذا اشتد الأمر في الحرب، قيل: كشفت الحرب عن ساق.
أخبرهم الله تعالى عن شدة ذلك اليوم، وقال ابن قتيبة: أصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى الجد فيه، شمر عن ساقة، فاستُعِيرَ الكشف عن الساق في موضع الشدة، وأنشد لدريد بن الصمة قوله:(4/339)
كميش الإزار خارج نصف ساقه ... صبور على الجلاء طلاع أنجد
وتأويل الآية: يوم يشتد الأمر، كما يشتد ما يحتاج فيه إلى أن يكشف عن الساق، {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42] قال المفسرون: يسجد الخلق كلهم لله سجدة واحدة، ويبقى الكفار والمنافقون، يريدون أن يسجدوا فلا يستطيعون، لأن أصلابهم تيبس فلا تلين للسجود.
قال الربيع بن أنس: يكشف عن الغطاء، فيقع من كان آمن به في الدنيا فيسجدون له، ويدعى الآخرون إلى السجود فلا يستطيعون، لأنهم لم يكونوا آمنوا به في الدنيا.
1231 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الزَّاهِدُ، أنا أَبُو عَلِيٍّ الْفَقِيهُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نا هُدْبَةُ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عُمَارَةَ الْقُرَشِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، قَالَ: وَفَدْتُ إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ الَّذِي يَعْمَلُ فِي حَوَائِجِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَلَمَّا قَضَيْتُ حَوَائِجِي أَتَيْتُهُ فَوَدَّعْتُهُ، وَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ مَضَيْتُ، فَذَكَرْتُ حَدِيثًا حَدَّثَنِي بِهِ أَبِي سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُحَدِّثَهُ بِهِ، لِمَا أَوْلانِي مِنْ قَضَاءِ حَوَائِجِي، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَآنِي، قَالَ: لَقَدْ رَدَّ الشَّيْخَ حَاجَةٌ، فَلَمَّا قَرُبْتُ مِنْهُ قَالَ: مَا رَدَّكَ؟ أَلَيْسَ قَدْ قَضَيْتُ حَوَائِجَكَ؟ قُلْتُ: بَلَى، وَلَكِنْ حَدِيثٌ سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مُثِّلَ لِكُلِّ قَوْمٍ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ فِي الدُّنْيَا، فَيَذْهَبُ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ فِي الدُّنْيَا، وَيَبْقَى أَهْلُ التَّوْحِيدِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا تَنْتَظِرُونَ وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ؟ فَيَقُولُونَ: إِنَّ لَنَا رَبًّا كُنَّا نَعْبُدُهُ فِي الدُّنْيَا لَمَّا نَرَهُ، فَيُقَالُ لَهُمْ: وَتَعْرِفُونَهُ إِذَا رَأَيْتُمُوهُ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُقَالُ لَهُمْ: فَكَيْفَ تَعْرِفُونَهُ وَلَمْ تَرَوْهُ؟ قَالُوا: إِنَّهُ لا شَبَهَ لَهُ، فَيُكْشَفُ لَهُمْ عَنِ الْحِجَابِ، فَيَنْظُرُونَ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَخِرُّونَ لَهُ سُجَّدًا، وَيَبْقَى أَقْوَامٌ ظُهُورُهُمْ مِثْلُ صَيَاصِي الْبَقَرِ يُرِيدُونَ السُّجُودَ، فَلا يَسْتَطِيعُونَ وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42] فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: عِبَادَي ارْفَعُوا رُءُوسَكُمْ قَدْ جَعَلْتُ بَدَلَ كُلِّ(4/340)
رَجُلٍ مِنْكُمْ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي النَّارِ "، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيُحَدِّثُكَ أَبُوكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَحَلَفْتُ لَهُ ثَلاثَةَ أَيْمَانٍ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا سَمِعْتُ فِي أَهْلِ التَّوْحِيدِ، حَدِيثًا هُوَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ هَذَا، رَوَاهُ أَبُو الْعَبَّاسِ السَّرَّاج فِي تَارِيخِهِ عَنْ أَبِي يَحْيَى الْبَزَّاز، عَنْ عَفَّانَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ
قوله: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} [القلم: 43] يعني: حين أيقنوا بالعذاب، وعاينوا النار، {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [القلم: 43] يغشاهم ذل الندامة والحسرة، {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} [القلم: 43] يعني: بالأذان في دار الدنيا والإقامة، ويؤمرون بالصلاة المكتوبة، {وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: 43] معافون، ليس في أصلابهم مثل سفافيد الحديد، قال سعيد بن جبير: كانوا يسمعون حي على الفلاح، فلا يجيبون.
وفي هذا وعيد لمن قعد عن الصلاة في الجماعة.
قوله: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} [القلم: 44] يقول: خل بيني وبين من يكذب بهذا القرآن.
قال الزجاج: معناه: لا تشغل قلبك به، كله إلىّ فإني أكفيك أمره.
{سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [القلم: 44] وهذا مفسر في { [الأعراف مع ال: التي بعدها.
وقوله:] أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا} [القلم: 46] مفسر مع الآية التي بعدها في { [الطور.
] فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ {48} لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ {49} فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ {50} وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ {51} وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ {52} } [سورة القلم: 48-52] .
قوله: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [القلم: 48] اصبر على أذاهم، لقضاء ربك الذي هو آت، ولا تكن في الضجر، والغضب، والعجلة، {كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم: 48] يونس بن متى، ثم أخبر عن عقوبة يونس حين لم يصبر، فقال: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ} [الأنبياء: 83] من بطن الحوت، بقوله: {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] ، وهو مكظوم مملوء غمًا، ومثله: {كَظِيمٌ} [يوسف: 84] .
{لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ} [القلم: 49] أدركه، نعمة رحمة، من ربه وهو أن رحمه، وتاب عليه، {لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ} [القلم: 49] لألقي من بطن الحوت على وجه الأرض، {وَهُوَ مَذْمُومٌ} [القلم: 49] يذم، ويلام(4/341)
بالذنب.
{فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ} [القلم: 50] استخلصه، واصطفاه، {فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القلم: 50] قال ابن عباس: رد إليه الوحي، وشفعه في قومه وفي نفسه.
قوله: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ} [القلم: 51] من أزلقه عن موضعه إذا نحاه، يقال: زلق من مكانه، وأزلقته أنا.
وقرأ نافع بفتح الياء، يقال: زلق هو وزلقته، مثل حزن وحزنته، والأولى أكثر وأوسع، نزلت الآية في قصد الكفار أن يصيبوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعين، فكانوا ينظرون إليه نظرًا شديدًا، وليس هذا بالوجه، قال الزجاج: مذهب أهل اللغة والتأويل: أنهم من شدة إبغاضهم وعداوتهم، يكادون بنظرهم نظر البغضاء، أن يصرعوك، وهذا مستعمل في الكلام، يقول القائل: نظر إلىّ نظرًا كاد يصرعني، ونظرًا كاد يأكلني.
وقال ابن قتيبة: ليس يريد الله تعالى، يقال: إنهم يصيبوك بأعينهم، كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه، وإنما أراد: أنهم ينظرون إليك إذا قرأت القرآن، نظرًا شديدًا بالعداوة والبغضاء، يكاد يسقطك، كما قال الشاعر:
نظرًا يزيل مواطئ الأقدام
ويدل على صحة هذا المعنى: أن الله تعالى قرن هذا النظر بسماع القرآن وهو قوله: {لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} [القلم: 51] وهم كانوا يكرهون ذلك أشد الكراهية، فيحدون إليه النظر بالبغضاء، والإصابة بالعين تكون مع الإعجاب والاستحسان، ولا تكون مع البغض، والقول الأول هو قول الكلبي، ولم يعرف معنى الآية، {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [القلم: 51] أي: ينسبونه إلى الجنون، إذا سمعوه يقرأ القرآن، فقال الله: وما هو يعني: القرآن، {إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [القلم: 52] قال ابن عباس: موعظة للمؤمنين.(4/342)
تفسير سورة الحاقة
اثنتان وخمسون آية، مكية.
1232 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الْحِيرِيُّ الزَّاهِدُ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْحَاقَّةِ حَاسَبَهُ اللَّهُ حِسَابًا يَسِيرًا»
بسم الله الرحمن الرحيم {الْحَاقَّةُ {1} مَا الْحَاقَّةُ {2} وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ {3} كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ {4} فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ {5} وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ {6} سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ {7} فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ {8} وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ {9} فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً {10} إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ {11} لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ {12} } [الحاقة: 1-12] .
الحاقة يعني: القيامة في قول جميع المفسرين، وسميت بذلك لأنها ذات الحواق من الأمور، وهي الصادقة الواجبة الصدق، وجميع أحكام القيامة صادقة واجبة الوقوع والوجود.
وقوله: ما الحاقة استفهام، معناه التفخيم لشأنها، كما تقول: زيد ما هو؟ على التعظيم لشأنه.
ثم زاد في التهويل، فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة: 3] أي: كأنك لست تعلمها، إذ لم تعاينها، ولم تر ما فيها من الأهوال.
ثم أخبر عن المكذبين بها، فقال: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} [الحاقة: 4] وهي التي تقرع قلوب العباد بالمخافة.
{فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} [الحاقة: 5] يعني: بطغيانهم وكفرهم، وهو قول ابن عباس، ومجاهد،(4/343)
وقال آخرون: يعني: بالصيحة الطاغية، وهي التي جاوزت المقدار.
{وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} [الحاقة: 6] وقد سبق تفسيرها، عاتية عتت على خزانها، فلم يكن لهم عليها سبيل، ولم يعرفوا كم خرج منها.
أخبرنا الحسن بن محمد الفارسي، أنا محمد بن عبد الله بن الفضل التاجر، أنا أحمد بن محمد بن الحسن الحافظ، نا محمد بن يحيى، نا سعيد بن أبي مريم، حدثني عقيل، عن ابن شهاب، عن قبيصة بن ذؤيب، أنه قال: ما يخرج من الريح شيء إلا عليها خُزَّان يعلمون قدرها، وعددها، وكيلها، حتى كانت التي أرسلت على عاد، فاندفق منها شيء لا يعلمون قدره غضبًا لله تعالى، ولذلك سميت عاتية.
وقوله: سخرها عليهم قال مقاتل: سلطها.
وقال الزجاج: أقامها عليهم كما شاء.
{سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة: 7] ولاء متتابعة، يعني: أن هذه الأيام والليالي تتابعت عليهم بالريح المهلكة، فلم يكن فيها فتور، ولا انقطاع.
قال الفراء: والحسوم التتابع إذا تتابع الشيء ولم ينقطع أوله عن آخره، قيل له: حسوم، وقال الزجاج: الذي توجبه اللغة في معنى حسومًا أي: تحسمهم حسومًا تفنيهم وتذهبهم.
وهذا معنى قول النضر بن شميل: حسمتهم فقطعتهم، وأهلكتهم.
{فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا} [الحاقة: 7] أي: في تلك الليالي والأيام، {صَرْعَى} [الحاقة: 7] جمع صريع، يعني: أنهم صرعوا بموتهم، {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] أصول نخل ساقطة، وهذا كقوله: {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر: 20] وقد مر.
{فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة: 8] أي: من نفس باقية، يعني: لم يبق منهم أحد.
{وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ} [الحاقة: 9] من الأمم الكافرة، وقرئ ومن قِبَلَهُ يعني: من يليه، ويحف به من جنوده وأتباعه، {وَالْمُؤْتَفِكَاتُ} [الحاقة: 9] يعني: قرى قوم لوط، ويكون المعنى: وأهل المؤتفكات، ويجوز أن يريد: الأمم والجماعات الذين ائتفكوا بخطيئتهم، وقوله: {بِالْخَاطِئَةِ} [الحاقة: 9] يعني: الشرك والكفر، وهي: مصدر كالخطأ والخطيئة.
{فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} [الحاقة: 10] يعني: لوطًا، وموسى، {فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} [الحاقة: 10] نامية، زائدة على(4/344)
عذاب الأمم، قال الزجاج: تزيد على الأخذات.
وقال صاحب النظم: بالغة في الشدة، يقال: ربا الشيء يربو إذا زاد وتضاعف.
قوله: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} [الحاقة: 11] أي: تجاوز حده حتى علا كل شيء، وارتفع فوقه، يعني: زمن نوح، {حَمَلْنَاكُمْ} [الحاقة: 11] حملنا آباءكم، وأنتم في أصلابهم، {فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة: 11] في السفينة، التي تجري في الماء.
لنجعلها لنجعل تلك الفعلة التي فعلناها، من إغراق قوم نوح، ونجاة من حملناه، تذكرة لكم عبرة، وموعظة، {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة: 12] تحفظها، وتسمعها أذن حافظة لما جاء من عند الله.
قال قتادة: أذن وسمعت، وعقلت ما سمعت.
وقال الفراء: لتحفظها كل أذن، فتكون عظة لمن يأتي بعد.
قوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ {13} وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً {14} فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ {15} وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ {16} وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ {17} يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ {18} } [الحاقة: 13-18] .
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [الحاقة: 13] قال عطاء: يريد النفخة الأولى.
وقال الكلبي، ومقاتل: يريد النفخة الأخيرة.
{وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ} [الحاقة: 14] رفعت من أماكنها، {فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحاقة: 14] كسرتا كسرة واحدة لا تثنى، حتى يستوي ما عليها من شيء مثل الأديم الممدود.
{فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الحاقة: 15] قامت القيامة.
{وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ} [الحاقة: 16] لنزول من فيها من الملائكة، {فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} [الحاقة: 16] قال الزجاج: يقال لكل ما ضعف جدًا: قد وهي فهو واه.
وقال الفراء: وَهْيُهَا تشققها.
{وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة: 17] أطرافها ونواحيها، واحدها: رجى، مقصور، وتثنيته: رجوان، مثل: قفا وقفوان، قال الضحاك: إذا كان يوم القيامة، أمر الله السماء الدنيا فتشققت، وتكون الملائكة على حافاتها، حتى يأمرهم الرب فينزلون إلى الأرض، فيحيطون بالأرض ومن عليها.
{وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ} [الحاقة: 17] فوق رءوسهم، يعني: الحملة، يومئذ يعني: يوم القيامة، ثمانية ثمانية أملاك، على صورة الأوعال، بين أظلافهم إلى ركبهم كما بين سماء إلى سماء،(4/345)
ويقال: ثمانية صفوف من الملائكة.
يومئذ تعرضون على الله لحسابكم، لا تخفى على الله، منكم خافية أي: نفس خافية، أو فعلة خافية، قال الكلبي: لا يخفى على الله من أعمالكم شيء.
1233 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَخْلَدِيُّ، نا أَبُو الْفَضْلِ أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَازِمٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبَلْخِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ، نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الْحَجَّاجِ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: زِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا وَحَاسِبُوهَا قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ غَدًا وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18] .
وقال أبو موسى الأشعري: يعرض الناس ثلاث عرضات، فأما عرضتان: فجدال، ومعاذير، وأما الثالثة: فعندما تتطاير الصحف، فآخِد كتابه بيمينه، وآخذ بشماله.
وذلك قوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ {19} إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ {20} فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ {21} فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ {22} قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ {23} كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ {24} } [الحاقة: 19-24] .
{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19] فيقول: تعالوا اقرءوا حسابيه.
وأهل اللغة يقولون: في تفسير {هَاؤُمُ} [الحاقة: 19] : خذوا.
قال ابن السكيت: يقال: هاء يا رجل، هاؤما يا رجلان، وهاؤم يا رجال.
إني ظننت علمت، وأيقنت في الدنيا، {أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 20] أي: حسابي في الآخرة.
{فَهُوَ فِي عِيشَةٍ} [الحاقة: 21] حالة من العيش، {رَاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] يرضاها، بأن لقي الثواب، وآمن العقاب.
{فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الحاقة: 22] المنازل.
{قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة: 23] ثمارها قريبة ممن يتناولها، وهي جمع قطف، وهو ما يقطف من الثمار.
1234 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدُّرَّكِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أنا أَبُو خَلِيفَةَ، أنا أَبُو الْوَلِيدِ، نا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ،(4/346)
قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، يَقُولُ فِي هَذِهِ الآيَةِ {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة: 23] : يَتَنَاوَلُ الرَّجُلُ مِنَ الثَّمَرَةِ وَهُوَ نَائِمٌ.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أنا بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي أَبِي أَحْمَدُ بْنُ بِشْرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَسْعُودٍ البدشي، قَالا: نا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدُكُمْ إِلا بِجَوَازِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ لِفُلانِ بْنِ فُلانٍ أَدْخِلُوهُ جَنَّةً عَالِيَةً، قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ» قوله: كلوا واشربوا، أي: ويقال لهم: كلوا وشربوا في الجنة، {هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ} [الحاقة: 24] قدمتم من أعمالكم الصالحة، {فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24] الماضية، يريد: أيام الدنيا.
{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ {25} وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ {26} يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ {27} مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ {28} هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ {29} خُذُوهُ فَغُلُّوهُ {30} ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ {31} ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ {32} إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ {33} وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ {34} فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَهُنَا حَمِيمٌ {35} وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ {36} لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ {37} } [الحاقة: 25-37] .
{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 25] يتمنى أنه لم يؤت، لما يرى فيه من قبائح أعماله، التي يسود بها وجهه.
{وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 26] ولم أدر أي شيء حسابي، لأنه لا حاصل له في ذلك الحساب، إنما كله عليه.
{يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة: 27] ليت الموتة التي متها لم أحي بعدها، ومعنى القاضية: القاطعة للحياة، تمنى دوام الموت، وأنه لم يبعث للحساب.
{مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} [الحاقة: 28] لم يدفع عني من عذاب الله شيئًا.
{هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 29] ضلت عني حجتي، قال مقاتل: يعني: حين شهدت عليه الجوارح بالشرك.
وحينئذ يقول الله تعالى: خذوه فغلوه اجمعوا يده إلى عنقه.
{ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} [الحاقة: 31] أدخلوه الجحيم.
{ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ} [الحاقة: 32] وهي: حلق منتظمة، {ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا} [الحاقة: 32] قال نوف الشامي: كل ذراع سبعون باعا، كل باع أبعد مما بينك وبين مكة.
وكان في رحبة الكوفة، وقال الحسن: الله أعلم بأي ذراع هو.(4/347)
فاسلكوه اجعلوه فيها، يقال: سلكته في الطريق، وفي القيد، وغيره.
إذا أدخلته فيه، قال الكلبي: كما يسلك الخيط في اللؤلؤ.
قال سويد بن أبي نجيح: بلغني أن جميع أهل النار في تلك السلسلة.
{إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} [الحاقة: 33] لا يصدق بتوحيد الله، وعظمته.
{وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الحاقة: 34] لا يطعم المسكين في الدنيا، ولا يأمر أهله بذلك.
{فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَهُنَا} [الحاقة: 35] في الآخرة، حميم قريب ينفعه، أو يشفع له.
{وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة: 36] وهو صديد أهل النار، وما ينغسل من أبدانهم من القيح، والدم.
وروى مجاهد، عن ابن عباس، قال: لو أن قطرة من الغسلين وقعت في الأرض، أفسدت على الناس معايشهم.
ثم ذكر أن الغسلين أكل من هو، فقال: {لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة: 37] قال الكلبي: يعني: من يخطأ بالشرك.
1236 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ الْجَوْزَقِيُّ فِيمَا أَجَازَ لِي، أنا الْحُسَيْنُ الْحَجَّاجِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ، نا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، نا أَبُو تُمَيْلَةَ، نا حُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: قَرَأَ نَافِعٌ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ {لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة: 37] فَقَالَ: مَهْ كُلُّنَا نُخْطِئُ.
{فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ {38} وَمَا لا تُبْصِرُونَ {39} إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ {40} وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ {41} وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ {42} تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ {43} } [الحاقة: 38-43] .
قوله: فلا أقسم لا رد لكلام المشركين، كأنه قيل: ليس الأمر كما يقول المشركون.
{أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ {38} وَمَا لا تُبْصِرُونَ {39} } [الحاقة: 38-39] قال قتادة: أقسم بالأشياء كلها، ما يبصر منها، وما لا يبصر، ويدخل في هذا جميع المكونات، والموجودات في الدنيا والآخرة.
إنه إن القرآن، {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40] يعني: محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمعنى: إنه لتلاوة رسول كريم وتلاوته قوله.
{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 41] لا تصدقون بأن القرآن من عند الله، وأريد بالقليل نفي إيمانهم أصلًا، كما تقول لمن لا يزورك: قلَّ ما تأتينا.
وأنت تريد: لا يأتينا أصلًا، ومن قرأ: يؤمنون بالياء، فهو إخبار عن المشركين.
{وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ} [الحاقة: 42] وهو الذي يقضي على الغائب.(4/348)
1237 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، أنا أَبُو بَكْرٍ الْقَطِيعِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، نا ابْنُ الْمُغِيرَةِ، نا صَفْوَانُ، نا شُرَيْحُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: خَرَجْتُ أَتَعَرَّضُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ أُسْلِمَ فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي إِلَى الْمَسْجِدِ، فَقُمْتُ خَلْفَهُ، فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ الْحَاقَّةِ، فَجَعَلْتُ أَعْجَبُ مِنْ تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ فَقُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ شَاعِرٌ كَمَا قَالَتْ قُرَيْشٌ، قَالَ: فَقَرَأَ {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ {40} وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ {41} } [الحاقة: 40-41] قَالَ: قُلْتُ: كَاهِنٌ، قَالَ: {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ {42} تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ {43} } [الحاقة: 42-43] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، قَالَ: فَوَقَعَ الْإِسْلامُ فِي قَلْبِي كُلَّ مَوْقِعٍ.
{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ {44} لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ {45} ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ {46} فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ {47} وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ {48} وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ {49} وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ {50} وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ {51} فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ {52} } [الحاقة: 44-52] .
{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا} [الحاقة: 44] محمد ما لم نقله، أي: يكلف القول، وأتى به من عند نفسه.
{لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة: 45] لأخذناه بالقوة، والقدرة، قاله الفراء، والمبرد، والزجاج.
قال ابن قتيبة: وإنما أقام اليمين مقام القوة، لأن قوة كل شيء في ميامنه.
{ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 46] وهو عرق يجري في الظهر حتى يتصل بالقلب، إذا انقطع بطلت القوى، ومات صاحبه، والمفسرون يقولون: إنه نياط القلب.
{فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47] ليس منكم أحد يحجزنا عنه، أي: أنه لا يتكلف الكذب لأجلكم، مع علمه بأنه لو تكلف ذلك لعاقبناه، ثم لم تقدروا أنتم على دفع عقوبتنا عنه.
ثم ذكر أن القرآن ما هو، فقال: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [الحاقة: 48] لعظة لمن اتقى عقاب الله بطاعته.
{وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ} [الحاقة: 49] علمنا: أن بعضكم يكذبه.
{وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الحاقة: 50] يعني: يوم القيامة، يندمون على ترك الإيمان به.
{وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} [الحاقة: 51] أنه من عند الله.
ثم أمره بتنزيهه عن السوء، بقوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الحاقة: 52] .(4/349)
تفسير سورة المعارج
أربعون وأربع آيات، مكية.
1238 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحِيرِيُّ، أنا مُحَمَّد بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ سَأَلَ سَائِلٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ ثَوَابَ الَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ» .
بسم الله الرحمن الرحيم {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ {1} لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ {2} مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ {3} تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ {4} فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا {5} إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا {6} وَنَرَاهُ قَرِيبًا {7} } [المعارج: 1-7] .
{سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج: 1] نزلت في النضر بن الحارث، حين قال: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الأنفال: 32] الآية، والمعنى: دعى داع على نفسه، وهو قوله: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال: 32] الآية، وقوله: {بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج: 1] أي: كائن، يعني: أن العذاب كائن للكفار، واقع بهم، فاستعجله النضر، والباء في بعذاب زيادة للتوكيد، كقوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 25] ، وتأويل الآية: سأل سائل عذابًا واقعًا،(4/350)
ومن قرأ سال بغير همز، فإنه خفف الهمزة وقلبها ألفًا، وقوله: للكافرين تقدير الكلام: بعذاب للكافرين واقع، والمعنى: أن العذاب الذي سأله النضر في الدنيا هو للكافرين في الآخرة، لا يدفعهم عنهم أحد، وهو قوله: {لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} [المعارج: 2] من الله، أي: بعذاب.
{مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} [المعارج: 3] وهي الدرجات، قال الكلبي: ذي السموات، وسماها معارج، لأن الملائكة تعرج فيها.
وقوله: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] أي: إلى الموضع الذي لا يجري لأحد سواه فيه حكم، فجعل عروجهم إلى ذلك الموضع عروجًا إليه، كقول إبراهيم: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} [الصافات: 99] أي: إلى حيث أمرني ربي بالذهاب إليه، وقوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] قال عكرمة، وقتادة: يعني يوم القيامة.
1239 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُطَّوِعِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى، نا زُهَيْرٌ، نا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، نا ابْنُ لَهِيعَةَ، نا دَرَّاجٌ، أَنَّ أَبَا الْهَيْثَمِ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَوْمٌ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مَا أَطْوَلَ هَذَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّهُ لَيُخَفَّفُ عَلَى الْمُؤْمِنِ حَتَّى يَكُونَ أَخَفَّ عَلَيْهِ مِنْ صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ يُصَلِّيهَا فِي الدُّنْيَا»
وروى ابن أبي مليكة، عن ابن عباس، أنه قال: في هذه الآية، وفي قوله: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ} [الحج: 47] : يومان ذكرهما الله في كتابه، أكره أن أقول في كتاب الله بما لا أعلم.
وقال قوم: معنى الآية: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] لو ولي الحساب غير الله.
هذا معنى قول عطاء، عن ابن عباس، ومقاتل.
قال عطاء: ويفرغ الله في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا.
قوله: فاصبر يا محمد على تكذبيهم إياك، صبرًا(4/351)
جميلًا لا جزع فيه، وهذا قبل أن يؤمر بالقتال.
إنهم يرونه يرون العذاب، بعيدًا غير كائن.
ونراه قريبًا كائنًا، لأن ما هو آت قريب.
ثم أخبر متى يقع بهم العذاب، فقال: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ {8} وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ {9} وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا {10} يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ {11} وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ {12} وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُئْوِيهِ {13} وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ {14} كَلَّا إِنَّهَا لَظَى {15} نَزَّاعَةً لِلشَّوَى {16} تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى {17} وَجَمَعَ فَأَوْعَى {18} } [المعارج: 8-18] .
{يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} [المعارج: 8] قال ابن عباس: كدردي الزيت.
وقال عطاء: كعكر القطران.
وقال الحسن: مثل الفضة إذا ذيبت.
{وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} [المعارج: 9] كالصواف الأحمر في ختفها، وسيرها.
{وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} [المعارج: 10] لا يسأل الرجل قرابته، من شدة الأهوال، والمعنى: لا يسأل قرابة عن قرابته اشتغالًا بنفسه، وروي عن ابن كثير بضم الياء، أي: لا يقال لحميم أين حميمك؟ قال الفراء: ولست أشتهي ضم الياء، لأنه مخالف للتفسير، ولما أجمع عليه القراء.
يبصرونهم يعرفونهم، ويرونهم، أي: يعرف الحميم حميمه حتى يعرفه، ومع ذلك لا يسأل عن شأنه، لشغله بنفسه، ويقال: بصّرتُ زيدًا بكذا، إذا عرفته إياه، ثم يحذف الجار، فيقال: بصرته كذا.
والآية على حذف الجار، يود المجرم المشرك الكافر، {لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} [المعارج: 11] لشدة ما يرى، يتمنى أن لو قبل منه أولاده فداء وأعزته، وهو قوله: {وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ {12} وَفَصِيلَتِهِ} [المعارج: 12-13] عشيرته الأقربين، التي تئويه تضمه، ويأوي إليها، يقول الله تعالى: يود لو يفتدي بهذه الأشياء.
ثم ينجيه ذلك الفداء.
كلا لا ينجيه ذلك، إنها لظى وهي من أسماء النار، ومعناها في اللغة: اللهب الخالص، يقال: لظيت النار، تلظى لظى.
نزاعة أي: هي نزاعة، {لِلشَّوَى} [المعارج: 16] وهي الأطراف: اليدان والرجلان، قال مقاتل: تنزع النار الأطراف، فلا تترك لحمًا، ولا جلدًا، إلا أحرقته.
وقال الضحاك: تنزع الجلد، واللحم عن العظم.(4/352)
ومن قرأ: {نَزَّاعَةً} [المعارج: 16] بالنصب، فعلى أنها مؤكدة، كما قال: {هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} [فاطر: 31] .
{تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} [المعارج: 17] تدعو النار من أدبر، وتولى عن الحق، فتقول: إليّ يا مشرك، إليّ يا منافق، إليّ يا فاسق، إليّ يا ظالم.
وجمع المال، فأوعى أي: أمسكه في الوعاء، ولم ينفقه في طاعة الله، فلم يؤد زكاة، ولا وصل رحمًا.
{إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا {19} إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا {20} وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا {21} إِلا الْمُصَلِّينَ {22} الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ {23} وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ {24} لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ {25} وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ {26} وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ {27} إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ {28} وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ {29} إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ {30} فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ {31} وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ {32} وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ {33} وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ {34} أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ {35} } [المعارج: 19-35] .
{إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [المعارج: 19] ضجورًا، شحيحًا، جزوعًا، من الهلع وهو: شدة الحرص، وقلة الصبر، والمفسرون يقولون: تفسير الهلوع: ما بعده، وهو قوله: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا {20} وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا {21} } [المعارج: 20-21] إذا أصابه الفقر لا يصبر، ولا يحتسب، وإذا أصابه المال منعه من حق الله.
ثم استثنى الموحدين، فقال: {إِلا الْمُصَلِّينَ {22} الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ {23} } [المعارج: 22-23] يقيمونها في أوقاتها، لا يدعونها بالليل والنهار، يعني: المكتوبة.
1240 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الزَّاهِدُ، أنا أَبُو عَلِيٍّ الْفَقِيهُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاذٍ، نا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ حَرْبٍ، أنا ابْنُ الْمُبَارَكِ، أنا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، أَنَّ أَبَا الْخَيْرِ أَخْبَرَهُ، قَالَ: سَأَلْنَا عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 23] هُمُ الَّذِينَ يُصَلُّونَ أَبَدًا؟ قَالَ: لا وَلَكِنَّهُ الَّذِي إِذَا صَلَّى لَمْ يَلْتَفِتْ عَنْ يَمِينِهِ وَلا عَنْ شِمَالِهِ
وهذا القول اخيتار الزجاج، قال: هم الذين لا يزيلون وجوههم عن سمت القبلة.
{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج: 24] يعني: الزكاة المفروضة.
للسائل وهو الذي يسأل، والمحروم الفقير الذي لا يسأل، يتعفف عن السؤال، وقد سبق تفسيره.(4/353)
وما بعد هذا مفسر في { [المؤمنين إلى قوله: والذين هم بشهادتهم قائمون، وقرئ:] بِشَهَادَاتِهِمْ} [سورة المعارج: 33] والإفراد أولى لأنه مصدر، ومن جمع ذهب إلى اختلاف الشهادات، والمعنى: أنهم يقومون فيها بالحق، ولا يكتبونها.
قوله: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ {36} عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ {37} أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ {38} كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ {39} فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ {40} عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ {41} فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ {42} يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ {43} خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ {44} } [المعارج: 36-44] .
{فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} [المعارج: 36] نزلت الآية في جماعة من الكفار، جلسوا حول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستهزئون بالقرآن، ويكذبون به، فقال الله تعالى: ما لهم ينظرون إليك، ويجلسون عندك، وهم لا ينتفعون بما يسمعون.
وتفسير المهطع قد تقدم.
{عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} [المعارج: 37] جماعات في تفرقة، واحدتها: عزة، وهي العصبة من الناس، وكانوا يقولون: إن كان أصحاب محمد يدخلون الجنة، فإنما ندخلها قبلهم.
فقال الله تعالى: {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} [المعارج: 38] قال ابن عباس: أيطمع كل رجل منهم أن يدخل جنتي، كما يدخلها المسلمون، ويتنعم فيها، وقد كذب بنبيي.
كلا لا يكون ذلك، {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} [المعارج: 39] أي: من المقاذير والأنجاس، أي: فمتى يدخلون الجنة، ولم يؤمنوا بي، ولم يصدقوا رسولي؟ نبه الناس بهذا على أن الناس كلهم من أصل واحد، وإنما يتفاضلون بالإيمان، والطاعة.(4/354)
1241 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا أَحْمَدُ بْنُ الْفَضْلِ الصَّائِغُ، نا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، نا جَرِيرُ بْنُ عُثْمَانَ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ جَحَّاشٍ، قَالَ: تَلا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الآيَةَ {كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} [المعارج: 39] ثُمَّ بَزَقَ عَلَى كَفِّهِ فَقَالَ: يَا ابْنَ آدَمَ، أَنَّى تُعْجِزُنِي، وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ؟ حَتَّى إِذَا سَوَّيْتُكَ وَعَدَلْتُكَ، مَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَيْنِ وَلِلْأَرْضِ مِنْكَ وَئِيدٌ فَجَمَعْتَ وَمَنَعْتَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ قُلْتُ: أَتَصَدَّقُ، وَأَنَّى أَوَانُ الصَّدَقَةِ؟
قوله: فلا أقسم معناه: فأقسم، {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج: 40] يعني: مشرق كل يوم من السنة، ومغربه، {إِنَّا لَقَادِرُونَ {40} عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ} [المعارج: 40-41] على أن نخلق أمثل منهم، وأطوع لله حين عصواهم، {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} [المعارج: 41] مفسر في { [الواقعة.
] فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا} [سورة المعارج: 42] مفسر في { [الطور.
يوم يخرجون من الأجداث سراعًا كأنهم إلى نصب يوفضون أي: يخرجون بسرعة، كأنهم يستبقون إلى علم نصب لهم، والنصب: كل شيء نصب، ومن قرأ:] نُصُبٍ} [سورة المعارج: 43] بضمتين، فقال الحسن: يعني: أنصابهم.
وهي الأصنام يسرعون إليها، أيهم يستلمها أولًا، ومعنى يوفضون: يسرعون، يقال: أوفض إيفاضًا.
وباقي السورة مفسر فيما سبق.(4/355)
تفسير سورة نوح
عشرون وثمان آيات، مكية.
1242 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو السَّخْتِيَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ نُوحٍ كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِي تُدْرِكُهُمْ دَعْوَةُ نُوحٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ» .
بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {1} قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ {2} أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ {3} يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ {4} } [نوح: 1-4] .
{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ} [نوح: 1] بأن، {أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [نوح: 1] يعني: الطوفان، والغرق، والمعنى: أرسلناه لينذرهم بعذاب أليم إن لم يؤمنوا.
فقال: {يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [نوح: 2] أنذركم، وأبين لكم.
{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ {3} يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [نوح: 3-4] قال مقاتل: من ههنا صلة، يريد: يغفر لكم ذنوبكم.
وقال أهل المعاني: يعني: ما سلف من ذنوبهم إلى وقت الإيمان، وهو بعض ذنوبهم.
{وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [نوح: 4] أي: عن العقوبات والشدائد، والمعنى: يعافيكم إلى منتهى آجالكم، {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ} [نوح: 4] يقول: آمنوا قبل الموت، تسلموا من العقوبات، فإن أجل الموت إذا حل لم يؤخر، فلا يمكنكم الإيمان إذا جاء الأجل.
{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا {5} فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا {6} وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا {7} ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا {8} ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا {9} فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا {10} يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا {11} } [نوح: 5-11] .
{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا {5} فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا {6} } [نوح: 5-6] قال مقاتل: يعني: تباعدا من الإيمان.(4/356)
{وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ} [نوح: 7] إلى طاعتك، والإيمان بك، {لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [نوح: 7] لئلا يسمعون صوتي، {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} [نوح: 7] غطوا بها وجوهم، لئلا يروني، وأصروا على كفرهم، واستكبروا عن دعوتي، والإيمان بك.
{ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا} [نوح: 8] معلنًا لهم بالدعاء، قال ابن عباس: بأعلى صوتي.
{ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ} [نوح: 9] أي: كررت لهم الدعاء، معلنًا وإسرارًا، وهو قوله: {وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} [نوح: 9] قال ابن عباس: يريد: الرجل بعد الرجل، أكلمه سرًا، فيما بيني وبينه، أدعوه إلى عبادتك وتوحيدتك.
{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} [نوح: 10] قال مقاتل: إن قوم نوح لما كذبوه زمانًا طويلًا، حبس الله عنهم المطر، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة، فقال لهم نوح: استغفروا ربكم من الشرك.
أي: استدعوا مغفرته بالتوحيد.
{يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 11] كثير الدر، وهو التخلب بالمطر.
1243 - أَخْبَرَنِي أَبُو عَمْرِو بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي كِتَابِهِ، أنا أَبُو الْفَضْلِ الْحَدَّادِيُّ، أنا أَبُو يَزِيدَ الْخَالِدِيُّ، أنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا جَرِيرٌ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: قَحَطَ الْمَطَرُ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ يَسْتَسْقِي، فَلَمْ يَذْكُرْ إِلا الاسْتِغْفَارَ حَتَّى نَزَلَ، فَلَمَّا نَزَلَ قِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا سَمِعْنَاكَ اسْتَسْقَيْتَ، قَالَ: لَقَدْ طَلَبْتُ الْغَيْثَ بِمَجَادِيحِ السَّمَاءِ الَّتِي بِهَا يُسْتَنْزَلُ الْقَطْرُ، ثُمَّ قَرَأَ: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا}
{يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا {11} } [نوح: 11] ، وقرأ التي في هود: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [هود: 52] .
وقوله:(4/357)
{وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا {12} مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا {13} وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا {14} أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا {15} وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا {16} وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا {17} ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا {18} وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا {19} لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا {20} } [نوح: 12-20] .
{وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} [نوح: 12] قال عطاء: يكثر أموالكم، وأولادكم.
{وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ} [نوح: 12] يعني: البساتين، {وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 12] أعلمهم نوح: أن إيمانهم بالله يجمع لهم مع الحظ الوافر في الآخر الخصب والغنا في الدنيا.
{مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] لا تخافون لله عظمة، فالرجاء ههنا بمعنى: الخوف، والوقار: العظمة، اسم من التوقير وهو التعظيم، والمعنى: لا تعلمون حق عظمته فتوحدوه، وتطيعوه، وقد جعل لكم في أنفسكم آية تدل على توحيده: من خلقه إياكم، ومن خلق السموات والأرض، وهو قوله: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح: 14] يعني: نطفة، ثم علقة شيئًا بعد شيء إلى آخر الخلق، وطورًا بعد طور، بتقليبكم من حال إلى حال، قال ابن الأنباري: الطور: الحال، وجمعه أطوار.
وتلا هذه الآية.
{وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} [نوح: 16] قال ابن عباس: وجهه في السموات، وقفاه في الأرض.
وهذا قول عبد الله بن عمر، وقال في هذه الآية: وجوههما إلى السماء، وأقفاهما إلى الأرض، يضيئان في السماء، كما يضيئان في الأرض.
ونحو هذا قال قتادة، وقال أهل المعاني: هذا على المجاز، كما تقول: أتيت بني تميم، وإنما أتيت بعضهم، وركب إلى بغداد في السفر، وتوارى في دور بني فلان، فيقام البعض مقام الكل، كذلك القمر جعل نورًا في السماء الدنيا، ثم جاز أن يقال فيهن.
{وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نوح: 16] يستضاء به، ويضيء العالم.
{وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [نوح: 17] يعني: مبتدأ خلق آدم، وآدم خلق من الأرض، والناس ولده، وقوله: نباتًا اسم جعل في موضع المصدر، والمعنى: ينبتون نباتًا.
{ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا} [نوح: 18] بعد الموت،(4/358)
قوله: ويخرجكم إخراجًا للبعث.
{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا} [نوح: 19] فرشها، وبسطها، {لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا} [نوح: 20] طرقًا واسعة.
{قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا {21} وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا {22} وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا {23} وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا ضَلالا {24} } [نوح: 21-24] .
{قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} [نوح: 21] لم يجيبوا دعوتي، واتبعوا اتبع السفلة والفقراء الرؤساء والكبراء، الذين لم يزدهم كثرة المال، والأولاد، إلا ضلالًا في الدنيا، وعقوبة في الآخرة، وهو قوله: {مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا {21} وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا {22} } [نوح: 21-22] عظيمًا، يقال: كبير وكبار وكبار، ومعنى المكر: السعي بالفساد، وذلك بمنع الرؤساء أتباعهم عن الإيمان بنوح.
وقوله: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} [نوح: 23] أي: عبادتها، {وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا} [نوح: 23] إلى قوله: ونسرًا وهذه أسماء آلهتهم، قال محمد بن كعب: هذه أسماء قوم صالحين، كانوا بين آدم ونوح، فنشأ قوم بعدهم، يأخذون بأخذهم في العبادة، فقال لهم إبليس: لو صورتم صورهم كان أنشط لكم، وأشوق إلى العبادة.
ففعلوا، ثم نشأ قوم بعدهم، فقال لهم إبليس: إن الذين من قبلكم كانوا يعبدونهم.
فعبدوهم.
فابتداء عبادة الأوثان كان من ذلك الوقت، وسميت تلك الصور بهذه الأسماء، لأنهم صوروها على صورة أولئك القوم المسلمين، المسمين بهذه الأسماء، والفتح في ود أشهر وأعرف، قال الأخفش: لعل الضم أن يكون لغة في اسم الصنم.
وقوله: {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح: 24] قال مقاتل: أضل كبراؤهم كثيرًا من الناس.
ويجوز أن يكون المعنى: أضل الأصنام كثيرًا، أي: ضلوا(4/359)
بسببها، كقوله تعالى: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 36] ، {وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ} [نوح: 24] الكافرين، إلا ضلالا هذا دعاء عليهم، بعد أن أعلمه الله أنهم لا يؤمنون، وهو قوله: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36] .
قوله: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا {25} وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا {26} إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا {27} رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا {28} } [نوح: 25-28] .
مما خطيئاتهم وما صلة، والمعنى: من خطيئاتهم، أي: من أجلها وسببها، وقرئ خطاياهم وكلاهما جمع خطيئة، أغرقوا بالطوفان، فأدخلوا نارًا قال مقاتل: أدخلوا في الآخرة نارًا.
وقال الكلبي: سيدخلون في الآخرة نارًا.
وجاء لفظ المضي بمعنى الاستقبال، لصدق الوعد به، {فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} [نوح: 25] لم يجدوا أحدًا يمنعهم من عذاب الله.
{وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] نازل دار، يعني: لا تدع أحدًا منهم إلا أهلكته، يقال: ما بالدار ديار، أي: ما بها أحد.
{إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} [نوح: 27] قال الكلبي، ومقاتل: هو أن الرجل منهم كان ينطلق بابنه إلى نوح، يحذره تصديقه، والإيمان به، {وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 27] أخبر الله نوحًا، عليه السلام، أنهم لا يلدون مؤمنًا، لذلك علم فقال: {وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا} [نوح: 27] خارجًا عن طاعتك، كفارًا لنعمتك.
{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [نوح: 28] يعني: لمك بن متوشلخ، وسمخا بنت أنوش، وكانا مؤمنين، {وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا} [نوح: 28] قال الضحاك، والكلبي: يعني مسجده.
وللمؤمنين والمؤمنات عام في كل من آمن بالله تعالى، وصدق بالرسل، {وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ} [نوح: 28] يعني: قومه، إلا تبارًا هلاكًا، فاستجاب الله دعاءه، وأهلكهم.(4/360)
تفسير سورة الجن
عشرون وثمان آيات، مكية.
1244 - أَخْبَرَنَا ابْنُ الزَّعْفَرَانِيِّ، أنا السَّخْتِيَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْجِنِّ أُعْطِيَ بِعَدَدِ كُلِّ جِنِّيٍّ وَشَيْطَانٍ صَدَّقَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَّبَ بِهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ» .
بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًا عَجَبًا {1} يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا {2} وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا {3} وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا {4} وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا {5} وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا {6} وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا {7} } [الجن: 1-7] .
{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ} [الجن: 1] الآية.
1245 - أَخْبَرَنَا مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْبَزَّارُ، أنا أَبُو عُمَروَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو يَعْلَى، نا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخٍ، نا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْجِنِّ وَمَا رَآهُمُ، انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَرَجَعَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا: مَا لَكُمْ؟ قَالُوا: قَدْ حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ، قَالُوا: مَا ذَاكَ إِلا لِشَيْءٍ حَدَثَ، فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، فَمَرَّ النَّفَرُ الَّذِينَ أَخَذُوا(4/361)
نَحْوَ تِهَامَةَ، بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِنَخْلٍ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلاةَ الْفَجْرِ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ وَقَالُوا: هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ، وَقَالُوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى نَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلامُ {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 1] .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ شَيْبَانَ، كِلاهُمَا عَنْ أَبِي عَوَانَةَ.
1246 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عُمَرَ الْخَشَّابُ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الزَّاهِدُ، أنا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى بْنِ مُجَاشِعٍ، نا هُدْبَةُ، نا وُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ، نا دَاوُدُ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ فَقَالَ: مَا كَانَ مِنَّا مَعَهُ أَحَدٌ، فَقَدْنَاهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَنَحْنُ بِمَكَّةَ، فَقُلْنَا: اغْتِيلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ اسْتُطِيرَ، فَانْطَلَقْنَا نَطْلُبُهُ فِي الشِّعَابِ فَلَقِينَاهُ مُقْبِلًا مِنْ نَحْوِ حِرَاءَ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ كُنْتَ؟ لَقَدْ أَشْفَقْنَا عَلَيْكَ، وَقُلْنَا: بِتْنَا اللَّيْلَةَ بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ حِينَ فَقَدْنَاكَ، فَقَالَ: إِنَّهُ أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ، فَذَهَبْتُ أُقْرِئُهُمُ الْقُرْآنَ، فَذَهَبَ بِنَا فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ صَحِبَهُ مِنَّا أَحَدٌ فَلَمْ يَصْحَبْهُ
1247 - قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَسَأَلُوهُ الزَّادَ، فَقَالَ: كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّهِ، يَأْخُذُونَهُ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ(4/362)
أَوْفَرَ مَا كَانَ لَحْمًا، وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ، فَقَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَسْتَنْجُوا بِالْعِظَامِ وَلا بِالْبَعْرِ، فَإِنَّهُ زَادُ إِخْوَانِكُمْ مِنَ الْجِنِّ» قَالَ دَاوُدُ: وَلا أَدْرِي هَذَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ إِلا ذِكْرَ الزَّادِ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّة، عَنْ دَاوُد
ومعنى قوله: قرآنا عجبًا قال ابن عباس: بليغًا.
والمعنى: قرآنا ذا عجب، يعجب منه لبلاغته.
{يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} [الجن: 2] يدعو إلى الصواب من التوحيد والإيمان، فآمنا به بذلك القرآن، ولن نشرك لن نعدل، بربنا أحدًا يعنون: إبليس، أي: لا نطيعه في الشرك بالله.
قوله: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} [الجن: 3] الاختيار كسر إن، لأنه من قول الجن لقومهم، فهو معطوف على قوله: {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًا} [الجن: 1] ، وقالوا: وإنه تعالى جد ربنا، وأما من فتح، فقال الفراء: رد أن في كل ال { [على قوله:] فَآمَنَّا بِهِ} [سورة الجن: 2] وآمنا بكل ذلك، ففتح أنه: لوقوع الإيمان عليه، ومعنى: جد ربنا جلال ربنا، وعظمته، يقال: جد فلان.
أي: عظم، ومنه الحديث: " كان الرجل إذا قرأ البقرة جد فينا، أي: عظم قدره "، قال الزجاج: تعالى جلال ربنا، وعظمته عن أن يتخذ صاحبة، أو ولدًا.
وهو قوله: {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا} [الجن: 3] .
{وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} [الجن: 4] يعني: الكفار والمشركين منهم، وقال مجاهد، وقتادة: هو إبليس.
{عَلَى اللَّهِ شَطَطًا} [الجن: 4] كذبًا، وجورًا، وهو وصفه بالشرك والولد.
وأنا ظننا قالت الجن: إنا ظننا أن الإنس والجن كانوا لا يكذبون على الله، بأن له شريكًا، وصاحبة، وولدًا.
أي: كنا نظنهم صادقين حتى سمعنا القرآن.
قال الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 6] وهو أن الرجل في الجاهلية كان إذا سافر، فأمسى في قفر(4/363)
من الأرض، قال: أعوذ بسيد هذا الوادي، من شر سفهاء قومه.
فيبيت في جوار منهم حتى يصبح.
1248 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْهَيْثَمِ، نا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي المفر، أنا الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ كَرْدَمِ بْنِ أَبِي السَّائِبِ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ أَبِي إِلَى الْمَدِينَةِ، وَذَلِكَ أَوَّلُ مَا ذُكِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ، وَآوَانَا الْمَبِيتُ إِلَى صَاحِبِ غَنَمٍ، فَلَمَّا انْتَصَفَ اللَّيْلُ جَاءَ ذِئْبٌ، فَأَخَذَ حَمَلًا مِنَ الْغَنَمِ، فَوَثَبَ الرَّاعِي فَنَادَى: يَا عَامِرَ الْوَادِي جَارَكَ، فَنَادَى مُنَادٍ لا نَرَاهُ: يَا سَرْحَانُ أَرْسِلْهُ، فَإِذَا الْحَمَلُ يَشْتَدُّ حَتَّى دَخَلَ الْغَنَمَ لَمْ تُصِبْهُ كَدْمَةٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6] يَعْنِي(4/364)
سَفَهًا وَطُغْيَانًا وَظُلْمًا وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَزْدَادُونَ بِهَذَا التَّعَوُّذِ طُغْيَانًا
يقولون: سدنا الجن والإنس.
وأنهم ظنوا يقول الله تعالى: ظن الجن، كما ظننتم أيها الإنس المشركون، أنه لا بعث يوم القيامة.
أي: كانوا لا يؤمنوا بالبعث، كما أنكم لا تؤمنون به.
وقالت الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا {8} وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا {9} وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا {10} } [الجن: 8-10] .
{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} [الجن: 8] قال الكلبي: أتينا السماء.
{فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا} [الجن: 8] وهم: الملائكة الذي يحرسون السماء من استراق السمع، وشهبًا وهي: النار التي ترجم بها الشياطين، كقوله: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10] .
{وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا} [الجن: 9] من السماء، مقاعد للسمع أي: كنا نستمع، والآن حين حاولنا الاستماع رمينا بالشهب، وهو قوله: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 9] أرصد له ليرمى به، قال معمر: قلت للزهري: أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال: نعم.
قلت: أقرأت قوله: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا} [الجن: 9] الآية.
قال: غلظت، وشدد أمرها حين بعث محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال ابن قتيبة: إن الرجم قد كان قبل مبعثه، ولكنه لم يكن مثله في شدة الحراسة بعد مبعثه.
وكانوا يسترقون في بعض الأحوال، فلما بعث، منعوا من ذلك أصلًا.
ثم قالوا: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الجن: 10] أي: بحدوث الرجم بالكواكب، وحراسة السماء، أم صلاح وهو قوله: {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10] .
ثم أخبروا عن أحوالهم، فقالوا: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا {11} وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا {12} وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا {13} وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا {14} وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا {15}(4/365)
وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا {16} لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا {17} } [الجن: 11-17] .
{وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ} [الجن: 11] المؤمنون، المخلصون، {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} [الجن: 11] دون الصالحين، {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} [الجن: 11] جماعات متفرقين، وأصنافًا مختلفة، والقدة: القطعة من الشيء، وصار القوم قددًا إذا تفرقت حالاتهم، قال مجاهد: يعنون: مسلمين وكافرين.
وقال الحسن: الجن أمثالكم، فمنهم قدرية، ومنهم مرجئة، ورافضة، وشيعة.
وأنا ظننا علمنا وأيقنا، {أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ} [الجن: 12] لن نفوته إذا أراد بنا أمرًا، {وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا} [الجن: 12] أي: أنه يدركنا حيث كنا.
{وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى} [الجن: 13] القرآن، وما أتى به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، آمنا به صدقنا أنه من عند الله، {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا} [الجن: 13] نقصانًا من عمله وثوابه، ولا رهقًا ولا مكروهًا يغشاه.
{وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ} [الجن: 14] وهم الذين آمنوا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنا القاسطون الجائرون الظالمون، قال ابن عباس: هم الذين جعلوا لله ندًا.
{فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} [الجن: 14] قصدوا طريق الحق، وقال الفراء: أموا الهدى.
وأما القاسطون الذين عدلوا، وكفروا بربهم، {فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: 15] وكانوا وقودًا للنار في الآخرة.
ثم رجع إلى كفار مكة، فقال: وأن لو استقاموا على الطريقة.
لو آمنوا، واستقاموا على الهدى، {لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16] كثيرًا، قال مقاتل: ماء كثيرًا من السماء، وذلك بعد ما رفع عنهم المطر سبع سنين.
وقال ابن قتيبة: لو آمنوا(4/366)
جميعًا لوسعنا عليهم في الدنيا.
وضرب الماء الغدق مثلًا، لأن الخير كله والرزق بالمطر يكون، وهذا كقوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا} [الأعراف: 96] الآية، وقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} [المائدة: 66] الآية.
لنفتنهم فيه لنختبرهم، فنعلم كيف شكرهم، {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ} [الجن: 17] يعني: القرآن، نسلكه ندخله، عذابًا صعدًا شاقًا، والمعنى: ذا صعد، أي: ذا مشقة.
قوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا {18} وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا {19} قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا {20} قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا {21} قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا {22} إِلا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا {23} حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا {24} } [الجن: 18-24] .
{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: 18] يعني: المواضع التي بنيت للصلاة وذكر الله، {فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] قال قتادة: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم، أشركوا بالله، فأمر الله أن يخلص المسلمون له الدعوة إذا دخلوا مساجدهم.
وقال سعيد بن جبير: المساجد الأعضاء التي يسجد عليها العبد.
وهذا القول اختيار ابن الأنباري، قال: يقول: هذه الأعضاء التي يقع السجود عليها مخلوقة لله، فلا يسجدوا عليها لغيره.
وقال الحسن: أراد البقاع كلها.
