موسى، قال للأرض: أطيعي.
فأخذته إلى الركبتين، ثم قال لها: أطيعي.
فأخذته إلى الحقوين، وهو في ذلك يستغيث بموسى، ثم قال: أطيعي.
فوارته في جوفها، فأوحى الله إليه: يا موسى، ما أغلظ قلبك، أما وعزتي وجلالي لو بي استغاث لأغثته.
قال: رب غضبا لك فعلت.
قال قتادة، ومقاتل: خسف به فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل إلى يوم القيامة.
قوله: {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [القصص: 81] يقول: لم يكن له خير يمنعونه من الله، {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} [القصص: 81] من الممتنعين مما نزل من الخسف.
{وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ} [القصص: 82] صار أولئك الذين تمنوا ما رزق من المال والزينة، يتندمون على ذلك التمني، وهو قوله: {يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} [القصص: 82] الآية، قال الكسائي: ويكأن في التأويل: ذلك أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر.
وقال أبو عبيدة: سبيلها سبيل ألم تر.
وقال مجاهد، وقتادة: ألم تعلم.
وقال الخليل، والفراء: وي مفصولة من كأن وذلك أن القوم تنبهوا فقالوا: وي متندمين على ما سلف منهم، وكل من تندم فإظهار ندامته أن يقول: وي، وكأن في مذهب الظن والعلم.
قوله: {لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} [القصص: 82] أي: بالعافية والرحمة والإيمان، لخسف بنا أي الله، ومن ضم الخاء فإنه يئول في المعنى إلى الأول.
ويكأنه معناه: ألم تر أنه، وأما ترى أنه، {لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص: 82] لا يسعد من يكفر بالله، ومعنى ويكأنه تنبيه.
{تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ {83} مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {84} } [القصص: 83-84] وقوله: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ} [القصص: 83] يعني الجنة، {نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ} [القصص: 83] قال عطاء: علوا على خلقي في الأرض.
وقال الحسن: لم يطلبوا الشرف والعز عند ذي سلطانهم.
وقال الكلبي، ومقاتل: استكبارا عن الإيمان.
705 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا أَبُو عَبَّاسٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَمَّالُ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ يَزِيدَ، نا قُتَيْبَةُ بْنُ مِهْرَانَ، عَنْ أَبِي الصَّبَّاحِ عَبْدِ الْغَفُورِ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ، عَنْ زَاذَانَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَهُ كَانَ يَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ وَحْدَهُ، وَهُوَ وَالٍ، يُرْشِدُ الضَّالَّ، وَيُعِينُ الضَّعِيفَ، وَيَمُرُّ بِالْبَيَّاعِ وَالْبَقَّالِ فَيَفْتَحُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، وَيَقْرَأُ: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} وَيَقُولُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي أَهْلِ الْعَدْلِ وَالتَّوَاضُعِ مِنَ الْوُلاةِ وَأَهْلِ الْقُدْرَةِ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ
706 - أَخْبَرَنِي الْحَاكِمُ أَبُو عَمْرٍو الْمَرْوَزِيُّ، كِتَابَةً، أَنَّ أَبَا الْفَضْلِ الْحَدَّادِيَّ أَخْبَرَهُمْ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ الْخَالِدِيِّ، أنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا وَكِيعٌ، عَنْ أَشْعَثَ الشَّامِيِّ، عَنْ أَبِي سَلامٍ الأَعْرَجِ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيُعْجِبُهُ شِرَاكُ نَعْلِهِ فَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الآيَةِ {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ} يَعْنِي: أَنَّ مَنْ تَكَبَّرَ عَلَى غَيْرِهِ بِلِبَاسٍ يُعْجِبُهُ فَهُوَ مِمَّنْ يُرِيدُ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ
وقوله: ولا فسادا قال الكلبي: هو الدعاء إلى عبادة غير الله.
وقال مقاتل: عملا بالمعاصي.
وقال عكرمة، ومسلم البطين: هو أخذ المال بغير حق.
والعاقبة للمتقين أي: الجنة لمن اتقى عقاب الله بأداء الفرائض واجتناب معاصيه.
قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ} [القصص: 84] قال(3/410)
ابن عباس: يريد الذي أشركوا.
{إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [القصص: 84] إلا جزاء ما كانوا يعملون من الشرك، وجزاؤه النار.
{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ {85} وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ {86} وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {87} وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {88} } [القصص: 85-88] {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ} [القصص: 85] قال المفسرون: أنزل عليك القرآن.
قال الزجاج: فرض عليك العمل بما يوجبه القرآن.
وتقدير الكلام فرض عليك أحكام القرآن وفرائض القرآن، {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85] يعني مكة، قال المفسرون: لما نزل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجحفة في مسيره إلى المدينة، لما هاجر إليها اشتاق إلى مكة، فأتاه جبريل، فقال: أتشتاق إلى بلدك ومولدك؟ فقال: نعم.
فقال جبريل: فإن الله يقول: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85] يعني إلى مكة، ظاهرا عليها.
فنزلت الآية بالجحفة وليست مكية ولا مدنية، وسميت مكة معادا لعوده إليها.
وتم الكلام، ثم ابتدأ كلاما آخر، فقال: قل {رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى} [القصص: 37] وهو جواب لكفار مكة لما قالوا لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنك في ضلال.
فقال الله: قل لهم ربي أعلم بمن جاء بالهدى، يعني نفسه، {وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [القصص: 85] يعني المشركين، والمعنى: الله أعلم بالفريقين، وقد علم أني قد جئت بالهدى وأنكم في ضلال.
ثم ذكره نعمه، فقال: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} [القصص: 86] أن يوحى إليك القرآن بأن تكون نبيا، {إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص: 86] قال الفراء: هذا من الاستثناء المنقطع، ومعناه: ما كنت ترجو أن تعلم كتب الأولين وقصصهم، تتلوها على أهل مكة إلا أن ربك رحمك وأراد بك الخير.
{فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} [القصص: 86] معينا لهم على دينهم.
قال مقاتل: وذلك حين دعى إلى دين آبائه، فذكره الله نعمه ونهاه عن مظاهرتهم على ما كانوا عليه.
وأمره بالتحرز منهم بقوله: {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ} [القصص: 87] يعني القرآن، {بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} [القصص: 87] إلى معرفته وتوحيده، {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [القصص: 87] قال ابن عباس رضي الله عنه: الخطاب له في الظاهر، والمراد به أهل دينه، أي تظاهروا الكفار ولا توافقوهم.
وكذلك قوله: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [القصص: 88] لا تعبد معه غيره، ثم وحد نفسه، فقال: {لا إِلَهَ إِلا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} [القصص: 88] قال عطاء، عن ابن عباس: إلا ما أريد به وجهه.
وهو قول الكلبي، قال: كل عمل لغيره فهو هالك إلا ما كان له.
وقال سفيان رحمه الله: إلا ما أريد به وجه الله من الأعمال.
وهو اختيار الفراء، وأنشد:
أستغفر الله ذنبا لست محصيه ... رب العباد إليه الوجه والعمل
أي: إليه أوجه العمل، وعلى هذا وجه الله ما وجه إليه من الأعمال، له الحكم أي: الفصل بين الخلائق في الآخرة دون غيره، وإليه ترجعون تردون في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم.(3/411)
سورة العنكبوت
مكية وآياتها تسع وستون.
707 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ الْخَفَّافُ، مُجَاوِرُ الْجَامِعِ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْعَنْكَبُوتِ كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، بِعَدَدِ كُلِّ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ»
{الم {1} أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ {2} وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ {3} أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ {4} } [العنكبوت: 1-4] بسم الله الرحمن الرحيم {الم {1} أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ {2} } [العنكبوت: 1-2] قال الشعبي: أنزلت في أناس كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام، فكتب إليهم أصحاب نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لا يقبل منكم إقرار ولا إسلام حتى تهاجروا، فخرجوا إلى المدينة، فاتبعهم المشركون فآذوهم، فنزلت فيهم هذه الآية.
قال ابن عباس: يريد بالناس الذين آمنوا بمكة: سلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد، وعمار بن ياسر وغيرهم.
قال الزجاج: المعنى: أحسبوا أن يقنع منهم بأن يقولوا إنا مؤمنون فقط ولا يمتحنون بما يبين به حقيقة إيمانهم.
وهو قوله: {أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] قال السدي، ومجاهد، وقتادة: لا يبتلون في أموالهم وأنفسهم بالقتل والتعذيب والضرب.
ثم أخبر عن فتنة من قبل هذه الأمة من المؤمنين، فقال: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [العنكبوت: 3] قال ابن عباس: منهم إبراهيم خليل الرحمن، وقوم كانوا معه، ومن بعده(3/412)
نشروا بالمناشير على دين الله فلم يرجعوا عنه.
وقال غيره: يعني بني إسرائيل، ابتلوا بفرعون، فكان يسومهم سوء العذاب.
وقوله: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا} [العنكبوت: 3] في إيمانهم، وليعلمن الكاذبين في إيمانهم، فيشكوا عند البلاء.
ثم أوعد كفار العرب، فقال: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} [العنكبوت: 4] يعني الشرك، قال ابن عباس: يريد الوليد بن المغيرة، وأبا جهل، والأسود، والعاصي بن هشام وغيرهم.
أن يسبقونا يفوقونا ويعجزونا، {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [العنكبوت: 4] بئس ما حكموا لأنفسهم حين ظنوا ذلك.
{مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {5} وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ {6} وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ {7} } [العنكبوت: 5-7] قوله: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ} [العنكبوت: 5] من كان يخشى البعث ويخاف الحساب والرجاء، بمعنى الخوف كثير، قال سعيد بن جبير: من كان يطمع في ثواب الله.
واختار الزجاج، فقال: معناه من كان يرجو ثواب لقاء الله.
أي: ثواب المصير إليه، والرجاء على هذا القول معناه الأمل.
{فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ} [العنكبوت: 5] أي: الأجل المضروب للبعث يأتي.
قال مقاتل: يعني يوم القيامة لآت.
والمعنى: فليعمل لذلك اليوم، كقوله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا} [الكهف: 110] روى مكحول، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لما نزلت هذه الآية: " يا علي، ويا فاطمة، إن الله قد أنزل {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ} [العنكبوت: 5] ".
وإن حقيقة رجاء لقاء الله أن يستعد الإنسان لأجل الله إذا كان آتيا باتباع طاعته واجتناب معصيته، وهو يعلم أن الله يسمع ما يقول، ويعلم ما يعمل، ولذلك قال: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: 5] .
قوله: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} [العنكبوت: 6] قال مقاتل: يقول: من يعمل الخير فإنما يعمل لنفسه.
{إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 6] عن أعمالهم وعبادتهم.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} [العنكبوت: 7] لنبطلنها حتى تصير بمنزلة ما لم يعمل، {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 7] أي: بأحسن أعمالهم وهو الطاعة، ولا يجزيهم بمساوئ أعمالهم.
قوله: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {8} وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ {9} } [العنكبوت: 8-9] .
{وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8] أي: برا وعطفا عليهما، قال الزجاج: معناه: ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه ما(3/413)
يحسن.
{وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [العنكبوت: 8] أي: لتشرك بي شريكا لا تعلمه لي، {فَلا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت: 8] .
708 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَصْفَهَانِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ حِبَّانَ، أنا أَبُو يَعْلَى، نا أَحْمَدُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ رَاشِدٍ الضَّبِّيُّ، نا مَسْلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ، نا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، أَنَّ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِيَّ هَذِهِ الآيَةُ: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ، قَالَ: كُنْتُ رَجُلا بَرًّا بِأُمِّي، فَلَمَّا أَسْلَمْتُ قَالَتْ: يَا سَعْدُ، مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي قَدْ أَحْدَثْتَ؟ لَتَدَعَنَّ دِينَكَ هَذَا، أَوْ لا آكُلُ وَلا أَشْرَبُ حَتَّى أَمُوتَ فَتُعَيَّرَ بِي، فَيُقَالَ: يَا قَاتِلَ أُمِّهِ، قُلْتُ: لا تَفْعَلِي يَا أُمَّهْ، إِنِّي لا أَدَعُ دِينِي هَذَا لِشَيْءٍ، قَالَ: فَمَكَثَتْ يَوْمًا لا تَأْكُلُ وَلَيْلَةً، فَأَصْبَحَتْ قَدْ جَهِدَتْ، ثُمَّ مَكَثَتْ يَوْمًا آخَرَ وَلَيْلَةً لا تَأْكُلُ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ؛ قُلْتُ: تَعْلَمِينَ، وَاللَّهِ يَا أُمَّهْ، لَوْ كَانَتْ لَكَ مِائَةُ نَفْسٍ فَخَرَجَتْ نَفْسًا نَفْسًا مَا تَرَكْتُ دِينِي هَذَا لِشَيْءٍ فَكُلِي وَإِنْ شِئْتِ فَلا تَأْكُلِي، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ مِنِّي أَكَلَتْ، فَأَنْزَلَ اللَّهِ هَذِهِ الآيَةَ
{وإن جاهداك} ثم أوعد بالمصير إليه، فقال: {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 8] أي: أخبركم بمآل أعمالكم وسيئها لأجازيكم عليها.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} [العنكبوت: 9] أي: في زمرة الأنبياء والأولياء.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ {10} وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ {11} } [العنكبوت: 10-11] {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [العنكبوت: 10] قال مجاهد: نزلت في أناس يؤمنون بألسنتهم، فإذا أصابهم بلاء من الناس أو مصيبة في أنفسهم وأموالهم افتتنوا، فجعلوا ذلك كعذاب الله في الآخرة.
وهو قوله: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ} [العنكبوت: 10] ما يصيبهم من عذابهم، كعذاب الله أي: جزع من أذى الناس ولم يصبر عليه، فأطاع الناس كما يطيع الله من خاف من عذابه، وهذا قول السدي، وابن زيد، قالا: هو المنافق إذا أوذي في الله رجع عن الدين فكفر.
قال الزجاج: وينبغي للمؤمن أن يصبر على الأذى في الله.
وقال عكرمة، عن ابن عباس: نزلت في المؤمنين الذين أخرجهم المشركون إلى بدر فارتدوا، وهم الذين نزلت فيهم {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} [النساء: 97] .
{وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ} [العنكبوت: 10] يعني: دولة للمؤمنين ونصر لأولياء الله، ليقولن يعني: المنافقين للمؤمنين، {إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} [العنكبوت: 10] على عدوكم، فكذبهم الله قال: {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 10] من الإيمان والنفاق وغير ذلك، أي: لا يخفى عليه كذبهم فيما قالوا: إنا كنا معكم على عدوكم.
{وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [العنكبوت: 11] قال مقاتل، والكلبي: وليرين الله الذين صدقوا عند البلاء فثبتوا على الإسلام.
{وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت: 11] بالشك عند البلاء وترك الإيمان.
قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ {12} وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ {13} } [العنكبوت: 12-13] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [العنكبوت: 12] اتبعوا سبيلنا، قال مجاهد: هذا من قول كفار مكة لمن آمن منهم، قالوا لهم: لا نبعث نحن ولا أنتم، فاتبعونا، فإن كان عليكم شيء فهو علينا.
ونحو هذا قال الكلبي، ومقاتل: إن أبا سفيان قال لمن آمن من قريش: اتبعوا ديننا ملة آبائنا ونحن الكفلاء بكل تبعة من الله تصيبكم.
فذلك قوله: ولنحمل خطاياكم وهو جزم على الأمر، كأنهم أمروا أنفسهم بذلك، قال الله تعالى: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ(3/414)
مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [العنكبوت: 12] فيما ضمنوا من حمل خطاياهم.
{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ} [العنكبوت: 13] يعني: أوزارهم التي عملوها، {وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13] أوزارا مع أوزارهم، لقولهم للمؤمنين اتبعوا سبيلنا، وهذا كقوله: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25] ونحو هذا، ما روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «أيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع، فعليه مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا» .
{وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [العنكبوت: 13] سؤال توبيخ وتقريع، {عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت: 13] قال ابن عباس: يقولون على الله الكذب.
وقال مقاتل: يعني قولهم: نحن الكفلاء بكل تبعة تصيبكم من الله.
ثم عزى نبيه بما ابتلي به النبيون من قبله من قومهم، فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ {14} فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ {15} } [العنكبوت: 14-15] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ} [العنكبوت: 14] أقام فيهم يدعوهم إلى الله، {أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14]
709 - أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الزَّاهِدُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الصُّوفِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أنا هُدْبَةُ، أنا حَمَّادُ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ: بُعِثَ نُوحٌ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، عَاشَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا يَدْعُوهُمْ، وَعَاشَ بَعْدَ الطُّوفَانِ سِتِّينَ سَنَةً حَتَّى كَثُرَ النَّاسُ وَفَشَوْا
وقوله: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ} [العنكبوت: 14] قال مقاتل: يعني الماء طفا فوق كل شيء فغرقوا.
وهم ظالمون قال ابن عباس: مشركون.
فأنجيناه يعني: نوحا من الغرق، وأصحاب السفينة الذين كانوا معه فيها، {وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 15] تركنا السفينة عبرة لمن بعدهم من الناس، إن عصوا رسولهم فعلنا بهم مثل ذلك.(3/415)
{وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ {16} إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {17} وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ {18} } [العنكبوت: 16-18] وإبراهيم عطفا على نوح، والمعنى: وأرسلنا إبراهيم، {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} [العنكبوت: 16] أطيعوا الله وخافوه، ذلكم يعني: عبادة الله، خير لكم من عبادة الأوثان، {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 16] ولكنكم لا تعلمون.
{إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا} [العنكبوت: 17] قال ابن عباس: يريد الأصنام التي تتخذ من الحجارة والخشب.
وتخلقون إفكا قال السدي: تقولون كذبا.
يعني زعمهم أنها آلهة، ثم ذكر عجز الآلهة عن رزق عابديها، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} [العنكبوت: 17] لا يقدرون أن يرزقوكم، {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت: 17] فاطلبوا الرزق مني، فأنا القادر على ذلك، وما بعدها هذا ظاهر إلى قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ {19} قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {20} يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ {21} وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ {22} وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {23} } [العنكبوت: 19-23] {أَوَلَمْ يَرَوْا} [العنكبوت: 19] يعني: كفار مكة، ومن قرأ بالتاء فهو خطاب لهم، {كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ} [العنكبوت: 19] كيف يخلقهم الله ابتداء من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة إلى تمام الخلق، ثم يعيده في الآخرة عند البعث، {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [العنكبوت: 19] قال ابن عباس: يريد الخلق الأول والخلق الآخر.
{قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} [العنكبوت: 20] أي: ابحثوا وانظروا، هل تجدون خالقا غير الله، فإذا علموا أنه لا خالق ابتداء إلا الله لزمتهم الحجة في الإعادة، وهو قوله: {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ} [العنكبوت: 20] أي: ثم الله الذي خلقها وبدأ خلقها ينشئها نشأة ثانية، وقرأ أبو عمرو بالمد، قال الفراء: وهو مثل الرأفة والرافة، والكأبة والكآبة، كل نواب.
{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} [العنكبوت: 20] من البدء والإعادة، قدير.
قوله: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [العنكبوت: 22] قال(3/416)
قطرب: معناه ولا في السماء لو كنتم فيها، كقولك: ما يفوتني فلان ههنا ولا بالبصرة لو صار إليها.
وهذا معنى قول مقاتل: وما أنتم يا كفار مكة بسابقي الله، فتفوتونه في الأرض كنتم أو في السماء كنتم، أينما تكونوا حتى يجزيكم بأعمالكم السيئة.
{وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ} [العنكبوت: 22] يمنعكم مني، ولا نصير ينصركم من عذابي.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ} [العنكبوت: 23] بالقرآن والبعث بعد الموت، {أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [العنكبوت: 23] يعني من جنتي.
ثم عاد الكلام إلى قصة إبراهيم، وهو قوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {24} وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ {25} } [العنكبوت: 24-25] {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} [العنكبوت: 24] يعني: حين دعاهم إلى الله ونهاهم عن عبادة الأصنام، {إِلا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} [العنكبوت: 24] وفي هذا تسفيه لهم حين أجابوا من احتج عليهم بأن يقتل أو يحرق، {فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} [العنكبوت: 24] قال مقاتل: فقذفوه في النار فأنجاه الله من ذلك.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} [العنكبوت: 24] أي: إن في إنجاء الله إبراهيم من النار حتى لم تحرقه، {لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 24] بتوحيد الله وقدرته.
وقال إبراهيم لقومه: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} [العنكبوت: 25] قال الزجاج: ترفع مودة على إضمار هي، كأنه قال: تلك مودة بينكم، أي ألفتكم واجتماعكم على الأصنام مودة بينكم.
{فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [العنكبوت: 25] وقرأ عاصم مودة بالرفع والتنوين، بينكم نصبا، وهذه القراءة كالأولى، إلا أنه لم يضف المودة ونصب بينكم على الظرف.
وقرأ حمزة مودة نصبا من غير تنوين بينكم خفضا جعل ما مع أن كافة، ولم يجعلها بمعنى الذي، ونصب مودة على أنه مفعول له، أي أتخذتم الأوثان للمودة، ثم أضافها إلى بينكم كما أضاف من وقع وقرأ نافع وابن عامر مودة بالنصب والتنوين بينكم بالنصب، وهذه القراءة كقراءة حمزة في المعنى، إلا أنه لم يضف المودة.
قال المفسرون: يقول أنكم جعلتم الأوثان تتحابون على عبادتها وتتواصلون عليها في الحياة الدنيا، {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ} [العنكبوت: 25] يتبرأ القادة من الأتباع {وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت: 25] يلعن الأتباع القادة، لأنهم زينوا لهم الكفر ومأواكم ومصيركم جميعا، {النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت: 25] مانعين منها.
{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {26} وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ {27} } [العنكبوت: 26-27] {(3/417)
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26] صدق بإبراهيم لوط، وهو ابن أخيه، وقال إبراهيم: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت: 26] هاجر من كوثا، وهو سواد العراق، إلى الشام، وهجر قومه المشركين.
والمعنى: إلى حيث أمرني.
{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ} [العنكبوت: 27] من بعد إسماعيل، ويعقوب من إسحاق، {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت: 27] وذلك أن الله لم يبعث نبيا من بعد إبراهيم إلا من صلبه، {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} [العنكبوت: 27] يعني الثناء الحسن، فكل أهل الأديان يحبونه ويتولونه، وقال السدي: هو أنه أري مكانه في الجنة، ثم أعلم أن له مع ما أعطي في الدنيا الدرجات العلى بقوله: {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت: 27] قال ابن عباس: مثل آدم ونوح، أي أنه في درجتهما.
وقد قال الله: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} [طه: 75] .
{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ {28} أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ {29} قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ {30} } [العنكبوت: 28-30] وما بعد هذا مفسر إلى قوله: وتقطعون السبيل وذلك أنهم كانوا يفعلون الفاحشة بمن يمر بهم من المسافرين، فلما فعلوا ذلك ترك الناس الممر بهم.
قال الفراء: كانوا يعترضون الناس من الطرق لعملهم الخبيث.
{وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [العنكبوت: 29] النادي والندي والمنتدى: مجلس القوم ومتحدثهم، قال ابن عباس، ومجاهد: هو إتيانهم الرجال، واستمكنت تلك الفاحشة فيهم حتى فعل بعضهم ببعض في المجالس.
وقال القاسم بن محمد: هو أنهم كانوا يتضارطون في مجالسهم.
710 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْشَاذَ الْعَدْلُ، أنا حَمْدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ مُحَمَّدٍ السُّلَمِيُّ، أنا جَدِّي، نا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، نا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، نا زُرَيْعٌ، نا حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ قَوْلِهِ: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} ، قُلْتُ: مَا الْمُنْكَرُ الَّذِي كَانُوا يَأْتُونَ؟ قَالَ: كَانُوا يَخْذِفُونَ أَهْلَ الطَّرِيقِ وَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي (صَحِيحِهِ) ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ حَاتِمٍ
قال الزجاج: وفي هذا إعلام أنه لا ينبغي أن يتعاشر الناس على المناكير، وأن لا يجتمعوا على الهزء والمناهي، ولما أنكر لوط على قومه ما كانوا يأتونه من القبائح قالوا له استهزاء: {ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [العنكبوت: 29] أن العذاب نازل بنا.
وعند(3/418)
ذلك قال لوط: رب انصرني أي: بتحقيق قولي في العذاب، {عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} [العنكبوت: 30] العاصين بإتيان الرجال، فاستجاب الله دعاءه، فبعث جبريل ومعه الملائكة لتعذيب قومه، وهو قوله: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ {31} قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ {32} وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ {33} إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ {34} وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ {35} وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ {36} فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ {37} } [العنكبوت: 31-37] {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} [العنكبوت: 31] أي: بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، {قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} [العنكبوت: 31] يعنون: قرية لوط، {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} [العنكبوت: 31] يعني مشركين، وما بعد هذا مفسر في { [هود إلى قوله:] إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} [سورة العنكبوت: 33] يعني بناته، قال المبرد: الكاف في منجوك مخفوضة، ولم يجز عطف الظاهر على الضمير المخفوض، فحمل الثاني على المعنى، وصار التقدير وننجي أهلك، ومنجون أهلك.
قوله: {إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} [العنكبوت: 34] قال مقاتل: يعني الخسف والحصب.
{بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [العنكبوت: 34] جزاء لفسقهم.
{وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً} [العنكبوت: 35] يعني: آثار منازلهم الخربة، وقال قتادة: هي الحجارة التي أبقاها الله فأدركها أوائل هذه الأمة.
وقال مجاهد: هي الماء الأسود على وجه الأرض.
وما بعد هذا مفسر إلى قوله: {وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ} [العنكبوت: 36] قال مقاتل: واخشوا البعث الذي فيه جزاء الأعمال.
وقوله: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ {38} وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ {39} فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ {40} } [العنكبوت: 38-40] {(3/419)
وَعَادًا وَثَمُودَ} [العنكبوت: 38] قال مقاتل، والزجاج: وأهلكنا عادا وثمود.
{وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} [العنكبوت: 38] ظهر لكم يا أهل مكة من منازلهم بالحجر والحجاز واليمن آية في هلاكهم، وقوله: {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت: 38] يقال: استبصر في أمره إذا كان ذا بصيرة.
قال قتادة، والكلبي: إنهم كانوا مستبصرين في دينهم وضلالتهم، معجبين بما يحسبون أنهم على هدى، ويرون أن أمرهم حق.
والمعنى أنهم كانوا عند أنفسهم مستبصرين فيما كانوا عليه من الضلالة.
قوله: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت: 40] أي: عاقبنا بتكذيبه الرسل، {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا} [العنكبوت: 40] يعني: قوم لوط، {وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ} [العنكبوت: 40] يعني ثمودا، {وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ} [العنكبوت: 40] يعني: قارون وأصحابه، {وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت: 40] يعني: قوم نوح وفرعون، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} [العنكبوت: 40] ليعذبهم على غير ذنب.
ثم ضرب لهم مثلا، فقال: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ {41} إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {42} وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ {43} } [العنكبوت: 41-43] {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ} [العنكبوت: 41] يعني: الأصنام يتخذونها أولياء، يرجون ضرها ونفعها، {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} [العنكبوت: 41] وبيتها لا يغني عنها في حر ولا قر ولا مطر، كذلك آلهتهم لا ترزقهم شيئا، ولا تملك لهم ضرا ولا نفعا، {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت: 41] لا بيت أضعف منه فيما يتخذه الهوام، {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41] أن اتخاذهم الأولياء كاتخاذ العنكبوت بيتا.
{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [العنكبوت: 42] أي: إنه عالم بما عبدتموه من دونه، لا يخفى على الله ذلك، فهو يجازيكم على كفركم.
{وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {42} وَتِلْكَ الأَمْثَالُ} [العنكبوت: 42-43] يعني: أمثال القرآن، وهي التي شبه بها أحوال كفار هذه الأمة بأحوال كفار الأمم المتقدمة.
نضربها للناس قال مقاتل: نبينها لكفار مكة.
{وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] وما يعقل الأمثال إلا العلماء الذين يعقلون عن الله.
711 - حَدَّثَنَا الأُسْتَاذُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّصْرَابَاذِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْحَافِظُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْقَطَّانُ، نا الْحَارِثُ، نا دَاوُدُ بْنُ الْمُحَبَّرِ، نا عَبَّادٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وَأَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَلا هَذِهِ الآيَةَ {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} قَالَ: الْعَالِمُ: الَّذِي عَقَلَ عَنِ اللَّهِ، فَعَمِلَ بِطَاعَتِهِ، وَاجْتَنَبَ سَخَطَهُ "(3/420)
{خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ {44} اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ {45} } [العنكبوت: 44-45] {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} [العنكبوت: 44] أي: للحق وإظهار الحق، {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [العنكبوت: 44] في خلقها، {لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [العنكبوت: 44] لدلالة على قدرة الله وتوحيده.
{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} [العنكبوت: 45] يعني القرآن، {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] الفحشاء ما قبح من العمل، والمنكر لا يعرف في شريعة ولا سنة، قال ابن عباس: في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصي الله، فمن لم تنهه صلاته عن المعاصي لم يزدد إلا بعدا.
وهذا قول الحسن، وقتادة، قالا: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فليس صلاته بصلاة، وهي وبال عليه.
712 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ الْجَوْزَقِيُّ، أنا بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى بْنِ السُّكَيْنِ، نا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ الْحَرَّانِيُّ، نا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، نا عُمَرُ بْنُ شَاكِرٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللَّهِ إِلا بُعْدًا»
713 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حِبَّانَ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا أَبُو مَالِكٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لا صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يُطِعِ الصَّلاةَ، وَطَاعَةُ الصَّلاةِ أَنْ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ»
ومعنى هذا أن الله تعالى أخبر أن الصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر، فمن أقامها ثم لم ينته عن المعاصي لم تكن صلاته بالصفة التي وصفها الله، فإذا لم تكن بتلك الصفة لم تكن صلاة، فإن تاب يوما وترك معاصيه تبينا أن ذلك من نهي الصلاة، وأن صلاته كانت نافعة له ناهية وإن لم ينته إلا بعد زمان.
وقوله: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] يعني: مما سواه، وأفضل من كل شيء، قال قتادة: ليس أفضل من ذكر الله، والمعنى أن العبد إذا كان ذاكرا الله لم يجر عليه القلم بمعصية، لأنه إذا ذكر الله ارتدع عما يهم به من السوء، ولهذا قال الفراء، وابن قتيبة: ولذكر الله هو التسبيح والتهليل: يقول: هو أكبر وأحرى بأن ينهى عن الفحشاء والمنكر.
أي: من كان ذاكرا لله فيجب أن ينهاه عن الفحشاء والمنكر.
أخبرنا أحمد بن الحسن الحيري، نا محمد بن يعقوب، نا محمد بن إسحاق الضغاني، نا حسن بن موسى الأشيب، نا حماد، عن ثابت البناني، أن رجلا أعتق أربع رقاب، فقال آخره: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ثم دخل المسجد فأتى حبيب بن أوفى(3/421)
المسلمي، فقال: ما تقول في رجل أعتق أربع رقاب وأني أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فإنها أفضل.
فنظروا فنيهة، فقالوا: ما نعلم شيئا أفضل من ذكر الله، وفي الآية قول آخر: وهو أن المعنى ولذكر الله إياكم أفضل من ذكركم إياه.
قال مقاتل: إذا صليت لله فقد ذكرته فيذكرك الله بخير، وذكر الله إياك أفضل من ذكرك إياه.
أخبرنا أبو نعيم المهرجاني، أنا بشر بن أحمد بن بشر، أنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار، نا علي بن الجعد، نا فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي، عن أبي، في قوله: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] قال: أكبر من ذكر العبد لله.
714 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، نا أَبُو يَحْيَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} ، قَالَ: قُلْتُ: ذِكْرُ اللَّهِ بِالْقُرْآنِ حَسَنٌ، وَذِكْرُهُ بِالصَّلاةِ حَسَنٌ، وَبِالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ حَسَنٌ، وَأَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَذْكُرَ الرَّجُلُ رَبَّهُ عِنْدَ الْمَعْصِيَةِ فَيَنْحَجِزَ عَنْهَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَقَدْ قُلْتَ قَوْلا عَجَبًا وَمَا هُوَ كَمَا قُلْتَ، وَلَكِنَّ ذِكْرَ اللَّهِ إِيَّاكُمْ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِكِمْ إِيَّاهُ
715 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَرْوَزِيُّ، فِيمَا أَجَازَ لِي رِوَايَتَهُ عَنْهُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَدَّادِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، نا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا عَبْدُ الأَعْلَى، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُوسَى: إِنِّي كُنْتُ قَاعِدًا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَجَاءَ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ عَنْ: {ذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} ؛ فَقَالَ: الصَّلاةُ وَالصَّوْمُ ذَلِكَ ذِكْرُ اللَّهِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي تَرَكْتُ رَجُلا فِي رَحْلِي يَقُولُ غَيْرَ هَذَا، قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ الْعِبَادَ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِ الْعِبَادِ إِيَّاهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَدَقَ وَاللَّهِ صَاحِبُكَ
وقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45] قال عطاء: يريد لا يخفى على الله شيء.
قوله: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46] {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] أي: بالقراءة والدعاء إلى الله بآياته، والتنبيه على حججه، {إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46] إلا من أبى أن يقر بالجزية ونصب الحرب، فجادلوا هؤلاء بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، وقولوا لمن قبل الجزية منهم إذا أخبروكم بشيء مما في كتبهم: {آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46] .
{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الْكَافِرُونَ {47} وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ(3/422)
الْمُبْطِلُونَ {48} بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ {49} } [العنكبوت: 47-49] {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} [العنكبوت: 47] وكما أنزلنا عليهم الكتاب أنزلنا إليك الكتاب، {فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [العنكبوت: 47] يعني: مؤمني أهل الكتاب، ومن هؤلاء يعني: كفار مكة، {مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} [العنكبوت: 47] يعني: من أسلم منهم، {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا} [العنكبوت: 47] أي: بعد المعرفة، إلا الكافرون من اليهود، وذلك أنهم عرفوا أن محمدا نبي، والقرآن حق، فجحدوا وتنكروا.
{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} [العنكبوت: 48] وما كنت تقرأ قبل القرآن كتابا، أي: ما كنت قارئا، ولا كاتبا قبل الوحي، وهو قوله: {وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48] وكذا كان صفته في التوراة والإنجيل: أمي لا يقرأ ولا يكتب، وقوله: {إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48] ولو كنت قارئا كاتبا لشك اليهود فيك، وقالوا: إن الذي نجده في التوراة أمي لا يقرأ الكتاب وما كانوا يرتابون في نبوة محمد لما يجدونه من نعته، ولكنهم جحدوا نبوته بعد اليقين، فلو كان كاتبا قارئا لكان بغير النعت الذي عرفوه، فكانوا يشكون، والمبطل الذي يأتي بالباطل، وكل من ادعى دينا الإسلام فهو مبطل.
قوله: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} [العنكبوت: 49] قال الحسن: القرآن آيات بينات.
{فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49] يعني: المؤمنين الذين حملوا القرآن على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحملوه بعده.
وقال قتادة، ومقاتل: بل يعني محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو آيات بينات، أي: ذو آيات بينات في صدور أهل العلم من أهل الكتاب، لأنهم يجدونه بنعته وصفته.
{وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت: 49] يعني: كفار اليهود.
{وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ {50} أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {51} قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ {52} } [العنكبوت: 50-52] وقالوا يعني: كفار مكة، لولا أنزل عليه آية من ربه هلا أنزل على محمد آية من ربه كما كانت الأنبياء يجيء بها إلى قومهم، وقرئ آيات على الجمع، وقد تقع آية على الكثرة، وإن كانت على لفظ الواحد فالقراءتان معناهما واحد.
{قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} [العنكبوت: 50] هو القادر على إرسالها، إذا شاء أرسلها، {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [العنكبوت: 50] أنذر أهل المعصية بالنار، وليس إنزال الآيات بيدي.
ولما سألوا الآيات قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [العنكبوت: 51] أو لم يكفهم من الآيات القرآن، يتلى عليهم فيه خبر ما بعدهم وما قبلهم، {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [العنكبوت: 51] في إنزال الكتاب عليك، لرحمة لمن آمن وعمل به، وذكرى وتذكير أو موعظة، لقوم يؤمنون.
قال مقاتل: فكذبوا بالقرآن، فنزل {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا} [العنكبوت: 52] أي: بالله شاهدا بينا أني رسوله، وكفى هو شاهدا، {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [العنكبوت: 52] وشهادة الله له إثبات المعجزة له بإنزال الكتاب عليه، {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ} [العنكبوت: 52] قال ابن عباس: بغير الله.
وقال مقاتل: بعبادة الشيطان.
{وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [العنكبوت: 52] بالعقوبة وفوت المثوبة.(3/423)
{وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ {50} أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {51} قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ {52} } [العنكبوت: 50-52] {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} [العنكبوت: 53] استهزاء وتكذيبا منهم بذلك، {وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى} [العنكبوت: 53] لعذابهم، وهو يوم القيامة، وقال الضحاك: يعني مدة أعمارهم، لأنهم إذا ماتوا صاروا إلى العذاب.
{لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [العنكبوت: 53] بإتيانه.
ثم ذكر أن موعد عذابهم النار، فقال: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 54] جامعة لهم، يوم يغشاهم يعلوهم، {الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [العنكبوت: 55] كقوله: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41] .
ويقول بالياء يعني: الموكل بعذابهم، يقول لهم: ذوقوا ومن قرأ بالنون، فلأن ذلك لما كان بأمره سبحانه جاز أن ينصب، ومعنى {مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 55] أي: جزاء ما كنتم تعملون من الكفر والتكذيب.
قوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ {56} كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ {57} وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ {58} الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ {59} وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {60} } [العنكبوت: 56-60] {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [العنكبوت: 56] قال مقاتل: نزلت في ضعفاء المسلمين بمكة، يقول: إن كنتم في ضيق بمكة من إظهار الإيمان، فاخرجوا منها.
قال الزجاج: أمروا بالهجرة من الموضع الذي لا يمكنهم فيه عبادة الله، وكذلك يجب على من كان في بلدة يعمل فيها بالمعاصي، ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر إلى حيث يتهيأ له أن يعبد الله حق عبادته.
ثم خوفهم بالموت لتهون عليهم الهجرة، فقال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [العنكبوت: 57] أي: كل أحد ميت أينما كان فلا تقيموا بدار الشرك خوفا من الموت، {ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 57] بعد الموت، فنجزيكم بأعمالكم.
ثم ذكر ثواب من هاجر، فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العنكبوت: 58] يعني المهاجرين، {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا} [العنكبوت: 58] قال ابن عباس: لنسكنهم غرف الدر والزبرجد والياقوت، ولننزلنهم قصور الجنة.
وقرأ حمزة لنثوينهم، قال الزجاج: يقال: ثوى الرجل إذا أقام، وأثويته إذا أنزلته منزلا يقيم فيه، قال الأخفش: ولا تعجبني هذه القراءة لأنك لا تقول أثويته الدار بل تقول في الدار وليس في الآية حرف جر في، المفعول الثاني، وقال أبو علي الفارسي: هو على إرادة حرف الجر، ثم حذف كما يقال: أمرتك الخير، أي بالخير، ثم وصف تلك الغرف، فقال: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} [العنكبوت: 58] لا يموتون، {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 136] لله غرف.
ثم وصفهم، فقال: الذين صبروا على دينهم فلم يتركوه لشدة لحقتهم، {وَعَلَى(3/424)
رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [العنكبوت: 59] قال ابن عباس: وذلك أن المهاجرين توكلوا على الله وتركوا دورهم وأموالهم.
وقال مقاتل: إن أحدهم كان يقول بمكة كيف أهاجر إلى المدينة، وليس لي بها مال ولا معيشة، فقال الله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ} [العنكبوت: 60] وهي كل حيوان يدب على الأرض مما يعقل ولا يعقل، والمعنى: من نفس دابة.
{لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} [العنكبوت: 60] لا ترجع رزقها معها، ولا تدخر شيئا لغد، {اللَّهُ يَرْزُقُهَا} [العنكبوت: 60] حيث ما توجهت، وإياكم يرزق إن خرجتم إلى المدينة ولم يكن لكم زاد ولا نفقة، قال سفيان: وليس شيء مما خلق الله يخبئ ويدخر إلا الإنسان والفأرة والنملة.
وقوله: وهو السميع أي: لقولكم إنا لا نجد ما ننفق بالمدينة.
العليم بما في قلوبكم.
716 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّانَ، أنا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْجَمَّالُ، نا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَجَلِيُّ، نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْن مِنْهَالٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى دَخَلَ بَعْضَ حِيطَانِ الأَنْصَارِ فَجَعَل يَلْتَقِطُ مِنَ الثَّمَرِ وَيَأْكُلُ، فَقَالَ: يَابْنَ عُمَرَ، مَا لَكَ لا تَأْكُلُ؟ فَقُلْتُ: لا أَشْتَهِيهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَلَكِنِّي أَشْتَهِيهِ وَهَذِهِ صُبْحٌ رَابِعَةٌ مُذْ لَمْ أَذُقْ طَعَامًا، وَلَوْ شِئْتُ لَدَعَوْتُ رَبِّي فَأَعْطَانِي مِثْلَ مُلْكِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، فَكَيْفَ بِكَ، يَابْنَ عُمَرَ، إِذَا بَقِيتَ فِي قَوْمٍ يُخَبِّئُونَ رِزْقَ سَنَتِهِمْ وَيَضْعُفُ الْيَقِينُ؟ فَوَاللَّهِ مَا بَرِحْنَا حَتَّى نَزَلَتْ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} الآيَةَ
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ {61} اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {62} وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ {63} } [العنكبوت: 61-63] قوله: ولئن سألتهم يعني: كفار مكة، {مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: 61] أي: الله خلقها، يقررن بأنه خالق السموات والأرض، {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [العنكبوت: 63] أي: احمد الله على إقرارهم، لأن ذلك يلزمهم الحجة، ويوجب عليهم التوحيد.
ثم قال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 63] توحيد ربهم مع إقرارهم بأنه خلق الأشياء، وأنزل المطر، والمراد بالأكثر الجميع.