يعني: أن الأرض كلها مواضع للسجود، وجعلت مسجدًا لهذه الأمة،(4/367)
يقول: الأرض كلها مخلوقة لله، فلا يسجدوا عليها لغير خالقها.
وقوله: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} [الجن: 19] يعني: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قول الجميع، وذلك حين كان يصلي ببطن نخلة، ويقرأ القرآن، يدعوه أي: يعبده، {كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19] كادوا يركبونه حرصًا على القرآن، وحبًا لاستماعه، قال الزجاج: ومعنى لبدًا: يركب بعضهم بعضًا.
ومن هذا اشتقاق هذه اللبود التي تفرش، ومن قرأ: لبدًا بضم اللام، فهو بمعنى: الكثير، من قوله تعالى: {أَهْلَكْتُ مَالا لُبَدًا} [البلد: 6] ، وإنما قيل للكثير لبدا لركوب بعضه بعضًا.
{قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي} [الجن: 20] قال مقاتل: إن كفار مكة، قالوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنك جئت بأمر عظيم لم نسمع بمثله، فارجع عنه.
فأنزل الله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي} [الجن: 20] ومن قرأ قال حمل هذا على أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجابهم بهذا، فقال: {إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا {20} قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا} [الجن: 20-21] لا أقدر أن أدفع عنكم ضرًا، ولا أسوق إليكم رشدًا، أي: خيرًا، يعني: أن الله يملك ذلك لا أنا.
{قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ} [الجن: 22] إن عصيته لم يمنعني منه أحد، وذلك أنهم قالوا: اترك ما تدعو إليه، ونحن نجيرك.
{وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الجن: 22] ملجأ وحرزًا، والملتحد معناه في اللغة: فمال، والمعنى: موضعًا أميل إليه في الالتجاء.
{إِلا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} [الجن: 23] أي: لا ينجيني إلا أن أبلغ عن الله ما أرسلت به، قال مقاتل: ذلك الذي يجيرني من عذابه.
يعني: التبليغ، {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الجن: 23] في التوحيد، فلم يؤمن، {فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا {23} حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ} [الجن: 23-24] يعني: من العذاب(4/368)
يوم القيامة، فسيعلمون عند نزول العذاب، {مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا} [الجن: 24] أهم أم المؤمنين؟ وأقل عددًا يعني: جندا وناصرًا.
فلما سمعوا هذا، قال النضر بن الحارث: متى هذا الوعد الذي يوعدنا؟ فأنزل الله عز وجل: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا {25} عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا {26} إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا {27} لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا {28} } [الجن: 25-28] .
{قُلْ إِنْ أَدْرِي} [الجن: 25] ما أدري، {أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ} [الجن: 25] من العذاب، {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا} [الجن: 25] غاية وبعدًا، قال عطاء: يريد: أنه لا يعرف يوم القيامة إلا الله وحده.
والمعنى: أن علم وقت ذلك العذاب غيب، ولا يعلمه إلا الله، وهو قوله: عالم الغيب أي: ما غاب عن العباد، فلا يظهر فلا يطلع، علي غيبه على الغيب الذي يعلمه، أحدًا من الناس.
ثم استثنى، فقال: {إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 27] يعني: الرسل، لأنه يستدل على نبوتهم بالآية المعجزة بأن يخبروا بالغيب، والمعنى: أن من ارتضاه للرسالة والنبوة، فإنه يطلعه على ما شاء من غيبه، وفي هذا دليل على أن من النجوم ما يدله على ما يكون من حادث، فقد كفر بما في القرآن، ثم ذكر أنه يحفظ ذلك الذي يطلع عليه الرسول، {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: 27] أي: يجعل بين يديه وخلفه مرصدًا من الملائكة، يحوطون الوحي من أن يسترقه الشياطين، فيلقوه إلى الكهنة، والرصد من الملائكة يدفعون الجن من أن يستمع ما ينزل من الوحي.
ليعلم محمد،(4/369)
{أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} [الجن: 28] أن الرسل قبله قد أبلغوا الرسالة، كما بلغ هو، إذ كانوا محروسين من الشيطان، {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} [الجن: 28] علم الله ما عند الرسل، فلم يخف عليه شيء، {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن: 28] قال ابن عباس: أحصى ما خلق، وعرف عدد ما خلق، لم يفته علم شيء حتى مثاقيل الذر، والخردل.(4/370)
تفسير سورة المزمل
عشرون آية، مكية.
1249 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْخَفَّافُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ يَا أيها المزمل رُفِعَ عَنْهُ الْعُسْرُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ» .
بسم الله الرحمن الرحيم {يَأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ {1} قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا {2} نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا {3} أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلا {4} إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا {5} إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلا {6} إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا {7} وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا {8} رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا {9} } [المزمل: 1-9] .
{يَأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1] أصله المتزمل، فأدغمت التاء في الزاي، والخطاب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان يتزمل بالثياب في أول ما جاءه جبريل فرقًا منه، حتى أنس به، وقال السدي: يعني: يأيها النائم، وكان قد تزمل للنوم.
ومعنى التزمل: التلفف في الثوب، وخوطب بهذه الآية في أول ما بدئ بالوحي ولم يكن قد بلغ شيئًا، ثم خوطب بعد ذلك بالنبي والرسول.
قم الليل أي: للصلاة، وكان قيام الليل فريضة على الرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقوله: إلا قليلًا تقدير الآية: قم الليل، نصفه إلا قليلًا، أي: قم نصف الليل، أي: صل من الليل النصف إلا قليلًا، وهو قوله: {أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا} [المزمل: 3] أي: من النصف.
{أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل: 4] على النصف، قال المفسرون: أو انقص من النصف قليلًا إلى الثلث، أو زد على النصف قليلًا إلى الثلثين، جعل له سعة في مدة قيامه في الليل، وخيره في الساعات للقيام، فكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وطائفة من المؤمنين معه يقومون على هذه المقادير، وشق ذلك عليهم، فكان الرجل لا يدري كم صلى؟ وكم بقي من الليل؟ فكان يقوم الليل كله، مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب، حتى خفف الله عنهم بآخر هذه السورة.
1250 - أَخْبَرَنَا الْحَاكِمُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ(4/371)
إِبْرَاهِيمَ الْفَارِسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَمْرَوَيْهِ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُفْيَانَ، نا مُسْلِمٌ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُثَنَّى، نا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَنْبِئِينِي عَنْ قِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّيْلِ، فَقَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ: {يَأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1] قُلْتُ: بَلَى، قَالَتْ: فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ افْتَرَضَ قِيَامَ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَقَامَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ حَوْلا، وَأَمْسَكَ اللَّهُ خَاتِمَتَهَا اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا فِي السَّمَاءِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ التَّخْفِيفَ، فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ فَرِيضَةٍ
وقوله: {وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلا} [المزمل: 4] قال عطاء، عن ابن عباس: بينه بيانًا.
قال الزجاج: والبيان لا يتم بأن يعجل في القرآن، إنما يتم بأن يبين جميع الحروف، ويوفي حقها من الإشباع.
قال أبو حمزة: قلت لابن عباس: إني رجل في قراءتي، وفي كلامي عجلة.
فقال ابن عباس: لأن أقرأ البقرة أرتلها، أحب إلىّ من أن أقرأ القرآن كله.
{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا} [المزمل: 5] ليس على ثقل الحفظ له، ولكن ما قال الحسن: إنهم ليهذونه هذّا.
ولكن العمل به ثقيل، وقال قتادة: ثقيل والله فرائضه وحدوده.
وقال مقاتل: ثقيل لما فيه من الأمر والنهي، والحدود.
وقال ابن زيد: هو والله ثقيل مبارك كما(4/372)
ثقل في الدنيا، يثقل في الموازين يوم القيامة.
أخبرنا أبو سعد النصروي، أنا أبو العباس محمد بن إبراهيم المحاملي، أنا أحمد بن سلمة، أنا محمد بن عماد الرازي، نا سليمان بن حرب، نا جرير بن حازم، عن الحسن في قول الله عز وجل: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا} [المزمل: 5] قال: العمل به العمل به.
قوله: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} [المزمل: 6] يعني: ساعات الليل وآناءه، قال الزجاج: ناشئة الليل: كل ما نشأ منه أي حدث فهو نائشة.
قال المفسرون: الليل كله ناشئة.
وقال عبد الله بن مسعود: هي بالحبشية قيام الليل.
وهو قول ابن عباس في رواية سعيد بن جبير، قال: هي بلسان الحبشة نشأ فلان إذا قام.
وقالت عائشة، رضي الله عنها: الناشئة: القيام بعد النوم.
قال ابن الأعرابي: إذا نمت من أول الليل ثم قمت، فتلك النشأة، ومنه ناشئة الليل.
{هِيَ أَشَدُّ وَطْأً} [المزمل: 6] أشد على المصلي من النهار، لأن الليل للنوم، قال ابن قتيبة: أثقل على المصلي من ساعات النهار، من قول العرب: اشتدت على القوم وطأة السلطان.
إذا ثقل عليهم ما يلزمهم، ومنه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهم اشدد وطأتك على مضر» .
ومن قرأ(4/373)
بكسر الواو والمد، فهو فعال من أوطأت فلانا على كذا موطأة، ووطأ إذا وافقته عليه، ومنه قوله تعالى: {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: 37] قال ابن عباس: يواطئ السمع القلب.
والمعنى: أن صلاة ناشئة الليل يواطئ السمع القلب فيها، أكثر مما يواطئ في ساعات النهار، لأن البال أفرغ للانقطاع عن كثير مما يشغل بالنهار، وأقوم قيلًا وأشد استقامة، وقال الكلبي: وأبين قولا بالقرآن.
{إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا} [المزمل: 7] فراغًا وسعة لتصرفك، وقضاء حوائجك، والمعنى: إن لك في النهار فراغًا للنوم، والتصرف في الحوائج، فصل من الليل، والتسبح التقلب، ومنه السابح في الماء لتقلبه بيديه ورجليه، قال ابن قتيبة: أي: تصرفًا، وإقبالًا، وإدبارًا في حوائجك وأشغالك.
{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا} [المزمل: 8] انقطع إليه في العبادة، وهو رفض الدنيا وما فيها، والتماس ما عند الله، والبتل في اللغة: القطع وتمييز الشيء عن الشيء، وصدقة بتلة: منقطعة من مال صاحبها، والتبتل تفعيل منه، قال: بتله فتبتل.
ومعنى تبتل إليه: بتل إليه نفسك، فلذلك جاء تبتيلًا.
رب المشرق بالخفض بدلًا من قوله: اسم ربك، وبالرفع على الابتداء، وخبره: {لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا} [المزمل: 9] أي: كفيلًا بما وعدك أنه سيفعله.
{وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا {10} وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا {11} إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا وَجَحِيمًا {12} وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا {13} يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلا {14} إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا {15} فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا(4/374)
وَبِيلا {16} فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا {17} السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولا {18} } [المزمل: 10-18] .
{وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [المزمل: 10] لك من التكذيب، والأذى، {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا} [المزمل: 10] لا جزع فيه، وهذا قبل الأمر بالقتال.
وذرني والمكذبين أي: لا تهتم بهم، فإني أكفيكهم، أولي النعمة ذوي النعمة، ذوي الغنى، وكثرة المال، قالت عائشة رضي الله عنها: لما نزلت: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا} [المزمل: 11] لم يكن إلا قليلًا، حتى كانت وقعة بدر.
قوله: إن لدينا أي: عندنا في الآخرة، أنكالا واحدها: نكل، وهو القيد، قال الكلبي: أغلالا من حديد.
وقال أبو عمران الجوني: هي قيود لا تحل.
{وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ} [المزمل: 13] لا يسوغ في الحلق، يعني: الزقوم، وقال عكرمة: شوك يأخذ بالحلق، لا يدخل ولا يخرج.
قال الزجاج: يعني: الضريع، كما قال: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية: 6] .
1251 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْوَرَّاقُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْحَافِظُ، أنا أَبُو الْعَبَّاسِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَرَائِضِيُّ، أنا طَاهِرُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ سَعِيدٍ الْبَغْدَادِيُّ، نا وَكِيعٌ، عَنْ حَمْزَةَ الزَّيَّاتِ، عَنْ حِمْرَانَ بْنِ أَعْيَنَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ قَارِئًا قَرَأَ {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا وَجَحِيمًا} [المزمل: 12] فَصُعِقَ، رَوَاهُ إِسْحَاقُ الْحَنْظَلِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ وَكِيعٍ.
أخبرنا أبو(4/375)
نصر الجوزقي فيما أجاز لي، أنا محمد بن محمد بن يعقوب الحافظ، نا محمد بن إسحاق الثقفي، نا حاتم بن الليث الجوهري، نا خالد بن خداش، نا صالح المري، عن خليد بن حسان الهجري، قال: أمسى الحسن صائمًا، فلما أتي بإفطاره، عرضت له هذه الآية: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا وَجَحِيمًا {12} وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ} [المزمل: 12-13] فقلصت يداه عن عشائه.
فقال: ارفعوه.
فرفع، فأصبح صائمًا، فلما أتي بإفطاره، عرضت له أيضًا هذه الآية فرفع، فلما كان اليوم الثالث انطلق ابنه إلى ثابت البناني، ويزيد الضبي، ويحيى البكاء، وناس من أصحابه، فقال: أدركوا أبي فإنه لم يذق طعامًا منذ ثلاثة أيام، كلما قربنا إليه الطعام، عرضت له هذه الآية: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا وَجَحِيمًا} [المزمل: 12] فيتركه.
فأتوه، فلم يزالوا به حتى سقوه شربة من سويق.
ثم أخبر متى يكون ذلك، فقال: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ} [المزمل: 14] تزلزل، وتتحرك، {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا} [المزمل: 14] رملًا، مهيلًا سائلا، ويقال لكل شيء أرسلته إرسالا من رمل، أو تراب، أو طعام: هلته أهيله هيلًا.
قال الكلبي: هو الرمل الذي إذا أخذت منه شيئًا، تبعك آخره.
قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ} [المزمل: 15] يعني: أهل مكة، رسولًا يعني: محمدًا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شاهدا عليكم بالتبليغ والبيان، وإيمان من آمن به وأجاب، وكفر من عصى، {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا} [المزمل: 15] موسى.
{فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16] ولم يجبه إلى ما دعاه إليه، {فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا} [المزمل: 16] وهو الثقيل، الغليظ جدًا، والمعنى: عاقبناه عقوبة غليظة، يعني: الغرق، يخوف كفار مكة.
{فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ} [المزمل: 17] ولم تؤمنوا برسولكم، يومًا أي: عذاب يوم، {يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [المزمل: 17] وصف لذلك اليوم وشدته، كما يقال: هذا أمر يشيب منه الوليد.
إذا كان عظيمًا شديدًا، والمعنى: بأي شيء تتحصنون من عذاب ذلك اليوم إن كفرتم.
ثم وصف من(4/376)
هول ذلك اليوم، فقال: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} [المزمل: 18] أي: لنزول الملائكة، كما قال: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الانفطار: 1] ، {كَانَ وَعْدُهُ} [المزمل: 18] بكل ما وعد من البعث، والحساب، مفعولًا كائن.
{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا {19} إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {20} } [المزمل: 19-20] .
إن هذه يعني: آيات القرآن، تذكرة تذكير وموعظة، {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا} [المزمل: 19] بالطاعة، والتصديق.
قوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى} [المزمل: 20] أقل، {مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} [المزمل: 20] ومن نصب عطفه على الأدنى، وهو في موضع نصب، {وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} [المزمل: 20] يعني: المؤمنين، كانوا يقومون معه، {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [المزمل: 20] قال عطاء: يريد: لا يفوته علم ما يفعلون، أي: أنه يعلم مقادير الليل والنهار، فيعلم القدر الذي يقومونه من الليل.
{عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} [المزمل: 20] لن تطيقوه، قال الحسن: قاموا حتى انتفخت أقدامهم، فنزل {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} [المزمل: 20] .
وقال مقاتل: كان الرجل يصلي الليل كله، مخافة أن لا يصيب ما أمر به من القيام، فقال الله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} [المزمل: 20] لن تطيقوا معرفة ذلك.
فتاب عليكم فعاد عليكم بالعفو، والتخفيف، {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ} [المزمل: 20] يعني: في الصلاة من غير أن يوقت وقتًا، قال الحسن: هو ما يقرأ في صلاة المغرب والعشاء.
1252 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْمَنْصُورِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ الْأَزْدِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عَامِرٍ الْبَجَلِيُّ، نا هُرَيْمُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: صَلَيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالْبَصْرَةِ، فَقَرَأَ فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ بِالْحَمْدِ وَأَوَّلِ آيَةٍ مِنَ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ قَامَ فِي الثَّانِيَةِ فَقَرَأَ بِالْحَمْدِ، وَالآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ رَكَعَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ(4/377)
مِنْهُ} [المزمل: 20]
قال علي بن عمر: في هذا حجة لمن يقول: فاقرأ ما تيسر منه فيما بعد الفاتحة.
ثم ذكر عذرهم، فقال: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} [المزمل: 20] فلا يطيقون قيام الليل، {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] يعني: المسافرين للتجارة، يطلبون من رزق الله، فلا يطيقون قيام الليل، {وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] يعني: المجاهدين، لا يطيقون قيام الليل، {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] من القرآن، قال المفسرون: كان هذا في صدر الإسلام، ثم نسخ بالصلوات الخمس عن المؤمنين، وثبت على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة.
وذلك قوله: وأقيموا الصلاة قال ابن عباس: يريد: هذه فريضة عليكم في أوقاتها.
{وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [المزمل: 20] قال ابن عباس: يريد: سوى الزكاة من صلة الرحم، وقرى الضيف.
{وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ} [المزمل: 20] يعني: من صدقة فريضة، أو تطوع، {تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا} [المزمل: 20] تجدوا ثوابه في الآخرة أفضل مما أعطيتم، وأعظم أجرًا مما تؤخره إلى وصيتك عند الموت.
1253 - أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مَكِّيٍّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، نا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، نا أَبِي، نا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ، قَالَ: فَإِنْ مَالَهُ مَا قَدَّمَ، وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ
واستغفروا الله لذنوبكم، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} [المزمل: 20] لذنوب المؤمنين، رحيم بهم.(4/378)
تفسير سورة المدثر
خمسون وست آيات، مكية.
1254 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي سَبَقَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ أُعْطِيَ مِنَ الْأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ بِعَدَدِ مَنْ صَدَّقَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَّبَ بِهِ بِمَكَّةَ» .
بسم الله الرحمن الرحيم {يَأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ {1} قُمْ فَأَنْذِرْ {2} وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ {3} وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ {4} وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ {5} وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ {6} وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ {7} فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ {8} فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ {9} عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ {10} } [المدثر: 1-10] .
{يَأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1]
1255 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، نا مُسْلِمٌ، نا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، نا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنِي الْأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ أَبِي كَثِيرٍ، يَقُولُ: سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ قَبْلُ؟ قَالَ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} ، فَقُلْتُ: أَوِ «اقْرَأْ» ؟ فَقَالَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ قَبْلَ؟ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} ، فَقُلْتُ: أَوِ «اقْرَأْ» ؟ فَقَالَ جَابِرٌ: أُحَدِّثُكُمْ مَا حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: جَاوَرْتُ بِحِرَاءَ شَهْرًا، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي نَزَلْتُ، فَاسْتَبْطَنْتُ بَطْنَ الْوَادِي، فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ أَمَامِي وَخَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، ثُمَّ نُودِيتُ فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، ثُمَّ نُودِيتُ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا هُوَ عَلَى الْعَرْشِ فِي الْهَوَاءِ يَعْنِي جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي دَثِّرُونِي، فَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يَأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ {1} قُمْ فَأَنْذِرْ {2} } [المدثر: 1-2]
قال المفسرون: لما بدئ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالوحي، أتاه جبريل، فرآه رسول الله صَلَّى اللهُ(4/379)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سرير بين السماء والأرض، كالنور المتلألئ، ففزع ووقع مغشيًا عليه، فلما أفاق دخل على خديجة، ودعا بماء فصبه عليه، وقال: دثروني.
فدثروه بقطيفة، فأتاه جبريل عليه السلام، فقال: {يَأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ {1} قُمْ فَأَنْذِرْ {2} } [المدثر: 1-2] كفار مكة العذاب، إن لم يوحدوا ربك.
وربك فكبر فعظمه مما يقول له عبدة الأوثان.
وثيابك فطهر قال قتادة، ومجاهد: نفسك فطهر من الذنب، والثياب عبارة عن النفس.
وقال عكرمة: يقول: البسها على غير غدرة، وغير فجرة.
وقال: أما سمعت قول الشاعر:
وإني بحمد الله لا ثوب فاجر ... لبست ولا من غدرة أتقنع
وهذا معنى قول من قال في هذه الآية: وعملك فأصلحه.
قال السدي: يقال للرجل إذا كان صالحا: إنه لطاهر الثياب.
وإذا كان فاجرًا: إنه لخبيث الثياب.
وقال ابن سيرين، وابن زيد: أمر بتطهير ثيابه من النجاسات التي لا تجوز صلاة معها.
وقال الزجاج: وثيابك فقصر، لأن تقصير الثوب أبعد من النجاسة، فإنه إذا انجر على الأرض لم يؤمن أن يصيبه ما ينجسه.
وهذا قول طاوس.
والرجز فاهجر قال جماعة المفسرين: يريد: عبادة الأوثان فاهجر.
والرجز معناه في(4/380)
اللغة: العذاب، وفيه لغتان: كسر الراء وضمها، وسمي الشرك وعبادة الأوثان رجزًا، لأنه سبب العذاب المؤدي إليه.
{وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] لا تعط شيئًا من مالك لتأخذ أكثر منه، ومعنى: ولا تمنن ولا تعط، قال المفسرون: لا تعط مالك مصانعة، لتعطى أكثر منه في الدنيا.
أعط لربك وأرد به الله، وهذا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة أدبه الله تعالى بأشرف الآداب.
ولربك فاصبر على طاعته، وفرائضه، والمعنى: لأجل ربك، أي: لأجل ثوابه، وقال مقاتل: يعني: على الأذى والتكذيب.
قوله: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} [المدثر: 8] أي: نفخ في الصور، وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل، يعني: النفخة الثانية.
{فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} [المدثر: 9] يعني: يوم النفخ في الصور، يوم عسير: يعسر فيه الأمر.
{عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر: 10] غير هين.
{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا {11} وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا {12} وَبَنِينَ شُهُودًا {13} وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا {14} ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ {15} كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا {16} سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا {17} إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ {18} فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ {19} ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ {20} ثُمَّ نَظَرَ {21} ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ {22} ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ {23} فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ {24} إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ {25} سَأُصْلِيهِ سَقَرَ {26} وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ {27} لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ {28} لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ {29} عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ {30} } [المدثر: 11-30] .
{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11] أي: ومن خلقته في بطن أمه وحيدًا، لا مال له ولا ولد، يعني: الوليد(4/381)
بن المغيرة، قال مقاتل: يقول: خل بيني وبينه، وأنا أنفرد بهلاكه.
ثم ذكر أنه رزقه المال والولد، فقال: {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا} [المدثر: 12] قال عطاء، عن ابن عباس: ما بين مكة إلى الطائف الإبل الموبلة، والخيل المسومة، والنعم المرحلة، وأحبة بالطائف، ومال وعين كثير، وعبيد وجواري.
والأولى في تفسير الممدود: أن يكون ما يمد له بالزيادة والنماء كالزرع، والضرع، والتجارة، ويكون له مدد يأتي شيئًا بعد شيء، قال الزجاج: مال غير منقطع عنه.
وبنين شهودًا أي: حضورًا معه بمكة، كانوا لا يسافرون ولا يحتاجون أن يتفرقوا ويغيبوا عنه، وكانوا عشرة.
{وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا} [المدثر: 14] بسطت له في العيش، وطول العمر.
{ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} [المدثر: 15] ثم يرجو أن أزيد في ماله، وولده.
كلا لا أفعل، ولا أزيده، {إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا} [المدثر: 16] معاندًا لما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
سأرهقه صعودًا سأكلفه مشقة من العذاب.
1256 - أَخْبَرَنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ السَّرَّاجِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ، نا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ، أنا شَرِيكٌ، عَنْ عَمَّارٍ الذهني، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} [المدثر: 17] قَالَ: جَبَلٌ مِنْ نَارٍ يُكَلَّفُ أَنْ يَصْعَدَهُ، فَإِذَا وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ ذَابَتْ، فَإِذَا رَفَعَهَا عَادَتْ، وَإِذَا وَضَعَ رِجْلَهُ عَلَيْهِ ذَابَتْ، فَإِذَا رَفَعَهَا عَادَتْ
وقال الكلبي: هو جبل من صخرة ملساء في النار، يكلف أن يصعدها، حتى إذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها، ثم تكلف أيضًا أن يصعدها، فذلك دأبه أبدًا، يجذب من أمامه بسلاسل الحديد، ويضرب من خلفه بمقامع الحديد، فيصعدها في أربعين سنة.
إنه فكر تفكر، ودبر ماذا يقول في القرآن، وقدر القول في(4/382)
نفسه.
فقتل لعن وعذب، كيف قدر قال صاحب النظم: معناه: لعن على أي حال قدر ما قدر من الكلام، كما يقال في الكلام: لأضربنه كيف صنع، أي: على أي حال كانت منه.
{ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [المدثر: 20] هذا تكرير للتأكيد.
ثم نظر في طلب ما يدفع به القرآن، ويرده به.
{ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} [المدثر: 22] كلح وكره وجهه، ونظر بكراهة شديدة، كالمهتم المتفكر في شيء.
ثم أدبر عن الإيمان، واستكبر تكبر حين دعي إليه.
{فَقَالَ إِنْ هَذَا} [المدثر: 24] ما هذا القرآن، {إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر: 24] يروى عن السحرة.
أخبرنا أبو عمرو بن عبد العزيز، أنا محمد بن الحسين الحدادي، أنا محمد بن بريد الخالدي، أنا إسحاق بن إبراهيم، أنا محمد بن سواء، نا روح بن القاسم، عن حميد الأعرج، عن مجاهد، أن الوليد بن المغيرة قال لقريش: إن لي إليكم حاجة فاجتمعوا.
قال: فاجتمعوا في دار الندوة، فقال لهم: إنكم ذوو أحساب وذوو أحلام، وإن العرب يأتونكم من كل قوم، فينطلقون من عندكم على أمر مختلف، فأجمعوا أمركم على شيء واحد، ما تقولون في هذا الرجل؟ قالوا: نقول: إنه شاعر.
فعبس عندها، فقال: قد سمعنا الشعر، فما يشبه قوله للشعر.
فقالوا: نقول: إنه كاهن.
فقال: إذًا يأتونه فلا يجدونه يحدث به الكهنة.
قالوا: نقول: إنه مجنون.
فقال: إذًا يأتونه فلا يجدونه مجنونًا.
فقالوا: نقول: إنه ساحر.
قال: وما الساحر.
قالوا: بشر يحببون بين المتباغضين، ويبغضون بين المتحابين.
قال: فهو ساحر.
فخرجوا، فجعل لا يلقى أحد منهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا قالوا: يا ساحر، يا ساحر.
فاشتد ذلك عليه، فأنزل الله تعالى: {يَأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] إلى قوله: {إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ {24} إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ {25} } [المدثر: 24-25] .
يعني: أنه كلام الإنس، وليس(4/383)
من عند الله.
قال الله تعالى: سأصليه سقر سأدخله النار، وسقر: اسم من أسماء جهنم.
ثم ذكر عظيم شأنها، فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} [المدثر: 27] .
ثم أخبر عنها، فقال: {لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} [المدثر: 28] لا تبقي لهم لحمًا إلا أكلته، ولا تذرهم إذا أعيدوا خلقًا جديدًا.
لواحة للبشر مغيرة للجلد حتى تجعله أسود، يقال: لاحه السقم والحزن.
إذا غيره.
قال أبو رزين: تلفح الجلد حتى تدعه أشد سوادًا من الليل.
{عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 30] قال المفسرون: يقول: على النار تسعة عشر من الملائكة هم خزنتها، مالك ومعه ثمانية عشر، أعينهم كالبرق الخاطف، وأنيابهم كالصياصي، يخرج لهب النار من أفواههم، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة، يسع كف أحدهم مثل ربيعة ومضر، نزعت منهم الرحمة، يرفع أحدهم سبعين ألفًا فيرميهم حيث أراد من جهنم، ولما نزلت هذه الآية قال اللعين أبو جهل: أما لمحمد من الأعوان إلا تسعة عشر، يخوفكم محمد بتسعة عشر وأنتم الدهم، أفيعجز كل مائة منكم أن يبطشوا بواحد منهم، ثم يخرجون من النار.
فقال أبو الأشدين، وهو رجل من بني جمح: يا معشر قريش، إذا كان يوم القيامة وأنا أمشي بين أيديكم على الصراط، فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن، وتسعة بمنكبي الأيسر في النار، ونمضي ندخل الجنة.
فأنزل الله عز وجل: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا كَذَلِكَ(4/384)
يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ {31} كَلَّا وَالْقَمَرِ {32} وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ {33} وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ {34} إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ {35} نَذِيرًا لِلْبَشَرِ {36} لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ {37} } [المدثر: 31-37] .
{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً} [المدثر: 31] يعني: خزانها، أي: فمن يطيق الملائكة، ومن يغلبهم؟ {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ} [المدثر: 31] أي: عددهم في القلة، {إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [المدثر: 31] ضلالة لهم، حتى قالوا ما قالوا، {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المدثر: 31] لأن عدد الخزنة في كتابهم تسعة عشر، فيعلمون أن ما أتى به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موافق لما في كتابهم، فيستيقنوا صدقه، {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31] يعني: من آمن من أهل الكتاب يزدادون تصديقًا لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذا وجدوا ما يخبرهم به من عدد الخزنة موافقًا لما في كتابهم، {وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} [المدثر: 31] ولئلا يشك هؤلاء في عدد الخزنة، {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [المدثر: 31] شك، ونفاق، والكافرون مشركو العرب، {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا} [المدثر: 31] أي شيء أراد الله بهذا الحديث والخبر؟ يعني: أنهم لا يصدقون بهذا العدد، وهذا الحديث الذي ذكره الله تعالى، والمثل يكون الحديث نفسه، أي: تقولون: ما هذا من الحديث؟ كذلك أي: كما أضل من أنكر عدد الخزنة، وهدى من صدق ذلك، {يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [المدثر: 31] وأنزل في قول أبي جهل: أما لمحمد من الجنود إلا تسعة عشر: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ} [المدثر: 31] وقال عطاء: يعني: من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار، لا يعلم عدتهم إلا الله.
والمعنى: أن تسعة عشر هم خزنة النار، لهم من الأعوان، والجنود من الملائكة ما لا يعلمه إلا الله، ثم رجع إلى ذكر سقر، فقال: {وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر: 31] تذكرة، وموعظة للعالم.
ثم أقسم على عظم شأنهم، فقال: كلا أي: حقًا، {وَالْقَمَرِ {32} وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ {33} } [المدثر: 32-33] ذهب، وهو مثل دبر في المعنى، يقال: دبر الليل وأدبر.
إذا ولى ذاهبًا، {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} [المدثر: 34] أضاء، وتبين.
إنها إن سقر، لإحدى الكبر قال مقاتل، والكلبي: أراد بالكبر: دركات جهنم وأبوابها، وهي سبعة: جهنم، ولظى، والحطمة، والسعير، وسقر، والجحيم، والهاوية.
أعاذنا الله منها، والكبر جمع الكبرى.
{نَذِيرًا لِلْبَشَرِ} [المدثر: 36] قال الكسائي، والزجاج: هو حال من قوله: {قُمْ} [المدثر: 2] في أول(4/385)
السورة { [.
ورواه عطاء، عن ابن عباس، قال: يريد: قم نذيرًا للبشر.
لمن شاء بدل من قوله: للبشر، أن يتقدم أي: في الخير والإيمان، أو يتأخر عنه، والمعنى: أن الإنذار قد حصل لكل أحد ممن آمن، أو كفر.
] كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ {38} إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ {39} فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ {40} عَنِ الْمُجْرِمِينَ {41} مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ {42} قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ {43} وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ {44} وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ {45} وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ {46} حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ {47} فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ {48} } [سورة المدثر: 38-48] .
{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] مأخوذة بعملها، قال ابن عباس: مرتهنة في جهنم.
{إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ} [المدثر: 39] وهم المؤمنون، قال الكلبي: هم الذين قال الله تعالى: هؤلاء في الجنة ولا أبالي.
وهم الذين كانوا على يمين آدم.
وقال مقاتل: هم الذين أعطوا كتبهم بأيمانهم، لا يرتهنون بذنوبهم في النار.
وهو قوله: {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ {40} عَنِ الْمُجْرِمِينَ {41} مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ {42} } [المدثر: 40-42] وما أدخلكم النار؟ فأجابوا عن أنفسهم، فقالوا: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 43] لله في الدنيا، {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر: 44] لم نتصدق على المساكين، ولم نطعمهم في الله.
{وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر: 45] مع أهل الباطل في الباطل والتكذيب، قال قتادة: كلما غوى غاو، غوينا معه.
{وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر: 46] الجزاء، والحساب.
{حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر: 47] الموت.
1257 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، نا الْعَسْكَرِيُّ، نا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ بِشْرٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُؤْتَى بِأَدْنَى أَهْلِ النَّارِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا عَبْدِي أَتَفْتَدِي مِنِّي بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا، فَيَقُولُ: نَعَمْ إِنْ قَدَرْتُ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ كُنْتُ أَسْأَلُكَ مَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَنِي فَأُعْطِيَكَ(4/386)
وَتَسْتَغْفِرَنِي فَأَغْفِرَ لَكَ وَتَدْعُوَنِي فَأَسْتَجِيبَ لَكَ، قَالَ ثُمَّ يَقُولُ: هَذَا لَمْ يَخَفْنِي سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ وَلا نَهَارٍ قَطُّ وَلَمْ يَرْجُ مَا عِنْدِي قَطُّ، وَلَمْ يَخْشَ عِقَابِي سَاعَةً قَطُّ، ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ: مَا سَلَكَكُمْ، أَيْ مَاذَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} إِلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} .
قال: يقول الله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] قال: بلغنا أن هذا بعد الشفاعة.
قال عطاء، عن ابن عباس: يريد: شفاعة الملائكة، والنبيين، كما نفعت الموحدين.
وقال الحسن: لم تنفعهم شفاعة ملك، ولا شهيد، ولا مؤمن.
وقال عمران بن حصين: الشفاعة نافعة لكل أحد دون هؤلاء الذين تسمعون.
1258 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحِيرِىُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ، أنا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، أنا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي الزَّعْرَاءِ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: يَشْفَعُ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَابِعُ أَرْبَعَةٍ: جِبْرِيلُ، ثُمَّ إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ مُوسَى أَوْ عِيسَى، ثُمَّ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا يَشْفَعُ أَحَدٌ فِي أَكْثَرِ مِمَّا يَشْفَعُ فِيهِ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ النَّبِيُّونَ ثُمَّ الصِّدِّيقُونَ، ثُمَّ الشُّهَدَاءُ، وَيَبْقَى قَوْمٌ فِي جَهَنَّمَ فَيُقَالُ لَهُمْ: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} ، {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} ، قَرَأَ إِلَى قَوْلِهِ: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَهَؤُلاءِ الَّذِينَ يَبْقُونَ فِي جَهَنَّمَ.
{فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ {49} كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ {50} فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ {51} بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً {52} كَلَّا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ {53} كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ {54} فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ {55} وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ {56} } [المدثر: 49-56] .(4/387)
{فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] يعني: كفار قريش، حين نفروا عن القرآن والتذكرة، والتذكير بمواعظ القرآن، والمعنى: لا شيء لهم في الآخرة، إذ أعرضوا عن القرآن فلم يؤمنوا به.
ثم شبههم في نفورهم عن القرآن بحمر نافرة، فقال: كأنهم حمر يعني: الحمر الوحشية، مستنفرة نافرة، يقال: نفروا ستنفر.
مثل: عجب واستعجب، وقرئ بفتح الفاء وهي بمعنى: مذعورة، يقال: استنفرت الوحش ونفرتها.
{فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 51] يعني: الأسد، في قول عطاء، والكلبي.
قال ابن عباس: الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت منه، كذلك هؤلاء المشركون، إذا سمعوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ القرآن، هربوا منه.
وقال الضحاك، ومقاتل: هم الرماة، رجال القنص.
لا واحد له من لفظه.
{بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} [المدثر: 52] قال المفسرون: إن كفار قريش قالوا لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله بأنك رسوله، تؤثر فيه باتياءك.
والصحف: الكتب، واحدتها: صحيفة، ومنشرة معناها: منشورة.
كلا لا يؤتون الصحف، {بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ} [المدثر: 53] يعني: عذاب الآخرة، والمعنى: أنهم لو خافوا النار، لما اقترحوا الآيات بعد قيام الدلالة.
كلا حقًا، إنه إن القرآن، تذكرة تذكير، وموعظة.
{فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} [المدثر: 55] اتعظ به.
ثم رد المشيئة إلى نفسه، فقال: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر: 56] قال مقاتل: إلا أن يشاء الله لهم الهدى.
{هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر: 56] .
1259 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ الْبُخَارِيُّ، نا بَشِيرُ بْنُ الْوَلِيدِ الْكِنْدِيُّ، نا سُهَيْلٌ أَخُو حَزْمٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلا هَذِهِ الآيَةَ:(4/388)
{هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر: 56] فَقَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا أَهْلٌ أَنْ أُتَّقَى فَلا يُجْعَلُ مَعِي إِلَهٌ، فَمَنِ اتَّقَى أَنْ يَجْعَلَ مَعِي إِلَهًا فَإِنِّي أَهْلٌ أَنْ أَغْفِرَ لَهُ
وقال قتادة: أهل أن تتقى محارمه، وأهل أن يغفر الذنوب.(4/389)
تفسير سورة القيامة
أربعون آية، مكية.
1260 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِيرِيُّ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي ذَكَرْنَا، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْقِيَامَةِ شَهِدْتُ أَنَا وَجِبْرِيلُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّهُ كَانَ مُؤْمِنًا بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَجَاءَ وَوَجْهُهُ مُسْفِرٌ عَلَى وُجُوهِ الْخَلائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
بسم الله الرحمن الرحيم {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ {1} وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ {2} أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ {3} بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ {4} بَلْ يُرِيدُ الإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ {5} يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ {6} فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ {7} وَخَسَفَ الْقَمَرُ {8} وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ {9} يَقُولُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ {10} كَلَّا لا وَزَرَ {11} إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ {12} يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ {13} بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ {14} وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ {15} } [القيامة: 1-15] .
{لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة: 1] معناه: أقسم، ولا صلة، وقال الفراء: لا رد على الذين أنكروا البعث، والجنة والنار.
ويدل على أن المعنى إثبات القسم: قراءة من قرأ لأقسم، يجعلها لا ما دخلت على أقسم، قال ابن عباس: يريد: أقسم بيوم القيامة.
وهو قول الجميع.
{وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2] قال الحسن: أقسم بالأولى، ولم يقسم بالثانية.
وقال الآخرون: معناه: أقسم كالأول.
قال الفراء: ليس من نفس برة، ولا فاجرة، إلا وهي تلوم نفسها، إن كانت عملت خيرًا قالت: هلا ازددت.
وإن كانت عملت سوءا، قالت:(4/390)
ليتني لم أفعل.
وهذا قول عطاء، عن ابن عباس.
وقال الحسن: هي النفس المؤمنة، لا ترى المؤمن إلا يلوم نفسه على كل حال.
قوله: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ} [القيامة: 3] يعني: الكافر بالبعث، {أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة: 3] قال ابن عباس: يريد: أبا جهل، يقول: أيحسب أن لن يبعث.
بلى نجمعها، {قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 4] على ما كانت، وإن قل عظامها وصغرت، نردها كما كانت، ونؤلف بينها حتى يستوي البنان، ومن قدر على جمع صغار العظام، كان على جمع أكابرها أقدر، وهذا قول، الزجاج، وابن قتيبة.
والمفسرون يقولون: نجعلها كخف البعير، أو كحافر الدابة.
والمعنى: نجعل بنانه مع كفه صفحة مستوية، لا شقوق فيها، فيعدم الارتفاق بالأعمال اللطيفة كالكتابة، والخياطة.
{بَلْ يُرِيدُ الإِنْسَانُ} [القيامة: 5] يعني: الكافر، ليفجر أمامه يقدم الذنب، ويؤخر التوبة، والمعنى: يريد أن يعصي، ويكفر أبدًا ما عاش، قال ابن الأنباري: يريد أن يفجر ما امتد عمره، وليس في نيته أن يرجع عن ذنب يرتكبه.
{يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} [القيامة: 6] أي: متى يكون ذلك؟ تكذيبًا به.
قال الله تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ} [القيامة: 7] فزع، وتحير لما يرى من العجائب التي كان يكذب بها، قال الكلبي: وذلك عند رؤية جهنم، يبرق أبصار الكفار.
والفتح في برق لغة.
{وَخَسَفَ الْقَمَرُ} [القيامة: 8] ذهب ضوءه.
{وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [القيامة: 9] كالبعيرين القرينين، وقال مجاهد: كُورا يوم القيامة.
وهو اختيار الفراء، والزجاج، قالا: جمعا في ذهاب نورهما.
يقول الإنسان المكذب بيوم القيامة: أين المفر أين الفرار؟ ويجوز أن يكون الفرار موضع الفرار.
قال الله تعالى: {كَلَّا لا وَزَرَ} [القيامة: 11] لا جبل، ولا حصن، ولا ملجأ من الله.
{إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} [القيامة: 12](4/391)
المنتهى والمرجع.
{يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة: 13] بأول عمله وآخره، وقال قتادة: ما عمل من طاعة الله، وما آخر من طاعة الله، فلم يعمل به.
وقال زيد بن أسلم: بما قدم من أمواله، وما خلف للورثة.
{بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة: 14] يعني: أن جوارحه تشهد عليه بما عمل، فهو شاهد على نفسه بشهادة جوارحه، قال الفراء: يقول: على الإنسان من نفسه بصيرة، يعني: رقباء يشهدون عليه بعمله: اليدان، والرجلان، والعينان، والذكر.
ودخول الهاء في البصيرة، لأن المراد بالإنسان ههنا الجوارح.
{وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 15] ولو اعتذر، وجادل عن نفسه، لم ينفعه ذلك، يقال: معذرة ومعاذر ومعاذير.
قال الفراء: أي: وإن اعتذر، فعليه من يكذب عذره.
وقال الضحاك، والسدي: يعني: ولو أرخى الستور.
وقال الزجاج: المعاذير: الستور، واحدها معذار.
وقال المبرد: هي لغة يمانية.
والمعنى على هذا القول: وإن أسبل الستر ليخفي ما يعمل، فإن نفسه شاهدة عليه.
قوله: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ {16} إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ {17} فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ {18} ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ {19} كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ {20} وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ {21} وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {23} وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ {24} تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ {25} } [القيامة: 16-25] .
{لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16] قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعالج من التنزيل شدة، وكان يشتد عليه حفظه، فكان إذا نزل عليه الوحي، يحرك لسانه وشفتيه، قبل فراغ جبريل عليه السلام من قراءة الوحي، مخافة أن لا يحفظ.
فقال الله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ} [القيامة: 16] أي: بالوحي، أو بالقرآن، لسانك يعني: بالقراءة، لتعجل به أي: تأخذه، كما قال: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 114] .
{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} [القيامة: 17] أي: نجمعه في صدرك، {وَقُرْءَانَهُ} [القيامة: 17] وقراءته عليك، أي: أن جبريل يقرؤه(4/392)
عليك حتى تحفظه.
{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} [القيامة: 18] قال ابن عباس: فإذا قرأه جبريل.
{فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ} [القيامة: 18] أي: قراءته، والمعنى: اقرأه إذا فرع جبريل من قراءته، فكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد هذا إذا نزل عليه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأ كما وعده الله تعالى.
{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] أي: علينا أن نحفظه عليك، حتى تبين للناس بتلاوتك إياه، وقراءتك عليهم، وقال الزجاج: علينا أن ننزله قرآنا عربيًا، فيه بيان للناس.
1261 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أبو مُحَمَّدِ بْنُ حَيَّانَ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا عُبَيْدَةُ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ يُعَالِجُ مِنْ ذَلِكَ شِدَّةً كَانَ يَتَلَقَّاهُ وَيُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ كَيْلا يَنْسَى، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16] يَقُولُ: لِتَعْجَلَ بِأَخْذِهِ
{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ} [القيامة: 17] إن علينا أن نجمعه في صدرك، فتقرأه، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ} [القيامة: 18] يقول: إذا أنزلناه فاستمع له.
{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] أي: نبينه بلسانك.
فكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله.
رواه البخاري، ومسلم، عن قتيبة، عن أبي عوانة، عن موسى بن أبي عائشة.
قوله: كلا قال عطاء: لا يؤمن أبو جهل بالقرآن وببيانه.
بل يحبون العاجلة يعني: كفار مكة يحبون الدنيا، ويعملون لها.
ويذرون العمل للآخرة، فيؤثرون الدنيا عليها، وقرئ بالتاء على تقدير: قل لهم يا محمد: بل تحبون وتذرون.
قوله عز وجل: وجوه يومئذ يعني: يوم القيامة، ناضرة ناعمة، غضة، حسنة، يقال: شجر ناضر، وروض ناضر.
يقال: وجهه ينضر، ونضر ينضر، ونضره الله، وأنضره ونضره.
والمفسرون يقولون: مضيئة، مشرقة، مسفرة.
{إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] قال ابن عباس، في رواية عطاء: يريد إلى الله ناظرة.
وقال في رواية الكلبي: تنظر إلى الله(4/393)
يومئذ، لا تحجب عنه.
وقال مقاتل: تنظر إلى ربها معاينة.
وقال الحسن: حق لها أن تنظر، وهي تنظر إلى الخالق.
وقال الزجاج: نضرت بنعيم الجنة، والنظر إلى ربها عز وجل.
1262 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَمْرَوَيْهِ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا مُسْلِمٌ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَيْسَرَةَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ صُهَيْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ، قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ ".
1263 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ، أنا عَبْدُ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْحَافِظُ، نا عَبْدَانُ، نا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا مُعَاوِيَةُ، نا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبْجَرَ، عَنْ ثُوَيْرِ بْنِ أَبِي فَاخِتَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً، لَمَنْ يَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ أَلْفَ سَنَةٍ يَرَى أَقْصَاهُ كَمَا يَرَى أَدْنَاهُ يَنْظُرُ فِي سُرُرِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَخَدَمِهِ، وَإِنَّ أَفْضَلَهُمْ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ فِي وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ.
رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ قَالَ: وَثُوَيْرُ وَإِنْ لَمْ يُخَرَّجْ فِي الصَّحِيحِ، فَلَمْ يُنْقَمْ عَلَيْهِ غَيْرُ التَّشَيُّعِ
{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} [القيامة: 24] كالحة، عابسة، كئيبة، مصفرة.
{تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 25] تستيقن أن يعمل بها عظيم من(4/394)
العذاب، والفاقرة: الداهية العظيمة، والأمر الشديد يكسر فقار الظهر، قال ابن زيد: هي دخول النار.
وقال الكلبي: هي أن تحجب عن رؤية ربها، فلا تنظر إليه.
قال الله تعالى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ {26} وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ {27} وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ {28} وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ {29} إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ {30} فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى {31} وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى {32} ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى {33} } [القيامة: 26-33] .
كلا أي: لا يؤمن الكافر بهذا، إذا بغلت النفس، أو الروح، التراقي جمع ترقوة، وهي: عظم وصل بين ثغرة النحر والعاتق، ويكنى ببلوغ النفس التراقي عند الإشراف على الموت.
{وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة: 27] طبيب يرقي، ويشفي برقيته، قال قتادة: التمسوا له الأطباء، فلم يغنوا عنه من قضاء الله شيئًا.
{وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة: 28] أيقن الذي بلغت روحه تراقيه، أنه الفراق من الدنيا.
{وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة: 29] قال عطاء: شدة الموت بشدة الآخرة.
وقال المفسرون: تتابعت عليه الشدائد.
وقال الشعبي: هما ساقاه عند الموت.
وقال الحسن: هما ساقاه إذا لفتا في الكفن.
{إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة: 30] هو مرجع العباد إلى الله تعالى، يساقون إليه.
قوله: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} [القيامة: 31] يعنى: أبا جهل، يقول: لم يصدق بالقرآن، ولا صلى لله.
ولكن كذب بالقرآن، وتولى عن الإيمان: {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ} [القيامة: 33] رجع إليهم، يتمطى يتبختر، ويختال في مشيه.(4/395)
{أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى {34} ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى {35} أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى {36} أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى {37} ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى {38} فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى {39} أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى {40} } [القيامة: 34-40] .
{أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة: 34] هذا تهديد من الله لأبي جهل، والمعنى: وليك المكروه يا أبا جهل وقرب منك.
قال المفسرون: أخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيد أبي جهل، ثم قال له: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى {34} ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى {35} } [القيامة: 34-35] توعده، فقال أبو جهل: بأي شيء تهددني، لا تستطيع أنت، ولا ربك أن تفعلا بي شيئًا، وإني لأعز أهل هذا الوادي.
فأنزل الله تعالى كما قال له رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
1264 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُقْرِي، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُعَيْمٍ، حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حَمْشَاذٍ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، نا أَبُو النُّعْمَانِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ، نا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة: 34] أَشَيْءٌ قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَشَيْءٌ أَنْزَلَهُ اللَّهُ؟ قَالَ: قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى ".
أيحسب الإنسان يعني: أبا جهل، {أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36] هملا، ولا يؤمر، ولا ينهى، ولا يحاسب بعمله في الآخرة، والسدى معناه: المهمل.
ألم يك هذا الإنسان في ابتداء خلقه، نطفة، {مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة: 37] يصب في الرحم، ومن قرأ بالتاء فلتأنيث النطفة.
{ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ} [القيامة: 38] فيه الروح، فسوى خلقه.
{فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [القيامة: 39] خلق من مائه أولادا: ذكورًا، وإناثًا.
أليس ذلك الذي فعل هذا، {بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40] وهذا تقرير لهم، أي: من قدر على الابتداء، قدر على البعث بعد الموت.
1265 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ، أنا أَبُو بَكْرٍ(4/396)
الْقَطِيعِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الْقُرَشِيُّ، نا شُعَيْبُ بْنُ بَيَانٍ الصَّفَّارُ، نا شُعْبَةُ، حَدَّثَنِي يُونُسُ الطَّوِيلُ جَلِيسٌ لِأَبِي إِسْحَاقَ الْهَمَذَانِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سُبْحَانَكَ وَبَلَى» .
1266 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَخْلَدِيُّ، أنا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ الْمَرْوَزِيُّ، نا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، نا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إذا قَرَأَ أَحَدُكُمْ {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40] فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ وَبَلَى.(4/397)
تفسير سورة الإنسان
إحدى وثلاثون آية، مدنية.
1267 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الزَّاهِدُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ هَلْ أَتَى كَانَ جَزَاؤُهُ عَلَى اللَّهِ جَنَّةً وَحَرِيرًا» .
بسم الله الرحمن الرحيم {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا {1} إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا {2} إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا {3} } [الإنسان: 1-3] .
هل أتى قال المفسرون، وأهل المعاني: قد أتى، فهل ههنا خبر، وليس باستفهام.
على الإنسان يعني: آدم، {حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1] قدر أربعين سنة، {لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان: 1] لا في السماء، ولا في الأرض، يعني: أنه كان جسدًا ملقى من طين، قبل أن ينفخ فيه الروح، قال عطاء، عن ابن عباس: إنما تم خلقه بعد عشرين ومائة سنة.
وسمع عمر بن الخطاب رجلًا يقرأ هذه الآية، فقال: ليت ذلك تم.
يعني: ليته بقي على ما كان عليه.
فكان لا يلد، ولا يبتلى بأولاده.
{إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ} [الإنسان: 2] يعني: ولد آدم، {مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإنسان: 2] أخلاط، وأحدها: مشج، وهو شيئان مخلوطان، يعني: اختلاط نطفة الرجل بنطفة المرأة، أحدهما أبيض والآخر أصفر، فما كان من عصب، وعظم، وقوة، فمن نطفة الرجل، وما كان من لحم، ودم، وشعر، فمن ماء المرأة، وتم الكلام، ثم قال: {نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 2] قال الفراء: المعنى: جعلناه سميعًا بصيرًا لنبتليه.
ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء، وهو السمع والبصر.
قوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} [الإنسان: 3] قال عطاء: بينا له سبيل الهدى.
{إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3] إما موحدًا طائعًا لله، وإما مشركًا بالله في عمله، والمعنى: أنه بين له سبيل التوحيد(4/398)
بنصب الأدلة، وبعث الرسل، شكر الإنسان فآمن، أو جحد فكفر.
ثم بين ما أعد للكافرين، فقال: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالا وَسَعِيرًا {4} إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا {5} عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا {6} يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا {7} وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا {8} إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا {9} إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا {10} فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا {11} وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا {12} } [الإنسان: 4-12] .
{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا} [الإنسان: 4] يعني: في جهنم، كقوله تعالى: {فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا} [الحاقة: 32] الآية، وتقرأ: سلاسلًا بالتنوين، وكذلك قواريرًا و {قَوَارِيرَا} [الإنسان: 15] وفيه وجهان: أحدهما: أن من العرب من يصرف جميع ما لا ينصرف، وهو لغة الشعر، إلا أنهم اضطروا إليه في الشعر فصرفوه، فجرت على ألسنتهم كذلك، والآخر: أن هذا الجمع أشبه الآحاد، لأنهم قالوا: صواحبات يوسف.
ويقولون: مواليات.
في جمع الموالي، فمن حيث جمعوه جمع الآحاد المنصرفة، جعلوه في حكمها، فصرفوه، وقوله: وأغلالًا يعني: في أيديهم تغل إلى أعناقهم، وسعيرًا وقودًا شديدًا.