{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ {64} فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ {65} لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ {66} } [العنكبوت: 64-66] قوله: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [العنكبوت: 64] يعني: الحياة في هذه الدار، {إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} [العنكبوت: 64] باطل وغرور وعبث، تنقضي عن قريب، {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ} [العنكبوت: 64] يعني الجنة {لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت: 64] قال أبو عبيدة، وابن قتيبة: الحيوان الحياة.
وهو قول(3/425)
المفسرين: ذهبوا إلى أن معنى الحيوان ههنا الحياة، وأنه مصدر بمنزلة الحياة، ويكون كالثوران والغليان، ويكون التقدير وإن الدار الآخرة لهي دار الحيوان، أو ذات الحيوان، والمعنى: إن حياة الدار الآخرة هي الحياة، لأنه لا تنغيص فيها ولا نفاد لها، ولا يشوبها ما يشوب الحياة في هذه الدار، وهذا معنى قول جماعة المفسرين.
وقوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64] يعني: لو علموا لرغبوا في الباقي الدائم عن الفاني الزائل، ولكنهم لا يعلمون.
قوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ} [العنكبوت: 65] يعني المشركين، {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65] أفردوا الله بالطاعة، وتركوا شركاءهم فلا يدعونهم لأنجائهم، فلما نجاهم الله من أهوال البحر وأفضوا، {إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] به، وهذا إخبار عن عنادهم، وأنهم عند الشدائد يعلمون أن القادر على كشفها الله وحده، فإذا زالت عادوا إلى كفرهم.
قال عكرمة: كان أهل الجاهلية إذا ركبوا البحر حملوا معهم الأصنام، فإذا اشتدت بهم الريح ألقوا تلك الأصنام في البحر، وصاحوا: يا خذاي.
قوله: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} [العنكبوت: 66] هذه لام الأمر، ومعناه التهديد والوعيد، كقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] ، {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ} [الإسراء: 64] والمعنى: ليجحدوا نعمة الله، وليتمتعوا بباقي عمرهم، فسوف يعلمون عاقبة كفرهم، ومن كسر اللام في وليتمتعوا جعل اللام في ليكفروا لام كي، والمعنى: إذا هم يشركون ليكفروا، والمعنى: لا فائدة لهم في الإشراك إلا الكفر والتمتع بما تستمتعون به في العاجلة من غير نصيب لهم في الآخرة.
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ {67} وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ {68} وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ {69} } [العنكبوت: 67-69] أولم يروا يعني: كفار مكة، {أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67] يعني مكة، وذكرنا تفسير هذه الآية في { [القصص،] وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [سورة العنكبوت: 67] يعني: العرب يسبي بعضهم بعضا، وأهل مكة آمنون، أفبالباطل يؤمنون يعني الشيطان، وبنعمة الله بمحمد والإسلام، يكفرون.
ثم ذكر أنهم أظلم الخلق، فقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [العنكبوت: 68] لا أحد أظلم ممن زعم أن لله شريكا، وأنه أمر بالفواحش، {أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ} [العنكبوت: 68] بمحمد والقرآن، {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 68] أما لهذا الكافر المكذب مأوى في جهنم؟ وهو استفهام معناه التقرير.
قوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} [العنكبوت: 69] قال ابن عباس: يريد المهاجرين والأنصار.
وقال ابن زيد: والذين جاهدوا هؤلاء المشركين وقاتلوهم في نصرة ديننا، لنهدينهم سبلنا لنوفقنهم لإصابة الطرق المستقيمة، والأولى أن يكون معنى الهداية ههنا الزيادة منها والتثبيت عليها، قال الزجاج: أعلم الله أنه يزيد المجاهدين هداية، كما أنه يزيد الكافرين بكفرهم ضلالة، كما قال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17] .
{وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] بالنصرة والعون، قال عطاء، عن ابن عباس: يريد بالمحسنين الموحدين.(3/426)
سورة الروم
مكية وآياتها ستون.
717 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحِيرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا الْمَدَائِنِيُّ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الرُّومِ كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، بِعَدَدِ كُلِّ مَلَكٍ يُسَبِّحُ اللَّهَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَأَدْرَكَ مَا ضَيَّعَ يَوْمَهُ وَلَيْلَتَهُ»
{الم {1} غُلِبَتِ الرُّومُ {2} فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ {3} فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ {4} بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ {5} وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ {6} يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ {7} } [الروم: 1-7] بسم الله الرحمن الرحيم الم ذكرنا تفسيره.
غلبت الروم قال أهل التفسير: غلبت فارس الروم، ففرح بذلك كفار مكة، وقالوا: الذين ليس لهم كتاب غلبوا الذين لهم كتاب، وافتخروا على المسلمين، وقالوا: نحن أيضا نغلبكم كما غلبت فارس الروم.
وقوله: {فِي أَدْنَى الأَرْضِ} [الروم: 3] يريد الجزيرة، وهي أقرب أرض الروم إلى فارس، وقال عكرمة: يعني أذرعات وكسكر، وهما من بلاد الشام، يعني الروم.
{مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ} [الروم: 3] من بعد غلبة فارس إياهم، والغلب والغلبة لغتان، سيغلبون فارس.
{فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 4] وهو ما بين الثلاثة إلى العشرة، وقد مر، أخبر الله أن الروم بعد ما غلبوا سيغلبون، ثم التقى الروم وفارس في السنة السابعة من غلبة فارس إياهم، فغلبتهم الروم، فجاء جبريل عليه السلام بهزيمة فارس وظهور الروم عليهم، ووافق ذلك يوم بدر.
{لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4] أي: من قبل أن غلبت الروم ومن بعد ما(3/427)
غلبت، يعني أن غلبة أحد الفريقين الآخر أيهما كان الغالب أو المغلوب فإن ذلك كان بأمر الله وإرادته، وقضائه وقدرته، ويومئذ يعني: يوم تغلب الروم فارس، {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ {4} بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم: 4-5] الروم على فارس، قال السدي: فرح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنون بظهورهم على المشركين يوم بدر، وظهور أهل الكتاب على أهل الشرك بنصر الله.
{يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ} [الروم: 5] الغالب، الرحيم بالمؤمنين، قال الزجاج: وهذه من الآيات التي تدل على أن القرآن من عند الله، لأنه أنبأ بما سيكون، وهذا لا يعلمه إلا الله عز وجل.
718 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمِهْرَجَانِيُّ، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الزَّاهِدُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ لُوَيْنٍ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ دِينَارِ بْنِ مُكْرَمٍ، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: الم غُلِبَتِ الرُّومُ خَرَجَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَقَالُوا: هَذَا كَلامُ صَاحِبِكَ، قَالَ: اللَّهُ أَنْزَلَ هَذَا وَكَانَتْ فَارِسُ قَدْ غَلَبَتِ الرُّومَ، فَاتَّخَذُوهُمْ شِبْهَ الْعَبِيدِ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أَنْ لا تَغْلِبَ الرُّومُ فَارِسَ؛ لأَنَّهُمْ أَهْلُ جَحْدٍ وَتَكْذِيبٍ بِالْبَعْثِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ؛ لأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَتَصْدِيقٍ بِالْبَعْثِ، فَقَالُوا لأَبِي بَكْرٍ: نُرَاهِنُكَ عَلَى أَنَّ الرُّومَ لا تَغْلِبُ فَارِسَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْبِضْعُ مَا بَيْنَ الثَّلاثِ إِلَى التِّسْعِ، قَالُوا: الْوَسَطُ فِي ذَلِكَ سِتَّةٌ لا أَقَلَّ وَلا أَكْثَرَ، قَالَ: فَوَضَعُوا الرِّهَانَ، وَذَلِكَ قَبْل أَنْ يُحَرَّمَ الرِّهَانُ، فَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِلَى أَصْحَابِهِ فَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ، فَقَالُوا: بِئْسَ مَا صَنَعْتَ، أَلا أَقْرَرْتَهَا كَمَا قَالَ اللَّهُ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ سِتًّا لَقَالَ، فَلَمَّا كَانَتْ سَنَةُ سِتٍّ لَمْ تَظْهَرِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ فَأَخَذُوا الرِّهَانَ، فَلَمَّا كَانَ سَنَةُ سَبْعٍ ظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ}
قوله: وعد الله أي: وعد الله ذلك وعدا، {لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الروم: 6] في ظهور الروم على فارس، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} [الروم: 6] يعني: كفار مكة، لا يعلمون أن الله لا يخلف وعده في إظهار الروم على فارس.
ثم وصف كفار مكة، فقال: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم: 7] يعني: معايشهم وما يصلحهم، وقال الحسن: يعلمون متى زرعهم، ومتى حصادهم.
وروي عنه أنه قال: بلغ والله من علم أحدهم بالدنيا أنه ينقد الدرهم بيده، فيخبرك بوزنه، ولا يحسن أن يصلي.
وقال الضحاك: يعلمون بنيات قصورها، وتشقيق أنهارها، وغرس أشجارها.
وقال الزجاج: يعلمون معايش الحياة، لأنهم كانوا يعالجون التجارات، فأعلم الله مقدار ما يعلمون.
{وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7] حين لم يؤمنوا بها، ولم يعدوا لها.
ثم وعظهم ليعتبروا، فقال: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ {8} أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا(3/428)
كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ {9} ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ {10} } [الروم: 8-10] {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} [الروم: 8] في خلق الله إياهم، ولم يكونوا شيئا، فيعلموا {مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ} [الروم: 8] قال الفراء: إلا للخلق، يعني الثواب والعقاب.
وأجل مسمى قال مقاتل: للسموات والأرض أجل تنتهيان إليه، وهو يوم القيامة.
والمعنى: أو لم يتفكروا في خلق الله إياهم ولم يكونوا شيئا، فيعلموا أن خلق السموات والأرض لأمر، وأن لهما أجلا وهو يوم القيامة.
{وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [الروم: 8] يعني: كفار مكة، بلقاء ربهم بالبعث بعد الموت، لكافرون لا يؤمنون بأنه كائن.
ثم خوفهم، فقال: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الروم: 9] أولم يسافروا في الأرض فينظروا إلى مصارع الأمم قبلهم، ويعلموا أنهم أهلكوا بتكذيبهم فيعتبروا.
ثم وصف تلك الأمم، فقال: {كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [الروم: 9] أعطوا من القوة ما لم يعطها هؤلاء، وأثاروا الأرض حرثوها وقلبوها للزراعة والغرس، وعمروها أي: كفار مكة، لأنهم كانوا أطول عمرا، وأكثر عددا، {وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [الروم: 9] بالدلالات والحجج، وأخبروهم بأمر العذاب، {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} [الروم: 9] بتعذيبهم على غير ذنب، {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم: 9] بالكفر والتكذيب، ودل هذا على أنهم لم يؤمنوا فأهلكهم الله.
ثم أخبر عن عاقبتهم، فقال: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} [الروم: 10] في السوأى قولان: أحدهما أنها النار ضد الحسنى وهي الجنة، وهذا قول الفراء، والزجاج، والأكثرين.
قال ابن قتيبة: السوأى جهنم ضد الحسنى وهي الجنة.
وإنما سميت سوءى لأنها يسوء صاحبها، ومعنى أساءوا أشركوا، قاله ابن عباس، ومقاتل.
وفي عاقبة الذين قراءتان: النصب والرفع، فمن نصب جعلها خبر كان ونصبها متقدمة، كما قال: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] وتقدير الكلام ثم وكان السوء عاقبة الذين أساءوا، ويكون أن في قوله: أن كذبوا مفعولا له، أي لأن كذبوا.
قال الزجاج: المعنى: ثم كان عاقبة الكافرين النار لتكذيبهم بآيات الله واستهزائهم.
القول الثاني في السوأى: أنها مصدر بمنزلة الإساءة، ويكون المعنى: ثم كان التكذيب آخر أمرهم، أي ماتوا على ذلك، فكأن الله تعالى جازاهم على إساءتهم أن طبع على قلوبهم حتى ماتوا على التكذيب والشرك عقابا لهم بذنوبهم.
أخبرنا أحمد بن محمد بن عبد الله الأصفهاني، أنا عبد الله بن محمد بن جعفر الحافظ، نا محمد بن يحيى، نا أحمد بن منصور المروزي، نا(3/429)
محمد بن عبد الله بن بكير، سمعت ابن عيينة يقول في قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} [الروم: 10] إن لهذه الذنوب عواقب سوء، لا يزال الرجل يذنب فينكت على قلبه حتى يسوء القلب كله، فيصير كافرا.
{اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {11} وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ {12} وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ {13} وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ {14} فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ {15} وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ {16} } [الروم: 11-16] قوله: {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ} [الروم: 11] أن يخلقها أولا، ثم يعيده ثم يعيدهم بعد الموت أحياء كما كانوا {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الروم: 11] فيجزيهم بأعمالهم، والخلق هم المخلوقون في المعنى، وجاء قوله: ثم يعيده على لفظ الخلق، وقوله: يرجعون على المعنى، ووجه قراءة من قرأ بالتاء أنه صار من الغيبة إلى الخطاب.
قوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} [الروم: 12] قال الكلبي: ييأس المشركون من كل خير حين عاينوا العذاب.
وقال الفراء: ينقطع كلامهم وحجتهم.
وذكرنا تفسير الإبلاس عند قوله: {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] .
{وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ} [الروم: 13] أوثانهم التي عبدوها ليشفعوا لهم، {شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ} [الروم: 13] يتبرءون منها وتتبرأ منهم.
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} [الروم: 14] تظهر القيامة، {يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم: 14] قال مقاتل: يتفرقون بعد الحساب إلى الجنة والنار، فلا يجتمعون أبدا.
وقال الحسن: لئن كانوا اجتمعوا في الدنيا ليتفرقن يوم القيامة، هؤلاء في أعلى عليين، وهؤلاء في أسفل سافلين.
وهو قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} [الروم: 15] ينعمون ويسرون، والحبرة والحبر: السرور، قال ابن عباس، والمفسرون: في رياض الجنة ينعمون.
ثم أخبر عن حال الكافرين بقوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [الروم: 16] وهي ظاهرة.
ثم ذكر ما يدرك به الجنة، فقال: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ {17} وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ {18} يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ {19} } [الروم: 17-19] {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] قال المفسرون: فصلوا لله، على تأويل فسبحوا لله.
قال ابن عباس: جمعت هذه الآية الصلوات الخمس ومواقيتها، حين تمسون المغرب والعشاء، وحين تصبحون الفجر، وعشيا العصر،(3/430)
وحين تظهرون الظهر.
ومعنى تمسون: تدخلون في وقت المساء، ومثله تصبحون، وتظهرون في الوقتين جميعا، واعترض بين ذكر الأوقات قوله: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الروم: 18] قال ابن عباس: يحمده أهل السموات وأهل الأرض ويصلون له ويسبحون.
{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [الروم: 19] مفسر فيما تقدم، {وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 19] يجعلها تنبت، وذلك حياتها بعد أن كانت لا تنبت، وكذلك تخرجون من الأرض يوم القيامة، وقرأ حمزة تخرجون بفتح التاء، أضاف الخروج إليهم، كقوله: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ} [المعارج: 43] .
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ {20} وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {21} } [الروم: 20-21] قوله: ومن آياته دلائل قدرته، {أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الروم: 20] يعني: آدم أبا البشر، {ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ} [الروم: 20] من لحم ودم، يعني ذريته، تنتشرون تنبسطون في الأرض.
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [الروم: 21] جعل لكم أزواجا من مثل خلقكم، {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] جعل بين الزوجين المودة والرحمة، فهما يتوادان ويتراحمان، وما من شيء أحب إلى أحدهما من الآخر من غير رحم بينهما.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} [الروم: 21] الذي ذكر من صنعه، {لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21] في عظمة الله وقدرته.
{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ {22} وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ {23} } [الروم: 22-23] {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الروم: 22] على عظمتهما وكثافتهما وكثرة أجزائهما، واختلاف ألسنتكم يعني: اختلاف اللغات من العربية والعجمية، وألوانكم لأن الخلق من بين أسود وأبيض وأحمر، وهم ولد رجل واحد وامرأة واحدة، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 22] للبر والفاجر، والإنس والجن، وقرأ حفص بكسر اللام، قال الفراء: وهو وجه جيد لأنه قد قال: {آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية: 5] ، و {لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] .
{وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الروم: 23] التقدير: منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار، هذا يعني تصرفكم في طلب المعيشة، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [الروم: 23] سماع اعتبار وتدبر.
{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ {24} وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ {25} } [الروم: 24-25] {(3/431)
وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا} [الروم: 24] للمسافر من الصواعق، وطمعا للحاضر المقيم في المطر.
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 25] قال ابن مسعود: قامتا بغير عمد.
وقال الفراء: يقول أن تدوما قائمتين بأمره، يدعو إسرافيل من صخرة بيت المقدس حين ينفخ في الصور بأمر الله للبعث بعد الموت.
ثم {إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 25] من الأرض.
{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ {26} وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {27} } [الروم: 26-27] {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الروم: 26] عبيدا وملكا، {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الروم: 26] قال الكلبي: هذا خاص لمن كان منهم مطيعا.
وقال ابن عباس: كل له مطيعون في الحياة والبقاء، والموت والبعث وإن عصوا في العبادة.
وهذا مفسر في { [البقرة.
قوله:] وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [سورة الروم: 27] يخلقهم أولا ثم يخلقهم ثانيا للبعث، {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] أي: هين عليه الإعادة، وما شيء عليه بعزيز، ويجيء أفعل بمعنى المفاعل، كقول الفرزدق:
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتا دعائمه أعز وأطول
أي: عزيزة طويلة، وهذا قول الحسن، والربيع، وقتادة، والكلبي.
وقال مقاتل: يقول: البعث أيسر عليه عندكم يا معشر الكفار من الخلق الأول.
قال المبرد: وهو أهون عليه عندكم، لأنكم أقررتم بأنه بدأ الخلق، وإعادة الشيء عند المخلوقين أهون من ابتدائه.
واختار الزجاج هذا القول، فقال: إن الله خاطب العباد بما يعقلون، فأعلمهم أنه يجب عندهم أن يكون البعث أسهل من الابتداء.
والكناية في قوله: وهو تعود إلى الإعادة، وهو مصدر، فأجري على التذكير ودل عليه الفعل، وهو قوله يعيده والفعل يدل على المصدر.
وقوله: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الروم: 27] الصفة العليا، وهي أنه لا إله غيره، وهو العزيز في ملكه، الحكيم في خلقه.
{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ {28} بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ {29} } [الروم: 28-29] ضرب لكم أيها المشركون، {مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [الروم: 28] أي: بَيَّنَ لكم شبها لحالكم ذلكم المثل، فقال: {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [الروم: 28] من عبيدكم، {مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} [الروم: 28] من المال والعبيد والأهل، أي: هل يشاركونكم في أموالكم.
وهو قوله: {فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} [الروم: 28] أي: أنتم وشركاؤكم من(3/432)
عبيدكم فيما رزقناكم شرع سواء؟ تخافونهم أي: يشاركونكم فيما ترثونه من آبائكم، كخيفتكم أنفسكم كما يخاف الرجل الحر شريكه الحر في المال يكون بينهما أن ينفرد فيه دونه بأمر، فكما يخاف الرجل شريكه في الميراث أن يشاركه، لأنه يحب أن ينفرد به، فهو يخاف شريكه كما أن يرثه عصبته من ذريته، يعني أن هذه الخيفة لا تكون بين المالكين والمملوكين كما بين الأحرار، ومعنى أنفسكم ههنا أمثالكم من الأحرار، كقوله: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: 11] ، وكقوله: {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور: 12] أي: بأمثالهم من المؤمنين، قال صاحب النظم: وهذا مثل ضربه الله للذين جعلوا له شركاء، فقال: هل يرضى أحد منكم أن يكون عبده شريكا له في ماله وولده حتى يكون هو ومملوكه سواء يخاف غيره من شريك لو كان له فيه شركه، فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم فلم عدلتم بي من خلقي من هو مملوك لي فجعلتموهم شركاء لي.
كذلك كما بينا في ضرب المثل من أنفسكم، {نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم: 28] عن الله.
ثم بين لهم أنهم إنما اتبعوا فيما أشركوا به الهوى، فقال: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الروم: 29] أشركوا بالله، أهواءهم في الشرك، بغير علم يعلمونه جاءهم من الله، {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} [الروم: 29] أي: لا هادي لمن أضله الله، وهذا يدل على أنهم إنما أشركوا بإضلال الله إياهم عن الحق، {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [الروم: 29] مانعين من عذاب الله، قاله مقاتل.
ثم أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتوحيده، فقال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ {30} مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ {31} مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ {32} } [الروم: 30-32] {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} [الروم: 30] أي: أخلص دينك، وهو قول سعيد بن جبير.
وقال غيره: سدد عملك.
والوجه: ما يتوجه إليه، وعمل الإنسان ودينه ما يتوجه إليه لتسديده وإقامته، حنيفا مائلا إليه مستقيما عليه، لا ترجع عنه إلى غيره، وقوله: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] فطرة الله: الملة، وهي الإسلام والتوحيد الذي خلق الله عليه المؤمنين، هذا قول المفسرين في فطرة الله.
والمراد بالناس ههنا المؤمنون الذين فطرهم الله على الإسلام، لأن المشرك لم يفطر على الإسلام، ولفظ الناس عام، والمراد به الخصوص وانتصابها بالإغراء، وهو قول الزجاج، قال: فطرة الله منصوب بمعنى اتبع فطرة الله.
{لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] قال مجاهد، وإبراهيم: لا تبديل لدين الله.
وهي نفي معناه النهي، أي: لا تبدلوا دين الله الذي هو التوحيد بالشرك والكفر، {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30] يعني التوحيد، وهو الدين المستقيم، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} [الروم: 30] يعني: كفار مكة، لا يعلمون توحيد الله.
قوله: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} [الروم: 31] قال الزجاج: زعم جميع النحويين أن معنى هذا فأقيموا وجوهكم منيبين، لأن مخاطبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدخل فيها الأمة، والدليل على ذلك قوله: {(3/433)
يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] فقوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} [الروم: 30] معناه: فأقيموا وجوهكم، منيبين إليه راجعين إلى كل ما أمر به مع التقوى، وأداء الفرض، وهو قوله: {وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الروم: 31] .
ثم أخبر أنه لا ينفع ذلك إلا بالإخلاص في التوحيد، فقال: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ {31} مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الروم: 31-32] تقدم تفسيره في آخر { [الأنعام،] كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [سورة الروم: 32] قال مقاتل: كل أهل ملة بما عندهم من الدين راضون.
{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ {33} لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ {34} أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ {35} وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ {36} أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {37} } [الروم: 33-37] قوله: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ} [الروم: 33] يعني: كفار مكة، ضر وقحط وسنة، {دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} [الروم: 33] أي: لا يلتجئون في شدائدهم إلى أوثانهم التي يعبدونها مع الله، إنما يرجعون في دعائهم إلى الله وحده، {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً} [الروم: 33] إذا أعطاهم من عنده المطر، {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم: 33] تركوا توحيد ربهم في الرخاء وقد وحدوه في الضر.
{لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} [الروم: 34] ذكرنا تفسيره في آخر { [العنكبوت.
ثم خاطب هؤلاء الذين فعلوا هذا خطاب تهديد بقوله:] فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [سورة الروم: 34] حالكم في الآخرة.
{أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ} [الروم: 35] على هؤلاء، سلطانا حجة وكتابا من السماء، {فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} [الروم: 35] يقولون من الشرك، يعني يأمرهم به، وهذا استفهام إنكار، أي ليس الأمر على هذا.
ثم ذكر بطرهم عند النعمة، ويأسهم عند الشدة بقوله: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا} [الروم: 36] يعني: فرح البطر وترك الشكر، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} [الروم: 36] شدة وبلاء، {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [الروم: 36] بما عملوا من السيئات، {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36] قنطوا من رحمة الله، وهذا خلاف وصف المؤمن، فإنه يشكر عند النعمة، ويرجو ربه عند الشدة.
ثم وعظهم، فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الروم: 37] والآية ظاهرة.
{فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {38} وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ {39} اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ {40} } [الروم: 38-40] قوله: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الروم: 38] أي: من الصلة والبر، والمسكين قال مقاتل: حقه أن يتصدق عليه.
وابن السبيل يعني الضيافة، ذلك خير إعطاء الحق خير وأفضل من الإمساك، {لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} [الروم: 38] يطلبون(3/434)
بما يعلمون ثواب الله، ثم نعتهم بقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] .
قوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا} [الروم: 39] قال السدي: الربا في هذا الموضع الهدية يهديها الرجل لأخيه يطلب المكافأة، فإن ذلك لا يراد عند الله، لا يؤجر عليه صاحبه، ولا إثم عليه.
وروى قتادة، عن ابن عباس، قال: هي هبة الرجل، يهب الشيء يريد أن يثاب عليه أفضل منه.
وهذا قول جماعة المفسرين، قال الزجاج: يعني دفع الإنسان الشيء ليعوض ما هو أكثر منه، وذلك ليس بحرام، ولكنه لا ثواب فيه، لأن الذي يهبه يستدعي رد ما هو أكثر منه.
وقرأ ابن كثير أتيتم مقصورا، وهو يئول في المعنى إلى قول من مد، كأنه قيل: وما جئتم من ربا ومجيئهم ذلك على وجه الإعطاء له، كما تقول: أتيت خطأ، وأتيت صوابا، وأتيت قبيحا، إنما هو فعل له وسمي المدفوع على وجه اجتلاب الزيادة ربا لأن غرضه فيه الاستزادة على ما أعطى، فسمي باسم الزيادة.
وقوله: {لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} [الروم: 39] أي: في اجتلاب أموال الناس واجتذابها، وقرأ نافع لتربوا بالتاء وضمها، أي لتصير ذوي زيادة من أموال الناس بما آتيتم، وهو من الربى، أي صار ذا زيادة، {فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} [الروم: 39] لأنكم قصدتم إلى زيادة العوض ولم تقصدوا البر والقربة.
{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} [الروم: 39] وما أعطيتم من صدقة لا تطلبون بها المكافأة، وإنما تقصدون بها ما عند الله، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39] يضاعف لهم الثواب، يعطون الحسنة عشر أمثالها، والمضعف ذو الأضعاف من الحسنات.
ثم ذكر ما أصاب الناس بترك التوحيد، فقال: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ {41} قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ {42} } [الروم: 41-42] ظهر الفساد يعني: قحط المطر وقلة النبات، في البر حيث لا يجري نهر، وهو البوادي، والبحر وهو كل قرية على ماء، قال ابن عباس: البحر ما كان من المدائن والقرى على شاطئ نهر.
{بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41] من المعاصي، يعني كفار مكة، ليذيقهم الله بالجوع في السنين السبع، {بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم: 41] أي جزاءه، لعلهم يرجعون لكي يرجعوا من الكفر إلى الإيمان، وهذا كقوله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} [الأعراف: 130] الآية.
وليس المراد بالبر والبحر في هذه الآية كل بر وبحر في الدنيا، وإنما المراد به حيث ظهر هناك(3/435)
القحط بدعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم خوفهم، فقال: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ} [الروم: 42] مسافرين، {فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ} [الروم: 42] لتروا مساكنهم ومنازلهم خاوية، وقوله: {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} [الروم: 42] أي: كانوا مشركين فأهلكوا بكفرهم.
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ {43} مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ {44} لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ {45} } [الروم: 43-45] {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} [الروم: 43] قال الزجاج: أجعل جهتك إتباع الدين القيم، وهو الإسلام المستقيم.
{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} [الروم: 43] يعني: يوم القيامة، لا يقدر أحد على رد ذلك اليوم، يومئذ يصدعون يتفرقون بعد الحساب إلى الجنة والنار.
و {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} [الروم: 44] جزاء كفره، {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم: 44] يوطئون لأنفسهم منازلهم، يقال: مهدت لنفسي خيرا، أي هيأته ووطأته.
{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ} [الروم: 45] قال ابن عباس: ليثيبهم الله أكثر من ثواب أعمالهم.
{إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [الروم: 45] لا يثيبهم ولا يثني عليهم.
قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {46} وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ {47} } [الروم: 46-47] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} [الروم: 46] تبشر بالمطر، {وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الروم: 46] يعني: الغيث والخصب، ولتجري الفلك في البحر بتلك الرياح، بأمره ولتبتغوا في البحر، من فضله يعني: الرزق بالتجارة وكل هذا بالرياح، ولعلكم تشكرون هذه النعم فتوحدونه.
ثم عزى، فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [الروم: 47] بالدلالات الواضحات على صدقهم، {فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} [الروم: 47] عذبنا الذين كذبوهم وكفروا بآياتنا، {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا} [الروم: 47] واجبا وجوبا، هو أوجبه على نفسه، نصر المؤمنين إنجاؤهم مع الرسل من عذاب الأمم، وفي هذا تبشير للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالظفر في العاقبة والنصر على من كذبه.
ثم أخبر عن صنعه ليعرفوا توحيده، فقال: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ {48} وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ(3/436)
لَمُبْلِسِينَ {49} فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {50} وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ {51} } [الروم: 48-51] {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} [الروم: 48] تزعجه من حيث هو، فيبسطه الله، {فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ} [الروم: 48] إن شاء بسطه مسيرة يوم أو يومين، ويجعله كسفا بعد أن بسطه يجعله قطعا متفرقة، {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [الروم: 48] مفسر في { [النور،] فَإِذَا أَصَابَ بِهِ} [سورة الروم: 48] بالودق، {مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الروم: 48] يفرحون بنزوله.
وإن كانوا وما كانوا، {مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} [الروم: 49] المطر، من قبله كرره للتأكيد، لمبلسين آيسين قانطين من المطر.
قوله: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} [الروم: 50] بعد إنزال المطر، انظر إلى حسن تأثيره في الأرض، ويقرأ آثار على الجمع، فمن أفرد فلأنه مضاف إلى مفرد، ومن جمع جاز، لأن رحمة الله يجوز أن يراد بها الكثرة، كما قال: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ} [النحل: 18] قال مقاتل: أثر رحمة الله هو النبت، وهو أثر المطر، والمطر رحمة الله ونعمته على خلقه.
وقوله: {كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 50] أي: كيف يجعلها تنبت بعد أن لم تكن فيها نبت، إن ذلك الذي فعل ما ترون، وهو الله تعالى، لمحيي الموتى في الآخرة، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم: 50] البعث والموت.
ثم عاب كافر النعمة والجاهل بأن الله يفعل ما يشاء، فقال: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا} [الروم: 51] باردة مضرة، والريح إذا أتت بلفظ الإفراد أريد بها العذاب، ولهذا كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول عند هبوب الريح: «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» .
قوله: فرأوه يعني: النبت والزرع الذي كان من أثر رحمة الله، مصفرا من البرد بعد الخضرة، لظلوا لصاروا، من بعده اصفرار النبت يجحدون ما سلف من النعمة، يعني أنهم يفرحون عند الخصب، ولو أرسلنا عذابا على زرعهم كفروا نعمي، وليس كذا حال المؤمن، لأنه لا يستشعر الخيبة والكفران عند الشدة والمنة.
{فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ {52} وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ {53} } [الروم: 52-53](3/437)
قوله: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [الروم: 52] هذه الآية والتي بعدها مفسرتان في { [النحل.
ثم أخبر عن خلق أنفسهم ليتفكر المكذب بالبعث في خلق نفسه، فقال:] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} [سورة الروم: 54] قال المفسرون: يعني من نطفة.
والمعنى: خلقكم من ذي ضعف، أي من ماء ذي ضعف، كما قال: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [المرسلات: 20] ومعنى ضعف ذلك الماء أنه قليل، وقرئ بفتح الضاد، قال الفراء: الضم لغة قريش، والفتح لغة تميم، والاختيار الضم لما.
719 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، قَالَ: أنا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، قَالَ: أنا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: أنا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضُعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضُعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضُعْفًا} ، قَرَأْتُهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَرَأْتَهَا فَأَخَذَهَا عَلَيَّ كَمَا أَخَذْتُهَا عَلَيْكَ
وقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54] {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ} [الروم: 54] يعني: ضعف الطفولة، قوة الشباب، {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا} [الروم: 54] يعني: عند الكبر والهرم، وشيبة وهو مصدر كالشيب، {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الروم: 54] أي: من ضعف وقوه شيبة وشباب، وهو العليم بتدبير خلقه القدير على ما يشاء.
قوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ {55} وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ {56} فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ {57} } [الروم: 55-57] {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ} [الروم: 55] يحلف المشركون، ما لبثوا في القبور، غير ساعة إلا ساعة واحدة، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} [الروم: 55] يقال: أفك فلان إذا صرف عن الصدق والخير.
قال الكلبي: كذبوا في قولهم غير ساعة كما كذبوا في الدنيا.
وقال مقاتل: يقول: هكذا كانوا يكذبون بالبعث كما كذبوا(3/438)
أنهم لم يلبثوا في قبورهم إلا ساعة.
وقال ابن قتيبة: أي كذبوا في هذا الوقت كما كانوا يكذبون من قبل.
والمعنى: أراد الله تعالى أن بعضهم خلقوا على شيء يتبين لأهل الجمع من المؤمنين أنهم كاذبون في ذلك، ويستدلون بكذبهم هناك على كذبهم في الدنيا، وكان ذلك من قضاء الله وقدره، بدليل قوله: يؤفكون أي يصرفون، يعني: كما صرفوا عن الصدق في خلقهم حين حلفوا كاذبين صرفوا في الدنيا عن الإيمان.
ثم ذكر إنكار المؤمنين عليهم كذبهم بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} [الروم: 56] أي: لبثتم في القبور فيما كتب الله لكم من اللبث إلى يوم البعث، وقال الزجاج: في علم الله المثبت في اللوح المحفوظ.
والمفسرون حملوا هذا على التقديم على تقدير قال الذين أوتوا العلم في كتاب الله وهم الذين يعلمون كتاب الله، وقرأ قوله: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 100] وقوله: {فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ} [الروم: 56] أي: اليوم الذي كنتم تنكرونه في الدنيا وتكذبون به، {وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الروم: 56] وقوعه في الدنيا، فلا ينفعكم العلم به الآن، يدل على هذا المعنى قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ} [الروم: 57] قال ابن عباس: لا يقبل من الذين أشركوا عذر، ولا عتاب، ولا توبة ذلك اليوم، وقرئ لا ينفع بالياء، لأن التأنيث ليس بحقيقي في المعذرة، وقد وقع الفصل بين الفاعل وفعله فقوي التذكير، وقوله: {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الروم: 57] لا يطلب منهم العتبى والرجوع في الآخرة.
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْءَانِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُبْطِلُونَ {58} كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ {59} فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ {60} } [الروم: 58-60] {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْءَانِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الروم: 58] احتجاجا عليهم وتنبيها لهم، {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ} [الروم: 58] مثل العصا واليد، {لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ} [الروم: 58] ما أنتم يا محمد وأصحابك، إلا مبطلون أصحاب أباطيل، وهذا إخبار عن عنادهم وتكذيبهم.
ثم ذكر سبب ذلك، فقال: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الروم: 59] أي: كالذي طبع على قلوبهم حتى لا يصدقون بآية يختم الله على قلوب الذين لا يعلمون توحيد الله، فكل من لم يعلم توحيد الله فذلك لأجل طبع الله على قلبه.
ثم أمر نبيه بالصبر إلى وقت النصر بقوله: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} [الروم: 60] بنصر دينك وإظهارك على عدوك، {حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ} [الروم: 60] الذين لا يؤمنون، يقال: استخف فلان فلانا إذا استجهله فحمله على اتباعه في غيه، والمفسرون يقولون: لا يستخفن رأيك وعلمك.
{الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم: 60] بالبعث والحساب، أي هم ضلال شاكون.(3/439)
سورة لقمان
مكية وآياتها أربع وثلاثون.
720 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، أنا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ لُقْمَانَ كَانَ لَهُ لُقْمَانُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأُعْطِيَ مِنَ الْحَسَنَاتِ عَشْرًا، بِعَدَدِ مَنْ عَمِلَ بِالْمَعْرُوفِ وَعَمِلَ بِالْمُنْكَرِ»
{الم {1} تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ {2} هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ {3} الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ {4} أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {5} } [لقمان: 1-5] بسم الله الرحمن الرحيم {الم {1} تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ {2} } [لقمان: 1-2] تقدم تفسيره.
هدى ورحمة القراءة بالنصب على الحال، قال الزجاج: المعنى تلك آيات الكتاب في حال الهداية الرحمة.
وقرأ حمزة بالرفع على إضمار هو، قال ابن عباس: بيان من الضلالة ورحمة من العذاب للموحدين من أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وما بعد هذا مضى فيما تقدم.
قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ {6} وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ {7} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ {8} خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {9} خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ {10} هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ {11} } [لقمان: 6-11] {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] نزلت في النضر بن الحارث، كان يأتي الحيرة فيشتري كتبا فيها أخبار الأعاجم ويحدث بها أهل مكة، ويقول: إن محمدا يحدثكم أحاديث عاد وثمود،(3/440)
وأنا أحدثكم حديث فارس والروم، وأقرأ عليكم كما يقرأ محمد أساطير الأولين.
ومعنى لهو الحديث: باطل الحديث، هذا قول الكلبي، ومقاتل.
وأكثر المفسرين على أن المراد بلهو الحديث الغناء.
721 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْفَارِسِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَطِيَّةَ، نا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ مَطَرِ بْنِ يَزِيدَ الْكَتَّانِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " لا يَحِلُّ تَعْلِيمُ الْمُغَنِّيَاتِ، وَلا بَيْعُهُنَّ، وَلا شِرَاؤُهُنَّ، وَثَمَنُهُنَّ حَرَامٌ، وَلَقَدْ نَزَلَ تَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} الآيَةَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا رَفَعَ رَجُلٌ قَطُّ عَقِيرَتَهُ يَتَغَنَّى إِلا ارْتَدَفَهُ شَيْطَانَانِ يَضْرِبَانِ بِأَرْجُلِهِمَا عَلَى ظَهْرِهِ وَصَدْرِهِ حَتَّى يَسْكُتَ، وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، قَالُوا: هُوَ، وَاللَّهِ، الْغِنَاءُ وَاشْتِرَاءُ الْمُغَنِّي وَالْمُغَنِّيَةِ بِالْمَالِ
722 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّصْرَابَاذِيُّ الصُّوفِيُّ، أنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْخَلِيلِ، نا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ سُمَيْعٍ، أنا ابْنُ أَبِي الزُّعَيْزِعَةِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي هَذِهِ الآيَةِ، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} قَالَ: بِاللَّعِبِ وَالْبَاطِلِ، كَثِيرُ النَّفَقَةِ، سَمْحٌ فِيهِ، لا تَطِيبُ نَفْسُهُ بِدِرْهَمٍ يَتَصَدَّقُ بِهِ، قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: وَيَدْخُلُ فِي هَذَا كُلُّ مَنِ اخْتَارَ اللَّهْوَ وَالْغِنَاءَ وَالْمَزَامِيرَ وَالْمَعَازِفَ عَلَى الْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ وَرَدَ بِالاشْتِرَاءِ؛ لأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُذْكَرُ فِي الاسْتِبْدَالِ وَالاخْتِيَارِ كَثِيرًا
723 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا أَبُو سَعِيدٍ الْخَلالُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ قُتَيْبَةَ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفِرْيَابِيُّ، نا عَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ عُبَيْدٍ الأَنْصَارِيُّ، نا حَمَّادُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي مُوسَى، مِنْ(3/441)
وَلَدِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لَهَا بِالْغِنَاءِ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ أَنْ يَسْمَعَ صَوْتَ الرُّوحَانِيِّينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قِيلَ: وَمَا الرُّوحَانِيُّونَ، يَا رَسُولَ اللَهِ؟ قَالَ: قُرَّاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ
قوله: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان: 6] قال الزجاج: من قرأ ليضل بضم الياء فمعناه: ليضل غيره، وإذا أضل غيره فقد ضل، ومن قرأ بفتح الياء فمعناه: ليصير أمره إلى الضلال، وهو إن لم يكن بمشتر لضلالة فإنه يصير أمره إلى ذلك.
قال قتادة: بحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق.
ومعنى قوله: بغير علم أي أنه جاهل فيما يفعل، لا يفعله عن علم، ويتخذها بالرفع عطف على يشتري، وبالنصب على ليضل، والكناية تعود إما إلى الآيات المذكورة في أول ال { [، أي: ويتخذ آيات القرآن هزؤا، وإما إلى سبيل الله، والسبيل تؤنث، كقوله:] قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [سورة يوسف: 108] وما بعد هذا مفسر في مواضع فيما تقدم إلى قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ {12} وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ {13} وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ {14} وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {15} يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ {16} يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ {17} وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ {18} وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ {19} } [لقمان: 12-19] {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12] أكثر العلماء على أن لقمان لم يكن نبيا.
وقال عكرمة، والسدي، والشعبي: كان نبيا.
وفسروا الحكمة ههنا بالنبوة.
قال مجاهد: الحكمة ههنا الفقه، والعقل، والإصابة في القول.
وقوله: {أَنِ اشْكُرْ(3/442)
لِلَّهِ} [لقمان: 12] قال مقاتل: قلنا له أن اشكر لله فيما أعطاك من الحكمة.
{وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [لقمان: 12] ومن يطع الله فإنما يعمل لنفسه، ومن كفر النعمة فلم يوحده، {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ} [لقمان: 12] عن عبادة خلقه، حميد عند خلقه.
ثم ذكر معنى إعطاء الحكمة، فقال: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ} [لقمان: 13] أي: ولقد آتيناه الحكمة إذ قال، وهو يعظه قال ابن عباس: في الله {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} [لقمان: 13] لا تعدل بالله شيئا في العبادة، {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] يقول: ليس شيء من الذنوب أعظم من الشرك بالله.
وقوله: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [لقمان: 14] تقدم تفسيره ونزوله.
{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان: 14] قال الزجاج: لزمها بحملها إياه أن تضعف مرة بعد مرة.
{وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] الفصال الفطام، وهو أن يفصل الولد عن الأم كي لا يرضع، وهو ابتداء وخبره في الظرف على تقدير وفصاله يقع في عامين، أن في انقضاء عامين، والمعنى: ذكر مشقة الوالدة بإرضاع الولد بعد الوضع عامين.