ثم ذكر ما أعد للشاكرين، فقال: إن الأبرار يعني: المطيعين لله، {يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ} [الإنسان: 5] من إناء فيه شراب، {كَانَ مِزَاجُهَا} [الإنسان: 5] ما يمازجها، كافورًا قال(4/399)
عطاء، والكلبي: هو اسم عين ماء في الجنة.
وقال مقاتل، ومجاهد: يعني: الكافور الذي له رائحة طيبة، يمازجه ريح الكافور، وليس ككافور الدنيا.
ويدل على صحة القول الأول قوله: عينًا قال الفراء: وهي كالمفسرة للكافور.
وقال الأخفش: نصب {عَيْنًا} [الإنسان: 6] على وجه المدح، على أعني عينًا.
وقال الزجاج: الأجود أن يكون المعنى من عين يشرب بها عباد الله.
قال ابن عباس: أولياء الله.
{يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 6] يفجرون تلك العين، بحيث يريدون يقودونها حيث شاءوا، قوله: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] هذا من صفاتهم في الدنيا، أي: كانوا في الدنيا كذلك يوفون بطاعة الله من الصلاة والحج، وهو قول قتادة، ومجاهد، ومعنى النذر في اللغة: الإيجاب، والمعنى: ما أوجبه الله تعالى عليهم من الطاعات، وقال عكرمة: إذا نذروا في طاعات الله وفوا به.
{وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7] فاشيًا، منتشرًا، يقال: استطار الحريق.
إذا انتشر، واستطار الصبح، إذا انتشر ضوءه، قال مقاتل: كان شره فاشيًا في السموات: فانشقت، وتناثرت الكواكب، وفزعت الملائكة، وكورت الشمس والقمر، وفي الأرض: فنسفت الجبال، وغارت المياه، وتكسر كل شيء على الأرض من جبل، وبناء، ففشا شر يوم القيامة فيهما.
قوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8] على حب الطعام، والمعنى: يطعمون الطعام أشد ما تكون حاجتهم إليه، وصفهم الله تعالى بالأثرة على أنفسهم.
1268 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْغَازِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ الزَّاهِدُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى، نا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، نا عُبَيْدَةُ، نا هِشَامٌ، عَنِ الْجَارُودِ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ أَطْعَمَ مُسْلِمًا عَلَى جُوعٍ إِلا أَطْعَمَهُ اللَّهُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، وَمَا مِنْ مُسْلِمٍ كَسَا أَخَاهُ عَلَى عُرْيٍ إِلا كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ خُضْرِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ سَقَى مُسْلِمًا عَلَى ظِمَاءٍ مَاءً سَقَاهُ اللَّهُ الرَّحِيقَ» .
وقوله: مسكينًا يعني: فقيرًا، لا مال له، ويتيمًا لا أب له، وأسيرًا قال عطاء،(4/400)
عن ابن عباس، وذلك أن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أجر نفسه يسقي نخلًا بشيء من شعير ليله حتى أصبح، فلما أصبح وقبض الشعير، طحن ثلثه، فجعلوا منه شيئًا ليأكلوه، يقال له: الحريرة، فلما تم إنضاجه أتى مسكين، فأخرجوا إليه الطعام، ثم عمل الثلث الثاني، فلما تم انضاجه أتى يتيم، فسأل فأطعموه، ثم عمل الثالث الباقي، فلما تم إنضاجه أتى أسير من المشركين، فسأل فأطعموه، وطووا يومهم ذلك.
وهذا قول الحسن، وقتادة: أن الاسير كان من أهل الشرك.(4/401)
وقال أهل العلم: الآية تدل على أن إطعام الأسارى، وإن كانوا من غير أهل ملتنا، حسن يرجى ثوابه، فأما فريضة الكفارات والزكوات، فلا يجوز وضعها في فقراء المشركين.
وقال عطاء، وسعيد بن جبير: الأسير هو المسجون من أهل القبلة.
{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان: 9] قال المفسرون: إنهم لن يتكلموا بهذا، ولكن علمه الله تعالى من قلوبهم، فأثنى به عليهم وعلم من نياتهم، أنهم فعلوا ذلك خوفًا من الله، ورجاء ثوابه.
ومعنى: لوجه الله لطلب رضا الله، وخاصة لله مخلصًا من الرياء، وطلب الجزاء، وهو قوله: {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان: 9] وهو مصدر القعود، والخروج.
{إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا} [الإنسان: 10] قال مقاتل، والكلبي: تعبس فيه الوجوه، من هول ذلك اليوم، فلا تنبسط.
قمطريرًا يقبض الوجوه، والجباه بالتعبيس، وقال الفراء، وأبو عبيدة، والمبرد: يوم قمطرير وقماطر، إذا كان صعبًا شديدًا.
{فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ} [الإنسان: 11] بما أطاعوه في الدنيا، ولقاهم نضرة حسنًا، وبياضًا في الوجوه، وسرورًا لا انقطاع له.
{وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا} [الإنسان: 12] على طاعته، واجتناب معصيته، جنة وحريرًا يعني: لباس أهل الجنة.
{مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا {13} وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا {14} وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا {15} قَوَارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا {16} وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا {17} عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلا {18} } [الإنسان: 13-18] .
{مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ} [الإنسان: 13] مفسر في { [الكهف،] لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا} [سورة الإنسان: 13] لا يجدون الحر، والبرد، وقال(4/402)
مقاتل: يعني: شمسًا يؤذيهم حرهم، ولا زمهريرًا يؤذيهم برده.
لأنهما يؤذيان في الدنيا، والزمهرير: البرد الشديد.
{وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا} [الإنسان: 14] قال مقاتل: يعني: شجرها قربت منهم.
{وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا} [الإنسان: 14] قال ابن عباس: إذا همّ أن يتناول من ثمارها، نزلت إليه حتى يتناول منها ما يريد.
والمعنى قريب منهم، مذلل كيف شاءوا، كقوله: {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة: 23] .
{وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ} [الإنسان: 15] أقداح، لا عرى لها، كانت قواريرا أي تلك الأكواب هي قوارير، يعني: الزجاج قوارير من فضة، قال المفسرون: جعل الله قوارير أهل الجنة من الفضة، فاجتمع لها بياض الفضة وصفاء القوارير.
قال الزجاج: القوارير التي في الدنيا من الرمل، فأعلم الله أن تلك القوارير أن أصلها من فضة، ويرى من خارجها ما في داخلها.
قدروها تقديرًا قدروا الكأس على قدر ريهم، لا يزيد ولا ينقص من الري، وهو ألذ الشراب، والضمير في قدروا للسقاة والخدم الذين يسقونهم يقدرونها، ثم يسقون، وقال القرطبي: أي: كانت كما يشتهون، يعني: أن الأكواب على ما اشتهوا لم يعظم، ولم يثقل الكف حملها.
ويسقون يعني: أهل الجنة في الجنة، {كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا} [الإنسان: 17] قال مقاتل: لا يشبه زنجبيل الدنيا.
وقال ابن عباس: كلما ذكر الله في القرآن مما في الجنة وسماه، ليس له مثل في الدنيا.
ولكن الله سماه بالاسم الذي يعرف، والزنجبيل مما كانت العرب تستطيبه جدًا، فلذلك ذكره الله تعالى في القرآن، ووعدهم أنهم يسقون في الجنة الكأس الممزوجة بزنجبيل الجنة.
{عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلا} [الإنسان: 18] يقول: يمزج الخمر بالزنجبيل، والزنجبيل من عين تسمى تلك العين سلسبيلًا، قال ابن الأعرابي: لم أسمع السلسبيل إلا في القرآن.
وقال الزجاج: سلسبيل صفة لما كان في غاية السلاسة.
والمعنى: أنها سلسة تتسلسل في الحلق، لذلك سميت سلسبيلًا.(4/403)
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا {19} وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا {20} عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا {21} إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا {22} } [الإنسان: 19-22] .
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الإنسان: 19] سبق تفسيره، وقد وصف الله تعالى في هذه ال { [الأقداح وما فيها من الشراب، والسقاة الذين يطوفون بها، وهو قوله:] إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا} [سورة الإنسان: 19] قال عطاء: يريد في بياض اللؤلؤ، وحسنه.
واللؤلؤ إذا نثر من الخيط على البساط كان أحسن منه منظومًا، وقال أهل المعاني: إنما شبهوا بالمنثور لانتثارهم في الخدمة، ولو كانوا صفًا لشبهوا بالمنظوم.
قوله: وإذا رأيت أي: إذا رميت ببصرك، ونظرت، ثم يعني: الجنة، رأيت نعيمًا لا يوصف، وملكًا كبيرًا قال مقاتل، والكلبي: هو أن رسول رب العزة من الملائكة لا يدخل عليهم إلا بإذنهم.
{عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ} [الإنسان: 21] من نصب عاليهم جعله ظرفًا، بمنزلة قولك فوقهم ثياب سندس، ويجوز أن تكون نصبًا على الحال من(4/404)
قوله: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا} [الإنسان: 12] ومن أسكن الياء كان في موضع رفع بالابتداء، وخبره: ثياب سندس، خضر بالرفع صفة لقوله: ثياب وبالخفض صفة لقوله: سندس وهو إن كان واحدًا أريد به الجنس، وإستبرق فيه الجر والرفع أيضًا، فالجر من حيث عطف على السندس، ومن رفع أراد العطف على الثياب، وهذه الآية مفسرة في { [الكهف،] وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [سورة الإنسان: 21] قال الفراء: يقول طهور ليس بنجس كما كانت في الدنيا مذكورة بالنجاسة.
والمعنى: أن ذلك الشراب طاهر، ليس كخمر الدنيا، قال مقاتل: هو عين ماء على باب الجنة، من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غش، وغل، وحسد.
وقال أبو قلابة، وإبراهيم: يؤتون بالطعام، فإذا كان آخر ذلك أتوا بالشراب الطهور، فيشربون، فتضمر بذلك بطونهم، ويغيض عرق من جلودهم مثل ريح المسك.
إن هذا يعني: ما وصف من نعيم أهل الجنة، {كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} [الإنسان: 22] بأعمالكم، وكان سعيكم عملكم في الدنيا بطاعة الله، مشكورًا قال عطاء: يريد شكرتكم عليه، وأثبتكم أفضل الثواب.
قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ تَنْزِيلا {23} فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا {24} وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلا {25} وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا {26} إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلا {27} نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلا {28} } [الإنسان: 23-28] .(4/405)
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ تَنْزِيلا} [الإنسان: 23] يعني: فصلناه في الإنزال، فلم ننزله جملة واحدة.
{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الإنسان: 24] مفسر في مواضع، {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ} [الإنسان: 24] من مشركي مكة، آثما يعني: عتبة بن ربيعة، أو كفورًا يعني: الوليد بن المغيرة، قالا له: ارجع عن هذا الأمر، ونحن نرضيك بالمال، والتزويج.
{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} [الإنسان: 25] اذكره بالتوحيد في الصلاة، بكرة وأصيلًا يعني: الفجر والعصر.
{وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ} [الإنسان: 26] يعني: المغرب والعشاء، {وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا} [الإنسان: 26] يعني: التطوع بعد المكتوبة.
إن هؤلاء يعني: كفار مكة، يحبون العاجلة الدار العاجلة، وهي الدنيا، ويذرون وراءهم يعني أمامهم، يومًا ثقيلًا عسيرًا، شديدًا، والمعنى: يتركونه، فلا يؤمنون به، ولا يعملون له.
ثم ذكر قدرته، فقال: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} [الإنسان: 28] الأسر: شدة الخلق، يقال: شدد الله أسر فلان.
أي: قوى خلقه، قال الحسن: يعني: أوصالهم بعضًا إلى بعض بالعروق والعصب.
وروي عن مجاهد، أنه قال في تفسير الأسر: الشرج، يعني: موضعي مصرفي البول والغائط، إذا خرج الأذى تقبضتا.
{وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلا} [الإنسان: 28] إذا شئنا أهلكناهم، وأتينا بأشباههم، فجعلناهم بدلًا منهم.
{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا {29} وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا {30} يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا {31} } [الإنسان: 29-31] .
إن هذه ال { [، تذكرة تذكير وموعظة،] فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا} [سورة الإنسان: 29] بالإيمان، والطاعة.
{وَمَا تَشَاءُونَ} [الإنسان: 30] اتخاذ السبيل، {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30] ذلك لكم، قال الزجاج: أي: لستم تشاءون إلا بمشيئة الله.
{يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الإنسان: 31] قال عطاء: من صدق نيته، أدخله جنته.
والظالمين المشركين من كفار مكة، {أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان: 31] .(4/406)
تفسير سورة المرسلات
خمسون آية، مكية.
1269 - أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَلِيٍّ الْخَفَّافُ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ وَالْمُرْسَلاتِ كُتِبَ لَيْسَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» .
بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا {1} فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا {2} وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا {3} فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا {4} فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا {5} عُذْرًا أَوْ نُذْرًا {6} إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ {7} فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ {8} وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ {9} وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ {10} وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ {11} لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ {12} لِيَوْمِ الْفَصْلِ {13} وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ {14} وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ {15} } [المرسلات: 1-15] .
والمرسلات عرفًا يعني: الرياح أرسلت متتابعة كعرف الفرس.
فالعاصفات عصفًا يعني: الرياح الشديدة الهبوب.
والناشرات نشرًا يعني: الرياح التي تأتي بالمطر، وهي تنشر السحاب.
فالفارقات فرقًا يعني: الملائكة تأتي بما يفرق بين الحق والباطل، والحلال والحرام، وقال مجاهد: هي الريح تفرق بين السحاب فتبدده.
وقال قتادة: هي آي القرآن، فرقت بين الحق والباطل، والحلال والحرام.
وهو قول الحسن.
فالملقيات ذكرًا يعني الملائكة تلقي الذكر إلى الأنبياء.
عذرًا أو نذرًا أي: للإعذار أو الإنذار، ومن أول ال { [إلى ههنا أقسام ذكرها الله تعالى على قوله: إنما توعدون أي: من أمر الساعة والبعث، لواقع لكائن.
ثم ذكر متى يقع فقال:] فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} [سورة المرسلات: 8] محي نورها.
{وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ} [المرسلات: 9] شقت.
{وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} [المرسلات: 10] قلعت من مكانها، كقوله تعالى: {يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه: 105] .
{وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} [المرسلات: 11] الهمزة في أقتت بدل من الواو المضمومة، وكل واو(4/407)
انضمت وكانت ضمتها لازمة جاز إبدالها بالهمزة، كقولهم: أجوه وأدور.
ومن قرأ بالواو فهو على الأصل ولم يبدله، والمعنى: جمعت لوقتها، وهو يوم القيامة ليشهدوا على الأمم، وهو قوله: {لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} [المرسلات: 12] أي: أخرت، وضرب لهم الأجل لجمعهم يعجب العباد من ذلك اليوم.
ثم بين، فقال: {لِيَوْمِ الْفَصْلِ} [المرسلات: 13] قال ابن عباس: يوم يفصل الرحمن بين الخلائق.
ثم عظم ذلك اليوم، فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} [المرسلات: 14] .
ثم ذكر حال الذين كذبوا بذلك اليوم، فقال: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 15] .
ثم أخبر بما فعل بالكفار من الأمم الخالية، فقال: {أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ {16} ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ {17} كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ {18} وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ {19} أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ {20} فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ {21} إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ {22} فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ {23} وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ {24} أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا {25} أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا {26} وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا {27} وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ {28} } [المرسلات: 16-28] .
{أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ} [المرسلات: 16] قال مقاتل: يعني: بالعذاب في الدنيا، حين كذبوا رسلهم.
{ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ} [المرسلات: 17] يعني: كفار مكة حين كذبوا بمحمد.
كذلك الذي فعلنا بمن تقدم من الأمم، نفعل بالمجرمين بالمكذبين من أهل مكة.
ثم ذكر بدو خلقهم، فقال: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [المرسلات: 20] يعني: النطفة.
{فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المرسلات: 21] يعني الرحم.
{إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ} [المرسلات: 22] يعني: مدة الحمل.
فقدرنا قال الكلبي: يعني: خلقه كيف يكون قصيرًا أو طويلًا، ذكرًا أو أنثى.
وفيه قراءتان: التخفيف والتشديد، قال الفراء: والمعنى فيهما واحد.
ومعنى: فنعم القادرون المقدرون.
ثم بين لهم صنعه ليعتبروا، فيوحدوه، فقال: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات: 25] معنى الكفت في اللغة: الضم والجمع، يقال: كفت الشيء.
إذا ضمه وجمعه، ومن هذا يقال للجراب والقدر: كفت.
قال الفراء: تكفتهم أحياء على ظهرها في دورهم، ومنازلهم، وتكفتهم أمواتًا في بطنها، أي: تحوزهم.
وهو قوله: أحياء وأمواتًا وهذا قول جماعة المفسرين.
{وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} [المرسلات: 27] جبالًا ثوابت، شامخات عاليات، وكل عال فهو شامخ، {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} [المرسلات: 27] تقدم تفسير هذا في آيتين، قال(4/408)
مقاتل: وهذا كله أعجب من البعث.
قال الله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 28] أي: بالبعث.
ثم ذكر ما يقال لهم في الآخرة، فقال: {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ {29} انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ {30} لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ {31} إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ {32} كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ {33} وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ {34} هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ {35} وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ {36} وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ {37} هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ {38} فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ {39} وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ {40} } [المرسلات: 29-40] .
{انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المرسلات: 29] تقول لهم الخزنة: انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون في الدنيا.
{انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ} [المرسلات: 30] من دخان نار جهنم قد سطع، ثم افترق ثلاث فرق، وهو قوله: {ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ} [المرسلات: 30] فكونوا فيه إلى أن يفرغ من الحساب.
ثم وصف ذلك الظل، فقال: لا ظليل لا يظل من الحر، {وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} [المرسلات: 31] لا يدفع عنكم من حره شيئًا، قال الكلبي: لا يرد لهب جهنم عنكم، والمعنى: أنهم إذا استظلوا بذلك الظل، لم يدفع عنهم حر اللهب.
ثم وصف النار، فقال: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} [المرسلات: 32] يقال: شررة وشرر.
وهي ما تطاير من النار متفرقًا، والقصر: البناء العظيم كالحصن، ثم شبهه في لونه بالجمالات الصفر، فقال: كَأَنَّهُ جِمَالات صُفْرٌ وهي جمع جمال، من قرأ جمالة فهو جمع جمل، كما قالوا: حجر وحجارة.
والصفر معناها: السود في قول المفسرين.
قال الفراء: الصفر سود الإبل، لا ترى أسود من الإبل إلا وهو مشرب صفرة، لذلك سمت العرب سود الإبل صفرًا.
قوله: {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ} [المرسلات: 35] قال المفسرون: إن في يوم القيامة مواقف، ففي بعضها يختصمون ويتكلمون، وفي بعضها يختم على أفواهم فلا يتكلمون.
أخبرنا أبو عمرو بن المروزي، فيما كتب إليّ، أن أبا الفضل الحدادي، أخبرهم عن محمد(4/409)
بن يزيد، أنا إسحاق بن إبراهيم، أنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن قتادة، قال: جاء رجل إلى عكرمة، فقال: أرأيت قول الله تعالى: {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ} [المرسلات: 35] وقوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 31] .
قال: إنها مواقف منها، فتكلموا واختصموا، ثم ختم على أفواههم، فتكلمت أيديهم وأرجلهم، فحينئذ لا ينطقون، وهو قوله: {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36] .
وهذا يوم الفصل بين أهل الجنة والنار، جمعناكم يعني: مكذبي هذه الأمة، والأولين الذين كذبوا أنبياءهم.
{فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} [المرسلات: 39] قال مقاتل: يقول: إن كانت لكم حيلة فاحتالوا لأنفسكم.
ثم ذكرالمؤمنين، فقال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ {41} وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ {42} كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {43} إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ {44} وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ {45} كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ {46} وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ {47} وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ {48} وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ {49} فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ {50} } [المرسلات: 41-50] .
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ} [المرسلات: 41] الشجر، وظلال أكنان القصور، وعيون ماء.
{وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [المرسلات: 42] ويقال لهم: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المرسلات: 43] في الدنيا بطاعتي.
ثم قال لكفار مكة: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا} [المرسلات: 46] أي: في الدنيا إلى منتهى آجالكم، {إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} [المرسلات: 46] مشركون بالله.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات: 48] إذا أمروا بالصلوات الخمس، لا يصلون.
{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [المرسلات: 50] يقول: إن لم يصدقوا بهذا القرآن، فبأي كتاب يصدقون، ولا كتاب بعد القرآن؟(4/410)
تفسير سورة النبإ
أربعون آية، مكية.
1270 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو عُمَرَوَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِيرِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ سَقَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَرْدَ الشَّرَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
بسم الله الرحمن الرحيم {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ {1} عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ {2} الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ {3} كَلَّا سَيَعْلَمُونَ {4} ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ {5} أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا {6} وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا {7} وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا {8} وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا {9} وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا {10} وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا {11} وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا {12} وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا {13} وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا {14} لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا {15} وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا {16} } [النبأ: 1-16] .
{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ: 1] أصله: عن ما، فأدغمت النون في الميم، وحذفت ألف ما، كقولهم: فيم وبم.
قال المفسرون: لما بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخبرهم بتوحيد الله، والبعث بعد الموت، وتلا عليهم القرآن، جعلوا يتساءلون بينهم، فيقولون: ماذا جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وما الذي أتى به؟ فأنزل الله عز وجل: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ: 1] .
قال الزجاج: اللفظ لفظ استفهام، والمعنى: تفخيم القصة، كما تقول: أي شيء زيد؟ إذا عظمت شأنه.
ثم ذكر أن يسألهم عما ذا فقال: {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} [النبأ: 2] وهو: القرآن في قول الجميع.
ومعناه: الخبر العظيم الشأن، لأنه ينبئ على التوحيد، وتصديق الرسول، والخبر عما يجوز وعما لا يجوز، وعن البعث والنشور، وقال الضحاك: يعني نبأ يوم القيامة.
ويدل على أن المراد به القرآن، قوله: {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} [النبأ: 3] وذلك أنهم اختلفوا في القرآن، فجعله(4/411)
بعضهم سحرًا، وبعضهم كهانة وشعرًا، وبعضهم أساطير الأولين.
ثم أوعد الله من كذب بالقرآن، فقال: كلا وهو نفي لاختلافهم، أي: ليس الأمر على ما قالوا، سيعلمون عاقبة تكذيبهم، حين تنكشف الأمور.
{ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} [النبأ: 5] وعيد على أثر وعيد.
ثم ذكر صنعه، ليعرفوا توحيده، فقال: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا} [النبأ: 6] فراشًا، وبساطًا، والجبال أوتادًا للأرض حتى لا تميد.
1271 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْوَاعِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الشَّيْبَانِيُّ، نا حَامِدُ بْنُ أَبِي حَامِدٍ الْمُقْرِئُ، نا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ، نا طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ مَدَّ الْأَرْضَ حَتَّى بَلَغَتْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ الطُّولِ وَالْعَرْضِ، قَالَ: وَكَانَتْ هَكَذَا تَمِيدُ، وَأَرَانِي ابْنُ عَبَّاسٍ بِيَدِهِ هَكَذَا وَهَكَذَا قَالَ: فَجَعَلَ اللَّهُ {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [النبأ: 7] وَكَانَ أَبُو قُبَيْسٍ مِنْ أَوَّلِ جَبَلٍ وُضِعَ عَلَى الْأَرْضِ.
وخلقناكم أزواجًا ذكرانًا وإناثًا.
{وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} [النبأ: 9] قال الزجاج: السبات هو أن ينقطع عن الروح والحركة في بدنه، أي: جعلنا نومك راحة لكم.
وقال ابن الأنباري: جعلنا نومك قطعًا لأعمالكم، لأن أصل السبت القطع.
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} [النبأ: 10] ساترًا بظلمته ستر اللباس من الثوب.
{وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 11] المعاش: العيش، وكل شيء يعاش به فهو معاش، والمعنى: وجعلنا النهار مبتغى معاش، أو مطلب معاش، قال عطاء، عن ابن عباس: يريد: تبتغون فيه من فضل ربكم، وما قسم لكم فيه من رزقه.
{وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} [النبأ: 12] يريد: سبع سموات، غلظ كل واحدة مسيرة خمس مائة عام.
{وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} [النبأ: 13] يعني: الشمس، قال الزجاج: الوهاج: الوقاد، وهو الذي وهج، يقال: وهجت تهج، وهجًا ووهجانًا.(4/412)
قال مقاتل: جعل فيه نورا وحرًا، والوهج يجمع النور والحرارة.
{وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ} [النبأ: 14] قال مجاهد، ومقاتل، والكلبي، وقتادة: يعني الرياح.
وقال الأزهري: هي الرياح ذوات الأعاصير.
ومن معناه الباء، كأنه قال: بالمعصرات، وذلك أن الريح تستدر المطر.
وقال أبو العالية، والربيع، والضحاك: هي السحاب.
وهي رواية الوالبي، عن ابن عباس.
قال الفراء: المعصر: السحابة التي تتجلب المطر.
وقوله: ماء ثجاجًا أي: صبابًا، يقال: ثج الماء يثج ثجوجًا.
إذا انصب.
لنخرج به أي: بذلك الماء، حبًا وهو ما يأكله الناس، ونباتًا ما تنبته الأرض، مما يأكل الناس، والأنعام.
وجنات ألفافًا ملتفة من الشجر، واحدها: لف، بالكسر، وقال أبو العباس: واحدها لفا: وحمعها لف.
ثم يجمع ألفافًا.
{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا {17} يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا {18} وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا {19} وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا {20} إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا {21} لِلطَّاغِينَ مَآبًا {22} لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا {23} لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا {24} إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا {25} جَزَاءً وِفَاقًا {26} إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا {27} وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا {28} وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا {29} فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا {30} } [النبأ: 17-30] .
{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ} [النبأ: 17] يوم القضاء بين الخلق، {كَانَ مِيقَاتًا} [النبأ: 17] لما وعد الله من الثواب، والعقاب.
{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} [النبأ: 18] زمرًا من كل مكان للحساب.
وفتحت السماء لنزول الملائكة، فكانت أبوابًا أي: ذات أبواب.
{وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ} [النبأ: 20] عن أماكنهم، فكانت سرابًا أي: هباء منبثًا لعين الناظر، كالسراب بعد شدتها وصلابتها.
{إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} [النبأ: 21] قال الزهري: المرصاد: المكان الذي يرصد الراصد فيه العدو.
وقال المبرد: مرصادًا يرصدون به، أي: هو معد لهم، يرصد بها خزنتها الكفار.
ثم بين أنها مرصاد لمن، فقال: {لِلطَّاغِينَ} [النبأ: 22] قال ابن عباس: للمشركين الضالين.
{مَآبًا} [النبأ: 22] مرجعًا يرجعون إليه.
{لابِثِينَ فِيهَا} [النبأ: 23] وقرأ حمزة لبثين فيها وهما بمعنى واحد، مثل(4/413)
طمع وطامع، وفره وفاره، أحقابًا واحدها حقب، وهو ثمانون سنة، وقد مضى الكلام فيه، قال المفسرون: الحقب الواحد بضع وثمانون سنة، السنة ثلاث مائة وستون يومًا، اليوم ألف سنة من أيام الدنيا.
وقال الحسن: لم يجعل الله لأهل النار مدة، بل قال: {أَحْقَابًا} [النبأ: 23] فوالله ما هو إلا أنه إذا مضى حقب، دخل آخر ثم آخر، كذلك إلى الأبد.
1272 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ التَّاجِرُ، أنا أَبُو مُحَمَّدٍ كوهي بْنُ الْحَسَنِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الْحَضْرَمِيُّ، نا زِيَادُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ هُوَ الْبَصْرِيُّ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ مُسْلِمٍ، نا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلا يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ دَخَلَهَا حَتَّى يَمْكُثَ فِيهَا أَحْقَابًا، وَالْحُقْبُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ سَنَةً وَالسَّنَةُ ثَلاثُ مِائَةٍ وَسِتُّونَ يَوْمًا، كُلُّ يَوْمٍ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، فلا يَتَّكِلْنَ عَلَى أَنْ يَخْرُجَ مِنَ النَّارِ» .
1273 - أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عُمَرَ الْخَشَّابُ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَالِحٍ الْأَوْدِيُّ، نا الْحَكَمُ بْنُ ظُهَيْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَفَعَهُ قَالَ: لَوْ عَلِمَ أَهْلُ النَّارِ أَنَّهُمْ يَلْبَثُونَ فِي النَّارِ عَدَدَ حَصَى الدُّنْيَا لَفَرِحُوا، وَلَوْ عَلِمَ أَهْلُ الْجَنَّةِ أَنَّهُمْ يَلْبَثُونَ فِي الْجَنَّةِ عَدَدَ حَصَى الدُّنْيَا لَحَزِنُوا
{لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا} [النبأ: 24] قال ابن عباس: يريد النوم والماء.(4/414)
وقال مقاتل: لا يذوقون في جهنم بردًا ينفعهم من حرها، ولا شرابًا ينفعهم من عطشها.
{إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} [النبأ: 25] تقدم تفسيرها.
{جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ: 26] قال مقاتل: وافق عذاب النار الشرك، لأنهما عظيمان، فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النار.
وقال الزجاج: أي: جوزوا جزاء وفق أعمالهم.
ثم أخبر عنهم، فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا} [النبأ: 27] لا يخافون أن يحاسبوا، والمعنى: كانوا لا يؤمنون بالبعث، ولا بأنهم يحاسبون.
{وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [النبأ: 28] بما جاءت به الأنبياء، كذابًا تكذبيًا، وفعال من مصادر التفعيل، قال الفراء: هي لغة فصيحة يمانية، قال لي أعرابي منهم على المروة يستفتيني: الحلق أحب إليك أم القصار؟ {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا} [النبأ: 29] أي: وكل شيء من الأعمال بيناه في اللوح المحفوظ، كقوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12] .
فذوقوا أي: فيقال لهم: ذوقوا جزاء ما كنتم تعملون، فلن نزيدكم إلا عذابًا.
{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا {31} حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا {32} وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا {33} وَكَأْسًا دِهَاقًا {34} لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا {35} جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا {36} } [النبأ: 31-36] .
إن للمتقين الذين لم يجعلوا لله شريكًا، مفازًا فوزًا بالجنة، ونجاة من النار.
ثم فسر ذلك الفوز، فقال: حدائق وأعنابًا يعني: أشجار الجنة، وثمارها، وكواعب جواري تكعبت ثديهن، أترابًا مستويات في السن.
وكأسًا دهاقًا ممتلئة.
1274 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَيَّانَ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، نا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ نِسْطَاسٍ،(4/415)
قَالَ: دَعَا ابْنُ عَبَّاسٍ غُلامًا، فَقَالَ: اسْقِنَا دِهَاقًا فَجَاءَ الْغُلامُ بِهَا مَلْأَى، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا الدِّهَاقُ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ: هِيَ الْمُتَتَابِعَةُ.
أخبرنا عمرو بن أبي عمرو، أنا جدي، أنا محمد بن إسحاق الثقفي، نا قتيبة، نا جرير، عن منصور، عن مجاهد في قوله: {وَكَأْسًا دِهَاقًا} [النبأ: 34] قال: ممتلئة.
{لا يَسْمَعُونَ فِيهَا} [النبأ: 35] يعني: في الجنة إذا شربوها، {لَغْوًا} [النبأ: 35] باطلًا من الكلام، ولا كذابًا ولا يكذب بعضهم بعضًا، قال ابن عباس: وذلك أن أهل الدنيا، إذا شربوا الخمر تكلموا بالباطل، وأهل الجنة إذا شربوا لم يتكلموا عليها بشيء يكرهه الله عز وجل.
وروي عن الكسائي التخفيف في هذه الآية، قال الفراء: وهو حسن المعنى، لا يكذب بعضهم بعضًا.
قال أبو عبيدة: الكذاب: مخفف مصدر المكاذبة.
وقال أبو علي: هو مصدر كذب، كالكتاب في مصدر كتب.
{جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ} [النبأ: 36] قال الزجاج: المعنى: جازاهم بذلك جزاء.
وكذلك: {عَطَاءً} [النبأ: 36] أي: وأعطاهم عطاء، {حِسَابًا} [النبأ: 36] قال أبو عبيدة: كافيًا.
وقال ابن قتيبة: كثيرًا، يقال: أحسبت فلانًا.
أي: أكثرت له وأعطيته ما يكفيه.
قال الزجاج: أي في ذلك الجزاء كل ما يشتهون.
{رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا {37} يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا {38} ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا {39} إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا {40} } [النبأ: 37-40] .
{رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ} [النبأ: 37] فيه ثلاثة أوجه من القراءة: رفعهما بالقطع من الخبر الذي قبله رب السموات ابتداء، الرحمن خبره، وخفضهما باتباع الجر الذي قبلهما، وهو قوله: من ربك، ومن خفض الأول أتبعه الجر الذي قبله، واستأنف بقوله: الرحمن، وجعل لا يملكون في(4/416)
موضع خبره، ومعنى: {لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} [النبأ: 37] قال مقاتل: لا يقدر الخلق على أن يكلموا الرب إلا بإذنه.
قوله: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ} [النبأ: 38] أي: في ذلك اليوم، قال مجاهد، وقتادة، وأبو صالح: الروح خلق من خلق الله عز وجل على صورة بني آدم، وليسوا بناس يقومون صفًا والملائكة صفًا، هؤلاء جند وهؤلاء جند.
وقال عطاء، عن ابن عباس: الروح ملك من الملائكة، ما خلق الله مخلوقًا أعظم منه، فإذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفًا، وقامت الملائكة كلهم صفًا واحدًا، فيكون عظم صفه مثل صفوفهم.
لا يتكلمون يعني: الخلق كلهم، {إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} [النبأ: 38] وهم: المؤمنون، والملائكة، وقال في الدنيا، صوابًا أي: شهد بالتوحيد، وقال: لا إله إلا الله.
{ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ} [النبأ: 39] الكائن، الواقع، يعني: يوم القيامة، {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} [النبأ: 39] مرجعًا بالطاعة، أي: فمن شاء رجع إلى الله بطاعته.
ثم خوف كفار مكة، فقال: {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا} [النبأ: 40] يعني: العذاب في الآخرة، وكل ما هو آت قريب، {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [النبأ: 40] يعني: أن كل أحد يرى عمله في ذلك اليوم، ما قدم من خير وشر مثبتًا عليه في صحيفته، فيرجو ثواب الله على صالح عمله، ويخاف العقاب على سوء عمله، وأما الكافر فإنه يقول: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: 40] قال الحسن: إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة، فقضى بين الثقلين الجن والإنس، وأنزلهم منازلهم، قال لسائر الخلق: كونوا ترابًا.
فكانوا ترابًا، فحينئذ يقول الكافر: يا ليتني كنت ترابًا.
وقال الزجاج: وقيل: إن معنى: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: 40] أي: ليتني لم أبعث.(4/417)
تفسير سورة النازعات
أربعون وست آيات، مكية.
1275 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الزَّعْفَرَانِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو السَّخْتِيَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ والنازعات لَمْ يَكُنْ حَبْسُهُ أَوْ حِسَابُهُ فِي الْقِيَامَةِ إِلا كَقَدْرِ صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ» .
بسم الله الرحمن الرحيم {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا {1} وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا {2} وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا {3} فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا {4} فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا {5} يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ {6} تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ {7} قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ {8} أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ {9} يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ {10} أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً {11} قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ {12} فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ {13} فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ {14} } [النازعات: 1-14] .
والنازعات غرقًا يعني: الملائكة الذين ينزعون أرواح الكفار عن أبدانهم، كما يغرق النازع في القوس، فيبلغ بها غاية المد، والغرق اسم أقيم مقام الإغراق.
والناشطات نشطًا هم الملائكة، ينشطون روح الكافر من قدميه إلى حلقه نشطًا، كما ينشط الصوف من سفود الحديد، والنشط الجذب، يقال: نشطت الدلو نشطًا.
إذا نزعتها.
والسابحات سبحًا يعني: الملائكة يقبضون أرواح المؤمنين يسلونها سلًا رفيقًا، ثم يدعونها حتى تستريح، كالسابح بالشيء في الماء يرفق به، وقال أبو صالح، ومجاهد: هم: الملائكة ينزلون من السماء مسرعين، كالفرس الجواد السابح.
فالسابقات سبقًا هم الملائكة سبقت ابن آدم بالخير، والعمل الصالح، والإيمان، والتصديق.
فالمدبرات أمرًا يعني: جبريل، وميكائيل، وملك الموت، وإسرافيل، يدبرون أمر الله في أهل الأرض، قال عطاء، عن ابن عباس: هم الملائكة وكلوا بأمور عرفهم الله العمل بها.
وقال عبد الرحمن بن سابط: أما جبريل فوكل بالرياح والجنود، وأما ميكائيل فوكل بالقطر والنبات، وأما ملك الموت فوكل بقبض الأنفس، وأما إسرافيل فهو يتنزل بالأمر عليهم.
وجواب هذه الأقسام محذوف على تقدير: لتبعثن،(4/418)
ولتحاسبن.
{يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} [النازعات: 6] يعني: النفخة الأولى التي تموت فيها جميع الخلائق، والراجفة: صيحة عظيمة، فيها تردد واضطراب، كالرعد إذا تمخض.
تتبعها الرادفة يعني: النفخة الثانية ردفت النفخة الأولى.
{قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} [النازعات: 8] مضطربة، قلقة، لما عاينت من أهوال يوم القيامة.
أبصارها خاشعة ذليلة، وذلك عند معاينة النار، كقوله: {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} [الشورى: 45] الآية، قال عطاء: يريد أبصار من مات على غير الإسلام.
ويدل على هذا أنه ذكر منكري البعث، فقال: {يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} [النازعات: 10] أنرد إلى أول حالنا، وابتداء أمرنا، فنصير أحياء كما كنا! يقال: رجع فلان من حافرته.
أي: رجع من حيث جاء، والحافرة عند العرب اسم لأول الشيء، وابتداء الأمر.
أئذا كنا عظامًا ناخرة ونخرة، أي: بالية، يقال نخر العضم، ينخر فهو ناخر.
ونخر إذا بلي وتفتت، قال الأخفش: هما جميعًا لغتان أيهما قرأت فحسن.
والمعنى: أنهم أنكروا البعث، فقالوا: أنرد أحياء إذا متنا، وبليت عظامنا! {قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} [النازعات: 12] قالوا: إن رددنا بعد الموت، لنخسرن بما يصيبنا بعد الموت مما يقول محمد.
ثم أعلم الله تعالى سهولة البعث عليه، فقال: {فَإِنَّمَا هِيَ} [النازعات: 13] يعني: النفخة الأخيرة، {زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} [النازعات: 13] صيحة واحدة من إسرافيل، يسمعونها وهم في بطون الأرض أموات فيحيون.
وهو قوله: {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 14] يعني: وجه الأرض وظهرها في قول الجميع.
قوله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى {15} إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى {16} اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى {17} فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى {18} وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى {19} فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى {20} فَكَذَّبَ وَعَصَى {21} ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى {22} فَحَشَرَ فَنَادَى {23} فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى {24} فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى {25} إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى {26} } [النازعات: 15-26] .
هل أتاك يقول: هل جاءك يا محمد: حديث موسى {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ} [النازعات: 16] دعاه ربه، فقال: يا موسى {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [النازعات: 17] علا، وتكبر، وكفر بالله.
{فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النازعات: 18] تتطهر من الشرك، وقال ابن عباس: تشهد أن لا إله إلا الله.
{وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ} [النازعات: 19] أدعوك إلى عبادته، وتوحيده، فتخشى عقابه؟ {فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى} [النازعات: 20] يعني: اليد، والعصا، فكذب بأنهما من عند الله،(4/419)
وعصى نبيه، فلم يطعه.
ثم أدبر أعرض عن الإيمان، يسعى يعمل بالفساد في الأرض.
فحشر فجمع قومه، وجنوده، فنادى لما اجتمعوا.
{فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24] أي: لا رب فوقي.
1276 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْمُؤَمَّلُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّوَّارِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، نا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْبَرَاءِ، نا عَبْدُ الْمُنْعِمِ بْنُ إِدْرِيسَ، نا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ أَمْهَلْتَ فِرْعَوْنَ أَرْبَعَ مِائَةِ سَنَةٍ وَهُوَ يَقُولُ: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24] يُكَذِّبُ بِآيَاتِكَ وَيَجْحَدُ رُسُلَكَ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ حَسَنَ الْخُلُقِ سَهْلَ الْحِجَابِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُكَافِئَهُ
قوله: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى} [النازعات: 25] يعني بالآخرة والأولى: كلمتى فرعون، حين قال: ما علمت لكم من إله غيري، وقوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24] وكان بينهما أربعون سنة.
أخبرنا أبو نصر بن عباس، أنا إسماعيل بن نجيد، نا محمد بن إبراهيم بن سعيد، نا أمية بن بسطام، نا يزيد بن زريع، نا روح، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: الآخرة والأولى قول فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24] و {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38] .
وهذا قول الأكثرين.
وقال الحسن، وقتادة: جعله الله نكال الدنيا والآخرة، أغرقه في الدنيا، وعذبه في الآخرة.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} [النازعات: 26] الذي فعل بفرعون، حين كذب وعصى، لعبرة عظة، {لِمَنْ يَخْشَى} [النازعات: 26] الله.
ثم خاطب منكري البعث، فقال: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا {27} رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا {28} وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا {29} وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا {30} أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا {31} وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا {32} مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ {33} } [النازعات: 27-33] .
{أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} [النازعات: 27] يعني: أخلقكم بعد الموت أشد عندكم، أم السماء في تقديركم، وهما في قدرة الله تعالى واحد؟ ! وهذا كقوله: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر: 57] ثم وصف خلق السماء، فقال: {بَنَاهَا {27} رَفَعَ سَمْكَهَا} [النازعات: 27-28] سقفها، وما ارتفع منها، فسواها بلا شقوق، ولا فطور.
وأغطش ليلها جعله مظلمًا، والغطش:(4/420)
الظلمة.
وأخرج ضحاها أبرز نهارها، وأضافهما إلى السماء لأن الظلمة والنور كلاهما ينزل من السماء.
{وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ} [النازعات: 30] بعد خلق السماء، دحاها بسطها، من الدحو وهو البسط.
{أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا} [النازعات: 31] قال ابن عباس: فجر الأنهار، والبحار، والعيون.
ومرعاها ما يأكل الناس والأنعام، وهو قوله: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} [النازعات: 33] .
{فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى {34} يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ مَا سَعَى {35} وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى {36} فَأَمَّا مَنْ طَغَى {37} وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا {38} فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى {39} وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى {40} فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى {41} يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا {42} فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا {43} إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا {44} إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا {45} كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا {46} } [النازعات: 34-46] .
{فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} [النازعات: 34] يعني: النفخة الثانية التي فيها البعث، والطامة: الحادثة التي تطم على ما سواها، أي: تعلو فوقه، ومن هذا يقال: فوق كل طامة، والقيامة تطم على كل شيء.
{يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ مَا سَعَى} [النازعات: 35] ما عمل من خير وشر.
{وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} [النازعات: 36] قال مقاتل: يكشف عنها الغطاء، فينظر إليها الخلق.
ثم ذكر مأوى الفريقين، فقال: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى} [النازعات: 37] في كفره، {وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النازعات: 38] على الآخرة، {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى {39} وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [النازعات: 39-40] تقدم تفسيره، {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] عن المحارم التي تشتهيها، قال مقاتل: هو الرجل يهم بالمعصية، فيذكر مقامه للحساب فيتركها.
قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} [النازعات: 42] متى وقوعها، وقيامها.
{فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} [النازعات: 43] لست في شيء من عملها، وذكرها أي: لا تعلمها.
{إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} [النازعات: 44] منتهى علمها.
{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] إنما أنت مخوف من يخاف قيامها، أي: إنما ينفع إنذارك من يخافها، فأما من لا يخاشها، فكأنك لم تنذره، قال الفراء: والتنوين وتركه في: {مُنْذِرُ} [النازعات: 45] صواب، كقوله: {بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق: 3] وبالغ أمره و {مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: 18] وموهن كيد كأنهم يعني: كفار قريش، يوم يرونها يعاينون القيامة، لم يلبثوا في الدنيا، {إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 46] إلا قدر آخر نهار أو أوله، كقوله: {يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [الأحقاف: 35] وقد مر بيانه، والمعنى: أن ما أنكروه سيرونه، حتى كأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة ثم مضت، كأنها لم تكن.(4/421)
تفسير سورة عبس
أربعون وثنتان آية، مكية.
1277 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ عبس وتولى جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَوَجْهُهُ ضَاحِكٌ مُسْتَبْشِرٌ» .
بسم الله الرحمن الرحيم {عَبَسَ وَتَوَلَّى {1} أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى {2} وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى {3} أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى {4} أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى {5} فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى {6} وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى {7} وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى {8} وَهُوَ يَخْشَى {9} فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى {10} كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ {11} فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ {12} فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ {13} مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ {14} بِأَيْدِي سَفَرَةٍ {15} كِرَامٍ بَرَرَةٍ {16} } [عبس: 1-16] .
عبس يعني: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتولى أعرض، أن جاءه لأن جاءه، الأعمى وهو ابن أم مكتوم، أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنده رهط من أشراف قريش، وهو مقبل عليهم يدعوهم إلى الله، وإلى الإسلام، ويرجو أن يجيبوه إلى ذلك، إذ أتى الأعمى، فجعل يناديه وهو يقول: علمني يا رسول الله مما علمك الله.
ولا يدري أنه مشتغل عنه بغيره، فكلح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأعرض عنه، فأنزل الله تعالى هذه الآيات.
{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس: 3] يتطهر من الذنوب بالعمل الصالح، وما يتعلمه منك.
أو يذكر يتذكر، فيتعظ بما تعلمه من مواعظ القرآن، {فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس: 4] ومن قرأ بالنصب فعلى جواب لعل.
{أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى} [عبس: 5] قال ابن عباس: عن الله تعالى، وعن الإيمان، بما له من المال.
{فَأَنْتَ لَهُ(4/422)
تَصَدَّى} [عبس: 6] تقبل عليه بوجهك، وتميل إليه، يقال: تصدى له.
أي: تعرض له، وفيه قراءتان: التشديد على الإدغام، والتخفيف على الحذف.
{وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} [عبس: 7] أي: أن لا يؤمن ولا يهتدى، والمعنى: أي شيء عليك في ألا يسلم؟ فإنه ليس عليك إلا البلاغ.
{وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى} [عبس: 8] يعمل في الخير، يعني: ابن أم مكتوم.
وهو يخشى الله عز وجل.
{فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس: 10] تتشاغل، وتعرض عنه.
كلا لا تفعل ذلك، إنها إن آيات القرآن، تذكرة تذكير للخلق.
{فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} [عبس: 12] قال ابن عباس: فمن شاء الله ألهمه وفهمه القرآن حتى يذكره ويتعظ به.
ثم أخبر بجلالته عنده، فقال: في صحف كتب، مكرمة قال المفسرون: يعني: اللوح المحفوظ.
مرفوعة يعني: في السماء السابعة، مطهرة لا يمسها إلا المطهرون، وهم الملائكة.
بأيدي سفرة يعني: الكتبة من الملائكة، واحدهم سافر، مثل: كاتب وكتبة، وقال الفراء: السفرة ههنا الملائكة الذين يسفرون بالوحي بين الله وبين رسله، من السفارة وهي السعي بين القوم.
ثم أثنى عليهم، فقال: كرام أي: على ربهم، بررة مطيعين، جمع بار، قال مقاتل: كان ينزل القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليلة القدر، إلى الكتبة من الملائكة، ثم ينزل به جبريل إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ {17} مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ {18} مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ {19} ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ {20} ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ {21} ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ {22} كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ {23} فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ {24} أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا {25} ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا {26} فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا {27} وَعِنَبًا وَقَضْبًا {28} وَزَيْتُونًا وَنَخْلا {29} وَحَدَائِقَ غُلْبًا {30} وَفَاكِهَةً وَأَبًّا {31} مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ {32} } [عبس: 17-32] .
قوله: قتل الإنسان يقول: لعن الكافر.
يعني: عتبة بن أبي لهب، ما أكفره ما أشد كفره بالله، قال الزجاج: معناه: اعجبوا أنتم من كفره.
ثم بين من أمره ما كان ينبغي معه أن يعلم أن الله خالقه، فقال: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [عبس: 18] لفظه استفهام، ومعناه التقرير.
ثم فسر، فقال: {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس: 19] أطوارًا نطفة، ثم علقة إلى آخر خلقه، وذكرًا أو أنثى، وشقيًا أم سعيدًا، وقال الكلبي: قدر خلقه، ورأسه، وعينيه،(4/423)
ويديه، ورجليه.
{ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس: 20] قال السدي، ومقاتل: أخرجه من الرحم، وهداه للخروج من بطن أمه.
{ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21] جعل له قبرًا يوارى فيه، ولم يجعله ممن يلقى للسباع والطير.
{ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس: 22] بعثه بعد الموت.
كلا قال الحسن: حقًا.
{لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} [عبس: 23] ما عهد إليه في الميثاق الأول، ولما ذكر خلق ابن آدم ذكر رزقه ليعتبر، فقال: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عبس: 24] لينظر كيف خلق الله طعامه، الذي جعله سببًا لحياته.
ثم بين، فقال: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} [عبس: 25] ومن فتح أنا فقال الزجاج: الكسر على الابتداء، والاستئناف، والفتح على معنى البدل من الطعام، المعنى: فلينظر الإنسان إلى أنا صببنا الماء صبا.
وأراد بصب الماء المطر.
{ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا} [عبس: 26] بالنبات.
{فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا} [عبس: 27] يعني: الحبوب التي يتغذى بها.
وعنبًا وقضبًا وهو القت الرطب يقضب مرة بعد أخرى، يقطع يكون علقًا للدواب.
وزيتونًا وهو ما يعتصر منه الزيت، ونخلًا جمع نخلة.
وحدائق غلبًا يريد: الشجر العظام، الغلاظ الرقاب، وقال مجاهد، ومقاتل: الغلب الملتفة الشجر بعضه في بعض.
وفاكهة يعني: ألوان الفاكهة، وأبا وهو المرعى، والكلأ الذي لم يزرعه الناس مما يأكله الأنعام.
{مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 32] أي: منفعة لكم، ولأنعامكم.
ثم ذكر القيامة، فقال: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ {33} يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ {34} وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ {35} وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ {36} لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ {37} وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ {38} ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ {39} وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ {40} تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ {41} أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ {42} } [عبس: 33-42] .
{فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ} [عبس: 33] يعني: صيحة القيامة، وهي الصاخة لشدة صوتها تصخ الآذان.
ثم ذكر في أي وقت تجيء، فقال: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} [عبس: 34] إلى قوله: وبنيه أي: لا يلتفت إلى واحد من أدانيه، لعظم ما هو فيه.
{لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 37] لكل إنسان شأن يشغله عن الأقرباء،(4/424)
ويصرفه عنهم.
1278 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْوَاعِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَاكِمِ، نا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَوْدَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُبْعَثُ النَّاسُ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلا يُلْجِمُهُمُ الْعَرَقُ، وَيَبْلُغُ شَحْمَةَ الْأُذُنِ، قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاسَوْأَتَاهُ يَنْظُرُ بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ، قَالَ: شُغِلَ النَّاسُ عَنْ ذَلِكَ، وَتَلا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 37] .
1279 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدُونَ، أنا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، نا بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ، نا بَقِيُّةُ، عَنِ الزَّبِيدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: يُبْعَثُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلا، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،(4/425)
فَكَيْفَ بِالْعَوْرَاتِ؟ فَقَالَ: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 37] .
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} [عبس: 38] مشرقة، مضيئة، ضاحكة بالسرور، مستبشرة فرحة بما نالت من كرامة الله.
{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} [عبس: 40] سواد، وكآبة للهم، ترهقها تعلوها، وتغشاها، قترة سواد، وكسوف عند معاينة النار.
ثم بين من أهل هذه الحالة، فقال: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس: 42] جمع الكافر، والفاجر.(4/426)
تفسير سورة التكوير
عشرون وتسع آيات، مكية.
1280 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ قَرَأَ: «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ أَعَاذَهُ اللَّهُ أَنْ يَفْضَحَهُ حِينَ تُنْشَرُ صَحِيفَتُهُ» .
1281 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُقْرِي، أنا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَهْلٍ الْفَقِيهُ، أنا الْمُؤَمَّلُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ خَالِدٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَحِيرٍ الْقَاضِي، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ الصَّنْعَانِيَّ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلْيَقْرَأْ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] " رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى الْفَرَّاء، عَنْ هِشَامِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَحِيرٍ.
بسم الله الرحمن الرحيم(4/427)
{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ {1} وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ {2} وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ {3} وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ {4} وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ {5} وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ {6} وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ {7} وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ {8} بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ {9} وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ {10} وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ {11} وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ {12} وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ {13} عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ {14} } [التكوير: 1-14] .
{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] قال الزجاج: لفت كما تلف العمامة، يقال: كرت العمامة على رأسي، أكورها كورًا، وكورتها تكويرًا، إذا لففتها.
قال مقاتل، وقتادة، والكلبي: ذهب ضوءها.
وقال مجاهد: اضمحلت.
قال المفسرون: تجمع الشمس بعضها إلى بعض، ثم تلف، فيرمى بها.
قال ابن عباس: يكور الله الشمس، والقمر، والنجوم يوم القيامة في البحر، ثم يبعث عليها ريحًا، فتضربها فتصير نارًا.
{وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} [التكوير: 2] تهافتت، وتناثرت، وتساقطت، يقال: انكدر الطائر من الهواء.
إذا انقض، قال الكلبي، وعطاء: تمطر السماء يومئذ نجومًا، فلا يبقى نجم في السماء إلا وقع على الأرض.
وذلك أنها في قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من النور، وتلك السلاسل بأيدي ملائكة، فإذا مات من في السموات ومن في الأرض، تساقطت تلك السلاسل من أيدي الملائكة، لأنه مات من كان يمسكها.
{وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير: 3] عن وجه الأرض، فكانت هباء منبثًا.