{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14] قال ابن عباس: المعنى أطعني وأطع والديك.
وقال مقاتل: أن اشكر لي إذ هديتك للإسلام ولوالديك، وبما أولياك من النعم.
والمعنى: ووصيناه بشكرنا وشكر والديه.
إلي المصير المرجع والمنقلب، أي: فأجزيك بعملك.
{وَإِنْ جَاهَدَاكَ} [لقمان: 15] مفسر في { [العنكبوت إلى قوله:] وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [سورة لقمان: 15] أي: اصحبها في الدنيا بالمعروف، وهو المستحسن.
{وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15] دين من أقبل إلى طاعتي، وهو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال عطاء، عن ابن عباس: يريد أبا بكر رضي الله عنه، وذلك أنه حين أسلم أتاه عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وعثمان، وطلحة، والزبير، فقالوا له: آمنت وصدقت محمدا؟ فقال: نعم.
فأتوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فآمنوا وصدقوا، فأنزل الله تعالى يقول: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15] يعني أبا بكر رضي الله عنه.
قوله: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} [لقمان: 16] قال السدي: قال ابن لقمان لأبيه: أرأيت لو كان حبة من خردل في مقل البحر، أكان الله يعلمها؟ فقال: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ} [لقمان: 16] قال الزجاج: المعنى إن التي سألتني عنها إن تك مثقال حبة من {خَرْدَلٍ} [لقمان: 16] قرئ مثقال بالرفع والنصب، فمن نصب فاسم كان مضمر على تقدير إن تكن التي سألت مثقال حبة من خردل، ومن رفع مع تأنيث تكن فلأن مثقال حبة من خردل راجع إلى معنى خردله، فهو بمنزلة إن تكن حبة من خردل، وتك ههنا بمعنى يقع، ولا خبر له، وقوله: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} [لقمان: 16] قال السدي: هذه الصخرة ليست في السموات ولا في الأرض، هي تحت سبع أرضين، عليها ملك قائم.
وقال قتادة: فتكن في صخرة، أي في جبل.
{يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} [لقمان: 16] قال الزجاج: هذا مثل لأعمال العباد، وأن الله يأتي بأعمالهم مكتوبة يوم القيامة، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ {7} وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ {8} } [الزلزلة: 7-8] وقد قال مقاتل: قال ابن لقمان لأبيه: يا أبت أرأيت إن عملت بالخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمه الله؟ فرد عليه لقمان ما أخبر الله عنه، فيكون المعنى: إن تكون الخطيئة مثقال حبة من خردل يأت بها الله للجزاء عليها.
{إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ} [لقمان: 16] باستخراجها، خبير بمكانها.
{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ} [لقمان: 17] المفروضة، وأمر بالمعروف بالإيمان بالله، وطاعته واتباع(3/443)
أمره، {وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [لقمان: 17] الشرك والظلم ومعاصي الله، {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17] فيهما من الأذى، {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: 43] أي: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى فيهما من حق عزم الأمور إلى الله بها، أي هو الذي يعزم عليها لوجوبها.
{وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان: 18] وقرئ ولا تصاعر بالألف، يقال: صعر خده وصاعر إذا أمال وجهه وأعرض تكبرا.
يقول: لا تعرض عن الناس تكبرا عليهم.
قال ابن عباس: لا تتعظم على خلق الله.
وقال قتادة: هو الإعراض عن الناس، يكلمك أخوك وأنت عنه معرض متكبر.
724 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا الشَّيْبَانِيُّ، أنا بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بِشْرٍ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى، أنا أَبُو هَمَّامٍ إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ، نا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، نا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} قَالَ: يَكُونُ الْغَنِيُ وَالْفَقِيرُ عِنْدَكَ سَوَاءً
وما بعد هذا مفسر فيما تقدم إلى قوله: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان: 19] يقال: قصد فلان في مشيه إذا مشى مشيا مستويا.
قال مقاتل: لا تختل في مشيك.
وقال عطاء: امش بالوقار والسكينة، كقوله: {يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] .
{وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان: 19] قال مقاتل: اخفض من صوتك.
وقال عطاء، عن ابن عباس: واغضض من صوتك إذا دعوت وناجيت ربك.
وكذلك وصية الله عز وجل في الإنجيل لعيسى ابن مريم: مر عبادي إذا دعوني يخفضوا أصواتهم، فإني أسمع وأعلم ما في قلوبهم.
{إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ} [لقمان: 19] أقبحها، لصوت الحمير قال قتادة: أقبح الأصوات صوت الحمير، أوله زفير وآخره شهيق.
وقال المبرد: تأويله: إن الجهر بالصوت ليس بمحمود، وإنه داخل في باب المنكر.
قال مقاتل: يأمر لقمان ابنه بالاقتصاد في المشي والمنطق.
{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ {20} وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ {21} وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ {22} وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {23} نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ {24} وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ {25} لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ {26} } [لقمان: 20-26](3/444)
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ} [لقمان: 20] يعني: الشمس والقمر، والنجوم والسحاب والرياح، {وَمَا فِي الأَرْضِ} [لقمان: 20] يعني: الجبال، والأنهار والبحار، والأشجار والنبت عاما بعام، قال الزجاج: ومعنى تسخيرها للآدميين الانتفاع بها.
وأسبغ عليكم أوسع وأكمل، يقال: سبغت النعمة إذا تمت وأسبغها الله، وقوله: نعمة وقرئ نعمه جمعا، ومعنى القراءتين واحد، لأن المفرد يدل على الكثرة كقوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] .
وقوله: {ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20]
725 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا أَبُو مَالِكٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ؛ فَقَالَ: هَذِهِ مِنْ مَخْزُونِي الَّذِي سَأَلْتُ عَنْهَا النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذِهِ النِّعْمَةُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ؟ فَقَالَ: " يَابْنَ عَبَّاسٍ، أَمَّا مَا ظَهَرَ؛ فَالإِسْلامُ، وَمَا سَوَّى اللَّهُ مِنْ خَلْقِكَ، وَمَا فَضُلَ عَلَيْكَ مِنَ الرِّزْقِ، وَأَمَّا مَا بَطُنَ؛ فَسَتْرُ مَسَاوِئِ عَمَلِكَ، وَلَمْ يَفْضَحْكَ بِهِ، يَابْنَ عَبَّاسٍ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ثَلاثَةٌ جَعَلْتُهُنَّ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ: صَلاةُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ مِنْ بَعْدِ انْقِطَاعِ عَمَلِهِ، وَجَعَلْتُ لَهُ قِلَّةَ مَالِهِ أُكَفِّرُ بِهِ عَنْهُ خَطَايَاهُ، وَالثَّالِثَةُ: سَتَرْتُ مَسَاوِئَ عَمَلِهِ فَلَمْ أَفْضَحْهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَلَوْ أَبْدَيْتُهَا عَلَيْهِ لَنَبَذَهُ أَهْلُهُ فَمَنْ سِوَاهُمْ
وقال عكرمة، عن ابن عباس، رضي الله عنه: الظاهرة: الإسلام والقرآن، وبالباطنة: ما ستر عليك من الذنوب ولم يعجل عليك بالنقمة.
وقال الضحاك: الباطنة المعرفة، والظاهرة: حسن الصورة، وامتداد القامة، وتسوية الأعضاء.
وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [لقمان: 20] مفسر في { [الحج وال: الثانية مفسرة في سورة البقرة وكذلك الثالثة.
وقوله:] وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} [لقمان: 23] فلا تهتم لكفره، فإن رجوعهم إلينا وحسابهم علينا، وهو قوله: {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} [لقمان: 23] نخبرهم بقبائح أعمالهم، لأنها أثبت عليهم.
نمتعهم قليلا يعني: أيام حياتهم إلى انقضاء آجالهم، نمتعهم بما أعطوا من الدنيا، ثم نضطرهم في الآخرة، أي نلجئهم، {إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان: 24] هو عذاب النار، لا يجدون عنها محيصا ولا ملجأ.
وما بعد هذا مفسر فيما تقدم إلى قوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {27} مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ {28} أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ {29} ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ {30} أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ(3/445)
شَكُورٍ {31} وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ {32} } [لقمان: 27-32] {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} [لقمان: 27] قال قتادة: إن المشركين قالوا في القرآن: يوشك أن ينفد، يوشك أن ينقطع.
فنزلت هذه الآية، يقول: لو كان ما في الأرض من شجرة بريت أقلاما، وكان البحر مدادا ومعه سبعة أبحر مدادا مثله، وهو قوله: والبحر يمده قرئ نصبا بالعطف على ما، ورفعا بالاستئناف، كأنه كان قال: والبحر هذه حاله، وهي أن تنصب فيه سبعة أبحر، ونزيده بمائها، فكتبت بتلك الأقلام، لنفد المداد قبل أن ينفد علم الله، وهو قوله: {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27] قال جماعة المفسرين: يعني علم الله.
والمعنى: كلمات الله التي هي عبارة عن معلوماته، ولما كان معلوم الله لا يتناهى، فكذلك الكلمات التي تقع عبارة عن معلومه لا تتناهى، والآية مختصرة، ويكون تقدير الكلام فكتبت بهذه الأقلام البحور ما نفدت كلمات الله.
قوله: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ} [لقمان: 28] الآية، قال مقاتل: إن كفار قريش قالوا: إن الله خلقنا أطوارا، نطفة، علقة، مضغة، فكيف يبعثنا الله خلقا جديدا في ساعة واحدة؟ فأنزل الله هذه الآية، يقول: ما خلقكم أيها الناس جميعا في القدرة إلا كخلق نفس واحدة، ولا بعثكم جميعا إلا كبعث نفس واحدة.
قال الزجاج: أي قدرة الله على بعث الخلق كلهم وعلى خلقهم كقدرته على خلق نفس واحدة، وبعث نفس واحدة.
{إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} [لقمان: 28] لما قالوا من أمر الخلق والبعث، بصير به.
وما بعد هذا مفسر فيما تقدم إلى قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ} [لقمان: 31] قال ابن عباس: يريد أن ذلك كله من نعمة الله عليكم.
{لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ} [لقمان: 31] من صنعه وعجائبه في البحر، وابتغاء الرزق، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ} [لقمان: 31] عن معاصي الله شكور لنعمه، قال مقاتل: يعني المؤمن.
وإذا غشيهم يعني: الكفار يقول إذا علاهم موج وهو ما ارتفع من الماء كالظلل كالجبال، أو السحاب التي تظل من تحتها خافوا الغرق والهلاك، ف {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان: 32] وهذا كقوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65] وكان سبب إسلام عكرمة بن أبي جهل هذا، وهو إخلاصهم الدعاء في البحر.
726 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْخَلِيلِ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، نا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: زَعَمَ السُّدِّيُّ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ أَمَّنَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، النَّاسَ إِلا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ "، وَقَالَ: اقْتُلُوهُمْ وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ: عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنِ خَطَلٍ، وَمَقِيسَ بْنَ صُبَابَةَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي الْيُسْرِ، فَأَمَّا عِكْرِمَةُ فَرَكِبَ الْبَحْرَ فَأَصَابَتْهُمْ رِيحٌ عَاصِفٌ، فَقَالَ أَهْلُ السَّفِينَةُ: أَخْلِصُوا فَإِنَّ آلِهَتَكُمْ لا تُغْنِي عَنْكُمْ شَيْئًا هَهُنَا، فَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَئِنْ لَمْ يُنَجِّنِي فِي الْبَحْرِ إِلا الإِخْلاصُ مَا يُنَجِّينِي فِي الْبَرِّ غَيْرُ اللَّهِ، اللَّهُمَّ إِنَّ لَكَ عَلَيَّ إِنْ أَنْتَ عَافَيْتَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ(3/446)
أَنْ آتِيَ مُحَمَّدًا حَتَّى أَضَعَ يَدِي فِي يَدِهِ فَلأَجِدَنَّهُ عَفُوًّا كَرِيمًا فَجَاءَ فَأَسْلَمَ
727 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ الْمِهْرَجَانِيُّ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أنا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، نا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ، هَرَبَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، فَرَكِبَ الْبَحْرَ، فَخَبَّ بِهِمُ الْبَحْرُ، فَجَعَلَ النَّاسُ وَمَنْ فِي السَّفِينَةِ يَدْعُونَ اللَّهَ وَيَسْتَغِيثُونَ بِهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: هَذَا مَكَانٌ لا يَنْفَعُ فِيهِ إلا اللَّهُ.
فَقَالَ عِكْرِمَةُ: وَهَذَا إِلَهُ مُحَمَّدٍ الَّذِي كَانَ يَدْعُونَا إِلَيْهِ، ارْجِعُوا بِنَا.
فَرَجَعَ، فَأَسْلَمَ.
وقوله: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ} [لقمان: 32] أي: من هول ما هم فيه، نجاهم حتى أفضوا إلى البر، فمنهم مقتصد أي: عدل في الوفاء في البر بما عاهد الله عليه في البحر من التوحيد له، يعني: من ثبت على إيمانه، ثم ذكر الذي ترك التوحيد في البر، يقول: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ} [لقمان: 32] غادر بعهده، والختر سوء الغدر وأقبحه، كفور لله في نعمه.
ثم خاطب كفار مكة، فقال: {يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33] {يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان: 33] قال ابن عباس: كل امرئ يهمه نفسه.
وقال مقاتل: لا يغني والد عن ولده شيئا، أي لا ينفعه.
يعني الكفار، وهذا كقوله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48] وقد تقدم، {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [لقمان: 33] بالبعث، {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [لقمان: 33] عن الإسلام والتزود للآخرة، {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ} [لقمان: 33] أي: بحلم الله وإمهاله، الغرور يعني الشيطان، وهو الذي من شأنه أن يغر.
قوله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34] {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34] نزلت في رجل من محارب، أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: إن أرضنا أجدبت فمتى الغيث؟ وتركت امرأتي حبلى فماذا تلد؟ وقد علمت أين ولدت فبأي أرض أموت؟ وقد علمت ما عملت اليوم فما أعمل غدا؟ ومتى الساعة؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
728 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّرَكِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُوَيْدٍ، أنا أَبُو حُذَيْفَةَ، نا سُفْيَانُ، عَنْ(3/447)
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلَمُهُنَّ إِلا اللَّهُ، تَعَالَى: لا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلا اللَّهُ، وَلا يَعْلَمُ مَتَى تَغِيضُ الأَرْحَامُ إِلا اللَّهُ، وَلا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلا اللَّهُ، وَلا يَعْلَمُ نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِلا اللَّهُ، وَلا يَعْلَمُ مَتَى يَنْزِلُ الْغَيْثُ إِلا اللَّهُ "، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ سُفْيَانَ
قال قتادة: في هذه الآية خمس من الغيب استأثر الله بهن فلم يطلع عليهن ملكا مقربا، ولا نبيا مرسلا: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34] فلا يدري أحد من الناس متى تقوم، في أي سنة، أو في أي شهر، ليلا أو نهارا، وينزل الغيث فلا يعلم أحد متى ينزل الغيث، ليلا أم نهارا ينزل، {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} [لقمان: 34] لا يعلم أحد ما في الأرحام، أذكر أم أنثى، أحمر أم أسود، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34] أخيرا أم شرا، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34] يقول: ليس أحد من الناس يدري أين مضجعه من الأرض، أفي بر أم في بحر، في سهل أم جبل، تعالى ربنا وتبارك.
وقال ابن عباس: هذه الخمسة لا يعلمها ملك مقرب، ولا نبي مصطفى.
قال الزجاج: فمن ادعى أنه يعلم شيئا من هذه فقد كفر بالقرآن لأنه خالفه.(3/448)
سورة السجدة
مكية وآياتها ثلاثون.
729 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الشُّرُوطِيُّ، نا أَبُو إِسْحَاقَ الأَسَدِيُّ، نا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْيَرْبُوعِيُّ، نا الْمَدَائِنِيُّ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ تَنْزِيلُ السَّجْدَةَ وَتَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ فَكَأَنَّمَا أَحْيَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ»
730 - حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، إِمْلاءً، نا أَبُو مُحَمَّدٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَاجِيَةَ، نا نَضْرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْوَشَّاءُ، نا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الإِمَامُ، نا الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ الم تَنْزِيلُ وَتَبَارَكَ»
{الم {1} تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ {2} أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ {3} } [السجدة: 1-3] بسم الله الرحمن الرحيم {الم {1} تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ} [السجدة: 1-2] قال مقاتل: يعني لا شك فيه أنه تنزيل، {مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ {2} أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} [السجدة: 2-3] يعني المشركين، افتراه محمد من تلقاء نفسه، {بَلْ هُوَ} [السجدة: 3] أي القرآن، {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [السجدة: 3] يعني العرب، وكانوا أمة أمية لم يأتيهم نذير قبل محمد عليه السلام، لعلهم يهتدون لكي يرشدوا من الضلالة.
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ {4} يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ {5} ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ {6} } [السجدة: 4-6] و {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [السجدة: 4] مفسر في { [الأعراف إلى قوله:] مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ} [سورة السجدة: 4] يعني الكفار، يقول: ليس من دون عذابه من ولي، قريب ينفعكم فيرد عذابه عنكم، ولا شفيع لكم، أفلا(3/449)
تتذكرون أفلا تتدبرون هذا فتؤمنوا.
قوله: يدبر الأمر يعني: أمر الدنيا، يدبره الله عز وجل مدة أيام الدنيا، فينزل القضاء والقدر {مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة: 5] قال ابن عباس: يرجع إليه.
والمعنى: يعود الأمر والتدبير حتى ينقطع أمر الأمراء وأحكام، وينفرد الله تعالى بالأمر، {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} [السجدة: 5] قال ابن عباس: يريد أن يوما من أيام الآخرة مثل ألف سنة.
مما تعدون من أيام الدنيا، وأراد بهذا اليوم يوم القيامة، وهذا كقوله: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47] وقد مر ذلك.
{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [السجدة: 6] أي: ذلك الذي صنع ما ذكر من خلق السموات والأرض عالم ما غاب عن الخلق وعالم ما حضر، العزيز المنيع في ملكه، الرحيم بأهل طاعته.
{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ {7} ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ {8} ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ {9} } [السجدة: 7-9] {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7] يعني: أحسن خلق كل شيء، قال مقاتل: علم كيف تخلق الأشياء من غير أن يعلمه أحد.
وقال السدي: أحسنه لم يتعلمه من أحد، والإحسان العلم.
يقال: فلان يحسن كذا إذا علمه.
قال صاحب النظم: بيان ذلك أنه لما طول رجل البهيمة والطائر طول عنقه لئلا يتعذر عليه ما لا بد له من قوته، ولو تفاوت ذلك لم يكن له معاش، وكذلك كل شيء من أعضاء الحيوان مقدر لما يصلح به معاشه.
وقرئ خلقه بفتح اللام، وهو صفة للنكرة التي هي شيء، والمعنى: أتقن وأحكم كل شيء خلقه، قال ذلك الكلبي، ومجاهد.
{وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة: 7] يعني آدم، كان أوله طينا.
{ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ} [السجدة: 8] ولده وذريته، من سلالة تقدم تفسيرهما، {مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة: 8] ضعيف، يعني النطفة.
ثم رجع إلى آدم، فقال: ثم سواه سوى خلقه، {وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة: 9] ثم عاد إلى ذريته، فقال: وجعل لكم يعني: من بعد أن كنتم نطفا، {السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة: 9] يعني أنهم لا يشكرون رب هذه النعم فيوحدونه.
{وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ {10} قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ {11} } [السجدة: 10-11] وقالوا يعني: منكري البعث: {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ} [السجدة: 10] هلكنا وصرنا ترابا فلم يبق شيء من خلقنا، ومعنى الضلال في اللغة الغيبوبة، يقال: ضل الماء في اللبن، وضل الميت في التراب إذا بطل.
{أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة: 10] استفهام إنكار أنكروا إعادتهم بعد الموت، قال الله تعالى: بل هم يعني: {بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} [السجدة: 10] أي بالبعث.
قوله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة: 11] أي: يقبض أرواحكم أجمعين، {الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] قال ابن عباس: وكل بقبض أرواحكم.
731 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ، نا ابْنُ وَهْبٍ، نا أَبُو صَخْرٍ حُمَيْدُ بْنُ زِيَادٍ، أَنَّ يَزِيدَ الرَّقَاشِيَّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: لَقِيَ جِبْرِيلُ مَلَكَ الْمَوْتِ بِنَهْرٍ بِفَارِسَ، فَقَالَ: يَا مَلَكَ الْمَوْتِ، كَيْفَ(3/450)
تَسْتَطِيعُ قَبْضَ الأَنْفُسِ عِنْدَ الْوَبَاءِ، هَهُنَا عِشْرُونَ أَلْفٍ وَهَهُنَا كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ لَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ: تُزْوَى لِيَ الأَرْضُ حَتَّى كَأَنَّهَا بَيْنَ فَخِذَيَّ فَأَلْتَقِطُهُمْ بِيَدِي
732 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْمُفَضَّلِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ خَلَفٍ، أنا أَبُو عُمَارَةَ الْبَغْدَادِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ بْنِ سِنَانٍ الرَّقِّيُّ، نا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْعَمِّيُّ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الأَمْرَاضُ وَالأَوْجَاعُ كُلُّهَا بَرِيدُ الْمَوْتِ وَرُسُلُ الْمَوْتِ، فَإِذَا جَاءَ الأَجَلُ أَتَى مَلَكُ الْمَوْتِ بِنَفْسِهِ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْعَبْدُ، كَمْ خَبَرٍ بَعْدَ خَبَرٍ، وَكَمْ رَسُولٍ بَعْدَ رَسُولٍ، وَكَمْ بَرِيدٍ بَعْدَ بَرِيدٍ، أَنَا الْخَبَرُ لَيْسَ بَعْدِي خَبَرٌ، وَأَنَا الرَّسُولُ لَيْسَ بَعْدِي رَسُولٌ، أَجِبْ رَبَّكَ طَائِعًا، أَوْ مُكْرَهًا، فَإِذَا قَبَضَ رُوحَهُ تَصَارَخُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ: عَلَى مَنْ تَصْرُخُونَ؟ وَعَلَى مَنْ تَبْكُونَ؟ فَوَاللَّهِ مَا ظَلَمْتُ لَهُ أَجَلا، وَلا أَكَلْتُ رِزْقًا؛ بَلْ دَعَاهُ رَبُّهُ فَلْيَبْكِ الْبَاكِي عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنَّ لِي فِيكُمْ عَوَدَاتٌ وَعَوَدَاتٌ حَتَّى لا أُبْقِيَ مِنْكُمْ أَحَدًا "
وقوله: {ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 57] أي: تصيرون إليه أحياء فيجزيكم بأعمالكم.
ثم أخبر عن حالهم في القيامة وعند الحساب، فقال: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ {12} وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ {13} فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {14} } [السجدة: 12-14] ولو ترى يا محمد، إذ المجرمون قال مقاتل: يعني كفار مكة.
{نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [السجدة: 12] مطأطئوها حيا وندما، يقولون {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا} [السجدة: 12] ما كنا ننكر، وسمعنا فارجعنا إلى الدنيا، نعمل صالحا نقول لا إله إلا الله، إنا موقنون قال ابن عباس: اتقوا ذلك اليوم ما كانوا ينكرون في الدنيا.
ثم أخبر أنه إنما يؤمن من قدر الله له الإيمان، فقال: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13] قال ابن عباس: رشدها وبيانها.
وهذا كقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ} [يونس: 99] وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام: 35] .
{وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13] يعني: كفار الفريقين، قال ابن عباس: يقول: هذا قضائي وقدري في ملكي وربوبيتي.
والقول الذي وجب من الله بملء جهنم قوله لإبليس: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85] .
733 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّجَّارُ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ أَيُّوبَ اللَّخْمِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ زِيَادٍ الأَبْزَارِيُّ، نا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ النَّرْسِيُّ، نا(3/451)
أَبُو عَاصِمٍ الْعَبَّادَانِيُّ، نا الْفَضْلُ بْنُ عِيسَى الرَّقَاشِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: خَطَبَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: " لَيَعْتَذِرَنَّ اللَّهُ إِلَى آدَمَ ثَلاثَ مَعَاذِيرَ؛ يَقُولُ اللَّهِ: يَا آدَمُ، لَوْلا أَنِّي لَعَنْتُ الْكَذَّابِينَ وَأَبْغَضْتُ الْكَذِبَ وَالْخُلْفَ وَأُعَذِّبُ عَلَيْهِ لَرَحِمْتُ الْيَوْمَ وَلَدَكَ أَجْمَعِينَ مِنْ شِدَّةِ مَا أَعْدَدْتُ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَئِنْ كُذِّبَتْ رُسُلِي وَعُصِيَ أَمْرِي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَيَقُولُ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ: يَا آدَمُ، اعْلَمْ أَنِّي لا أُدْخِلُ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ النَّارَ وَلا أُعَذِّبُ مِنْهُمْ بِالنَّارِ أَحَدًا إِلا مَنْ قَدْ عَلِمْتُ بِعِلْمِي أَنِّي رَدَدْتُهُ إِلَى الدُّنْيَا لَعَادَ إِلَى شَرٍّ مِمَّا كَانَ فِيهِ وَلَمْ يَرْجِعْ وَلَمْ يَعْتِبْ، وَيَقُولُ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ: يَا آدَمُ، قَدْ جَعَلْتُكَ حَكَمًا بَيْنِي وَبَيْنَ ذُرِّيَّتِكَ، قُمْ عِنْدَ الْمِيزَانِ فَانْظُرْ مَا يُرْفَعُ إِلَيْكَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، فَمَنْ رَجَحَ خَيْرُهُ عَلَى شَرِّهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فَلَهُ الْجَنَّةِ حَتَّى تَعْلَمَ أَنِّي لا أُدْخِلُ مِنْهُمُ النَّارَ إِلا ظَالِمًا "
قوله: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ} [السجدة: 14] قال مقاتل: إذا دخلوا النار قالت لهم الخزنة: فذوقوا العذاب بما نسيتم.
{لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [السجدة: 14] بما تركتم الإيمان بيومكم هذا.
وقال السدي: بما تركتم أن تعملوا للقاء يومكم هذا.
إنا نسيناكم تركناكم في العذاب، {وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ} [السجدة: 14] الذي لا ينقطع، {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [السجدة: 14] من الكفر والتكذيب.
ثم ذكر المؤمنين، فقال: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ {15} تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ {16} فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {17} } [السجدة: 15-17] {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا} [السجدة: 15] وعظوا، {بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا} [السجدة: 15] سقطوا على وجوههم ساجدين، {وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [السجدة: 15] وقالوا: سبحان الله وبحمده.
{وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15] أن يعفروا وجوهم ساجدين.
قوله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16] ترتفع جنوبهم، يقال: جفا الشيء عن الشيء وتجافى عنه إذا لم يلزمه ونبا عنه، والمضاجع جمع المضجع، وهو الموضع الذي يضطجع عليه، يعني الفرش، وهم المتهجدون بالليل الذين يقومون للصلاة عن الفراش، وهو قول الحسن، ومجاهد، وعطاء، ورواية معاذ بن جبل، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
734 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْخَشَابُ، أنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَصْفَهَانِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ السَّرَّاجُ، نا قُتَيْبَةُ، نا جَرِيرٌ، عَنِ الْحَكَمِ، وَحَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَقَدْ أَصَابَنَا الْحَرُّ فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَقْرَبُهُمْ مِنِّي فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْبِئْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ، فَقَالَ: " لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ،(3/452)
وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ تَعْبُدُ اللَّهَ وَلا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْبَأْتُكَ بِأَبْوَابِ الْخَيْرِ، قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ، وَقِيَامُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ يَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ ثُمَّ قَرَأَ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} "
735 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا الْقَاسِمُ بْنُ غَانِمِ بْنِ حَمُّوَيْهِ الطَّوِيلُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ الْبُوشَنْجِيُّ، نا عِيسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، نا عَفِيفُ بْنُ سَالِمٍ الْمَوْصِلِيُّ، نا بَكْرُ بْنُ حُبَيْشٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلانِيِّ، عَنْ بِلالٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ دَأَبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَإِنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ قُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ، وَمَنْهَاةٌ عَنِ الإِثْمِ، وَتَكْفِيرٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَنِ الْجَسَدِ "، وَقَالَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَنَزَلَتْ فِينَا مَعَاشِرَ الأَنْصَارِ؛ كُنَّا نُصَلِّي الْمَغْرِبَ فَلا نَرْجِعُ إِلَى رِحَالِنَا حَتَّى نُصَلِّيَ الْعِشَاءَ مَعَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَازِمٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، قَالا: هِيَ مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَصَلاةِ الْعِشَاءِ صَلاةُ الأَوَّابِينَ، وَقَالَ آخَرُونَ: هُمُ الَّذِينَ لا يَنَامُونَ حَتَّى يُصَلُّوا الْعِشَاءَ الآخِرَةَ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ
وقوله: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16] قال ابن عباس: خوفا من النار وطمعا في الجنة.
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة: 16] قال الكلبي: في الواجب عليهم والتطوع.
قوله: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] أي: لا يعلم أحد لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ما خبئ لهؤلاء الذين ذكرهم مما تقر به أعينهم، قال ابن عباس في هذه الآية: هذا مما لا تفسير له، والأمر أعظم وأجل مما يعرف تفسيره.
736 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، أنا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَقُولُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} "
737 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَارِثِ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الأَصْبَهَانِيُّ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَقُولُ اللَّهِ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ "
738 - قَالَ: وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: بَلْهَ مَا أَطْلَعَكُمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} ، قَالَ: وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقْرَؤُهَا: مِنْ قُرَّاتِ أَعْيُنٍ،(3/453)
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ نَصْرٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، كِلاهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ
وقرأ حمزة ما أخفي بإسكان الياء، أي ما أخفي لهم، حجته قراءة عبد الله نخفي بالنون.
{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ {18} أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {19} وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ {20} وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ {21} وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ {22} } [السجدة: 18-22] قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا} [السجدة: 18] نزلت في عليٍّ بن أبي طالب رضي الله عنه، والوليد بن أبي معيط، وذلك أنه جرى بينهما تنازع وسباب، فقال له الوليد: اسكت، فإنك صبي وأنا والله أبسط منك لسانا.
فقال له علي: اسكت، فإنك فاسق تقول الكذب.
فأنزل الله تعالى هذه الآية تصديقا لما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
روى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، فقال: قال الوليد بن عقبة لعليّ: أنا أَحَدُّ منك سنانا، وأبسط منك لسانا، وأملأ للكتيبة منك.
فقال له عليٌّ: اسكت، فإنما أنت فاسق.
فنزلت {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا} [السجدة: 18] قال: يعني بالمؤمن علي رضي الله عنه، وبالفاسق الوليد بن عقبة.
وقوله: لا يستوون قال الزجاج: معنى الاثنين جماعة لذلك، قال: لا يستوون.
قال قتادة: لا والله ما استووا في الدنيا ولا عند الموت ولا في الآخرة.
ثم أخبر عن منازل الفريقين، فقال: {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى} [السجدة: 19] الذي يأوي إليه المؤمنون، نزلا أي: معدة لهم، وقد سبق تفسيره.
{بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {19} وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا} [السجدة: 19-20] مفسرة في { [الحج.
] وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى} [سورة السجدة: 21] قال مقاتل: يعني ما ابتلوا به من الجوع سبع سنين.
وقال ابن مسعود: يعني القتل ببدر.
وهو قول قتادة، والسدي.
{دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ} [السجدة: 21] يعني: عذاب الآخرة، لعلهم يرجعون إلى التوحيد والإيمان، يعني: من بقي منهم بعد بدر وبعد القحط.
ومن أظلم تقدم تفسيره في { [الكهف.
] مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [سورة السجدة: 22] يعني: الذين قتلوا ببدر وعجلت أرواحهم إلى النار.(3/454)
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ {23} وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ {24} إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ {25} } [السجدة: 23-25] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [السجدة: 23] يعني التوراة، {فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} [السجدة: 23] قال المفسرون: وعد محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سيلقى موسى قبل أن يموت، ثم لقيه في السماء أو في بيت المقدس حين أسري به، وهذا قول مجاهد، والكلبي، والسدي.
وجعلناه يعني الكتاب، وهو التوراة، {هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [السجدة: 23] من الضلالة.
وجعلنا منهم من بني إسرائيل، أئمة قادة في الخير، يهدون بأمرنا يدعون الناس إلى طاعة الله بأمر الله، يعني الأنبياء الذين كانوا فيهم.
وقال قتادة: هم غير الأنبياء.
لما صبروا على دينهم وعلى البلاء من عدوهم بمصر، وقرئ لما صبروا أي لصبرهم، {وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] أنها من الله.
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ} [السجدة: 25] يقضي ويحكم، بينهم يعني: الذين كذبوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بني إسرائيل، {يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [السجدة: 25] من الدين، لأنهم اختلفوا، فآمن بعضهم وكفر الآخرون.
ثم خوف كفار مكة، فقال: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ {26} أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ {27} وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {28} قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ {29} فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ {30} } [السجدة: 26-30] {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا} [السجدة: 26] الآية مفسرة في { [طه.
ثم وعظهم ليحذروا، فقال:] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ} [سورة السجدة: 27] يعني: المطر والسيل، {إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ} [السجدة: 27] وهي التي لا تنبت في الشتاء، حتى إذا جاء الماء أنبتت ما يأكله الناس والأنعام، وهو قوله: {فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ} [السجدة: 27] الآية.
ويقولون يعني: كفار مكة، {مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [السجدة: 28] أي: والقضاء بين الخلق، وهو يوم البعث، يقضي الله فيه بين المؤمنين والكافرين.
فقال الله: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ} [السجدة: 29] لا ينفع الإيمان يوم القضاء بين الخلق، {وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} [السجدة: 29] لا يؤخر العذاب عنهم ولا يمهلون لمعذرة أو توبة.
739 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَبْدَانَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّفَّارُ، نا أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ اللَّبَّادُ، نا عَمْرُو بْنُ طَلْحَةَ، نا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {مَتَى هَذَا(3/455)
الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {28} قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ} قَالَ: يَوْمَ بَدْرٍ فُتِحَ لِلنَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَنْفَعِ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ فَأَعْرَضَ عَنْهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَسَخَتْهُ آيَةُ السَّيْفِ
وانتظر موعدي لك، يعني نصره على أعدائه، إنهم منتظرون بك حوادث الأزمان من موت أو قتل فيستريحوا منك.(3/456)
سورة الأحزاب
مدنية وآياتها ثلاث وسبعون.
740 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الأَحْزَابِ وَعَلَمَّهَا أَهْلَهُ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ أُعْطِيَ الأَمَانَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ»
{يَأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا {1} وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا {2} وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا {3} } [الأحزاب: 1-3] بسم الله الرحمن الرحيم قوله: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 1] اثبت على تقوى الله، ودم عليه، {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} [الأحزاب: 1] يعني: أبا سفيان، وعكرمة، وأبا الأعور السلمي، وذلك أنهم قالوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارفض ذكر آلهتنا وقل إن لها شفاعة لمن عبدها.
والمنافقين عبد الله بن أُبَيّ، وعبد الله بن سعد بن أَبِي السَّرْح.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا} [الأحزاب: 1] بما يكون قبل كونه، حكيما فيما يخلقه.
{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الأحزاب: 2] يعني القرآن، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [الأحزاب: 2] بالياء الكافرين والمنافقين، وبالتاء على المخاطبين.
{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا} [الأحزاب: 3] .
{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ {4} ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا {5} } [الأحزاب: 4-5] {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4] نزلت في جميل بن معمر الفهري، وكان وقادا ظريفا، حكيما لبيبا حافظا لما يسمع، وكان يقول: إن في جوفي لقلبين أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد.(3/457)
فكانت قريش تسميه ذا القلبين، وكذبه الله تعالى في ذلك، وأخبر أنه ما خلق لأحد قلبين، {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} [الأحزاب: 4] يقال: ظاهر من امرأته وتظاهر وتظهر، وهو أن يقول لها: أنت عليّ كظهر أمي، وكانت العرب تطلق نساءها في الجاهلية بهذا اللفظ، فلما جاء الإسلام نُهُوا عنه، وأوجبت الكفارة على من ظاهر من امرأته في { [المجادلة، فمن قرأ تظهرون بفتح التاء وتشديد الظاء أراد تتظهرون، فأدغم التاء في الظاء، وقرأ عاصم تظاهرون من المظاهرة، وقرأ حمزة تظاهرون فحذف تاء تتفاعلون، وأدغم ابن عامر هذه التاء التي حذفها حمزة وقرأ بفتح وتشديد الظاء، ثم أعلم الله أن الزوجة لا تكون أُمًا، فقال:] وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} [سورة الأحزاب: 4] أي: ما جعل نساءكم اللاتي تقولون هُنَّ علينا كظهور أمهاتنا في التحريم كما تقولون، {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب: 4] الأدعياء جمع الدَّعِيُّ، وهو الذي يدعى ابنا لغير أبيه، نزلت في زيد بن حارثة، تبناه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كالعبادة التي كانت للعرب في الجاهلية، فلما تزوج زينب بنت جحش التي كانت امرأة زيد، قلت اليهود والمنافقون: تزوج محمد امرأة ابنه.
فأنزل الله هذه الآية إبطالا لما قالوا، تكذيبا لهم أنه ابنه، وإخبارا أن الدعي لا يكون ابنا، وقوله: {ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} [الأحزاب: 4] أي: ادعاءكم نسب من لا حقيقة لنسبه، قول بالفم لا حقيقة له، {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} [الأحزاب: 4] وهو أنه ما جعل الدعي ابنا، {وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4] يدل على طريق الحق.
{ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] انسبوهم إلى آبائهم الذين ولدوهم، هو أقسط أعدل، عند الله.
741 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ نُعَيْمٍ الإِشْكَابِيُّ، أنا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الشَّيْبَانِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، نا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا كُنَّا نَدْعُو زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ إِلا زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، عَلَيْهِ السَّلامُ، حَتَّى نَزَلَ فِي الْقُرْآنِ {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ أَسَدٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُخْتَارٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ
{فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [الأحزاب: 5] أي: فهم إخوانكم، في الدين يعني: من أسلم منهم، ومواليكم وبنو عمكم، قال الزجاج: ويجوز أن يكون ومواليكم وأولياؤكم في الدين.
{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5] قال قتادة: ولو دعوت رجلا لغير أبيه وأنت ترى أنه أبوه، لم يكن عليك بأس، ولكن ما تعمدت قلوبكم ولكن الإثم من الذي تعمدت قلوبكم من دعائهم إلى غير آبائهم، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} [الأحزاب: 5] لما كان من قولكم قبل النهي، رحيما لكم.
قوله: {(3/458)
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الأحزاب: 6] {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] أي: إذا حكم عليهم بشيء فقد نفذ حكمه ووجبت طاعته عليهم، قال ابن عباس: إذا دعاهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى شيء ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعة النبي أولى من طاعة أنفسهم.
وأزواجه أمهاتهم في حرمة نكاحهن، فلا يحل لأحد التزوج بواحدة منهن، كما لا يحل التزوج بالأم، وهذه الأمومة تعود إلى حرمة نكاحهن لا غير، لأنه لم يثبت شيء من أحكام الأمومة بين المؤمنين وبينهن سوى هذه الواحدة، ألا ترى أنه لا يحل رؤيتهن، ولا يرثن المؤمنين ولا يرثونهن، ولهذا قال الشافعي رضي الله عنه: وأزواجه أمهاتهم في معنى دون معنى، وهو أنهن محرمات على التأبيد، وما كن محارم في الخلوة والمسافرة.
وهذا معنى ما روى مسروق، عن عائشة، رضي الله عنها، أن امرأة قالت لها: يا أمه.
فقالت: لست لك بأم، إنما أنا أم رجالكم.
فبان بهذا أن معنى هذه الأمومة تحريم نكاحهن فقط، وعلى هذا لا يجوز أن يقال لبناتهن هن أخوات المؤمنين، ولا لإخوانهن أخوال المؤمنين وخالات المؤمنين، ولهذا قال الشافعي رضي الله عنه: تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه، وهي أخت أم المؤمنين، ولم يقل: وهي خالة المؤمنين.
وقوله: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6] مفسر في { [الأنفال إلى قوله:] مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} [سورة الأحزاب: 6] يعني أن ذوي القرابات بعضهم أولى بميراث بعض من أن يرثوا بالهجرة والإيمان كما كانوا يفعلون قبل النسخ، {إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 6] استثناء ليس من الأول، المعنى: لكن فعلكم إلى أوليائكم معروفا جائز، وذلك أن الله لما نسخ التوارث بالحلف والهجرة أباح الوصية للمعاقدين، فيوصي لمن يتولاه بما أحب من ثلثه، فمعنى المعروف ههنا الوصية، وقوله: كان ذلك يعني نسخ الميراث بالهجرة ورده إلى ذوي الأرحام من القرابات، {فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الأحزاب: 6] يريد في اللوح المحفوظ مكتوبا.
قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا {7} لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا {8} } [الأحزاب: 7-8] {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} [الأحزاب: 7] قال قتادة: أخذ الله تعالى الميثاق على النبيين خصوصا أن يصدق بعضهم بعضا، ويتبع بعضهم بعضا.
وقال مقاتل: أخذ ميثاقهم على أن يعبدوا الله، ويدعوا إلى عبادة الله، وأن يصدق بعضهم بعضا، وأن ينصحوا لقومهم.
وقوله: ومنك أخرجه، والأربعة الذين ذكرهم من جملة النبيين تخصيصا بالذكر لأنهم أصحاب الكتب والشرائع، وقد ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معهم لما:
742 - أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ الْبَغْدَادِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ، نا أَبُو عُتْبَةَ أَحْمَدُ بْنُ الْفَرَجِ، نا بَقِيَّةُ بْنُ(3/459)
الْوَلِيدِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِهِ {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} قَالَ: «كُنْتُ أَوَّلَ النَّبِيِّينَ فِي الْخَلْقِ، وَآخِرَهُمْ فِي الْبَعْثِ»
قال الزجاج: وأخذ الميثاق حيث أخرجوا من صلب آدم كالذر، {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب: 7] عهدا شديدا على الوفاء بما حملوا، وذلك العهد الشديد هو اليمين بالله عز وجل.
{لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب: 8] يقول: أخذنا ميثاقهم لكي يسأل الصادقين، يعني النبيين، هل بلغوا الرسالة، والمعنى: ليسأل المبلغين من الرسل عن صدقهم في تبليغهم يوم القيامة، وتأويل مسألة الرسل، والله يعلم إنهم لصادقون، التبكيت للذين كفروا بهم، وتم الكلام، ثم أخبر عما أعد للكفار، فقال: {وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ} [الأحزاب: 8] بالرسل، عذابا أليما.
قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا {9} إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا {10} } [الأحزاب: 9-10] {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [الأحزاب: 9] يذكرهم الله إنعامه عليهم في دفع الأحزاب عنهم من غير قتال، {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} [الأحزاب: 9] وهم الذين تحزبوا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيام الخندق: عيينة بن حصن، وأبو سفيان ومن معهما من المشركين، وقريظة، {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا} [الأحزاب: 9] وهي الصبا، أرسلت على الأحزاب حتى أكفأت قدورهم، ونزعت فساطيطهم، {وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9] يعني الملائكة.
743 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّمْجَارِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَاسِيٍّ، نا أَبُو مُسْلِمٍ الْكَجِّيُّ، نا أَبُو عُمَرَ الْحَوْضِيُّ، نا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَامِرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ: قَالَ شَابٌّ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، هَلْ رَأَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِي وَاللَّهِ، لَقَدْ رَأَيْتُهُ، قَالَ: وَاللَّهِ، لَوْ رَأَيْنَاهُ لَحَمَلْنَاهُ عَلَى رِقَابِنَا، وَمَا تَرَكْنَاهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ، فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: يَابْنَ أَخِي، أَفَلا أُحَدِّثُكَ عَنِّي وَعَنْهُ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: وَاللَّهِ، لَوْ رَأَيْتَنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَبِنَا مِنَ الْجَهْدِ وَالْجُوعِ وَالْخَوْفِ مَا لا يَعْلَمُهُ إِلا اللَّهُ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ قَالَ: " أَلا رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ، جَعَلَهُ اللَّهُ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ، فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنَّا أَحَدٌ مِمَّا بِنَا مِنَ الْخَوْفِ وَالْجَهْدِ وَالْجُوعِ، ثُمَّ صَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: أَلا رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ، جَعَلَهُ اللَّهُ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ، قَالَ حُذَيْفَةُ: فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنَّا أَحَدٌ مِمَّا بِنَا مِنَ الْجَهْدِ وَالْخَوْفِ وَالْجُوعِ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ أَحَدٌ دَعَانِي فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا مِنْ إِجَابَتِهِ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ، قَالَ: اذْهَبْ فَجِئْنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ وَلا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَرْجِعَ، قَالَ: فَأَتَيْتُ الْقَوْمَ فَإِذَا رِيحُ اللَّهِ وَجُنُودُهُ تَفْعَلُ بِهِمْ مَا تَفْعَلُ مَا يَسْتَمْسِكُ لَهُمْ بِنَاءٌ وَلا تَثْبُتُ لَهُمْ نَارٌ وَلا تَطْمَئِنُّ لَهُمْ قِدْرٌ، فَإِنِّي لَكَذِلَك إِذْ خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ مِنْ رَحْلِهِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، لِيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ جَلِيسُهُ؟ قَالَ أَبُو عُمَرَ: يُخَوِّفُهُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِم عُيُونٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ حُذَيْفَةُ: فَبَدَأْتُ بِالَّذِي إِلَى جَنْبِي، فَقُلْتُ: مَنْ(3/460)
أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا فُلانٌ، ثُمَّ دَعَا أَبُو سُفْيَانَ بِرَاحِلَتِهِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَاللَّهِ مَا أَنْتُمْ بِدَارِ مَقَامٍ، لَقَدْ هَلَكَ الْخُفُّ وَالْحَافِرُ، وَأخْلَفَتْنَا بَنُو قُرَيْظَةَ، وَهَذِهِ الرِّيحُ لا يَسْتَمْسِكُ لَنَا مَعَهَا شَيْءٌ، وَلا تَثْبُتُ لَنَا نَارٌ، وَلا تَطْمَئِنُّ قِدْرٌ، ثُمَّ عَجَّلَ وَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ، وَإِنَّهَا لَمَعْقُولَةٌ، مَا حَلَّ عِقَالَهَا إِلا بَعْدَ مَا رَكِبَهَا، قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَوْ رَمَيْتَ عَدُوَّ اللَّهِ فَقَتَلْتَهُ كُنْتُ قَدْ صَنَعْتُ شَيْئًا، فَوَتَرْتُ قَوْسِي ثُمَّ وَضَعْتُ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَرْمِيَهُ فَأَقْتُلَهُ فَذَكَرْتُ قَوْلَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَرْجِعَ، قَالَ: فَحَطَطْتُ الْقَوْسَ ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يُصَلِّي، فَلَمَّا سَمِعَ حِسِّي فَرَّجَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ فَدَخْلُت تَحْتَهُ وَأَرْسَلَ عَلَيَّ طَائِفَةٌ مِنْ مِرْطِهِ فَرَكَعَ وَسَجَدَ، ثُمَّ قَالَ: مَا الْخَبَرُ؟ فَأَخْبَرْتُهُ ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، عَنْ آلِ الأَحْزَابِ مِنْ أَيْنَ جَاءُوا
فقال: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأحزاب: 10] من فوق الوادي من قبل المشرق، قريظة، والنضير، وغطفان.
{وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} [الأحزاب: 10] من قبل المغرب من ناحية مكة، أبو سفيان في قريش ومن تبعه، {وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ} [الأحزاب: 10] مالت عن كل شيء فلم تنظر إلا إلى عدوها مقبلا من كل جانب، {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10] الحنجرة جوف الحلقوم، قال قتادة: شخصت عن مكانها، فلولا أنه حنتق الحلقوم عنها أن تخرج لخرجت، والمعنى ما ذكره الفراء: وهو أنهم جنود، جزع أكثرهم، وسبيل الجبان إذا اشتد خوفه أن تنتفخ رئته، فإذا انتفخت الرئة رفعت القلوب إلى الحنجرة، ولهذا يقال للجبان انتفخ سحره.
قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: قلت يوم الخندق: يا رسول الله، هل من شيء نقوله فقد بلغت القلوب الحناجر؟ قال: " قولوا: اللهم استر عوارتنا، وآمن روعاتنا ".
قال: فقلناها فضرب الله وجوه أعدائه بالريح وهزموا.
{وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب: 10] أي: اختلفت الظنون، فظن بعضكم بالله النصر ورجاء الظفر، وبعضكم أيس وقنط.
قال الحسن: ظنونا مختلفة، ظن المنافقون أنه يستأصل محمد عليه السلام، وظن المؤمنون أنه ينصر.
{هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا {11} وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا {12} وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا {13} وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلا يَسِيرًا {14} وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا {15} قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا {16}(3/461)
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا {17} } [الأحزاب: 11-17] هنالك عند ذلك وفي تلك الحال، ابتلي المؤمنون اختبروا ليتبين المخلص من المنافق، {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا} [الأحزاب: 11] أزعجوا وحركوا إزعاجا شديدا، وذلك أن الخائف يكون قلقا مضطربا لا يستقر على مكانه.
{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا} [الأحزاب: 12] قال ابن عباس: إن المنافقين قالوا يوم الخندق: إن محمدا يعدنا أن نفتح مدائن كسرى وقيصر ونحن لا نأمن أن نذهب إلى الخلاء.
و {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا} [الأحزاب: 12] وقال قتادة: قال أناس من المنافقين: يعدنا محمد أن يفتح قصور الشام وفارس، وأحدنا لا يستطيع أن يجاوز رحله.
وقال مقاتل: قالوا: يعدنا محمد اليمن وفارس والروم، ولا نستطيع أن نبرز إلى الخلاء، هذا والله الغرور.
{وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} [الأحزاب: 13] قال مقاتل: هم بنو سالم من المنافقين.
وقال السدي: يعني عبد الله بن أبي وأصحابه.
{يَا أَهْلَ يَثْرِبَ} [الأحزاب: 13] قال أبو عبيدة: يثرب اسم أرض ومدينة الرسول عليه السلام في ناحية منها.
{لا مُقَامَ لَكُمْ} [الأحزاب: 13] لا مكان لكم تقيمون فيه، وقرأ عاصم بضم الميم، والمعنى: إقامة لكم، يقال: أقمت إقامة ومقاما.
فارجعوا إلى المدينة، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمين خرجوا عام الخندق حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع، والخندق بينهم وبين القوم، فقال هؤلاء المنافقون الذين ثبطوا الناس عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليس لكم ههنا موضع إقامة لكثرة العدو وغلبة الأحزاب.
{وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ} [الأحزاب: 13] في الرجوع إلى المدينة، وهم بنو حارثة، وبنو سلمة، {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب: 13] ليست بحريزة، قال مجاهد، ومقاتل، والحسن: قالوا بيوتنا ضائعة نخشى عليها السراق.
وقال قتادة: قالوا إن بيوتنا مما يلي العدو ولا نأمن على أهلينا، فكذبهم الله، وأعلم أن قصدهم الهرب والفرار، فقال تعالى: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا} [الأحزاب: 13] ما يريدون إلا فرارا من القتال ومضرة للمؤمنين، قال الزجاج: يقال: عور المكان يعور عورا وعورة وهو عو وبيوت عورة وعورة، وهي مصدر.
قال الله تعالى: ولو دخلت المدينة، عليهم يعني هؤلاء الذين يريدون قتالهم وهم الأحزاب من أقطارها نواحيها، {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا} [الأحزاب: 14] يعني الشرك في قول الجميع، قال ابن عباس، ومقاتل: يقول الله تعالى: لو أن الأحزاب دخلوا المدينة ثم أمروهم بالشرك لأشركوا، وهو قوله: لآتوها أي: لأعطوهم ما سألوا، وقرأ الحجازيون لأتوها بالقصر، أي لفعلوها، من(3/462)
قولك: أتيت الخير، أي فعلته.
{وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلا يَسِيرًا} [الأحزاب: 14] قال قتادة: وما احتسبوا عن الإجابة إلى الكفر إلا قليلا.
ثم ذكرهم الله تعالى عهدهم مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالثبات في المواطن، فقال: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ} [الأحزاب: 15] من قبل الخندق، {لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ} [الأحزاب: 15] من قبل الخندق، لا ينهزمون ولا يولون العدو ظهورهم، {وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا} [الأحزاب: 15] يسألون عنه في الآخرة.
ثم أخبر أن الفرار لا يزيدهم في آجالهم، فقال: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} [الأحزاب: 16] قال ابن عباس: لأن من حضر أجله مات أو قتل.
{وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا} [الأحزاب: 16] لا تمتعون بعد الفرار في الدنيا إلا مدة آجالكم.
ثم أخبر أن ما قدر عليهم وأراده بهم لا يدفع عنهم بقوله: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ} [الأحزاب: 17] يجيركم منه، {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا} [الأحزاب: 17] هلاكا وهزيمة، {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} [الأحزاب: 17] خيرا، وهو النصر، وهذا كله أمر للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يخاطبهم بهذه الأشياء، ثم أخبر الله أنه لا قريب لهم ينفعهم، ولا ناصر ينصرهم من دون الله، يقول: {وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [الأحزاب: 17] .
قوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلا {18} أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا {19} } [الأحزاب: 18-19] {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} [الأحزاب: 18] يقال: عاقه واعتاقه وعوقه إذا صرفه عن الوجه الذي يريده.
قال المفسرون: هؤلاء قوم من المنافقين كانوا يثبطون أنصار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك أنهم قالوا لهم: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس، ولو كانوا لحما لالتهمهم أبو سفيان وحزبه، فخلوهم وتعالوا إلينا.
وهو قوله: {وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ} [الأحزاب: 18] لا يحضرون القتال في سبيل الله، إلا قليلا إلا رياء وسمعة من غير احتساب، ولو كان ذلك القليل لله لكان كثيرا.
أشحة عليكم بخلاء بالنفقة في سبيل الله والنصرة، والمعنى: لا ينصرونكم، ثم أخبر عن جبنهم، فقال: {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ} [الأحزاب: 19] أي: كعين الذي يغشى عليه من الموت، وهو الذي قرب حاله من الموت وغشيته أسبابه، فيذهب ويذهب عقله، ويشخص بصره، فلا يطرف، كذلك هؤلاء تشخص أبصارهم وتحار أعينهم لما يلحقهم من الخوف، ويقال للميت إذا شخص بصره: دارت عينه ودارت حماليق عينه، {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ} [الأحزاب: 19] وجاء الأمن والغنيمة، {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب: 19] قال الفراء: آذوكم بالكلام في الأمن بألسنة سليطة ذربة، يقال: سلق فلانا بلسانه إذا أغلظ له في القول مجاهرا.
قال قتادة: بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسمة الغنيمة، يقولون: أعطونا أعطونا فلستم بأحق بها منا، فأما عند البأس فأجبن قوم وأخذله للحق، وأما عند القسمة فأشح قوم، وهو قوله: {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} [الأحزاب: 19] بخلاء بالغنيمة، يشاحون المؤمنين عند القسمة.
ثم أخبر أنهم غير(3/463)
مؤمنين، فقال: {أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا} [الأحزاب: 19] أي: هم أظهروا الإيمان فقد نافقوا ليسوا بمؤمنين، {فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} [الأحزاب: 19] قال مقاتل: أبطل الله جهادهم لأنه لم يكن في إيمان، وكان ذلك الإحباط، {عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب: 19] .
ثم أخبر بما دل على جبنهم، فقال: {يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلا قَلِيلا} [الأحزاب: 20] {يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا} [الأحزاب: 20] يحسب المنافقون أن الأحزاب معسكرون مقيمون من الخوف الذي نزل بهم، يحسبون أنهم لم يذهبوا إلى مكة، {وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ} [الأحزاب: 20] يرجعون إليهم للقتال، {يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ} [الأحزاب: 20] يتمنوا لو كان في بادية الأعراب خارجون إليهم من الرهبة، والبادون خلاف الحاضرين، يقال: بدا يبدو بداوة وبداوة إذا خرج إلى البادية.
{يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ} [الأحزاب: 20] أي: ودوا لو أنهم بالبعد منكم يسألون عن أخباركم، يقولون: ما فعل محمد وأصحابه؟ فيعرفون حالكم بالاستخبار، لا بالمشاهدة.
{وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلا قَلِيلا} [الأحزاب: 20] قال الكلبي: إلا رميا بالحجارة.
وقال مقاتل: إلا رياء من غير احتساب.
ثم عاب من كان بالمدينة بقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا {21} وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا {22} } [الأحزاب: 21-22] {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] قال المفسرون: قدوة صالحة.
ويقال: لي في فلان أسوة حسنة.
يقول: لكم برسول الله اقتداء لو اقتديتم به في تصرفه والصبر معه في مواطن القتال كما فعل هو يوم أحد، إذ كسرت رباعيته، وشج حاجبه، وقتل عمه فواساكم مع ذلك بنفسه، فهلا فعلتم مثل ما فعل هو.
وقوله: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ} [الأحزاب: 21] بدل من قوله: لكم وهو تخصيص بعد التعميم للمؤمنين، يعني أن الأسوة برسول الله إنما كانت لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، قال ابن عباس: يرجو ما عند الله من الثواب والنعيم.
وقال مقاتل: يخشى الله ويخشى البعث الذي فيه جزاء الأعمال.
وهو قوله: {وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] أي: ذكرا كثيرا، وذلك إن ذاكر الله متبع لأمره بخلاف الغافل عن ذكره.
ثم وصف حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب بقوله: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب: 22] وذلك أن الله تعالى كان قد وعدهم في { [البقرة بقوله:] أَمْ(3/464)
حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} [سورة آل عمران: 142] إلى قوله تعالى: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214] ما سيكون من الشدة التي تلحقهم من عدوهم، فلما رأى المؤمنون الأحزاب وما أصابهم من الشدة والبلاء، {قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا} [الأحزاب: 22] الله ورسوله، {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا} [الأحزاب: 22] تصديقا بوعد الله وتسليما لأمره.
قوله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا {23} لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا {24} } [الأحزاب: 23-24] {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] يعني ليلة العقبة حين عاهدوا على الإسلام فأقاموا عليه بخلاف من كذب في عهده وخان، وهم المنافقون، {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} [الأحزاب: 23] أي: مات أو قتل في سبيل الله فأدرك ما تمنى، فذلك قضاء النحب، قال محمد بن إسحاق: فرغ من عمله ورجع إلى الله يعني من استشهد يوم أحد.
وقال الحسن: قضى أجله على الوفاء والصدق.
قال ابن قتيبة: نحبه أي قتل وأصل النحب النذر، كان قوم نذروا: إن يلقوا العدو أن يقاتلوا حين يقتلوا، أو يفتح الله، فقتلوا، فقيل: فلان قد قضى نحبه إذا قتل.
744 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أنا الْحَاطِبُ بْنُ أَحْمَدَ، نا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُنِيبٍ، نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أنا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عَمَّهُ غَابَ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ، فَقَالَ: غِبْتَ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ الْمُشْرِكِينَ، لَئِنْ أَرَانِي اللَّهُ قِتَالا لِلْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاءِ؛ يَعْنِي: الْمُسْلِمِينَ، وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ هَؤُلاءِ؛ يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَلَقِيَهُ سَعْدٌ دُونَ أَحَدٍ، فَقَالَ: أَنَا مَعَكَ، قَالَ سَعْدٌ: فَلَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَصْنَعَ مَا صَنَعَ فَوَجَدَ فِيهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ مَا بَيْنَ ضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ، وَطَعْنَةٍ بِرُمْحٍ، وَرَمْيَةٍ بِسَهْمٍ، كُنَّا نَقُولُ: فِيهِ وَفِي أَصْحَابِهِ نَزَلَتْ: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ الْخُزَاعِيِّ، عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى، عَنْ حُمَيْدٍ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هَذَا فِي حَمْزَةَ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ قُتِلُوا بِأُحُدٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَمَنْ قَضَى نَحْبَهُ: حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَمَنْ قُتِلَ مَعَهُ، وَأَنَسُ بْنُ النَّضْرِ وَأَصْحَابُهُ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} ، قَالَ: مَنِ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمَ أُحُدٍ
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب: 23] ما وعد الله من نصرة أو شهادة على ما مضى عليه أصحابه، {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا} [الأحزاب: 23] وما غيروا العهد الذي عاهدوا ربهم كما غير المنافقون.
{لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} [الأحزاب: 24] أي: صدق المؤمنون في عهودهم ليجزيهم بصدقهم، ويعذب المنافقين بنفس العهد، إن(3/465)
شاء قال السدي: يميتهم على النفاق إن شاء، فيوجب لهم العذاب.
فمعنى شرط المشيئة في عذاب المنافقين إماتتهم على النفاق إن شاء ثم يعذبهم، {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب: 24] فيغفر لهم، ليس أنه يجوز أن لا يعذبهم إذا ماتوا على النفاق، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا} [الأحزاب: 24] لمن تاب، رحيما به.
قوله: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا {25} وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا {26} وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا {27} } [الأحزاب: 25-27] {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأحزاب: 25] أي: صدهم ومنعهم عن الظفر بالمسلمين، يعني الأحزاب، بغيظهم لم يشف صدورهم بنيل ما أرادوا ردهم وفيهم غيظهم على المسلمين، {لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} [الأحزاب: 25] ما كانوا يريدون من الظفر والمال، {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب: 25] بالريح والملائكة التي أرسلت عليهم، {وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا} [الأحزاب: 25] في ملكه عزيزا في قدرته.
ثم ذكر ما فعل اليهود بني قريظة بقوله: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ} [الأحزاب: 26] أعانوا الأحزاب، يعني قريظة، وذلك أنهم نقضوا العهد وصاروا يدا واحدة مع المشركين على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين، فلما هزم الله المشركين بالريح والملائكة أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمسير إلى قريظة فسار إليهم وحاصرهم عشرين ليلة، ثم نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فحكم فيهم سعد بقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم، فذلك قوله: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} [الأحزاب: 26] .
745 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ يَحْيَى، نا بِشْرُ بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا رَجَعَ مِنْ طَلَبِ الأَحْزَابِ، وَوَضَعَ عَنْهُ اللامَةَ وَاغْتَسَلَ وَاسْتَجْمَرَ؛ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: عَذِيرَكَ مِنْ مُحَارِبٍ، أَلا أَرَاكَ قَدْ وَضَعْتَ اللامَةَ، وَمَا وَضَعْنَاهَا بَعْدُ، فَوَثَبَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَزَعًا، فَعَزَمَ عَلَى النَّاسِ أَنْ يُصَلُّوا الْعَصْرَ حَتَّى يَأْتُوا بَنِي قُرَيْظَةَ، فَلَبِسَ النَّاسُ السِّلاحَ، فَلَمْ يَأْتُوا بَنِي قُرَيْظَةَ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَاخْتَصَمَ النَّاسُ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَزَمَ عَلَيْنَا أَنْ لا نُصَلِّيَ حَتَّى نَأْتِيَ قُرَيْظَةَ، فَإِنَّمَا نَحْنُ فِي عَزْمَةِ رَسُولِ اللَّهِ، فَلَيْسَ عَلَيْنَا إِثْمٌ، وَصَلَّى طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ احْتِسَابًا، وَتَرَكَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ الصَّلاةَ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَصَلُّوهَا حَتَّى جَاءُوا بَنِي قُرَيْظَةَ احْتِسَابًا، فَلَمْ يُعَنِّفْ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ
وقوله: من صياصيهم قال ابن عباس، وقتادة، ومقاتل: من حصونهم.
{وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ(3/466)
الرُّعْبَ} [الأحزاب: 26] ألقى في قلوبهم الخوف، فريقا تقتلون يعني المقاتلة، وتأسرون فريقا يعني الذراري.
{وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [الأحزاب: 27] يعني: عقارهم، ونخلهم، ومنازلهم، وأموالهم من الذهب والفضة والحلي والعبيد والإماء، {وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب: 27] بأقدامكم بعد، وهي مما سيفتحها الله عليكم، يعني خيبر، فتحها الله عليكم بعد بني قريظة، وقال قتادة: هي مكة.
وقال الحسن: هي فارس والروم.
وقال عكرمة: هي كل أرض يظهر عليها المسلمون إلى يوم القيامة.
{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} [الأحزاب: 27] من القرى أن يفتحها على المسلمين، قديرا.
{يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا {28} وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا {29} } [الأحزاب: 28-29] قوله تعالى: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 28] قال المفسرون: إن أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سألنه شيئا من أعراض الدنيا، وطلبن منه زيادة في النفقة، وآذينه بغيرة بعضهن على بعض، فآلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهن شهرا، وأنزل آية التخيير، وهي قوله تعالى: {قُلْ لأَزْوَاجِكَ} [الأحزاب: 28] وكن يومئذ تسعا: عائشة رضي الله عنها، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة، وأم سلمة، وهؤلاء من قريش، وصفية الخيبرية، وميمونة الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية.
746 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُطَّوِّعِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْحَافِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاذٍ الأَهْوَازِيُّ، نا ابْنُ حُمَيْدٍ، نا جَرِيرٌ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَالِسًا مَعَ حَفْصَةَ فَتَشَاجَرَا بَيْنَهُمَا، فَقَالَ لَهَا: هَلْ لَكِ أَنْ أَجْعَلَ بَيْنِي وَبَيْنَكِ رَجُلا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ لَهَا: فَأَبُوكِ إِذًا، فَأَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ، فَلَمَّا أَنْ دَخَلَ عَلَيْهَا؛ قَالَ لَهَا: تَكَلَّمِي، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَكَلَّمْ وَلا تَقُلْ إِلا حَقًّا، فَرَجَّعَ عُمَرُ يَدَهُ فَوَجَأَ وَجْهَهَا، ثُمَّ رَجَّعَ يَدَهُ فَوَجَأَ وَجْهَهَا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُفَّ، فَقَالَ عُمَرُ، يَا عَدُوَّةَ اللَّهِ، النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا يَقُولُ إِلا حَقًّا، وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَوْلا مَجْلِسُهُ مَا رَفَعْتُ يَدِي حَتَّى تَمُوتِي فَقَامَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَعِدَ إِلَى غُرْفَةٍ فَمَكَثَ فِيهَا شَهْرًا لا يَقْرَبُ شَيْئًا مِنْ نِسَائِهِ، يَتَغَدَّى وَيَتَعَشَّى فِيهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَيْهِ قَوْلَهُ: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا إِلَى قَوْلِهِ: لَطِيفًا خَبِيرًا} فَنَزَلَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَرَضَهَا عَلَيْهِنَّ كُلِّهِنَّ، فَقُلْنَ: نَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَكَانَ آخِرُ مَنْ عَرَضَ عَلَيْهَا حَفْصَةَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَكَانُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ النَّارِ، وَاللَّهِ لا أَعُودُ إِلَى شَيْءٍ تَكْرَهُهُ أَبَدًا؛(3/467)
بَلْ أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَرَضِيَ عَنْهَا
وقوله: فتعالين أمتعكن يعني: متعة الطلاق، وقد ذكرناها في { [البقرة، وأسرحكن يعني الطلاق، سراحا جميلا من غير ضرار، قال الحسن، وقتادة: أمر الله رسوله أن يُخَيِّرَ أزواجه بين الدنيا والآخرة، والجنة والنار، فأنزل الله قوله:] إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [سورة الأحزاب: 28] الآية، وقوله: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ} [الأحزاب: 29] يعني الجنة، {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ} [الأحزاب: 29] يعني: اللاتي آثرن الآخرة، أجرا عظيما يعني الجنة، فلما نزلت آية التخيير بدأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعائشة وخيرها فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة، ثم فعل سائر أزواجه مثل ما فعلت هي، وقلن: ما لنا وللدنيا، إنما خلقت الدنيا دار فناء، والآخرة الباقية، والباقية أحب إلينا من الفانية.
747 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدَوَيْهِ الْهَرَوِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخُزَاعِيُّ، نا أَبُو الْيَمَانِ، أنا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أنا أَبُو سَلَمَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَاءَهَا حِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُخْبِرَ أَزْوَاجَهُ، قَالَتْ: فَبَدَأَ بِي، فَقَالَ: إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا وَلا عَلَيْكِ أَنْ لا تَسْتَعْجِلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ، قَالَتْ: وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا لَيَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ} إِلَى تَمَامِ الآيَتَيْنِ، فَقُلْتُ: أَيُّ هَاتَيْنِ أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ، فَإِنِّي اخْتَرْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ حَرْمَلَةَ بْنِ وَهْبٍ، عَن يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: فَلَمَّا اخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ شَكَرَهُنَّ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، فَقَصَرَ رَسُولَهُ عَلَيْهِنَّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ. . . .} الآيَةَ، وَرَفَعَ مَنْزِلَتَهُنَّ عَلَى سَائِرِ النِّسْوَةِ بِالتَّمْيِيزِ عَنْهُنَّ فِي الْعُقُوبَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَالأَجْرِ عَلَى الطَّاعَةِ
وهو قوله: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا {30} وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا {31} } [الأحزاب: 30-31] {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الأحزاب: 30] قال ابن عباس: يعني النشوز، وسوء الخلق.
{يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] يجعل عذاب جرمها في الآخرة كعذاب جرمين، والمعنى: زيد في عذابها ضعف كما زيد في ثوابها ضعف في قوله: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31] وإنما ضوعف عذابهن على الفاحشة لأنهن يشاهدن من الزاجر ما يردع عن مواقعة الذنوب ما لا يشاهد غيرهن، فإذا لم يمتنعن استحققن تضعيف العذاب، وقوله: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب: 30] قال مقاتل: كان عذابها هينا على الله.
{وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [الأحزاب: 31] يطع الله ورسوله، وتعمل صالحا وقرأ حمزة بالياء حمل على المعنى وترك لفظه من {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31] قال مقاتل: مكان كل حسنة ثبتت عشرون حسنة.
{وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب: 31] حسنا، وهو الجنة.
ثم أظهر فضيلتهن على سائر النساء بقوله: {(3/468)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا {32} وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا {33} وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا {34} } [الأحزاب: 32-34] {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: 32] قال الزجاج: لم يقل كواحدة نفي عام للمذكر والمؤنث والواحد والجماعة.
قال ابن عباس: يريد ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات، أنتن أكرم عليّ وأنا بكن أرحم، وثوابكن أعظم.
إن اتقيتن الله، وشرط عليهن بالتقوى بيانا أن فضيلتهن إنما تكون بالتقوى، لا باتصالهن بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب: 32] لا ترفقن بالقول ولا تلن الكلام، {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32] زنا وفجور، والمعنى: لا تقلن قولا يجد به منافق أو فاجر سبيلا إلى الطمع في موافقتكن به، والمرأة مندوبة إذا خاطبت الأجانب إلى الغلظة في المقالة، لأن ذلك أبعد من الطمع في الريبة، {وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 32] أي: ما يوجبه الدين والإسلام بغير خضوع فيه، بل بتصريح وبيان.
{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] يقال: وقر يقر وقارا إذا سكن، والأمر منه قر، وللنساء قرن، مثل عدن وزن، وقرأ عاصم بفتح القاف، وهو من قررت في المكان أقر كان الأصل أقرت، ثم حذفت العين لثقل التضعيف وألقيت حركتها على القاف كقوله: فظلتم قال أبو عبيدة: كان أشياخنا من أهل العربية يذكرون القراءة بالفتح، وذلك لأن قررت في المكان أقر لا يجوزه كثير من أهل العربية، والصحيح قررت أقر بالكسر، ومعناه: الأشرف لهن بالتوقر والسكون في بيوتهن وأن لا يخرجن.
وهو قوله: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب: 33] التبرج أن تبدي المرأة من محاسنها ما يجب عليها ستره مما يستدعي به شهوة الرجل، وأراد بالجاهلية الأولى ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام، والأولى المتقدمة، وذلك أن أهل الجاهلية الأولى تقدموا أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال قتادة: كانت لنساء الجاهلية الأولى مشية تكسر وتغنج فنهي هؤلاء عن ذلك، وأمرن بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الله ورسوله في باقي الآية.
إلى قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33] ليذهب عنكم الرجس قال ابن عباس: يعني عمل الشيطان وما ليس لله فيه رضا.
وقال مقاتل: يعني الإثم الذي يحصل مما نهاهن الله عنه وأمرهن بتركه.
معنى الرجس السوء وما يوجب العقوبة، والمراد بأهل البيت ههنا نساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنهن في بيته، وهو قول الكلبي، ومقاتل، وعكرمة، وسعيد بن جبير، عن ابن عباس.
748 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَّاجُ، نا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَفَّانَ، نا أَبُو يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ، عَنْ صَالِحِ بْنِ مُوسَى الْقُرَشِيِّ، عَنْ خَصِيفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أُنْزِلَتْ(3/469)
هَذِهِ الآيَةُ فِي نِسَاءِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}
749 - أَخْبَرَنَا أَبُو حَلِيمٍ عَقِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُرْجَانِيُّ، فِيمَا أَجَازَ لِي رِوَايَتَهُ عَنْهُ لَفْظًا، أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا الْقَاضِي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ، نا ابْنُ حُمَيْدٍ، نا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، نا الأَصْبَغُ بْنُ عَلْقَمَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33] قَالَ: لَيْسَ الَّذِي تَذْهَبُونَ إِلَيْهِ، إِنَّمَا هُوَ فِي أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، وَكَانَ عِكْرِمَةُ يُنَادِي بِهَذَا فِي السُّوقِ.
وهؤلاء الذين قالوا هذا القول احتجوا بما تقدم من الخطاب وما تأخر، وهو قوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 34] وكلاهما خطاب لأزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما ذكر الخطاب في قوله: عنكم، ويطهركم لأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان فيهن، فقلب للمذكر، وقال آخرون: هذا خاص في النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفاطمة، والحسن والحسين، وهو قول أبي سعيد الخدري.
750 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، نا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ، نا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، نا عَمَّارُ بْنُ مُحَمَّدٍ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي الْجَحَّافِ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} قَالَ: نَزَلَتْ فِي خَمْسَةٍ؛ فِي النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، ثُمَّ وَعَظَهُنَّ لِيَتَفَكَّرْنَ، وَامْتَنَّ عَلَيْهِنَّ
بقوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} [الأحزاب: 34] يعني القرآن، والحكمة، قال مقاتل: يعني أمره ونهيه في القرآن.
وقال قتادة: يعني القرآن والسنة، وهذا حث لهن على حفظ القرآن والأخبار، ومذاكرتهن بهما للإحاطة بحدود الشريعة، والخطاب وإن اختص بهن فغيرهن داخل منه، لأن مبنى الشريعة على هذين القرآن والسنة، وبهما يؤقت على حدود الله ومفترضاته، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا} [الأحزاب: 34] بأوليائه، خبيرا بجميع خلقه.
{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35] قوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35] الآية، قال قتادة: لما ذكر الله أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل نساء من(3/470)
المسلمات عليهن، فقلن: ذكرتن ولم نذكر؟ فأنزل الله هذه الآية.
وقال مقاتل بن حيان: لما رجعت أسماء بنت عميس من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب دخلت على نساء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: هل نزل فينا شيء من القرآن؟ قلن: لا.
فأتت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: يا رسول الله، إن النساء لفي خيبة وخسار.
قال: ومم ذلك؟ قالت: لأنهن لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال.
فأنزل الله هذه الآية {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35] يعني المخلصين والمخلصات.
والمؤمنين والمؤمنات والمصدقين بالتوحيد والمصدقات، والقانتين والقانتات المطيعين لله فيما أمر ونهى والمطيعات، والصادقين والصادقات في إيمانهم وفيما ساءهم وسرهم، والصابرين على أمر الله، والصابرات، والخاشعين والخاشعات في الصلاة، والمتصدقين والمتصدقات بالأموال ومما رزقهم الله من الأموال والثمار والمواشي، والصائمين والصائمات لله بنية صادقة، ويكون فطرهم من حلال، {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} [الأحزاب: 35] عما لا يحل لهم، {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب: 35] قال ابن عباس: يريد في أدبار الصلوات، وغدوا وعشيا وفي المضاجع، وكلما استيقظ من نومه، وكلما غدا وراح من منزله ذكر الله.
وقال مجاهد: لا يكون الرجل من الذاكرين الله كثيرا حتى يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا.
751 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ التَّاجِرُ، أنا أَبُو يَعْقُوبَ يُوسُفُ بْنُ أَحْمَدَ الصَّيْدَلانِيُّ، بِمَكَّةَ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُقْرِئُ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْمَوَدَّةِ، نا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، نا مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الأَقْمَرِ، عَنِ الأَغَرِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَيْقَظَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ فَتَوَضَّيَا وَصَلَّيَا كُتِبَا مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ»
752 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ، أنا الْقَاسِمُ بْنُ غَانِمِ بْنِ حَمُّوَيْهِ الأَشْقَرُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ، نا أَبُو أَيُّوبَ سُلَيْمَانُ بْنُ النُّعْمَانِ، نا الْحُسَيْنُ بْنُ عُلْوَانَ الْكُوفِيُّ عَنْ حَنْظَلَةَ التَّمِيمِيِّ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قُلْ: سُبْحَانَ اللَهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ، عَدَدَ مَا علم وزنه فعلم وملء ما علم، فَإِنَّهُ مَنْ قَالَهَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا سِتَّ خِصَالٍ: كُتِبَ مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا، وَكَانَ أَفْضَلَ مِنْ ذِكْرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَكَانَ لَهُ غَرْسًا فِي الْجَنَّةِ، وَتَحَاتَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا يَتَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرَةِ الْيَابِسَةِ، وَيَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَمَنْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ لَمْ يُعَذِّبْهُ
قوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً} [الأحزاب: 35] أي لذنوبهم، وأجرا عظيما هو الجنة، وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} [الأحزاب: 36] الآية، نزلت في عبد الله بن جحش وأخته زينب، وكانا ابني عمة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خطب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زينب لزيد بن حارثه مولاه، وهي تظن أنه يخطبها لنفسه، فلما علمت أنه يخطبها لزيد(3/471)
كرهت ذلك وأخوها، فلما نزلت الآية رضيا وسلما، فزوجها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من زيد.
وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} [الأحزاب: 36] يعني عبد الله، ولا مؤمنة يعني أخته، {إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا} [الأحزاب: 36] حكما به، {أَنْ يَكُونَ لَهُمُ} [الأحزاب: 36] جمع الكناية، لأن المراد بقوله المؤمنة كل مؤمن ومؤمنة في الدنيا، والخيرة الاختيار، أعلم الله أنه لا اختيار على ما قضاه الله ورسوله، فلما زوجها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من زيد مكثت عنده حينا، ثم إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى زيدا فأبصر زينب قائمة، وكانت بيضاء جميلة جسيمة، من أتم نساء قريش، فوقعت في قلبه، فقال: سبحان مقلب القلوب.
وفطن زيد، فقال: يا رسول الله، ائذن لي في طلاقها، فإن فيها كبرا تؤذيني بلسانها، فقال أمسك عليك زوجك، واتق الله، فأنزل الله {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37] أي: بالهداية والإسلام، وأنعمت عليه بأن أعتقته من الرق، وكان زيد من سبي الجاهلية، اشتراه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعكاظ في الجاهلية وأعتقه وتبناه، {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 37] في أمرها فلا تطلقها، {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ} [الأحزاب: 37] سرا، وتضمر في قلبك من إرادة تزوجها، {مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب: 37] مظهره لأصحابك، والمعنى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتم حبها، وأراد تزوجها، وأمر زيدا بإمساكها، وفي قلبه خلاف ذلك، فأظهر الله عليه ما أخفاه، بأن قضى طلاقها وزجها منه، وأنزل في ذلك القرآن، ولهذا قال ابن مسعود، وعائشة رضي الله عنهما: ما نزلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آية هي أشد من هذه الآية.
753 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُطَّوِّعِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرِ بْنِ الْعَبَّاسِ الْمِصْرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّامِيُّ، نا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، نا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: لَوْ كَتَمَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ لَكَتَمَ هَذِهِ الآيَةَ
{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا {37} مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا {38} } [الأحزاب: 37-38] {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ} [الأحزاب: 37] إلى آخر الآية، رواه مسلم، عن محمد بن(3/472)
المثنى، عن عبد الوهاب، عن داود.
وقوله: وتخشى الناس تخاف لائمتهم أن يقولوا أمر رجلا بطلاق امرأته ثم نكحها، وذلك أنه كان يريد أن يطلقها من حيث ميل القلب، ولكنه خاف قالة الناس، وقال عطاء، عن ابن عباس: المراد بالناس في هذه الآية اليهود، خشي أن يقولوا تزوج محمد امرأة ابنه.
وقوله: {وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37] أي: هو أولى بأن تخشاه في كل الأحوال وجميع الأمور، ليس أنه لم يخش الله في شيء من هذه القصة، ولكنه لما ذكر خشيته من الناس ذكر خشية الله، وأنه أحق بالخشية منهم.
وروي عن علي بن الحسين رضي الله عنه في هذه الآية أنه قال: كان الله عز وجل قد أعلم نبيه أن زينب تكون من أزواجه، وأن زيدا سيطلقها، وعلى هذا يجوز أن يكون النبي عليه السلام معاتبا على قوله: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37] مع علمه بأنها ستكون زوجته، وكتمانه ما أخبره الله به، ويكون قوله: {وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37] أي: في كتمان ما أخبرك، وإنما كتم النبي عليه السلام ذلك لأنه خشي أن يقول لزيد: زوجتك ستكون امرأتي.
وقوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] معنى قضاء الوطر في اللغة: بلوغ منتهى ما بالنفس من الشيء، يقال: قضى وطرا منها إذا بلغ ما أراد من حاجته فيها، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
أيها الرابح المجد ابتكارا ... قد قضى من تهامة الأوطارا
أي: فرغ من أعمال الحج وبلغ ما أراد منه ثم صار، عبارة عن الطلاق، ولأن الرجل إنما يطلق امرأته إذا لم تعد له فيها حاجة.
وروى ثابت، عن أنس، قال: لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لزيد: اذهب فاذكرها عليّ.
قال زيد: فانطلقت، فقلت: يا زينب أبشري، أرسلني نبي الله عليه السلام يذكرك، ونزل القرآن.
وجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودخل عليها بغير إذن، لقوله تعالى: زوجناكها وهذا يدل على أن كل امرأة أراد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نكاحها فهو مستغن عن الولي والشهود، وكانت زينب تفاخر نساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقول: زوجكن أهلوكن وزوجني الله عز وجل.
754 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْفَقِيهُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ مُحَمَّدٍ السُّلَمِيُّ، أنا أَبِي، أنا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، نا الْحَسَنُ بْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَهْمَانَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ تَفْخَرُ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَقُولُ: زَوَّجَنِي اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ، وَأَوْلَمَ عَلَيْهَا، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِخُبْزٍ وَلَحْمٍ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ خَلادِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عِيسَى بْنِ طَهْمَانَ
قال المفسرون: ذكر قضاء الوطر ههنا بيانا أن امرأة المتبنى تحل وإن وطئها، وهو قوله: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب: 37] أي: زوجناك زينب، وهي امرأة زيد الذي تبنيته،(3/473)
ليكلا يظن أن امرأة المتبنى لا يحل نكاحها، والأدعياء جمع الدعي، وهو الذي يدعى ابنا من غير ولادة.
قال الحسن: كانت العرب تظن أن حرمة المتبنى كحرمة الابن، فبين الله أن حلائل الأدعياء غير محرمة على المتبني وإن أصابوهن.
وهو قوله تعالى: {إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37] بخلاف ابن الصلت، فإن امرأته تحرم بنفس القصد، وقوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا} [الأحزاب: 37] يعني: قضاء الله في زينب أن يتزوجها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان ماضيا مفعولا.