وإذا العشار وهي النوق الحوامل إذا أتت عليها عشرة أشهر، وبعد الوضع تسمى عشارًا أيضًا، واحدها عشرًا، وهي أنفس مال عند العرب، وقوله: عطلت أي: تركت هملًا بلا راع، أهملها أهلها، لما جاءهم من أهوال يوم القيامة، وخوطبوا بأمر العشار، لأن أكثر عيشهم من الإبل.
وإذا الوحوش يعني: دواب البر، حشرت جمعت حتى يقتص بعضها من بعض، وقال ابن عباس: حشر البهائم موتها.
{وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6] قال ابن عباس: أوقدت، فصارت نارا تضطرم.
وقال الفراء: ملئت بأن صارت بحرًا واحدًا، وكثر ماؤها.
وهو قول الكلبي.(4/428)
{وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير: 7]
1282 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: سُئِلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير: 7] قَالَ: يُقْرَنُ بَيْنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ بِقَرِينِهِ الصَّالِحِ فِي الْجَنَّةِ، وَيُقْرَنُ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُ السُّوءَ بِصَاحِبِهِ الَّذِي كَانَ يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ فِي النَّارِ، فَذَلِكَ تَزْوِيجُ الْأَنْفُسِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: زُوِّجَتْ نُفُوسُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحُورِ الْعِينِ، وَقُرِنَتْ نُفُوسُ الْكَافِرِينَ بِالشَّيَاطِينِ
قوله: وإذا الموءودة كانت العرب إذا ولدت لأحدهم بنت دفنها حية، مخافة العار، والحاجة، يقال: وأد يئد وأدا فهو وائد.
والمفعول به موءودًا.
1283 - أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَرْوَزِيُّ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحُسَيْنِ أَخْبَرَهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَكَمِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَوْءُودَةُ هِيَ الْمَدْفُونَةُ، وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا هِيَ حَمَلَتْ وَكَانَ أَوَانُ وِلادَتِهَا حَفَرَتْ حَفِيرَةً، فَتَمَخَّضَتْ عَلَى رَأْسِ الْحَفِيرَةِ، فَإِنْ وَلَدَتْ جَارِيَةً رَمَتْ بِهَا فِي الْحَفِيرَةِ، وَإِنْ وَلَدَتْ غُلامًا حَبَسَتْهُ
وقوله: {سُئِلَتْ {8} بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ {9} } [التكوير: 8-9] قال الفراء: سئلت الموءودة، فقيل لها: بأي ذنب قتلت؟ ثم يجوز قتلت، كما تقول: سألته: بأي ذنب قتل؟ وبأي ذنب قتلت؟ ومعنى سؤالها: توبيخ قاتلها، لأنها تقول: قتلت بغير ذنب.
1284 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُطَّوِعِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ(4/429)
بِشْرِ بْنِ الْعَبَّاسِ الْبَصْرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّامِيُّ، نا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، نا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ يَزِيدَ الْجُعْفِيِّ، قَالَ: " جِئْتُ أَنَا وَأَخِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمَّنَا هَلَكَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَتْ تَقْرِي الضَّيْفَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَفْعَلُ، وَتَفْعَلُ، فَهَلْ ذَلِكَ نَافِعٌ أُمَّنَا؟ قَالَ: لا، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا وَارَتْ أُخْتًا لَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ تَبْلُغْ الْحِنْثَ، فَهَلْ ذَلِكَ نَافِعٌ أُمَّنَا؟ فَقَالَ: لا، الْوَائِدُ وَالْمَوْءُودَةُ فِي النَّارِ إِلا أَنْ تُدْرِكَ الْوَائِدَةُ الْإِسْلامَ فَيُغْفَرُ لَهَا ".
قوله: وإذا الصحف يعني: صحائف أعمال بني آدم، نشرت للحساب.
{وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} [التكوير: 11] قال الفراء: نزعت وطويت.
وقال الزجاج: قلعت كما يقلع السقف.
وقال مقاتل: يكشف عمن فيها.
ومعنى الكشط دفعك شيئًا عن شيء قد غطاه، كما يكشط الجلد عن السنام.
{وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} [التكوير: 12] أوقدت لأعداء الله من الكفار.
{وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} [التكوير: 13] قربت لأولياء الله من المتقين.
وجواب هذه الأشياء، قوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير: 14] أي: إذا كانت هذه الأشياء التي تكون في القيامة علمت في ذلك الوقت كل نفس ما أحضرته من خير، أو شر تجزى به.
ثم أقسم، فقال: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ {15} الْجَوَارِ الْكُنَّسِ {16} وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ {17} وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ {18} إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ {19} ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ {20} مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ {21} وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ {22} وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ {23} وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ {24} وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ {25} فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ {26} إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ {27} لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ {28} وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ {29} } [التكوير: 15-29] .
فلا أقسم ولا زائدة، معناه: فأقسم، {بِالْخُنَّسِ {15} الْجَوَارِ الْكُنَّسِ {16} } [التكوير: 15-16] يعني: النجوم وهي تخنس بالنار فتخفى ولا ترى، وتكتس في وقت غروبها، فهذا وقت خنوسها وكنوسها.
{وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17] أدير وذهب، وقال الحسن: أقبل بظلامه.(4/430)
قال أهل اللغة: هو من الأضداد، يقال: عسعس الليل إذا أقبل، وعسعس إذا أدبر.
ويدل على أن المراد ههنا أدبر، قوله: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 18] أي: امتد ضوءه حتى يصير نهارًا.
ثم ذكر جواب القسم، فقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير: 19] يعني: جبريل، يقول: إن القرآن نزل به جبريل، فأخبر به محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الله تعالى وقد تقدم هذا.
ثم وصف جبريل، فقال: {ذِي قُوَّةٍ} [التكوير: 20] أي: فيها كلف وأمر به، {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 20] يعني: في المنزلة، يقال: مكن فلان عند فلان تمكن مكانه.
{مُطَاعٍ ثَمَّ} [التكوير: 21] أي: في السموات تطيعه الملائكة، قال المفسرون: من طاعة الملائكة لجبريل، أنه أمر خازن الجنة ليلة المعراج بمحمد، حتى فتح لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبوابها فدخلها، ورأى ما فيها، وأمر خازن جهنم ففتح له عنها، حتى نظر إليها.
فذلك قوله: {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 21] أي: على وحي الله، ورسالته إلى أنبيائه.
1285 - أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ التَّاجِرُ فِيمَا أَجَازَ لِي، أنا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ الْوَاعِظُ، نا عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الدَّقَّاقُ، نا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عِيسَى، نا الْمُسَيِّبُ بْنُ شَرِيكٍ، نا بُرَيْدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجِبْرِيلَ: مَا أَحْسَنَ مَا أَثْنَى عَلَيْكَ رَبُّكَ {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ {20} مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ {21} } [التكوير: 20-21] فَمَا كَانَتْ قُوَّتُكَ؟ وَمَا كَانَتْ أَمَانَتُكَ؟ قَالَ: أَمَّا قُوَّتِي، فَإِنِّي بُعِثْتُ إِلَى مَدَائِنِ لُوطٍ وَهِيَ أَرْبَعُ مَدَائِنَ وَفِي كُلِّ مَدِينَةٍ أَرْبَعُ مِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ سِوَى الذَّرَارِيَّ، فَحَمَلْتُهُمْ مِنَ الْأَرْضِ السُّفْلَى حَتَّى سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ أَصْوَاتَ الدَّجَاجِ وَنُبَاحَ الْكِلابِ، ثُمَّ هَوَيْتُ بِهِنَّ فَقَلَبْتُهُنَّ، وَأَمَا أَمَانَتِي فَإِنِّي لَمْ أُومَرْ بِشَيْءٍ فَعَدَوْتُهُ إِلَى غَيْرِهِ
قوله: وما صاحبكم يعني: محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بمجنون والخطاب لأهل مكة، وهذا أيضًا من جواب القسم، أقسم الله أن القرآن نزل به جبريل، وأن محمدًا ليس كما يقول أهل مكة، وذلك أنهم قالوا: إن محمدًا مجنون، وهذا الذي أتى به يتقوله من نفسه.
ولقد رآه رأى محمد جبريل، بالأفق المبين حيث تطلع الشمس , وهذا مفسر في { [النجم.
ثم أخبر أنه ليس بمتهم فيما يأتي به من القرآن، فقال:] وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ} [سورة التكوير: 24] يعني: على خبر السماء، وما أطلع عليه مما كان غائبًا علمه عن أهل مكة من الأنباء، والقصص، مما لم يعرفوه، بظنين بمتهم، يقول: ما محمد على القرآن بمتهم.
أي: هو(4/431)
ثقة فيما يؤدي عن الله، ومن قرأ بالضاد فمعناه ببخيل، أي: أنه يخبر بالغيب فيبينه ولا يكتمه، كما يكتم الكاهن حتى يأخذ عليه حلوانًا.
ثم ذكر أنه ليس من تعليم الشيطان، فقال: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [التكوير: 25] قال الكلبي: يقول: إن القرآن ليس بشعر، ولا كهانة، كما قالت قريش.
ثم بكتهم بقوله: فأين تذهبون قال الزجاج: معناه: أي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي قد بينت لكم؟ ثم بين أن القرآن ما هو، فقال: {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [التكوير: 27] يقول: ما القرآن إلا موعظة للخلق أجمعين.
{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 28] على الحق والإيمان، والمعنى: أن القرآن إنما يتعظ به من استقام على حق.
ثم رد المشيئة إلى نفسه، فقال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29] أعلمهم أن المشيئة في التوفيق إليه، وأنهم لا يقدرون على ذلك إلا بمشيئة الله وتوفيقه، وهذا إعلام بأن الإنسان لا يعمل خيرًا إلا بتوفيق الله، ولا شرًا إلا بخذلانه.
أخبرنا أبو بكر التميمي، أنا أبو الشيخ الحافظ، نا أبو يحيى، نا العسكري، نا عبد الله بن المبارك، عن سعيد بن عبد العزيز، عن سليمان بن موسى، قال: لما نزلت: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 28] ، قال أبو جهل: الأمر إلينا، إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم.
فأنزل الله عز وجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29] .(4/432)
تفسير سورة الانفطار
تسع عشرة آية، مكية.
1286 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْعَزَايِمِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْمُؤَذِّنُ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْأَجْرِ بِعَدَدِ كُلِّ قَبْرٍ حَسَنَةً، وَبِعَدَدِ كُلِّ قَطْرَةِ مَاءٍ حَسَنَةً، وَأَصْلَحَ لَهُ شَأْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
بسم الله الرحمن الرحيم {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ {1} وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ {2} وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ {3} وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ {4} عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ {5} يَأَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ {6} الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ {7} فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ {8} كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ {9} وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ {10} كِرَامًا كَاتِبِينَ {11} يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ {12} } [الانفطار: 1-12] .
{إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الانفطار: 1] قال المفسرون: انفطارها انشقاقها كقوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ} [الفرقان: 25] .
{وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ} [الانفطار: 2] تساقطت.
{وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} [الانفطار: 3] فجر بعضها في بعض، فصارت بحرًا واحدًا، واختلط العذب بالملح.
{وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} [الانفطار: 4] قلب ترابها، وبعث الموتى الذين فيها، يقال: بعثر يبعثر بعثرة.
إذا قلب التراب، قال ابن عباس، ومقاتل: يريد عند البعث، بحث عن الموتى فأخرجوا منها.
{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار: 5] وهذا كقوله: {يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة: 13] وقد تقدم تفسيره.
1287 - أَخْبَرَنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْخَلِيلِ الْقَطَّانُ، نا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ الْهِلالِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، نا مَعْمَرٌ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار: 5] قَالَ: مَا قَدَّمَتْ مِنْ خَيْرٍ، وَمَا أَخَّرَتْ مِنْ سُنَّةٍ(4/433)
حَسَنَةٍ اسْتُنَّ بِهَا بَعْدَهُ، فَلَهُ أَجْرُ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، أَوْ سُنَّةٍ سَيِّئَةٍ عُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ فَعَلَيْهِ وِزْرٌ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ
ويدل على صحة هذا التفسير ما
1288 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُعَيْمٍ، أنا الْحَسَنُ بْنُ حَكِيمٍ، نا أَبُو الْمُوَجِّهِ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، أنا هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ حُذَيْفَةَ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، قَالَ: قَامَ سَائِلٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ، فَسَكَتَ الْقَوْمُ، ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا أَعْطَاهُ فَأَعْطَاهُ الْقَوْمُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اسْتَنَّ خَيْرًا، فَاسْتُنَّ بِهِ، فَلَهُ أَجْرُهُ، وَمِثْلُ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ، غَيْرَ مُنْتَقَصٍ مِنْ أُجُورِهِمْ، وَمَنِ اسْتَنَّ شَرًّا فَاسْتُنَّ بِهِ، فَعَلَيْهِ وِزْرُهُ، وَمِثْلُ أَوْزَارِ مَنِ اتَّبَعَهُ غَيْرَ مُنْتَقَصٍ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ» ، قَالَ: وَتَلا حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار: 5] .
قوله: يأيها الإنسان مخاطبة للكافر، {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6] ما خدعك، وسول لك الباطل حتى أضعت، فأوجب عليك؟ والمعنى: ما الذين أمنك من عقابه؟ يقال: غره بفلان.
إذا أمّنه المحذور من جهته وهو غير مأمون.
قال عطاء: نزلت في الوليد بن المغيرة.
وقال الكلبي، ومقاتل: نزلت في أبي الأشدين، ضرب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يعاقبه الله تعالى، وأنزل هذه الآية.
يقول: ما الذي غرك بربك الكريم، المتجاوز عنك، إذ لم يعاقبك عاجلا بكفرك؟ قال قتادة: غره عدوه المسلط عليه، يعني: الشيطان.
وقال مقاتل: غره عفو الله عنه، حين لم يعاقبه في أول أمره.
أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعَالِبِيُّ، أنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، نا أَبُو عَلِيِّ بْنُ جَيْشٍ الْمُقْرِي، نا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْفَضْلِ الْمُقْرِي، نا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، نا الْمُقَدَّمِيُّ، نا كَثِيرُ بْنُ هِشَامٍ، نا جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ، حَدَّثَنِي(4/434)
صَالِحُ بْنُ مِسْمَارٍ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلا هَذِهِ الآيَةَ {يَأَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6] ثم قَالَ: جَهْلُهُ وقال ابن مسعود: ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة، فيقول: يابن آدم ما غرك بي؟ يابن آدم ماذا عملت فيما علمت؟ يابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟ وقال إبراهيم بن الأشعث: قيل للفضيل بن عياض: لو أقامك الله يوم القيامة، فقال: ما غرك بربك الكريم؟ ماذا كنت تقول؟ قال: كنت أقول: غرني ستورك المرخاة.
فنظمه محمد ابن السماك، فقال:
يا كاتم الذنب أما تسحتي ... والله في الخلوة ثانيكا
غرك من ربك إمهاله ... وستره طول مساويكا
وتلا السري بن مغلس هذه الآية، فقال: غره رفق الله به.
وقال يحيى بن معاذ: لو أقامني الله بين يديه، فقال: ما غرك بي؟ قلت: غرني بك برك بي سالفًا وآنفًا.
وقال أبو بكر الوراق: لو قال لي: ما غرك بربك الكريم؟ لقلت: غرني كرم الكريم.
وقال منصور بن عمار: لو قال لي: ما غرك برك الكريم؟ قلت: يا رب، ما غرني إلا ما علمته من فضلك على عبادك.
وأنشد أبو بكر بن طاهر الأبهري في هذا المعنى:
يا من غلا في الغي والتيه ... وغره طول تماديه
أملى لك الله فبارزته ... ولم تخف غب معاصيه(4/435)
وقوله: الذي خلقك أي: من نطفة، ولم تك شيئًا، فسواك رجلًا، تسمع وتبصر، فعدلك جعلك معتدلًا، قال عطاء: جعلك قائمًا، معتدلًا، حسن الصورة.
وقال مقاتل: عدل خلقك في العينين، والأذنين، واليدين، والرجلين.
والمعنى: عدل بين ما خلق لك من الأعضاء التي في الإنسان منها اثنان، وقرأ الكوفيون فعدلك بالتخفيف، قال الفراء: فصرفك إلى أي صورة ما شاء.
قال: والتشديد أحسن الوجهين، لأنك تقول: عدلتك إلى كذا.
كما تقول: صرفتك إلى كذا.
ولا يحسن عدلتك فيه، ولا صرفتك فيه، وقال أبو علي الفارسي: معنى التخفيف: عدل بعضه ببعض، وكنت معتدل الخلقة متناسبها، فلا تفاوت فيها، ولا يلزم على هذا ما ألزم الفراء.
وقوله: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 8] قال مقاتل، والكلبي: في أي شبه من أب، أو أم، أو خال، أو عم.
يدل على صحة هذا التفسير ما
1290 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ زَكَرِيَّا الشَّيْبَانِيُّ، أنا أَبُو سَهْلٍ بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بِشْرٍ، نا أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْبُحْتُرِيِّ، نا أَبُو كَامِلٍ، نا وَهْبُ بْنُ سَوَّارٍ، حَدَّثَنِي وَالِدِي سَوَّارٌ، أَنَّ أَبَا قِلابَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ وُلِدَ لَهُ غُلامٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَقِيَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا أَبَا فُلانٍ مِثْلُ مَنْ أُشْبِهَ ابْنُكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ عَسَى أَنْ يُشْبِهَ إِلا أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ؟ قَالَ: فَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا مَا أُخِذَ فِي خَلْقِهِ أُحْضِرَ كُلُّ عِرْقٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آدَمَ ثُمَّ قَرَأَ {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 8] .
1291 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمُزَكِّي، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْهَيْثَمِ الْأَنْبَارِيُّ، نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شَاكِرٍ، نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ الْبَصْرِيُّ، نا(4/436)
أُنَيْسُ بْنُ سَوَّارٍ الْجَرْمِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ خَلْقَ عَبْدٍ جَامَعَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ فَطَارَ مَاؤُهُ فِي كُلِّ عِرْقٍ وَعُضْوٍ مِنْهَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ السَّابِعِ جَمَعَهُ اللَّهُ ثُمَّ أَحْضَرَهُ كُلَّ عِرْقٍ لَهُ دُونَ آدَمَ، وَفِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَهُ» .
1292 - أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ أَبُو مَعْمَرٍ الْمُفَضَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِجُرْجَانَ، أنا جَدِّي الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ النَّحَّاسُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، نا مُظْهِرُ بْنُ الْهَيْثَمِ الطَّائِيُّ، نا مُوسَى بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِرَجُلٍ: مَا وُلِدَ لَكَ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عَسَى أَنْ يُوَلَدَ لِي؟ إِمَّا غُلامٌ وَإِمَّا جَارِيَةٌ، قَالَ: فَمَنْ يُشْبِهُ، قَالَ: يُشْبِهُ أُمَّهُ أَوْ أَبَاهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَهْ لا تَقُولَنَّ هَذَا، إِنَّ النُّطْفَةَ إِذَا اسْتَقَرَتْ فِي الرَّحِمِ أَحْضَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ نَسَبٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ آدَمَ، أَمَا قَرَأْتَ هَذِهِ الآيَةَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 8] أَيْ مِنْ نَسَبِكَ.
وذكر الفراء، والزجاج قولًا آخر: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 8] : إما طويلًا وإما قصيرًا، وإما مستحسنا، وإما غير ذلك.
قوله: كلا أي: لا يؤمن هذا الإنسان الكافر، {بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} [الانفطار: 9] بالجزاء والحساب، فتزعمون أنه غير كائن.
ثم أعلم أن أعمالهم محفوظة عليهم، فقال: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار: 10] أي: من الملائكة يحفظون عليكم أعمالكم.
ثم نعتهم، فقال: كرامًا أي: على ربهم،(4/437)
كاتبين يكتبون أعمال بني آدم.
{يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 12] من خير أو شر، فيكتبونه عليكم، قال مجاهد: مع كل إنسان ملكان، ملك عن يمينه يكتب الخير، والذي عن شماله يكتب الشر.
1293 - أَخْبَرَنَا أَبُو حَسَّانٍ الْمُزَكِّي، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ نُجَيْدٍ، نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَوَّارٍ، نا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، نا الْمُغِيرَةُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: " يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً، فَلا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً، فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ ".
وقال قتادة: سمعت عقبة بن صهبان، يقول: أتى ابن عمر، رضي الله عنهما، على قوم يعقدون التسبيح.
فقال: أتعدون على الله حسناتكم؟ إن معكم حافظين كرامًا كاتبين.
{إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ {13} وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ {14} يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ {15} وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ {16} وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ {17} ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ {18} يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ {19} } [الانفطار: 13-19] .
قوله: إن الأبرار قال عطاء، ومقاتل: يريد أولياءه المطيعين في الدنيا.
لفي نعيم الجنة في الآخرة.
1294 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدِ بْنُ أَبِي رُشَيْدٍ، أنا أَبُو الْقَاسِمِ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شَدَّادٍ بِالْأُبُلَّةِ، أنا أَبُو يَعْلَى حَمْزَةُ بْنُ دَاوُدَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْكَرِيزِيُّ، نا أَبِي، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّمَا سُمُّوا أَبْرَارًا، لَأَنَّهُمْ بَرُّوا آبَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ ثُمَّ تَلا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار: 13]
قوله: وإن الفجار يعني: الذين كذبوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لفي جحيم عظيم من النار.
أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن محمد بن الفضل، أنا عبد المؤمن بن خلف، حدثني محمد بن عبد بن حميد، بكش، نا يحيى بن المغيرة المخزومي، نا عبد الجبار بن عبد العزيز بن أبي حازم، قال:(4/438)
قال سليمان بن عبد الملك لأبي حازم المدني: ليت شعري ما لنا عند الله؟ قال: اعرض عملك على كتاب الله عز وجل، فإنك تعلم ما لك عند الله.
قال: وأين أجده من كتاب الله؟ قال: عند قوله: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ {13} وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ {14} } [الانفطار: 13-14] قال سليمان: فأين رحمة الله؟ قال: قريب من المحسنين.
قوله: يصلونها يعني: يلزمونها مقاسين وهجها، يوم الدين يوم الجزاء على الأعمال، وهو يوم القيامة.
ثم عظم ذلك اليوم، فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الانفطار: 17] تعظيمًا له، لشدته، قال الكلبي: الخطاب للإنسان الكافر، لا لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم كرر تفخيمًا لشأنه، فقال: {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الانفطار: 18] .
ثم أخبر عنه، فقال: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ} [الانفطار: 19] أي: هو يوم لا تملك، {نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [الانفطار: 19] ومن نصب يومًا فهو ظرف، على معنى: أن هذه الأشياء المذكورة تكون يوم لا تملك نفس لنفس شيئًا، قال مقاتل: يعني نفس كافرة شيئًا من المنفعة.
{وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19] يقول: لا يملك الأمر يومئذ غيره، قال قتادة: ليس ثم أحد يقضي شيئًا، أو يصنع شيئًا، إلا الله رب العالمين.
والمعنى: أن الله لا يملك في ذلك اليوم أحدًا شيئًا من الأمور كما ملكهم في دار الدنيا.(4/439)
تفسير سورة المطففين
ثلاثون وست آيات، مكية.
1295 - أَخْبَرَنَا الْأُسْتَاذُ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِي، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ جَعْفَرٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ المطففين سَقَاهُ اللَّهُ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
بسم الله الرحمن الرحيم {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ {1} الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ {2} وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ {3} أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ {4} لِيَوْمٍ عَظِيمٍ {5} يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ {6} } [المطففين: 1-6] .
ويل للمطففين وهم الذين ينقصون المكيال والميزان، قال أبو عبيدة، والمبرد: المطفف الذي يبخس في الكيل والوزن.
قال الزجاج: وإنما قيل للذين ينقص الميكال والميزان: مطفف، لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان إلا الشيء اليسير الطفيف.
قال الكلبي: قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة وهم يسيئون كيلهم ووزنهم لغيرهم، ويستوفون لأنفسهم، فنزلت هذه الآيات.
وقال السدي: قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، وبها رجل يقال له: أبو جهينة، ومعه صاعان، يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
1296 - حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمُقْرِي بِقِرَاءَتِهِ عَلَيْنَا، نا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَخْلَدٍ، أنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ، نا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنِي يَزِيدُ النَّحْوِيُّ، أَنَّ عِكْرِمَةَ حَدَّثَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ كَانُوا مِنْ أَخْبَثِ النَّاسِ كَيْلًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1] فَأَحْسَنُوا الْكَيْلَ بَعْدَ ذَلِكَ
وروى(4/440)
الضحاك، ومجاهد، وطاوس، عن ابن عباس، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «خمس بخمس» .
قالوا: يا رسول الله، وما خمس بخمس؟ قال: «ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله عز وجل إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيه الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا الميكال إلا منعوا النبات، وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر» .
وقال مالك بن دينار: دخلت على جار لي، وقد نزل به الموت، فجعل يقول: جبلين من نار، جبلين من نار.
فقلت: ما تقول؟ أتهجر؟ قال: يا أبا يحيى، كان لي مكيالان، كنت أكيل بأحدهما وأكتال بالآخر.
قال: فقمت، فجعلت أضرب أحدهما بالآخر.
فقال: يا أبا يحيى كلما ضربت أحدهما بالآخر ازدادا عظمًا.
فمات في مرضه.
ثم بين أن المطففين من هم، فقال: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين: 2] الاكتيال: الأخذ بالكيل، قال الفراء: يريد اكتالوا من الناس، وعلى ومن في هذا الموضع يعتقبان.
وقال الزجاج: المعنى: إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل، ولم يذكر اتزنوا، لأن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع، فأحدهما يدل على الآخر.
قال المفسرون: يعني: الذين إذا اشتروا لأنفسهم استوفوا في الكيل والوزن، وإذا باعوا، أو وزنوا لغيرهم نقصوا.
وهو قوله: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ} [المطففين: 3] أي: كالوا لهم، أو وزنوا لهم، يقال: كلتك الطعام.
أي: كلت لك، كما تقول: نصحتك ونصحت لك.
قال الفراء: وهو من كلام أهل الحجاز، ومن جاورهم.
وقوله: يخسرون أي: ينقصون كقوله: {وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن: 9] وقد مر.
ثم خوفهم، فقال: ألا يظن ألا يعلم، أولئك الذين يفعلون ذلك، {أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ {4} لِيَوْمٍ عَظِيمٍ {5} } [المطففين: 4-5] وهو يوم القيامة، قال ابن عباس: يريد: ألا يستيقن من فعل هذا أنه مبعوث، ومحاسب.
وقال مقاتل: ألا يستيقن المطفف في الكيل والوزن بالبعث يوم القيامة؟ ثم أخبر عن ذلك اليوم، فقال: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ} [المطففين: 6] قال الزجاج: يوم منصوب بقوله: {مَبْعُوثُونَ} [المطففين: 4] ، المعنى: ألا يظنون أنهم مبعوثون يوم القيامة.
والمعنى: يوم يقوم الناس من قبورهم، لرب العالمين أي: لأمره، أو لجزائه، أو حسابه، وقال جماعة من المفسرين: يقومون في رشحهم إلى أنصاف آذانهم.
ويدل على صحة هذا الحديث المجمع على صحته وهو ما(4/441)
1297 - أَخْبَرَنَا الْفُضَيْلُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَارُودِيُّ، أنا أَبُو عَلِيٍّ الْفَقِيهُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نا أَبُو نَصْرٍ التَّمَّارُ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6] قَالَ: يَقُومُونَ حَتَّى يَبْلُغَ الرَّشْحُ إِلَى أَطْرَافِ آذَانِهِمْ.
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَن أَبِي نَصْرٍ التَّمَّار، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ.
1298 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْفَقِيهُ، أنا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ الْمُذَكِّرُ، أنا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ زُهَيْرٍ الطُّوسِيُّ، أَنَّ أَبَا حُذَافَةَ أَحْمَدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ السَّهْمِيَّ حَدَّثَهُمْ، قَالَ: نا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، أَنَّ نَافِعًا حَدَّثَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ} [المطففين: 6] يَوْمَ الْقِيَامَةِ {لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6] حَتَّى يَغِيبَ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَطْرَافِ أَنْصَافِ أُذَنَيْهِ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ، عَنْ مَعْنٍ، عَنْ مَالِكٍ.
1299 - أَخْبَرَنَاهُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَصْبَهَانِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَحْمَدَ التَّاجِرِ، نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسْتَفَاضِ، نا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، نا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ الْعَرَقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيَذْهَبُ فِي الْأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا، وَإِنَّهُ لَيْبَلُغُ إِلَى أَفْوَاهِ النَّاسِ أَوْ إِلَى آذَانِهِمْ» شَكَّ ثَوْرٌ فِي أَيَّهِمَا قَالَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ.
1300 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ الْمِهْرَجَانِيُّ، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أنا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، نا الْحَسَنُ بْنُ عِيسَى بْنِ مَاسَرْجِسَ، نا ابْنُ(4/442)
الْمُبَارَكِ، أنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، حَدَّثَنِي سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنِي الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَد ِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُدْنِيَتِ الشَّمْسُ مِنَ الْعِبَادِ حَتَّى تَكُونَ قَدْرَ مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ، قَالَ سُلَيْمٌ: فَلا أَدْرِي أَمَسَافَةُ الْأَرْضِ؟ أَمِ الْمِيلُ الَّذِي تُكْتَحَلُ بِهِ الْعَيْنُ؟ ثُمَّ قَالَ: تَصْهَرُهُمُ الشَّمْسُ، فَيَكُونُونَ فِي الْعَرَقِ كَقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى عَقِبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى حِقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ إِلْجَامًا، قَالَ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ، قَالَ: تُلْجِمُهُ إِلْجَامًا "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ مُوسَى، عَنْ يَحْيَى بْنِ حَمْزَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ
وروى القاسم بن أبي بزة، أن ابن عمر قرأ: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1] حتى بلغ: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6] قال: فبكى حتى خر، وامتنع من القراءة.
{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ {7} وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ {8} كِتَابٌ مَرْقُومٌ {9} وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ {10} الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ {11} وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ {12} إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ {13} كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ {14} كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ {15} ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ {16} ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ {17} } [المطففين: 7-17] .
قوله: كلا هو ردع وزجر، أي ليس الأمر على ما هم عليه، فليرتدعوا، وتمام الكلام ههنا، وعند أبي حاتم: كلا ابتداء يتصل بما بعده على معنى: حقًا، {إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين: 7] وهو قول الحسن.
وسجين: الأرض السابعة السفلى، وهو قول قتادة، ومقاتل، ومجاهد، والضحاك.
وروي ذلك مرفوعًا.
1301 - حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمُقْرِي، أنا الْحُسْيَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدِّينَوَرِيُّ، نا مُوسَى بْنُ مُحَمَّدٍ، نا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلَوَيْهِ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عِيسَى، نا الْمُسَيِّبُ، نا الْأَعْمَشُ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ زَاذَانَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سِجِّينٌ أَسْفَلَ سَبْعِ أَرَضِينَ»
وقال شمر بن عطية: جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار.(4/443)
فقال: أخبرني عن قول الله عز وجل: {إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين: 7] قال: إن روح الفاجر يصعد بها إلى السماء، فتأبى السماء أن تقبلها، ثم يهبط بها إلى الأرض، فتأبى الأرض أن تقبلها، فتدخل تحت سبع أرضين، فتهبط حتى ينتهى بها إلى سجين، وهو موضع خد إبليس.
وقال عطاء الخراساني: هي الأرض السفلى، وفيها إبليس وذريته.
والمعنى في الآية: إن كتاب عملهم يوضع في الأرض السابعة، وذلك علامة خسارهم، ودليل على خساسة منزلتهم، ولا يصعد به إلى السماء كما يصعد بكتاب المؤمن، وهو قوله: {إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين: 18] .
أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسين القاضي، أنا حاجب بن أحمد، نا محمد بن حماد، نا يحيى بن سليم، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: سجين صخرة تحت الأرض السابعة تقلب، فيجعل كتاب الفاجر تحتها.
1302 - أَخْبَرَنِي عَقِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْإِسْتِرَابَاذِيُّ، أنا مُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا الْقَاضِي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ وَهْبٍ الْوَاسِطِيُّ، نا مَسْعُودُ بْنُ مِشْكَانَ، نا نَصْرُ بْنُ خُزَيْمَةَ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ صَفْوَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقَرَظِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الْفَلَقُ جُبٌّ فِي جَهَنَّمَ مُغَطَّى، وَسِجِّينٌ جُبٌّ فِي جَهَنَّمَ مَفْتُوحٌ»
والدليل على أن سجينًا ليس مما كانت العرب تعرفه، قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} [المطففين: 8] قال الزجاج: أي: ليس ذلك ما كنت تعلم أنت ولا قومك.
وقوله: كتاب مرقوم ذكر قوم أن هذا تفسير السجين، وهو بعيد، لأنه ليس السجين من الكتاب المرقوم في شيء على ما حكينا عن المفسرين، والوجه أن يجعل هذا بيانًا للكتاب المذكور في قوله: {إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ} [المطففين: 7] على تقدير: هو كتاب مرقوم، أي: مكتوب قد ثبتت حروفه، وقال قتادة، ومقاتل: رقم لهم بشر، كأنه أعلم بعلامة يعرف بها أنه(4/444)
لكافر.
{فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [الطور: 11] ذكر صاحب النظم أن هذا منتظم بقوله: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ} [المطففين: 6] ، وأن قوله: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ} [المطففين: 7] وما اتصل به معترض بينهما، وما بعد هذا ظاهر التفسير إلى قوله: كلا قال مقاتل: أي: لا يؤمنون.
ثم استأنف، فقال: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] قال أبو عبيدة: ران على قلوبهم: غلب عليها، والخمر ترين على عقل السكران رينًا ورينونًا.
وقال أبو عبيد: كل ما غلبك وعلاك، فقد ران بك وران عليك.
وقال الفراء: هو أنه كثرت المعاصي منهم والذنوب، فأحاطت بقلوبهم، فذلك الرين عليها.
وقال الحسن: هو الذنب على الذنب، والذنب على الذنب حتى يعمى القلب.
وقال ابن مسعود: إن الرجل ليذنب الذنب، فينكت في قلبه نكته سوداء، ثم يذنب الذنب، فينكت أخرى، يصير قلبه مثل لون الشاة الربداء.
وقال إبراهيم التيمي في هذه الآية: إذا عمل الرجل الذنب، نكت في قلبه نكتة سوداء، ثم يعمل الذنب بعد ذلك، فينكت في قلبه نكتة سوداء، ثم كذلك حتى يسود قلبه، فإذا أتاح الله للعبد يسر له عملًا صالحًا، فيذهب من السواد ببعضه، ثم ييسر له العمل الصالح أيضًا، حتى يذهب السواد كله.
ونحو هذا روي مرفوعًا.
1303 - أَخْبَرَنَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أنا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكَارِزِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ قُتَيْبَةَ، نا إِدْرِيسُ بْنُ سُلَيْمَانَ، نا ضَمْرَةُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلانَ، عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ كَانَتْ نُكْتَةٌ فِي قَلْبِهِ، فَإِذَا تَابَ وَاسْتَغْفَرَ جُلِيَتْ، وَإِنْ زَادَ زَادَتْ، وَهُوَ الرَّيْنُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]
قوله: كلا قال ابن عباس: يريد لا(4/445)
يصدقون.
ثم استأنف: {إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] قال مقاتل: يعني: أنهم بعد العرض والحساب، لا ينظرون إليه نظر المؤمنين إلى ربهم.
وقال الكلبي، عن ابن عباس: إنهم عن النظر إلى رؤية ربهم لحجوبون.
والمؤمن لا يحجب عن رؤية ربه، وقال الحسين بن الفضل: كما حجبهم في الدنيا عن توحيده، حجبهم في الآخرة عن رؤيته.
وقال الحسن: لو علم الزاهدون والعابدون أنهم لا يرون ربهم في المعاد، لزهقت أنفسهم في الدنيا.
وسئل مالك بن أنس عن هذه الآية، فقال: لما حجب أعداءه فلم يروه، تجلى لأوليائه حتى رأوه.
سمعت أحمد بن محمد بن إبراهيم المقري، يقول: سمعت الحسن بن محمد بن جعفر السدوسي، يقول: سمعت أبا على الحسن بن أحمد النسوي، يقول: سمعت أبا نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي، يقول: سمعت الربيع بن سليمان، يقول: كنت ذات يوم عند الشافعي، رحمه الله، وجاءه كتاب من الصعيد، يسألونه عن قول الله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] فكتب فيه: لما حجب قومًا بالسخط، دل على أن قومًا يرونه بالرضا.
فقلت له: أو تدين بهذا يا سيدي؟ فقال: والله لو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى ربه في المعاد، لما عبده في الدنيا.
أخبرنا أبو بكر الحارثي، أنا أبو الشيخ الحافظ، نا عبد الله بن نصر، نا أبو إبراهيم المزني، عن ابن هرم، قال: قال الشافعي، رحمة الله عليه: قول الله عز وجل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] دلالة على أن أولياء الله يرون الله تعالى.
سمعت أبا عثمان الحيري الزاهد، سمعت أبا الحسن بن مقسم المقرئ ببغداد، يقول: سمعت أبا إسحاق الزجاج، يقول: في هذه الآية دليل على أن الله تعالى يرى في القيامة، ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة، ولا(4/446)
خسست منزلة الكفار بأنهم محجوبون عن الله تعالى.
ولما أعلم أن المؤمنين ينظرون إليه في قوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] أعلم أن الكفار محجوبون عنه.
ثم أخبر أنهم بعد حجبهم عن الله تعالى يدخلون النار، وهو قوله: {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} [المطففين: 16] وتقول لهم الخزنة: هذا العذاب، {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المطففين: 17] .
{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ {18} وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ {19} كِتَابٌ مَرْقُومٌ {20} يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ {21} إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ {22} عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ {23} تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ {24} يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ {25} خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ {26} وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ {27} عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ {28} } [المطففين: 18-28] .
قوله: كلا قال مقاتل: لا يؤمن بالعذاب الذي يصلاه.
ثم أعلم أين محل كتاب الأبرار، فقال: {إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ} [المطففين: 18] يعني: المطيعين له، لفي عليين قال المفسرون: يعني: السماء السابعة.
قال الفراء: {عِلِّيِّينَ} [المطففين: 18] : ارتفاع بعد ارتفاع، لا غاية له.
وقال الزجاج: أعلى الأمكنة.
وإعراب هذا الاسم كإعراب الجمع، لأنه على لفظ الجمع، ولا واحد له من لفظه، نحو ثلاثين، وعشرين، وقنسرين.
1304 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أنا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، نا مُوسَى بْنُ مُحَمَّدٍ، نا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلَوَيْهِ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عِيسَى، نا الْمُسَيِّبُ الْأَعْمَشُ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ زَاذَانَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «عِلِّيِّينَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ تَحْتَ الْعَرْشِ»
وقوله: {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين: 20] ليس بتفسير عليين، وهو يحتمل تأويلين: أحدهما: أن المراد به كتاب أعمالهم، كما ذكرنا في كتاب الفجار، والثاني: أنه كتاب في عليين كتب هناك ما أعد الله لهم من الكرامة والثواب، وهو معنى قول مقاتل: مكتوب لهم بالخير في ساق العرش.
ويدل على صحة هذا قوله: {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 21] يعني: الملائكة الذين هم في عليين يشهدون، ويحضرون ذلك(4/447)
المكتوب، أو ذلك الكتاب الذين إذا صعد به إلى عليين.
قوله: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ {22} عَلَى الأَرَائِكِ} [المطففين: 22-23] قال الحسن: ما كنا ندري ما الأرائك حتى قدم علينا رجل من اليمن، فزعم أن الأريكة عنده الحجلة، إذا كان فيها سرير.
قوله: ينظرون يعني: إلى ما أعطوا من النعيم والكرامة، وقال مقاتل: ينظرون إلى عدوهم حين يعذبون.
{تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين: 24] إذا رأيتهم عرفت أنهم من أهل النعمة، مما ترى من النور، والحسن، والبياض، وقال عطاء: وذلك أن الله تعالى زاد في جمالهم، وفي ألوانهم، ما لا يصفه واصف.
وسبق تفسير النضرة عند قوله تعالى: {نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22] .
{يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ} [المطففين: 25] قال أبو عبيدة، والمبرد، والزجاج: الرحيق من الخمر: ما لا غش فيه، ولا شيء يفسده.
{مَخْتُومٍ} [المطففين: 25] وهو الذي له ختام، أي: عاقبة.
وقال مجاهد: مختوم مطين.
كأنه ذهب إلى معنى الختم الطين، ويكون المعنى: أنه ممنوع من أن تمسه يد إلى أن يفك ختمه الأبرار.
ثم فسر المختوم، بقوله: ختامه مسك أي: آخر طعمه ريح المسك، إذا رفع الشارب فاه من آخر شرابه، وجد ريحه كريح المسك.
1305 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ مُحَمَّدٍ السُّلَمِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ، نا سَهْلُ بْنُ عَمَّارٍ، نا الْيَسَعُ بْنُ سَعْدَانَ، نا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَامَ لِلَّهِ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ سَقَاهُ اللَّهُ عَلَى الظَّمَأِ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ» .
ومعنى: ختامه عاقبته، وما يختم به، والمعنى: لذاذة المقطع، وذكاء الرائحة، والختام آخر كل شيء، وكذلك الخاتم والخاتم، وهو قراءة الكسائي.
وقال مجاهد: طيبه مسك.
وهو قول ابن زيد.
قال: ختامه عند الله مسك، وختامها اليوم في الدنيا طين.
ثم رغب فيه، فقال: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26] أي: فليرغب الراغبون في المبادرة إلى طاعة الله، والتنافس(4/448)
كالتشاح على الشيء والتنازع فيه، بأن يحب كل واحد أن ينفرد به دون صاحبه.
ومزاجه أي: ما يمزج به ذلك الشراب، من تسنيم وهو اسم عين في الجنة.
أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر الزاهد، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله الأصبهاني، أنا محمد بن إسحاق الثقفي، نا قتيبة، نا جرير، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق في قوله عز وجل: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ} [المطففين: 27] قال: عين في الجنة، يشربها المقربون صرفًا، ويمزج منها كأس أصحاب اليمين فتطيب.
وروى ميمون بن مهران، أن ابن عباس سئل عن قوله: {تَسْنِيمٍ} [المطففين: 27] فقال: هذا مما يقول الله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] .
ونحو هذا قال الحسن: خفايا أخفاها الله لأهل الجنة.
ثم فسره، فقال: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 28] أي: يشربها، كقوله: {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] وقد مر، قال عبد الله: يشربها المقربون صرفًا، وتمزج لأصحاب اليمين.
{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ {29} وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ {30} وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ {31} وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ {32} وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ {33} فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ {34} عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ {35} هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ {36} } [المطففين: 29-36] .
{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} [المطففين: 29] يعني: كفار قريش، {كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المطففين: 29] يعني: أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مثل عمار، وخباب، وبلال، وغيرهم، يضحكون على وجه السخرية منهم.
{وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ} [المطففين: 30] يعني: المؤمنين مروا بالكفار، يتغامزون من الغمز وهو الإشارة بالجفن والحاجب، أي: يشيرون إليهم بالأعين استهزاء.
وإذا انقلبوا يعني: الكفار، {إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين: 31] معجبين بما هم فيه يتفكهون بذكرهم.
وإذا رأوهم رأوا أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين: 32] قال الله تعالى: وما أرسلوا يعني: الكفار، عليهم يعني: على الذين آمنوا، حافظين يحفظون أعمالهم عليهم، أي: لم يوكلوا بحفظ أعمالهم.
فاليوم يعني: في الآخرة، {الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين: 34] قال المفسرون: إن أهل الجنة إذا أرادوا نظروا من منازلهم إلى أعداء الله وهم يعذبون في النار، فيضحكوا منهم، كما ضحكوا هم في(4/449)
الدنيا منهم.
وقال المبرد، وأبو صالح: يقال لأهل النار وهم فيها: اخرجوا.
وتفتح لهم أبوابها، فإذا رأوها قد فتحت، أقبلوا إليها يريدون الخروج، والمؤمنون ينظرون إليهم على الأرائك، فإذا انتهوا إلى أبوابها، غلقت دونهم.
فذلك قوله: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ {34} عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ {35} } [المطففين: 34-35] إلى عذاب عدوهم.
{هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين: 36] أي: هل جوزوا بسخريتهم بالمؤمنين في الدنيا؟ ومعنى الاستفهام ههنا: التقرير، وثوب بمعنى أثيب.(4/450)
تفسير سورة الانشقاق
عشرون وخمس آيات، مكية.
1306 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقْرِي، أنا أَبُو عَمْرٍو عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ السَّخْتِيَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ انَشَقَّتْ أَعَاذَهُ اللَّهُ أَنْ يُعْطِيَهُ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ» .
بسم الله الرحمن الرحيم {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ {1} وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ {2} وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ {3} وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ {4} وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ {5} يَأَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ {6} فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ {7} فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا {8} وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا {9} وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ {10} فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا {11} وَيَصْلَى سَعِيرًا {12} إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا {13} إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ {14} بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا {15} } [الانشقاق: 1-15] .
{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] قال المفسرون: انشقاقها من علامات القيامة.
وذكر ذلك في مواضع من القرآن.
وأذنت لربها قالوا: سمعت لربها، وأطاعت في الانشقاق.
من الإذن وهو الاستماع للشيء، والإصغاء إليه، وحقت وحق لها أن تطيع ربها الذي خلقها.
{وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ} [الانشقاق: 3] قال ابن عباس: تمد مد الأديم، ويزداد في سعتها.
وقال مقاتل: سويت كمد الأديم، فلا يبقى عليها بناء، ولا جبل إلا دخل فيها.
{وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا} [الانشقاق: 4] من الموتى، والكنوز، وتخلت وخلت منها، وجواب إذا محذوف تقديره: إذا كانت هذه الأشياء: يرى الإنسان الثواب والعقاب، ويدل(4/451)
على صحة هذا المحذوف قوله: {يَأَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ} [الانشقاق: 6] أي: ساع إليه في عملك، والكدح: عمل الإنسان من الخير والشر.
قال قتادة، والكلبي، والضحاك: عامل لربك عملًا.
فملاقيه فملاق عملك، أي: ثوابه وجزاءه.
قوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ {7} فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا {8} } [الانشقاق: 7-8] قال مقاتل: لأنه يغفر له ذنوبه، ولا يحاسب بها.
وقال المفسرون: هو أن يعرض عليه سيئاته، ثم يغفرها الله له، فهو الحساب اليسير.
1307 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْهَيْثِمِ الَأْنَبَارِيُّ، نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شَاكِرٍ، نا قَبِيصَةُ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ هَلَكَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ {7} فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا {8} } [الانشقاق: 7-8] قَالَ: ذَاكَ الْعَرْضُ "، رَوَاهُ الْبُخَارِيّ، عَن عَمْرِو بْنِ عَلِي، وَرَوَاه مُسْلِمٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بِشْرٍ كِلاهُمَا، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ.
1308 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْمُؤَذِّنُ، نا أَحْمَدُ بْنُ دَاوُدَ السِّمَنَانِيُّ، نا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ النَّرْسِيُّ، نا عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ الْوَرْدِ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ، يَقُولُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " كُلُّ مَنْ حُوسِبَ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ هَلَكَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى، يَقُولُ: {يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8] قَالَ: ذَاكَ الْعَرْضُ يَا عَائِشَةُ، فَأَمَّا كُلُّ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ هَلَكَ ".(4/452)
1309 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمُزَكِّي، أنا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أنا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُصْعَبٍ، نا يَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ، نا حَرَمِيٌّ، نا الْحَرِيشُ بْنُ الْخِرِّيتِ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا رَافِعَةٌ يَدَيَّ وَأَنَا أَقُولُ: اللَّهُمَّ حَاسِبْنِي حِسَابًا يَسِيرًا، قَالَ: يَا عَائِشَةُ أَتَدْرِينَ مَا ذَاكَ الْحِسَابُ الْيَسِيرُ؟ فَقُلْتُ: ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8] قَالَ: «يَا عَائِشَةُ مَنْ حُوسِبَ خصم ذَلِكَ الممر بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» .
1310 - حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَّاجُ إِمْلاءً، أنا أَبُو عَلِيٍّ حَامِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْهَرَوِيُّ، نا أَبُو الْمُثَنَّى، نا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْيَمَامِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ حَاسَبَهُ اللَّهُ حِسَابًا يَسِيرًا، وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ، قَالُوا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: تُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وَتَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ.
قَالَ: فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَمَا لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْ تُحَاسَبَ حِسَابًا يَسِيرًا، وَيُدْخِلَكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ " رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ بَالُوَيْه، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شَاذَانَ الْجَوْهَرِي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سُلَيْمَان.
قوله: {وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ} [الانشقاق: 9] يعني: في الجنة من الحور العين، والآدميات، مسرورًا بما أوتي من الخير والكرامة.
{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} [الانشقاق: 10] خلف ظهره، قال الكلبي: لأن يمينه مغلولة إلى عنقه، وتكون يده اليسرى خلف ظهره.
وقال مقاتل: تخلع يده اليسرى، فيكون من وراء ظهره.
{فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا} [الانشقاق: 11] إذا قرأ كتابه، قال: يا ويلاه، يا ثبوراه.
كقوله: {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} [الفرقان: 13] .
ويصلى سعيرًا ويقاسي حر نارها، وشدتها، وقرئ(4/453)
ويُصَلّى بضم الياء وتشديد اللام، كقوله: {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} [الحاقة: 31] .
{إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ} [الانشقاق: 13] يعني: في الدنيا، مسرورًا باتباع هواه، وركوب شهوته.
{إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق: 14] لن يرجع إلى الآخرة، أي: لن يبعث، قال مقاتل: حسب أن لا يرجع إلى الله.
والحور الرجوع.
قال الله تعالى: بلى ليحورن، وليبعثن، {إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} [الانشقاق: 15] بصيرًا به، من يوم خلقه إلى يوم بعثه، قال الزجاج: كان به بصيرًا قبل أن يخلقه، عالمًا بأن مرجعه إليه.
قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ {16} وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ {17} وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ {18} لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ {19} فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ {20} وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْءَانُ لا يَسْجُدُونَ {21} بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ {22} وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ {23} فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ {24} إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ {25} } [الانشقاق: 16-25] .
{فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} [الانشقاق: 16] يعني: الحمرة التي تكون بعد غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة، وهذا قول المفسرين، وأهل اللغة جميعًا.
قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: عليه ثوب مصنوع كأنه الشفق، وكان أحمر.
وروي مثل هذا مرفوعًا.
1311 - أَخْبَرَنَاهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَامِدٍ الْعَدْلُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَايِعُ، أنا عَلِيُّ بْنُ جَنْدَلٍ، نا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، نا أَبُو حُذَافَةَ، نا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ»
{وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} [الانشقاق: 17] قال الليث: الوسق: ضمك الشيء بعضه إلى بعض، واستوسقت الإبل إذا اجتمعت وانضمت، والراعي يَسِقُها أي: يجمعها.
والمفسرون يقولون: وما جمع وضم، وحوى ولف.
والمعنى: جمع وضم ما كان منتشرًا بالنهار في تصرفه، وذلك أن الليل إذا أقبل أوى كل شيء إلى مأواه.
{وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} [الانشقاق: 18] استوى، واجتمع، وتكامل، وتم،(4/454)
قال الفراء: اتساقه: امتلاؤه واجتماعه، واستواؤه ليلة ثلاث عشرة، وأربع عشرة إلى ست عشرة.
وهو افتعل من الوسق الذي هو الجمع.
{لَتَرْكَبُنَّ} [الانشقاق: 19] يا محمد، {طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق: 19] قال الشعبي، ومجاهد: سماء بعد سماء.
قال الكلبي: يعني يصعد فيها، ويجوز أن تزيد درجة بعد درجة، ورتبة بعد رتبة، في القربة من الله تعالى، ورفعة المنزلة.
1312 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْعَدْلُ، أنا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أنا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْجُنَيْدِ، نا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، نا هُشَيْمٌ، نا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: لَتَرْكَبَنَّ بِفَتْحِ الْبَاءِ {طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق: 19] قَالَ: يَعْنِي نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالًا بَعْدَ حَالٍ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ النَّضْرِ، عَنْ هُشَيْمٍ، وَمَنْ قَرَأَ بِضَمِّ الْبَاءِ فَهُوَ خِطَابٌ لِلنَّاسِ
والمعنى: لتركبن حالًا بعد حال، ومنزلًا بعد منزل، وأمرًا بعد أمر، يعني في الآخرة، يعني: أن الأحوال تنقلب بهم، فيصيرون في الآخرة على غير الحال التي كانوا عليها في الدنيا، وعن بمعنى بعد، وتم الكلام عند هذا، لتمام جواب القسم.
ثم قال: فما لهم يعني: كفار مكة، لا يؤمنون بمحمد، والقرآن، والمعنى: أي شيء لهم إذا لم يؤمنوا؟ وهو استفهام إنكار، أي: لا شيء لهم من النعيم والكرامة، إذا لم يؤمنوا.
{وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْءَانُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21] وقال الكلبي، وعطاء: لا يصلون لله عز وجل.
1313 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، أنا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، نا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُصْعَبٍ، نا يَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ، نا حَمَّادُ بْنُ(4/455)
مَسْعَدَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ: صَلَيْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ صَلاةَ الْعَتَمَةِ فَقَرَأَ: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] فَسَجَدَ فِيهَا، فَلَمَّا فَرَغَ، قُلْتُ لَهُ: مَا هَذِهِ السَّجْدَةُ؟ فَقَالَ: سَجَدْتُ بِهَا مَعَ أَبِي الْقَاسِمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ قَالَ: سَجَدَ بِهَا أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَا مَعَهُ فَلا أَزَالُ أَسْجُدُ بِهَا حَتَّى أَلْقَى أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي النُّعْمَانِ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ 7، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذ كِلاهُمَا عَنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيّ.
1314 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ التَّمِيمِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْفَرْيَابِيُّ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، نا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، نا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: " قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] فَسَجَدَ فِيهَا ".
قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: ثُمَّ قَرَأَهَا أَبُو هُرَيْرَةَ فَسَجَدَ، قَالَ يَحْيَى: ثُمَّ قَرَأَهَا أَبُو سَلَمَةَ فَسَجَدَ، قَالَ الْوَلِيدُ: ثُمَّ قَرَأَهَا الْأَوْزَاعِيُّ فَسَجَدَ، قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: ثُمَّ قَرَأَهَا الْوَلِيدُ فَسَجَدَ
قوله: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} [الانشقاق: 22] بالبعث، والقرآن، والثواب، والعقاب.
{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} [الانشقاق: 23] في صدورهم من التكذيب، ويضمرون في قلوبهم، ويكتمون، قاله ابن عباس، وقتادة، ومقاتل.
{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الانشقاق: 24] أي: اجعل لهم ذلك بدل البشارة للمؤمنين بالرحمة.
{إِلا الَّذِينَ آمَنُوا} [الانشقاق: 25] منهم، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [الانشقاق: 25] غير منقوص، ولا مقطوع، لأن نعيم الآخرة لا ينقطع.(4/456)
تفسير سورة البروج
عشرون وآيتان، مكية.
1315 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْعَزَايِمِيُّ، أنا عَمْرُو بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْبُرُوجِ أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْأَجْرِ بِعَدَدِ كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ، وَكُلِّ يَوْمِ عَرَفَةَ يَكُونُ فِي دَارِ الدُّنْيَا عَشْرُ حَسَنَاتٍ» .
بسم الله الرحمن الرحيم {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ {1} وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ {2} وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ {3} قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ {4} النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ {5} إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ {6} وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ {7} وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ {8} الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ {9} إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ {10} } [البروج: 1-10] .
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1] ذكرنا تفسير البروج عند قوله: {جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} [الفرقان: 61] وهي النجوم، أو منازلها.
واليوم الموعود يعني: يوم القيامة، في قول جميع المفسرين.
وشاهد ومشهود.
1316 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْفَارِسِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَطِيَّةَ، نا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، نا رَوْحٌ، نا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، أَخْبَرَنِي أَيُّوبُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ»
1317 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، أنا أَبُو عَلِيٍّ(4/457)
حَامِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْهَرَوِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ الْأَشَجُّ، نا يَحْيَى بْنُ نَصْرِ بْنِ حَاجِبٍ، نا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، مَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ عَلَى يَوْمٍ وَلا غَرَبَتْ أَفْضَلَ مِنْهُ، فِيهِ سَاعَةٌ لا يُوافِقُهَا مُؤْمِنٌ يَدْعُو اللَّهَ فِيهَا بِخَيْرٍ إِلا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، وَلا اسْتَعَاذَ مِنْ شَرٍّ إِلا أَعَاذَهُ مِنْهُ» .
وهذا قول الأكثرين.
وسمي يوم الجمعة شاهدًا، لأنه يشهد على كل عامل بما عمل فيه، وكذلك كل يوم، ويوم عرفة يوم مشهود، يشهد الناس فيه موسم الحج، وتشهده الملائكة.
1318 - حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمُقْرِي، أَخْبَرَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، نا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَهْلَوَيْهِ، نا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، نا أَبُو غَسَّانَ مَالِكُ بْنُ ضَيْغَمٍ الرَّاسِبِيُّ، نا أَبُو سَهْلٍ الْمُنْذِرَانِيُّ، عَنْ خَبَّابٍ، عَنْ رَجُلٍ، قَالَ: دَخَلْتُ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ، فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالنَّاسُ حَوْلَهُ، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ شَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ، قَالَ: نَعَمْ، أَمَا الشَّاهِدُ فَيَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَأَمَّا الْمَشْهُودُ فَيَوْمُ عَرَفَةَ، فَجُزْتُهُ إِلَى آخَرَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ شَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ، قَالَ: نَعَمْ، أَمَّا الشَّاهِدُ فَيَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ النَّحْرِ، فَجُزْتُهُمَا إِلَى غُلامٍ كَأَنَّ وَجْهَهُ الدِّينَارُ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ شَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ، قَالَ: نَعَمْ، أَمَّا الشَّاهِدُ فَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا الْمَشْهُودُ فَيَوْمُ الْقِيَامَةِ، أَمَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45] وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود: 103] فَسَأَلْتُ عَنِ الْأَوَّلِ، فَقَالُوا: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَأَلْتُ عَنِ الثَّانِي، فَقَالُوا: ابْنُ عُمَرَ، وَسَأَلْتُ عَنِ الثَّالِثِ، فَقَالُوا: الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
قوله: {قُتِلَ(4/458)
أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج: 4] معناه: لعن في قول الجميع.
كقوله: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات: 10] وقد مر، والأخدود الشق في الأرض يحفر مستطيلًا، وجمعه الأخاديد، ومصدره الخد وهو الشق، وأما حديث أصحاب الأخدود:
1319 - حَدَّثَنَا الْإِمَامُ أَبُو عُثْمَانَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِمْلاءً، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ نُصَيْرٍ الْقُرَشِيُّ، نا يُوسُفُ بْنُ عَاصِمٍ الرَّازِيُّ، نا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ صُهَيْبٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ لَهُ سَاحِرٌ، فَلَمَّا مَرِضَ السَّاحِرُ، قَالَ: إِنِّي قَدْ حَضَرَ أَجَلِي، فَارْفَعْ إِلَيَّ غُلامًا أُعَلِّمُهُ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ غُلامًا فَكَانَ يُعَلِّمُهُ وَيَخْتَلِفُ إِلَيْهِ، وَبَيْنَ السَّاحِرِ وَالْمَلِكِ رَاهِبٌ فَمَرَّ الْغُلامُ بِالرَّاهِبِ فَأَعْجَبَهُ كَلامُهُ وَأَمْرُهُ، فَكَانَ يُطِيلُ عِنْدَهُ الْقُعُودَ، فَإِذَا أَبْطَأَ عَنِ السَّاحِرِ ضَرَبَهُ، وَإِذَا أَبْطَأَ عَنْ أَهْلِهِ ضَرَبُوهُ، فَشَكَى ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إِذَا اسْتَبْطَأَكَ السَّاحِرُ، فَقُلْ: حَبَسَنِي أَهْلِي، وَإِذَا اسْتَبْطَأَكَ أَهْلُكَ، فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحِرُ، فَبَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ مَرَّ بِالنَّاسِ وَقَدْ حَبَسَتْهُمْ دَابَّةٌ عَظِيمَةٌ فَظِيعَةٌ، فَقَالَ: الْيَوْمَ أَعْلَمُ أَمْرُ السَّاحِرِ أَفْضَلُ أَمْ أَمْرُ الرَّاهِبِ، فَأَخَذَ حَجَرًا وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ، فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَةَ، فَرَمَى فَقَتَلَهَا وَمَضَى النَّاسُ، فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ الرَّاهِبَ، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ إِنَّكَ سَتُبْتَلَى، فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلا تَدُلَّ عَلَيَّ، قَالَ: وَجَعَلَ يُدَاوِي النَّاسَ، الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ عَمِيَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ، فَأَتَاهُ وَحَمَلَ إِلَيْهِ مَالًا كَثِيرًا، فَقَالَ: اشْفِنِي وَلَكَ مَا هَاهُنَا، فَقَالَ: إِنِّي لا أَشْفِي أَحَدًا وَلَكِنْ يَشْفِي اللَّهُ، فَإِنْ آمَنْتَ بِاللَّهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ، قَالَ: فَآمَنَ بِاللَّهِ، فَدَعَا اللَّهَ لَهُ فَشَفَاهُ فَذَهَبَ فَجَلَسَ إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ: يَا فُلانُ مَنْ شَفَاكَ؟ قَالَ: رَبِّي، قَالَ: أَنَا؟ قَالَ: لا، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ، فَقَالَ: أَوَ أَنَّ لَكَ رَبًّا غَيْرِي؟ قَالَ: نَعَمْ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى دَلَّهُ عَلَى الْغُلامِ، فَبَعَثَ إِلَى الْغُلامِ، فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ أَنْ تَشْفِيَ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، فَقَالَ: مَا أُشْفِي أَحَدًا وَلَكِنْ رَبِّي يَشْفِي، قَالَ: أَوَ أَنَّ لَكَ رَبًّا غَيْرِي؟ قَالَ: نَعَمْ رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى دَلَّهُ عَلَى الرَّاهِبِ، فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَأَشَرَهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ دَعَا بِالْأَعْمَى، فَقَالَ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَأَشَرَهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، وَقَالَ لِلْغُلامِ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى، وَأَرْسَلَ مَعَهُ نَفَرًا، وَقَالَ: اصْعَدُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلا فَدَهْدِهُوهُ(4/459)
مِنْهُ، قَالَ: فَعَلَوْا بِهِ الْجَبَلَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، قَالَ: فَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ فَتَدَهْدَهُوا أَجْمَعُونَ، وَجَاءَ إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ: مَا صَنَعَ أَصْحَابُكَ؟ فَقَالَ: كَفَانِيهِمُ اللَّهُ تَعَالَى، فَأَرْسَلَ بِهِ مَرَّةً أُخْرَى، قَالَ: انْطَلِقُوا بِهِ فَلَجِّجُوا بِهِ فِي الْبَحْرِ، فَإِنْ رَجَعَ وَإِلا فَغَرِّقُوهُ، فَانْطَلَقُوا بِهِ فِي قُرْقُورٍ، فَلَمَّا تَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ، قَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَانْكَفَأَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ، وَجَاءَ حَتَّى قَامَ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ، فَقَالَ: مَا صَنَعَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ، اجْمَعِ النَّاسَ ثُمَّ اصْلُبْنِي عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، ثُمَّ ضَعْهُ عَلَى كَبْدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قُلْ: بِسْمِ رَبِّ الْغُلامِ، فَإِنَّكَ سَتَقْتُلُنِي، قَالَ: فَجَمَعَ النَّاسَ وَصَلَبَهُ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، فَوَضَعَهُ عَلَى كَبْدِ الْقَوْسِ، وَقَالَ: بِسْمِ رَبِّ الْغُلامِ، وَرَمَى فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صُدْغِهِ وَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلامِ، فَقِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَخَافُ قَدْ نَزَلَ وَاللَّهِ بِكَ، آمَنَ النَّاسُ فَأَمَرَ بِالْأُخْدُودِ، فَخُدَّتْ عَلَى أَفْوَاهِ السِّكَكِ، ثُمَّ أَضْرَمَهَا، فَقَالَ: مَنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ، فَدَعُوهُ وَمَنْ أَبَى فَأَقْحِمُوهُ فِيهَا، فَجَعَلُوا يَقْتَحِمُونَهَا وَجَاءَتِ امْرَأةٌ بِابْنٍ لَهَا، فَقِيلَ لَهَا: ارْجِعِي عَنْ دِينِكِ، فَأَبَتْ، فَقَالَ لَهَا: يَا أُمَّهْ اصْبِرِي، فَإِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ هُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ
وقال محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر: أن حربة احتفرت في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فوجدوا عبد الله بن التامر واضعا يده على ضربة في رأسه، إذا أميطت يده انبعثت دمًا، وإذا تركت ارتدت مكانها، وفي يده خاتم من حديد فيه ربي الله، فبلغ ذلك عمر، فكتب أن أعيدوا عليه الذي وجدتم عليه.
وروي عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، في أصحاب الأخدود، قول آخر، وهو:
1320 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ، أنا أَبُو عَلِيٍّ الْفَقِيهُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاذٍ الْمَالِينِيُّ، نا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ حَرْبٍ الْمَرْوَزِيُّ، أنا الْهَيْثَمُ بْنُ جَمِيلٍ، نا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: لَمَّا انْهَزَمَ أَهْلُ اسفندهان، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَا هُمْ يَهُودُ وَلا نَصَارَى، وَلا لَهُمْ كِتَابٌ، وَكَانُوا مَجُوسًا، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: بَلَى قَدْ(4/460)
كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ وَلَكِنَّهُ رُفِعَ، وَذَلِكَ أَنَّ مَلِكًا لَهُمْ وَقَعَ عَلَى ابْنَتِهِ، أَوْ قَالَ عَلَى أُخْتِهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ لَهَا: كَيْفَ الْمَخْرَجُ مِمَّا وَقَعْتُ فِيهِ؟ قَالَتْ: تَجْمَعُ أَهْلَ مَمْلَكَتِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّكَ تَرَى ذَلِكَ حَلالًا، وَتَأْمُرُهُمْ أَنْ يُحِلُّوهُ، فَجَمَعَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُبَايِعُوهُ فَخَدَّ لَهُمْ أُخْدُودًا فِي الْأَرْضِ، وَأَوْقَدَ فِيهِ النِّيرَانَ وَعَرَضَهُمْ عَلَيْهَا، فَمَنْ أَبَى قَبُولَ ذَلِكَ قَذَفَهُ فِي النَّارِ، وَمَنْ أَجَابَ خَلَّى سَبِيلَهُ
وقال الحسن: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا ذكر عنده أصحاب الأخدود، تعوذ بالله من جهد البلاء.
قوله: {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} [البروج: 5] بدل من الأخدود، كأنه قال: قتل أصحاب النار ذات الوقود.
يعني: الذين أوقدوها لإحراق المؤمنين، وهو قوله: {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} [البروج: 6] يعني: عند الأخدود يعذبون المؤمنين، قال ابن عباس: عندها جلوس.
وقال مقاتل: يعني: عند النار قعود، يعرضونهم على الكفر.
وقال مجاهد: كانوا قعودًا على الكراسي عند الأخدود.
وهو قوله: وهم يعني: الملك وأصحابه الذين خدوا الأخدود، {عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [البروج: 7] من عرضهم على النار، وإرادتهم أن يرجعوا إلى دينهم، شهود حضور، قال الزجاج: أعلم الله قصة قوم بلغت بصيرتهم، وحقيقة إيمانهم، إلى أن صبروا على أن أحرقوا بالنار في الله.
{وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ} [البروج: 8] الآية، قال ابن عباس: ما كرهوا منهم إلا أنهم آمنوا.
وقال مقاتل: ما عابوا منهم.
وقال الزجاج: ما أنكروا عليهم ذنبًا إلا إيمانهم.
وهذا كقوله تعالى: {هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ} [المائدة: 59] ، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} [البروج: 9] من فعلهم بالمؤمنين، شهيد لم يخف عليه ما صنعوا.
ثم أعلم ما أعد لأولئك، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج: 10] حرقوهم بالنار، يقال: فتنت الشيء أحرقته.
ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 13] ، {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} [البروج: 10] من فعلهم ذلك، ومن الشرك الذي كانوا عليه، {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} [البروج: 10] بكفرهم، {وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج: 10] بما أحرقوا المؤمنين، قال الربيع بن أنس: وذلك أن النار ارتفعت من الأخدود إلى الملك وأصحابه فأحرقتهم.
وهو قول الكلبي.
ثم ذكر ما أعد للمؤمنين الذين حرقوا بالنار، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ {11} إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ {12} إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ {13} وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ {14} ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ {15} فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ {16} هَلْ أَتَاكَ(4/461)
حَدِيثُ الْجُنُودِ {17} فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ {18} بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ {19} وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ {20} بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَجِيدٌ {21} فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ {22} } [البروج: 11-22] .
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البروج: 11] الآية، {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج: 12] قال ابن عباس: إن أخذه بالعذاب، إذا أخذ الظلمة، والجبابرة لشديد.
كقوله: {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] .
{إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ} [البروج: 13] الخلق، يخلقهم أولًا في الدنيا، ويعيدهم أحياء بعد الموت.
وهو الغفور لذنوب المؤمنين، وأوليائه من أهل طاعته، الودود المحب لهم، وقال الأزهري في تفسير أسماء الله: يجوز أن يكون ودود فعولًا بمعنى: مفعول، كركوب، وحلوب، ومعناه: أن عباده الصالحين يودونه ويحبونه، لما عرفوا من فضله، ولما أسبغ عليهم من نعمائه، ويجوز أن تكون فعولًا بمعنى فاعل، أي: محبًا لهم.
قال: وكلتا الصفتين مدح، لأنه جل ذكره إن أحب عبادة المطيعين فهو فضل منه، وإن أحبه عباده العارفون، فلما تقرر عندهم من كريم إحسانه.
قوله: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج: 15] أكثر القراءة الرفع في: المجيد على صفة: ذو العرش، لأن الله تعالى هو الموصوف بالمجد، ولأن المجيد لم يسمع في غير صفة الله تعالى، وإن سمع الماجد، ومن كسر المجيد جعله من صفة العرش، قال عطاء، عن ابن عباس: من قرأ بالخفض، فإنما يريد العرش وحسنه.
ويدل على صحة هذا: أن العرش وصف بالكرم في قوله: {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 116] فجاز أن يوصف بالمجد، لأن معناه الكمال، والعرش على ما ذكر أحسن شيء، وأكمله، وأجمعه لصفات الحسن.
{فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 16] أي: من الإبداء والإعادة، وقال عطاء: لا يعجزه شيء يريده، ولا يمتنع منه شيء طلبه.
1321 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمُحَارِبِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا هَنَّادٌ، نا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، عَنْ أَبِي السَّفَرِ، قَالَ: دَخَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْمٌ يَعُودُونَهُ، فَقَالُوا: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ أَلا تَدْعُو لَكَ طَبِيبًا يَنْظُرُ إِلَيْكَ، قَالَ: قَدْ نَظَرَ إِلَيَّ، قَالُوا: وَأَيُّ شَيْءٍ قَالَ لَكَ؟ قَالَ: قَالَ: إِنِّي فَعَّالٌ لِمَا أُرِيدُ
ثم ذكر خبر الجموع الكافرة، فقال: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ} [البروج: 17] يريد: قد أتاك، وهم الذين تجندوا على أنبياء الله.
ثم بين من هم، فقال: {فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ {18} بَلِ(4/462)
الَّذِينَ كَفَرُوا} [البروج: 18-19] يعني: مشركي مكة، في تكذيب لك وللقرآن، أي: لم يعتبروا بمن كان قبلهم من الكفار.
{وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج: 20] يقدر أن ينزل بهم، ما أنزل بمن قبلهم.
{بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَجِيدٌ} [البروج: 21] قال ابن عباس، ومقاتل: كريم، لأنه كلام الرب، ليس هو كما يقولون: شعر، وكهانة، وسحر.
{فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 22] عند الله، وهو أم الكتاب، منه نسخ القرآن والكتب، وهو الذي يعرف باللوح المحفوظ من الشياطين، ومن الزيادة فيه والنقصان، وقرأ نافع: محفوظ رفعًا على نعت القرآن، كأنه قيل: بل هو قرآن مجيد محفوظ في لوح، وذلك أن القرآن وصف بالحفظ في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] فكما وصف بالحفظ في تلك الآية، كذلك وصف في هذه الآية بأنه محفوظ، ومعنى حفظ القرآن: أنه يؤمن من تحريفه، وتبديله، وتغييره، فلا يلحقه من ذلك شيء، قال أبو الحسن الأخفش: والأول هو الذي يعرف.
وقال أبو عبيد: الوجه الخفض، لأن الآثار الواردة في اللوح المحفوظ تصدق ذلك.
1322 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، أنا زِاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ مُصْعَبٍ، نا يَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ، نا الْحَسَنُ بْنُ حَبِيبٍ، نا أَبُو حَمْزَةَ الثُّمَالِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ لَوْحًا مَحْفُوظًا مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ، دَفَّتَاهُ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ، قَلَمُهُ نُورٌ، وَكِتَابُهُ نُورٌ، عَرْضُهُ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، يَنْظُرُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ ثَلاثَ مِائَةٍ وَسِتِّينَ نَظْرَةً، يَخْلُقُ بِكُلِّ نَظْرَةٍ وَيُحْيِي وَيُمِيتُ وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ، وَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ.
1323 - حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمُقْرِي، أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيُّ، نا مَخْلَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، نا الْحَسَنُ بْنُ عَلَوَيْهِ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عِيسَى، نا إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، أَخْبَرَنِي مُقَاتِلٌ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ فِي صَدْرِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ، دِينُهُ الْإِسْلامُ، وَمُحَمَّدٌ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَصَدَّقَ بِوَعْدِهِ وَاتَّبَعَ رُسُلَهُ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ، قَالَ: وَاللَّوْحُ لَوْحٌ مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ، طُولُهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَعَرْضُهُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ.(4/463)
تفسير سورة الطارق
سبع عشرة آية، مكية.
1324 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقْرِي، أنا أَبُو عَمْرٍو َمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الطَّارِق أَعْطَاهُ اللَّهُ بِعَدَدِ كُلِّ نَجْمٍ فِي السَّمَاءِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ»
بسم الله الرحمن الرحيم {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ {1} وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ {2} النَّجْمُ الثَّاقِبُ {3} إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ {4} فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ {5} خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ {6} يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ {7} إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ {8} يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ {9} فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ {10} } [الطارق: 1-10] .
{وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1] قال المفسرون: أقسم الله تعالى بالسماء والطارق، يعني: الكواكب تطرق بالليل، وتخفى بالنهار.
قال الفراء: {الطَّارِقُ} [الطارق: 2] : النجم، لأنه يطلع بالليل، وما أتاك ليلًا فهو طارق.
ونحو هذا قال الزجاج، والمبرد.
ثم قال لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ} [الطارق: 2] وذلك أن هذا الاسم يقع على كل ما طرق ليلًا، ولم يكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدري ما المراد به لو لم يبينه بقوله تعالى: {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} [الطارق: 3] أي: المضيء، والنجم الثاقب اسم الجنس وأريد به العموم، قال ابن زيد: أراد به الثريا.
والعرب تسميه النجم، ذكرنا ذلك عند قوله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم: 1] ، وجواب القسم قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] أقسم الله تعالى بما ذكر، أنه ما من نفس إلا عليها حافظ من الملائكة، يحفظ عملها، وقولها، وفعلها، ويحصي ما تكتسب من خير أو شر.
وفي قوله: لما عليها قراءتان: التخفيف والتشديد، فمن خفف كان ما لغوا، والمعنى: لعليها حافظ،(4/464)
ومن شدد جعل لما بمعنى إلا، تقول: سألتك لما فعلت.
بمعنى إلا فعلت.
ثم نبه على البعث، بقوله: فلينظر الإنسان قال مقاتل: يعني: المكذب بالبعث.
مم خلق من أي شيء خلقه الله، والمعنى: فلينظر نظر التفكر والاستدلال، حتى يعرف أن الذي ابتدأه من نطفة قادر على إعادته.
ثم ذكر من أي شيء خلقه، فقال: {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] قال ابن عباس: يعني: المني الذي يكون منه الولد، وهو ماء مهراق في رحم المرأة.
والدفق صب الماء، يقال: دفقت الماء.
أي: صببته، و {دَافِقٍ} [الطارق: 6] ههنا بمعنى: مدفوق، قال الفراء: وأهل الحجاز يجعلون الفاعل بمعنى المفعول في كثير من كلامهم، كقولهم: سر كاتم، وهمّ ناصب، وليل نائم.
وذكرنا مثل هذا عند قوله: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ} [هود: 43] : ثم وصف ذلك الماء، فقال: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 7] وهي موضع القلادة من الصدر، واحدها تريبة.
قال عطاء: يريد صلب الرجل، وترائب المرأة، لا يكون إلا من الماءين.
{إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق: 8] قال مجاهد: على أن يرد الماء في الإحليل.
وقال عكرمة، والضحاك: على أن يرد الماء في الصلب.
وقال مقاتل بن حيان: يقول: إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب، ومن الشباب إلى الصبى، ومن الصبى إلى النطفة.
وقال قتادة: إن الله تعالى على بعث الإنسان وإعادته لقادر.
وهذا هو الاختيار، لقوله: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 9] أي: إنه قادر على بعثه يوم القيامة، ومعنى الرجع: رد الشيء إلى أول حاله، و {تُبْلَى} [الطارق: 9] قال قتادة: تختبر.
وقال مقاتل: تظهر.
والسرائر: أعمال بني آدم، والفرائض التي أوجبت عليهم، وهي سرائر بين الله وبين(4/465)
العبد، فتختبر تلك يوم القيامة، حتى يظهر خيرها من شرها، ومؤداها عن مضيعها.
1325 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، أنا حَامِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْهَرَوِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الْقُرَشِيُّ، نا أَبُو عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ، نا عِمْرَانُ الْقَطَّانُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ خُلَيْدٍ الْعِصْرِيِّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ضَمِنَ اللَّهُ تَعَالَى لِخَلْقِهِ أَرْبَعَ خِصَالٍ: الصَّلاةَ، الزَّكَاةَ، وَصَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَالْغُسْلَ مِنَ الْجَنَابِةِ " وَهُنَّ السَّرَائِرُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 9] .
1326 - أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، فِيمَا أَجَازَ لِي أَنَا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ الْوَاعِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ مُوسَى الْهَمَذَانِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْأَصْبَهَانِيُّ، نا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْأَصْبَهَانِيُّ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ ثَوْرٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ مُعَاذٍ، قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا هَذِهِ السَّرَائِرُ الَّتِي يُبْلَى بِهَا الْعِبَادُ فِي الآخِرَةِ؟ فَقَالَ: هِيَ سَرَائِرُكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ مِنَ الصَّلاةِ، وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ، وَالْوُضُوءِ، وَالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَكُلِّ مَفْرُوضٍ لَأَنَّ الْأَعْمَالَ كُلَّهَا سَرَائِرُ خَفِيَّةٌ، فَإِنْ شَاءَ قَالَ الرَّجُلُ: صَلَيْتُ وَلَمْ يُصَلِّ، وَإِنْ شَاءَ، قَالَ: تَوَضَّأْتُ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 9]
وقال ابن عمر: يبدئ الله تعالى يوم القيامة كل سر، فيكون زينا في الوجوه، وشيئًا في الوجوه، يعني: أن من أداها كان وجهه مشرقًا، ومن ضيعها كان وجهه أغبر.
فما له أي: لهذا الإنسان المنكر للبعث، من قوة يمتنع بها من عذاب الله، ولا ناصر ينصره من الله.
ثم ذكر قسمًا آخر، فقال: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ {11} وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ {12} إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ {13} وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ {14} إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا {15} وَأَكِيدُ كَيْدًا {16} فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا {17} } [الطارق: 11-17] .(4/466)
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} [الطارق: 11] يعني: ذات المطر في قول جميع المفسرين.
قال الزجاج: {الرَّجْعِ} [الطارق: 11] المطر، لأنه يجيء ويرجع، ويتكرر.
{وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} [الطارق: 12] قال أبو عبيدة، والفراء: تتصدع بالنبات.
وهو معنى قول المفسرين: تتشقق عن النبات والأشجار.
والصدع الشق، وجواب القسم قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} [الطارق: 13] أي: أن القرآن يفصل بين الحق والباطل بالبيان عن كل واحد منهما.
{وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق: 14] أي: أنه لم ينزل باللعب، فهو جد ليس بالهزل.
ثم أخبر عن مشركي مكة، فقال: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا} [الطارق: 15] قال الزجاج: يخاتلون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويظهرون ما هم على خلافه.
{وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 16] كيد الله: استدراجه إياهم من حيث لا يعلمون.
{فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ} [الطارق: 17] قال ابن عباس، ومقاتل: هو وعيد من الله لهم.
{أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق: 17] يريد: قليلًا حتى أهلكهم، ففعل الله ذلك ببدر، ونسخ الإمهال بآية السيف، ومعنى أمهل ومهل: أنظر ولا تعجل.(4/467)
تفسير سورة الأعلى
تسع عشرة آية، مكية.
1327 - أَخْبَرَنَا الزَّعْفَرَانِيُّ، أنا السَّخْتِيَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الأَعْلَى أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ بِعَدَدِ كُلِّ حَرْفٍ، أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمُ السَّلامُ» .
1328 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ، أنا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَالِكٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، نا وَكِيعٌ، نا إِسْرَائِيلُ، عَنْ ثُوَيْرِ بْنِ أَبِي فَاخِتَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ هَذِهِ السُّورَةَ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى.
1329 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَلِيٍّ الْمُسيبي، نا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ نُعَيْمٍ، نا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ، نا أَبُو إِسْمَاعِيلَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ السُّلَمِيُّ، نا سَعِيدُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ عُفَيْرٍ، نا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، أنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ يُوتِرُ بَعْدَهُمَا: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى وقُلْ يَأَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَيَقْرَأُ فِي الْوَتْرِ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ { [، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ.
بسم الله الرحمن الرحيم(4/468)
] سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى {1} الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى {2} وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى {3} وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى {4} فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى {5} سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى {6} إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى {7} وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى {8} فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى {9} سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى {10} وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى {11} الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى {12} ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا {13} } [سورة الأعلى: 1-13] .
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] أي: نزهه من السوء، وقل: سبحان ربي الأعلى.
قال صاحب النظم: قد احتج بهذا الفصل من يقول: إن الاسم والمسمى واحد.
لأن أحدًا لا يقول: سبحان اسم الله، وسبحان اسم ربنا.
فمعنى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} [الأعلى: 1] : سبح ربك، والرب أيضًا اسم، فلو كان غير المسمى، لم يجز أن يقع التسبيح عليه.
1330 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْشَاذٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْفُضَيْلِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ حَمْدُونَ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْهَيْثَمِ الزُّهْرِيُّ، نا آدَمُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ زَيْدٍ الْعَمِّيِّ، عَنْ مُرَّةَ الْهَمَذَانِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نَقُولُ فِي سُجُودِنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأَعْلَى: 1] فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَقُولَ فِي سُجُودِنَا: سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى وَيُسَنُّ لِلْقَارِئِ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى، وَإِنْ كَانَ فِي الصَّلاةِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ.
1331 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ، أنا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ قَرَأَ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، فَلْيَقُلْ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى
{الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى: 2] قال الكلبي: خلق كل ذي روح، فجمع خلقه وسواه: اليدين، والرجلين، والعينين.
وقال الزجاج: خلق الإنسان مستويًا.
ومعنى سوى: عدل قامته.
{وَالَّذِي قَدَّرَ} [الأعلى: 3] وقرئ بالتخفيف، وهما(4/469)
بمعنى واحد، قال المفسرون: قدر خلق الذكر والأنثى من الدواب، فهدى الذكر للأنثى كيف يأتيها.
قال صاحب النظم: معنى هدى: هداية الذكر لإتيان الأنثى كيف يأتيها، لأن إيتان ذكران الحيوان مختلف، لاختلاف الصور، والخلق، والهيئات، فلولا أنه عز وجل جبل كل ذكر على معرفة كيف يأتي أنثاه، لما اهتدى لذلك.
وقال مجاهد: هدى الإنسان لسبيل الخير والشر، والسعادة والشقاوة.
وقال السدي: قدر مدة الجنين في الرحم، ثم هدى للخروج.
{وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} [الأعلى: 4] أنبت العشب، وما يرعاه النعم.
فجعله بعد الخضرة، غثاء هشيما، جافًا، كالغثاء الذي نراه فوق السيل، أحوى أسود بعد الخضرة، وذلك: أن الكلأ إذا جف يبس واسود.
قوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} [الأعلى: 6] أي: سنجعلك قارئًا، بأن نلهمك القراءة، فلا تنسى ما تقرأه، قال الزجاج: أعلم الله أنه سيجعل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آية، يتبين بها له الفضيلة، وهي أن ينزل عليه جبريل، فيقرئه حتى يقرأ، فيقرأ ولا ينسى شيئًا من ذلك، وهو أمي لا يكتب ولا يقرأ، قال المفسرون: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا نزل عليه القرآن، أكثر تحريك لسانه، مخافة أن ينساه، وكان لا يفرغ جبريل من آخر الوحي حتى يتكلم هو بأوله، مخافة النسيان، فقال الله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} [الأعلى: 6] وهذا كقوله: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ} [طه: 114] الآية، وكقوله: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16] الآية.
{إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى: 7] أن ينسيك بنسخه، ورفع حكمه، وتلاوته، كما قال: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: 106] والإنساء نوع من النسخ، {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ} [الأعلى: 7] من القول والفعل، {وَمَا يَخْفَى} [الأعلى: 7] منها، والمعنى: يعلم السر والعلانية.
{وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى: 8] قال مقاتل: يهون عليك عمل الجنة.
وهو معنى قول ابن عباس: نيسرك لأن تعمل خيرًا، واليسرى عمل الخير.
{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى: 9] أي: عظ يا محمد أهل مكة بالقرآن، إن نفعت الموعظة والتذكير، والمعنى: إن نفعت أو لم تنفع، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث مبلغًا للإعذار والإنذار، فعليه التذكير في كل حال، نفع أو لم ينفع، ولم يذكر الحالة الثانية، كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] الآية.
وقد نبه الله تعالى على تفصيل الحالتين، بقوله: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ(4/470)
يَخْشَى} [الأعلى: 10] سيتعظ بالقرآن من يخشى الله، ويتجنبها ويتجنب الذكرى، {الأَشْقَى {11} الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى {12} } [الأعلى: 11-12] العظيمة الفظيعة، لأنها أعظم، وأشد حرًا من نار الدنيا {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا} [الأعلى: 13] فيستريح، ولا يحيى حياة تنفعه.
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى {14} وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى {15} بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا {16} وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى {17} إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى {18} صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى {19} } [الأعلى: 14-19] .
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] تطهر من الشرك، وقال: لا إله إلا الله.
{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ} [الأعلى: 15] بالخوف، فعبده، وصلى له، وهذا قول عطاء، عن ابن عباس، ويدل على صحته ما:
1332 - مَا حَدَّثَنَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمُقْرِي، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، أنا أَبُو مُحَمَّدٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، نا عَبَّادُ بْنُ أَحْمَدَ الْعَرْزَمِيُّ، نا عَمِّي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنِ ابْنِ سَابِطٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأَعْلَى: 14] قَالَ: مَنْ شَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَخَلَعَ الْأَنْدَادَ وَشَهِدَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ
{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] قال: هي الصلوات الخمس، والمحافظة عليها حين ينادى بها، والاهتمام بمواقيتها ".
وجماعة من المفسرين يحملون الآيتين على زكاة الفطر، وصلاة العيد.
قال الكلبي: أفلح من تصدق قبل مروره إلى العيد، وصلى مع الإمام.
وهو قول عكرمة، وأبي العالية، وابن سيرين، وابن عمر.
وروي ذلك مرفوعًا.
1333 - أَخْبَرَنَاهُ أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَخْلَدِيُّ، أنا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ رَجَاءٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْوَاسِطِيُّ، نا رحيم، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأَعْلَى: 14] قَالَ: زَكَاةُ الْفِطْرِ، وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، قَالَ: أَخْرَجَ زَكَاةَ الْفِطْرِ وَخَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى فَصَلَّى.(4/471)
وقال نافع: كان ابن عمر إذا صلى الغداة، قال: يا نافع أخرجت الصدقة؟ فإن قلت: نعم، مضى إلى المصلى، وإن قلت: لا، قال: فالآن فأخرج، فإنما نزلت هذه الآية: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى {14} وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى {15} } [الأعلى: 14-15] في هذه الصدقة.
قوله: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى: 16] قرأه العامة بالتاء، لما روي أن في حرف أبي: بل أنتم تؤثرون، قال الكلبي: تؤثرون عمل الدنيا على عمل الآخرة.
وقال ابن مسعود: إن الدنيا أحضرت لنا، وعجل طعامها، وشرابها، ونساؤها، ولذتها، وبهجتها، وإن الآخرة زويت عنا، فأخذنا بالعاجل وتركنا الآجل.
وقرأ أبو عمرو يؤثرون بالياء، وقال: يعني الأشقين الذين ذكروا في قوله: {وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى} [الأعلى: 11] .
ثم رغب في الآخرة، فقال: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 17] أي: والدار الآخرة، يعني: الجنة، خير أفضل، وأبقى وأدوم من الدنيا.
1334 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أنا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُعَاوِيَةَ الطَّلْحِيُّ، أنا أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ جَعْفَرٍ الْقَتَّاتُ، نا أَبُو نُعَيْمٍ صرادُ بْنُ صُرَدٍ، نا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ طَلَبَ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ، وَمَنْ طَلَبَ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى»
إن هذا يعني: ما ذكر من عند قوله: قد أفلح أربع آيات، لفي الكتب، الأولى التي أنزلت قبل القرآن، ذكر فيها فلاح المتزكي والمصلى، وإيثار الخلق الدنيا على الآخرة، وأن الآخرة خير، قال ابن قتيبة: لم يرد الألفاظ بعينها، وإنما أراد أن الفلاح لمن تزكى، وذكر اسم الله فصلى، في {الصُّحُفِ الأُولَى} [الأعلى: 18] كما هو في القرآن.
ثم بين أن الصحف الأولى ما هي، فقال: {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 19] يعني: كتبًا أنزلت على إبراهيم، وتوراة موسى، وقال عكرمة: هذه السورة في صحف إبراهيم وموسى.
وقال السدي: نزلت هذه السورة كلها على موسى، وعلى إبراهيم.(4/472)
تفسير سورة الغاشية
عشرون وست آيات، مكية.
1335 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الْمُقْرِي، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْغَاشِيَةِ حَاسَبَهُ اللَّهُ حِسَابًا يَسِيرًا» .
بسم الله الرحمن الرحيم {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ {1} وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ {2} عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ {3} تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً {4} تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ {5} لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ {6} لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ {7} } [الغاشية: 1-7] .
هل أتاك يريد: قد أتاك، {حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] خبر القيامة، وذلك: أنها تغشى الناس بأهوالها، وشدائدها.
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} [الغاشية: 2] ذليلة بالعذاب، قال مقاتل: يعنى الكفار، لأنها تكبرت عن عبادة الله.
عاملة ناصبة قال عطاء، عن ابن عباس: يعني الذين عملوا ونصبوا في الدنيا على غير دين الإسلام، من عبدة الأوثان، وكفار أهل الكتاب، مثل الرهبان وغيرهم، لا يقبل الله منهم، إلا ما كان لوجهه خالصًا، لا يقبل اجتهادًا في بدعة وضلالة، لكنه يقبل رفقًا في سنة.
وهذا قول سعيد بن جبير، وزيد بن أسلم، وأبي الضحى، عن ابن عباس.
قالوا: هم الرهبان، وأصحاب الصوامع.
والكلام خرج على الوجوه، والمراد بها أصحابها، ومعنى النصب: الدؤب في العمل بالتعب، والمعنى: عاملة في الدنيا، ناصبة في الآخرة، لأنها عملت في الدنيا بالمعاصي، فصارت ناصبة في النار يوم القيامة.
1336 - أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُسَيِّبِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدَوَيْهِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا الْخَضِرُ بْنُ أَبَانٍ، نا سَيَّارُ بْنُ حَاتِمٍ، نا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عِمْرَانَ الْجَوْنِيَّ، يَقُولُ: مَرَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِدَيْرِ رَاهِبٍ فَنَادَاهُ: يَا رَاهِبُ يَا رَاهِبُ، فَأَشْرَفَ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ عُمَرُ يَنْظُرُ(4/473)
إِلَيْهِ وَيَبْكِي، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا يُبْكِيكَ مِنْ هَذَا؟ قَالَ: ذَكَرْتُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} [الغاشية: 3] {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية: 4] فَذَلِكَ الَّذِي أَبْكَانِي
ثم ذكر نصبها، فقال: {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية: 4] قال ابن عباس: قد حميت فهي تتلظى على أعداء الله.
وقرأ أبو عمرو بضم التاء، من أصليته النار.
{تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية: 5] متناهية في الحرارة، قال الحسن: قد أوقدت عليها جهنم منذ خلقت، فدفعوا إليها وردًا عطاشًا.
وقال المفسرون: لو وقعت منها نقطة على جبال الدنيا لذابت.
هذا شرابهم.
ثم ذكر طعامهم، فقال: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية: 6] وهو نوع من الشوك، يقال له: الشبرق.
وأهل الحجاز يسمونه الضريع، إذا يبس أخبث طعام وأبشعه، لا ترعاه دابة، قال أبو الجوازاء: هو السلاء.
1337 - أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْحَافِظُ أَجَازَهُ، أنا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ الْوَاعِظُ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَامِرٍ الْأَصْبَهَانِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ نَهْشَلٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الضَّرِيعُ شَيْءٌ يَكُونُ فِي النَّارِ يُشْبِهُ الشَّوْكَ، أَمَرُّ مِنَ الصَّبْرِ، وَأَنْتَنُ مِنَ الْجِيفَةِ، وَأَشَدُّ حَرًّا مِنَ النَّارِ سَمَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الضَّرِيعَ»
قال أبو الدرداء، والحسن: إن الله عز وجل يرسل على أهل النار الجوع، حتى يعدل عندهم ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون فيغاثون بالضريع، ثم يستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة، فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالماء، فيستسقون فيعطشهم ألف سنة، ثم يسقون من عين آنية شربة لا هنيئة، ولا مريئة، فكلما أدنوه من وجوههم، سلخ جلود وجوههم وشواها، فإذا وصل إلى بطونهم قطعها.
فذلك قوله تعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا(4/474)
فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد: 15] ، ولما نزلت هذه الآية، قال المشركون: إن إبلنا لتسمن على الضريع.
وكذبوا في ذلك، فإن الإبل لا ترعاه.
فقال الله تعالى تكذبيًا لهم: {لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية: 7] .
ثم وصف أهل الجنة، بقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ {8} لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ {9} فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ {10} لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً {11} فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ {12} فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ {13} وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ {14} وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ {15} وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ {16} } [الغاشية: 8-16] .
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} [الغاشية: 8] قال مقاتل: في نعمة وكرامة.
لسعيها في الدنيا، راضية حين أعطيت في الجنة بعملها.
{فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الغاشية: 10] مرتفعة.
{لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} [الغاشية: 11] وقرئ بالياء أيضًا، لأن المراد باللاغية اللغو، فالتأنيث على اللفظ، والتذكير على المعنى، وقرأ حمزة: لا تسمع بتاء مفتوحة، لاغية نصبًا على الخطاب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} [الغاشية: 12] قال الكلبي: لا أدري بماء أو بغيره.
{فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} [الغاشية: 13] قال ابن عباس: ألواحها من ذهب، مكللة بالزبرجد، والدر، والياقوت، مرتفعة ما لم يجئ أهلها، فإذا أراد أن يجلس عليها تواضعت له حتى يجلس عليها، ثم ترتفع إلى موضعها.
وأكواب أقداح لا عرى لها، موضوعة عندهم.
ونمارق يعني: الوسائد في قول الجميع.
واحدها نمرقة بضم النون، وزاد الفراء سماعًا عن العرب نمرقة بكسر النون، قال الكلبي: وسائد.
مصفوفة بعضها إلى بعض.
وزرابي يعني: البسط والطنافس، واحدها: زربية وزربي، مبثوثة مبسوطة ومنشورة، ويجوز أن يكون المعنى: أنها مفرقة في المجالس.
1338 - أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَرْوَزِيُّ، أنا أَبُو الْفَضْلِ الْحَدَّادِيُّ، أَخْبَرَهُمْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ الْخَالِدِيِّ، أنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، نا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، نا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ ذَكَرَ أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَقَالَ: يَجِيئُونَ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، فَإِذَا أَسَاسُ بُيُوتِهِمْ مِنْ جَنْدَلِ اللُّؤْلُؤِ، وَسُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ، وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ، وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ، وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ، فَلَوْلا أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَهَا لَهُمْ لَالْتَمَعَتْ أَبْصَارُهُمْ لِمَا يَرَوْنَ، فَيُعَانِقُونَ الْأَزْوَاجَ وَيَقْعُدُونَ عَلَى السُّرُرِ، وَيَقُولُونَ: الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا.(4/475)
وقال قتادة: لما نعت الله ما في الجنة، عجب من ذلك أهل الضلالة، فأنزل الله: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ {17} وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ {18} وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ {19} وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ {20} فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ {21} لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ {22} إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ {23} فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ {24} إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ {25} ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ {26} } [الغاشية: 17-26] .
{أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] وكانت الإبل عيشًا من عيشهم، يقول: أفلا ينظرون إليها، وما يخرج الله من ضروعها، من بين فرث ودم لبنًا خالصًا، سائغًا للشاربين؟ ! يقول: فكما صنعت هذا لكم، فكذلك أصنع لأهل الجنة في الجنة.
وقال أبو عمرو بن العلاء: خص الإبل، لأنها من ذوات الأربع، تبرك فتحمل عليها الحمولة.
وغيرها من ذوات الأربع لا يحمل عليه، إلا وهو قائم، وقال الزجاج: نبههم على عظيم من خلقه، قد ذلله الصغير، يقوده، وينيخه، وينهضه، ويحمل عليه الثقيل من الحمل وهو بارك، فينهض بثقل حمله، وليس ذلك في شيء من الحوامل غيره، فأراهم عظيمًا من خلقه، ليدل بذلك على توحيده.
وسئل الحسن عن هذه الآية، وقيل له: الفيل أعظم في الأعجوبة.
فقال: أما الفيل فالعرب بعيدة العهد به، ثم هو خنزير لا يركب ظهره، ولا يؤكل لحمه، ولا يحلب دره، والإبل من أعز مال العرب وأنفسه، تأكل النوى والقت، وتخرج اللبن، ويأخذ الصبي بزمامها، فيأخذ بها حيث شاء من عظمها في نفسها.
ويحكى: أن فأرة أخذت بزمام ناقة، فجعلت تجره وهي تتبعها، حتى دخلت في الجحر، فجرت الزمام، فبركت، فجرت، فقربت فمها من جحر الفأرة، وكان شريح يقول: اخرجوا بنا إلى الكناسة، حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت.
ثم قال الله: {وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} [الغاشية: 18] يعني: من الأرض، حتى لا ينالها شيء، بغير عمد.
{وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} [الغاشية: 19] على الأرض مرساة لا تزول.
{وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 20] بسطت، والسطح بسط الشيء، ويقال لظهر البيت إذا كان مستويًا: سطح.
قال عطاء، عن ابن عباس: يقول: هل يقدر أحد أن يخلق مثل الإبل، أو يرفع مثل السماء، أو ينصب مثل الجبال، أو يسطح مثل الأرض، غيري؟ وهل يفعل مثل هذا الفعل أحد سواي؟ قوله: {فَذَكِّرْ(4/476)
إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية: 21] فعظ إنما أنت واعظ، ولم يؤمر إذ ذاك إلا بالتذكرة، يدل عليه قوله: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية: 22] أي: بمسلط فتقتلهم، وتكرههم على الإيمان، ثم نسختها آية القتال، وقد تقدم تفسير المسيطر عند قوله: {أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ} [الطور: 37] .
وقوله: {إِلا مَنْ تَوَلَّى} [الغاشية: 23] استثناء منقطع عما قبله، معناه: لكن من تولى وكفر بعد التذكير: {فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ} [الغاشية: 24] وهو: أن يدخله النار، ولا عذاب أعظم منها.
ثم ذكر أن مرجعهم إليه، فقال: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} [الغاشية: 25] رجوعهم، ومصيرهم بعد الموت، يقال: آب يئوب أوبًا وإيابًا.
وأما إيابهم بتشديد الياء، فشاذ، لم يجزه أحد غير الزجاج، فإنه قال: يقال: أيب إيابًا على فيعل فيعالًا.
{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 26] يعني: جزاءهم بعد المرجع إلى الله تعالى.(4/477)
تفسير سورة الفجر
ثلاثون آية، مكية.
1339 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ جَعْفَرٍ الْحِيرِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ وَالْفَجْرِ {1} وَلَيَالٍ عَشْرٍ غُفِرَ لَهُ، وَمَنْ قَرَأَهَا سَائِرَ الْأَيَّامِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْفَجْرِ {1} وَلَيَالٍ عَشْرٍ {2} وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ {3} وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ {4} هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ {5} أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ {6} إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ {7} الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ {8} وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ {9} وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ {10} الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ {11} فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ {12} فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ {13} إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ {14} } [الفجر: 1-14] .
والفجر أقسم الله تعالى بفجر النهار، وهو انفجار الصبح كل يوم، وهذا قول عكرمة، ورواية أبي نصر، وأبي صالح، عن ابن عباس.
وقال في رواية عثمان بن محيصن: هو فجر المحرم.
وهو قول قتادة.
قال: أقسم بأول يوم من المحرم ينفجر منه السنة.
وقال الضحاك: هو في ذي الحجة، لأن الله تعالى قرن الأيام بها، فقال: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 2] وهي عشر ذي الحجة في قول أكثر المفسرين.
1340 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْمُسَيِّبِيُّ، أنا(4/478)
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ نُعَيْمٍ، أنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عِصْمَةَ، نا السَّرِيُّ بْنُ خُزَيْمَةَ، نا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غَيَّاثٍ، نا أَبِي، نا الْأَعْمَشُ، عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: اللَّيَالِي الَّتِي أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِنَّ الْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
وَالشَّفْعِ { [الفجر: 3] يوم النحر،} وَالْوَتْرِ { [الفجر: 3] يوم عرفة.
وقال الضحاك: أقسم بعشر الأضحى، ليفضلهن على سائر الأيام،} وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ [الفجر: 3] أقسم بهما ليفضلهما على سائر العشر.
1341 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِهِ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، أنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا جَرِيرٌ، عَنْ قَابُوسَ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَأَلْنَا ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ، فَقَالَ: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 2] الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ.
أخبرنا إسماعيل بن أبي القاسم النصراباذي، أنا عبد الله بن عمر بن علك الجوهري، نا عبد الله بن محمود السعدي، نا موسى بن بحر، نا عبيدة بن حميد، حدثني منصور، عن مجاهد، قال: الشفع الخلق، {وَالْوَتْرِ} [الفجر: 3] الله الواحد الصمد.
وهذا قول عطية العوفي، قال: الشفع الخلق، قال الله عز وجل: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} [النبأ: 8] والوتر هو الله عز وجل.
وقال أبو صالح: خلق الله من كل شيء زوجين اثنين، والله وتر واحد.
وقال قتادة: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 3] الصلاة(4/479)
منها شفع ومنها وتر.
وهو رواية عمران بن حصين، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
1342 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ الْأُمَوِيُّ، نا أَبُو جَعْفَرٍ الْوَرَّاقُ، نا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، نا هَمَّامٌ وَخَالِدُ بْنُ قَيْسٍ جَمِيعًا، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، فَقَالَ: «مِنَ الصَّلاةِ شَفْعٌ وَمِنْهَا وَتْرٌ» .
1343 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمُقْرِي، أَخْبَرَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الصُّوفِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ كَثِيرٍ الْقَيْسِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُقْرِي، نا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ، عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: سَلُونِي فَعَلَيْنَا كَانَ التَّنْزِيلُ، وَنَحْنُ حَضَرْنَا التَّأْوِيلَ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَخْبِرْنَا عَنِ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيَالِي الْعَشْرِ، فَقَالَ: أَمَّا الشَّفْعُ وَالْوَتْرُ، فَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] فَهُمَا الشَّفْعُ وَالْوَتْرُ، وَأَمَّا اللَّيَالِي الْعَشْرُ فَالثَّمَانِ وَعَرَفَةُ وَالنَّحْرُ
قال أبو عبيدة: الشفع الزوج، والوتر الفرد.
وقال الفراء: الكسر قراءة الحسن، والأعمش، وابن عباس، والفتح قراءة أهل المدينة، وهي لغة حجازية.
وقال الأصمعي: كل فرد وتر.
وأهل الحجاز يفتحون فيقولون وتر في الفرد.
وقوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الفجر: 4] أي: إذا يمضي فيذهب، كما قال: {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} [المدثر: 33] أقسم الله تعالى بالليل، يمضي حتى ينقضي بالنهار المقبل،(4/480)
والمراد به كل ليلة، وقال مقاتل، والكلبي: يعني ليلة المزدلفة، ليلة جمع.
وقرئ يسري بإثبات الياء وحذفها، فمن أثبتها فلأنها لام فعل، والفعل لا يحذف منه في الوقف نحو هو يقضي، وأنا أقضي.
قال الزجاج: والحذف أحب إلي، لأنها فاصلة، والفواصل يحذف منها الياءات، وتدل عليه الكسرات.
{هَلْ فِي ذَلِكَ} [الفجر: 5] أي: فيما ذكر، {قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر: 5] لذي عقل ولب، والمعنى: أن من كان ذا عقل ولب، علم أن ما أقسم الله به من هذه الأشياء فيه عجائب، ودلائل على صنع الله وقدرته وتوحيده، فهو حقيق بأن يقسم به، لدلالته على خالقه، وجواب القسم قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14] واعترض بين القسم وجوابه قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} [الفجر: 6] يخوف أهل مكة، يعني: كيف أهلكهم، وهم كانوا أطول وأشد قوة من أهل مكة.
ثم قال: إرم قال محمد بن إسحاق: هو جد عاد، وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح.
وقال أبو عبيدة: هما عادان، فالأولى هي إرم، وهي التي قال الله عز وجل: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى} [النجم: 50] .
وقوله: ذات العماد يعني: أنهم كانوا أهل عمد سيارة في الربيع، فإذا هاج النبت رجعوا إلى منازلهم، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء، والكلبي، وقول قتادة، ومجاهد.
وقال مقاتل: ذات العماد يعني: طولهم اثنا عشر ذراعًا، يقال: رجل طويل العماد أي: القامة.
ثم وصفهم، فقال: {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر: 8] لم يخلق مثل تلك القبيلة في الطول والقوة، وهم الذين قالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15] .
{وَثَمُودَ(4/481)
الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ} [الفجر: 9] ثقبوها، وقطعوها، قال ابن عباس: كانوا يجوبون الجبال، فيجعلون منها بيوتًا، كما قال الله عز وجل: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} [الشعراء: 149] .
وقوله: بالواد يعني: وادي القرى.
{وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ} [الفجر: 10] ذكرنا تفسير الأوتاد في سورة ص.
1344 - وَأَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْغَازِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى، نا هُدْبَةُ، نا حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ فِرْعَوْنَ أَوْتَدَ لامْرَأَتِهِ أَرْبَعَةَ أَوْتَادٍ فِي يَدَيْهَا وَفِي رِجْلِهَا.
وَنَحْو هَذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَتَدَ لامْرَأَتِهِ أَرْبَعَةَ أَوْتَادٍ، ثُمَّ جَعَلَ عَلَى ظَهْرِهَا رَحًا عَظِيمَةً حَتَّى مَاتَتْ.
وقوله: الذين يعني: عادًا، وثمودًا، وفرعون، {طَغَوْا فِي الْبِلادِ} [الفجر: 11] عملوا فيها بالمعاصي، وتجبروا على أنبياء الله، وهو قوله: {فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} [الفجر: 12] قال الكلبي: يعني: القتل والمعصية.
{فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر: 13] يعني: ما عذبوا به، وأجاد الزجاج في تفسيره هذه الآية، فقال: جعل سوطه الذي ضربهم به العذاب.
{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14] قال الكلبي: يقول عليه طريق العباد، لا يفوته أحد.
والمعنى: لا يفوته شيء من أعمال العباد، كما لا يفوت من بالمرصاد، وهذا معنى قول الحسن، وعكرمة: يرصد أعمال بني آدم.
والمرصاد والمرصد الطريق، ذكرنا ذلك عند قوله: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} [النبأ: 21] وروى مقسم، عن ابن عباس في هذه الآية، قال: إن على جسر جهنم سبع محابس، يسئل العبد عند باب أولها عن شهادة أن لا إله إلا الله، فإن جاء بها تامة جاز إلى الثاني، فيسئل عن الصلاة، فإن جاء بها تامة جاز إلى الثالث، فيسئل عن الزكاة، فإن جاء بها تامة جاز إلى الرابع، فيسئل عن الصوم، فإن جاء به تامًا جاز إلى الخامس، فيسئل عن الحج، فإن جاء به تامًا جاز إلى السادس، فيسئل عن العمرة، فإن جاء بها تامة(4/482)
جاز إلى السابع، فيسئل عن المظالم، فإن خرج منها وإلا يقال: انظروا فإن كان له تطوع، أكملوا به أعماله، فإذا فرغ انطلق به إلى الجنة.
{فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ {15} وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ {16} كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ {17} وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ {18} وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَمًّا {19} وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا {20} } [الفجر: 15-20] .
{فَأَمَّا الإِنْسَانُ} [الفجر: 15] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد عتبة بن ربيعة، وأبا حذيفة بن المغيرة.
وقال الكلبي: هو الكافر أبي بن خلف.
وقال مقاتل: نزلت في أمية بن خلف.
{إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ} [الفجر: 15] اختبره بالغنى واليسر، {فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ} [الفجر: 15] رزقه، وأنعم عليه، {فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} [الفجر: 15] فضلني بما أعطاني، يظن أن ما أعطاه من الدنيا لكرامته عليه، فيقول: هذه كرامة من الله لي.
{وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ} [الفجر: 16] بالفقر، {فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر: 16] ضيق عليه، بأن جعله على مقدار البلغة، قال: هذا هوان من الله لي.
{فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر: 16] أذلني بالفقر، قال الزجاج: وهذا يُعْنَىَ به الكافر، الذي لا يؤمن بالبعث، إنما الكرامة عنده والهوان بكثرة الحظ في الدنيا وقلته، وصفة المؤمن أن الإكرام عنده بتوفيق الله إياه إلى ما يؤديه إلى حظ الآخرة.
ولهذا رد الله على هذا الكافر، فقال: كلا أي: ليس الأمر كما تظن، قال مقاتل: يقول الله تعالى: كلا لم أبتله بالغنى لكرامته عليّ، ولم أبتله بالفقر لهوانه.
فقوله: كلا رد لتوهم من ظن أن سعة الرزق إكرام من الله، وإن الفقر إهانة، فإن الله يوسع على الكافر لا لكرامته، ويقتر على المؤمن لا لهوانه، وقد
أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم المقري، أنا عبد الله بن حامد، أنا أحمد بن شاذان، أنا جيغويه بن محمد، نا صالح بن محمد، نا إبراهيم بن محمد، عن أبان، عن سليمان بن قيس العامري، عن كعب، قال: إني لأجد في بعض الكتب: لولا أن يحزن عبدي المؤمن لكللت رأس الكافر بالأكاليل، فلا يصدع، ولا ينبض منه عرق يوجع.
1345 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَبْدَانَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَائِعُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الشَّيْبَانِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، أنا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، نا أَبَانُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الصَّبَّاحِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،(4/483)
يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ أَحَبَّ وَمَنْ لا يُحِبُّ، وَلا يُعْطِي الدِّينَ إِلا مَنْ أَحَبَّ فَمَنْ أَعْطَاهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ» .
ثم أخبر عن الكفار، فقال: {بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} [الفجر: 17] قال مقاتل: كان قدامة بن مظعون يتيمًا في حجر أمية بن خلف، فكان يدفعه عن حقه.
والآية تحتمل معنيين: أحدهما: أنهم لا يبرونه، ولا يحسنون إليه، والآخر: أنهم لا يعطونه حقه من الميراث، على ما جرت به عاداتهم من حرمان اليتيم ما كان له من الميراث، ويدل على هذا المعنى قوله: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ} [الفجر: 19] ويدل على المعنى الأول قوله: {وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الفجر: 18] أي: لا يأمرون بإطعامه، ومن قرأ لا تحاضون أراد لا يتحاضون فحذف الياء، والمعنى: لا يحض بعضكم بعضًا.
وتأكلون التراث أصله الوراث، فأبدلت من الواو المضمومة تاء، أكلًا لما شديدًا، أي: تلمون جميعه في الأكل، قال الحسن: يأكل نصيبه ونصيب اليتيم، وذلك أنهم كانوا لا يورثون النساء والصبيان، ويأكلون أموالهم.
{وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 20] كثيرًا، شديدًا، والمعنى: يحبون جمع المال، ويولعون به، فلا ينفقونه في خير.
قال الله تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا {21} وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا {22} وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى {23} يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي {24} فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ {25} وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ {26} يَأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ {27} ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً {28} فَادْخُلِي فِي عِبَادِي {29} وَادْخُلِي جَنَّتِي {30} } [الفجر: 21-30] .
كلا قال مقاتل: أي: لا يفعلون ما أمروا في اليتيم والمسكين.
ثم خوفهم بقوله: {إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا} [الفجر: 21] كسر كل شيء عليها من جبل، أو بناء، أو شجر حين زلزلت، فلم يبق على ظهرها شيء، قال ابن قتيبة: دقت جبالها وأنشازها حتى استوت.
{وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22] قال ابن عباس في رواية الكلبي، والحسن: وجاء أمر ربك، وقضاء ربك، لأن في يوم القيامة(4/484)
تجيء جلائل آيات الله، وتظهر العظائم.
وقال أهل المعاني: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22] أي: وجاء ظهوره بضرورة المعرفة، وضرورة المعرفة بالشيء تقوم مقام ظهوره ورؤيته، ولما صارت هذه المعارف بالله في ذلك اليوم ضرورة، صار ذلك كظهوره، وتجليه للخلق فقيل: وجاء ربك.
أي: زالت الشبهة، وارتفعت الشكوك، كما ترتفع عند مجيء الشيء الذي كان يشك فيه.
وقوله: {وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] قال عطاء: يريد صفوف الملائكة، وأهل كل سماء صف على حدة.
وقال الضحاك: أهل كل سماء إذا نزلوا يوم القيامة، كانوا صفًا محيطين بالأرض ومن فيها، فيكونون سبع صفوف.
فذلك قوله: {وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] .
{وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر: 23] قال جماعة المفسرين: جيء بها يوم القيامة مزمومة بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، يجرونها حتى تنصب عن يسار العرش، فلا يبقى ملك مقرب، ولا نبي مرسل إلا جثا لركبتيه، يقول: يا رب نفسي نفسي.
1346 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَارِسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَمْرَوَيْهِ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا مُسْلِمٌ، نا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غَيَّاثٍ، نا أَبِي، عَنِ الْعَلاءِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا» .
1347 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الثَّعْلَبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيُّ، نا ابْنُ مَاجَهْ، نا يَعْقُوبُ بْنُ يُوسُفَ الْقَزْوِينِيُّ، نا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَكَمِ الْعَرَبِيُّ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: نا عَطِيَّةُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر: 23] تَغَيَّرَ لَوْنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعُرِفَ فِي وَجْهِهِ حَتَّى اشْتَدَّ عَلَى أَصْحَابِهِ مَا رَأَوْا مِنْ حَالِهِ، فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالُوا: يَا عَلِيُّ لَقَدْ حَدَثَ أَمْرٌ قَدْ رَأَيْنَاهُ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ عَلِيٌّ فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ، ثُمَّ قَبَّلَ بَيْنَ عَاتِقَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي مَا الَّذِي حَدَثَ الْيَوْمَ؟ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ، فَأَقْرَأَنِي: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر: 23] قُلْتُ: كَيْفَ يُجَاءُ بِهَا؟ قَالَ: يَجِيءُ بِهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَقُودُونَهَا بِسَبْعِينَ أَلْفَ زِمَامٍ، فَتَشْرُدُ(4/485)
شَرْدَةً لَوْ تُرِكَتْ لَأَحْرَقَتْ أَهْلَ الْجَمْعِ، ثُمَّ أَتَعَرَّضُ لِجَهَنَّمَ، فَتَقُولُ: مَا لِي وَلَكَ يَا مُحَمَّدُ، فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ لَحْمَكَ عَلَيَّ، فَلا يَبْقَى أَحَدٌ إِلا قَالَ: نَفْسِي نَفْسِي وَإِنَّ مُحَمَّدًا يَقُولُ: رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي
وقوله: يومئذ يعني: يوم يجاء بجهنم، يتذكر الإنسان يتعظ، ويتوب الكافر، {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر: 23] قال الزجاج: يظهر التوبة، ومن أين له التوبة؟ ! يقول الكافر، {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24] أي: قدمت الخير والعمل الصالح لآخرتي التي لا موت فيها، قال الحسن: علم والله إنه صادق، هناك حياة طويلة لا موت فيها.
قال الله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ} [الفجر: 25] يعذب عذاب الله أحد من الخلق.
{وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر: 26] من الخلق، أي: لا يبلغ أحد من الخلق كبلاغ الله في العذاب والوثاق، والمعنى: لا يعذب أحد في الدنيا عذاب الله الكافر يومئذ، يعني: مثل عذابه، ولا يوثق أحد في الدنيا وثاق الله الكافر يومئذ، أي: مثل وثاقه، وقرأ الكسائي لا يعذب، ولا يوثق بفتح العين فيهما، وهو قراءة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما
1348 - أَخْبَرَنَاهُ أَبُو نَصْرٍ الْمِهْرَجَانِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِد ُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنِي جَدِّي، نا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، نا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ أَبِي قِلابَةَ، قَالَ: أَقْرَأَنِي مَنْ أَقْرَأَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ {25} وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ {26} } [الفجر: 25-26] وَالْمَعْنَى: لا يُعَذَّبُ أَحَدٌ تَعْذِيبَ هَذَا الْكَافِرِ إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ كَافِرٌ بِعَيْنِهِ، أَوْ تَعْذِيبَ هَذَا الصِّنْفِ مِنَ الْكُفَّارِ وَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: {لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} [الفجر: 17] الآيات.
قوله {يَأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر: 27] بالإيمان، المؤمنة، الموقنة، المصدقة بما وعد الله، والطمأنينة: حقيقة الإيمان.
{ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} [الفجر: 28] هذا عند خروجها من الدنيا، يقال لها: ارجعي إلى الله.
راضية بالثواب، مرضية عنك.
أخبرنا عمرو بن أبي عمرو، أنا جدي، أنا محمد بن إسحاق السراج، نا قتيبة، نا جرير، عن(4/486)
منصور، عن مجاهد {يَأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر: 27] التي أيقنت أن الله ربها، وضربت جأشا لأمره وطاعته.
أخبرنا أبو بكر بن الحارث، أنا عبد الله بن محمد الحافظ، نا محمد بن أحمد بن أبي يحيى، نا سعيد بن عثمان، نا محمد بن حاتم، عن إبراهيم المكي، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: {يَأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر: 27] ، قال: الراضية بقضاء الله الذي قدر الله، فعلمت أن ما أصابها لم يكن ليخطئها، وأن ما أخطأها لم يكن ليصيبها.
1349 - أَخْبَرَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْكَاتِبُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ شَاذَانَ، أنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ، نا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، نا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ، قَالَ: قُرِئَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر: 27] الآية، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ هَذَا لَحَسَنٌ، فَقَالَ: «أَمَا إِنَّ الْمَلَكَ سَيَقُولُهَا لَكَ عِنْدَ الْمَوْتِ»
وقال عبد الله بن عمرو: إذا توفي العبد المؤمن، أرسل الله عز وجل ملكين، وأرسل إليه بتحفة من الجنة، فيقال: اخرجي يا أيتها النفس المطمئنة، اخرجي إلى روح وريحان، ورب عنك راض.
فتخرج كأطيب ريح مسك وجده أحد في أنفه.
وقوله: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29] أي: جملة عبادي الصالحين المطيعين.
قال أبو صالح: فإذا كان يوم القيامة قيل: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي {29} وَادْخُلِي جَنَّتِي {30} } [الفجر: 29-30] .
1350 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الإِسْفَرَايِينِيُّ، أنا ابْنُ بَطَّةَ، أنا الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنِي جَدِّي، نا مَرْوَانُ بْنُ شُجَاعٍ الْجَزَرِيُّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ الأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: مَاتَ ابْنُ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، بِالطَّائِفِ، فَشَهِدْتُ جَنَازَتَهُ، فَجَاءَ طَائِرٌ لَمْ يُرَ عَلَى خِلْقَتِهِ، فَدَخَلَ فِي نَعْشِهِ لَمْ يُرَ خَارِجًا مِنْهُ، فَلَمَّا دُفِنَ، تُلِيَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ، لَمْ يُدْرَ مَنْ تَلاهَا: {يَأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ {27} ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً {28} فَادْخُلِي فِي عِبَادِي {29} وَادْخُلِي جَنَّتِي {30} } [الفجر: 27-30] .(4/487)
تفسير سورة البلد
عشرون آية، مكية.
1351 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَدْلُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْمُؤَذِّنُ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَمَنْ قَرَأَ: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ أَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَمْنَ مِنْ غَضَبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ".
بسم الله الرحمن الرحيم {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ {1} وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ {2} وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ {3} لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ {4} أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ {5} يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُبَدًا {6} أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ {7} أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ {8} وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ {9} وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ {10} } [البلد: 1-10] .
{لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 1] أجمع المفسرون على أن هذا قسم بالبلد الحرام وهو مكة، ولا أقسم بمعنى: أقسم، وقد تقدم بيانه، والإشارة بهذا إلى مكة، وال { [نازلة بها.
] وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [سورة البلد: 2] الحل، والحلال، والمحل واحد، وهو ضد المحرم، أحل الله تعالى لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة يوم الفتح حتى قاتل وَقَتَلَ، وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار» .
والمعنى: أن الله تعالى لما ذكر القسم بمكة، دل ذلك على عظم قدرها مع كونها حرامًا، فوعد نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يحلها له حتى يقاتل فيها، وأن يفتحها على يده، فهذا وعد من الله تعالى بأن يحلها له حتى يكون بها حلا.
ثم عطف على القسم بقوله: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} [البلد: 3] يعني: آدم وذريته.
{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4] قال ابن عباس، في رواية مقسم: قائمًا على قدمية منتصبًا، وكل شيء خلق مكبًا إلا الإنسان، فإنه خلق منتصبًا.
والكبد: الاستواء والاستقامة، وقال في رواية الوالبي: في نصب.
وهو قول مجاهد، وسعيد بن جبير،(4/488)
والحسن.
قالوا: في شدة.
والكبد على هذا القول: من مكابدة الأمر، وهو معاناة شدته ومشقته، والرجل يكابد الليل إذا قاسى هوله، وصعوبته.
أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم الواعظ، أنا أبو عمرو بن مطر، نا أحمد بن محمد بن منصور الحاسب، نا علي بن الجعد، نا علي بن علي الرفاعي، عن الحسن في قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4] قال: لا أعلم خليقة تكابد من الأمر ما يكابد هذا الإنسان.
قال: وقال سعيد: أجده يكابد مضائق الدنيا، وشدائد الآخرة.
1352 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ، أنا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمَّادٍ الْقُرَشِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدَانَ الْبَجَلِيُّ، أنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ بَهْرَامٍ، أنا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعْظَمُ النَّاسِ هَمًّا الْمُؤْمِنُ يَهْتَمُّ بِأَمْرِ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ» .
وقال الحسن: ابن آدم لا يزال يكابد أمرًا حتى يفارق الدنيا.
قوله: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} [البلد: 5] قال الكلبي: يعني: أبا الأشدين، وهو رجل من جمح، وكان قويًا شديد الخلق.
يقول الله تعالى: أيظن من شدته أن لن يقدر عليه الله، وأن لا يعاقبه؟ ثم أخبر عن مقالة هذا الإنسان، فقال: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُبَدًا} [البلد: 6] وهو المال الكثير بعضه على بعض، قال الليث: مال لبد لا يخاف فناؤه من كثرته.
وقال الكلبي، ومقاتل: يقول أهلكت في عداوة محمد مالًا كثيرًا.
قال الله تعالى: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ(4/489)
يَرَهُ أَحَدٌ} [البلد: 7] قال قتادة: أيظن أن لم يره، ولا يسأله عن ماله من أين كسبه، وأين أنفقه؟ وقال الكلبي: كان كاذبًا لم ينفق ما قال.
فقال الله عز وجل: أيظن أن لم ير ذلك منه فعل أو لم يفعل، أنفق أو لم ينفق؟ ثم ذكره النعم ليعتبر، فقال: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} [البلد: 8] قال الزجاج: ألم نفعل به ما يدله على أن الله قادر على أن يبعثه؟ {وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} [البلد: 9] قال قتادة: نِعم الله متظاهرة، يقررك بها كيما تشكره.
وروى عبد الحميد المدني، عن أبي حازم، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: إن الله تعالى، يقول: «ابن آدم إن نازعك لسانك فيما حرمت عليك، فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق، وإن نازعك بصرك إلى بعض ما حرمت عليك، فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق، وإن نازعك فرجك إلى ما حرمت عليك، فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق» .
قوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10] النجد: الطريق في ارتفاع، قال ابن عباس، والمفسرون: بينا له طريق الخير وطريق الشر.
وقال الزجاج: المعنى: ألم نعرفه طريق الخير وطريق الشر، بتبيين كتبيين الطريقين العاليين؟ !
1353 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ أَبِي الْأَشْهَبِ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّجْدَيْنِ، فَقَالَ: «هُمَا النَّجْدَانِ نَجْدُ الْخَيْرِ وَنَجْدُ الشَّرِّ» .
{فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ {11} وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ {12} فَكُّ رَقَبَةٍ {13} أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ {14} يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ {15} أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ {16} ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ {17} أُولَئِكَ(4/490)
أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ {18} وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ {19} عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ {20} } [البلد: 11-20] .
{فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد: 11] أي: لم يقتحمها ولا جاوزها، والاقتحام: الدخول في الأمر الشديد، وذكر العقبة ههنا مثل ضربة الله تعالى لمجاهدة النفس، والهوى، والشيطان في أعمال البر، فجعله كالذي يتكلف صعود العقبة، يقول: لم يحمل على نفسه المشقة بعتق الرقبة والإطعام، وهو قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} [البلد: 12] أي: ما اقتحام العقبة؟ ثم ذكره، فقال: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13] وهو تخليصها من أسر الرق، وكل شيء أطلقته فقد فككته، ومنه فك الرهن، وفك الكتاب.
ومن قرأ فك رقبة على الفعل، فهو تفسير لاقتحام العقبة بالفعل، كقوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران: 59] ثم فسر المثل بقوله: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} [آل عمران: 59] فكذلك قوله: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13] .
1354 - أَخْبَرَنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ، نا السَّرِيُّ بْنُ خُزَيْمَةَ، نا أَبُو نُعَيْمٍ، نا عِيسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْسَجَةَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي عَمَلًا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، قَالَ: «إَنْ كُنْتَ أَقْصَرْتَ الْخُطْبَةَ لَقَدْ أَعْرَضْتَ الْمَسْأَلَةَ، أَعْتِقِ النَّسَمَةَ، وَفُكَّ الرَّقَبَةَ» ، فَقَالَ: أَوَلَيْسَا وَاحِدًا؟ قَالَ: «لا عِتْقُ النَّسَمَةِ، أَنْ تَنْفَرِدَ بِعِتْقِهَا، وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي ثَمَنِهَا، وَالْفَيْءُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الظَّالِمِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَأَطْعِمِ الْجَائِعَ، وَاسْقِ الظَّمْآنَ، وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَإِنْ لَمْ تُطِقْ ذَلِكَ فَكُفَّ لِسَانَكَ إِلا مِنْ خَيْرٍ» .(4/491)
1355 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُعَيْمٍ الْإِشْكَابِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ شبويه، أنا مُحَمَّدُ بْنُ....
، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْجُعْفِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي وَاقِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ مُرْجَانَةَ صَاحِبُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا، اسْتَنْقَذَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ» قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَرْجَانَةَ: فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ فَعَمَدَ إِلَى عَبْدٍ لَهُ قَدْ أَعْطَاهُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ أَلْفَ دِينَارٍ فَأَعْتَقَهُ.
1356 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا أَبُو خَلِيفَةَ، نا الْحَوْضِيُّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ السِّمْطِ، أَنَّهُ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ مُرَّةَ، أَوْ مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ حَدِّثْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً كَانَتْ فِكَاكَهُ مِنَ النَّارِ يُجْزَى مَكَانَ كُلِّ عَظٍم مِنْ عِظَامِهَا عَظْمٌ مِنْ عِظَامِهِ»
وقوله: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد: 14] ذي مجاعة، يقال: سغب يسغب سغبًا.
إذا جاع، قال ابن عباس: يريد بالمسغبة الجوع.
1357 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمُزَكِّي، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، نا عَبْدَانُ الْأَهْوَازِيُّ، نا هَاشِمُ بْنُ عَمَّارِ بْنِ وَاقِدٍ، نا يُونُسُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَشْبَعَ جَائِعًا فِي يَوْمِ سَغَبٍ أَدْخَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، لا يَدْخُلُهُ إِلا مَنْ فَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ»
وروى جابر بن عبد الله، أن(4/492)
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «من موجبات المغفرة إطعام المسلم السغبان» .
وقوله: {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد: 15] معناه: ذا قربة، قال مقاتل: يعني: يتيمًا بينه وبينه قرابة.
{أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] قد لصق بالتراب من فقره، وضره، وروى مجاهد، عن ابن عباس، قال: هو المطروح في التراب، لا يقيه شيء.
والمتربة مصدر من قولهم: ترب يترب تربًا.
ومتربة إذا افتقر حتى لصق بالتراب ضرًا.
ثم بين أن هذه القربة، إنما تنفع مع الإيمان، فقال: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [البلد: 17] على فرائض الله وأمره، وتواصوا بالمرحمة بالبر فيما بينهم، والرحمة لليتيم، والمسكين، والضعيف، أي: كان من الجملة الذين هذه صفتهم.
ثم ذكر أن هؤلاء من هم، فقال: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [البلد: 18] وقد سبق تفسير أصحاب الميمنة في { [الواقعة، وكذلك تفسير أصحاب المشأمة.
وقوله:] عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} [سورة البلد: 20] مطبقة، يقال: أصدت الباب، وأوصدته.
إذا أغلقته وأطبقته، لغتان: مهموز وغير مهموز، قال مقاتل: يعني أبوابها عليهم مطبقة، فلا يفتح لهم باب، ولا يخرج منها غم، ولا يدخل فيها روح آخر الأبد.(4/493)
تفسير سورة الشمس
خمس عشرة آية، مكية.
1358 - أَخْبَرَنَا الزَّعْفَرَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ والشمس، فَكَأَنَّمَا تَصَدَّقَ بِكُلِّ شَيْءٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ» .
بسم الله الرحمن الرحيم {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا {1} وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا {2} وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا {3} وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا {4} وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا {5} وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا {6} وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا {7} فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا {8} قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا {9} وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا {10} } [الشمس: 1-10] .
{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] الضحى: حين تطلع الشمس فيصفو ضوءها، قال مجاهد، والكلبي: يعني ضوء الشمس.
وقال قتادة: هو النهار كله.
{وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} [الشمس: 2] تبعها، يقال: تلا يتلو تلوًا إذا تبع.
قال المفسرون: وذلك في النصف الأول من الشهر، إذا غربت الشمس تلاها القمر في الإضاءة، وخلفها في النور.
وقال الزجاج: {تَلاهَا} [الشمس: 2] حين استدار، فكان يتلو الشمس في الضياء والنور.
يعني: إذا كمل ضوءه فصار تابعًا للشمس في الإنارة، وذلك الليالي البيض.
{وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} [الشمس: 3] جلى الظلمة وكشفها، وجازت الكتابة عن الظلمة، وإن لم تذكر، لأن المعنى معروف.
{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} [الشمس: 4] يعني: يغشى الشمس(4/494)
فيذهب بضوئها، فتغيب وتظلم الآفاق.
{وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5] قال عطاء: يريد والذي بناها.
قال الكلبي: ومن بناها.
وقال الفراء، والزجاج: ما بمعنى المصدر بتقدير: وبنائها.
{وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} [الشمس: 6] في: ما وجهان كما ذكرنا، والمعنى: وسعها، وبسطها على الماء.
{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7] خلقها، وسوى أعضاءها.
وقال عطاء: يريد جميع ما خلق من الإنس والجن.
{فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8] قال ابن عباس في راوية علي بن أبي طلحة: بين لها الخير والشر.
وقال في رواية عطية: علمها الطاعة والمعصية.
وقال في رواية أبي صالح: عرفها ما تأتي وما تتقي.
وقال سعيد بن جبير: ألزمها فجورها وتقواها.
وقال ابن زيد: جعل فيها ذلك بتوفيقه إياها للتقوى، وخذلانه إياها للفجور.
واختار الزجاج هذا القول، وحمل الإلهام على التوفيق والخذلان، وهذا هو الوجه لتفسير الإلهام، لأن التبيين، والتعليم، والتعريف دون الإلهام يوقع في قلبه، ويجعل فيه، فإذا أوقع الله في قلب عبده شيئًا، فقد ألزمه ذلك الشيء، كما ذكره سعيد بن جبير، وهذا صريح في أن الله تعالى خلق في المؤمن تقواه، وفي الكافر فجوره.
أخبرنا أحمد بن محمد بن أحمد التميمي، أنا عبد الله بن محمد الحافظ، نا جعفر بن أحمد بن سنان، نا بندار، نا عبد الرحمن بن مهدي، نا حماد بن سلمة، عن حنظلة بن أبي حمزة، عن سعيد بن جبير: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8] قال: ألزمها.
يروى هذا مرفوعًا إلى ابن عباس.
1359 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْوَاعِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الْحِيرِيُّ،(4/495)
نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، نا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، نا سُفْيَانُ، عَنْ حَنْظَلَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8] قَالَ: أَلْزَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، وَرُوِيَ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
1360 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ إِجَازَةً، أنا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ الْوَاعِظُ، نا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمِصْرِيُّ، نا الْحَسَنُ بْنُ عُلَيَّةَ، نا عِمْرَانُ بْنُ أَبِي عِمْرَانَ، أنا الْمُؤَمَّلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: " {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8] قَالَ: أَلْزَمَهَا ".
1361 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الزَّعْفَرَانِيُّ، نا سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ الْكَرِيزِيُّ، نا أَبُو عُمَرَ الضَّرِيرُ، نا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَيَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَّ عَلَى قَوْمٍ فَأَلْهَمَهُمُ الْخَيْرَ وَأَدْخَلَهُمْ فِي رَحْمَتِهِ، وَابْتَلَى قَوْمًا فَخَذَلَهُمْ وَذَمَّهُمْ عَلَى أَفْعَالِهِمْ، وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا تَغْيِيرَ مَا ابْتَلاهُمْ بِهِ، فَعَذَّبَهُمْ وَقَدْ عَدَلَ فِيهِمْ»
وقد روي في هذه الآية الحديث الصحيح , وأن تفسيرها: التوفيق من الله تعالى للخير، والخذلان للشر، وهو:
1362 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ الزَّاهِدُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ(4/496)
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ التَّاجِرُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، نا شختويه بْنُ مازيار، نا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى، نا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ، نا يَحْيَى بْنِ عُقَيْلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ، قَالَ: قَالَ لِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ ذَاتَ يَوْمٍ غَدَوْتُ عَلَيْهِ: يَا أَبَا الْأَسْوَدِ، أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ وَيَكْدَحُونَ فِيهِ، أَشَيْءٌ قَدْ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ؟ أَمْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُونَ مِمَّا جَاءَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ، وَاتُّخِذَتْ عَلَيْهِمْ فِيهِ الْحُجَّةُ؟ قُلْتُ: لا، بَلْ شَيْءٌ قَدْ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ، فَقَالَ لِي: فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ ظُلْمًا؟ فَفَزِعْتُ مِنْ ذَلِكَ فَزَعًا شَدِيدًا، وَقُلْتُ: إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ إِلا وَهُوَ خَلْقُ اللَّهِ وَمُلْكُ يَدِهِ، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، فَقَالَ: سَدَّدَكَ اللَّهُ، وَاللَّهِ مَا سَأَلْتُكَ إِلا لِأَحْزِرُ عَقْلَكَ إِنَّ رَجُلًا مِنْ جُهَيْنَةَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ وَيَكْدَحُونَ فِيهِ أَشَيْءٌ قَدْ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ؟ أَمْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُونَ مِمَّا جَاءَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتُّخِذَتْ عَلَيْهِمْ فِيهِ الْحُجَّةُ؟ قَالَ: لا بَلْ شَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ، وَمَضَى عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ، قَالَ: فَفِيمَ يَعْمَلُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَمَنْ كَانَ اللَّهُ خَلَقَهُ لِوَاحِدَةٍ مِنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ هَيَّأَهُ لِعَمَلِهَا، وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا {7} فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا {8} } [الشمس: 7-8] رَوَاهُ مُسْلِم، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ، عَن عَزْرَةَ بْنِ ثَابِت.
قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9] قال ابن عباس: قد أفلحت نفس زكاها الله، وأصلحها وطهرها.
والمعنى: وفقها للطاعة.
{وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 10] خابت، وخسرت نفس أضلها الله وأغواها، ودساها أصله: دسسها من التدسيس وهو: إخفاء الشيء، فأبدلت من السين الثانية ياء، ومعنى دساها هنا: أخملها، وخذلها، وأخفى محلها، ولم يشهرها بالطاعة، والعمل الصالح، وقد أقسم الله تعالى بهذه الأشياء التي ذكرها من خلقه، لأنها تدل على وحدانيته، وعلى فلاح من طهره، وخسارة من خذله حتى لا يظن أحد أنه هو الذي يتولى تطهير نفسه، أو إهلاكها بالمعصية، يدل على صحة هذا(4/497)
ما
1363 - أَخْبَرَنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، أنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسْتَفَاضِ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، نا رَوَّادُ بْنُ الْجَرَّاحِ، نا نَافِعٌ ابْنِ عُمَر، عَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: انْتَبَهْتُ لَيْلَةً، فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: «رَبِّ أَعْطِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاهَا»
وروينا هذا التفسير الذي ذكرناه مرفوعًا فيما
1364 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ، أنا عَبْدُ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ عَلِيٍّ الْحَافِظُ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، نا أَبُو مَالِكٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: " {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا {9} وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا {10} } [الشمس: 9-10] أَفْلَحَتْ نَفْسٌ زَكَّاهَا اللَّهُ، وَخَابَتْ نَفْسٌ خَيَّبَهَا اللَّهُ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ ".
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا {11} إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا {12} فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا {13} فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا {14} وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا {15} } [الشمس: 11-15] .
قوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} [الشمس: 11] الطغوى: اسم من الطغيان، كالدعوى من الدعاء، قال المفسرون: كذبت ثمود بطغيانها أي: الطغيان حملهم على التكذيب.
{إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} [الشمس: 12] أي: كذبوا بالعذاب، وكذبوا صالحًا لما انبعث الأشقى للعقر، ومعنى انبعث: انتدب، وقام به، يقال: بعثته على الأمر، فانبعث له.
والأشقى عاقر الناقة، وهو أشقى الأولين على لسان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
1365 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرِ بْنِ الْعَبَّاسِ الْبَصْرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ السَّامِيُّ، نا(4/498)
سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، نا رِشْدِينُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَامَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: " مَنْ أَشْقَى الْأَوَّلِينَ؟ قَالَ: عَاقِرُ النَّاقَةِ، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَمَنْ أَشْقَى الآخِرِينَ؟ قَالَ: قُلْتُ: لا أَعْلَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الَّذِي يَضْرِبُكَ عَلَى هَذِهِ وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى نَافُوخِهِ ".
1366 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نا أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، نا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ مُحَمَّد بن كعب القرظي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي غَزْوَةِ الْعُسْرَةِ نَائِمَيْنِ فِي صَوْرٍ مِنَ النَّخْلِ، وَدَقْعَاءَ مِنَ التُّرَابِ، فَوَاللَّهِ مَا أَهَبَّنَا إِلا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَرِّكُنَا بِرِجْلِهِ، وَقَدْ تَتَرَّبْنَا مِنْ تِلْكَ الدَّقْعَاءِ، فَقَالَ: أَلا أُحَدِّثُكُمَا بِأَشْقَى النَّاسِ رَجُلَيْنِ؟ قُلْنَا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أُحَيْمِرُ ثَمُودَ الَّذِي عَقَرَ النَّاقَةَ، وَالَّذِي يَضْرِبُكَ يَا عَلِيُّ عَلَى هَذِهِ، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى قَرْنِهِ حَتَّى يُبَلَّ مِنْهَا هَذِهِ وَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ: صَالِحٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ناقة الله قال الزجاج: ناقة الله منصوبة على معنى: ذروا ناقة الله.
وقال الفراء: حذرهم إياها، وكل تحذير فهو نصب.
وسقياها عطف على ناقة الله،(4/499)
وهي شربها من الماء، وما يسقاها، قال الكلبي، ومقاتل: قال لهم صالح: ذروا ناقة الله فلا تعقروها، وذروا أيضًا سقياها، وهي شربها من النهر، فلا تعرضوا للماء يوم شربها.
فكذبوه بتحذيره إياهم العذاب بعقرها، فعقروها وتفسير العقر قد تقدم، {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ} [الشمس: 14] قال عطاء، ومقاتل: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ} [الشمس: 14] .
وقال المؤرج: الدمدمة إهلاك باستئصال.
وقال ابن الأعرابي: دمدم إذا عذب عذابًا تامًا.
فسواها فسوى الدمدمة عليهم، وعمهم بها، فاستوت على صغيرهم وكبيرهم، وقال الفراء: سوى الأمة: أنزل العذاب بصغيرها وكبيرها، بمعنى: سوى بينهم.
{وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس: 15] قال ابن عباس: لا يخاف الله من أحد تبعة في إهلاكهم.
وهو قول الحسن، قال: ذاك الرب صنع بهم ولا يخاف تبعة.
والمعنى: لا يخاف أن يتعقب عليه في شيء مما فعله، وفي مصاحف الشام، والحجاز: فلا يخاف بالفاء، قال الفراء: وكل صواب.(4/500)
تفسير سورة الليل
إحدى وعشرون آية، مكية.
1367 - أَخْبَرَنَا ابْنُ الزَّعْفَرَانِيِّ، أنا أَبُو عَمْرٍو السَّخْتِيَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ وَاللَّيْلِ أَعْطَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَرْضَى، وَعَافَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْعُسْرِ، وَيَسَّرَ لَهُ الْيُسْرَ» .
بسم الله الرحمن الرحيم {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى {1} وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى {2} وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى {3} إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى {4} فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى {5} وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى {6} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى {7} وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى {8} وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى {9} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى {10} وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى {11} } [الليل: 1-11] .
{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] قال ابن عباس، ومقاتل: أقسم الله تعالى بالليل إذا يغشى بظلمته النهار.
قال الزجاج: يغشى الليل الأفق، وجميع ما بين السماء والأرض، فيذهب ضوء النهار.
{وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل: 2] بان، وظهر من بين الظلمة.
قال قتادة: هما آيتان عظيمتان، يكررهما الله تعالى على الخلائق.
{وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [الليل: 3] قال الكلبي: والذي خلق.
وهو قول الحسن، وما على هذا بمعنى: من، وقال مقاتل: يعني: وخلق الذكر والأنثى.
وما على هذا القول للمصدر، قال مقاتل، والكلبي: يعني: آدم وحواء.(4/501)
وجواب القسم قوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 4] قال ابن عباس: إن أعمالكم لمختلفة: عمل للجنة، وعمل للنار.
1368 - حَدَّثَنَا الشَّيْخُ أَبُو مَعْمَرٍ الْمُفَضَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ إِمْلاءً بِجُرْجَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلاثِينَ وَأَرْبَعِ مِائَةٍ، أنا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، نا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ هَارُونَ، نا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّرْقُفِيُّ، نا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، نا الْحَكَمُ بْنُ أَبَانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ رَجُلًا كَانَتْ لَهُ نَخْلَةٌ، فَرْعُهَا فِي دَارِ رَجُلٍ فَقِيرٍ ذِي عِيَالٍ، وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا جَاءَ فَيَدْخُلُ الدَّارَ، فَيَصْعَدُ النَّخْلَةَ لِيَأْخُذَ مِنْهَا التَّمْرَ، فَرُبَّمَا سَقَطَتِ التَّمْرَةُ، فَيَأْخُذُهَا صِبْيَانُ الْفَقِيرِ، فَيَنْزِلُ الرَّجُلُ مِنْ نَخْلَتِهِ حَتَّى يَأْخُذَ التَّمْرَةَ مِنْ أَيْدِيهِمْ، فَإِنْ وَجَدَهَا فِي فَمِ أَحَدِهِمْ أَدْخَلَ إِصْبَعَهُ حَتَّى يُخْرِجَ التَّمْرَةَ مِنْ فِيهِ، فَشَكَا ذَلِكَ الرَّجُلُ إلى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْبَرَهُ بِمَا يَلْقَى مِنْ صَاحِبِ النَّخْلَةِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذْهَبْ، وَلَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاحِبَ النَّخْلَةِ، فَقَالَ لَهُ: تُعْطِينِي نَخْلَتَكَ الْمَائِلَةَ الَّتِي فُرُوعُهَا فِي دَارِ فُلانٍ وَلَكَ بِهَا نَخْلَةٌ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: إِنَّ لِي نَخْلًا كَثِيرًا وَمَا فِيهِ نَخْلَةٌ أَعْجَبَ إِلَيَّ ثَمَرَةً مِنْهَا، قَالَ: ثُمَّ ذَهَبَ الرَّجُلُ، فَقَالَ رَجُلٌ كَانَ يَسْمَعُ الْكَلامَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُعْطِينِي مَا أَعْطَيْتَ الرَّجُلَ نَخْلَةً فِي الْجَنَّةِ إِنْ أَنَا أَخَذْتُهَا، قَالَ: نَعَمْ، فَذَهَبَ الرَّجُلُ وَلَقِيَ صَاحِبَ النَّخْلَةِ فَسَاوَمَهَا مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ: أَشَعَرْتَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَانِي بِهَا نَخْلَةً فِي الْجَنَّةِ، فَقُلْتُ لَهُ: يُعْجِبُنِي ثَمَرُهَا وَإِنَّ لِي نَخْلًا كَثِيرًا، فَمَا فِيهِ نَخْلَةٌ أَعْجَبَ إِلَيَّ ثَمَرًا مِنْهَا، فَقَالَ لَهُ الآخَرُ: أَتُرِيدُ بَيْعَهَا، فَقَالَ: لا إِلا أَنْ أُعْطَى بِهَا مَا لا أَظُنُّهُ أُعْطَى، قَالَ: فَمَا مُنَاكَ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ نَخْلَةً، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: جِئْتَ بِعَظِيمٍ تَطْلُبُ بِنَخْلَتِكَ الْمَائِلَةِ أَرْبَعِينَ نَخْلَةً ثُمَّ سَكَتَ عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ: أَنَا أَعْطَيْتُكَ أَرْبَعِينَ نَخْلَةً، فَقَالَ لَهُ: أَشْهِدْ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا، فَمَرَّ نَاسٌ فَدَعَاهُمْ فَأَشْهَدَ لَهُ بِأَرْبَعِينَ نَخْلَةً ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ النَّخْلَةَ قَدْ صَارَتْ فِي مِلْكِي فَهِيَ لَكَ، فَذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى صَاحِبِ الدَّارِ، فَقَالَ لَهُ: النَّخْلَةُ لَكَ وَلِعِيَالِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى {1} وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى {2} وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى {3} إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى {4} } [الليل: 1-4] وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
1369 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، أنا الْوَلِيدُ بْنُ أَبَانٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ، نا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ،(4/502)
نا ابْنُ أَبِي الْوَضَّاحِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اشْتَرَى بِلالًا مِنْ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ بِبُرْدَةٍ وَعَشْرِ أَوَاقٍ فَأَعْتَقَهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 4] يَعْنِي سَعْيَ أَبِي بَكْرٍ وَأُمَيَّةَ وَأُبَيٍّ
ثم فصل وبين، فقال: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} [الليل: 5] تصدق من ماله، واتقى معصية ربه، يعني: الصديق رضى الله عنه.
وصدق بالحسنى بالجنة، وثواب الله، والخلف من الله.
فسنيسره لليسرى فسنهيئه لعمل الخير، والمعنى: نيسر له الإنفاق في سبيل الخير، والعمل بالطاعة لله.
قال المفسرون: نزلت هذه الآيات في أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، اشترى ستة نفر من المؤمنين، كانوا في أيدي أهل مكة يعذبونهم في الله.
قال عروة بن الزبير: أعتق أبو بكر على الإسلام قبل أن يهاجر من مكة ست رقاب، بلال سابعهم، عامر بن فهيرة شهد بدرًا وأحدًا، وقتل يوم بئر معونة شهيدًا، وأم عميس، وزئيرة، فأصيب بصرها حين أعتقها، فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى.
فقالت: وبيت الله لا تضر اللات والعزى، ولا تنفعان.
فرد الله إليها بصرها، وأعتق النهدية وابنتها، وكانت لامرأة من بني عبد الدار، فمر بهما وقد بعثتهما سيدتهما يطحنان لها، وهي تقول: والله لا أعتقكما أبدًا.
فقال أبو بكر، رضي الله عنه: حلا يا أم فلان؟ قالت: حلا أنت أفسدتهما فأعتقهما.
قال: فبكم هما؟ قالت: بكذا وكذا.
قال: أخذتهما وهما حرتان.
ومر أبو بكر، رضي الله عنه، بجارية من بني نوفل وكانت مسلمة، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه، يعذبها لتترك الإسلام، وهو يومئذ مشرك، وهو يضربها حتى إذا مل قال: إني أعتذر إليك، إني لم أتركك إلا ملالة.
فابتاعها أبو بكر فأعتقها، فقال عمار بن ياسر، وهو يذكر بلالًا وأصحابه وما كانوا فيه من البلاء، وإعتاق أبي بكر إياهم، وكان اسم أبي بكر عتيقًا:
جزى الله خيرًا عن بلال وصحبه ... عتيقًا وأخزى فاكهًا وأبا جهل
عشية هما في بلال بسوءة ... ولم يحذرا ما يحذر المرء ذو العقل
بتوحيده رب الأنام وقوله ... شهدت بأن الله ربي على مهل
فإن تقتلوني فاقتلوني فلم أكن ... لأشرك بالرحمن من خيفة القتل
فيا رب إبراهيم والعبد يونس ... وموسى وعيسى نجني ثم لا تمل
لمن ظل يهوى الغي من آل غالب ... على غير حق كان منه ولا عدل(4/503)
قوله: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ} [الليل: 8] بالنفقة في الخير والصدقة، واستغنى عن ثواب الله، فلم يرغب فيه، يعني: أبا سفيان، ثم هو عام في الكفار.
{وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} [الليل: 9] بما صدق به أبو بكر.
{فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 10] قال مقاتل: نعسر عليه أن يعطي خيرًا.
وقال عكرمة، عن ابن عباس: {لِلْعُسْرَى} [الليل: 10] : للشر عليه أن الشر يؤدي إلى العذاب، والعسرة في العذاب.
والمعنى: سنهيئه للشر بأن نجريه على يديه.
1370 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا الْحَذَّاءُ، نا عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، نا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنَّا فِي جِنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَأَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ وَفِي يَدِهِ أَوْ قَالَ: مَعَهُ مِخْصَرَةٌ، فَنَكَسَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: " مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلا قَدْ كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإِلا قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلا نَمْكُثُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ، فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ؟ فَقَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ، فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل: 5] الآيات رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَة وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ كِلاهُمَا عَنْ جَرِيرٍ
ثم ذكر أن ما أمسك من ماله عن الإنفاق لا ينفعه، فقال: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ} [الليل: 11] الذي بخل به عن الخير، {إِذَا تَرَدَّى} [الليل: 11] مات، وهلك، وقال ابن عباس، وقتادة: إذا تردى في جهنم، أي: سقط.(4/504)
{إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى {12} وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى {13} فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى {14} لا يَصْلاهَا إِلا الأَشْقَى {15} الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى {16} وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى {17} الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى {18} وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى {19} إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى {20} وَلَسَوْفَ يَرْضَى {21} } [الليل: 12-21] .
{إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} [الليل: 12] يعني: البيان، قال الزجاج: علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلال.
وهو قول قتادة: على الله البيان، بيان حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته.
{وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى} [الليل: 13] يعنى الدارين، والمعنى: لنا ملكهما، فليطلبا منا.
فأنذرتكم يا أهل مكة، نارًا تلظى تتوقد، وتتوهج.
1371 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، أنا حَامِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْهَرَوِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ، نا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ حَسَّانٍ، نا إِسْرَائِيلُ بْنُ يُونُسَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: «أَنْذَرْتُكُمُ النَّارَ أَنْذَرْتُكُمُ النَّارَ حَتَّى لَوْ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ فِي أَقْصَى السُّوقِ لَسَمِعَهُ، أَسْمَعَ النَّاسَ صَوْتَهُ»
{لا يَصْلاهَا إِلا الأَشْقَى} [الليل: 15] يعني: المشرك، الذي كذب الرسول والقرآن، وتولى أعرض عن الإيمان.
وسيجنبها سنبعدها، ويجعل منها على جانب، الأتقى يعني: أبا بكر في قول الجميع.
ثم وصفه، فقال: {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل: 18] يطلب أن يكون عند الله زاكيًا، لا يطلب رياء، ولا سمعة.
{وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل: 19] قال المفسرون: لما اشترى أبو بكر، رضي الله عنه، بلالًا من صاحبه، وكان قد سلح على الأصنام، فأسلمه مولاه إلى المشركين ليعذبوه بما فعل، فاشتراه أبو بكر وأعتقه، فقال المشركون: ما فعل هذا أبو بكر إلا ليد كانت عنده لبلال، أراد أن يجزيه بها.
فقال الله: {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل: 19] أي: لم يفعل ما فعل ليد أسديت إليه، ولكنه ابتغى وجه الله، وهو قوله: {إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل: 20] أي: إلا طلب ثواب الله الآجل بصفاته الكريمة.
1372 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، نا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ مِيكَالَ، أنا عَبْدَانُ الْأَهْوَازِيُّ، نا زَيْدُ بْنُ الْحَرِيشِ،(4/505)
نا بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ، نا مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى {19} إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى {20} } [الليل: 19-20]
ثم وعده أن يرضيه في الآخرة بثوابه، فقال: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 21] بما يعطيه في الجنة من الكرامة، والثواب.(4/506)
تفسير سورة الضحى
وهي إحدى عشرة آية، مكية.
1373 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْجَامِعِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ وَالضُّحَى كَانَ فِيمَنْ يَرْضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ، وَلَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ بِعَدَدِ كُلِّ يَتِيمٍ وَسَائِلٍ» .
بسم الله الرحمن الرحيم {وَالضُّحَى {1} وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى {2} مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى {3} وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى {4} وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى {5} أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى {6} وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى {7} وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى {8} فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ {9} وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ {10} وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ {11} } [الضحى: 1-11] .
{وَالضُّحَى} [الضحى: 1]
1374 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ، أنا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، نا الْحَسَنُ بْنُ الْمُثَنَّى بْنِ مُعَاذٍ، نا أَبُو حُذَيْفَةَ مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ جُنْدُبٍ، قَالَ: قَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَرَى شَيْطَانَكَ إِلا قَدْ وَدَّعَكَ، فَنَزَلَتْ: {وَالضُّحَى {1} وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى {2} مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى {3} } [الضحى: 1-3] رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ كِلاهُمَا عَنْ زُهَيْرٍ، عَنِ الْأَسْوَدِ.
أقسم الله تعالى بالضحى، والمراد به النهار كله، لقوله في المقابلة: {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى: 2] إذا سكن، قال عطاء: إذا غطي بالظلمة.
وقال قتادة: إذا سكن، يعني: استقر ظلامه، فلا(4/507)
يزداد بعد ذلك.
وروى ثعلب عن ابن الأعرابي: {سَجَى} [الضحى: 2] امتد ظلامه.
وقال الأصمعي: سجو الليل تغطيته للنهار.
{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 3] هذا جواب القسم، قال المفسرون: أبطأ جبريل على النبي، عليهما السلام، فقال المشركون: قد قلاه الله وودعه.
فأنزل الله تعالى هذه الآية، قالوا: وإنما أبطأ.
لأن اليهود سألته عن الروح، وعن ذي القرنين، وأصحاب الكهف، فقال: سأخبركم غدًا.
ولم يقل: إن شاء الله.
1375 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ، أنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّغُولِيُّ، نا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ، نا أَبُو نُعَيْمٍ، نا حَفْصُ بْنُ سَعِيدٍ الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَتْنِي أُمِّي، عَنْ أُمِّهَا خَوْلَةَ وَكَانَتْ خَادِمَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنْ جَرْوًا دَخَلَ الْبَيْتَ، فَدَخَلَ تَحْتَ السَّرِيرِ، فَمَاتَ فَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّامًا لا يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فَقَالَ: يَا خَوْلَةُ مَا حَدَثَ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ جِبْرِيلُ لا يَأْتِينِي، قَالَتْ خَوْلَةُ: فَقُلْتُ: لَوْ هَيَّأْتُ الْبَيْتَ وَكَنَسْتُهُ، فَأَهْوَيْتُ بِالْمِكْنَسَةِ تَحْتَ السَّرِيرِ، فَإِذَا شَيْءٌ ثَقِيلٌ، فَلَمْ أَزَلْ حَتَّى أَخْرَجْتُهُ، فَإِذَا جَرْوٌ مَيِّتٌ، فَأَخَذْتُهُ فَأَلْقَيْتُهُ خَلْفَ الْجِدَارِ، فَجَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْعَدُ لِحْيَاهُ، وَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ اسْتَقْبَلَتْهُ الرَّعْدَةُ، فَقَالَ: يَا خَوْلَةُ، دَثِّرِينِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَالضُّحَى {1} وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى {2} مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى {3} } [الضحى: 1-3]
والمعنى: ما تركك ربك، وما أبغضك، والقلى: البغض، يقال: قلاه يقليه قلى.
قال أبو عبيدة: ودعك من التوديع كما يودع المفارق.
وقال الزجاج:(4/508)
لم يقطع الوحي، ولا أبغضك.
{وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} [الضحى: 4] قال عطاء، ومقاتل: الجنة خير لك من الدنيا.
1376 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَخْلَدِيُّ، أنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أَخْبَرَنِي سَهْلُ بْنُ بَكَّارٍ، نا مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى سَرِيرٍ مَرْمُولٍ بِالشَّرِيطِ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ وحَشَوُهَا لِيفٌ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَانْحَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْحِرَافَةً، فَرَأَى عُمَرُ أَثَرَ الشَّرِيطِ فِي جَنْبِهِ فَبَكَى، فَقَالَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ يَا عُمَرُ؟ فَقَالَ: وَمَا لِي لا أَبْكِي وَكِسْرَى وَقَيْصَرُ يَعْبَثَانِ فِيمَا يَعْبَثَانِ فِيهِ مِنَ الدُّنْيَا، وَأَنْتَ عَلَى الْحَالِ الَّتِي أَرَى!!! ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عُمَرُ أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الآخِرَةُ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: هُوَ كَذَلِكَ
{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] قال مقاتل: يعطيك ربك في الآخرة من الخير، فترضى بما تُعْطى.
1377 - أَخْبَرَنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ النَّصْرَابَاذِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْكَارِذِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ قُتَيْبَةَ الْعَسْقَلانِيُّ، نا مُوسَى بْنُ سَهْلٍ الرَّمْلِيُّ، نا عَمْرُو بْنُ هَاشِمٍ الْبَيْرُوتِيُّ، نا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَخْزُومِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: عُرِضَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُفْتَحُ عَلَى أُمَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ كَفْرًا كَفْرًا فَسُرَّ بِذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] فَأَعْطَاهُ اللَّهُ أَلْفَ أَلْفِ قَصْرٍ فِي كُلِّ قَصْرٍ مَا يَنْبَغِي لَهُ مِنَ الْأَزْوَاجِ وَالْخَدَمِ(4/509)
وذكر آخرون أن هذه الآية في الشفاعة، وهو قول علي، والحسن، وعطاء، عن ابن عباس.
قال: هو الشفاعة في أمته حتى يرضى.
أخبرنا أبو بكر التميمي، أنا عبد الله بن محمد بن جعفر، نا ابن رستة، نا شيبان، نا حرب بن سريح، قال: سمعت محمد بن علي، يقول: يا أهل العراق، تزعمون أن أرجى آية في كتاب الله عز وجل {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر: 53] وإنا أهل البيت نقول: أرجى آية في كتاب الله عز وجل: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] وهي والله الشفاعة، ليعطينها في أهل لا إله إلا الله حتى يقول: رب رضيت، وزدتني على أمتي في أمتي.