ثم بين أنه لم يكن عليه حرج في هذا النكاح بقوله: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} [الأحزاب: 38] قال المفسرون: أحل الله له، أي: لا حرج عليه فيما أحل الله له، {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} [الأحزاب: 38] سن الله لمحمد عليه السلام في التوسعة عليه في باب النكاح كسنته في الأنبياء الماضين عليهم، يعني داود النبي حين هوي المرأة التي فتن بها، جمع الله بينه وبينها، كذلك جمع بين زينب ومحمد عليه السلام، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، والكلبي، والمقاتلين.
{وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38] قضاء مقضيا، قال مقاتل: أخبر الله تعالى أن أمر زينب من حكم الله وقدره.
ثم ذكر الأنبياء الماضين عليهم السلام، وأثنى عليهم، فقال: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا {39} مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا {40} } [الأحزاب: 39-40] {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ} [الأحزاب: 39] تحول خشيتهم من الله بينهم وبين المعصية، {وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ} [الأحزاب: 39] لا يخشون قالة الناس ولائمتهم فيما أحل الله لهم، {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [الأحزاب: 39] مجازيا لمن يخشاه.
ولما تزوج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زينب، قال الناس: إن محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تزوج امرأة ابنه، فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40] يعني أنه ليس بأب لزيد فتحرم عليه زوجته، قال المفسرون: لم يكن أبا أحد لم يلده، وقد ولد له ذكور: إبراهيم، والقاسم، والطيب، والمطهر.
{وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب: 40] ولكن كان رسول الله، وخاتم النبيين آخرهم فلا نبي بعده، قال ابن عباس: يريد لو لم أختم به النبيين لجعلت له ولدا يكون بعد نبيا.
وقرأ عاصم بفتح التاء، قال أبو عبيدة: الوجه الكسر لأن التأويل أنه ختمهم فهو خاتمهم، ولأنه قال: «أنا خاتم النبيين» .
لم نسمع أحد يروي إلا بكسر التاء، ووجه الفتح أن معناه آخر النبيين خاتم الشيء آخره، ومنه قوله: خاتمه مسك، وقال الحسن: الخاتم هو الذي ختم به.
755 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، أنا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ الْمُفَضَّلِ، أنا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الْقَاضِي، نا عُمَرُ بْنُ مَرْزُوقٍ، أنا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مِينَا، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِنَّمَا مَثَلِي فِي الأَنْبِيَاءِ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا فَأَكْمَلَهَا وَحَسَّنَهَا إِلا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ، فَكُلُّ مَنْ دَخَلَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا؛ قَالَ: مَا أَحْسَنَهَا إِلا مَوْضِعَ هَذِهِ اللَّبِنَةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنَا(3/474)
مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ، خُتِمَ بِيَ الأَنْبِيَاءُ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، كِلاهُمَا عَنْ سَلِيمِ بْنِ حَيَّانَ
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا {41} وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا {42} هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا {43} تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا {44} } [الأحزاب: 41-44] قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41] قال مجاهد: هو أن لا تنساه أبدا.
وقال الكلبي: ويقال: ذكر كثيرا بالصلوات الخمس.
وقال مقاتل بن حيان: هو التسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير على كل حال، وهو أن يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
قال: وبلغنا أن هؤلاء الكلمات يتكلم بهن صاحب الجنابة والغائط والمحدث.
756 - أَخْبَرَنَا مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْبَزَّازُ، أنا أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ الْمُثَنَّى، نا عَمْرُو بْنُ الْحُصَيْنِ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْقُرَشِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ جَابِرٍ، سَمِعْتُ إِسْمَاعِيلَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ مُؤَذِّنَ مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ يُحَدِّثُ، عَنْ كَرِيمَةَ بِنْتِ الْحَسْحَاسِ، قَالَتْ: حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: يَقُولُ رَبُّكُمْ «أَنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ»
وقوله: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا} [الأحزاب: 42] صلوا لله بالغداة والعشي، قال الكلبي: أما بكرة فصلاة الفجر، وأما أصيلا فصلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
قوله: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ} [الأحزاب: 43] أي: يرحمكم ويغفر لكم، وملائكته قال ابن عباس: يدعون لكم.
وقال المقاتلان: ويأمر الملائكة بالاستغفار لكم.
{لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الأحزاب: 43] من الشرك والكفر إلى الإيمان، يعني أنه برحمته وهدايته ودعاء الملائكة لكم أخرجكم من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان.
{تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب: 44] قال الكلبي: تجيبهم الملائكة على أبواب الجنة بالسلام، فإذا دخلوها حيا بعضهم بعضا بالسلام، وتحية الرب إياهم حين يرسل إليهم بالسلام.
وقال مقاتل: تسلم الملائكة عليهم يوم يلقون الرب عز وجل.
وروي عن البراء بن عازب أنه قال: يوم يلقون ملك الموت لا(3/475)
يقبض روح مؤمن إلا سلم عليه.
والمعنى على هذا: تحية المؤمنين ملك الموت يوم يلقونه أن تسلم عليهم، وسبق ذكر ملك الموت في ذكر الملائكة.
{وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} [الأحزاب: 44] رزقا حسنا في الجنة.
{يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا {45} وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا {46} وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا {47} وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا {48} } [الأحزاب: 45-48] قوله: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} [الأحزاب: 45] على أمتك وجميع الأمم بتبليغ الرسالة، ومبشرا بالجنة لمن صدقك، ونذيرا ومنذرا بالنار لمن كذبك.
{وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ} [الأحزاب: 46] إلى توحيده وطاعته، بإذنه قال مقاتل: بأمره، يعني أنه أمرك بهذا لا أنك تفعله من قبلك.
قوله: وسراجا منيرا أي: لمن اتبعك واهتدى بك كالسراج في الظلمة يستضاء به.
{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا} [الأحزاب: 47] قال مقاتل: يعني الجنة.
{وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب: 48] ذكرنا تفسيره في أول ال { [، ودع أذاهم قال ابن عباس، وقتادة: اصبر على أذاهم.
قال الزجاج: تأويله لا تجازهم عليه إلا أن تؤمر فيهم بأمر، وهذا منسوخ ب: السيف.
] وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأحزاب: 48] في كفاية شرهم وأذاهم، {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا} [الأحزاب: 48] كفى به إذا وكلت إليه الأمر.
قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 49] {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49]
757 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، أنا جَدِّي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّصْرَابَاذِيُّ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ، نا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، نا أَبِي، نا يَزِيدُ النَّحْوِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: كَذَبُوا عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، وَإِنْ كَانَ قَالَهَا فَزَلَّةٌ مِنْ عَالِمٍ، فِي الرَّجُلِ يَقُولُ: إِنْ تَزَوَّجْتُ فُلانَةً فَهِيَ طَالِقٌ، يَقُولُ اللَّهِ: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} وَلَمْ يَقُلْ: إِذَا طَلَّقْتُمُوهُنَّ ثُمَّ نَكَحْتُمُوهُنَّ، وَرَوَى طَاوُسٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ تَلا هَذِهِ الآيَةَ، ثُمَّ قَالَ: لا يَكُونُ طَلاقٌ حَتَّى يَكُونَ نِكَاحٌ، وَقَالَ سِمَاكُ بْنُ الْفَضْلِ: إِنَّمَا النِّكَاحُ عُقْدَةٌ وَالطَّلاقُ يُحِلُّهَا، فَكَيْفَ تُحَلُّ عُقْدَةٌ لَمْ تُعْقَدْ؟ ! قَالَ مَعْمَرٌ: فَصَارَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ قَاضِيًا عَلَى صَنْعَاءَ
{مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب: 49] أي تجامعوهن، {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ} [الأحزاب: 49] أسقط الله العدة عن المطلقة قبل الدخول لبراءة رحمها، قال مقاتل: إن(3/476)
شاءت تزوجت من يومها.
وقوله: تعتدونها أي: تحصون عليها العدة بالأقراء أو الأشهر، فمتعوهن قال ابن عباس: هذا إذا لم يكن سمى لها صداقا، فإذا فرض لها صداقا فلها نصفه.
والمطلقة قبل المسيس لا تستحق المتعة مع نصف المهر، فإذا لم يفرض لها صداقا فإنها تستحق المتعة واجبة لها على قول أكثر الناس.
{وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 49] من غير ضرار.
قوله: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا {50} تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا {51} لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا {52} } [الأحزاب: 50-52] {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب: 50] ذكر الله تعالى في هذه الآية أنواع الأنكحة التي أحلها للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: {أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب: 50] أي مهورهن، يعني اللاتي يتزوجن بصداق، {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} [الأحزاب: 50] يعني: الجواري التي يملكها، {مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} [الأحزاب: 50] رده عليك من الكفار بأن تسبيه فتملكه، {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ} [الأحزاب: 50] يعني نساء قريش، {وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} [الأحزاب: 50] فتملكهن، يعني نساء بني زهرة، {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} [الأحزاب: 50] إلى المدينة، وهذا إنما كان قبل تحليل غير المهاجرات، ثم نسخ شرط الهجرة في التحليل: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50] أي: وأحللنا لك امرأة، مؤمنة مصدقة بتوحيد الله، وهبت نفسها منك بغير صداق، وغير المؤمنة لا تحل إن وهبت منه نفسها، {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} [الأحزاب: 50] إن آثر النبي نكاحها وأراد ذلك، {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] خاصة لك دون غيرك، قال ابن عباس: يقول: لا يحل هذا لغيرك وهو لك حلال.
وهذا من خصائصه في النكاح، وكان ينعقد النكاح له بلفظ الهبة من غير ولي ولا شهود، ولا ينعقد لأحد نكاح بلفظ الهبة، وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه، وأجاز أهل الكوفة النكاح بلفظ الهبة إذا حضر الولي والشهود.
ثم أخبر الله تعالى عن المؤمنين، فقال: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: 50] يقول: ما أوجبنا عليهم أن لا يتزوجوا أكثر من أربع بمهر وولي وشهود، فلا ينعقد نكاحهم إلا بالأولياء والشهود.
{وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [الأحزاب: 50] ممن يجوز سبيه وحربه، فأما من كان له عهد فلا، وقوله: {لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} [الأحزاب: 50] ضيق في أمر النكاح، ومنع من شيء تريده، وهذا فيه تقديم لأن(3/477)
المعنى خالصة لك من دون المؤمنين لكيلا يكون عليك حرج، أي: أحللنا لك ما ذكرنا ليرتفع عنك الحرج.
{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} [الأحزاب: 50] للنبي في التزوج بغير مهر، رحيما به في تحليل ذلك له.
قوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} [الأحزاب: 51] نزلت في إباحة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مصاحبة نسائه ومعاشرتهن كيف شاء من غير حرج عليه، تخصيصا له وتفضيلا له، أباح له أن يجعل لمن أحب منهن يوما أو أكثر، ويعطل من شاء منهن فلا يأتيها، فقوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} [الأحزاب: 51] أي: تؤخر ثوبة من تشاء من نسائك من غير طلاق وتتركها فلا تأتيها، {وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51] تضمها إليك فتأتيها، وكان القسم والتسوية واجبا عليه، فلما نزلت هذه الآية سقط عنه وصار الاختيار إليه فيهن.
758 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أنا جَدِّي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، نا قُتَيْبَةُ، نا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ، قَالَ: فَكَانَ مِمَّنْ آوَى: عَائِشَةُ، وَأُمُّ سَلَمَةَ، وَزَيْنَبُ، وَحَفْصَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ، وَكَانَ قَسْمُهُ مِنْ نَفْسِهِ سَوَاءً بَيْنَهُنَّ، وَكَانَ مِمَّنْ أَرْجَى: سَوْدَةُ، وَجُوَيْرِيَةُ، وَصَفِيَّةُ، وَأُمُّ حَبِيبَةَ، وَمَيْمُونَةُ، وَكَانَ يَقْسِمُ لَهُنَّ مَا شَاءَ، وَكَانَ أَرَادَ أَنْ يُفَارِقَهُنَّ، فَقُلْنَ: اقْسِمْ لَنَا مَا شِئْتَ مِنْ نَفْسِكَ وَدَعْنَا نَكُونُ عَلَى حَالِنَا.
وقوله: {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} [الأحزاب: 51] إن أردت أن تؤوي إليك امرأة ممن عزلتهن من القسمة وتضمها إليك فلا لوم ولا عتب، {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} [الأحزاب: 51] ذلك التخيير الذي خيرناك في صحبتهن أدنى إلى رضاهن، إذ كان منزلا من الله عليك، {وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} [الأحزاب: 51] بما أعطيتهن من تقريب وإرجاء وإيواء، قال قتادة: إذا علمن أن هذا جاء من الله كان أطيب لأنفسهن وأقل لحزنهن.
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [الأحزاب: 51] من أمر النساء والميل إلى بعضهن، أي: إنما خيرناك فيهن تيسيرا عليك في كل ما أردت منهن، {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} [الأحزاب: 51] بخلقه، حليما عن عقابهم.
قوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] قال مجاهد: لا تحل لك اليهوديات، ولا النصرانيات بعد المسلمات.
{وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ} [الأحزاب: 52] يقول: لا تتبدل الكتابيات بالمسلمات.
يقول: لا تكون أم المؤمنين يهودية ولا نصرانية.
{إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} [الأحزاب: 52] يعني: ما ملكت يمينه من الكتابيات، حل له أن يتسراهن.
وقال معمر، والشعبي: لما خيرهن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاخترن الله ورسوله، شكر الله لهن ذلك، فقصره عليهن، وأنزل هذه الآية.
وعلى هذا القول معناه: لا يحل لك من النساء سوى هؤلاء اللاتي اخترنا لك، وليس أن تطلق واحدة منهن وتتزوج بدلها.
قال الزهري: قبض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما نعلمه يتزوج النساء.
وقالت عائشة رضي الله عنها: ما مات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أحل الله له النساء.
وقوله: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ(3/478)
حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب: 52] أي: إن أعجبك جمالهن فليس لك أن تطلق من نسائك وتنكح بدلها امرأة أعجبت بجمالها.
{إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} [الأحزاب: 52] يعني الولائد، قال ابن عباس: ملك بعد هؤلاء مارية.
{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} [الأحزاب: 52] من أعمال العباد، رقيبا حافظا.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا {53} إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا {54} لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا {55} } [الأحزاب: 53-55] قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} [الأحزاب: 53]
759 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَخْلَدِيُّ، أنا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّارِمِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، نا الْحُسَيْنُ بْنُ سَيَّارٍ الْحَرَّانِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، قَالَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْحِجَابِ، لَقَدْ كَانَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ يَسْأَلُنِي عَنْهُ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَرُوسًا بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، فَدَعَا النَّاسَ لِطَعَامٍ بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ، فَجَلَس رِجَالٌ بَعْدَ مَا قَامَ الْقَوْمُ حَتَّى قَامَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَشَى وَمَشَيْنَا مَعَهُ حَتَّى بَلَغَ بَابَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، ثُمَّ ظَنَّ أَنَّهُمْ قَدْ خَرَجُوا فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ فَإِذَا هُمْ جُلُوسٌ فِي مَكَانِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عَمْرٍو النَّاقِدِ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ
وقوله: {إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ} [الأحزاب: 53] أي: يدعو إليه، غير ناظرين منتظرين، إناه نضجه وإدراكه، يقال: أنا يأني إناء إذا حان وقت إدراكه، وكانوا يدخلون بيته فيجلسون منتظرين إدراك الطعام، فنهوا من ذلك.
وقوله: {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} [الأحزاب: 53] أي: بعد أن تأكلوا، كانوا يجلسون أيضا بعد الطعام يتحدثون طويلا، وكان يؤذيه ذلك ويستحي، أي: وكان يؤذيه ذلك ويستحي أن يقول لهم قوموا، فذلك قوله: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} [الأحزاب: 53] قال الزجاج: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحتمل إطالتهم كرما منه، ويصبر على الأذى في ذلك، فعلم الله من يحضره الأدب، فصار أدبا لهم ولمن بعدهم.
وقوله: {(3/479)
وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب: 53] لا يترك أن يبين لكم ما هو الحق، {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53] قال مقاتل: أمر الله المؤمنين أن لا يكلموا نساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا من وراء حجاب.
760 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أنا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ، نا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُنِيبٍ، نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، نا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، فَلَوْ أَمَرْتَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحِجَابِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ حُمَيْدٍ
وقوله: ذلكم أي: سؤالكم إياهن من المتاع من وراء حجاب، {أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53] من الريبة، {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب: 53] ليس لكم أذاه في شيء من الأشياء، {وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب: 53] قال عطاء، عن ابن عباس: كان رجل من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لو توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لتزوجت عائشة رضي الله عنها.
فأنزل الله ما أنزل.
قال مقاتل بن سليمان: هو طلحة بن عبيد الله.
قال الزجاج: أعلم الله أن ذلك محرم بقوله: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53] أي: ذنبا عظيما.
ثم أعلمهم أنه يعلم سرهم وعلانيتهم بقوله: {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا} [الأحزاب: 54] أي: تظهروا شيئا من أمرهن، يعني طلحة، وذلك أنه لما نزل آية الحجاب قال طلحة: يمنعنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الدخول على بنات عمنا، يعني عائشة رضي الله عنها، وهما من بني تيم بن مرة.
وقوله: أو تخفوه أي: تسروه في أنفسكم، وذلك أن نفسه حدثته بتزوج عائشة رضي الله عنها، فذلك قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ} [الأحزاب: 54] من السر والعلانية، عليما.
ولما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأقارب والأبناء لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ونحن أيضا نكلمهن من وراء حجاب؟ فأنزل الله تعالى قوله: {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ} [الأحزاب: 55] أن يرونهن ولا يحتجبن عنهم، {وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ} [الأحزاب: 55] قال ابن عباس: يريد نساء المؤمنين، لأن نساء اليهود والنصارى يصفن لأزواجهن نساء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن رأينهن.
{وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [الأحزاب: 55] يعني العبيد والإماء، وقد تقدم في { [النور ذكر من يحل للمرأة أن يراها في قوله:] إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ} [سورة النور: 31] .
الآية واتقين الله أن يراكن غير هؤلاء، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} [الأحزاب: 55] من أعمال بني آدم، شهيدا لم يغب عنه شيء.
قوله تعالى: {(3/480)
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] قال ابن عباس: يريد: إن الله يرحم النبي، والملائكة يدعون له بالرحمة.
وقال مقاتل: أما صلاة الرب بالمغفرة، وأما صلاة الملائكة فالاستغفار له.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} [الأحزاب: 56] ادعوا له بالمغفرة واستغفروا له، وسلموا تسليما قولوا السلام عليك أيها النبي، والحديث الصحيح الجامع لتفسير هذه الآية ما:
761 - مَا أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أنا أَبُو النَّضْرِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بِن يُوسُفَ الْفَقِيهُ، نا الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، نا مَالِكُ بْنُ سُلَيْمَانَ، أنا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَرَفْنَا التَّسْلِيمَ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ الصَّلاةُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: " قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ "، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ آدَمَ بْنِ أَبِي إِيَاسٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ بُنْدَارٍ، عَنْ غُنْدَرٍ، كِلاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: عَلِمْنَا التَّسْلِيمَ عَلَيْكَ؛ مَا تَقُولُهُ فِي التَّشْهِدِ: سَلامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ
أخبرنا أبو سعد بن أبي رشيد العدل، أنا أبو العباس أحمد بن عيسى الوشاء، نا محمد بن يحيى الصوفي، نا محمد بن العباس الرياشي، عن الأصمعي، قال: سمعت المهدي على منبر البصرة يقول: إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكته، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] آثره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بها من بين الرسل، واختصكم بها من بين الأمم، فقابلوا نعمة الله بالشكر.
762 - أَخْبَرَنَا أَبُو حَسَّانٍ الْمُزَكِّي، أنا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ أَيُّوبَ، نا سَهْلُ بْنُ عَمَّارٍ الْعَتَكِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ الزَّيَّاتُ، عَنْ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ أَرَهُ أَشَدَّ اسْتِبْشَارًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، وَلا أَطْيَبَ نَفْسًا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا رَأَيْتُ قَطُّ أَطْيَبَ نَفْسًا وَلا أَشَدَّ اسْتِبْشَارًا مِنْكَ الْيَوْمَ، فَقَالَ: " وَمَا يَمْنَعُنِي وَقَدْ خَرَجَ آنِفًا جِبْرِيلُ مِنْ عِنْدِي؟ قَالَ: قَالَ اللَّهُ، تَعَالَى: مَنْ صَلَّى عَلَيْكَ صَلاةً صَلَّيْتُ بِهَا عَلَيْهِ عَشْرَ صَلَوَاتٍ، وَمَحَوْتُ عَنْهُ عَشْرَ سَيِّئَاتٍ، وَكَتَبْتُ لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ "(3/481)
{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا {57} وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا {58} } [الأحزاب: 57-58] قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57] قال المفسرون: هم المشركون واليهود والنصارى، وصفوا الله بالولد فقالوا عزيرا ابن الله، والمسيح ابن الله، والملائكة بنات الله، وكذبوا رسوله، وشجوا وجهه، وكسروا رباعتيه، وقالوا مجنون، شاعر، ساحر، كذاب.
ويدل على صحة هذا التفسير ما روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ما أجد أصبر على أذى يسمعه من الله أنه يجعل له ند ويجعل له ولد وهو على ذلك يعافيهم ويعطيهم ويرزقهم» .
ومعنى يؤذون الله: يخالفون أمره ويعصونه، ويصفونه بما هو منزه عنه، والله تعالى لا يلحقه أذى، ولكن لما كانت مخالفة الأمر فيما بيننا تسمى إيذاء خوطبنا بما نتعارفه.
وقوله: {لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [الأحزاب: 57] يعني القتل والجلاء في الدنيا، والعذاب بالنار في الآخرة، وهو قوله: {وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا {57} وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} [الأحزاب: 57-58] قال مجاهد: يقعون فيهم بغير ما عملوا، يعني يرمونهم بما ليس فيهم، وروي أن رجلا شتم علقمة، فقرأ هذه الآية.
وقال قتادة، والحسن: إياكم وأذى المؤمنين، فإن الله يغضب له.
763 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو النَّيْسَابُورِيُّ، أنا حَمْزَةُ بْنُ شَبِيبٍ الْمَعْمَرِيُّ، أنا عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ مُعَاذٍ السُّلَمِيُّ، نا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيُّ، نا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ عَجَبًا؛ رَأَيْتُ رِجَالا يُعَلَّقُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ فَقَالَ: هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}
{يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا {59} لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا {60} مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا {61} سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا {62} } [الأحزاب: 59-62] {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59] جمع جلباب، وهو الملاءة التي تشتمل بها المرأة، قال المفسرون: يغطين رءوسهن ووجوهن إلا عينا واحدة، فيعلم أنهن حرائر، فلا يعرض لهن بأذى.
وهو قوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59] قال السدي: كانت المدينة ضيقة المنازل، وكانت النساء يخرجن بالليل لقضاء الحاجة، وكان فساق من فساق المدينة يخرجون، فإذا رأوا المرأة عليها قناع قالوا هذا حرة فتركونا، وإذا رأوا المرأة بغير قناع قالوا أمة فكابروها.
وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} [الأحزاب: 59] أي: لمن اتبع أمره، رحيما به.
ثم أوعد هؤلاء الفساق، فقال: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ} [الأحزاب: 60] عن(3/482)
نفاقهم، {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الأحزاب: 60] يعني الفجور، وهم الزناة، {وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} [الأحزاب: 60] وهم قوم كانوا يوقعون الأخبار بما يكره المؤمنون، يقولون: قد أتاكم العدو، ويقولون لسراياهم: قد قتلوا وهزموا.
لنغرينك بهم قال ابن عباس: لنسلطنك عليهم.
والمعنى: أمرناك بقتالهم حتى تقتلهم وتخلي عنهم المدينة.
وهو قوله: {ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا} [الأحزاب: 60] أي: لا يساكنوك في المدينة إلا يسيرا حتى يهلكوا.
ملعونين مطرودين مبعدين عن الرحمة، أينما ثقفوا وجدوا وأدركوا، {أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا} [الأحزاب: 61] أي: الحكم فيهم هذا على جهة الأمر به.
{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} [الأحزاب: 62] قال الزجاج: سن الله في الذين ينافقون الأنبياء ويرجفون بهم أن يقتلوا حيث ما ثقفوا، ولا يبدل الله سنته فيهم، وهو قوله: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} [الأحزاب: 62] هكذا سنة الله فيهم إذا أظهروا النفاق.
{يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا {63} إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا {64} خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا {65} يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا {66} وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا {67} رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا {68} } [الأحزاب: 63-68] قوله: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ} [الأحزاب: 63] قال الكلبي: سأل أهل مكة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الساعة وعن قيامها، فقال الله: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ} [الأحزاب: 63] أيّ شيء يعلمك أمر الساعة، ومتى يكون قيامها؟ أي: أنت لا تعرفه، ثم قال: {لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب: 63] وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: وقالوا ربنا إنا أطعنا ساداتنا وكبراءنا أشرافنا وعظماءنا، قال مقاتل: هم المطعمون في غزوة بدر.
فأضلونا عن سبيل الهدى، يقرأ سادتنا وكلاهما جمعان، وسادة أحسن، والعرب لا تكاد تقول سادات.
ثم قالوا: ربنا آتهم يعنون السادة، {ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} [الأحزاب: 68] عذبهم مثلي عذابنا، {وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 68] يعني اللعن على أثر اللعن، أي: مرة بعد مرة، وقرأ بها عاصم بالياء على وصف اللعن بالكبر.
قال الكلبي: يقول عذبهم عذابا كبيرا.
قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69] {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} [الأحزاب: 69] قال قتادة: وعظ الله المؤمنين ألا تؤذوا محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما آذى بنو إسرائيل موسى.
وهو ما:
764 - أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ، نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، نا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى سَوْءَةِ بَعْضٍ، وَكَانَ مُوسَى يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ، مَا يَمْنَعُ مُوسَى أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَنَا إِلا أَنَّهُ آدَرُ، فَذَهَبَ مَرَّةً يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ فَفَرَّ الْحَجَرُ بِثَوْبِهِ، فَجَمَعَ مُوسَى فِي أَثَرِهِ يَقُولُ: ثَوْبِي، حَجَرُ، ثَوْبِي، حَجَرُ، حَتَّى نَظَرَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى سَوْءَةِ مُوسَى، فَقَالُوا: وَاللَّهِ، مَا بِمُوسَى مِنْ بَأْسٍ، قَالَ: فَقَامَ الْحَجَرُ بَعْدَ مَا نَظَرَ إِلَيْهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاللَّهِ، إِنَّهُ نَدَبٌ بِالْحَجَرِ سِتَّةٌ، أَوْ سَبْعَةٌ، ضَرْبُ مُوسَى بِالْحَجَرِ "، رَوَاهُ(3/483)
مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَهَذَا قَوْلُ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ
وروي آخر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو:
765 - مَا أَخْبَرَنَا أَبُو حَلِيمٍ الْجُرْجَانِيُّ، فِيمَا أَجَازَ لِي، أنا الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ، نا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ الطُّوسِيُّ، نا عَبَّادٌ، نا سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: {لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} قَالَ: صَعِدَ مُوسَى وَهَارُونَ، عَلَيْهِمَا السَّلامُ، الْجَبَلَ، فَمَاتَ هَارُونُ، فَقَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: أَنْتَ قَتَلْتَهُ، وَكَانَ أَشَدَّ حَسَبًا لَنَا مِنْكَ، وَأَلْيَنَ لَنَا مِنْكَ، وَآذَوْهُ بِذَلِكَ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْمَلائِكَةَ فَحَمَلْتُه حَتَّى مَرُّوا بِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَتَكَلَّمَتِ الْمَلائِكَةُ بِمَوْتِهِ حَتَّى عَرَفَ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ
وقوله: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69] يقال: وجه الرجل يوجه وجاهة فهو وجيه إذا كان ذا وجاه وقدر.
قال ابن عباس: كان عند الله حظيا، لا يسأله شيئا إلا أعطاه.
وقال الحسن: كان مستجاب الدعوة.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا {70} يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا {71} } [الأحزاب: 70-71] {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] قال ابن عباس: صوابا.
قال الحسن: صادقا.
يعني كلمة التوحيد لا إله إلا الله، أمر الله المؤمنين بالتوحيد والتقوى، ووعد عليهم أن يصلح أعمالهم، فقال: {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [الأحزاب: 71] قال ابن عباس: يقبل حسناتكم.
وقال مقاتل: يزكي أعمالكم.
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 71] فيما يأمرانه، {فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 71] قال: الخير كله وظفر به.
قوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا {72} لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا {73} } [الأحزاب: 72-73] {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأحزاب: 72] الآية، معنى الأمانة ههنا في قول جميع المفسرين: الطاعة والفرائض التي يتعلق بأدائها الثواب وبتضييعها العقاب.
روى أبو بكر الهذلي، عن الحسن في هذه الآية، قال: عرضت الأمانة على السموات السبع الطباق التي زينت بالنجوم وحملت العرش العظيم، فقيل لهن: تأخذن الأمانة بما فيها.
قلن: وما فيها؟ قيل: إن أحسنتن جزيتن، وإن أسأتن عوقبتن.
قلن: لا.
ثم عرضت على الجبال الشم الشوامخ البواذخ الصلاب الصعاب، فقيل لهن: أتأخذن الأمانة بما فيها؟ قلن: وما فيها؟ قيل: إن أحسنتن جزيتن، وإن أسأتن عوقبتن.
قلن: لا.
فذلك قوله: {فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} [الأحزاب: 72] وقال ابن جريج: قالت السماء: يا رب، خلقتني وجعلتني سقفا محفوظا، وأجريت في الشمس والقمر والنجوم، لا أتحمل فريضة، ولا أبغي ثوابا ولا عقابا.
وقالت الأرض: جعلتني بساطا ومهادا، وشققت فيّ الأنهار، وأنبت فيّ الأشجار، لا أتحمل فريضة، ولا أبغي ثوابا ولا عقابا.
وإنما كان العرض على أعيان هذه الأشياء بأن ركب الله تعالى فيهن العقل وأفهمهن خطابه حتى فهمن وأنطقهن بالجواب.
ومعنى قوله: {فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا} [الأحزاب: 72] أي: مخافة وخشية لا معصية ومخالفة، والعرض كان تخييرا لا إلزاما، وقوله:(3/484)
وأشفقن منها أي: خفن من الأمانة أن لا يوفينها فيلحقهن العقاب، وحملها الإنسان قال عطاء، عن ابن عباس: يريد آدم، عرض الله عليه أداء الفرائض: الصلوات الخمس في مواقيتها، وأداء الزكاة عند محلها، وصيام رمضان، وحج البيت على أن له الثواب وعليه العقاب، فقال: بين أذني وعاتقي.
وقال مقاتل بن حيان: قال الله: يا آدم، أتحمل هذه الأمانة وترعاها حق رعايتها؟ فقال آدم: ومالي عندك؟ قال: إن أحسنت وأطعت ووعيت الأمانة فلك الكرامة وحسن الثواب في الجنة، وإن عصيت وأسأت فإني معذبك ومعاقبك.
قال: قد رضيت رب وتحملتها.
فقال الله تعالى: قد حملتكها.
فذلك قوله: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا} [الأحزاب: 72] قال الكلبي: ظلمه حين عصى ربه فأخرج من الجنة، وجهله حين احتملها.
وقال المقاتلان: ظلوما لنفسه جهولا بعاقبة ما تحمل.
أخبرنا أحمد بن يعقوب، نا الحسن بن علي بن عفان، نا أسامة، عن النضر بن عدي، أن رجلا سأل مجاهدا عن قوله، {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ} [الأحزاب: 72] الآية، فقال مجاهد: لما خلق الله السموات والأرض والجبال عرض الأمانة عليه فلم تقبلها، فلما خلق الله آدم عرضها عليه، قال: يا رب، وما هي؟ قال: إن أحسنت جزيتك، وإن أسأت عذبتك.
قال: قد تحملتها يا رب.
قال مجاهد: فما كان بين أن تحملها وبين أن خرج من الجنة إلا قدر ما بين الظهر والعصر.
766 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلٌ الْعَسْكَرِّيُ، نا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ لآدَمَ: إِنِّي عَرَضْتُ الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَلَمْ تُطِقْهَا، فَهَلْ أَنْتَ حَامِلُهَا بِمَا فِيهَا؟ قَالَ: إِي رَبِّ، وَمَا فِيهَا؟ قَالَ: إِنْ حَفِظْتَهَا أُجِرْتَ، وَإِنْ ضَيَّعْتَهَا عُذِّبْتَ، قَالَ: فَقَدْ حَمَلْتُهَا بِمَا فِيهَا، قَالَ: فَمَا غَبَرَ فِي الْجَنَّةِ إِلا كَقَدْرِ مَا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنْهَا إِبْلِيسُ، قَالَ جُوَيْبِرٌ: فَقُلْتُ لِلضَّحَّاكِ: وَمَا الأَمَانَةُ؟ قَالَ: الْفَرَائِضُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ؛ أَنْ لا يَغُشَّ مُؤْمِنًا، وَلا مُعَاهِدًا فِي قَلِيلٍ وَلا كَثِيرٍ، فَمَنِ انْتَقَصَ شَيْئًا مِنَ الْفَرَائِضِ فَقَدْ خَانَ أَمَانَتَهُ
قوله: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب: 73] إلى قوله: ويتوب قال المقاتلان: ليعذبهم الله بما خانوا الأمانة وكذبوا الرسل ونقضوا الميثاق الذين أقروا به حين أخرجوا من ظهر آدم.
وقال الحسن، وقتادة: هؤلاء خانوها، وهم الذين ظلموها.
{وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 73] هؤلاء أدوها، وقال ابن قتيبة: أي عرضنا ذلك ليظهر نفاق المنافق وشرك المشرك، فيعذبهما الله ويظهر إيمان المؤمن ويتوب الله عليه بالرحمة والمغفرة إن حصل منه تقصير في بعض الطاعات.
ولذلك ذكر بلفظ التوبة، فدل أن المؤمن العاصي خارج من العذاب.
{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} [الأحزاب: 73] للمؤمنين، رحيما بهم.(3/485)
سورة سبإ
مكية وآياتها أربع وخمسون.
767 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ سَبَإٍ لَمْ يَبْقَ نَبِيٌّ وَلا رَسُولٌ إِلا كَانَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَفِيقًا وَمُصَافِحًا»
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ {1} يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ {2} } [سبأ: 1-2] بسم الله الرحمن الرحيم {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [سبأ: 1] ملكا وخلقا، {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ} [سبأ: 1] يحمده أولياؤه إذا دخلوا الجنة فقالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر: 74] ، و {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف: 43] ، و {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر: 34] ، وهو الحكيم في أمره، الخبير بخلقه.
{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ} [سبأ: 2] ما يدخل فيها من مطر أو كنز أو ميت، {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} [سبأ: 2] من زرع ونبات، {وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ} [سبأ: 2] من مطر أو رزق، {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [سبأ: 2] من الملائكة وأعمال العباد، وهو الرحيم بأوليائه، الغفور لذنوبهم.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ {3} لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ {4} وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ {5} وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ {6} } [سبأ: 3-6] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [سبأ: 3] يعني منكري البعث، {لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ} [سبأ: 3] وقرأ حمزة علام الغيب على المبالغة، كقوله: علام الغيوب وباقي الآية مفسرة في { [(3/486)
يونس.
] لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} [سورة سبأ: 4] أي: لتأتينكم الساعة ليجزي الذين آمنوا، ثم بين جزاء الفريقين، فقال: أولئك يعني الذين آمنوا، {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [سبأ: 4] حسن، يعني في الجنة.
والذين سعوا مفسر في { [الحج،] أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} [سورة سبأ: 5] قرئ بالرفع على نعت العذاب، وبالخفض على نعت الرجز، والرجز العذاب، ذكرنا ذلك.
{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [سبأ: 6] ويعلم الذين أوتوا العلم بالله، يعني مؤمني أهل الكتاب، وقال قتادة: يعني أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [سبأ: 6] يعني القرآن، وهو الحق هو فضل عند المبصرين، كقوله: {هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النحل: 95] ، ويهدي يعني القرآن، إلى صراط دين، العزيز في ملكه، الحميد عند خلقه.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ {7} أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ {8} أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ {9} } [سبأ: 7-9] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [سبأ: 7] يعني منكري البعث، قال بعضهم لبعض: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ} [سبأ: 7] يزعم أنكم تبعثون بعد أن تكونوا عظاما وترابا ورفاتا، وهو قوله: {إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 7] أي: فرقتم كل تفريق، وقطعتم كل تقطيع، والممزق ههنا مصدر بمعنى التمزيق، قال ابن عباس: إذا متم وبليتم.
وقال مقاتل: إذا تفرقتم في الأرض وذهبت الجلود والعظام وكنتم ترابا.
{إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ: 7] أي: يجدد خلقكم بأن تبعثوا وتنشروا.
{أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [سبأ: 8] هذا أيضا من قول الكفار بعضهم لبعض، قالوا: أفترى محمد على الله كذبا حين زعم أنا نبعث بعد الموت، والألف في أفترى ألف الاستفهام، وهو استفهام تعجب وإنكار.
وقوله: {أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 8] يقولون: أيزعم كذبا أم به جنة؟ فرد الله عليهم، فقال: بل ليس الأمر على ما قالوا من الافتراء والجنون، {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} [سبأ: 8] هؤلاء الذي لا يؤمنون بالبعث، في العذاب في الآخرة، والضلال البعيد من الحق في الدنيا.
ثم وعظهم ليعتبروا، فقال: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [سبأ: 9] وذلك أن الإنسان حيث نظر رأى السماء والأرض قدامه وخلفه، وعن يمينه وعن شماله، والمعنى أنهم حيث كانوا فإن أرضي وسمائي محيطة بهم، وأنا القادر عليهم، إن شئت خسفت الأرض بهم، وإن شئت أسقطت عليهم قطعة من سمائي، وهو قوله: {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} [سبأ: 9] وأدغم الكسائي وحده الفاء في الباء في قوله: {نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ} [سبأ: 9] قال أبو علي الفارسي: وذلك غير جائز لأن الفاء من باطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا العليا، فانحدر الصوت إلى الفم حيث اتصلت بمخرج الثاء، ولهذا جاز إبدال الثاء بالفاء في نحو الحدث والجدف المقاربة بينهما، فلم يجز إدغامه في الباء، كما لا يجوز إدغام الباء فيه لزيادة صوت الفاء على صوت الباء.
وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [سبأ: 9] أي: فيما ترون من السماء والأرض، لآية تدل على قدرة الله على البعث وعلى ما يشاء من الخسف بهم، {لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [سبأ: 9] أياب إلى الله وحده، ورجع إلى طاعته، وتأمل ما خلق.(3/487)
{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ {10} أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {11} } [سبأ: 10-11] قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا} [سبأ: 10] يعني النبوة والكتاب وما أعطي من الملك في الدنيا، يا جبال أي: وقلنا يا جبال، أوبي معه سبحي معه، وكان إذا سبح داود سبحت الجبال معه، وقوله: والطير عطف على موضع الجبال، لأن كل منادي في موضع نصب.
قال ابن عباس: وكانت الطير تسبح معه إذا سبح.
{وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ: 10] حتى صار عنده مثل الشمع، وكان يأخذ بيده فيصير كأنه عجين، فكان يعمل به ما يشاء من غير نار ولا قرع.
وهو قوله: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ: 11] دروعا كوامل يجرها لابسها على الأرض، قال قتادة: وكان أول من عملها، وإنما كانت قبله صفائح من الحديد.
{وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ: 11] والسرد: نسج الدروع، ومنه قيل لصانعها سراد وزراد، يبدل من السين زايا.
والمعنى: لا يجعل المسامير دقاقا فتفلق، ولا غلاظا فتكثر الحلق، هذا قول أهل التأويل.
768 - أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْقُرَشِيُّ، فِيمَا أَجَازَ لِي، أَخْبَرَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ زَكَرِيَّا، أنا أَحْمَدُ بْنُ نَجْدَةَ الْقُرَشِيُّ، نا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} قَالَ: لا تُدَقِّقِ الْمَسَامِيرَ، وَتُوَسِّعِ الْحَلْقَةَ فَتَقْسَى، وَلا تُغَلِّظِ الْمَسَامِيرَ، وَتُضَيِّقِ الْحَلْقَ فَيَنْقَصِمَ، اجْعَلْهُ قَدْرًا
قال مقاتل: ثم قال الله لآل داود: اعملوا صالحا قال ابن عباس: اشكروا الله بما هو أهله.
{إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ: 11] .
ثم ذكر ابنه سليمان وما أعطاه من الخير والكرامة، فقال: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ {12} يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ {13} } [سبأ: 12-13] {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} [سبأ: 12] قال الفراء: نصب الريح على وسخرنا لسليمان الريح، ورفع عاصم لما لم يظهر التسخير على معنى وله تسخير الريح، فالرفع يئول إلى معنى النصب، وقوله: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12] أي: سير غدو تلك الريح المسخرة له مسيرة شهر، ورواحها شهر.
والمعنى أنها كانت تسير في اليوم مسيرة شهرية للراكب.
قال الحسن: تعدو من دمشق فتقيل باصطخر وبينهما مسيرة شهر للمسرع، ثم تروح من اصطخر فتبيت بكابل، وبينهما مسيرة شهر للمسرع.
{وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} [سبأ: 12] أذبنا له عين النحاس، قال المفسرون: أجريت له عين الصفر ثلاثة أيام بلياليهن كجري الماء، وإنما يعمل الناس اليوم مما أعطي سليمان، والقطر النحاس الذائب، {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ(3/488)
بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [سبأ: 12] أي: بأمر ربه، قال ابن عباس: سخرهم الله لسليمان وأمرهم بطاعته فيما يأمرهم به.
ومن يزغ، يعدل منهم من الجن، عن أمرنا له بطاعة سليمان، {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ: 12] في الآخرة، وهو أن الله تعالى وكل ملكا بيده سوط من نار، فمن زاغ عن طاعة سليمان ضربه ضربة أحرقته، والمفسرون على أن هذه الإذاقة من عذاب السعير في الآخرة.
يعملون له لسليمان، {مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ} [سبأ: 13] من الأبنية الرفيعة والقصور، قال المفسرون: فبنوا له الأبنية العجيبة باليمن: صرواح، ومرواح، وقلثون، وهندة، وهنيدة، وقلثوم، وعمدان، وبيتون، وهذه حصون باليمن عملتها الشياطين.
وقوله: وتماثيل جمع تمثال، وهو كل شيء مثلته بشيء، يعني صورا من نحاس وزجاج ورخام، كانت الجن تعملها، قالوا: وهي صور الأنبياء والملائكة، كانت تصور في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة، وهذا يدل على أن التصوير كان مباحا في ذلك الزمان.
وجفان جمع جفنة، وهي القصعة الكبيرة، كالجوابي جمع الجيبة وهي الحوض الكبير، يجبي الماء، أي يجمعه، قال المفسرون: يعني قصاعا في العظم كحياض الإبل يجتمع على القصعة الواحدة ألف رجل يأكلون منها، {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13] ثابتات لها قوائم لا يخرجن عن أماكنها وكانت بأرض تتخذ من الجبال، ثم قال: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ: 13] أي: وقلنا اعملوا بطاعة الله آل داود شكرا له على ما آتاكم.
{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] العامل بطاعتي شكرا لنعمتي، قوله: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ: 14] {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} [سبأ: 14] قال المفسرون: كانت الإنس في زمان سليمان تقول: إن الجن تعلم الغيب الذي يكون في، غد فلما مات سليمان مكث على عصاه حولا ميتا، والجن تعمل تلك الأعمال الشاقة التي كانت تعمل في حياة سليمان، لا يشعرون بموته حتى أكلت الأرضة عصا سليمان، فخر ميتا، فعلموا بموته، وعلم الإنس أن الجن لا تعلم الغيب.
فذلك قوله تعالى: {مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ} [سبأ: 14] يعني الأرضة، تأكل منسأته يعني عصاه، قال الزجاج: المنسأة التي ينسأ بها، أي: يطرد ويزجر، وأكثر القراء على همزة المنسأة، وقرأ أبو عمرو بغير همز، قال المبرد: بعض العرب يبدل من همزتها ألفا يقولون منساة، وأنشد:
إذا دببت على المنساة من كبر فقد تباعد عنك اللهو والغزل
وقوله: فلما خر أي: سقط ميتا، تبينت الجن أي: ظهرت وانكشفت للناس أنهم لا يعلمون الغيب، ولو كانوا(3/489)
يعلمون به {مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ: 14] أي: ما عملوا مسخرين لسليمان، وهو ميت، وهم يظنون أنه حي.
قال مقاتل: العذاب المهين الشقاء والنصب في العمل.
{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ {15} فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ {16} ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ {17} } [سبأ: 15-17] قوله: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ} [سبأ: 15]
769 - أَخْبَرَنَا الْحَاكِمُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَارِسِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، نا أَبُو خَلِيفَةَ، نا أَبُو هَمَّامٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ هَانِئٍ، عَنْ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَنْ سَبَإٍ، أَرَجُلٌ هُوَ أَمِ امْرَأَةٌ؟ فَقَالَ: هُوَ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ، وَلَدَ عَشَرَةً، تَيَامَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ، وَتَشَاءَمَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ تَيَامَنُوا؛ فَالأَزْدُ وَكِنْدَةُ وَمَذْحِجٌ وَالأَشْعَرِيُّونَ وَأَنْمَارُ؛ مِنْهُمْ: بَجِيلَةُ، وَأَمَّا الَّذِينَ تَشَاءَمُوا؛ فَعَامِلَةُ وَغَسَّانُ وَلَخْمٌ وَجُذَامٌ، وَالْمُرَادُ بِسَبَإٍ هَهُنَا: الْقَبِيلَةُ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَوْلادِ سَبَإِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ
وقوله: في مساكنهم كانت مساكنهم بمأرب من اليمن، آية أي: علامة تدلهم على قدرة الله، وأن المنعم عليهم هو الله، ثم ذكر تلك الآية، فقال: {جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} [سبأ: 15] عن يمين واد لهم وشماله، كانت قد أحاطتا بذلك الوادي الذي بين مساكنهم، وقيل لهم: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ} [سبأ: 15] يعني ثمار الجنتين، قال السدي، ومقاتل: كانت المرأة تخرج فتحمل مكتلها على رأسها وتمر فيمتلئ من ألوان الفاكهة من غير أن تمس شيئا بيدها.
وقوله: واشكروا له أي: على ما رزقكم من النعمة، والمعنى: اعملوا بطاعته إذ أنعم عليكم بما أنعم.
بلدة طيبة يعني أرض سبأ بلدة طيبة، لأنها أخرجت ثمارها ولم تكن سبخة، وقال ابن زيد: لم يكن فيها شيء مؤذ من بعوض أو ذباب، ولا(3/490)
برغوث ولا عقرب، ويمر الغريب ببلدتهم وفي ثيابه القمل فتموت كلها لطيب هوائها.
ورب غفور أي: والله رب غفور، قال مقاتل: وربكم إن شكرتم فيما رزقكم رب غفور للذنوب.
فأعرضوا عن الحق وكذبوا أنبياءهم، {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} [سبأ: 16] وذلك أن الماء كان يأتي أرض سبأ من الشحر وأودية اليمن، فردموا ما بين جبلين وحبسوا الماء في ذلك الردم ثلاثة أبواب، بعضها فوق بعض، وكانوا يسقون من الباب الأعلى، ثم من الثاني، ثم من الثالث، فأخصبوا وكثرت أموالهم، فلما كذبوا رسولهم بعث الله تعالى جرذا ثقبت ذلك الردم حتى انتقض، فدخل الماء خيمهم فغرقها ودفن السيل بيوتهم، فذلك قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} [سبأ: 16] جمع عرمة، وهي السكر الذي يحبس الماء، وقال ابن الأعرابي: العرم السيل الذي لا يطاق.
وقال قتادة، ومقاتل: العرم اسم وادي سبأ.
وبدلناهم بجنتيهم اللتين يطعمان الفواكه، {جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} [سبأ: 16] القراءة الجيدة بالإضافة لأن الخمط عند المفسرين اسم شجرة، قالوا: هو الأراك، وأكله جناه، وهو البريد.
قال أبو عبيدة: الخمط كل شجرة مرة ذات شوك.
قال الأخفش: الأحسن في مثل هذه الإضافة مثل دار حر وثوب خز.
وقال ابن الأعرابي: الخمط ثمر شجر يقال له فسوة الضيع على صورة الخشخاش ينفرك ولا ينتفع به.
وقال المبرد، والزجاج: يقال لكل نبت قد أخذ طعما من المرارة حتى لا يمكن أكله: خمط.
وعلى هذا يحسن التنوين في أكل إذا جعلت الخمط اسما للمأكولات، والأثل شجرة تشبه الطرفاء إلا أنه أعظم منه، والسدر إذا كان بريا لا ينتفع به، ولا يصلح ورقه للمغسول، كما يكون ورق السدر الذي ينبت على الماء.
ومعنى قوله: {وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ {16} } [سبأ: 16-16] يعني أن الأثل والخمط كانا أكثر في الجنتين المبدلتين من السدر.
قال قتادة: كان شجر القوم من خير الشجر إذا صيره إليه من شر الشجر.
{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} [سبأ: 17] أي: جزيناهم ذلك التبديل لكفرهم، {وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ} [سبأ: 17] يعني أن المؤمن نكفر عنه ذنوبه بطاعاته، والكافر يجازي بكل سوء يعمله.
قال مقاتل: وهل يكافأ بعمله السيئ إلا الكفور لله في نعمه.
وقال الفراء: المؤمن يجزى ولا يجازي، أي: يجزى الثواب بعمله ولا يكافأ بسيئاته.
{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنْينَ {18} فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ {19} } [سبأ: 18-19] وقوله: وجعلنا بينهم عطف على قوله: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ} [سبأ: 15] يعني: وكان من قصتهم أنا جعلنا بينهم، {وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [سبأ: 18] بالماء والشجر، وهي قرى الشام، قرى ظاهرة متواصلة، وكان متجرهم من أرض اليمن إلى الشام، وكانوا يبيتون بقرية ويقيلون بأخرى حتى يرجعوا، وكانوا لا يحتاجون إلى زاد من وادي سبأ إلى الشام، ومعنى قوله:(3/491)
ظاهره أن الثانية كانت ترى من الأولى لقربها منها، وقوله: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} [سبأ: 18] جعلنا السير من القرية إلى القرية مقدارا واحدا نصف يوم، قلنا لهم: سيروا فيها في تلك القرى، ليالي وأياما ليلا شئتم السير أم نهارا، آمنين من الجوع والعطش والسباع والتعب، ومن كل خوف.
ثم أنهم بطروا النعمة وسألوا أن تكون القرى والمنازل بعضها أبعد من بعض {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} [سبأ: 19] أي: اجعل بيننا وبين الشام فلوات ومفاوز ليركب إليها الرواحل وتتزود الأزواد، وقرئ بَعِّد وهو بمعنى باعد، وهو مثل ضعف وضاعف، وقرب وقارب.
وظلموا أنفسهم بالكفر، فجعلناهم أحاديث لمن بعدهم يتحدثون بأمرهم وشأنهم كيف فعلنا بهم، {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 19] فرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق، وذلك أن الله تعالى لما غرق مكانهم وأذهب جنتيهم تبددوا في البلاد، فصارت العرب تتمثل بهم في الفرقة، فتقول: تفرقوا أيدي سبأ وأيادي سبأ.
أخبرنا أبو حسان المزكي، أنا هارون بن محمد الإستراباذي، أنا إسحاق بن أحمد الخزاعي، أنا أبو الوليد الأزرقي، نا جدي، نا سعيد بن سالم القداح، عن عثمان بن ساج، عن الكلبي، عن أبي صالح، قال: ألقت طريفة الكاهنة إلى عمرو بن عامر الذي يقال له مزيقيا بن ماء السماء، وهو عمرو بن عامر بن حارثة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وكانت قد رأت في كهانتها أن سد مأرب سيخرب، وأنه سيأتي سيل العرم فيخرب الجنتين، فباع عمرو بن عامر أمواله وسار هو وقومه إلى مكة، فأقاموا بمكة وما حولها، فأصابتهم الحمى، فدعوا طريفة فشكوا إليها الذي أصابهم، فقالت لهم: قد أصابني الذي تشكون وهو مفرق بيننا.
قالوا: فماذا تأمرين؟ قال: من كان منكم ذا هم بعيد، وجمل شديد، ومزاد جديد فليلحق بقصر عمان المشيد، فكانت أزد عمان، ثم قالت: من كان ذا جلد وصبر على أزمات الدهر فعليه بلأراك من بطن مر، وكانت خزاعة، ثم قالت: من كان منكم يريد الراسبات في الوحل، المطعمات في المحل فليلحق بيثرب ذات النخل، وكانت الأوس والخزرج، ثم قالت: من كان منكم يريد الخمر والخمير، والملك والتأمير، ولبس الديباج والحرير فليلحق ببصرى وغوير، وهما من أرض الشام فكان الذين سكنوها، أي جفنة من غسان، ثم قالت: من كان منكم يريد النبات الرقاق، والخيل العتاق، وكنوز الأرزاق، والدم المهراق فليلحق بأرض العراق، فكان الذين سكنوها آل جذيمة الأبرش، ومن كان بالحيرة وآل محرق.
وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [سبأ: 19] يعني فيما فعل سبأ،(3/492)
لآيات لعبرا ودلالات، {لِكُلِّ صَبَّارٍ} [سبأ: 19] عن معاصي الله، شكور لأنعمه، قال مقاتل: يعني المؤمنين من هذه الأمة، صبور على البلاء، شكور لله في نعمه.
قوله: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {20} وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ {21} } [سبأ: 20-21] {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} [سبأ: 20] قال الزجاج: صدق في ظنه أنه إذا أغواهم اتبعوه فوجدهم كذلك، فمن شدد نصب الظن لأنه مفعول به، ومن خفف نصبه على معنى صدق عليهم في ظنه، قال مجاهد: صدق ظنه على الناس كلهم إلا من أطاع الله.
وهو قوله: {إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ: 20] قال السدي، عن ابن عباس: يعني المؤمنين كلهم، وهم الذين قال الله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] قال ابن قتيبة: إن إبليس لما سأل النظرة فأنظره، قال: لأغوينهم، ولأضلنهم، ولأمنينهم، ولآمرنهم ولم يكن في وقت هذه المقالة مستيقنا أن ما قدره فيهم يتم، وإنما قاله ظانا، فلما اتبعوه وأطاعوه صدق عليهم ما ظنه فيهم، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [سبأ: 21] أي: ما كان تسليطنا إياه إلا لنعلم المؤمنين من الشاكين، يعني نعلمهم موجودين ظاهرين، والمعنى: ما سلطناه عليهم إلا لنعلم إيمان المؤمن ظاهرا، وكفر الكافر ظاهرا، وهو قوله: {إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} [سبأ: 21] والعلم بهما موجودين هو الذي يقع به الجزاء.
وقوله: {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [سبأ: 21] قال مقاتل: على كل شيء من الإيمان والشك.
قوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ {22} وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ {23} } [سبأ: 22-23] قل لكفار مكة، {ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} [سبأ: 22] أنهم آلهة، {مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سبأ: 22] قال مقاتل: يقول: ادعوهم ليكشفوا عنكم الضر الذي نزل بكم في سني الجوع.
ثم أخبر عنهم، فقال: {لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [سبأ: 22] أي: من خير وشر، ونفع وضر.
{وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} [سبأ: 22] لم يشاركونا في شيء من خلقهما، وما لهم وما لله، منهم من الآلهة، من ظهير من معين على شيء.
قوله: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23] أي: لا تنفع شفاعة ملك مقرب ولا نبي مرسل حتى يؤذن له في الشفاعة، وقرئ بضم الهمزة وفتحها، فمن فتح كان المعنى: إلا لمن(3/493)
أذن الله له في الشفاعة، يعني الشافع، ويجوز أن يكون المعنى: إلا لمن أذن الله في أن يشفع له، ومن ضم الهمزة كان المعنى كقول من فتح، والآذن هو الله تعالى في القراءتين، كقوله: وهل يجازي إلا الكفور والمجازي هو الله تعالى في الوجهين، قال ابن عباس: يريد لا تشفع الملائكة إلا لمن وحد الله، كقوله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] .
ثم أخبر عن خوف الملائكة، فقال: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سبأ: 23] أي: كشف الفزع عن قلوبهم وقرئ فزع كشف الله الفزع عن قلوبهم، ومعنى القراءتين سواء كما ذكرنا في أذن وأذن، والتفزيع إزالة الفزع كالتمريض والتقرير، وهذا دليل على أنه قد يصيبهم فزع شديد من شيء قد يحدث من أقدار الله، ولم يذكر ذلك الشيء لأن إخراج الفزع يدل على حصوله، فكأنه قد ذكر، والمفسرون ذكروا ذلك الشيء، قال قتادة، ومقاتل، والكلبي: لما كانت الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما السلام، وبعث الله محمدا، أنزل جبريل بالوحي، فلما نزل ظنت الملائكة أنه نزل بشيء من أمر الساعة، فصعقوا لذلك، فجعل جبريل يمر بكل سماء ويكشف عنهم الفزع، فرفعوا رءوسهم، وقال بعضهم لبعض: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} [سبأ: 23] قال الحق، يعني الوحي، وهو العلي الذي فوق خلقه بالقهر والاقتدار، الكبير العظيم، والشيء أعظم منه.
{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ {24} قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ {25} قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ {26} قُلْ أَرُونِي الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {27} } [سبأ: 24-27] قوله: قل لكفار مكة: {مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ} [سبأ: 24] الرزق والمطر، ومن الأرض النبات والثمر، وإنما أمر بهذا السؤال احتجاجا عليهم بأن الذي يرزق هو المستحق للعبادة لا غيره، وذلك أنه إذا استفهمهم عن الرازق لم يمكنهم أن يثبتوا رازقا غير الله، ولهذا أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجواب، فقال: قل الله لأنهم لا يصيبون أيضا بغير الله من الرازقين، وتم الكلام، ثم أمره بأن يخبرهم بأنهم على الضلال بعبادة غير الله بقوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24] فذهب المفسرون أن الألف في أو صلة، ومعناه واو العطف، كأنه قيل: وإنا وإياكم.
قال أبو عبيدة: معناه: إنا لعلى هدى، وإنكم لفي ضلال مبين.
قل لقومك: {لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا} [سبأ: 25] قال ابن عباس: لا تؤخذون بجرمنا ولا نسأل(3/494)
عن كفركم وتكذيبكم، وهذا على التبرؤ منهم ومن أعمالهم.
{قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا} [سبأ: 26] يعني بعد البعث في الآخرة، {ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} [سبأ: 26] ثم يقضي ويحكم بيننا بالعدل، وهو الفتاح القاضي، العليم بما يقضي.
قل للكفار، أروني أعلموني الذين ألحقتموهم بالله في العبادة معه شركاء هل يرزقون ويخلقون؟ كلا لا يرزقون ولا يخلقون، بل أي: ليس الأمر على ما أنتم عليه من إلحاق الشركاء به في العبادة الذي يخلق ويرزق، {هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ} [سبأ: 27] في ملكه، الحكيم في أمره.
قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ {28} وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {29} قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ {30} } [سبأ: 28-30] {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28] قال ابن عباس: يريد لجميع الخلق وتقدير الكلام للناس كافة.
كقوله: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208] ، والمعنى: وما أرسلناك إلا للناس عامة كلهم، أحمرهم وأسودهم.
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28] قال مقاتل: يعني كفار مكة.
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سبأ: 29] يعنون بالوعد العذاب النازل لهم بعد الموت، وإنما قالوا هذا لأنهم كانوا ينكرون البعث، فقال الله تعالى: {قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ} [سبأ: 30] يعني يوم القيامة، وقال الضحاك: يعني يوم النزع والسباق، وهو ميعاد عذاب الكافر.
{لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً} [سبأ: 30] لا تتأخرون عن ذلك اليوم، ولا تستقدمون ولا تتقدمون عليه بأن يزاد في آجالكم أو ينقص منه.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْءَانِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ {31} قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ {32} وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {33} } [سبأ: 31-33] قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [سبأ: 31] يعني مشركي مكة، {لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْءَانِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [سبأ: 31] يعنون التوراة والإنجيل، وذلك أنه لما قال مؤمنو أهل الكتاب أن صفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كتابنا، وهو نبي مبعوث، كفر أهل مكة بكتابنا، ثم أخبر عن حالهم في الآخرة بقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ} [سبأ: 31] يعني مشركي مكة، {مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [سبأ: 31] محبوسون للحساب يوم القيامة، {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} [سبأ: 31] يرد بعضهم على بعض القول في الجدال، {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} [سبأ: 31] وهم من الأتباع، للذين استكبروا وهم الأشراف والقادة، {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ: 31] مصدقين بتوحيد الله،(3/495)
أي: منعتمونا عن الإيمان.
ثم أجابهم المتبوعون في الكفر بقول: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ} [سبأ: 32] أي: منعناكم عن الإيمان، {بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ} [سبأ: 32] بترك الإيمان، وفي هذا تنبيه للكفار أن طاعة بعضهم لبعض في الدنيا تصير سبب عداوة في الآخرة، كقوله: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا} [البقرة: 166] الآية، فقال الأتباع مجيبين {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ} [سبأ: 33] قال الأخفش: الليل والنهار لا يمكران بأحد، ولكن يمكر فيهما.
وهذا كقوله: {مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} [محمد: 13] وهو من سعة العربية.
وقال المبرد: أي: بل مكركم في الليل والنهار.
{إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ} [سبأ: 33] وهو أنهم يقولون لهم: إن ديننا هو الحق، ومحمد ساحر كذاب.
{وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} [سبأ: 33] تقدم تفسيره في { [يونس.
] وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [سورة سبأ: 33] قال ابن عباس: غلوا بها في النيران.
{هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا} [سبأ: 33] جزاء، {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ: 33] من الشرك في الدنيا.
قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ {34} وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ {35} قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ {36} وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ {37} وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ {38} قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ {39} } [سبأ: 34-39] {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ} [سبأ: 34] نبي ينذر أهلها، {إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا} [سبأ: 34] رؤساؤها وأغنياؤها: {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ} [سبأ: 34] من التوحيد والإيمان، كافرون وقالوا: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا} [سبأ: 35] افتخر مشركو مكة على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين بأولادهم وأموالهم وظنوا أن الله إنما خولهم المال والولد كرامة لهم، فقالوا: {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ: 35] أي: إن الله أحسن إلينا بالمال والولد فلا يعذبنا، فقال الله تعالى لنبيه: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [سبأ: 36] يعني أن بسط الرزق وتضييقه من الله يفعله ابتلاء وامتحانا، لا يدل البسط على رضا الله، ولا يدل التضييق على سخطه، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} [سبأ: 36] يعني أهل مكة، لا يعلمون ذلك حين ظنوا أن أموالهم وأولادهم دليل على كرامة الله لهم.
ثم صرح بهذا المعنى، فقال: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ: 37] قال الأخفش: زلفى اسم المصدر، كأنه أراد بالتي تقربكم عندنا تقريبا، {إِلا مَنْ آمَنَ} [سبأ: 37] لكن من آمن، وعمل صالحا قال ابن عباس: يريد أن إيمانه وعمله قربه مني، {فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا} [سبأ: 37] يضاعف الله له حسناتهم، فيجزي بالحسنة الواحدة عشرا إلى سبع مائة إلى ما زاد، {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ} [سبأ: 37] يعني غرف الجنة، وهي البيوت فوق الأبنية، آمنون من الموت والغير.
وقرأ حمزة في الغرفة على واحدة، كقوله: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان: 75] واسم الجنس يجوز أن يراد(3/496)
به الجمع، وما بعد هذا مفسر فيما تقدم إلى قوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39] أي: يخلفه لكم، أو عليكم، يقال: أخلف الله له وعليه إذا أبدل له ما ذهب عنه.
قال سعيد بن جبير: وما أنفقتم من شيء في غير إسراف ولا تقتير فهو يخلقه.
وقال الكلبي: وما أنفقتم في الخير والبر فهو يخلقه، إما أن يعلمه في الدنيا، أو بدخوله في الآخرة.
770 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا الْعَبَّاسُ الدُّورِيُّ، نا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلالٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي مُزَرِّدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلا وَمَلَكَانِ يَنْزِلانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا "
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ {40} قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ {41} فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ {42} } [سبأ: 40-42] قوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} [سبأ: 40] يعني المشركين، {ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ: 40] هذا استفهام توبيخ للعابدين، كقوله لعيسى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116] ، فنزهت الملائكة ربها عن الشرك ف {قَالُوا سُبْحَانَكَ} [سبأ: 41] تنزيها لك مما أضافوه إليك من الشرك، {أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ} [سبأ: 41] قال ابن عباس: ما اتخذناهم عابدين ولا توليناهم ولسنا نريد غيرك وليا.
{بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} [سبأ: 41] يعني الشياطين، قال مقاتل: أطاعوا الشياطين في عبادتهم إيانا.
{أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 41] يعني المصدقين بالشياطين والمطيعين لهم.
ثم يقول الله تعالى: فاليوم يعني في الآخرة، {لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ} [سبأ: 42] يعني العابدين والمعبودين، {نَفْعًا وَلا ضَرًّا} [سبأ: 42] أي: نفعا بالشفاعة ولا ضرا بالتعذيب، يريد أنهم عاجزون لا نفع عندهم ولا ضرر، يقول للذين ظلموا عبدوا غير الله: {ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [سبأ: 42] .
ثم أخبر أنهم يكذبون محمدا والقرآن، فقال: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ {43} وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ {44} وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ {45} } [سبأ: 43-45] {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} [سبأ: 43] الآية، وهي الظاهرة التفسير.
ثم أخبر أنهم لم يقولوا ذلك عن بينة ولم يكذبوا محمدا عن ثبت عندهم، فقال: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ(3/497)
يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} [سبأ: 44] قال قتادة: ما أنزل الله على العرب كتابا قبل القرآن ولا بعث إليهم نبيا قبل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال الفراء: أي من أين كذبوك ولم يأتهم كتاب ولا نذير بهذا الذي فعلوه، ثم خوفهم وأخبر عن عاقبة من كذب قبلهم، فقال: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [سبأ: 45] يعني الأمم الكافرة، وما بلغوا يعني أهل مكة، {مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} [سبأ: 45] المعشار والعشير والعشر جزء من العشرة، قال ابن عباس: يقول: وما بلغ قومك معشار ما آتيناهم من قبلهم من القوة، وكثرة المال، وطول العمر فأهلكهم الله.
وهو قوله: {فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [سبأ: 45] يعني العذاب والعقوبة والنكير: اسم بمعنى الإنكار.
{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46] قوله: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} [سبأ: 46] أي: آمركم بخصلة واحدة، وهي: {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} [سبأ: 46] أي: تقوموا منفردين ومجتمعين، يعني أن الواحدة التي أعظكم بها هي قيامكم ونشركم لطلب الحق بالفكرة، وهو قوله: ثم تتفكروا مجتمعين ومتفرقين، وليس معنى القيام ههنا قيام على الرجلين، بل هو قيام بالأمر الذي هو طلب الحق، وتم الكلام عند قوله: ثم تتفكروا وهو مختصر، معناه: ثم تتفكروا لتعلموا صحة ما أمرتكم به، قال مقاتل: يقول: ليتفكر الرجل منك وحده ومع صاحبه، فينظران في خلق السموات والأرض دلالة على أن خالقها واحد لا شريك له.
ثم ابتدأ فقال: {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ: 46] وقال ابن قتيبة: تأويل الآية أن المشركين قالوا: إن محمدا مجنون وساحر، فقال الله تعالى لهم: قل لهم: اعتبروا أمري بواحدة وهي: أن تقوموا لله ولي ذاته مجتمعين، وهو أن يقول الرجل لصاحبه: فلنتصادق، هل رأينا بهذا الرجل جنة قط؟ أو جربنا عليه كذبا؟ ثم ينفرد كل واحد عن صاحبه فيتفكر وينظر، فإن في ذلك ما يدل على أن محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نذير، وهو قوله: {إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46] يعني في الآخرة، وعلى هذا القول الآية متصلة ببعض، وهو قول الفراء، والزجاج.
{قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ {47} قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ {48} قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ {49} قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ {50} } [سبأ: 47-50](3/498)
قوله: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ: 47] يقول: لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجرا فتتهموني، ومعنى {مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ: 47] أي: ما أسألكم شيئا، كما يقول القائل: ما لي في هذا فقد وهبته لك، يريد: ليس لي فيه شيء، ثم ذكر أن أجره عند الله، وهو قوله: {إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سبأ: 47] قال ابن عباس: لم يغب عنه شيء.
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} [سبأ: 48] القذف: الرمي بالسهم، والحصى، والكلام.
قال الكلبي: يرمي بالحق على معنى يأتي به.
وقال مقاتل: يتكلم بالحق وهو القرآن والوحي.
يعني أنه يلقيه إلى أنبيائه، علام الغيوب علم ما غاب عن خلقه في السموات والأرض.
{قُلْ جَاءَ الْحَقُّ} [سبأ: 49] الدين والإيمان والقرآن، {وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49] أي: ذهب الباطل ذهابا لم يبق منه إقبال ولا ابتداء ولا إعادة، وقال قتادة: الباطل هو الشيطان.
أي: ما يخلق ابتداء ولا بعثا، وهو قول مقاتل، والكلبي.
{قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ} [سبأ: 50] كما تزعمون، وذلك أن كفار مكة قالوا: لقد ضللت حين تركت دين آبائك.
{فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} [سبأ: 50] أي: إثم ضلالتي يكون على نفسي.
{وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ: 50] من الحكمة والبيان، إنه سميع الدعاء، قريب مني.
قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ {51} وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ {52} وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ {53} وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ {54} } [سبأ: 51-54] ولو ترى يا محمد، إذ فزعوا يعني عند البعث، فلا فوت لا يفوتني أحد، ولا ينجو مني ظالم، {وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [سبأ: 51] يعني القبور، وحيث كانوا فهم من الله قريب لا يبعدون عنه، ولا يفوتونه.
وقالوا يعني في الآخرة، آمنا به بمحمد والقرآن، {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ} [سبأ: 52] أي: التناول، وهو تفاعل من النوش الذي هو التناول، ومن همز فلأن واو التناوش مضمومة، وكل واو ضمتها لازمة جاز إبدال همزة منها، نحو أدؤر، والمعنى: كيف لهم أن يتناولوا الإيمان من بعد، يعني في الآخرة، وقد تركوه في الدنيا.
وهو قوله: {وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} [سبأ: 53] أي: كانوا كافرين بمحمد والقرآن في الدنيا قبل ما عاينوا من أهوال القيامة، {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [سبأ: 53] قال مجاهد: يرمون محمدا بالظن لا باليقين، وهو قولهم له: شاعر، وساحر، وكاهن.
ومعنى الغيب على هذا: الظن، وهو ما غاب علمه عنهم، والمكان البعيد بعدهم عن علم ما يقولون، والمعنى: يرمون محمدا بما لا يعلمون من حيث لا يعلمون.
وحيل بينهم منع بين هؤلاء الكفار، {وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54] قال ابن عباس: يعني الرجعة إلى الدنيا.
قال الحسن: يعني الإيمان.
وقال مقاتل: يعني من قبول التوبة منهم.
{كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ} [سبأ: 54] بنظرائهم ومن كان على مثل حالهم من الكفار، من قبل أي: من قبل هؤلاء، {إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ} [سبأ: 54] من البعث ونزول العذاب بهم، مريب موقع لهم في الريبة والتهمة.(3/499)
سورة فاطر
مكية وآياتها خمس وأربعون.
771 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْمُؤَذِّنُ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْمَلائِكَةِ دَعَتْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ: أَنِ ادْخُلْ مِنْ أَيِّ الأَبْوَابِ شِئْتَ "
{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {1} مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {2} } [فاطر: 1-2] بسم الله الرحمن الرحيم {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر: 1] خالقها مبتدئا على غير مثال سبق، {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا} [فاطر: 1] يرسلهم إلى النبيين وإلى ما شاء من الأمور، أولي ذوي، أجنحة جمع جناح، {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1] تقدم تفسيرها، قال قتادة، ومقاتل: بعضهم له جناحان، وبعضهم له ثلاثة، وبعضهم له أربعة، ويزيد فيها ما يشاء.
وهو قوله: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر: 1] قال ابن عباس: رأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة المعراج جبريل وله ست مائة جناح.
وهذا القول اخيار الفراء، والزجاج.
وروى خليد بن دعلج، عن قتادة، قال: هو الملاحة في العين.
وقال الزهري: هو حسن الصوت.
{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} [فاطر: 1] مما يريد أن يخلق، {قَدِيرٌ {1} مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ} [فاطر: 1-2] ما يأتيهم به من مطر أو رزق فلا يقدر أحد أن يمسكها، وما يمسك من ذلك فلا يقدر قادر أن يرسله، وهو وقوله: {وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2] .
{يَأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 3] قوله: يأيها الناس يعني: يا أهل مكة، {اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [فاطر: 3] إذ أسكنكم الحرم ومنعكم من الغارات، {(3/500)
هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر: 3] استفهام توبيخ وتقرير، أي: لا خالق سواه، قال الزجاج: ورفع غير على معنى هل خالق غير الله، لأن من زيادة مؤكدة، ومن خفض جعله صفة على اللفظ.
{يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ} [فاطر: 3] المطر، ومن الأرض النبات، {لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 3] قال الزجاج: من أين يقع لكم الإفك والتكذيب بتوحيد الله وإنكار البعث وأنتم مقرون بأن الله خلقكم ورزقكم.
ثم عزى نبيه عليه السلام بقوله: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ {4} يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ {5} إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ {6} الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ {7} } [فاطر: 4-7] {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [فاطر: 4] فيجازي من كذب وينصر من كذب من رسله.
{يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} [فاطر: 5] بالبعث والثواب والعقاب، حق وباقي الآية مفسر في { [لقمان.
ثم حذرهم الشيطان، فقال:] إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [سورة فاطر: 6] قال مقاتل: عادوه بطاعة الله، ثم بين عداوته فقال: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ} [فاطر: 6] أي: شيعته إلى الكفر، {لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6] .
ثم ذكر ما للفريقين الكفار والمؤمنين بالآيتين بعد هذه الآية.
{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8] قوله: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} [فاطر: 8] قال ابن عباس: نزلت في أبي جهل ومشركي مكة.
وقال سعيد بن جبير: أنزلت في أصحاب الأهواء والملل التي خالفت الهدى.
والمعنى: أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله، ويدل على هذا المحذوف قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8] قال ابن عباس: لا تغتم ولا تهلك نفسك حسرات على تركهم الإيمان.
{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8] عالم بصنيعهم فيجازيهم على ذلك.
ثم أخبر عن صنعه لتعتبروا، فقال: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ {9} مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ {10} وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ {11} } [فاطر: 9-11] {(3/501)
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} [فاطر: 9] تزعجه من حيث هو، {فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} [فاطر: 9] إلى مكان لا نبت فيه، {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [فاطر: 9] أنبتنا فيها الزرع والكلأ بعدما لم يكن، كذلك النشور البعث والأحياء.
772 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ الْمُزَكِّي، نا أَبُو عَلِيٍّ الْفَقِيهُ، أنا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُصْعَبٍ، نا يَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ، نا أَبُو دَاوُدَ، نا شُعَيْبٌ، أَخْبَرَنِي يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ، سَمِعْتُ وَكِيعَ بْنَ عُدُسٍ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى؟ قَالَ: أَمَا مَرَرْتَ بِوَادٍ مُمْحِلا، ثُمَّ مَرَرْتَ بِهِ خَضْرَاءَ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَكَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى، وَقَالَ: {كَذَلِكَ النُّشُورُ}
قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ} [فاطر: 10] قال الفراء: معناه من كان يريد علم العزة لمن هي، فإنها لله جميعا.
وقال قتادة: من كان يريد العزة فليعتزن بطاعة الله، يعني أن قوله: {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10] معناه الدعاء إلى طاعة من له العزة، كما يقال: من أراد المال فالمال لفلان، فليطلبه من عنده، ويدل على صحة هذا ما روى ثابت، عن أنس، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن ربكم يقول كل يوم: أنا العزيز فمن أراد عز الدارين فليطع العزيز ".
وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] إلى الله يصعد كلمة التوحيد، وهو قول: لا إله إلا الله، ومعنى يصعد أنه يعلم ذلك، كما يقال: ارتفع الأمر إلى القاضي وإلى السلطان، أي علمه، ويجوز أن يكون معنى إليه إلى سمائه، وهو المحل الذي لا يجري لأحد سواه فيه ملك ولا حكم، فجعل صعوده إلى السماء صعود إليه، وقوله: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] قال الحسن: العمل الصالح يرفع الكلام الطيب إلى الله، يعرض القول على الفعل، فإن وافق القول الفعل، وإن خالف رد.
وهذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير.
وقال قتادة: يرفع الله العمل الصالح لصاحبه.
أي: يقبله فيكون هذا ابتداء إخبار لا يتعلق بما قبله، ثم ذكر من لا يوحد الله فقال: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ} [فاطر: 10] أن يشركون بالله ويقولون الشرك، وقال الكلبي: يعملون السيئات.
{لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [فاطر: 10] وقال أبو العالية: يعني الذين مكروا برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دار الندوة.
وهو قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 30] الآية، ثم أخبر أن مكرهم يبطل، فقال: {وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر: 10] يفسد ويهلك ولا يملكون شيئا.
ثم دل على نفسه بصنعه، فقال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [فاطر: 11] يعني آدم، {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} [فاطر: 11] يعني نسله، {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا} [فاطر: 11] ذكرانا وإناثا، {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} [فاطر: 11] ما يطول عمر أحد، {وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} [فاطر: 11] قال الفراء: يريد آخر غير الأول، فكنى عنه كأنه الأول، لأن اللفظ الثاني لو ظهر كان الأول، كأنه قيل: ولا ينقص من عمر معمر {إِلا فِي كِتَابٍ} [فاطر: 11] يعني اللوح المحفوظ.
قال سعيد بن جبير: مكتوب في أم الكتاب عمر فلان كذا وكذا، ثم يكتب في أسفل ذلك ذهب يوم ذهب يومان ذهب ثلاثة حتى يأتي على آخر عمره.
وقوله: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر: 11] إن كتابة الآجال والأعمال على الله هين.(3/502)
{وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {12} يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ {13} إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ {14} } [فاطر: 12-14] قوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} [فاطر: 12] يعني: العذب والمالح، ثم ذكرهما، فقال: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ} [فاطر: 12] جائز في الحلق، {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [فاطر: 12] شديد الملوحة، وما بعد هذا مفسر فيما سبق إلى قوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر: 13] وهو القشرة الرفيعة التي على النواة كاللفافة لها، إن تدعوهم لكشف خير، {لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} [فاطر: 14] لأنها جماد لا تنفع ولا تضر، ولو سمعوا بأن يخلق الله لها سمعا، {مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [فاطر: 14] لم تكن عندهم إجابة، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر: 14] يتبرءون من عبادتكم، يقولون: ما كنتم إيانا تعبدون.
ولا ينبئك يا محمد، مثل خبير عالم بالأشياء، يعني نفسه تعالى، لا أحد أخبر منه بأن هذا الذي ذكر من أمر الأصنام كائن، فلا ينبئك مثله في عمله، لأنه لا مثل له في العلم وفي كل شيء.
قوله: {يَأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ {15} إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ {16} وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ {17} وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ {18} } [فاطر: 15-18] {يَأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر: 15] المحتاجون إليه في رزقه ومغفرته، {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ} [فاطر: 15] عن عبادتكم، الحميد عند خلقه بإحسانه إليهم.
{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} [فاطر: 16] مفسر فيما تقدم إلى قوله: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ} [فاطر: 18] أي: نفس مثقلة بالذنوب، إلى حملها إلى ما حملت من الخطايا والذنوب، {لا يُحْمَلْ مِنْهُ} [فاطر: 18] أي: من حملها، {شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر: 18] ولو كان الذي تدعوه ذا قرابة ما حمل عنها شيئا، قال ابن عباس: يقول الأب والأم: يا بني احمل عني.
فيقول: حسبي ما علي.
{إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} [فاطر: 18] قال الزجاج: تأويله: إن إنذارك إنما ينفع الذين يخشون ربهم، فكأنك تنذرهم دون غيرهم ممن لا ينفعهم الإنذار، كقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] .
ومعنى يخشون ربهم بالغيب، أي: وهم غائبون عن أحكام الآخرة، كقوله: يؤمنون بالغيب.
ومن تزكى تطهر من الشرك والفواحش، {فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} [فاطر: 18] أي: فصلاحه لنفسه، {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [فاطر: 18] فيجزى بالأعمال في الآخرة.
قوله: {(3/503)
وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ {19} وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ {20} وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ {21} وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ {22} إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ {23} إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنَّ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خلا فِيهَا نَذِيرٌ {24} وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ {25} ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ {26} } [فاطر: 19-26] {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [فاطر: 19] يعني المؤمن والمشرك.
ولا الظلمات الشرك والضلالات، ولا النور الهدى والإيمان.
{وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ} [فاطر: 21] قال الكلبي: يعني الجنة والنار، وقال عطاء: يعني الظل بالليل والسموم بالنهار.
{وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ} [فاطر: 22] يعني المؤمنين والكافرين، قال قتادة: هذه أمثال ضربها الله للكافر والمؤمن.
يقول: كما لا تستوي هذه الأشياء كذلك لا يستوي المؤمن والكافر.
{إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ} [فاطر: 22] كلامه، من يشاء حتى يتعظ ويهتدي، قال عطاء: يعني أولياءه، خلقهم لجنته.
{وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22] يعني الكفار، شبههم بالموتى حين صموا فلم يجيبوا.
{إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ} [فاطر: 23] يقول: ما أنت إلا رسول منذر تنذرهم النار وتخوفهم، ولي عليك غير ذلك.
وهو قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنَّ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] سلف فيها نبي، قال مقاتل: ما من أمه إلا جاءهم رسول، وما بعد هذا ظاهر من تفسيره إلى قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ {27} وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ {28} } [فاطر: 27-28] ومن الجبال أي: ومما خلقنا من الجبال، جدد بيض قال الفراء: هي الطرق تكون في الجبال كالعروق بيض وسود وحمر.
واحدها جدة، وقال المبرد: جدد طرائق وخطوط.
ونحو هذا قال المفسرون في تفسير الجدد.
وغرابيب سود الغربيب الشديد السواد، الذي يشبه لون الغراب، قال الفراء: هذا على التقديم والتأخير، تقديره وسود غرابيب، لأنه يقال: أسود غربيب.
وقل ما يقال: غربيب أسود.
{وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} [فاطر: 28] قال الفراء: أي خلق مختلف ألوانه.
كذلك كاختلاف الثمرات والجبال، وتم الكلام، ثم قال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] قال ابن عباس: يريد إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزتي وسلطاني.
وقال مقاتل: أشد الناس لله خشية أعلمهم به.
وقال مسروق: كفى بخشية الله علما وكفى بالاغترار بالله جهلا.
وقال مجاهد، والشعبي: العالم من خاف الله تعالى.
وروى عكرمة، عن ابن عباس، قال: من خشي الله فهو عالم.
{إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} [فاطر: 28] في ملكه، غفور لذنوب المؤمنين.
{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ {29} لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ {30} وَالَّذِي(3/504)
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ {31} } [فاطر: 29-31] {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} [فاطر: 29] يعني قراءة القرآن، أثنى الله عليهم بقراءة القرآن، وقوله: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر: 29] لن تفسد، ولن تكسد، ولن تهلك، ليوفيهم أجورهم جزاء أعمالهم بالثواب، {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [فاطر: 30] قال ابن عباس: يعني سوى الثواب مما لم تر عين، ولم تسمع أذن.
{إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 30] قال ابن عباس: غفر العظيم من ذنوبهم، وشكر اليسير من أعمالهم.
{وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} [فاطر: 31] يعني القرآن، {هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [فاطر: 31] موافقا لما قبله من الكتب، {إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} [فاطر: 31] .
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32] قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ} [فاطر: 32] قال مقاتل: قرآن محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والمعنى: ثم جعلنا الكتاب ينتهي إليهم.
{الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] قال ابن عباس: يريد أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قسمهم ورتبهم، فقال: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر: 32] وهو الذي مات على كبيرة ولم يتب منها، قاله عطاء، عن ابن عباس.
وقال مقاتل: يعني أصحاب الكبائر من أهل التوحيد.
ومنهم مقتصد وهو الذي لم يصب كبيرة، {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32] يعني المقربين الذين سبقوا إلى الأعمال الصالحة، قال الحسن: الظالم الذي ترجح سيئاته على حسناته، والمقتصد التي استوت حسناته وسيئاته، والسابق من رجحت حسناته.
773 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ، نا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلامٍ الأَصْفَهَانِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ سَابِقٍ، نا عَمْرُو بْنُ أَبِي قَيْسٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أَخِيهِ عِيسَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ، عَزَّ وَجَلَّ، {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّهُمْ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ»
774 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا الْقَاسِمُ بْنُ غَانِمِ بْنِ حَمُّوَيْهِ الطَّوِيلُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، نا عَمْرُو بْنُ الْحُصَيْنِ، نا الْفَضْلُ بْنُ عُمَيْرَةَ، نا مَيْمُونُ بْنُ سِيَاهٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «سَابِقُنَا سَابِقٌ، وَمُقْتَصِدُنَا نَاجٍ، وَظَالِمُنَا مَغْفُورٌ لَهُ» ، وَقَرَأَ عُمَرُ: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ}
وقوله: سابق أي: إلى الجنة أو إلى رحمة الله.
بالخيرات بالأعمال الصالحة، بإذن الله بأمر الله وإرادته، {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32] يعني إيراثهم الكتاب.
ثم أخبرهم بثوابهم وجمعهم في دخول الجنة، فقال: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ {33} وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ {34} الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ {35} } [فاطر: 33-35] {(3/505)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [فاطر: 33] قال مقاتل: يعني الأصناف الثلاثة.
والآية مفسرة في { [الحج ولما دخلوها واستقرت بهم الدار حمدوا ربهم على ما صنع بهم، وهو قوله:] وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [سورة فاطر: 34] الحزن والحزن واحد، كالبخل والبخل، قال ابن عباس في رواية أبي الجوزاء: هو حزن النار.
وقال مقاتل: لأنهم كانوا لا يدرون ما يصنع الله بهم، وقال الكلبي: يعني: ما كان بحوزتهم في الدنيا من أمر يوم القيامة.
وقال سعيد بن جبير: هم الخبز في الدنيا.
وقال الزجاج: أذهب الله عن أهل الجنة كل الأحزان ما كان منها لمعاش أو معاد.
775 - حَدَّثَنَا الإِمَامُ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الإِسْفَرَائِينِيُّ، إِمْلاءً فِي مَسْجِدِ عَقِيلٍ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِ مِائَةٍ، أنا الإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الإِسْمَاعِيلِيُّ، نا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَرَاثِيُّ، نا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيُّ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ عَلَى أَهْلِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْشَةٌ فِي قُبُورِهِمْ وَلا فِي مَنْشَرِهِمْ، وَكَأَنِّي بِأَهْلِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ قَدْ خَرَجُوا مِنَ الْقُبُورِ يَنْقُضُونَ التُّرَابِ عَنْ رُءُوسِهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ}
قوله: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 34] قال ابن عباس: غفر العظائم من ذنوبهم، وشكر اليسير من محاسن أعمالهم.
{الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ} [فاطر: 35] قال مقاتل: أنزلنا دار الخلود، أقاموا فيها أن ألا يموتون ولا يتحولون عنها أبدا.
من فضله أي: ذلك بفضله لا بأعمالنا، {لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ} [فاطر: 35] لا يصيبنا في الجنة عناء ومشقة، {وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر: 35] وهو الإعياء من التعب.
ثم قال في صفة الكفار: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ {36} وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ {37} إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {38} } [فاطر: 36-38] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} [فاطر: 36] أي: لا يهلكون فيستريحوا مما هم فيه من العذاب، وهو كقوله: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص: 15] ، {وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36] طرفة عين، كذلك كما ذكرنا، {نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر: 36] كل كافر، {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} [فاطر: 37] يستغيثون، وهو افتعال من الصراخ، قال مقاتل: هو أنهم ينادون {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا} [فاطر: 37] قال ابن عباس: نقل لا إله إلا الله.
{غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر: 37] يعني الشرك، فوبخهم الله تعالى، فقال: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر: 37] قال عطاء: يريد ثماني عشرة سنة.
وهو قول قتادة.
وقال الحسن: أربعين سنة.
وقال ابن عباس في رواية مجاهد: ستين سنة.
قال: وهو العمر الذي أعذر الله ابن آدم.
776 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَحْمُوَيْهِ، أنا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْقَطِيعِيُّ، أنا بَشِيرُ بْنُ مُوسَى، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلانَ، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنِ الْعَجْلانِ أَبِي مُحَمَّد ٍ،(3/506)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ أَتَتْ عَلَيْهِ سِتُّونَ سَنَةً فَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ فِي الْعُمُرِ»
وقوله: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37] قال جمهور المفسرين: يريد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وروي عن عكرمة، وسفيان بن عيينة: أن المراد بالنذير الشيب، ومعناه: أولم يعمركم حتى شبتم، وقوله: {فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر: 37] قال مقاتل: فذوقوا العذاب فما للمشركين من مانع يمنعهم، وما بعد هذا مفسر إلى قوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا} [فاطر: 39] {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ} [فاطر: 39] أي: أمة آمنة خلفت من قبلها ورأت فيمن سلف ما ينبغي أن تعتبر به، {فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} [فاطر: 39] جزاء كفره، ثم ذم كفرهم بباقي الآية، ثم أمر نبيه بالاحتجاج عليهم بقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا {40} إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا {41} } [فاطر: 40-41] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ} [فاطر: 40] معناه: أخبروني عن الذين اتخذتم وعبدتم من دوني شركاء بزعمكم، {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ} [فاطر: 40] أي: بأي شيء أوجبتم لهم شركة مع الله في العبادة لشيء خلقوه من الأرض، {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ} [فاطر: 40] أي: شركة في خلقها، ثم ترك هذا النظم، فقال: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ} [فاطر: 40] قال مقاتل: يقول: ثم أعطينا كفار مكة كتابا فهم على بيان منه، بأن مع الله شريكا.
وهو قوله: فهم على بينات منه يعني ما في الكتاب من ضروب البيان، وقرأ أبو عمرو بينة جعل ما في الكتاب بينة على لفظ الإفراد، وإن كانت عدة أشياء، ثم استأنف: {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ} [فاطر: 40] أي: ما يعد {بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا} [فاطر: 40] قال مقاتل: يعني ما يعد الشيطان كفار بني آدم من شفاعة الآلهة لهم في الآخرة إلا باطلا، وليس بشيء.
قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر: 41] يمنعهما من الزوال والذهاب والسقوط، ولئن زالتا ولو زالتا على تقدير ذلك لم يمسكهما من أحد غير الله، وهو قوله: {إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 41] وهذا إخبار عن عظيم قدرة الله على حفظ السموات وإمساكها عن الزوال، {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا} [فاطر: 41] عن الكفار إذ لم يعجل لهم العقوبة، غفورا إذ أخر العذاب عنهم.
قوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا {42} اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ(3/507)
الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا {43} أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا {44} وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا {45} } [فاطر: 42-45] {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [فاطر: 42] يعني كفار مكة، قال ابن عباس: حلفوا قبل أن يأتيهم محمد بأيمان غليظة.
{لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ} [فاطر: 42] رسول، ليكونن أهدى أصوب دينا، {مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ} [فاطر: 42] يعني اليهود والنصارى والصابئين، {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ} [فاطر: 42] محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما زادهم مجيئه، إلا نفورا تباعدا عن الهدى.
{اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ} [فاطر: 43] عتوا على الله وتكبرا عن الإيمان به، ومكر السيئ يعني: ومكروا مكر السيئ، وهو عملهم القبيح من الشرك، والمكر هو العمل القبيح، وأضيف المكر إلى صفته، وقرأ حمزة بإسكان الهمزة، والنحويون كلهم يزعمون أن هذا من الاضطرار في الشعر، ولا يجوز مثله في كتاب الله.
وقال أبو علي الفارسي: هو على إجراء الوصل مجرى الوقف، كما حكى سيبويه من قولهم لملائه الأربعة: فأجروا الوصل مجرى الوقف.
قال: ويحتمل أنه خفف آخر الاسم لاجتماع الكسرتين والياءين كما خففوا الياء من أيل لتوالي الكسرتين، ونزل حركة الإعراب بمنزلة غير حركة الإعراب.
وقال أبو جعفر النحاس: كان الأعمش يقف على ومكر السيئ فيترك الحركة، وهو وقف حسن تام، ثم غلط فيه الراوي فروى أنه كان يحذف الإعراب في الوصل، فتابع حمزة الغالط، فقرأ في الأدراج الحركة.
وقوله: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] قال ابن عباس: عاقبة الشرك لا تحل إلا بمن أشرك.
{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ} [فاطر: 43] هل ينتظرون إلا أن ينزل بهم العذاب كما نزل بالأمم المكذبة قبلهم، {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ} [فاطر: 43] في العذاب، تبديلا وإن تأخر ذلك، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا} [فاطر: 43] لا يقدر أحد أن يحول العذاب عنهم إلى غيرهم.
وما بعد هذا مفسر فيما مضى إلى قوله: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ} [فاطر: 45] يعني المشركين، {بِمَا كَسَبُوا} [فاطر: 45] من الشرك والتكذيب لعجل لهم العذاب والعقوبة، وهو وقوله: {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [فاطر: 45] وهذا مفسر في { [النحل، وقوله:] فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [سورة فاطر: 45] قال ابن عباس: يريد أهل طاعته وأهل معصيته.(3/508)
سورة يس
مكية وآياتها ثلاث وثمانون.
777 - أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ أَبُو مَعْمَرٍ الْمُفَضَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْجُرْجَانِيُّ، بِهَا، أنا الإِمَامُ جَدِّي أَبُو بَكْرٍ الإِسْمَاعِيلِيُّ، أنا حَامِدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شُعَيْبٍ الْبَلْخِيُّ، أنا أَبُو إِبْرَاهِيمَ التَّرْجُمَانِيُّ، نا يُوسُفُ بْنُ عَطِيَّةَ الصَّفَّارُ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ يس وَهُوَ فِي سَكَرَاتِ الْمَوْتِ، أَوْ قَرِيبٍ عِنْدَهُ؛ جَاءَهُ خَازِنُ الْجَنَّةِ بِشَرْبَةٍ مِنْ شَرَابِ الْجَنَّةِ، فَسَقَاهَا إِيَّاهُ وَهُوَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَيَشْرَبُ فَيَمُوتُ رَيَّانَ، وَيُبْعَثُ رَيَّانَ، وَلا يَحْتَاجُ إِلَى حَوْضٍ مِنْ حِيَاضِ الأَنْبِيَاءِ»
{يس {1} وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ {2} إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ {3} عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {4} تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ {5} لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ {6} لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ {7} } [يس: 1-7] بسم الله الرحمن الرحيم يس قال ابن عباس، والمفسرون: يريد يا إنسان، يعني محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والقرآن الحكيم أقسم الله بالقرآن المحكم من الباطل.
{إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس: 3] وذلك أن كفار مكة قالوا: لست مرسلا، وما أرسل الله إلينا رسولا.
{عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس: 4] يعني دين الإسلام.
{تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [يس: 5] قال مقاتل: هذا القرآن تنزيل العزيز في ملكه، الرحيم بخلقه.
ومن قرأ بالنصب فعلى معنى: نزل الله ذلك تنزيلا من العزيز الرحيم، ثم أضيف المصدر فصار معرفة.
لتنذر قوما متصل بقوله: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس: 3] ، {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} [يس: 6] قال قتادة: لتنذر قوما لم يأتهم نذير من قبلك لأنهم كانوا في الفترة، وهو معنى قوله: فهم غافلون أي عن حج التوحيد وأدلة البعث.
{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ} [يس: 7] وجب العذاب، على أكثرهم أكثر أهل مكة كقوله: {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: 71] وهذا إشارة إلى الإرادة السابقة بكفرهم، {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس: 7] لأن الله منعهم عن الهدى.
قوله: {(3/509)
إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ {8} وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ {9} وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ {10} إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ {11} إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ {12} } [يس: 8-12] {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا} [يس: 8] قال أهل المعاني: هذا على طريق المثل، ولم يكن هناك غل.
قال الفراء: معناه حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله.
كقوله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29] معناه: لا تمسكها عن النفقة، وقوله: فهي يعني أيديهم، كنى عنها ولم يذكرها لأن الأغلال والأعناق تدل عليها، وذلك أن الغل إنما هو يجمع اليد إلى العنق، وقوله: فهم مقمحون قال الفراء، والزجاج: المقمح: الغاض بصره بعد رفع رأسه.
ومعنى الإقماح: رفع الرأس وغض البصر، يقال: أقمح البعير رأسه وقمح إذا رفع رأسه ولم يشرب الماء.
قال الأزهري: أراد الله أن أيديهم لما غلت عند أعناقهم رفعت الأغلال أذناقهم ورءوسهم صعدا فهم مرفوعو الرءوس برفع الأغلال إياها، يدل على هذا المعنى قول قتادة مقمحون: مغلولون.
قوله: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} [يس: 9] يريد منعناهم عن الإيمان لمواقع فهم لا يستطيعون الخروج من الكفر إلى الإيمان، كالمضروب أمامه وخلفه بالأسداد، وهذا معنى قول ابن عباس: منعهم من الهدى لما سبق في علمه عليهم.
وقوله: فأغشيناهم قال الفراء: ألبسنا أبصارهم غشاوة.
أي عمى، {فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس: 9] سبيل الهدى.
ثم ذكر أن الإنذار لا ينفعهم بعد هذا، بقوله: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس: 10] قال الزجاج: أي من أضله الله هذا الإضلال لم ينفعه الإنذار، إنما ينفع الإنذر من ذكر في قوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} [يس: 11] يعني القرآن، {وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [يس: 11] خاف الله في الدنيا، فبشره بمغفرة لذنوبه، وأجر كريم حسن وهو الجنة.
قوله: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى} [يس: 12] يعني البعث، {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} [يس: 12] من خير أو شر عملوه في حياتهم، وآثارهم خطاهم بأرجلهم.
778 - أَخْبَرَنَا الشَّرِيفُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الطَّبَرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الشَّرْقِيُّ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ، أنا الثَّوْرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: شَكَتْ بَنُو سَلَمَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بُعْدَ مَنَازِلِهِمْ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ، تَعَالَى {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} فَقَالَ(3/510)
النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ مَنَازِلَكُمْ، فَإِنَّمَا تُكْتَبُ آثَارُكُمْ»
779 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الشَّاكِرُ، نا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ أَجْرًا فِي الصَّلاةِ أَبْعَدُهُمْ إِلَيْهَا مَمْشًى، فَأَبْعَدُهُمْ» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، كِلاهُمَا عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ
وكل شيء من الأعمال، أحصيناه بيناه وحفظناه، {فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12] وهو اللوح المحفوظ.
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ {13} إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ {14} قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ {15} قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ {16} وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ {17} } [يس: 13-17] قوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا} [يس: 13] قال مقاتل: صف لهم يا محمد شبها.
يعني: لأهل مكة، أصحاب القرية يعني أنطاكية، {إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} [يس: 13] رسل عيسى، وذلك أنه بعث رسولين من الحواريين إلى أنطاكية ليدعوا الناس إلى عبادة الله، وهو قوله: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا} [يس: 14] قال ابن عباس: ضربوهما وسجنوهما.
فعززنا بثالث أي: فقوينا وشددنا الرسالة برسول ثالث، وقرئ بالتخفيف، قال الفراء: عززنا وعززنا، كقولك: شددنا وشددنا بالتخفيف والتثقيل.
ونحو ذلك قال الزجاج.
فقالوا يعني: الرسل لأهل أنطاكية: {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ {14} قَالُوا} [يس: 14-15] لهم: {مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [يس: 15] ما لكم علينا من فضل في شيء، {وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ} [يس: 15] أي: لم يرسل رسولا، {إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ} [يس: 15] ما أنتم إلا كاذبين فيما تزعمون.
{قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} [يس: 16] وإن كذبتمونا.
{وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [يس: 17] ما علينا إلا أن نبلغ ونبين لكم.
فقال القوم للرسل: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ {18} قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ {19} } [يس: 18-19] إنا تطيرنا تشاءمنا، بكم وذلك أن المطر حبس عنهم، فقالوا: أصابنا هذا الشر من قبلكم.
{لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا} [يس: 18] لئن لم تسكتوا عنا، لنرجمنكم لنفتنكم كقوله: {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [هود: 91] فتوعدوهم بالقتل والتعذيب، وهو قوله: {وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ {18} قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} [يس: 18-19] شؤمكم معكم بكفركم وتكذيبكم، يعني أصابكم الشؤم من قبلكم، أئن ذكرتم وعظتم بالله وخوفتم، وهذا استفهام محذوف الجواب، تقديره أئن ذكرتم تطيرتم بنا {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [يس: 19] مشركون.
قوله: {(3/511)
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ {20} اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ {21} وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {22} أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنَ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ {23} إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ {24} إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ {25} } [يس: 20-25] {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس: 20] وهو حبيب النجار، وكان قد آمن بالرسل عند ورودهم القرية، وكان منزله عند أقصى باب من أبواب المدينة، فلما بلغه أن قومه قد كذبوا الرسل وهموا بقتلهم، جاءهم و {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ {20} اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} [يس: 20-21] لا يسئلونكم أموالكم على ما جاءكم به من الهدى، وهم مهتدون يعني الرسل، فلما قال هذا أخذوه فرفعوه إلى الملك، فقال له الملك: أفأنت تتبعهم؟ فقال: {وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} [يس: 22] وأيّ شيء لي إذا لم أعبد خالقي، وإليه ترجعون تردون عند البعث فيجزيكم.
ثم أنكر اتخاذ الأصنام وعبادتها، فقال: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنَ بِضُرٍّ} [يس: 23] بسوء ومكروه، {لا تُغْنِ عَنِّي} [يس: 23] لا ترفع ولا تمنع، شفاعتهم شيئا يعني لا شفاعة لها فتغني، ولا ينقذون ولا يخلصوني من ذلك المكروه.
{إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يس: 24] إن أنا فعلت ذلك.
{إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ} [يس: 25] الذي كفرتم به، فاسمعون فاسمعوا قولي، فلما قال هذا وثبوا عليه وثبة رجل واحد فقتلوه، قال ابن مسعود: وطئوه بأرجلهم حتى خرج قصبه من دبره، فأدخله الله الجنة وهو حي فيها يرزقه، وذلك قوله: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ {26} بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ {27} وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ {28} إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ {29} } [يس: 26-29] {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} [يس: 26] فلما دخلها، {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ {26} بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} [يس: 26-27] يعني أن يعلموا أن الله غفر له ليرغبوا في دين الرسل، والمعنى: بغفران ربي لي، وما مع الفعل بمنزلة المصدر، {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس: 27] من المدخلين الجنة.
فلما قتلوه غضب الله لقتلهم إياه غضبة لم تبق من القوم شيئا وعجل لهم العذاب، وهو قوله: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ} [يس: 28] يعني قوم حبيب، من بعده من بعد قتله، {مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ} [يس: 28] يعني الملائكة، أي: لم تستنصر منهم بجند من السماء، {وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} [يس: 28] أي: وما كنا ننزلهم على الأمم إذا أهلكناهم كالطوفان، والصاعقة، والريح.
ثم بين بما كانت عقوبتهم، فقال: {إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس: 29] قال المفسرون: أخذ جبريل بعضادتي باب المدينة ثم صاح بهم صيحة فإذا هم ميتون، لا يسمع لهم حس كالنار إذا طفئت.
وهو قوله: {فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس: 29] أي: ساكتون قد ماتوا.
قوله: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ {30} أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ(3/512)
الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ {31} وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ {32} } [يس: 30-32] {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس: 30] قال مجاهد، ومقاتل: يا ندامة عليهم في الآخرة باستهزائهم بالرسل في الدنيا.
ثم بين سبب الحسرة، فقال: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ} [يس: 30] أي: في الدنيا، {إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} [يس: 30] .
ثم خوف كفار مكة، فقال: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ} [يس: 31] أي: ألم يروا أن القرون التي أهلكناهم، لا يرجعون إليهم أي: لا يعودون إلى الدنيا، أفلا تعتبرون بهم.
{وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 32] يعني أن الأمم يحضرون يوم القيامة فيقفون على ما عملوا.
ثم وعظ كفار مكة ليعتبروا، فقال: {وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ {33} وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ {34} لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ {35} سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ {36} } [يس: 33-36] {وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ} [يس: 33] أي: يدلهم على قدرتنا على البعث إحياء الأرض بالنبات بعد أن كانت ميتة لا تنبت شيئا، وهو قوله: {أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} [يس: 33] يعني: ما يقتات من الحبوب.
وجعلنا فيها في الأرض، {جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا} [يس: 34] في الأرض، من العيون يعني: عيون الماء.
{لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} [يس: 35] يعني: من ثمرة النخيل، وهو في اللفظ مذكر، {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} [يس: 35] أي: ومن ثمرة ما عملت أيديهم، يعني الغروس والحروث التي قاسوا حراثتها، ومن قرأ عملته بالهاء جعلها عائدة إلى ما التي هي بمعنى الذي، ومن قرأ بحذف الهاء فلأن هذه الهاء الراجعة إلى الموصول تجيء محذوفة في أكثر القرآن، كقوله: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا} [الفرقان: 41] ، {وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] وتكون هذه القراءة كقراءة عملته لأن الهاء مرادة، وإن حذفت في اللفظ، ويجوز أن يكون ما في، وما عملته نفيا، وهو معنى قول الضحاك ومقاتل، قال الضحاك: أي وجدوها معمولة ولا صنع لهم فيها.
وقال مقاتل: يقول: لم يكن ذلك من صنيع أيديهم، ولكن من فعلنا.
وقوله: أفلا يشكرون أي: رب هذه النعم فيوحدونه.
ثم نزه نفسه، فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا} [يس: 36] يعني: أجناس الفواكه والحبوب وأصنافها، {مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ} [يس: 36] يعني: الذكران والإناث، {وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} [يس: 36] مما خلق الله من جميع الأنواع والأشياء، مما لا تقف عليه من دواب البر والبحر.
{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ {37} وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ(3/513)
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ {38} وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ {39} لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ {40} } [يس: 37-40] وآية لهم تدل على قدرتنا، {اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يس: 37] قال الفراء: نرمي بالنهار على الليل فنأتي بالظلمة.
وذلك أن الأصل هي الظلمة والنهار داخل عليها، فإذا غربت الشمس سلخ النهار من الليل، أي: كشط وأزيل، أي: نزع فتظهر الظلمة، وهو قوله: {فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس: 37] داخلون في ظلام الليل.
قوله: والشمس تجري وآية لهم الشَّمْسُ تَجْرِي، {لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38] يعني: انتهاء سيرها عند انقضاء الدنيا، وقال ابن قتيبة: إنها تسير حتى تنتهي إلى أبعد مغاربها ثم ترجع، فذلك مستقرها لأنها لا تجاوزه، وعلى هذا القول يكون التقدير لمستقر لسيرها.
780 - حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَّاجُ إِمْلاءً، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الْحَافِظُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ سَلَمَةَ، نا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، نا وَكِيعٌ، نا الأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ قَوْلِهِ، تَعَالَى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قَالَ: «مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ وَكِيعٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الأَشَجِّ، عَنْ إِسْحَاق
وقوله: ذلك أي: ذلك الذي ذكر من أمر الليل والنهار، والشمس والقمر، تقدير العزيز في ملكه، العليم بما قدر من أمرها.
قوله: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس: 39] وهي ثمانية وعشرون منزلا من أول الشهر، فإذا صار إلى آخر منازله دق، وذلك قوله: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39] ومن قرأ والقمر نصبا فلأن المعنى: وقدرنا القمر قدرناه، كما تقول: زيدا ضربته، والعرجون عود العذق الذي تركبه الشماريخ، وإذا جف وقدم يشبه الهلال.
{لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} [يس: 40] أي: لا يدخل النهار على الليل قبل انقضائه، ولا يدخل الليل على النهار قبل انقضائه، وهو وقوله: {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس: 40] أي: هما يتعاقبان بحساب معلوم ولا يجيء أحدهما قبل وقته، وكل من الشمس والقمر والنجوم، {فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] يسيرون فيه.
{وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ {41} وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ {42} وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ {43} إِلا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ {44} } [يس: 41-44] وآية لهم وعلامة لأهل مكة على قدرتنا، {أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} [يس: 41] يعني: آباءهم وأجدادهم الذين هؤلاء من نسلهم، {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس: 41] يعني: سفينة نوح، لأن من حمل مع نوح كان هؤلاء من نسلهم، والذرية تقع على الآباء كما تقع على الأولاد، والمشحون المملوء.
{وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس: 42] يعني: السفن التي عملت بعد سفينة نوح(3/514)
مثلها على هيئها وصورتها، والمراد بهذا أن الله تعالى ذكر منته بأن خلق لهم الخشب حتى عملوا مثل سفينة نوح وركبوه للتجارات.
ثم ذكر أنه بفضله يحفظهم ولو شاء أغرقهم فلم يغثهم أحد ولم ينقذهم من الغرق، وهو قوله: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ} [يس: 43] ولا مغيث لهم، والصريخ ههنا بمعنى المصرخ {وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ} [يس: 43] يقال: أنقذه واستنقذه إذا خلصه من مكروه.
قال ابن عباس: ولا ينقذهم من عذابي.
{إِلا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [يس: 44] أي: إلا أن نرحمهم ونمتعهم إلى آجالهم، وذلك أن الكافر متعه الله في الدنيا ورزقه فيها، فإذا ركب السفينة سلمه حتى يموت بأجله.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ {45} وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ {46} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ {47} } [يس: 45-47] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ} [يس: 45] لهؤلاء الكفار: {اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} [يس: 45] من أمر الآخرة فاعملوا لها، وما خلفكم من أمر الدنيا، فأحذروها ولا تغتروا بها وما فيها من زهرتها، لعلكم ترحمون لتكونوا على رجاء الرحمة من الله، وجواب إذا محذوف على تقدير وإذا قيل لهم هذا أعرضوا، يدل على المحذوف.
قوله: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ} [يس: 46] أي: عبرة ودلالة تدل على صدق محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ {46} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [يس: 46-47] قال مقاتل: إن المؤمنين قالوا لكفار قريش: أنفقوا على المساكين ما زعمتم من أموالكم أنه لله، وهو ما جعلوه من حروثهم وأنعامهم لله.
قالت الكفار: أنطعم أنرزق، {مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس: 47] رزقه، أي: نحن نوافق مشيئة الله فلا نطعم من لم يطعمه الله، وهذا خطأ منهم، لأن الله تعالى أغنى بعض الخلق وأفقر بعضها ليبلوا الغني بالفقير فيما فرض له في ماله من الزكاة، والمؤمن لا يعترض على المشيئة، وإنما يوافق الأمر.
وقوله: {إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يس: 47] هذا من قول الكفار للمؤمنين، يقولون لهم: إن أنتم في اتباعكم محمدا وترك ديننا إلا في خطأ بين.
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {48} مَا يَنْظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ {49} فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ {50} } [يس: 48-50] {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [يس: 48] الذي تعدنا به يا محمد من القيامة، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يس: 48] في ذلك أنت وأصحابك.
قال الله تعالى: {مَا يَنْظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس: 49] قال ابن عباس: يريد النفخة الأولى.
يعني أن القيامة تأتيهم بغتة.
تأخذهم الصيحة، وهم يخصمون أي: يختصمون في البيع والشراء، ويتكلمون في الأسواق والمجالس، أعز ما كانوا متشاغلين في متصرفاتهم، وأجود القراءة فتح الخاء مع تشديد الصاد، لأن الأصل يختصمون، فألقيت حركة الحرف المدغم وهو التاء على الساكن الذي قبله وهو الخاء، ومن قرأ بكسر الخاء حركه بالكسر لالتقاء الساكنين، وقرأ أهل المدينة بالجمع بين ساكنين، قال الزجاج: وهو أفسد الوجوه وأردأها.
وقرأ حمزة: ساكنة الخاء مخففة الصاد، وهو يفعلون من الخصومة، كأنه قال: وهم يتكلمون.
والمعنى: تأخذهم وبعضهم يخصم بعضا، وأراد(3/515)
أن الكفار الذين تقوم عليهم الساعة تأخذهم الصيحة وهم يختصمون، والقوم إذا كانوا على أمر واحد كان الخبر عن بعضهم كالخبر عن جميعهم.
ثم ذكر أن الساعة إذا أخذتهم بغتة لم يقدروا على الارتقاء بشيء، فقال: {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} [يس: 50] قال مقاتل: عجلوا عن الوصية فماتوا.
{وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس: 50] وإلى منازلهم يرجعون من الأسواق، وهذا إخبار عما يلقون في النفخة الأولى.
ثم أخبر عما يلقونه في النفخة الثانية إذا بعثوا بعد الموت، فقال: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ {51} قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ {52} إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ {53} فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {54} } [يس: 51-54] {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ} [يس: 51] يعني القبور، {إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس: 51] يخرجون من قبورهم أحياء، يقال: نسل في العد وينسل نسلانا.
{قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس: 52] قال المفسرون: إنما يقولون هذا لأن الله رفع عنهم العذاب فيما بين النفختين، فيرقدون، فلما بعثوا في النفخة الأخيرة وعاينوا القيامة دعوا بالويل، فقالت الملائكة: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} [يس: 52] على ألسنة الرسل أنه يبعثكم بعد الموت، وصدق المرسلون في وعد البعث، وقال قتادة: أول الآية للكافرين وآخرها للمسلمين، قال الكافرون: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس: 52] .
وقال المسلم: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس: 52] .
ثم ذكر النفخة الثانية، فقال: {إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 53] .
يقول الله تعالى: {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس: 54] .
ثم ذكر أولياءه، فقال: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ {55} هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ {56} لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ {57} سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ {58} } [يس: 55-58] {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ} [يس: 55] يعني في الآخرة، في شغل وقرئ شغل وهما لغتان، قال مقاتل: شغلوا بافتضاض العذارى من أهل النار، فلا يذكرونهم ولا يهتمون لهم.
وهذا قول جماعة المفسرون.
وقال الحسن: شغلوا بما في الجنة من النعيم عما فيه أهل النار من العذاب.
فاكهون ناعمون معجبون بما هم فيه، قال أبو زيد: الفكه الطيب النفس الضحوك، يقال: رجل فكه وفاكه ولم يسمع لهذا أفعل في الثلاثي.
هم وأزواجهم يعني حلائلهم، في ظلال قال مقاتل: في أكنان القصور.
وقرئ في ظلل وهي جمع ظلة.
على الأرائك وهي السرر عليها الحجال، قال أحمد بن يحيى: الأريكة لا تكون إلا سريرا في قبة عليه سواره ومتاعه.
لهم فيها في الجنة، {فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} [يس: 57] يتمنون ويشتهون، قال الزجاج: وهو مأخوذ من الدعاء.
والمعنى: كل ما يدعوه أهل الجنة يأتيهم.
ثم بين ما يشتهون، فقال: سلام قولا وهو بدل من ما، المعنى لهم ما يتمنون سلام، ومن أهل الجنة أن يسلم الله عليهم، وقولا منصوب على معنى لهم سلام، يقوله(3/516)
الله قولا.
781 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أنا عَبْدُ الْخَالِقِ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى اللَّخْمِيُّ، نا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ الزَّعْفَرَانِيُّ، نا ابْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ، نا أَبُو عَاصِمٍ، نا الْفَضْلُ الرَّقَاشِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ، فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ فَإِذَا الرَّبُّ، عَزَّ وَجَلَّ، قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ، تَعَالَى: {سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} فَيَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَلا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ النَّعِيمِ مَا دَامُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ حَتَّى يَحْتَجِبَ عَنْهُمْ، فَيَبْقَى نُورُهُ وَبَرَكَتُهُ عَلَيْهِمْ فِي دِيَارِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرْسِلُ الرَّحِيمُ إِلَيْهِمْ بِالسَّلامِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ الْمَلائِكَةَ تَدْخُلُ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ كُلِّ بَابٍ، يَقُولُونَ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ، يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، مِنْ رَبِّكُمُ الرَّحِيمِ
{وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ {59} أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ {60} وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ {61} وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ {62} } [يس: 59-62] قوله: وامتازوا اليوم يقال: مزت الشيء من شيء إذا عزلته وتحيته فامتاز.
قال: مقاتل: اعتزلوا اليوم يعني في الآخرة من الصالحين.
وقال السدي: كونوا على حدة.
قال الزجاج: انفردوا عن المؤمنين.
{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ} [يس: 60] ألم آمركم وأوص إليكم، وقال الزجاج: ألم أتقدم إليكم على لسان الرسل يا بني آدم.
قال مقاتل: يعني الذين أمروا بالاعتزال.
{أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: 60] لا تطيعوا إبليس في الشرك، {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس: 60] ظاهر العداوة، أخرج أبويكم من الجنة.
{وَأَنِ اعْبُدُونِي} [يس: 61] أطيعوني ووحدوني، {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس: 61] يعني دين الإسلام الذي جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم ذكر عداوته لبني آدم، فقال: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا} [يس: 62] يعني: خلقا كثيرا، وفيه لغات: جبلا، وجبلا، وجبلا، وهذه الأوجه قرئ بها ومعناها: الخلق والجماعة.
{أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس: 62] ما رأيتم من الأمم قبلكم إذ أطاعوا إبليس وعصوا الرسول فأهلكوا، ويقال لهم لما دنوا من النار: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ {63} اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ {64} الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ {65} وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ {66} وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ {67} } [يس: 63-67] {(3/517)
هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [يس: 63] بها في الدنيا.
اصلوها قاسوا حرها، اليوم يعني يوم القيامة، {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [يس: 64] بكفركم بها في الدنيا.
اليوم نختم الآية، قال المفسرون: إنهم ينكرون الشرك وتكذيب الرسل.
وقالوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] فختم الله على أفواههم وتكلمت جوارحهم بإذن الله لها في الكلام فشهدت عليهم بما عملوا.
قوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} [يس: 66] أذهبنا أعينهم وجعلناها بحيث لا يبدو لها شق ولا جفن، يهددهم الله بهذا كقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} [البقرة: 20] يقول: كما أعمينا قلوبهم لو شئنا أعمينا أبصارهم الظاهرة.
فاستبقوا الصراط فتبادروا إلى الطريق، فأنى يبصرون فكيف يبصرون وقد أعمينا أبصارهم.
{وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} [يس: 67] على مكانهم الذي هم فيه قعود، يقول: لو شئت لمسختهم حجارة في منازلهم ليس فيها أرواح.
{فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ} [يس: 67] لا يقدرون على ذهاب ولا مجيء.
{وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ {68} وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُبِينٌ {69} لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ {70} } [يس: 68-70] {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} [يس: 68] بالتشديد والتخفيف، يقال: نكسته وأنكسته، وأنكسته وأنكسته.
وذكرنا معنى النكس في قوله: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} [الأنبياء: 65] قال الزجاج: من أطلنا عمره نكسنا خلقه، فصار بدل القوة الضعف، وبدل الشباب الهرم.
أفلا يعقلون أليس لهم عقل فيعتبروا فيعلموا أن الذي قدر على هذا من تصريف أحوال الإنسان قادر على البعث بعد الموت، ومن قرأ بالتاء فهو مخاطبة للكفار.
قوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} [يس: 69] قال الكلبي: إن كفار مكة قالوا: إن القرآن شعر، وإن محمدا شاعر.
فقال الله تكذيبا لهم: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] الشعر أي: ما يستهل له ذلك، وما يتزن له بيت شعر حتى إذا مثل له بيت شعر جرى على لسانه منكسرا.
782 - أَخْبَرَنِي أَبُو نُعَيْمٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِسْحَاقَ، إِجَازَةً، نا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ كَيْسَانَ، نا إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي، نا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ يَتَمَثَّلُ بِهَذَا الْبَيْتِ: «كَفَى الإِسْلامُ وَالشَّيْبُ لِلْمَرْءِ نَاهِيًا» ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا قَالَ الشَّاعِرُ: كَفَى الشَّيْبُ وَالإِسْلامُ لِلْمَرْءِ نَاهِيًا، أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، مَا عَلَّمَكَ الشِّعْرَ، وَمَا يَنْبَغِي لَكَ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَتَمَثَّلُ بِبَيْتِ أَخِي بَنِي قَيْسٍ:(3/518)
سَتُبْدِي لَكَ الأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلا ... وَيَأْتِيكَ بِالأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ
فَجَعَلَ يَقُولُ: وَيَأْتِيكَ مَنْ لَمْ تُزَوِّدْ بِالأَخْبَارِ، فَيَقُولُ أَبُو بَكْرٍ: لَيْسَ هَكَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَيَقُولُ: إِنِّي لَسْتُ بِشَاعِرٍ وَلا يَنْبَغِي لِي
وقوله: إن هو قال مقاتل: ما القرآن، إلا ذكر موعظة، وقرآن مبين فيه الفرائض والحدود والأحكام.
لينذر أي القرآن، ومن قرأ بالتاء لتنذر يا محمد بما في القرآن، {مَنْ كَانَ حَيًّا} [يس: 70] يعني: مؤمنا حي القلب، لأن الكافر كالميت في أنه لا يتدبر ولا يتفكر، ويحق القول وتجب الحجة بالقرآن، على الكافرين.
ثم ذكرهم قدرته، فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ {71} وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ {72} وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ {73} } [يس: 71-73] {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71] مما تولينا خلقه بإبداعنا وإنشائنا لم نشارك في خلقه ولم نخلقه بإعانة معين، وذكر الأيدي ههنا يدل على إنفراده بما خلق، والواحد منا إذا قال عملت هذا بيدي دل ذلك على إنفراده بعمله، وإنما تخاطب العرب بما يستعملون من مخاطباتهم، وقوله: أنعاما يريد: الإبل والبقر والغنم، {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس: 71] ضابطون قاهرون، أي: لم نخلق الأنعام وحشية نافرة من بني آدم لا يقدرون على ضبطها، بل هي مسخرة لهم.
وهو قوله: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} [يس: 72] ما يركبون، يعني الإبل، وقال مقاتل: يعني حمولتهم الإبل والبقر.
ومنها يأكلون يعني الغنم.
{وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} [يس: 73] من الأصواف والأوبار والأشعار والنسل، ومشارب من ألبانها، أفلا يشكرون رب هذه النعم فيوحدونه.
ثم ذكر جهلهم وغرتهم، فقال: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ {74} لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ {75} فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ {76} } [يس: 74-76] {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} [يس: 74] يمنعون من العذاب.
{لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} [يس: 75] قال ابن عباس: لا تقدر الأصنام على نصرتهم.
وقال مقاتل: لا تقدر آلهة أن تمنعهم من العذاب.
{وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} [يس: 75] يعني: الكفار جند الأصنام، يغضبون لهم ويحضرونهم في الدنيا.
قال قتادة: يغضبون للآلهة في الدنيا وهي لا تسوق إليهم خيرا ولا تدفع عنهم شرا.
وقال الزجاج: ينتصرون للأصنام وهي لا تستطيع نصرهم.
ثم عزى نبيه، فقال: {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} [يس: 76] يعني: قول كفار مكة في تكذيبك، {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} [يس: 76] في ضمائرهم من تكذيبك، وما يعلنون بألسنتهم، والمعنى: إنا نثيبك ونجازيهم.
قوله: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ} [يس: 77] يعني: أبي بن خلف، خاصم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إنكار البعث، وأتاه بعظم قد بلي، فتته بيده، وقال: أيحيي الله هذا بعدما رم؟ فأنزل الله: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ {77} وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ(3/519)
يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ {78} قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ {79} الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ {80} } [يس: 77-80] {أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس: 77] يعني: ألا يرى أنه مخلوق من نطفة، ثم هو يخاصم! وهذا تعجيب من جهله، وإنكار عليه خصومته، أي: كيف لا يتفكر في بدء خلقه حتى يدع خصومته.
ثم أكد الإنكار عليه بقوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا} [يس: 78] يعني أنه ضرب المثل في إنكار البعث بالعظم البالي، يفته بيده، ويتعجب ممن يقول: إن الله يحييه.
ونسي خلقه قال مقاتل: وترك النظر في خلق نفسه، إذ خلق من نطفة.
ثم بين ذلك المثل بقوله: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] قاس قدرة الله بقدرة الخلق، فأنكر إحياء العظم البالي لما لم يكن ذلك في مقدور الخلق، يقال: رم العظم يرم رما إذا بلي، وهو رميم، والعظام رميم، ولا يقال بالهاء لأنه مصروف إلى فعيل.
قال الله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا} [يس: 79] ابتدأها وخلقها، {أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ} [يس: 79] من الابتداء والإعادة، عليم.
ثم زاد في البيان، وأخبر عن عجيب صنعه، فقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا} [يس: 80] يعني: ما جعل من النار في المرخ والقفار، وهما شجرتان تتخذ الأعراب زنودها منها، وهو قوله: {فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس: 80] تقدحون النار، وتوقدونها من ذلك الشجر.
ثم ذكر ما هو أعظم خلقا من الإنسان، فقال: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ {81} إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ {82} فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {83} } [يس: 81-83] {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [يس: 81] في عظمها وكثرة أجزائها، يقدر على إعادة خلق البشر، ثم أجاب هذا الاستفهام بقوله: بلى أي: هو قادر على ذلك، وهو الخلاق يخلق خلقا بعد خلقا، العليم بجميع ما خلق.
ثم ذكر قدرته على إيجاد الشيء، فقال: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] وقد تقدم تفسيرها.
ثم نزه نفسه من أن يوصف بغير القدرة، فقال: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [يس: 83] أي: ملك كل شيء، والقدرة على كل شيء.
وإليه ترجعون تردون بعد الموت.(3/520)
سورة الصافات
مكية وآياتها اثنتان وثمانون ومائة.