1378 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَارِسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَمْرَوَيْهِ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، نا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، أنا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ بَكْرَ بْنَ سَوَادَةَ حَدَّثَهُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَلا قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم: 36] الآية وَقَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي عِيسَى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: " اللَّهُمَّ أُمَّتِي وَبَكَى، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَ، فَقَالَ اللَّهُ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلا نَسُوءُكَ، ثُمَّ ذَكَرَ مَنَّهُ عَلَيْهِ وَأَخْبَرَهُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْوَحْيِ، فَقَالَ: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى: 6]
ذكر المفسرون في هذه الآية الحديث الذي
1379 - أَخْبَرَنَاهُ الشَّيْخُ أَبُو سَعِيدٍ الْفَضْلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الصُّوفِيُّ، نا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، نا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ النَّيْسَابُورِيُّ، نا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْحَجَبِيُّ، نا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَقَدْ سَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ مَسْأَلَةً وَدِدْتُ، أَنِّي لَمْ أَسْأَلْهُ، قُلْتُ: أَيْ رَبِّ إِنَّهُ قَدْ كَانَتْ أَنْبِيَاءُ قَبْلِي، مِنْهُمْ مَنْ سُخِّرَتْ لَهُ الرِّيحُ وَذَكَرَ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ، وَمِنْهُمْ مَنْ(4/510)
كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَذَكَرَ عِيسَى، وَمِنْهُمْ وَمِنْهُمْ، قَالَ: فَقَالَ: أَلَمْ أَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَيْتُكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى أَيْ رَبِّ، قَالَ: أَلَمْ أَجِدْكَ ضَالًّا فَهَدَيْتُكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى أَيْ رَبِّ، قَالَ: أَلَمْ أَجِدْكَ عَائِلًا فَأَغْنَيْتُكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى أَيْ رَبِّ، قَالَ: أَلَمْ أَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْتُ عَنْكَ وِزْرَكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى أَيْ رَبِّ "
والمعنى: ألم يجدك يتيمًا صغيرًا حين مات أبواك، ولم يخلفا لك مالًا، ولا مأوى، فضمك إلى عمك أبي طالب، حتى أحسن تربيتك؟ ثم ذكر نعمة أخرى، فقال: {وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى} [الضحى: 7] قال أكثر المفسرين: {وَوَجَدَكَ ضَالا} [الضحى: 7] عن معالم النبوة، وأحكام الشريعة، غافلًا عنها، فهداك إليها.
دليله قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3] ، وقوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى: 52] وهذا القول هو اختيار الزجاج، قال: معناه: أنه لم يكن يدري القرآن، ولا الشرائع، فهداه الله إلى القرآن، وشرائع الإسلام.
{وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] أي: فقيرًا لا مال لك، فأغناك الله بمال خديجة، عن أبي طالب، وقال الكلبي: رضاك بما أعطاك من الرزق.
واختاره الفراء، فقال: لم يكن غنى عن كثرة المال، ولكن الله رضاه بما آتاه.
وذلك حقيقة الغنى.
ثم أوصاه باليتامى والفقراء، فقال: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} [الضحى: 9] قال مجاهد: لاتحقر اليتيم، فقد كنت يتيمًا.
وقال الفراء، والزجاج: لا تقهره على ماله، فتذهب بحقه لضعفه.
وكذا كانت العرب تفعل في أمر اليتامى: تأخذ أموالهم، وتظلمهم حقوقهم، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحسن إلى اليتيم ويبره، ويوصي باليتامى.
1380 - أَخْبَرَنَا الْفُضَيْلُ بْنُ أَحْمَدَ، نا أَبُو عَلِيٍّ الْفَقِيهُ، أنا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُصْعَبٍ، نا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، نا عِيسَى بْنُ يُونُسَ،(4/511)
عَنْ أَبِي الْوَرْقَاءِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَاهُ غُلامٌ، فَقَالَ: غُلامٌ يَتِيمٌ، وَأُخْتٌ لِي يَتِيمَةٌ، وَأُمٌّ لِي أَرْمَلَةٌ، أَطْعِمْنَا مِمَّا أَطْعَمَكَ اللَّهُ، وَأَعْطَاكَ اللَّهُ مِمَّا عِنْدَهُ حَتَّى تَرْضَى، قَالَ: مَا أَحْسَنَ مَا قُلْتَ يَا غُلامُ اذْهَبْ يَا بِلالُ فَأْتِنَا بِمَا كَانَ عِنْدَنَا، فَجَاءَ بِوَاحِدَةٍ وَعِشْرِينَ تَمْرَةً، فَقَالَ: سَبْعُ تَمَرَاتٍ لَكَ، وَسَبْعٌ لِأُخْتِكَ، وَسَبْعٌ لأُمِّكَ، فَقَامَ إِلَيْهِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَمَسَحَ رَأْسَهُ، وَقَالَ: جَبَرَ اللَّهُ يُتْمَكَ، وَجَعَلَكَ خَلَفًا مِنْ أَبِيكَ وَكَانَ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ رَأَيْتُكَ يَا مُعَاذُ وَمَا صَنَعْتَ، قَالَ: رَحِمْتُهُ، قَالَ: لا يَلِي أَحَدٌ مِنْكُمْ يَتِيمًا فَيُحْسِنُ وِلايَتَهُ، وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ إِلا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةً، وَمَحَى عَنْهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَيِّئَةً، وَرَفَعَ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ دَرَجَةً ".
1381 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَتْحِ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، نا قَطَنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، نا الْجَارُودُ بْنُ يَزِيدَ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ رَبِيعَةَ السَّعْدِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ مَسَحَ عَلَى رَأْسِ يَتِيمٍ كَانَ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ تَمُرُّ عَلَى يَدِهِ نُورٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
{وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى: 10] قال المفسرون: يريد السائل على الباب.
يقول: لا تنهره إذا سألك، فقد كنت فقيرًا، فإما أن تطعمه، وإما أن ترده ردًا لينا.
يقال: نهره وانتهره.
إذا استقبله بكلام يزجره، وقال قتادة: رد السائل برحمة ولين.
وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تردوا السائل ولو بظلف محرق» .
1382 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ، أنا أَبُو عَلِيٍّ الْفَقِيهُ، نا أَبُو عَوَانَةَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يَزِيدَ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ هُدْبَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَتَاكَ سَائِلٌ عَلَى فَرَسٍ بَاسِطٌ كَفَّيْهِ، فَقَدْ وَجَبَ الْحَقُّ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» .
{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ(4/512)
فَحَدِّثْ} [الضحى: 11] قال مجاهد: بالقرآن.
وهو قول الكلبي.
قال: وكان القرآن أعظم ما أنعم الله عليه به، فأمره أن يقرئه.
قال الفراء: وكان يقرؤه، ويحدث به.
وروى أبو بشر، عن مجاهد، قال: بالنبوة التي أعطاك ربك.
واختاره الزجاج، فقال: أي بلغ ما أرسلت به، وحدث بالنبوة التي آتاك الله، وهي أجل النعم.
وقال مقاتل: يعني: اشكر لما ذكر من النعمة عليك، في هذه السورة من الهدى بعد الضلالة، وجبر اليتيم، والإغناء بعد العيلة، فاشكر هذه النعم، والتحدث بنعمة الله شكر.
يدل على ذلك ما:
1383 - أَخْبَرَنَا مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْبَزَّارُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمْدَانَ، نا أَبُو يَعْلَى، نا ابْنُ حَمُّوَيْهِ، نا سَوَّارٌ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْبَصْرِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لا يَشْكُرُ النَّاسَ لا يَشْكُرُ اللَّهَ، وَمَنْ لا يَشْكُرُ الْقَلِيلَ لا يَشْكُرُ الْكَثِيرَ، وَإِنَّ حَدِيثًا بِنِعْمَةِ اللَّهِ شُكْرٌ، وَإِنَّ السُّكُوتَ عَنْهُ كُفْرٌ، وَإِنَّ الْجَمَاعَةَ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةَ عَذَابٌ» .
1384 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ النَّسَوِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أنا أَبُو رَجَاءٍ الْغَنَوِيُّ، نا ابْنُ أَبِي مَيْسَرَةَ، نا أَبِي وَالْحُمَيْدِيُّ، قَالا: نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي حَيَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَلَمَّا بَلَغْتُ وَالضُّحَى، قَالَ: كَبِّرْ إِذَا خَتَمْتَ كُلَّ سُورَةٍ حَتَّى تَخْتِمَ، وَرُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا.
1385 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمُقْرِي، أنا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْخُزَاعِيُّ، نا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ(4/513)
مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُزَنِيُّ، نا الْوَلِيدُ بْنُ أَبَانٍ، وَيَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ، قَالا: نا ابْنُ أَبِي بَزَّةَ، نا عِكْرِمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَلَمَّا بَلَغْتُ وَالضُّحَى قَالَ: كَبِّرْ حَتَّى تَخْتِمَ بِهِ مَعَ خَاتِمَةِ كُلِّ سُورَةٍ، فَإِنِّي قَرَأْتُ عَلَى شِبْلِ بْنِ عَبَّادٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، فَأَمَرَنِي بِذَلِكَ.
وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى مُجَاهِدٍ فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَأَخْبَرَهُ مُجَاهِدٌ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَأَخْبَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَأَخْبَرَهُ أُبَيٌّ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَيُقَالُ: إِنَّ الْأَصْلَ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْوَحْيَ لَمَّا فَتَرَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: قَدْ هَجَرَهُ شَيْطَانُهُ وَوَدَّعَهُ اغْتَمَّ لِذَلِكَ، فَلَمَّا نَزَلَ وَالضُّحَى كَبَّرَ عِنْدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَحًا بِنُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ، فَاتَّخَذَهُ النَّاسُ سُنَّةً.(4/514)
تفسير سورة الشرح
ثمان آيات، مكية.
1386 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحِيرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ أَلَمْ نَشْرَحْ أُعْطِيَ مِنَ الْأَجْرِ، كَمَنْ لَقِيَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُغْتَمًّا فَفُرِّجَ عَنْهُ» .
بسم الله الرحمن الرحيم {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ {1} وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ {2} الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ {3} وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ {4} فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا {5} إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا {6} فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ {7} وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ {8} } [الشرح: 1-8] .
{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] معنى شرح الصدر: الفتح بإذهاب ما يصد عن الإدراك، والله عز وجل فتح صدر نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإذهاب الشواغل التي تصد عن إدراك الحق، قال ابن عباس في هذه الآية: قالوا: يا رسول الله أينشرح الصدر؟ قال: نعم.
قالوا: يا رسول الله، وهل لذلك علامة يعرف بها؟ قال: «نعم، التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزول الموت» .
أشار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ذهاب الشواغل التي تصد عن حقيقة الإيمان، وذلك أن صدق الإيمان بالله ووعده، يوجب للإنسان الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، والاستعداد للموت، فإنه باب الآخرة، وهذا معنى قول الحسن في هذه الآية: ملئ حكمًا وعلمًا.
يعني أن معنى شرح صدره: أن ملأه الله علمًا وحكمًا حتى علم حقيقة الأشياء، فحكم لها بحكمها، علم حقيقة الدنيا،(4/515)
وأنها فانية فتركها، وأن الآخرة باقية فيها، وكذلك كل شيء، ومعنى هذا الاستفهام التقرير أي: قد فعلنا ذلك، يدل على هذا قوله في النسق عليه: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} [الشرح: 2] قال ابن عباس، والحسن، وقتادة، والضحاك، ومقاتل: حططنا عنك إثمك الذي سلف منك في الجاهلية.
وهذا كقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] وقد مر.
ثم وصف ذلك الوزر بقوله: {الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح: 3] قال المفسرون: أثقل ظهرك.
قال الزجاج: أثقله حتى سمع له نقيض، أي: صوت.
وهذا مثل معناه: أنه لو كان حملًا يحمل، لسمع نقيض ظهره، قال قتادة: كانت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذنوب قد أثقلته، فغفرها الله له.
وقوم يذهبون إلى أن هذا تخفيف أعباء النبوة التي تثقل الظهر من القيام بأمرها، سهل الله ذلك عليه حتى تيسرت به، وذكر منته عليه بذلك.
وقوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد الأذان والإقامة، والتشهد، والخطبة على المنابر يوم الجمعة، ويوم الفطر، ويوم النحر، ويوم عرفة، وأيام التشريق، وخطبة النكاح، وفي كل موطن، وعلى الدنانير والدراهم، وكلمة الشهادة، ولو أن رجلًا عبد الله وصدقه في كل شيء، ولم يشهد أن محمدًا رسول الله، لم ينتفع بشيء، وكان كافرًا.
وقال الحسن في هذه الآية: ألا ترى أن الله تعالى لا يذكر في موضع إلا ذكر معه نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال قتادة: رفع ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب، ولا متشهد، ولا صاحب صلاة إلا ينادي به: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.
1387 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، أنا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَالِكٍ، نا أَبُو مُسْلِمٍ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، نا يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ، نا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَفَعْنَا لَكَ(4/516)
ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] قَالَ: قَالَ لِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «إِذَا ذُكِرْتُ ذُكِرْتَ مَعِي»
وقال الضحاك: أي لا تقبل صلاة إلا به، ولا تجوز خطبة إلا به، ولا يذكر الله إلا ذكر معه، فذلك الذي رفع به ذكره.
قال: ورفع ذكره بالأذان.
وفي هذا يقول حسان بن ثابت يمدح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أغر عليه للنبوة خاتم ... من الله مشهود يلوح ويشهد
وضم الإله اسم النبي مع اسمه ... إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
ثم وعده اليسر، والرخاء بعد الشدة، وذلك: أنه كان بمكة في شدة، وهو قوله: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5] قال الكلبي: مع الفقر سعة.
وقال مقاتل: يعني: تتبع الشدة الرخاء.
ثم كرر ذلك، فقال: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 6] قال ابن عباس، في رواية عطاء: يقول الله تعالى: خلقت عسرًا واحدًا، وخلقت يسرين، فلن يغلب عسر يسرين.
1388 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الصَّنْعَانِيُّ، نا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أنا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 6] قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا مَسْرُورًا، فَرِحًا(4/517)
وَهُوَ يَضْحَكُ، وَيَقُولُ: لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا {5} إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا {6} { [الشرح: 5-6] .
وقال ابن مسعود: لو أن العسر دخل في حجر، لجاء اليسر حتى يدخل معه.
قال الله تعالى:} فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا {5} إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا {6} { [الشرح: 5-6] وكتب عمر، رضي الله عنه، إلى أبي عبيدة وهو محصور: إنه مهما تنزل بامرئ شدة، يجعل الله بعده فرجًا، فإنه لن يغلب عسر يسرين.
وهذا قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والصحابة، والمفسرين على أن العسر واحد، واليسر اثنان، وفي ظاهر التلاوة عسران ويسران، إلا أن المراد عسر واحد، لأنه مذكور بلفظ التعريف، واليسر مذكور بلفظ التنكير، فكان كل واحد منهما غير الآخر.
أخبرنا أبو الحسن الفارسي، نا محمد بن محمد بن إبراهيم، نا أبو عمر، عن تغلب، عن سلمة، عن الفراء، قال: العرب إذا ذكرت نكرة ثم أعادتها بنكرة، مثلهما صارتا اثنتين، كقولك: إذا كسبت درهما فأنفق درهمًا.
فالثاني غير الأول، وإذا أعادتها معرفة، فهي هي كقولك: إذا كسبت درهمًا، فأنفق(4/518)
الدرهم.
فالثاني هو الأول.
ونحو هذا قال الزجاج: ذكر العسر مع الألف واللام، ثم ثنى ذكره، فصار المعنى: إن مع العسر يسرين.
وقد أحسن صاحب النظم في تفسير هذه الآية، فقال: إن الله بعث نبيه، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو مقل مخف، فكانت قريش تعيره بذلك، حتى قالوا له: إن كان بك من هذا القول الذي تدعيه طلب الغنى، جمعنا لك مالًا حتى تكون كأيسر أهل مكة، فكرث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك، وظن أن قومه إنما يكذبونه لفقره، فعدد الله عليه مننه في هذه ال} [، ووعده الغنى، وأنزل:] أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ {1} وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ {2} { [سورة الشرح: 1-2] أي: ما كنت فيه من أمر الجاهلية، لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان على كثير من مذاهب قومه، وإن لم يكن عبد صنمًا، ثم ابتدأ فيما وعده من الغنى، ليسليه بذلك عما خامره من الهم بقول من عيره بالفقر، فقال:} فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا { [الشرح: 5] والتأويل: لا يحزنك ما يقولون، وما أنت فيه من الإقلال، فإن مع ذلك يسرًا في الدنيا عاجلًا، ثم أنجز ما وعده، فلم يمت حتى فتح عليه الحجاز وما والاها من القرى العربية، وعامة بلاد اليمن، وحتى أهل البوادي، فكان يعطي المائتين من الإبل، ويهب الهبات السنية، ويعد لأهله قوت سنة.
ثم ابتدأ فضلًا آخر، فقال:} إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا { [الشرح: 6] والدليل على ابتدائه تعريه من فاء أو واو وهو وعد لجميع المؤمنين، لأنه يعني بذلك: إن مع العسر في الدنيا للمؤمنين يسرًا في الآخرة، وربما اجتمع له اليسران: يسر الدنيا وهو ما ذكر في الآية الأولى، ويسر الآخرة وهو ما ذكر في الآية الثانية، فقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لن يغلب عسر يسرين» ، أي: يسر الدنيا والآخرة، فالعسر بين يسرين، إما فرج في الدنيا، وإما ثواب في الآخرة.
سمعت أبا إسحاق المقرئ رحمه الله، يقول: سمعت الحسن بن محمد النيسابوري، سمعت محمد بن عامر البغدادي، يقول: سمعت عبد العزيز بن يحيى، يقول: سمعت عمي، يقول: سمعت العتبي، يقول: كنت ذات يوم في البادية بحالة من الغم، فألقي في روعي بيت شعر، فقلت:
أرى الموت أصبح ... مغمومًا له أروح(4/519)
فلما أن جن الليل، سمعت هاتفًا يهتف من الهواء:
ألا يأيها المرء ... الذي الهم به برح
وقد أنشد بيتًا لم ... يزل في فكره يسنح
إذا اشتد بك العسر ... ففكر في ألم نشرح
فعسر بين يسرين ... إذا أبصرته فافرح
قال: فحفظت الأبيات، وفرج الله غمي.
أنشدنا أبو إسحاق، رحمه الله، قال: أنشدنا الحسن بن محمد بن الحسن، قال: أنشدنا أحمد بن محمد بن إسحاق الجيرنجي، قال: أنشدنا إسحاق بن بهلول القاضي:
فلا تيأس وإن أعسرت يومًا ... فقد أيسرت في دهر طويل
ولا تظنن بربك ظن سوء ... فإن الله أولى بالجميل
فإن العسر يتبعه يسار ... وقول الله أصدق كل قيل
وأنشدنا أبو إسحاق، قال: أنشدني الحسن، قال: أنشدني محمد بن سليمان بن معاذ الكرخي، قال: أنشدنا أبو بكر ابن الأنباري:
إذا بلغ العسر مجهوده ... فثق عند ذلك بيسر سريع
ألم تر نحس الشتاء الفظيع ... يتلوه سعد الربيع البديع
وأنشدنا أبو إسحاق، قال: أنشدنا الحسن، قال: أنشدني عيسى بن زيد العقيلي، قال: أنشدني سليمان بن أحمد الرقي:
توقع إذا ما غرتك الخطوب ... سرورًا يشردها عنك قسرًا
فما الله يخلف ميعاده ... وقد قال إن مع العسر يسرا
قوله:} فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ { [الشرح: 7] أي: فاتعب، يقال: نصب ينصب نصبًا.
قال قتادة، والضحاك، ومقاتل، والكلبي: إذا فرغت من الصلاة المكتوبة، فانصب إلى ربك في الدعاء، وارغب إليه في(4/520)
المسئلة يعطك.
ونحو هذا روى عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه، قال: إذا صليت، فاجتهد في الدعاء والمسألة.
وقال الشعبي: إذا فرغت من التشهد، فادع لدنياك وآخرتك.
ونحو هذا قال الزهري: إذا قضيت التشهد، فادع الله بعد التشهد بكل حاجتك.
وقال ابن مسعود: إذا فرغت من الفرائض، فانصب في قيام الليل.
وسئل علي بن أبي طلحة عن هذه الآية، فقال: القول فيه كثير، وقد سمعنا أنه يقال: إذا صححت، فاجعل صحتك وفراغك نصبًا في العبادة.
ويدل على هذا ما روي: أن شريحًا مر برجلين يصطرعان، فقال: ليس بهذا أمر الفارغ، إنما قال الله عز وجل:} فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ {7} وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ {8} [الشرح: 7-8] .
قال عطاء: يريد: تضرع إليه راهبًا من النار، راغبًا في الجنة.
وقال الزجاج: أي: اجعل رغبتك إلى الله وحده.(4/521)
تفسير سورة التين
ثمان آيات، مكية.
1389 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو الْحِيرِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ وَالتِّينِ أَعْطَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَصْلَتَيْنِ الْعَافِيَةَ وَالْيَقِينَ مَا دَامَ فِي دَارِ الدُّنْيَا، فَإِذَا مَاتَ أَعْطَاهُ اللَّهُ بِعَدَدِ مَنْ يَقْرَأُ هَذِهِ السُّورَةَ صِيَامَ يَوْمٍ» .
1390 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْقَفَّالُ، أنا الْحُسَيْنُ بْنُ مُوسَى بْنِ خَلَفٍ الرَّسْعَنِيُّ، نا عُثْمَانُ بْنُ الصَّيَّادِ، نا سُفْيَانُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَمِسْعَرٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ زَادَ مِسْعَرٌ: فَمَا رَأَيْتُ إِنْسَانًا أَحْسَنَ قِرَاءَةً مِنْهُ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ نُمَيْر، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مِسْعَرٍ.
بسم الله الرحمن الرحيم {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ {1} وَطُورِ سِينِينَ {2} وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ {3} لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ {4} ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ {5} إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ {6} فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ {7} أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ {8} } [التين: 1-8] .(4/522)
{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين: 1] قال أكثر المفسرين: هو تينكم الذي تأكلون، وزيتونكم الذي تعصرون منه الزيت.
وإنما ذكر الله تعالى القسم بالتين، لأنه فاكهة مخلصة من شوائب التنغيص، وفيه أعظم العبرة، لدلالته على من هيأها على تلك الصفة، وجعلها على مقدار اللقمة، فالله عز وجل المنعم به على عباده، وقد روى أبو ذر، رضي الله عنه، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: في التين: «لو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة قلت هذه، لأن فاكهة الجنة بلا عجم، فكلوها، فإنها تقطع البواسير، وتنفع من النقرس» .
وأما الزيتون، فإنه يعتصر منه الزيت الذي يدور في أكثر الأطعمة مع الاصطباغ به والأدهان، واتخاذ الصابون.
وقال قتادة: التين: الجبل الذي عليه دمشق، والزيتون: الجبل الذي عليه بيت المقدس.
ونحو هذا قال عكرمة: هما جبلان بالشام، وإنما سيما بهما، لأنهما ينبتانهما.
{وَطُورِ سِينِينَ} [التين: 2] يعني: الجبل الذي كلم عليه موسى عليه، السلام، و {سِينِينَ} [التين: 2] : المبارك الحسن بلغة الحبشة، وقال الكلبي: هو الجبل ذو الشجرة.
وقال مقاتل: كل جبل فيه شجر مثمر، فهو سينين وسيناء بلغة النبط.
{وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين: 3] يعني: البلد الحرام مكة، يأمن فيه الخائف في الجاهلية والإسلام، وسأل خزيمة بن حكيم السلمي رسول الله، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن البلد الأمين، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين: 3] : مكة ".
وهذه أقسام.
ثم ذكر المقسم عليه، فقال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي(4/523)
أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] يعني: آدم وذريته، خلقهم الله في أحسن صورة، قال المفسرون: إن الله تعالى خلق كل ذي روح مكبًا على وجهه إلا الإنسان، خلقه مديد القامة، يتناول مأكوله بيده.
وقال الكلبي: أقسم الله تعالى بما ذكر، لقد أنعم على الإنسان بتقويم الخلق.
ومعنى التقويم: التعديل، يقال: قومته فاستقام.
{ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين: 5] يريد إلى الهرم، وأرذل العمر، فيخرف وينقص عقله، والسافلون هم: الضعفاء، والزمن، والأطفال، والشيخ الكبير أسفل هؤلاء جميعًا، وقال مجاهد: ثم رددناه إلى النار.
وهو قول الحسن، وأبي العالية.
والنار أسفل سافلين، لأن جهنم بعضها أسفل من بعض، والمعنى إلى أسفل سافلين.
ثم استثنى المؤمنين، فقال: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين: 6] أي: إلا هؤلاء، فإنهم لا يردون إلى النار، ومن قال بالقول الأول، قال: إن المؤمن لا يرد إلى الخرف، وأرذل العمر، وإن عمر طويلًا.
أخبرنا أبو حامد أحمد بن الحسن الكاتب، أنا محمد بن أحمد بن شاذان الرازي، أنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، نا أبو سعيد الأشج، نا وكيع، عن حماد، عن إبراهيم، قال: إذا بلغ المؤمن من الكبر ما يعجز عن العمل، كتب له ما كان يعمل، وهو قوله: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين: 6] .
وقال عكرمة: من رد منهم إلى أرذل العمر، كتب له كصالح ما كان يعمل في شبابه، وذلك أجر غير ممنون.
1391 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِئُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الْحِيرِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، نا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، نا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمٍ(4/524)
الْأَحْوَلِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ {5} إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين: 5-6] .
قَالَ: إلا الَّذِينَ قَرَءُوا الْقُرْآنَ.
1392 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أنا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِهْرَانَ، نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ القرباني، نا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، نا خَالِدٌ الزَّيَّاتُ، نا دَاوُدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرِ بْنِ حَزْمٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمَوْلُودُ حَتَّى يَبْلُغَ الْحِنْثَ مَا عَمِلَ مِنْ حَسَنَةٍ كُتِبَتْ لِوَالِدَيْهِ، فَإِنْ عَمِلَ سَيِّئَةً لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ وَلا عَلَى وَالِدَيْهِ، فَإِذَا بَلَغَ الْحِنْثَ وَجَرَى عَلَيْهِ الْقَلَمُ أَمَرَ اللَّهُ الْمَلَكَيْنِ الَّذَيْنِ مَعَهُ يَحْفَظَانِهِ، وَيُسَدِّدَانِهِ، فَإِذَا بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً فِي الْإِسْلامِ أَمَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْبَلايَا الثَّلاثَةِ الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ، فَإِذَا بَلَغَ خَمْسِينَ سَنَةً خَفَّفَ اللَّهُ حِسَابَهُ، فَإِذَا بَلَغَ سِتِّينَ رَزَقَهُ اللَّهُ الْإِنَابَةَ إِلَيْهِ وَبِمَا يُحِبُّ، فَإِذَا بَلَغَ سَبْعِينَ أَحَبَّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، فَإِذَا بَلَغَ ثَمَانِينَ كَتَبَ اللَّهُ حَسَنَاتِهِ وَتَجَاوَزَ عَنْ سَيِّئَاتِهِ، فَإِذَا بَلَغَ تِسْعِينَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ وَشَفَّعَهُ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ وَكَانَ اسْمُهُ أَسِيرَ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، فَإِذَا بَلَغَ أَرْذَلَ الْعُمُرِ كَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عَلْمٍ شَيْئًا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِثْلَ مَا كَانَ يَعْمَلُ فِي صِحَّتِهِ مِنَ الْخَيْرِ، وَإِنْ عَمِلَ سَيِّئَةً لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ» .
وقوله: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} [التين: 7] أي: بمجازاتي إياك بعملك(4/525)
أيها الإنسان، وأنا أحكم الحاكمين، قال مقاتل: يقول: فما يكذبك أيها الإنسان بعد بيان الصورة الحسنة، والشباب، ثم الهرم بعد ذلك بالحساب.
والمعنى: ألا يتفكر في صورته، وشبابه، وهرمه فيعتبر، ويقول: إن الذي فعل ذلك قادر على أن يبعثني، ويحاسبني.
ومعنى: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} [التين: 7] : ما الذي يجعلك تكذب بالمجازاة بعد هذه الحجج؟ {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 8] بأقضى القاضين، قال مقاتل: يحكم بينك وبين أهل التكذيب يا محمد.
1393 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّعْدِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَتْحِ بْنِ الشِّخِّيرِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ بَيَانِ بْنِ مُسْلِمٍ، نا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ التين عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرِحَ لَهَا فَرَحًا شَدِيدًا حَتَّى تَبَيَّنَ لَنَا شِدَّةُ فَرَحِهِ فَسَأَلْنَا ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ تَفْسِيرِهَا، فَقَالَ: وَالتِّينِ بِلادُ الشَّامِ وَالزَّيْتُونِ بِلادُ فِلَسْطِينَ {وَطُورِ سِينِينَ} [التين: 2] الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُوسَى عَلَيْهِ {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين: 3] مَكَّةُ {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين: 5] عَبَدَةُ الَّلاتِ وَالْعُزَّى {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين: 6] أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ {7} أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ {8} } [التين: 7-8] إِذْ بَعَثَكَ فِيهِمْ نَبِيًّا وَجَمَعَكَ عَلَى التَّقْوَى يَا مُحَمَّدُ.(4/526)
تفسير سورة العلق
تسع عشرة آية، مكية.
1394 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحِيرِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ فَكَأَنَّمَا قَرَأَ الْمُفَصَّلَ كُلَّهُ» .
بسم الله الرحمن الرحيم {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ {1} خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ {2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ {3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ {4} عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ {5} } [العلق: 1-5] {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] أكثر المفسرين على أن هذه السورة أول ما نزل من القرآن، وأول يوم نزل جبريل على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو قائم على حراء، علمه خمس آيات من أول هذه السورة، وبيان ذلك فيما
1395 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْفَضْلِ، أنا عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ خَلَفٍ، أنا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، أنا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا إِلا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاءُ، فَكَانَ يَأْتِي حِرَاءَ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءَ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي(4/527)
فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] حَتَّى بَلَغَ {مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5] وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيّ.
1396 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْهَاشِمِيُّ، أنا جَدِّي، نا أَبُو حَامِدِ بْنُ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ، نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: " إِنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] " رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ بِشْرِ بْنِ مُوسَى، عَنِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ
قال أبو عبيدة: مجازه: اقرأ اسم ربك، يعني أن الباء زائدة، والمعنى: اذكر اسمه، كأنه أمر أن يبتدئ القراءة باسم الله تأديبًا.
الذي خلق قال الكلبي: يعني الخلائق.
ثم ذكر ذلك، فقال: خلق الإنسان يعني: ابن آدم، من علق جمع علقة.
اقرأ تكرير للتأكيد، ثم استأنف، فقال: وربك الأكرم، قال الكلبي: الحليم عن جهل العباد: لا يعجل عليهم بالعقوبة.
الذي علم الكتابة، بالقلم قال الزجاج: علم الإنسان الكتابة بالقلم.
{كَلَّا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى {6} أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى {7} إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى {8} أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى {9} عَبْدًا إِذَا صَلَّى {10} أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى {11} أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى {12} أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى {13} أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى {14} كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ {15} نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ {16} فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ {17} سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ {18} كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ {19} } [العلق: 6-19] .
{كَلَّا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى} [العلق: 6] نزلت هذه الآية وما بعدها إلى آخر ال { [في أبي جهل، ومعنى: كلا حقًا، إن الإنسان يعني: أبا جهل، ليطغى قال مقاتل: كان إذا أصاب مالًا زاد في ثيابه، ومركبه، وطعامه، وشرابه، فذلك طغيانه.
ونحو هذا قال الكلبي: يرتفع عن منزلة إلى منزلة في اللباس والطعام.
{أَنْ رَآهُ(4/528)
اسْتَغْنَى} [سورة العلق: 7] أي: رأى نفسه غنيًا.
1397 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الأُمَوِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَبْسِيُّ، أنا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، عَنْ أَبِي عُمَيْسٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَنْهُومَانِ لا يَشْبَعَانِ طَالِبُ عِلْمٍ وَصَاحِبُ الدُّنْيَا، وَلا يَسْتَوِيَانِ، أَمَّا طَالِبُ الْعِلْمِ، فَيَزْدَادُ رِضًا لِلرَّحْمَنِ، وَأَمَّا طَالِبُ الدُّنْيَا، فَيَزْدَادُ فِي الطُّغْيَانِ، ثُمَّ قَرَأَ: {كَلَّا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى {6} أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى {7} } [العلق: 6-7]
قال مقاتل: ثم خوفه الله تعالى بالرجعة، فقال: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [العلق: 8] أي: المرجع، والرجعى مصدر على فعلى، قوله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} [العلق: 9] .
1398 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَخْلَدِيُّ، أنا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ الدَّقَّاقُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ مُكْرَمٍ الْبِرْتِيُّ، نا عَلِيُّ بْنُ الْمديني، نا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَبِالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ، يَفْعَلُ ذَلِكَ لأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: هَا هُوَ ذَاكَ يُصَلِّي، فَانْطَلَقَ لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ، فَمَا فَجَأَهُمْ إِلا وَهُوَ يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ، فَأَتَوْهُ فَقَالُوا: مَا لَكَ يَا أَبَا الْحَكَمِ؟ قَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ خَنْدَقًا مِنْ نَارٍ وَهَوْلا وَأَجْنِحَةً، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ دَنَا مِنِّي لاخْتَطَفَتْهُ الْمَلائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} [العلق: 9] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنِ الْمُعْتَمِرِ
ومعنى: أرأيت ههنا: تعجيب للمخاطب، وكرر هذه اللفظة للتأكيد في التعجيب، وهو قوله: {أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى} [العلق: 11] يعني: العبد المنهي وهو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} [العلق: 12] يعني: بالإخلاص، والتوحيد، ومخافة الله.
{أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ} [العلق: 13] أبو جهل، وتولى عن الإيمان، وتقدير نظم الآية: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى {9} عَبْدًا إِذَا صَلَّى {10} } [العلق: 9-10] وهو على الهدى، أمر بالتقوى، والناهي مكذب عن الإيمان؟ ! أي: فما أعجب من هذا! ألم يعلم يعني: أبا جهل، {بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14] ذلك فيجازيه به.
كلا لا يعلم ذلك، {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ} [العلق: 15] عن تكذيب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشتمه، وإيذائه، {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} [العلق: 15] السفع: الجذب الشديد، والمعنى: لنجرن(4/529)
بناصيته إلى النار، وهو كقوله: {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن: 41] ، قال مقاتل: ثم أخبر عنه أنه فاجر خاطئ، فقال: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق: 16] .
تأويله: صاحبها كاذب خاطئ، ولما نهى أبو جهل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انتهره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال أبو جهل: أتنتهرني يا محمد؟ فوالله لقد علمت ما بها رجل أكثر ناديًا مني.
فأنزل الله عز وجل: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} [العلق: 17] أي: أهل مجلسه، يعني عشيرته، أي: فليستنصر بهم.
1399 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورِ بْنُ طَاهِرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْجَوْزِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، نا أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، نا أَبُو خَالِدٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي، فَجَاءَ أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ: أَلَمْ أَنْهَكَ عَنْ هَذَا؟ فَانْصَرَفَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزَجَرَهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا بِهَا نَادٍ أَكْثَرُ مِنِّي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ {17} سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ {18} } [العلق: 17-18] فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَاللَّهِ لَوْ دَعَا نَادِيَهُ لأَخَذَتْهُ زَبَانِيَةُ اللَّهِ
قال أبو عبيدة، والمبرد: واحد الزبانية زبينية، وهو الشديد الأخذ، وأصله من زبنته إذا دفعته.
قال ابن عباس: يريد: الأعوان زبانية جهنم.
وقال الزجاج: هم الملائكة، الغلاظ الشداد.
ثم قال: كلا أي: ليس الأمر على ما عليه أبو جهل، لا تطعه في ترك الصلاة، واسجد صلّ لله، واقترب إليه بالطاعة.
1400 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ(4/530)
الْفَارِسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَمْرَوَيْهِ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا مُسْلِمٌ، نا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، نا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرَوَيْهِ الْحَارِثِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ سُمَيٍّ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا صَالِحٍ ذَكْوَانَ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ» .
1401 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدُّرَّكِيُّ، أنا أَبُو الْعَبَّاسِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمِيكَالِيُّ، أنا عَبْدَانُ الْجَوَالِيقِيُّ، نا زَيْدُ بْنُ الْحَرِيشِ، نا أَبُو هَمَّامٍ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ سَالِمٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنَ اللَّهِ إِذَا كَانَ سَاجِدًا» .(4/531)
تفسير سورة القدر
خمس آيات، مكية.
1402 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقْرِي، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ أَبِي الْفَضْلِ الْمُؤَذِّنُ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْقَدْرِ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ كَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَحْيَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ» .
بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ {1} وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ {2} لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ {3} تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ {4} سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ {5} } [القدر: 1-5] .
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] يعني: القرآن أنزل جملة واحدة في ليلة القدر إلى السماء الدنيا، ثم فرق في السنين بالإنزال على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
1403 - أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو، أنا جَدِّي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ، نا قُتَيْبَةُ، نا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] أُنْزِلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَكَانَ بِمَوْقِعِ النُّجُومِ، وَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى يُنَزِّلُهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَهُ فِي أَثَرِ بَعْضٍ
وقال مقاتل: أنزله الله من اللوح المحفوظ إلى السفرة، وهم الكتبة من الملائكة في السماء الدنيا، فكان ينزله ليلة القدر من الوحي على قدر ما ينزل به جبريل، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، على النبي، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في السنة كلها، إلى مثله من القابل حتى نزل القرآن كله في ليلة القدر، ونزل به جبريل على محمد، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في عشرين سنة.
وليلة القدر ليلة تقدير الأمور والأحكام، قدر الله في ليلة القدر أمر السنة في عباده، وبلاده إلى السنة المقبلة، كقوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] والأخبار في ليلة القدر، وبيان فضلها، وأي ليلة هي، كثيرة نذكر منها ما لا بد منه، والناس مختلفون في ليلة القدر، فذهب كثير منهم إلى أنها إنما كانت على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم رفعت،(4/532)
وقال بعضهم: هي في ليالي السنة كلها.
ومن علق طلاق امرأته على ليلة القدر لم تقع إلى مضي سنة، وهو مذهب أبي حنيفة، رحمة الله عليه، وجمهور أهل العلم على أنها في رمضان كل سنة.
1404 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ، أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ الأَوْزَاعِيَّ، حَدَّثَنِي أَبُو كَثِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى أَبِي ذَرٍّ وَهُوَ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى، فَكَثُرَ النَّاسُ عَلَيْهِ حَتَّى مَسَّتْ رُكْبَتِي رُكْبَتَهُ، وَقَدْ جَمَعْتُ أَشْيَاءَ أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَهُ عَنْهَا، فَتَفَلَّتَتْ مِنِّي، فَبَلَغْتُ أَرْمِي بِبَصَرِي نَحْوَ السَّمَاءِ أَتَذَكَّرُ، فَذَكَرْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَسَأَلْتُهُ عَنْهَا، فَقَالَ: أَنَا كُنْتُ أَسْأَلَ النَّاسِ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ أَشَيْءٌ يَكُونُ فِي زَمَانِ الأَنْبِيَاءِ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ فِيهَا الْوَحْيُ فَإِذَا قُبِضُوا رُفِعَتْ؟ قَالَ: بَلْ هِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِّثْنِي فِي أَيِّ شَهْرٍ هِيَ؟ قَالَ: فِي رَمَضَانَ، قُلْتُ: فِي أَيٍّ؟ قَالَ: لَوْ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ أُخْبِرَكُمْ بِهَا لأَخْبَرْتُكُمْ الْتَمِسْهَا فِي أَحَدِ السَّبْعَيْنِ، ثُمَّ لا تَسْأَلْنِي عَنْهَا بَعْدَ مَرَّتِكَ هَذِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الْقَوْمِ يُحَدِّثُهُمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ اسْتَطْلَقَ لَهُ الْحَدِيثُ، قُلْتُ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَتُخْبِرَنِّي فِي أَيِّ السَّبْعَيْنِ هِيَ، قَالَ: فَغَضِبَ عَلَيَّ غَضْبَةً لَمْ يَغْضَبْ عَلَيَّ قَبْلَهَا وَلا بَعْدَهَا مِثْلَهَا، ثُمَّ قَالَ: أَوَلَمْ أَنْهَكَ أَنْ تَسْأَلَنِي عَنْهَا؟ إِنَّ اللَّهَ لَوْ أَذِنَ لِي أَنْ أُخْبِرَكُمْ بِهَا لأَخْبَرْتُكُمْ بِهَا لا آمَنُ أَنْ تَكُونَ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ.
1405 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمُزَكِّي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْهَيْثَمِ الأَنْبَارِيُّ، نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شَاكِرٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ، نا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، قَالَ: قُلْتُ لأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ يَقُولُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: مَنْ قَامَ الْحَوْلَ كُلَّهُ أَدْرَكَهَا، فَقَالَ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَمَا وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَقَدْ عَلِمَ، أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ، وَأَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ.
قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُهُ يَحْلِفُ لا يَسْتَثْنِي، قُلْتُ: مَا عِلْمُكَ بِذَلِكَ؟ قَالَ: بِالآيَةِ الَّتِي أَخْبَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَسَبْنَا وَعَدَدْنَا، فَإِذَا هِيَ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ، يَعْنِي أَنَّ الشَّمْسَ لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ، ثُمَّ إِنَّهَا فِي الْعَشْرُ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَفِي الأَوْتَارِ مِنْهَا.
1406 - حَدَّثَنَا أَبُو(4/533)
الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَّاجُ إِمْلاءً، نا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، أنا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدَةَ، عَنْ هِشَامٍ.
1407 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أنا أَبُو الْعَبَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِرْمَانِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي يَعْقُوبَ الْكِرْمَانِيُّ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، نا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى أَوْ فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى أَوْ فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى» ثُمَّ إِنَّهَا قَدْ تَكُونُ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَاخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ.
1408 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أنا الرَّبِيعُ، أنا الشَّافِعِيُّ، أنا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، وَرَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ، وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ» قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ وَعَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ مِنْ صَبِيحَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ مَالِكٍ، وَقَدْ تَكُونُ لَيْلَةَ ثَلاثٍ وَعِشْرِينَ.
1409 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أنا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ، نا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُنِيبٍ، نا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: ذَكَرْنَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَمْ مَضَى مِنَ الشَّهْرِ، قُلْنَا: ثِنْتَانِ وَعِشْرُونَ وَبَقِيَ ثَمَانٍ، فَقَالَ: مَضَى ثِنْتَانِ وَعِشْرُونَ وَبَقِيَ سَبْعٌ اطْلُبُوهَا اللَّيْلَةَ، الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ ".
1410 - أَخْبَرَنَا أَبُو(4/534)
بَكْرٍ الْقَاضِي، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: قُرِئَ عَلَى ابْنِ وَهْبٍ، أَخْبَرَكَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ، وَقَدْ تَكُونُ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ» .
1411 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الصُّوفِيُّ، أنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْخَلِيلِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاءِ، نا رِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ، نا ابْنُ ثَوْبَانَ، قَالَ: سُئِلَ عِكْرِمَةُ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ» قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: أَيُّ لَيْلَةٍ هِيَ؟ قَالَ: لا أُرَاهَا إِلا لَيْلَةَ السَّابِعَةِ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ، لأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ الإِنْسَانَ عَلَى سَبْعَةِ أَصْنَافٍ فَقَالَ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12] إِلَى قَوْلِهِ: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] ثُمَّ جَعَلَ رِزْقَهُ فِي سَبْعَةِ أَصْنَافٍ {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عبس: 24] وَإِلَى {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31] ثُمَّ تُصَلَّى الْجُمُعَةُ عَلَى رَأْسِ سَبْعَةِ أَيَّامٍ كَرَامَةً لِدِينِهِ وَعِيدًا، وَجَعَلَ السَّمَوَاتِ سَبْعًا، وَجَعَلَ الأَرْضِينَ سَبْعًا، وَجَعَلَ الْمَثَانِيَ سَبْعًا، فَلا أَرَى لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِلا لَيْلَةَ السَّابِعَةِ.
1412 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ حَمْشَادَ بْنِ شختويه، نا مُحَمَّدُ بْنُ غَالِبِ بْنِ حَرْبٍ، نا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ النُّعْمَانِ، نا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ زِرَّ بْنَ حُبَيْشٍ يُحَدِّثُ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَعْلَمُهَا هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَقُومَهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ» .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَن مُحَمَّدِ بْنِ مُثَنَّى، عَنْ غُنْدَر، عَنْ شُعْبَة.
1413 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحِيرِيُّ، أَنَّ حَامِدَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْهَرْمِيَّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ الأَشَجُّ، نا عَمْرُو بْنُ حَكَّامٍ، نا سَلامُ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيَّ يُحَدِّثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «تَحَرَّوْهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا فَلْيَتَحَرَّهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَقَدْ تَكُونُ لَيْلَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ»
1414 - أَخْبَرَنَا أَبُو(4/535)
إِسْحَاقَ الْمُقْرِي، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، أنا مَكِّيُّ بْنُ عَبْدَانَ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَاشِمٍ، نا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، نا عُيَيْنَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: ذَكَرْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عِنْدَ أَبِي بَكْرَةَ، فَقَالَ: مَا أَنَا بِطَالِبِهَا بَعْدَ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فِي تِسْعٍ يَبْقَيْنَ أَوْ سَبْعٍ يَبْقَيْنَ أَوْ خَمْسٍ يَبْقَيْنَ أَوْ ثَلاثٍ يَبْقَيْنَ أَوْ آخِرِ لَيْلَةٍ» فَكَانَ أَبُو بَكْرَةَ إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ صَلَّى كَمَا يُصَلِّي فِي السَّنَةِ، فَإِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ اجْتَهَدَ، وَمِنْ فَضْلِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ أَنَّ قِيَامَهَا مَغْفِرَةٌ لِلذُّنُوبِ كُلِّهَا.
1415 - أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ التَّاجِرُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ، نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هِشَامٍ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، عَن مُعَاذِ بْنِ هِشَام، عَن أَبِيهِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ.
1416 - أَخْبَرَنِي الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّاذَيَاخِيُّ، أنا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أنا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُصْعَبٍ، نا يَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ، نا مُعَاذُ بْنُ هَاشِمٍ، حَدَّثَنِي أَبِي قَتَادَةُ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي هُرْيَرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَهُ مَا مَضَى مِنْ ذَنْبِهِ» .
وقد ذكر الله، عز وجل، فضلها في قوله: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] ، قال مجاهد: قيامها، والعمل فيها خير من قيام شهر، وصيامه ليس فيه ليلة القدر.
وهذا قول مقاتل، وقتادة، واختيار(4/536)
الفراء، والزجاج، وذلك أن الأوقات إنما يفضل بعضها على بعض بما يكون فيه من الخير والنفع، فلما جعل الله تعالى الخير الكبير في ليلة القدر، كانت خيرًا من ألف شهر لا يكون فيها من الخير والبركة ما يكون في هذه الليلة، وقال عطاء، عن ابن عباس: ذكر لرسول الله، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رجل من بني إسرائيل حمل السلاح على عاتقه في سبيل الله ألف شهر، فعجب لذلك رسول الله، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عجبًا شديدًا، وتمنى أن يكون مثل ذلك في أمته، فقال: يا رب، جعلت أمتى أقصر الأمم أعمارًا، وأقلها أعمالًا.
فأعطاه الله تعالى ليلة القدر، فقال: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] الذي حمل الإسرائيلي السلاح في سبيل الله لك، ولأمتك من بعدك إلى يوم القيامة في كل رمضان.
ثم أخبر بما يكون في تلك الليلة، فقال: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ} [القدر: 4] يعني: جبريل فيها، قال المفسرون: تنزل الملائكة ومعهم جبريل في ليلة القدر، بالرحمة من الله، والسلام على أوليائه، فيسلمون على كل عبد قائم، أو قاعد يذكر الله.
وهو قوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} [القدر: 4] أي: بكل أمر من الخير والبركة، وهذا كقوله تعالى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11] أي: بأمره.
سلام قال عطاء: يريد: سلام على أولياء الله، وأهل طاعته.
وقال الكلبي: كلما لقي الملائكة مؤمنًا، أو مؤمنة في ليلة القدر، سلموا عليه من ربه.
وقال مجاهد: إن ليلة القدر سالمة من أن يحدث فيها داء، أو يستطيع شيطان أن يعمل فيها.
وسلام يعني سلامة، أي: سلامة، {هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5] والمطلع مصدر بمعنى: الطلوع، ومن قرأ بكسر اللام، فهو اسم لوقت الطلوع.(4/537)
تفسير سورة البينة
ثماني آيات، مدينة.
1417 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقْرِي، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ جَعْفَرٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ لَمْ يَكُنْ كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ مُسَافِرًا وَمُقِيمًا» .
1418 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْمُقْرِي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ النُّعْمَانِ، نا فَهْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، نا إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ الْكَاهِلِيُّ، نا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كفروا لَعَطَّلُوا الأَهْلَ وَالْمَالَ وَلَتَعَلَّمُوهَا، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ: مَا فِيهَا مِنَ الأَجْرِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يَقْرَؤُهَا مُنَافِقٌ أَبَدًا، وَلا عَبْدٌ فِي قَلْبِهِ شَكٌّ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَاللَّهِ إِنَّ الْمَلائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ يَقْرَءُونَهَا مُنْذُ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَفْتُرُونَ مِنْ قِرَاءَتِهَا، وَمَا عَبْدٌ يَقْرَؤُهَا بِلَيْلٍ إِلا بَعَثَ اللَّهُ مَلائِكَتَهُ يَحْفَظُونَهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَيَدْعُونَ لَهُ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَإِنْ قَرَأَهَا بِنَهَارٍ أُعْطِيَ عَلَيْهَا مِنَ الثَّوَابِ مِثْلُ مَا أَضَاءَ عَلَيْهِ النَّهَارُ، وَأَظْلَمَ عَلَيْهِ اللَّيْلُ، فَقَالَ رَجُل ٌمِنْ قَيْسِ عَيْلانَ: زِدْنَا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَعَلَّمُوا {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ: 1] وَتَعَلَّمُوا {ق وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] وَتَعَلَّمُوا {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1] وَتَعَلَّمُوا {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1] فَإِنَّكُمْ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا فِيهِنَّ لَعَطَّلْتُمْ مَا أَنْتُمْ فِيهِ، وَتَعَلَّمْتُمُوهُنَّ وَتَقَرَّبْتُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِهِنَّ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغْفِرُ بِهِنَّ كُلَّ ذَنْبٍ إِلا الشِّرْكَ بِاللَّهِ،(4/538)
وَاعْلَمُوا أَنَّ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ، تُجَادِلُ عَنْ صَاحِبِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتَسْتَغْفِرُ لَهُ مِنَ الذُّنُوبِ.
بسم الله الرحمن الرحيم {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ {1} رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً {2} فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ {3} وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ {4} وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ {5} } [البينة: 1-5] .
{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البينة: 1] يعني: اليهود والنصارى، والمشركين يعني: مشركي العرب، منفكين منفصلين، وزائلين، يقال: فككت الشيء فانفك.
أي: انفصل منه، قال ابن عباس، في رواية عطاء، والكلبي: لم يكونوا منتهين عن كفرهم بالله، وعبادتهم غير الله.
حتى تأتيهم أي: حتى أتتهم، لفظه مستقبل ومعناه المضي، كقوله عز وجل: {مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} [البقرة: 102] أي: ما تلت، وقوله: البينة قال ابن عباس: يريد محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهو قول مقاتل.
يعني محمدًا، فبين لهم ضلاتهم وشركهم، ومعنى الآية: إخبار الله تعالى عن الكفار، أنهم لم ينتهوا عن كفرهم وشركهم بالله حتى أتاهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقرآن، فبين لهم ضلالتهم وجهالتهم، ودعاهم إلى الإيمان، وهذا بيان عن النعمة، والإنقاذ به من الجهل والضلالة، والآية فيمن آمن من الفريقين، وهذه الآية من أصعب ما في القرآن نظما وتفسيرًا، وقد تخبط فيها الكبار من العلماء، وسلكوا في تفسيرها طرقًا لا تفضي بهم إلى الصواب، والوجه ما أخبرتك به، فاحمد الله إذ أتاك بيانها من غير لبس ولا إشكال، ويدل على أن المراد بالبينة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه فسرها، وأبدل منها، فقال: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا} [البينة: 2] يعني: ما تضمنته الصحف من المكتوب فيها، وهو القرآن، ويدل على ذلك، أنه كان يتلو عن ظهر قلبه، لا عن كتاب، مطهرة من الباطل، والكذب، والزور.
فيها كتب يعني: الآيات، والأحكام المكتوبة فيها، قيمة عادلة، مستقيمة، غير ذات عوج، تبين الحق من الباطل.
ثم ذكر من لم يؤمن من أهل الكتاب، بقوله: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 4] قال المفسرون: لم يزل أهل الكتاب مجتمعين في تصديق محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بعثه الله، فلما بعث، تفرقوا في أمره واختلفوا، وآمن به بعضهم، وكفر آخرون.
ثم ذكر ما أمروا به في كتبهم، فقال: {وَمَا أُمِرُوا(4/539)
إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] قال ابن عباس: وما أمروا في التوراة، والإنجيل إلا بإخلاص العبادة لله، موحدين لا يعبدون معه غيره.
حنفاء على دين إبراهيم، ويقيموا الصلاة المكتوبة في أوقاتها، ويؤتوا الزكاة عند محلها، وذلك الذي أمروا به، هو: {دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] دين الملة المستقيمة.
أخبرنا أبو بكر التميمي، أنا أبو الشيخ الحافظ، أنا عبد الله بن عبد الملك، نا عبد الله بن عبد الوهاب، نا ابن نمير، نا أحمد الزبيري، عن معقل، قال: قلت للزهري: قوم يزعمون أن الصلاة والزكاة ليستا من الإيمان.
فقرأ هذه الآية: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} [البينة: 5] إلى قوله: {دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] فمن زعم أن هذا ليس من الإيمان، فقد كذب.
ثم ذكر مال الفريقين، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ {6} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ {7} جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ {8} } [البينة: 6-8] .
إن الذين كفروا إلى قوله: شر البرية يعني: شر الخليقة من أهل الأرض، وقراءة العامة بغير همز، وهي من برأ الله الخلق، والقياس فيها الهمز، إلا أنه مما ترك همزه كالنبي، والذرية، والجابية، والهمز فيه كالرد إلى الأصل المرفوض في الاستعمال.
ثم ذكر مستقر المؤمنين، فقال: إن الذين آمنوا وهو ظاهر التفسير، إلى قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8] يعني: في الدنيا، وتناهى عن معاصيه.(4/540)
تفسير سورة الزلزلة
ثماني آيات، مدنية.
1419 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ وَاضِحٍ الْكَرَجِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ الْبَجَلِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ، نا سَلَمَةُ بْنُ وَرْدَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: " سَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: يَا فُلانُ هَلْ تَزَوَّجْتَ؟ قَالَ: لا وَلَيْسَ عِنْدِي مَا أَتَزَوَّجُ بِهِ، قَالَ: أَلَيْسَ مَعَكَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ قَالَ: بَلَى، قَالَ: رُبُعُ الْقُرْآنِ، قَالَ: أَلَيْسَ مَعَكَ قُلْ يَأَيُّهَا الْكَافِرُونَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: رُبُعُ الْقُرْآنِ، قَالَ: أَلَيْسَ مَعَكَ إِذَا زُلْزِلَتِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: رُبُعُ الْقُرْآنِ، ثُمَّ قَالَ: تَزَوَّجْ تَزَوَّجْ تَزَوَّجْ ".
1420 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْفَقِيهُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْحَرَشِيُّ، نا الْحَسَنُ بْنُ سَيَّارِ بْنِ صَالِحٍ، نا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ قَرَأَ إِذَا زُلْزِلَت عُدِلَتْ لَهُ بِنِصْفِ الْقُرْآنِ، وَمَنْ قَرَأَ: قُلْ يَأَيُّهَا الْكَافِرُونَ عُدِلَتْ لَهُ بِرُبُعِ الْقُرْآنِ وَمَنْ قَرَأَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ عُدِلَتْ لَهُ بِثُلُثِ الْقُرْآنِ ".
1421 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الْمُقْرِي، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ إِذَا زُلْزِلَت فَكَأَنَّمَا قَرَأَ الْبَقَرَةَ، وَأُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ كَمَنْ قَرَأَ رُبُعَ الْقُرْآنِ» .
بسم الله الرحمن الرحيم {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا {1} وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا {2} وَقَالَ الإِنْسَانُ مَا لَهَا {3} يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا {4} بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا {5} يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ {6} فَمَنْ يَعْمَلْ(4/541)
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ {7} وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ {8} } [الزلزلة: 1-8] .
{إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1] إذا حركت حركة شديدة، وذلك عند قيام الساعة، تحرك الأرض فتضطرب حتى يتكسر كل شيء عليها، وتخرج كل شيء أدخل فيها، وهو قوله: {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة: 2] لفظت ما فيها من كنوزها وموتاها، والأثقال: جمع ثقل، والموتى أثقال في بطن الأرض.
ثم ذكر أن الكافر ينكر تلك الحالة، فقال: {وَقَالَ الإِنْسَانُ مَا لَهَا} [الزلزلة: 3] يقول الكافر الذي لم يؤمن بالبعث: لأي شيء زلزالها.
قال الله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 4] تخبر بما عمل عليها.
1422 - أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ أَحْمَدَ الصُّوفِيُّ، أنا أَبُو عَلِيٍّ الْفَقِيهُ، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ السَّوْطِيُّ، نا سَلَمَةُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُجَاشِعٍ، نا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ الْعُمَرِيُّ، نا شُعْبَةُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: " {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 4] أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارُهَا؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: أَخْبَارُهَا أَنْ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ وَأَمَةٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا، تَقُولُ: عَمِلَ كَذَا وَكَذَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَهَذَا أَخْبَارُهَا ".
1423 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ الْمِهْرَجَانِيُّ، نا ابْنُ بَطَّةَ، أنا أَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ بِنْتِ مَنِيعٍ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، نا أَبُو الأَسْوَدِ، أنا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ رَبَاحٍ، عَنْ رَبِيعَةَ الْجُرَشِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «حَافِظُوا عَلَى الْوُضُوءِ، وَخَيْرُ أَعْمَالِكُمُ الصَّلاةُ، وَتَحَفَّظُوا مِنَ الأَرْضِ، فَإِنَّهَا أُمُّكُمْ، وَلَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ يَعْمَلُ فِيهَا خَيْرًا أَوْ شَرًّا إِلا وَهِيَ مُخْبِرَةٌ بِهِ» .
وقوله: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 5] قال الفراء: تحدث أخبارها بوحي الله، وإذنه لها.
قال ابن عباس: أذن لها لتخبر بما عمل عليها.
{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا} [الزلزلة: 6] يرجع الناس عن موقف الحساب بعد العرض متفرقين: أهل الإيمان على حدة، وأهل كل دين على حدة، كقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم: 14] و {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم: 43] ، ليروا أعمالهم قال ابن عباس: ليروا جزاء أعمالهم.
والمعنى: أنهم يرجعون عن الموقف فرقًا، لينزلوا منازلهم من(4/542)
الجنة والنار.
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [الزلزلة: 7] وزن نملة أصغر ما يكون من النمل، قال مقاتل: فمن يعمل في الدنيا، {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] يوم القيامة في كتابه، فيفرح به.
وكذلك من الشر يراه في كتابة فيسوءه ذلك، قال: وكان أحدهم يستقل أن يعطي اليسير، ويقول: إنما نؤجر على ما نعطي ونحن نحبه، وليس اليسير مما نحب.
ويتهاون بالذنب اليسير، ويقول: إنما أوعد الله النار على الكبائر.
فأنزل الله عز وجل هذه الآية، يرغبهم في القليل من الخير، ويحذرهم عن اليسير من الشر.
1424 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَنِيعِيُّ، نا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، نا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: " قَدِمَ صَعْصَعَةُ عَمُّ الْفَرَزْدَقِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا سَمِعَ هَذِهِ الآيَةَ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ {7} وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ {8} } [الزلزلة: 7-8] قَالَ: حَسْبِي مَا أُبَالِي أَنْ لا أَسْمَعَ مِنَ الْقُرْآنِ غَيْرَهَا ".
1425 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْفَارِسِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَطِيَّةَ، نا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، نا دَاوُدُ بْنُ الْمُحَبَّرِ، نا مَيْسَرَةُ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قُلْتُ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِلَى مَا يَنْتَهِي النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: إِلَى أَعْمَالِهِمْ، مَنْ عَمِلَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ عَمِلَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ".(4/543)
تفسير سورة العاديات
إحدى عشرة آية، مكية.
1426 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحِيرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ وَالْعَادِيَاتِ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ بِعَدَدِ مَنْ بَاتَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَشَهِدَ جَمْعًا»
بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا {1} فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا {2} فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا {3} فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا {4} فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا {5} إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ {6} وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ {7} وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ {8} أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ {9} وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ {10} إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ {11} } [العاديات: 1-11] .
{وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} [العاديات: 1] قال ابن عباس: هي الخيل في الغزو.
وهو قول عطاء، ومجاهد، وعكرمة، والحسن، والربيع.
قالوا: أقسم الله تعالى بالخيل العادية لغزو الكفار، وهي تضبح ضبحًا.
وضبحها: صوت أجوافها إذا عدت، ليس بصهيل، ولا حمحمة، ولكنه صوت نفس.
{فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} [العاديات: 2] قال ابن عباس: يريد ضرب الخيل بحوافرها، فأورت منها النار، مثل الزناد، إذا قدح.
وقال مقاتل: يقدحن بحوافرهن في الحجارة.
وقال الزجاج: إذا عدت بالليل، وأصاب حوافرها الحجارة، انقدح منها النيران.
{فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} [العاديات: 3] هي التي تغير على العدو عند الصباح.
{فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} [العاديات: 4] يقال: ثار الغبار والدخان، وأثرته.
أي: هيجته، والنقع: الغبار، والمعنى: {فَأَثَرْنَ} [العاديات: 4] بمكان عدوها: {نَقْعًا} [العاديات: 4] .
{فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} [العاديات: 5] يقال: وسطت المكان.
أي: صرت في وسطه، يعني: صرن بعدوهن وسط جمع العدو، أقسم الله تعالى بهذه الأشياء، فقال: {إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات: 6] وهو الكفور للنعمة.
1427 - أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَرْوَزِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَدَّادِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، أنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ(4/544)
جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات: 6] قَالَ: الْكَنُودُ الَّذِي يَأْكُلُ وَحْدَهُ وَيَمْنَعُ رِفْدَهُ وَيَضْرِبُ عَبْدَهُ
{وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ} [العاديات: 7] قال عطاء، عن ابن عباس: وإن الله على كفره، لشهيد.
{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] وإن الإنسان من أجل حب المال لبخيل، يقال للبخيل: شديد ومتشدد.
{أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ} [العاديات: 9] أفلا يعلم هذا الإنسان إذا بعث الموتى؟ وبعثر معناه: انتثر، وأخرج.
{وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات: 10] أي: ميز، وبيّن ما فيها من الخير والشر، والتحصيل: تمييز ما يحصل.
{إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات: 11] قال الزجاج: الله خبير بهم في ذلك اليوم وفي غيره، ويكون المعنى: الله يجازيهم على كفرهم في ذلك اليوم، ومثله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [النساء: 63] معناه: أولئك الذين لا يترك الله مجازاتهم.(4/545)
تفسير سورة القارعة
إحدى عشرة آية، مكية.
1428 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ سَعِيدٌ الْمُقْرِي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْقَارِعَةِ ثَقَّلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا مِيزَانَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
بسم الله الرحمن الرحيم {الْقَارِعَةُ {1} مَا الْقَارِعَةُ {2} وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ {3} يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ {4} وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ {5} فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ {6} فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ {7} وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ {8} فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ {9} وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ {10} نَارٌ حَامِيَةٌ {11} } [القارعة: 1-11] .
القارعة اسم من أسماء القيامة، لأنها تفزع القلوب بالقرع، وتفزع أعداء الله بالعذاب.
وقوله: {مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة: 2] تهويل وتعظيم.
ثم عجب نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة: 3] تعظيمًا لشأنها.
ثم بين أنها متى تكون، فقال: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة: 4] الفراش ما تراه يتهافت في النار، شبه الناس في وقت البعث بالفراش، لأنهم إذا بعثوا ماج بعضهم في بعض، والفراش إذا ثار لم يتجه لجهة واحدة، فدل على أنهم إذا بعثوا فزعوا، فاختلفوا في المقاصد على جهات مختلفة، كما قال: {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} [القمر: 7] و {الْمَبْثُوثِ} [القارعة: 4] المفرق، يقال: بثه، إذا فرقه.
{وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة: 5] وهو الذي نفش بالندف، والمعنى: أنها تصير خفيفة في السير.
ثم ذكر أحوال الناس بقوله: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [القارعة: 6] يعني: رجحت حسناته.
{فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [القارعة: 7] قال الزجاج: أي: ذات رضا، يرضاها صاحبها.
{وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [القارعة: 8] رجحت سيئاته على حسناته.
{فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة: 9] فمسكنه جهنم، وقيل لمسكنه: أمه.
لأن الأصل في السكون إلى الأمهات، والهاوية: من أسماء جهنم، وهي المهواة لا يدرك قعرها، ويدل على صحة هذا التفسير ما روي، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: " إذا(4/546)
مات العبد تلقى روحه أرواح المؤمنين، فتقول له: ما فعل فلان.
فإذا قال: مات.
قالوا: ذهب به إلى أمه الهاوية، فبئست الأم، وبئست المربية ".
ثم أخبر الله عز وجل عنها، فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} [القارعة: 10] يعني: الهاوية، والهاء في هيه للوقف.
ثم فسر، فقال: نار حامية حارة، قد انتهى حرها.(4/547)
تفسير سورة التكاثر
ثمان آيات، مكية.
1429 - رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ بِالإِسْنَادِ السَّابِقِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، لَمْ يُحَاسِبْهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالنَّعِيمِ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَأُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ كَأَنَّمَا قَرَأَ أَلْفَ آيَةٍ»
بسم الله الرحمن الرحيم {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ {1} حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ {2} كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ {3} ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ {4} كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ {5} لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ {6} ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ {7} ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ {8} } [التكاثر: 1-8] .
{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1] قال المفسرون: شغلكم التكاثر بالأموال، والأولاد، والتفاخر بكثرتها.
{حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر: 2] حتى أدرككم الموت على تلك الحال، نزلت في اليهود حين قالوا: نحن أكثر من فلان، وبنو فلان أكثر من بني فلان.
شغلهم ذلك عن الإيمان حتى ماتوا ضلالا، ثم يدخل في هذا كل من اشتغل بالتكاثر، والتفاخر عن طاعة الله حتى يأتيه الموت وهو على ذلك، ويدل على هذا ما:
1430 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ، أنا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ، نا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُنِيبٍ، نا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، أنا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَأُ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1] قَالَ: " يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي وَمَا لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ " رَوَاه مُسْلِمٌ، عَنْ بُنْدَارٍ، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ(4/548)
ثم رد الله تعالى عليهم هذا، فقال: كلا أي: ليس الأمر الذي ينبغي أن تكونوا عليه التكاثر، ثم أوعدهم فقال: سوف تعلمون ثم وكد ذلك وكرره، فقال: {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر: 4] قال الحسن، ومقاتل: هو وعيد بعد وعيد، والمعنى: سوف تعلمون عاقبة تكاثركم وتفاخركم، إذا نزل بكم الموت.
{كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 5] كلام آخر، يقول: لو تعلمون الأمر علمًا يقينًا، لشغلكم ما تعلمون عن التكاثر والتفاخر، وجواب لو محذوف وهو ما ذكرنا.
ثم أوعدهم وعيدًا آخر، فقال: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} [التكاثر: 6] وقرأه العامة بفتح التاء، وقرئ بضمها من أريته الشيء، والمعنى: أنهم يحشرون إليها فيرونها.
{ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 7] أي: مشاهدة، تقول: لترون الجحيم بأبصاركم على البعد منكم، ثم لترونها مشاهدة.
{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] قال مقاتل: يعني كفار مكة، كانوا في الدنيا في الخير والنعمة، فيسألون يوم القيامة عن شكر ما كانوا فيه، ولم يشكروا رب النعم، حيث عبدوا غيره، وأشركوا به، ثم يعذبون على ترك الشكر بتوحيد المنعم.
وهذا قول الحسن.
قال: لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار.
وقال قتادة: إن الله سائل كل ذي نعمة عما أنعم عليه.
وعلى هذا ورد أكثر الأخبار.
1431 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَامِدٍ الْعَدْلُ، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفَقِيهُ، نا أَبُو جَعْفَرٍ الْعَبْدِيُّ، نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، قَالَ: لَمَّا أُنْزِلَتْ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ " عَنْ أَيِّ النَّعِيمِ نُسْأَلُ؟ إِنَّمَا هُوَ الأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ وَسُيُوفُنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا، وَالْعَدُوُّ حَاضِرٌ، فَعَنْ أَيِّ النَّعِيمِ نُسْأَلُ؟ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ ".
1432 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أنا أَبُو بَحْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ(4/549)
الْحَسَنِ بْنِ كَوْثَرٍ، نا أَبُو جَعْفَرِ بْنُ عَلِيٍّ الْخَزَّازُ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَاصِمٍ الْحِمَّانِيُّ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، نا عَامِرُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: جَاءَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَأَطْعَمْنَاهُمْ رُطَبًا، وَسَقَيْنَاهُمْ مِنَ الْمَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ»
1433 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ قال، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَنِيعِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، نا هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، نا حَشْرَجُ بْنُ نُبَاتَةَ، نا أَبُو نَصْرٍ، عَنْ أَبِي عَسِيبٍ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلا، فَدَعَانِي فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ، ثُمَّ مَرَّ بِأَبِي بَكْرٍ فَدَعَاهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، ثُمَّ مَرَّ بِعُمَرَ فَدَعَاهُ فَخَرَجَ إِلَيْهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ يَمْشِي وَنَحْنُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ حَائِطًا لِبَعْضِ الأَنْصَارِ، فَقَالَ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ: أَطْعِمْنَا بُسْرًا، فَجَاءَ بِعِذْقٍ فَوَضَعَهُ، فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ، فَشَرِبَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّكُمْ لَمَسْئُولُونَ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَخَذَ عُمَرُ الْعِذْقَ، فَضَرَبَ بِهِ الأَرْضَ حَتَّى تَنَاثَرَ الْبُسْرُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّا لَمَسْئُولُونَ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: «نَعَمْ إِلا مِنْ ثَلاثٍ خِرْقَةٍ يُوَارِي الرَّجُلُ بِهَا عَوْرَتَهُ، أَوْ كِسْرَةٍ يَسُدُّ بِهَا جَوْعَتَهُ، أَوْ حَجَرٍ يَدْخُلُ فِيهِ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ» .(4/550)
تفسير سورة العصر
ثلاث آيات، مكية.
1434 - أَخْبَرَنَا ابْنُ الزَّعْفَرَانِيِّ، أنا ابْنُ مَطَرٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْعَصْرِ خَتَمَ اللَّهُ لَهُ بِالصَّبْرِ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْحَقِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَصْرِ {1} إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ {2} إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ {3} } [العصر: 1-3] .
قوله تعالى: والعصر أقسم الله تعالى بالدهر، لأن فيه عبرة للناظرين من جهة مرور الليل والنهار على تقدير الأدوار، وقال مقاتل: أقسم الله تعالى بصلاة العصر، وهي الصلاة الوسطى.
وقال الزجاج: قال بعضهم: معناه ورب العصر.
إن الإنسان يعني: جميع الناس، {لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] الخسر كالخسران، وهو النقصان، وذهاب رأس المال، والمعنى: إن كل إنسان، يعني: الكافر، لاستثنائه المؤمنين، لفي ضلال حتى يموت ويدخل النار، وقال أهل المعاني: الخسر: هلاك رأس المال، والإنسان في هلاك نفسه وعمره، وهما أكثر رأس ماله، إلا المؤمن العامل بطاعة الله.
وهو قوله: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر: 3] وصدقوا الله ورسوله، وعملوا بطاعته، {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [العصر: 3] أوصى بعضهم بعضًا بالقرآن، وقال مقاتل: بتوحيد الله تعالى.
{وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3] عن معاصي الله، وعلى فرائض الله، وروى أبو أمامة، عن أبي بن كعب، قال: قرأت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والعصر، فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله ما تفسيرها؟ فقال: " {وَالْعَصْرِ} [العصر: 1] قسم من الله، أقسم ربكم بآخر النهار، {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] أبو جهل بن هشام، إلا الذين آمنوا أبو بكر الصديق، وعملوا الصالحات عمر بن الخطاب، {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [العصر: 3] عثمان بن عفان، {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3] علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم ".(4/551)
تفسير سورة الهمزة
مكية، تسع آيات.
1435 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحِيرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ بِعَدَدِ مَنِ اسْتَهْزَأَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ {1} الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ {2} يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ {3} كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ {4} وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ {5} نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ {6} الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ {7} إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ {8} فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ {9} } [الهمزة: 1-9] .
{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1] قال أبو عبيدة، والزجاج: الهمزة اللمزة: الذي يغتاب الناس.
قال بعضهم: نزلت في الأخنس بن شريق، كان يلمز الناس ويغتابهم.
وقال مقاتل: نزلت في الوليد بن المغيرة، كان يغتاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ورائه، ويطعن عليه في وجهه.
ثم وصفه، فقال: {الَّذِي جَمَعَ مَالا} [الهمزة: 2] وقرئ: جمع بالتشديد، وهو جمع بالشيء بعد الشيء، وعدده قال الفراء: أحصاه.
وقال الزجاج:(4/552)
وعدده للدهور، فيكون من العدة، يقال: أعددت الشيء، وعددته إذا أمسكته.
ثم ذكر طول أمله، فقال: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} [الهمزة: 3] أي: يعمل عمل من لا يظن مع يساره أنه يموت.
كلا لا يخلد ماله، ولا يبقى له، {لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} [الهمزة: 4] ليلقين في جهنم، وليطرحن فيها، والحطمة من أسماء جهنم، قال مقاتل: هي تحطم العظام، وتأكل اللحوم حتى تهجم على القلوب.
وذلك قوله: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ {6} الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ {7} } [الهمزة: 6-7] قال: يخلص حرها إلى القلوب.
ثم يكسى لحمًا جديدًا، ثم تقبل عليه فتأكله.
{إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ} [الهمزة: 8] مطبقة، في عمد وقرئ عمد وكلاهما جمع عمود، وقال أبو عبيدة: كلاهما جمع العماد، وهي أوتاد الأطباق التي تطبق على أهل النار.
قال مقاتل: أطبقت الأبواب عليهم، ثم سدت بأوتاد من حديد من نار، حتى يرجع عليهم غمها وحرها، فلا يفتح عنهم باب، ولا يدخل عليهم روح.
وممددة من صفة العمد، أي: أنها ممدودة مطولة، وهي أرسخ من القصيرة.(4/553)
تفسير سورة الفيل
خمس آيات، مكية.
1436 - فِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ بِالإِسْنَادِ الَّذِي قَدْ تَقَدَّمَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْفِيلِ عَافَاهُ اللَّهُ تَعَالَى أَيَّامَ حَيَاتِهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْعَدُوِّ وَالْمَسْخِ» .
بسم الله الرحمن الرحيم {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ {1} أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ {2} وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ {3} تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ {4} فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ {5} } [الفيل: 1-5] .
ألم تر قال الفراء: ألم تخبر.
وقال الزجاج: ألم تعلم.
وقال صاحب النظم: معناه التعجب.
و {كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] يعني: الذين قصدوا تخريب الكعبة من الحبشة.
{أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ} [الفيل: 2] مكرهم، وسعيهم في تخريب الكعبة، واستباحة أهلها، في تضليل عما قصدوا له، ضلل كيدهم حتى لم يصلوا إلى البيت، وإلى ما أرادوه بكيدهم.
{وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} [الفيل: 3] أقاطيع يتبع بعضها بعضًا، كالإبل المؤبلة، قال أبو عبيدة: الأبابيل: جماعات في تفرقة، يقال: جاءت الخيل أبابيل من ههنا وههنا، ولم نر أحدًا يجعل لها واحدًا.
وقال ابن عباس: كانت طيرًا لها خراطيم، وأكف كأكف الكلاب.
وقال عطاء عنه، وقتادة: طير سود، جاءت من قبل البحر فوجًا فوجًا، مع كل طائر ثلاثة أحجار، حجران في رجليه، وحجر في منقارة، لا يصيب شيئًا إلا هشمه.
فذلك قوله: {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} [الفيل: 4] قال ابن مسعود: ما وقع منها حجر على رجل إلا خرج من الجانب الآخر، وإن وقع على رأسه خرج من دبره.
{فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل: 5] كزرع، وتبن قد أكلته الدواب، ثم راثته، وتفرقت أجزاؤه، شبه تقطع أوصالهم بتفرق أجزاء الروث.(4/554)
تفسير قريش
أربع آيات، مكية.
وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث أبيّ بن كعب: «ومن قرأ سورة لإيلاف قريش، أعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد من طاف بالكعبة، واعتكف بها» .
بسم الله الرحمن الرحيم
لإِيلافِ قُرَيْشٍ {1} إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ {2} فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ {3} الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ {4} } [سورة قريش: 1-4] .
{لإِيلافِ قُرَيْشٍ {1} إِيلافِهِمْ} [قريش: 1-2] وقرئ: إلافهم وإلفهم يقال: ألفت الشيء إلافا وإلفًا، وألفته إيلافًا بمعنى واحد.
يقال: آلفت الظباء الرمل.
إذ ألفته، واللام في الإيلاف تتعلق بالتي قبلها، وذلك أن الله تعالى ذكر أهل مكة عظيم النعمة عليهم، فيما صنع بالحبشة، ثم قال: {لإِيلافِ قُرَيْشٍ} [سورة قريش: 1] يقول: فعلنا ذلك بهم لتألف قريش رحلتيها.
قال الزجاج: المعنى: فجعلهم(4/555)
كعصف مأكول لإلف قريش، أي: أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش، وما قد ألفوا من {رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} [قريش: 2] .
وشرح ابن قتيبة هذا شرحًا شافيًا، فقال: هاتان سورتان متصلتا الألفاظ، والمعنى: أن قريشًا كانت بالحرم آمنة من الأعداء أن تهجم عليهم فيه، وأن يعرض لها أحد بالسوء، إذا خرجت منه لتجارتها، والحرم واد جديب، إنما كانت تعيش قريش فيه بالتجارة، وكانت لهم رحلتان في كل سنة، رحلة في الشتاء إلى اليمن، ورحلة في الصيف إلى الشام، ولولا هاتان الرحلتان لم يكن به مقام، ولولا الأمن بجوارهم البيت لم يقدروا على التصرف، فلما قصد أصحاب الفيل إلى مكة، ليهدموا الكعبة، أهلكهم الله لتألف قريش هاتين الرحلتين اللتين بهما تعيشهم ومقامهم بمكة.
وأما قريش فهم ولد النضر بن كنانة، فكل من ولده النضر فهو قرشي، ومن لم يلده النضر فليس بقرشي، واختلفوا في سبب تسميتهم بهذا الأسم، فقال الأكثرون: سموا قريشًا للتجارة وجمع المال، وكانوا أهل تجارة، ولم يكونوا أصحاب ضرع ولا زرع.
والقرش: الكسب، يقال: هو يقرش لعياله ويقترض.
أي: يكتسب.
1437 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْخَلِيلِ، نا أَبُو كُرَيْبٍ، نا وَكِيعٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ لابْنِ عَبَّاسٍ: لِمَ سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشًا، قَالَ: بِدَابَّةٍ تَكُونُ فِي الْبَحْرِ مِنْ أَعْظَمِ دَوَابَّهِ يُقَالُ لَهَا: الْقِرْشُ لا تَمُرُّ بِشَيْءٍ مِنَ الْغَثِّ وَالسَّمِينِ إِلا أَكَلَتْهُ، قَالَ: فَتُنْشِدُ فِي ذَلِكَ شَيْئًا، فَأَنْشَدَهُ شِعْرَ الْجُمَحِيِّ إِذْ يَقُولُ:
وَقُرَيْشٌ هِيَ الَّتِي تَسْكُنُ الْبَحْرَ ... بِهَا سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَا
تَأْكُلُ الْغَثَّ وَالسَّمِينَ وَلا تَتْرُكُ ... فِيهِ لِذِي الْجَنَاحَيْنِ رِيشَا
هَكَذَا فِي الْبِلادِ حَتَّى قُرَيْشٍ ... يَأْكُلُونَ الْبِلادَ أَكْلا كَمِيشَا
وَلَهُمْ آخِرَ الزَّمَانِ نَبِيٌّ ... يُكْثِرُ الْقَتْلَ فِيهِمْ وَالْخُمُوشَا(4/556)
{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} [قريش: 3] يقول: فليوحدوا رب هذه الكعبة.
{الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} [قريش: 4] أي: بعد جوع، كما تقول: كسوتك من عرى.
وذلك: أن الله تعالى أمنهم بالحرم، وجعلهم من أهله حتى لم يتعرض لهم في رحلتيهم، وكان ذلك سبب إطعامهم بعد ما كانوا فيه من الجوع، قال عطاء، عن ابن عباس: إنهم كانوا في ضر، ومجاعة حتى جمعهم هاشم على الرحلتين، فكانوا يقسمون ربحهم بين الفقير والغني، حتى كان فقيرهم كغنيهم، فلم يكن بنو أب أكثر مالًا، ولا أعز من قريش.
وقد قال الشاعر فيهم:
الخالطين فقيرهم بغنيهم ... حتى يكون فقيرهم كالكافي
وقوله: {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 4] هو أنهم كانوا يسافرون آمنين، لا يتعرض لهم أحد، وكان غيرهم لا يأمن في سفره، ولا في حضره.(4/557)
تفسير سورة الماعون
سبع آيات، مكية.
1438 - / فِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ بِالإِسْنَادِ السَّابِقِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ أَرَأَيْتَ الَّذِي غَفَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بِهَا إِنْ كَانَ لِلزَّكَاةِ مُؤَدِّيًا» .
بسم الله الرحمن الرحيم {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ {1} فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ {2} وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ {3} فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ {4} الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ {5} الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ {6} وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ {7} } [الماعون: 1-7] .
{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} [الماعون: 1] قال عطاء، عن ابن عباس: نزلت في رجل من المنافقين.
وقال الكلبي: نزلت في العاصي بن وائل.
ومعنى: {يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} [الماعون: 1] : بالجزاء والحساب.
ثم أخبر عنه بقوله: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون: 2] يدفعه عن حقه دفعًا بعنف وجفوة.
{وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون: 3] ولا يطعمه، ولا يأمر بإطعامه، لأنه يكذب بالجزاء.
{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ {4} الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ {5} } [الماعون: 4-5] نزلت في المنافقين الذين لا يرجون لها ثوابًا إن صلوا، ولا يخافون عليها عقابا إن تركوا، فهم عنها غافلون حتى يذهب وقتها، فإذا كانوا مع المؤمنين صلوا رياء، وإذا لم يكونوا معهم لم يصلوا، وهو قوله: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ {6} وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ {7} } [الماعون: 6-7] أكثر المفسرين على أن الماعون: اسم لما يتعاوره الناس بينهم من الدلو، والفأس، والقدر، ما لا يمنع كالماء، والملح يدل على هذا ما:
1439 - أَخْبَرَنَاهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَامِدٍ الْعَدْلُ، أنا(4/558)
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّغُولِيُّ، نا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ سَيَّارٍ، نا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ الدَّارِمِيُّ، نا دَلْهَمُ بْنُ دَهْثَمٍ الْعِجْلِيُّ، نا عَائِذُ بْنُ رَبِيعَةَ النُّمَيْرِيُّ، حَدَّثَنِي قُرَّةُ بْنُ دَعْمُوصٍ، " أَنَّهُمْ وَفَدُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُرَّةُ بْنُ دَعْمُوصٍ، وَقَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ شُرَيْحٍ، فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَانْطَلَقُوا وَاتَّبَعَهُ الْحَارِثُ بْنُ شُرَيْحٍ حَتَّى صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُ وَأَعْطَاهُ كِتَابَهُ، فَلَحِقَ بِقَوْمِهِ، فَقَالُوا: مَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: قَالَ: لا تَمْنَعُوا الْمَاعُونَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْمَاعُونُ؟ قَالَ: الْمَاعُونُ فِي الْحَجَرِ وَالْحَدِيدَةِ وَالْمَاءِ، قَالُوا: فَأَيُّ الْحَدِيدَةِ، قَالَ: قِدْرُ النُّحَاسِ وَحَدِيدُ الْفَأْسِ الَّذِي يَمْتَهِنُونَ بِهِ، قَالُوا: مَا الْحَجَرُ؟ قَالَ: قُدُورُكُمُ الْحِجَارَةُ ".
أخبرنا محمد بن موسى بن الفضل، نا محمد بن يعقوب، نا أحمد بن عبد الجبار، نا وكيع، عن سنام، عن عكرمة، قال: الماعون: الفأس، والقدر، والدلو.
قلت: من منع هذا فله الويل؟ قال: لا، ولكن من جمعهن من رايا في صلواته، وسها فيها، ومنع هذا، فله الويل.(4/559)
تفسير الكوثر
ثلاث آيات، مكية.
في حديث أبيّ بن كعب: «ومن قرأ سورة إنا أعطيناك الكوثر، سقاه الله عز وجل من أنهار الجنة، وأعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد كل قربان قربه العباد من المسلمين في يوم عيد، وكل قربان ما يقربون من أهل الكتاب، والمشركين» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ {1} فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ {2} إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ {3} } [سورة الكوثر: 1-3] .
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] أكثر المفسرين على أن الكوثر نهر في الجنة، يدل عليه ما:
1440 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْغَازِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سِنَانٍ الْحِيرِىُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى، نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: " بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا، فَقُلْتُ: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ {1} فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ {2} إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ {3} } [الكوثر: 1-3] ثم قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّهُ نَهْرٌ وَعَدَنِي عَلَيْهِ رَبِّي خَيْرًا كَثِيرًا هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، آنِيَتُهُ عَدَدَ نُجُومِ السَّمَاءِ، فَيُخْتَلَجُ الْعَبْدُ مِنْهُ، فَأَقُولُ: رَبِّ إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي،(4/560)
فَيَقُولُ: إِنَّكَ لا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ.
1441 - وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ، أنا مُحَمَّدٌ، أنا أَحْمَدُ، نا هُدْبَةُ، نا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ فِي الْجَنَّةِ إِذْ أَنَا بِنَهَرٍ حَافَتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ الْمُجَوَّفِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ فَقَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَ رَبُّكَ، فَضَرَبَ الْمَلَكُ بِيَدِهِ، فَإِذَا طِينُهُ مِسْكٌ أَذْفَرُ "، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ هُدْبَةَ.
1442 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الأَصْبَهَانِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، نا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الأَهْوَازِيُّ، نا مَعْمَرُ بْنُ سَهْلٍ، نا عَامِرُ بْنُ مُدْرِكٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، نا أَبُو الْيَقْظَانِ، عَنْ زَاذَانَ، عَنْ عَلِيٍّ، وَأَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: " لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْصَرَ نَهْرًا فِي الْجَنَّةِ قِيلَ: هَذَا الْكَوْثَرُ، فَأَصْبَحَ يُحَدِّثُ بِهِ النَّاسَ، فَقَالَ مُنَافِقٌ لِصَاحِبٍ لَهُ: سَلْهُ فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا نَهْرًا قَطُّ إِلا عَلَى شَطِّهِ نَبَاتٌ، مَا نَبْتُهُ؟ فَقَالَ: يَا نَبِيَ اللَّهِ، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَهْرٍ إِلا عَلَى شَطِّهِ نَبْتٌ فَمَا نَبْتُهُ؟ قَالَ: قُضْبَانُ الذَّهَبِ الرَّطْبِ مُسْتَعْلِيَةٌ عَلَيْهِ تُظِلُّهُ، قَالُوا: إِنَّا لَمْ نَرَ نَبْتًًا إِلا لَهُ ثَمَرٌ فَمَا ثَمَرُهُ؟ قَالَ: الْيَاقُوتُ وَاللُّؤْلُؤُ وَالزُّمُرُّدُ، قَالُوا: إِنَّا لَمْ نَرَ نَهْرًا إِلا لَهُ حَمْأَةٌ فَمَا حَمْأَتُهُ؟ قَالَ: الْمِسْكُ الأَذْفَرُ، قَالُوا: فَإِنَّا لَمْ نَرَ نَهْرًا قَطُّ إِلا يَجْرِي عَلَى رَضْرَاضٍ، فَمَا رَضْرَاضُهُ؟ قَالَ: جَنَادِبُ اللُّؤْلُؤِ وَالْيَاقُوتِ وَالزُّمُرُّدِ "، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْكَوْثَرُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ الَّذِي أَعْطَى اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أخبرنا أبو نصر الجوزقي، أنا بشر بن أحمد بن بشر، أنا أحمد بن علي بن المثنى، نا شيبان، نا(4/561)
مبارك، عن الحسن، {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] قال: العلم والقرآن.
قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} [الكوثر: 2] يعني: الصلوات الخمس، وانحر البدن بمنى، وقال محمد بن كعب: إن ناسًا كانوا يصلون لغير الله، وينحرون لغير الله، فأمر الله تعالى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تكون صلاته ونحره له.
وقال ابن عباس، في رواية أبي الجوزاء في قوله: {وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] قال: تضع يدك اليمنى على اليسرى في الصلاة.
وهو قول علي رضي الله عنه، {وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] قال: وضع اليمين على الشمال في الصلاة.
وروي مرفوعًا: أنه رفع اليمين في الصلاة.
1443 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَشَّاطُ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الأَنْمَاطِيُّ، نا أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، نا وَهْبُ بْنُ أَبِي مَرْحُومٍ، عَنْ إِسْرَائِيلَ بْنِ حَاتِمٍ، عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حِبَّانَ، عَنِ الأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ {1} فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ {2} } [الكوثر: 1-2] قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجِبْرِيلَ: " مَا هَذِهِ النَّحِيرَةُ الَّتِي أَمَرَنِي بِهَا، فَقَالَ: لَيْسَتْ بِنَحِيرَةٍ، وَلَكِنَّهُ يَأْمُرُكَ إِذَا تَحَرَّمْتَ لِلصَّلاةِ أَنْ تَرْفَعَ يَدَيْكَ إِذَا كَبَّرْتَ، وَإِذَا رَكَعْتَ، وَإِذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ مِنَ الرُّكُوعِ، فَإِنَّهَا مِنْ صَلاتِنَا، وَصَلاةِ الْمَلائِكَةِ الَّذِينَ فِي السَّمَوَاتِ السَّبْعِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَفْعُ الأَيْدِي مِنَ الاسْتِكَانَةِ»
قال الله عز وجل: {فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76] .(4/562)
{إِنَّ شَانِئَكَ} [الكوثر: 3] مبغضك، {هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر: 3] المنقطع عن الخير، يعني: العاص بن وائل، كان يمر بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقول له: إني لأشنؤك، وإنك لأبتر من الرجال.
فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر: 3] يعني: العاص من خير الدنيا، وخير الآخرة.
1444 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ الْفَضْلِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، نا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، قَالَ: كَانَ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ، إِذَا ذُكِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: دَعُوهُ، فَإِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ أَبْتَرُ، لا عَقِبَ لَهُ، لَوْ قَدْ هَلَكَ لانْقَطَعَ ذِكْرُهُ، وَاسْتَرَحْتُمْ مِنْهُ.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إنا أعطيناك الكوثر مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا.
والكوثر العظيم من الأمر {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ {2} إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ {3} } [الكوثر: 2-3] العاص بن وائل.(4/563)
تفسير سورة الكافرون
ست آيات، مكية.
في حديث أبيّ بن كعب: «ومن قرأ سورة قل يأيها الكافرون، فكأنما قرأ ربع القرآن، وتباعدت منه مردة الشياطين، وبرئ من الشرك، ويعافى من الفزع الأكبر» .
1445 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ، نا يَحْيَى، أنا خَيْثَمَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ فَرْوَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " جِئْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِتُعَلِّمَنِي شَيْئًا أَقُولُهُ عِنْدَ مَنَامِي، قَالَ: فَإِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ فَاقْرَأْ: قُلْ يَأَيُّهَا الْكَافِرُونَ ثُمَّ نَمْ عَلَى خَاتِمَتِهَا، فَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ ".
1446 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أنا أَبُو الْقَاسِمِ الْمَنِيعِيُّ، نا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ، نا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلا يُحَدِّثُ، قَالَ: " كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةٍ ظَلْمَاءَ، فَسَمِعَ قَارِئًا يَقْرَأُ: قُلْ يَأَيُّهَا الْكَافِرُونَ فَقَالَ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ بَرِئَ مِنَ الشِّرْكِ، ثُمَّ سِرْنَا، فَسَمِعَ قَارِئًا يَقْرَأُ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَقَالَ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ غُفِرَ لَهُ ".
بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ يَأَيُّهَا الْكَافِرُونَ {1} لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ {2} وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ {3} وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ {4} وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ {5} لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ {6} } [الكافرون: 1-6] .(4/564)
{قُلْ يَأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] قال جماعة المفسرين: لما قرأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { [النجم بمكة على المشركين، وألقى في قراءته الشيطان ما ألقى، طمع مشركو مكة فيه، وقالوا: إن محمدًا قد دخل في بعض ديننا.
فأتوه، وقالوا له: تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة، ثم تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة.
فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: معاذ الله أن اشرك به غيره.
وأنزل الله: قُلْ يَأَيُّهَا الْكَافِرُونَ {1} لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ {2} .
قال ابن عباس، ومقاتل: لا أعبد آلهتكم التي تعبدون اليوم،] وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ} [سورة الكافرون: 3] إلهي الذي أعبد اليوم.
ومعنى: ما أعبد من أعبد، ولكنه يقابل قوله: ما تعبدون أي: من الأصنام، فحمل الثاني عليه.
{وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} [الكافرون: 4] يعني: فيما بعد اليوم.
{وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 3] فيما بعد اليوم، قال الزجاج: نفى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذه ال { [عبادة آلهتهم عن نفسه في الحال، وفيما يستقبل، ونفى عنهم عبادة الله في الحال، وفيما يستقبل.
قال: وهذا في قوم أعلمه الله تعالى أنهم لا يؤمنون.
كقوله في قصة نوح عليه السلام:] أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ} [سورة هود: 36] .
لكم دينكم كفركم بالله، ولي دين التوحيد، والإخلاص، وهذا قبل أن يؤمر بالحرب.(4/565)
تفسير النصر
ثلاث آيات، مدنية.
في حديث أبيّ بن كعب: «ومن قرأ النصر، فكأنما شهد مع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتح مكة» .
بسم الله الرحمن الرحيم] إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ {1} وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا {2} فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا {3} } [سورة النصر: 1-3] .
{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} [النصر: 1] قال المفسرون: إذا جاء يا محمد نصر الله على من عاداك، وهم قريش.
والفتح فتح مكة.
{وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر: 2] قال الحسن: لما فتح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة، قالت العرب: أما إذا أظفر محمد بأهل الحرم، وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل، فليس لكم به يدان.
فكانوا يدخلون في دين الله أفواجًا أي: جماعات كثيرة، بعد أن كانوا يدخلون واحدًا واحدًا، واثنين اثنين، صارت القبيلة تدخل بأسرها في الإسلام.
وقوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 3] قال ابن عباس: لما نزلت هذه السورة، علم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه نعيت إليه نفسه.
وقال الحسن: أعلم أنه قد أقترب أجله، فأمر بالتسبيح والتوبة، ليختم له في آخر عمره بالزيادة في العمل الصالح، فكان يكثر أن يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، اغفر لي، إنك أنت التواب.(4/566)
قال قتادة، ومقاتل: وعاش بعد نزول هذه السورة سنتين.
1447 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْحِيرِيُّ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، أنا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ سَنَةَ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ، أنا أَبُو سَعِيدٍ الْمُفَضَّلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْجَنْدِيُّ بِمَكَّةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلاثِ مِائَةٍ، نا عَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ اللَّخْمِيُّ، نا أَبُو قُرَّةَ مُوسَى بْنُ طَارِقٍ، قَالَ: ذَكَرَ سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي.
يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ.
قَالَ أَبُو قُرَّةَ: قَالَ لِي سُفْيَانُ: يَتَأَوَّلُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ كِلاهُمَا عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ.(4/567)
تفسير سورة المسد
خمس آيات، مكية.
في حديث أبيّ بن كعب: «ومن قرأ سورة تبت، رجوت أن لا يجمع الله بينه وبين أبي لهب في دار واحدة» .
1448 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، أنا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ الأَبِيوَرْدِيُّ، نا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ الصَّفَا، فَقَالَ: يَا صَبَاحَاهُ، قَالَ: فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ، فَقَالُوا لَهُ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ مُصَبِّحُكُمْ، أَوْ مُمَسِّيكُمْ، أَمَا كُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ أَلِهَذَا دَعَوْتَنَا جَمِيعًا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] إِلَى آخِرِهَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلامٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ.
{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ {1} مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ {2} سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ {3} وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ {4} فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ {5} } [المسد: 1-5] .
قال مقاتل: قيل: سمي أبو لهب، لأن وجنتيه كانتا حمراوين، كأنما تلتهب منهما النار.
قال مقاتل: خسرت يداه بترك الإيمان، وخسر هو بترك الإيمان.
وقال الفراء: الأول دعاء، والثاني خبر، كما تقول:(4/568)
أهلكه الله، وقد أُهلك.
وأبو لهب هو ابن عبد المطلب عم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان شديد المعاداة له، قال طارق المحاربي: إني بسوق ذي المجاز، إذ أنا بشاب يقول: يأيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا.
وإذا رجل خلفه يرميه، قد أدمى ساقيه وعرقوبيه، يقول: أيها الناس، إنه كذاب فلا تصدقوه.
فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا محمد، يزعم أنه نبي، وهذا عمه أبو لهب يزعم أنه كذاب.
وكان ابن كثير يقرأ أبي لَهْب ساكنة الهاء، ويشبه أنه لغة في اللهب، كالنهر والنهر، واتفقوا في الثانية على الفتح لوفاق الفواصل، ولما أنذره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنار، قال أبو لهب: إن كان ما تقوله حقًا، فإني أفتدي بمالي وولدي.
فقال الله عز وجل: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد: 2] أي: ما دفع عنه عذاب الله ما جمع من ماله وما كسب، يعني: ولده، لأن ولده من كسبه.
ثم أوعده بالنار، فقال: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد: 3] يعني: نارًا تلتهب عليه.
وامرأته وهي: أم جميل بنت حرب، أخت أبي سفيان، {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4] كانت تحمل العضاه والشوك، فتطرحه في طريق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليعقره، وقال قتادة، ومجاهد، والسدي: كانت تمشي بالنميمة بين الناس، فتلقي بينهم العداوة وتهيج نارها، كما يوقد النار بالحطب.
وتسمى النميمة حطبًا، يقال: فلان يحطب على فلان.
إذا كان يغري به، ومن نصب {حَمَّالَةَ} [المسد: 4] فعلى معنى: أعني حمالة.
{فِي جِيدِهَا} [المسد: 5] عنقها، {حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد: 5] يعني: سلسلة من حديد في النار، طولها سبعون ذراعًا، والمسد: الفتل، والمسد ما فتل وأحكم من أي شيء كان، والمعنى: أن السلسلة التي في عنقها فتلت من الحديد فتلًا محكمًا.(4/569)
تفسير سورة الإخلاص
أربع آيات، مكية.
1449 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أنا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، نا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ حَيَّانَ الْمَازِنِيُّ، نا ابْنُ عَائِشَةَ، نا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، نا يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ، نا أَبُو حَازِمٍ، نا أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " احْتَشِدُوا أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ثُمَّ دَخَلَ بَيْتَهُ، قَالَ: فَقَالَ الْقَوْمُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احْتَشِدُوا اقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فَقَرَأَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ثُمَّ دَخَلَ، مَا هَذَا إِلا لِشَيْءٍ، قَالَ: فَسَمِعَهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ، وَيَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ.
1450 - أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ حَمْشَاذٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ غَالِبٍ، أنا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ النُّعْمَانِ، نا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَزَّأَ الْقُرْآنَ ثَلاثَةَ أَجْزَاءٍ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] جُزْءٌ ".
1451 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورِ بْنُ طَاهِرٍ، أنا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، نا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُجَالِدٍ، عَنْ(4/570)
مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ، فَنَزَلَتْ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] إِلَى آخِرِهَا
ومن حديث أبيّ بن كعب: «ومن قرأ { [قل هو الله أحد، فكأنما قرأ ثلث القرآن، وأعطي من الآجر عشر حسنات، بعدد من آمن بالله، وملائكته، ورسله، واليوم الآخر، ومثل أجر مائة شهيد» .
بسم الله الرحمن الرحيم] قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} اللَّهُ الصَّمَدُ {2} لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ {3} وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ {4} } [سورة الإخلاص: 1-4] .
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] قال الزجاج: هو كناية عن ذكر الله عز وجل والمعنى الذي سألتم، تبين نسبته {هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] .
قال ابن عباس: الواحد الذي ليس كمثله شيء.
وقال مقاتل: أحد لا شريك له.
{اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2] قال ابن عباس، في رواية عطاء: لما نزل {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2] قالوا: وما الصمد؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «السيد الذي يصمد إليه في الحوائج» .
ويقال: صمدت.
أي: قصدت، وقال الزجاج: {الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2] : السيد الذي انتهى إليه السؤدد.
ومعنى هذا: أن السؤدد قد انتهى إليه، فلا سيد فوقه.
لم يلد كما ولدت مريم، ولم يولد كما ولد عيسى، وقال مقاتل: إن مشركي العرب، قالوا: الملائكة بنات الله.
وقالت اليهود: عزير ابن الله.
وقالت النصارى: المسيح ابن الله.
فأكذبهم الله تعالى، فقال: لم يلد يقول: لم يكن له ولد، ولم يولد من أحد كما ولد عيسى، وعزير، ومريم.
{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] لم يكن لا له أحد مثلًا له، والكفو: المثل المكافئ.(4/571)
تفسير سورة الفلق
خمس آيات، مكية.
1452 - أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ حَمْشَاذٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ غَالِبِ بْنِ حَرْبٍ، أنا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ النُّعْمَانِ، نا وَرْقَاءُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُنْزِلَ عَلَيَّ آيَاتٌ لَمْ تَنْزِلْ مِثْلُهُنَّ، الْمَعُوذَتَانِ» .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَن إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِد
وفي حديث أبيّ بن كعب: «ومن قرأ قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس، فكأنما قرأ جميع الكتب التي أنزلها الله سبحانه على الأنبياء عليهم السلام» .
بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ {1} مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ {2} وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ {3} وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ {4} وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ {5} } [الفلق: 1-5] .
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] قال مقاتل، والكلبي: إن لبيد بن أعصم اليهودي، سحر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إحدى عشرة عقدة في حبل معقد، ودسه في بئر يقال له: ذروان.
فمرض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واشتد ذلك عليه ثلاث ليال، فنزلت المعوذتان لذلك، وأخبره جبريل بمكان السحر، فأرسل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليًا، رضي الله عنه، فجاء بها، فقال جبريل للنبي، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حل عقدة واقرأ آية.
ففعل، وجعل كلما يقرأ آية انحلت عقدة، وذهب عنه ما كان يجد.
و {الْفَلَقِ} [الفلق: 1] : الصبح وبيانه، يقال: هو أبين من فلق الصبح.
{مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق: 2] من الجن والإنس.
{وَمِنْ شَرِّ(4/572)
غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق: 3] قال ابن عباس: الغاسق: الليل إذا أقبلت ظلمته من المشرق، فدخل في النهار.
وقال مقاتل: يعني(4/573)
ظلمة الليل، إذا دخل سواده في ضوء النهار.
وقال الفراء: ويقال: غسق الليل وأغسق.
إذا أظلم.
{وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4] يعني: السحرة، والسواحر، والنفث: النفخ، كما يفعل كل من يرقي، قال عطاء، عن ابن عباس: يريد السحرة الذين عقدوا السحر للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال أبو عبيدة: هن بنات لبيد بن أعصم اليهودي، سحرن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 5] يعني: اليهود حسدوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(4/574)
تفسير سورة الناس
ست آيات، مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم] قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ {1} مَلِكِ النَّاسِ {2} إِلَهِ النَّاسِ {3} مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ {4} الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ {5} مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ {6} } [سورة الناس: 1-6] .
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ {1} مَلِكِ النَّاسِ {2} إِلَهِ النَّاسِ {3} مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ} [الناس: 1-4] قال الزجاج: هو الشيطان ذو الوسواس.
{الْخَنَّاسِ} [الناس: 4] قال مجاهد: إذا ذكر الله خنس وانقبض، وإذا لم يذكر الله انبسط على القلب.
وهذا معنى ما:
1453 - أَخْبَرَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَحْمَدَ الْغَازِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمْدَانَ بْنِ عَلِيٍّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى، نا مُحَمَّدُ بْنُ بُجَيْرٍ، نا عَدِيُّ بْنُ أَبِي عُمَارَةَ، نا زِيَادٌ النُّمَيْرِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ وَاضِعٌ خَطْمَهُ عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، فَإِنْ ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ، وَإِنْ نَسِيَ الْتَقَمَ قَلْبَهُ فَذَلِكَ الْوَسْوَاسُ الْخَنَّاسُ»
وقد وصفه الله تعالى بهذا، فقال: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس: 5] أي: بالكلام الخفي، الذي يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع.
ثم ذكر أن هذا الشيطان الذي يوسوس في صدور الناس: من الجنة وهم الشياطين، وعطف قوله: والناس على الوسواس المعنى: من شر الوسواس، ومن شر الناس، كأنه أُمِرَ أن يستعيذ من شر الجن والإنس.
1454 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْخَشَّابُ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى بْنِ مُجَاشِعٍ، نا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، قَالَ: قُلْتُ لأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: إِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لا يَكْتُبُ فِي مُصْحَفِهِ الْمَعُوذَتَيْنِ، فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَالَ جِبْرِيلُ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] فَقُلْتُهَا: {قُلْ أَعُوذُ(4/575)
بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] " فَقُلْتُهَا فَنَحْنُ نَقُولُ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
1455 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورِ بْنُ طَاهِرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ الدَّقَّاقُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبُوشَنْجِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ نُفَيْلٍ، نا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْمُلائِيُّ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ سِيرِينَ أُمِّ أَبِي عُبَيْدَةَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ دَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ وَفِي عُنُقِهَا مَيْرٌ أَوْ خَيْطٌ مَعْقُودٌ مِنْ مَرَضٍ بِهَا، وَعِنْدَهَا نِسْوَةٌ فَاجْتَذَبَهُ حَتَّى اخْتَنَقَتْ، فَقَطَعَهُ فَنَبَذَهُ ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ أَصْبَحَ ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ غَنِيًّا عَنْ أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِهِ شِرْكٌ، فَقَالَ بَعْضُهُنَّ: أَوَ شِرْكٌ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، الرُّقَى وَالتَّمَائِمُ وَالتِّوَلَةُ شِرْكٌ، فَقَالَ بَعْضُهُنَّ: وَمَا التِّوَلَةُ؟ قَالَ: مَا تَحَبَّبْنَ بِهِ إِلَى أَزْوَاجِكُنَّ، فَقَالَ بَعْضُهُنَّ: إِنَّ إِحْدَانَا يَأْخُذُهَا الضَرَبَانِ فِي عَيْنِهَا، فَإِذَا اسْتَرْقَتْ سَكَنَ، فَقَالَ: ذَاكَ الشَّيْطَانُ عَدُوُّ اللَّهِ يَنْزِعُ فِي عَيْنِ إِحْدَاكُنَّ فَإِذَا اسْتَرْقَتْ كَفَّ، وَلَوْ أَنَّهُ إِذَا أَحَسَّتْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَخَذَتْ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَنَضَحَتْهُ فِي عَيْنِهَا، وَقَرَأَتْ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ سَكَنَ أَوْ ذَهَبَ.
وهذا آخر الكتاب، قال الشيخ الإمام علي بن أحمد الواحدي مصنف هذا التفسير: والحمد لله أولًا وآخرًا، وصلواته على المبعوث بالقرآن الكريم، والذكر الحكيم، وتحياته وتسليمه.
وتقدم الفراغ منه منتصف رجب، سنة إحدى وستين وأربع مائة، اللهم اقبل تقربي إليك، وسهل لي الطريق إلى كل خير من خير الدنيا والآخرة، إنك سميع الدعاء، قدير على ما تشاء.(4/576)