783 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ أَبِي الْفَضْلِ الْمُؤَذِّنُ، أنا أَبُو إِسْحَاقَ الأَسَدِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ الْيَرْبُوعِيُّ، نا الْمَدَائِنِيُّ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الصَّافَّاتِ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، بِعَدَدِ كُلِّ جِنِّيٍّ وَشَيْطَانٍ، وَتَبَاعَدَتْ مِنْهُ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، وَبَرِئَ مِنَ الشِّرْكِ، وَشَهِدَ لَهُ حَافِظَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةُ أَنَّهُ كَانَ مُؤْمِنًا بِالْمُرْسَلِينَ»
{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا {1} فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا {2} فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا {3} إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ {4} رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ {5} } [الصافات: 1-5] بسم الله الرحمن الرحيم والصافات صفا هذا قسم أقسم الله بالملائكة التي تصف أنفسها في السماء كصفوف الخلق في الدنيا، قال ابن عباس: يريد الملائكة صفوفا صفوفا، لا يعرف كل ملك منهم من إلى جانبه، لم يلتفت منذ خلقه الله عز وجل.
فالزاجرات زجرا يعني الملائكة الذين وكلوا بالسحاب، يزجرونه في سوقه وتأليفه، وقال قتادة: يعني زواجر القرآن، وهي كل ما ينهى ويزجر عن القبيح.
فالتاليات ذكرا هم الملائكة، يتلون ذكر الله، وقال الكلبي: هم قراء الكتاب.
{إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} [الصافات: 4] جواب القسم، أقسم الله تعالى بهذه الأقسام أنه واحد ليس له شريك.
{رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [الصافات: 5] من شيء، {وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [الصافات: 5] مطالع الشمس.
{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ {6} وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ {7} لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ {8} دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ {9} إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ {10} } [الصافات: 6-10] {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا} [الصافات: 6] يعني: التي تلي الأرض، فهي أدنى السموات إلى الأرض، بزينة الكواكب بحسنها وضوئها، وقرأ حمزة بزينة منونة، وخفض الكواكب، قال الزجاج: الكواكب بدل من الزينة، لأنها هي كما تقول: مررت بأبي عبد الله زيد.
وقرأ عاصم بالتنوين ونصب الكواكب، أعمل الزينة وهي مصدر في الكواكب، والمعنى: بأنا زينا الكواكب فيها حين ألفناها في منازلها، وجعلناها ذات نور.
وحفظا(3/521)
للسماء بالكواكب، {مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} [الصافات: 7] متمرد يرمون بها فلا تخطئهم.
قوله: {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى} [الصافات: 8] قال الكلبي: لكي لا يسمعوا إلى الكتبة من الملائكة، والملأ الأعلى هم الملائكة، لأنهم في السماء، وقرئ يسمعون بالتشديد، وأصله يتسمعون، فأدغم التاء في السين، {وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} [الصافات: 8] ويرمون من كل ناحية بالشهب.
دحورا يقال: دحره دحرا ودحورا إذا طرده وأبعده.
والمعنى: يدحرون دحورا فيبعدون عن تلك المجالس التي يسترقون فيها السمع.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} [الصافات: 9] قال مقاتل: يعني دائما إلى النفخة الأولى، فهم يخرجون ويكبلون.
{إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} [الصافات: 10] اختلس الكلمة من الكلام الملائكة مسارقة، فأتبعه لحقه وأصابه، شهاب ثاقب نار مضيئة تحرقه، والثاقب: النير المضيء كقوله: {إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر: 18] .
{فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ {11} بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ {12} وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ {13} وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ {14} وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ {15} أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ {16} أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ {17} قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ {18} فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ {19} } [الصافات: 11-19] قوله: فاستفتهم قال الزجاج: سلهم سؤال تقرير عن {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا} [الصافات: 11] أحكم صنعة، {أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} [الصافات: 11] قبلهم من الأمم السالفة، يريد أنهم ليسوا بأحكم خلقا من غيرهم من الأمم، وقد أهلكناهم بالتكذيب، فما الذي يؤمنهم من العذاب.
ثم ذكر خلق الإنسان، فقال: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ} [الصافات: 11] لاصق جيد، يقال: لزب يلزب لزوبا إذا لصق.
والمعنى أن هؤلاء الكفار خلقوا مما خلق منه الأولون، فليسوا بأشد خلقا منهم، وهذا إخبار عن التسوية بينهم وبين غيرهم من الأمم في الخلق.
قوله: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات: 12] بل معناه: ترك الكلام الأول والأخذ في الكلام الآخر، كأنه قال: دع يا محمد ما مضى، عجبت من كفار مكة حين أوحى إليك القرآن، ولم يؤمنوا به، وهو قوله: ويسخرون لأن سخريتهم بالقرآن وبه من ترك الإيمان، قال قتادة: عجب نبي الله من هذا القرآن حين أنزل عليه وخلال بني آدم.
وذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يظن أن كل من يسمع منه القرآن يؤمن به، فلما سمع المشركون القرآن فسخروا منه وتركوا الإيمان به عجب من ذلك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال الله: عجبت يا محمد من نزول الوحي عليك وتركهم الإيمان.
وقرأ ابن مسعود بضم التاء.
784 - أَخْبَرَنَاهُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْخَشَّابُ، أنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَصْفَهَانِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ السَّرَّاجُ، نا قُتَيْبَةُ، نا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: بَلْ عَجِبْتُ، فَقَالَ شُرَيْحٌ: إِن اللَّهَ لا يَعْجَبُ، إِنَّمَا يَعْجَبُ مَنْ لا يَعْلَمُ، قَالَ الأَعْمَشُ: فَذَكَرْتُهُ لإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ: إِنَّ شُرَيْحًا كَانَ مُعْجَبًا بِرَأْيِهِ، إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَرَأَ: بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ، وَعَبْدُ اللَّهِ أَعْلَمُ مِنْ(3/522)
شُرَيْحٍ، وَإِضَافَةِ الْعَجَبِ إِلَى اللَّهِ، تَعَالَى، وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ كَقَوْلِهِ: صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «عَجِبَ رَبُّكُمْ مِنْ شَابٍّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ» وَ «عَجِبَ رَبُّكُمْ مِنْ إِلِّكُمْ وَقُنُوطِكُمْ» وَ «عَجِبَ اللَّهُ الْبَارِحَةَ مِنْ فُلانٍ وَفُلانَةٍ» وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ عَجِبَ مِمَّا يَرْضَى؛ وَمَعْنَاهُ: الاسْتِحْسَانُ وَالْخَبَرُ عَنْ تَمَامِ الرِّضَا، وَعَجِبَ مِمَّا يَكْرَهُ؛ وَمَعْنَاهُ: الإِنْكَارُ وَالذَّمُّ لَهُ، وَتَأْوِيلُ الآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ، تَعَالَى، ذَكَرَ الْكُفَّارَ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ وَسُخْطِهِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ يَسْخَرُونَ وَيَسْتَهْزِئُونَ وَلا يَتَفَكَّرُونَ
قوله: {وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ} [الصافات: 13] أي: إذا وعظوا بالقرآن لا يتعظون به.
{وَإِذَا رَأَوْا آيَةً} [الصافات: 14] قال ابن عباس، ومقاتل: يعني انشقاق القمر.
يستسخرون يسخرون ويستهزئون ويقولون: هذا عمل السحرة.
وهو قوله: {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصافات: 15] جعلوا ما يدل على التوحيد مما يعجزون عنه سحرا.
ثم ذكر إنكارهم البعث بقوله: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الصافات: 16] وقد مضت في مواضع.
وقوله: {أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ} [الواقعة: 48] ألف الاستفهام دخلت على حرف العطف، كقوله: {أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى} [الأعراف: 98] .
قال الله تعالى: قل لهم: نعم يبعثون، وأنتم داخرون صاغرون، والدخور أشد الصغار.
ثم ذكر أن بعثهم يقع بزجرة واحدة، فقال: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} [الصافات: 19] أي: فإنما قضية البعث صيحة واحدة من إسرافيل، يعني: نفخة البعث.
{فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ} [الصافات: 19] إلى البعث الذي كذبوا به.
فلما عاينوا البعث ذكروا قول الرسل في الدنيا إن البعث حق فدعوا بالويل: {وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ {20} هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ {21} احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ {22} مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ {23} وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ {24} مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ {25} بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ {26} } [الصافات: 20-26] {وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا} [الصافات: 20] من العذاب، {هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} [الصافات: 20] الحساب الجزاء، نجازى فيه ما عملنا.
فقالت الملائكة: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} [الصافات: 21] يوم القضاء، {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [الصافات: 21] يفصل فيه بين المحسن والمسيء.
ويقال في ذلك اليوم: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الصافات: 22] اجمعوهم من حيث بعثوا إلى الموقف والحساب، والمراد بالذين ظلموا الذين أشركوا من بني آدم، وقوله: وأزواجهم قال الحسن: يعني المشركات، كأنه قال: احشروا المشركين والمشركات.
وقال جماعة المفسرين: أشباههم وأمثالهم، وأتباعهم ونظراءهم وضرباءهم.
وعلى هذا القول يحمل الذين ظلموا على القادة والرؤساء وأزواجهم أتباعهم.
{وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ {22} مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الصافات: 22-23] يعني: الأوثان والطواغيت، وقال مقاتل: يعني إبليس وجنده.
واحتج بقوله: {أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: 60] .
{فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 23] دلوهم عليها، أي: اذهبوا بهم إلى الجحيم.(3/523)
قوله: وقفوهم قال المفسرون: لما سيقوا إلى النار حبسوا عند الصراط، لأن السؤال عند الصراط، فقيل: وقفوهم {إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 24] قال ابن عباس: عن أعمالهم في الدنيا وأقاويلهم.
وقال مقاتل: سألتهم خزية جهنم {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك: 8] ، {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] ؟ ويجوز أن يكون هذا السؤال ما ذكر بعد، وهو قوله: {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} [الصافات: 25] أي أنهم يسئلون توبيخا لهم، فيقال: ما لكم لا تتناصرون؟ لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم في الدنيا؟ وذلك أن أبا جهل قال يوم بدر: نحن جميع منتصر.
فقيل لهم ذلك: ما لكم غير متناصرين؟ قال الله تعالى: {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات: 26] يقال: استسلم للشيء إذا انقاد له وخضع، والمعنى: هم اليوم أذلاء منقادون لا حيلة لهم.
{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ {27} قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ {28} قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ {29} وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ {30} فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ {31} فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ {32} فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ {33} إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ {34} إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ {35} وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ {36} بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ {37} } [الصافات: 27-37] {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [الصافات: 27] يعني: الرؤساء والأتباع، يتساءلون توبيخ وتأنيب، يقول الأتباع للرؤساء: لم غررتمونا؟ ويقولون لهم: لم قبلتم منا؟ وهو قوله: {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات: 28] أي: من قبل الحق والدين والطاعة، فتضلوننا عنها.
قال الزجاج: كنتم تأتوننا من قبل الدين، فتروننا أن الدين الحق ما تضلوننا به.
واليمين عبارة عن الحق، وهذا كقوله إخبارا عن إبليس: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ} [الأعراف: 17] فمن أتاه الشيطان من جهة اليمين فقد أتاه من قبل الدين، فليس عليه الحق.
وقال بعض أهل المعاني: إن الرؤساء كانوا قد جعلوا لهؤلاء أن ما بدعوتهم إليه هو الحق، فوقفوا بأيمانهم، فمعنى قوله: تأتوننا عن اليمين، أي: من ناحية الأيمان التي كنتم تحلفونها، فتفتنون بها.
والمفسرون على القول الأول.
فقال لهم الرؤساء: {بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الصافات: 29] لم تكونوا على الحق فنضلكم عنه، أي: إنما الكفر من قبلكم.
{وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [الصافات: 30] من قدرة وقوة فتقهركم ونكرهكم على متابعتنا، {بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ} [الصافات: 30] ضالين.
{فَحَقَّ عَلَيْنَا} [الصافات: 31] فوجب علينا جميعا، {قَوْلُ رَبِّنَا} [الصافات: 31] يعني كلمة العذاب، وهو قوله: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ} [الأعراف: 18] الآية، {إِنَّا لَذَائِقُونَ} [الصافات: 31] العذاب الأليم، قال الزجاج: أي إن المضل والضال في النار.
{فَأَغْوَيْنَاكُمْ} [الصافات: 32] أضللناكم عن الهدى، ودعوناكم إلى ما كنا عليه، وهو قوله: {إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} [الصافات: 32] .
يقول الله: {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الصافات: 33] الرؤساء والذين أطاعوهم.
{إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} [الصافات: 34] قال ابن عباس: الذين جعلوا لله شركاء.
{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات: 35] يتكبرون عن الهدى وتوحيد(3/524)
الله.
{وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا} [الصافات: 36] أنترك عبادتها، لشاعر مجنون يعنون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فرد الله عليهم بقوله: بل أي: ليس الأمر ما على ما قالوه، جاء محمد، بالحق بالقرآن والتوحيد، وصدق المرسلين الذين كانوا قبله، أي: إنما أتى بما أتى به من قبله من الرسل.
{إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الأَلِيمِ {38} وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {39} إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ {40} أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ {41} فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ {42} فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ {43} عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ {44} يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ {45} بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ {46} لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ {47} وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ {48} كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ {49} } [الصافات: 38-49] {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الأَلِيمِ {38} وَمَا تُجْزَوْنَ} [الصافات: 38-39] في الآخرة، {إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الصافات: 39] في الدنيا من الشرك.
ثم استثنى المؤمنين، فقال: {إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات: 40] يعني الموحدين.
{أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} [الصافات: 41] على مقدار غدوة وعشية، قال قتادة: الرزق المعلوم الجنة.
وقال غيره: هو ما ذكره في قوله: فواكه وهي جمع الفاكهة، وهي الثمار كلها، رطبها ويابسها، وهم مكرمون بثواب الله.
على سرر جمع سرير، متقابلين لا يرى بعضهم قفا بعض.
{يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ} [الصافات: 45] وهي الإناء بما فيه، من معين من خمر ظاهر تراه العيون في الأنهار.
بيضاء قال الحسن: خمر الجنة أشد بياضا من اللبن.
لذة لذيذة، يقال: شراب لذ ولذيذ.
للشاربين الذين يشربونها.
{لا فِيهَا غَوْلٌ} [الصافات: 47] لا تغتال عقولهم فتذهب بها، ولا يصيبهم منها وجع في البطن ولا في الرأس، ويقال للوجع غول لأنه يؤدي إلى الهلاك.
{وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} [الصافات: 47] لا يسكرون، يقال: نزف الرجل فهو منزوف ونزيف إذا سكر، ومن كسر الزاي، فقال الزجاج: له معنيان، يقال: أنزف الرجل إذا فنيت خمره، وأنزف إذا ذهب عقله من السكر، فتحمل هذه القراءة على معنى لا ينفد شرابهم لزيادة الفائدة.
{وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} [الصافات: 48] أي: نساء قصرن طرفهن على أزواجهن فلا تردن غيرهم، والقصر معناه الحبس، عين حسان الأعين.
{كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات: 49] مصون مستور، قال الحسن، وابن زيد: شبهن ببيض النعام، تكنها بالريش من الريح والغبار، فلونها أبيض في صفرة، وهذا أحسن ألوان النساء، وهو أن تكون المرأة بيضاء مشربة بصفرة.
قال المبرد: والعرب تشبه المرأة الناعمة في بياضها وحسن لونها ببيضة النعامة.
{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ {50} قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ {51} يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ {52} أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ {53} قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ {54} فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ {55} قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ {56} وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ {57} أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ {58} إِلا مَوْتَتَنَا الأُولَى(3/525)
وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ {59} إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {60} لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ {61} } [الصافات: 50-61] {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [الصافات: 50] يعني: أهل الجنة، يتساءلون يسأل هذا ذاك، وذاك هذا عن أحوالهم كانت في الدنيا، يدل على هذا ما ذكر الله عن بعضهم، أنه أخبر عن حال قرينه معه كيف كانت في الدنيا، وهو قوله: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ} [الصافات: 51] يعني: من أهل الجنة، {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات: 51] يعني: أخا له في الدنيا، كان ينكر البعث، وهو قوله: يقول أي: يقول لي: {أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} [الصافات: 52] بالبعث، {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات: 53] مجزيون ومحاسبون؟ وهذا استفهام إنكار، ثم قال المؤمن لإخوانه في الجنة: {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصافات: 54] إلى الناس لننظر كيف منزلة أخي، فقال أهل الجنة: إنك أعرف به منا، فاطلع أنت، فطلع فرأى أخاه {فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 55] في وسطها، قال الزجاج: وسواء كل شيء وسطه.
وقال له: {تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات: 56] قال مقاتل: والله لقد كدت أن تغويني فأنزل منزلتك.
والإرداء الإهلاك، ومن أغوى إنسانا فقد أهلكه.
{وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي} [الصافات: 57] لولا إنعامه علي بالإسلام، {لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات: 57] معك في النار.
قال الكلبي: ثم يؤتى بالموت فيذبح، فإذا أمن أهل الجنة الموت فرحوا وقالوا: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ {58} إِلا مَوْتَتَنَا الأُولَى} [الصافات: 58-59] التي كانت في الدنيا، {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الصافات: 59] فقيل لهم: لا.
فعند ذلك قالوا: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصافات: 60] قال الله تعالى: لمثل هذا النعيم، يعني ما ذكره من قوله: {لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} [الصافات: 41] إلى قوله: بيض مكنون، فليعمل العاملون وهذا ترغيب في طلب ثواب الله بطاعته.
{أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ {62} إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ {63} إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ {64} طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ {65} فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ {66} ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ {67} ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ {68} إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ {69} فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ {70} } [الصافات: 62-70] قوله: أذلك الذي ذكره، خير نزلا قال الزجاج: أذلك خير في باب الأنزال التي يتقوت بها، أم نزل أهل النار؟ وهو قوله: {أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} [الصافات: 62] وهو ما يكره تناوله، والذي أراد الله هو شيء مر كريه يكره تناوله، وأهل النار يكرهون على تناوله، فهم يتزقمونه على أشد كراهة.
قال قتادة: لما ذكر الله هذه الشجرة بها الظلمة، فقالوا: كيف تكون في النار شجرة والنار تأكلها؟ فأنزل الله: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} [الصافات: 63] .
قال الزجاج: خبره لهم افتتنوا بها وكذبوا بكونها.
{إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 64] قال الحسن: أصلها في قعر جهنم، وأعضاؤها ترفع إلى دركاتها.
طلعها ثمرها، {كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65] لقبحه، والشياطين موصوفة بالقبح وإن كانت لا ترى، والشيء إذا استقبح شبه بها، فيقال: كأنه شيطان.
{فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا} [الصافات: 66] أي ثمرها، {فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} [الصافات: 66] وذلك أنهم يكرهون على أكلها حتى تمتلئ بطونهم.
{ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا} [الصافات: 67] لخلطا ومزاجا، من حميم يعني أنهم إذا أكلوا الزقوم شربوا عليها الحميم، وهو الماء الحار، فيشوب الحميم في بطونهم الزقوم، فيصير شوبا.
{ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ} [الصافات: 68] بعد شرب الحميم وأكل الزقوم، لإلى الجحيم وذلك أنهم يوردون الحميم لشربه وهو خارج من الجحيم،(3/526)
كما تورد الإبل الماء، ثم يردون إلى الجحيم، ويدل على صحة ما ذكرنا قوله: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 44] .
إنهم ألفوا وجدوا، آباءهم ضالين عن الهدى.
{فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [الصافات: 70] يسعون في مثل أعمال آبائهم، قال الكلبي: يعملون مثل عملهم.
وقال ابن عباس، وقتادة: يسرعون.
قال الزجاج: يتبعون آباءهم اتباعا في سرعة كأنهم يزعجون إلى أتباع آبائهم.
يقال: هرع الرجل وأهرع إذا استحث فأسرع.
{وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ {71} وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ {72} فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ {73} إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ {74} } [الصافات: 71-74] {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ} [الصافات: 71] قبل هؤلاء المشركين، أكثر الأولين من الأمم الخالية.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ} [الصافات: 72] رسلا، منذرين ينذرونهم العذاب على ترك الإيمان.
{فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ} [الصافات: 73] الذين أنذروا بالعذاب.
قال مقاتل: يقول: كأن عاقبتهم العذاب يحذر كفار مكة.
ثم استثنى المؤمنين منهم، فقال: {إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات: 74] يعني: الموحدين الذين نجوا من العذاب.
{وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ {75} وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ {76} وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ {77} وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ {78} سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ {79} إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ {80} إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ {81} ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ {82} } [الصافات: 75-82] قوله: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ} [الصافات: 75] دعا ربه على قومه فقال: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر: 10] .
{فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [الصافات: 75] نحن، يعني: أجبنا دعاءه وأهلكنا قومه الكافرين.
{وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ} [الصافات: 76] الغم، العظيم الذي لحق قومه، وهو الغرق.
{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات: 77] وذلك أنه لم يبق من نسل من كان معه في السفينة إلا من ولد نوح، يدل على هذا ما:
785 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أنا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ، أنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزَّيْنِيُّ، نا بُنْدَارٌ، نا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ عَثْمَةَ، نا سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} قَالَ: سَامٌ وَحَامٌ وَيَافِثُ، فَسَّرَ الذُّرِّيَّةَ الْبَاقِيَةَ بِهَؤُلاءِ الثَّلاثَةِ، فَسَامٌ أَبُو الْعَرَبِ، وَحَامٌ أَبُو الْحَبَشِ، وَيَافِثُ أَبُو الرُّومِ
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} [الصافات: 78] في الذين يجيئون بعده إلى يوم القيامة، قال ابن عباس، ومقاتل: تركنا عليه ثناءا حسنا.
وهو قوله: {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} [الصافات: 79] يعني بالسلام الثناء الحسن، قال الزجاج: تركنا عليه الذكر الجميل إلى يوم القيامة.
وذلك الذكر قوله: {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ} [الصافات: 79] أي: تركنا عليه في الآخرين أن يصلى عليه إلى يوم القيامة، {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 80] قال مقاتل: جزاه الله بإحسانه الثناء الحسن في العالمين.(3/527)
{وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ {83} إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ {84} إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ {85} أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ {86} فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ {87} } [الصافات: 83-87] قوله: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ} [الصافات: 83] أي: من أهل ملة نوح وعلى دينه، {لإِبْرَاهِيمَ {83} إِذْ جَاءَ رَبَّهُ} [الصافات: 83-84] يعني: صدق الله وآمن به، بقلب سليم خالص من الشرك، يعني أنه سلم قلبه من الشرك فلم يشرك بالله.
{إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ} [الصافات: 85] هذا استفهام توبيخ، كأنه وبخهم على عبادة غير الله.
فقال: {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} [الصافات: 86] أي: أتأفكون إفكا، وهو أسوأ الكذب، وتعبدون آلهة سوى الله.
{فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 87] ما ظنكم به إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره، كأنه قال: ما ظنكم أنه يصنع بكم.
{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ {88} فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ {89} فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ {90} فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ {91} مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ {92} فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ {93} فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ {94} قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ {95} وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ {96} قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ {97} فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ {98} } [الصافات: 88-98] قوله: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ} [الصافات: 88] قال المفسرون: كانوا يتعاطون علم النجوم فعاملهم من حيث كانوا لئلا ينكروا عليه، وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم ليلزمهم الحجة في أنها غير معبودة، وكان لهم من الغد يوم يخرجون إليه، فأراد أن يتخلف عنهم فاعتل بالسقم، {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] وذلك أنهم كلفوه أن يخرج معهم إلى عيدهم، فنظر في النجوم، يريد أنه مستدل بها على حاله، فلما نظر إليها، {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] أي سأسقم.
قال مقاتل: إني وجع غدا، واعتل بذلك ليخلفوه.
{فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} [الصافات: 90] تركوه وذهبوا إلى عيدهم.
{فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ} [الصافات: 91] مال إليها ميلة في خفية سرا، {فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الصافات: 91] يعني: الطعام الذي كان بين أيديهم، أتوهم بطعامهم لتبارك فيه آلهتهم كما زعموا، وإنما يقول هذا إبراهيم استهزاء بها، وكذلك قوله: {مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ} [الصافات: 92] .
ثم أقبل عليهم ضربا كما قال الله تعالى: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصافات: 93] مال عليهم بالضرب، قال المفسرون: يعني بيده اليمنى، يضربهم بها.
وقال السدي: بالقوة والقدرة.
فأقبلوا إليه من عيدهم، يزفون يسرعون من زفيف النعامة، وهو أول عدوها، يقال: جاء يزف زفيف النعامة، أي يسرع.
وقرأ حمزة بضم الياء، أي: يحملون دوابهم وظهورهم على الجدد للإسراع في المشي، وذلك أنهم أخبروا بصنيع إبراهيم بآلهتهم، فأسرعوا إليه ليأخذوه، فلما انتهوا إليه، قال لهم إبراهيم محتجا عليهم: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 95] بأيديكم من الأصنام، {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] بأيديكم، يعني ما تنحتون، أي: فاعبدوا الله الذي خلقكم وخلق ما تعملون بأيديكم من الأصنام التي تعملونها من الخشب والحديد.
فلما لزمتهم الحجة {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا} [الصافات: 97] قال ابن عباس: بنوا حائطا من حجارة طوله في السماء ثلاثون ذراعا، وعرضه عشرون ذراعا، وملئوه نارا وطرحوه فيها.
وذلك قوله: {فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} [الصافات: 97] وهي النار العظيمة.
قال الزجاج: كل نار بعضها فوق بعض فهي جحيم.
{فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} [الصافات: 98] شرا، وهو أن يحرقوه بالنار، فجعلناهم الأسفلين لأن إبراهيم علاهم بالحجة حين سلمه الله ورد كيدهم عنه، ولم يلبثوا إلا يسيرا حتى أهلكهم الله.(3/528)
{وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ {99} رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ {100} فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ {101} فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ {102} فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ {103} وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ {104} قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ {105} إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ {106} وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ {107} وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ {108} سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ {109} كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ {110} إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ {111} وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ {112} وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ {113} } [الصافات: 99-113] وقال إبراهيم: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} [الصافات: 99] قال ابن عباس: مهاجر إلى ربي.
والمعنى: أهجر ديار الكفر وأذهب إلى حيث أمرني الله، كما قال إخبارا عنه أيضا: {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت: 26] ، سيهدين إلى حيث أمرني بالمصير إليه، وهو الشام، قال مقاتل: فلما قدم الأرض المقدسة سأل ربه الولد، فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100] أي: ولدا صالحا من الصالحين، فاستجاب الله له بقوله: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101] قال الزجاج: وهذه البشارة تدل على أنه مبشر بابن ذكر، وأنه يبقى حتى ينتهي في السن، ويوصف بالحلم.
قوله: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} [الصافات: 102] قال قتادة: لما مشى معه.
وقال مجاهد، عن ابن عباس: لما شب حتى بلغ سعيه سعي إبراهيم.
والمعنى: بلغ أن يتصرف معه ويعينه، قالوا: وكان يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة.
وقال الكلبي: يعني العمل لله.
وهو قول الحسن، ومقاتل، وابن زيد، قالوا: هو العبادة والعمل الذي تقوم به الحجة، وهو ما بعد البلوغ.
وقوله: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102] قال مقاتل: رأى ذلك إبراهيم ثلاث ليال متتابعات.
وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: رؤيا الأنبياء وحي.
وقال قتادة: رؤيا الأنبياء حق، إذا رأوا شيئا فعلوه.
واختلفوا في الذبيح، من هو؟ فالأكثرون على أنه إسحاق، وهو قول علي، وابن مسعود، وكعب، ومقاتل، وعكرمة، والسدي.
786 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، نا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، نا شَيْبَانُ، نا مُبَارَكٌ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، سَمِعْتُ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَقُولُ: الَّذِي أُمِرَ إِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِهِ هُوَ إِسْحَاقُ، عَلَيْهِمَا السَّلامُ، وَهَؤُلاءِ قَالُوا: كَانَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ بِالشَّامِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: الَّذِي أُمِرَ بِذَبْحِهِ إِسْمَاعِيلُ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ، سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ الْحِيرِيَّ الزَّاهِدَ، سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ بْنَ مِقْسَمٍ، سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ الزَّجَّاجَ، يَقُولُ: اللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّهُمَا الذَّبِيحُ، وَسِيَاقُ هَذِهِ الآيَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِسْحَاقُ؛ لأَنَّهُ قَالَ: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} وَلا خِلافَ أَنَّ هَذَا إِسْحَاقُ، ثُمَّ قَالَ: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} فَعَطَفَ بِقَضِيَّةِ الذَّبْحِ عَلَى ذِكْرِ إِسْحَاقَ
وقوله: {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 102] أي: من الرأي فيما ألقيت إليك، وما الذي تذهب إليه، هل تستسلم له وتنقاد؟ أو تأتي غير ذلك؟ وقرأ حمزة ترى بضم التاء وكسر الراء، ومعناه: ما تشير.
قال الفراء: ماذا تريني من(3/529)
صبرك أو جزعك.
{قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102] قال ابن عباس: ما أوحي إليك من ذبحي.
{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102] على بلائه.
{فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات: 103] أي: استسلما لأمر الله وأطاعا، {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103] صرعه على أحد جبينيه، قال ابن عباس: أضجعه على جبينه على الأرض، وللوجه جبينان والجبهة بينهما.
قال السدي: ضرب الله على عنقه صحيفة نحاس فجعل إبراهيم ينحر ولا يقطع.
ونودي من الجبل: يا إبراهيم، فهو قوله: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ {104} قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 104-105] لأن الله قد عرف منهما الصدق، حيث قصد إبراهيم الذبح بما أمكنه، وطاوع الابن بالتمكين من الذبح، ففعل كل واحد منهما ما أمكنه وإن لم يتحقق الذبح، وكان قد رأى في النوم معالجة الذبح ولم ير إراقة الدم، ففعل في اليقظة ما رأى في النوم، لذلك قيل له: قد صدقت الرؤيا، وتم الكلام، ثم قال: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 105] هذا ابتداء إخبار من الله تعالى وليس يتصل بما قبله من الكلام الذي يؤدي به إبراهيم، والمعنى: إنا كما ذكرنا من العفو عن ذبح ولده نجزي من أحسن في طاعتنا.
قال مقاتل: جزاه الله تعالى بإحسانه في طاعته العفو عن ذبح ابنه.
{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: 106] الاختبار الظاهر، حيث اختبر بذبح بكره ووحيده، وقال مقاتل: البلاء ههنا النعمة، وهو أن فدى ابنه بالكبش.
وهو قوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ} [الصافات: 107] بكبش، عظيم.
787 - أَخْبَرَنَا الْمُؤَمَّلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُعَيْمٍ، نا مُحَمَّدٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارِ، نا الْحَسَنُ بْنُ الْجَهْمِ، نا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَرَجِ، نا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْوَاقِدِيُّ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنِ ابْنِ مَالِكٍ، وَكَانَ مَوْلًى لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: سَأَلْتُ خَوَّاتَ بْنَ جُبَيْرٍ: ذَبِيحُ اللَّهِ أَيُّهُمَا كَانَ؟ فَقَالَ: إِسْمَاعِيلُ، لَمَّا بَلَغَ إِسْمَاعِيلُ ابْنَ سَبْعِ سِنِينَ رَأَى إِبْرَاهِيمُ فِي النَّوْمِ فِي مَنْزِلِهِ بِالشَّامِ أَنَّهُ يَذْبَحُ إِسْمَاعِيلَ، فَرَكِبَ إِلَيْهِ الْبُرَاقَ حَتَّى جَاءَهُ، فَوَجَدَهُ عِنْدَ أُمِّهِ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ وَمَضَى بِهِ إِلَى حَيْثُ أُمِرَ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَنْحَرِ الْبُدْنِ الْيَوْمَ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَذْبَحَكَ.
قَالَ إِسْمَاعِيلُ: فَأَطِعْ رَبَّكَ فَإِنَّ فِي طَاعَةِ رَبِّكَ كُلَّ خَيْرٍ.
ثُمَّ قَالَ إِسْمَاعِيلُ: هَلْ عَلِمَتْ أُمِّي بِذَلِكَ؟ قَالَ: لا.
قَالَ: أَصَبْتَ، إِنِّي أَخَافُ أَنْ تَحْزَنَ، وَلَكِنْ إِذَا قَرَّبْتَ السِّكِّينَ مِنْ حَلْقِي فَأَعْرِضْ عَنِّي، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ تَصْبِرَ وَلا تَرَانِي.
فَفَعَلَ إِبْرَاهِيمُ، فَجَعَلَ يَحُزُّ فِي حَلْقِهِ فَإِذَا هُوَ يَحُزُّ فِي نُحَاسٍ مَا تَحِيكُ فِيهِ الشَّفْرَةُ، فَشَحَذَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا بِالْحَجَرِ، كُلُّ ذَلِكَ لا يَسْتَطِيعُ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّ هَذَا الأَمْرَ مِنَ اللَّهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا هُوَ بِوَعْلٍ وَاقِفٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: قُمْ يَا بُنَيَّ فَقَدْ نَزَلَ فِدَاؤُكَ، فَذَبَحَهُ هُنَاكَ.
ومعنى الآية: جعلنا الذبح فداء له وخلصناه به من الذبح.
والذبح: ما ذبح، قال أكثر المفسرون: أنزل عليه كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفا.
وقال الحسن: ما فدي إلا بتيس من الأروى، قد أهبط عليه من ثبير، فذبحه(3/530)
إبراهيم فداء عن ابنه.
وما بعد هذا معنى ظاهر إلى قوله: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 112] من جعل الذبيح إسماعيل قال: بشر الله إبراهيم بولد نبي بعد هذه القصة جزاءا لطاعته، ومن جعل الذبيح إسحاق قال: بشر إبراهيم بنبوة إسحاق، وأثيب إسحاق بصبره بالنبوة، وهذا قول عكرمة عن ابن عباس.
وقوله: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} [الصافات: 113] يعني كثرة ولدهما وذريتهما، وهم الأسباط كلهم، {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات: 113] أي: مؤمن محسن بإيمانه، وكافر ظلم نفسه بكفره.
{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ {114} وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ {115} وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ {116} وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ {117} وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ {118} وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ {119} سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ {120} إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ {121} إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ {122} } [الصافات: 114-122] {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} [الصافات: 114] أنعمنا عليهما بالنبوة {وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الصافات: 115] الذي كانوا فيه من استعباد فرعون إياهم وما كان يصيبهم من جهته من البلاء.
{وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ {123} إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ {124} أَتَدْعُونَ بَعْلا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ {125} وَاللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ {126} فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ {127} إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ {128} وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ {129} سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ {130} إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ {131} إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ {132} } [الصافات: 123-132] قوله: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 123] إلياس نبي من أنبياء بني إسرائيل، وقصته مشهورة مع قومه، وقرأ ابن عامر وإن الياس بغير همز، جعل الهمزة التي تصحب اللام للتعريف، كقوله: واليسع والوجه قراءة العامة، لأن الهمزة تابعة في هذا الاسم وليست للتعريف، يقوي ذلك قوله: {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [الصافات: 130] فهذا يدل على أن الهمزة ثابتة في إلياس.
{إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ} [الصافات: 124] ألا تخافون الله فتعبدونه وتوحدونه.
{أَتَدْعُونَ بَعْلا} [الصافات: 125] قال عطاء: يعني صنما كان لهم يعبدونه، وكان من ذهب.
والمفسرون يقولون: ربا.
وهو بلغة اليمن، يقولون للسيد والرب: البعل.
وتذرون عبادة، أحسن الخالقين.
{اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الصافات: 126] .
قرئ بالرفع على الاستئناف لتمام الكلام الأول، والمعنى: إنه خالقكم وخالق من كان قبلكم ورازقكم، فهو الذي تحق له العبادة.
وقرئ بالنصب على صفة أحسن الخالقين.
{فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات: 127] النار، {إِلا عِبَادَ اللَّهِ(3/531)
الْمُخْلَصِينَ} [الصافات: 128] الذين لم يكذبوه، فإنهم لا يحضرون النار.
قوله: {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [الصافات: 130] قال ابن عباس: يريد إلياس ومن آمن معه، قال الفراء: يذهب بالياسين إلى أن يجعله جمعا فيجعل أصحابه داخلين في اسمه، كما تقول في القوم رئيسهم المهلب، قال: قد جاءكم المهالبة، فتكون بمنزلة الأشعرين، والأعجمين بالتخفيف.
قال أبو علي الفارسي: تقديره الياسين إلا أن اليائين للنسبة حذفتا كما حذفا في الأشعرين والأعجمين.
وقرأ نافع على آل ياسين وحجته إنها في المصحف مفصولة من ياسين، وذلك دليل على أنه آل، وهذه القراءة بعيدة، قال الفراء، وأبو عبيدة: الوجه قراءة العامة، لأنه لم يقل في شيء من ال { [على آل فلان، وآل فلان، إنما جاء بالاسم، كذلك إلياسين لأنه إنما هو بمعنى إلياس، أو بمعنى إلياس وأتباعه.
وذكر الكلبي في تفسيره: سلام على آل ياسين يقول: سلام على آل محمد، وهذا بعيد، لأن ما قبله من الكلام وما بعده لا يدل عليه.
] وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ {133} إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ {134} إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ {135} ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ {136} وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ {137} وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ {138} } [سورة الصافات: 133-138] ثم ذكر لوطا، فقال: {وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ {133} إِذْ نَجَّيْنَاهُ} [الصافات: 133-134] إذ لا يتعلق بما قبله لأنه لم يرسل إذ نجي، ولكنه يتعلق بمحذوف، كأنه قيل: واذكر يا محمد إذ نجيناه.
وما بعد هذا مفسر فيما تقدم إلى قوله: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ} [الصافات: 137] أي: تمرون في ذهابكم ومجيئكم إلى الشام على قراهم ومنازلهم وآثارهم، مصبحين أي: نهارا، وبالليل وعشيا، أفلا تعقلون فتعتبرون بهم.
{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ {139} إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ {140} فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ {141} فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ {142} فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ {143} لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ {144} فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ {145} وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ {146} وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ {147} فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ {148} } [الصافات: 139-148] {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ {139} إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ {140} } [الصافات: 139-140] قال المفسرون: كان يونس عليه السلام قد وعد قومه العذاب، فلما تأخر عنهم العذاب خرج كالمنشور عنهم، فقصد البحر وركب السفينة، وكان بذهابه إلى الفلك كالفار من مولاه، فوصف بالإباق، فساهم فقارع، {فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات: 141] المغلوبين والمقروعين، وذلك أن السفينة(3/532)
احتبست فوقفت، فقال الملاحون: ههنا عبد آبق من سيده، وهذا رسم السفينة، إذا كان فيها عبد آبق لا تجري، فأقرعوا فوقعت القرعة على يونس.
فقال: أنا الآبق، وزج نفسه في الماء.
قال سعيد بن جبير: لما استهموا جاء حوت إلى السفينة فاغرا فاه ينتظر أمر ربه، حتى إذا ألقى نفسه في الماء أخذه الحوت.
فذلك قوله: فالتقمه الحوت يقال: لقمت اللقمة والتقمتها إذا ابتلعتها، وهو مليم مستحق اللوم، لأنه أتى ما يلام عليه حين خرج إلى السفينة قبل أن يأمره الله، فاستحق بذلك اللوم والتأديب.
{فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ} [الصافات: 143] قبل أن التقمه الحوت، من المسبحين المصلين، وكان كثير الصلاة والذكر.
{لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 144] لصار له بطن الحوت قبرا إلى يوم القيامة.
قال سعيد بن حبير: شكر الله قد يمسه.
وقال الضحاك بن قيس: اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة، فإن يونس كان عبدا صالحا ذاكرا لله، فلما وقع في بطن الحوت قال الله تعالى: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات: 143] الآيتين، وإن فرعون كان عبدا طاغيا ناسيا ذكر الله فلما، أدركه الغرق قال: آمنت بالذي {آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} [يونس: 90] قال الله تعالى: {ءَالآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} [يونس: 91] قال ابن جريج والسدي: لبث يونس عليه السلام في بطن الحوت أربعين يوما.
وقال الضحاك: عشرين يوما.
وقال عطاء: سبعة أيام.
وقال مقاتل: ثلاثة أيام.
وقال الشعبي: التقمه الحوت ضحى، ولفظه عشية.
فذلك قوله: فنبذناه بالعراء يعني: المكان الخالي من الشجر والبناء، قال مقاتل: بالبراز.
وقال الكلبي: يعني وجه الأرض.
وهو سقيم: قد بلي لحمه مثل الصبي المولود.
قال ابن مسعود: كهيئة الفرخ ليس عليه ريش.
{وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} [الصافات: 146] كل شجرة لا تقوم على ساق إنما تمتد على وجه الأرض فهو يقطين، مثل الدباء والحنظل والبطيخ قال مقاتل: يعني القرع، وهو قول الجميع، قالوا: كان يستظل بظلها من الشمس، وقيض الله له أروية من الوحش تروح عليه بكرة وعشيا، فكان يشرب من لبنها حتى اشتد لحمه ونبت شعره، ثم أرسله الله بعد ذلك.
وهو قوله: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ} [الصافات: 147] قال قتادة: أرسل إلى أهل نينوى من أرض الموصل قبل أن يصيبه ما أصابه.
وقوله: أو يزيدون أو بمعنى الواو، كقوله: {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [المرسلات: 6] المعنى: ويزيدون على مائة ألف، قال الفراء: أو ههنا بمعنى بل، وهو قول مقاتل، والكلبي.
وقال الزجاج: أو ههنا على أصله، ومعناه أو يزيدون في تقديركم إذا رآهم الرائي قال هؤلاء مائة ألف أو يزيدون، فالشك إنما دخل في حكاية قول المخلوقين.
قال مقاتل، والكلبي: كانوا يزيدون على عشرين ألفا.
وقال الحسن: بضعة وثلاثين ألفا.
وقال سعيد بن جبير: سبعين ألفا.
فآمنوا يعني الذين أرسل إليهم يونس، فمتعناهم في الدنيا، إلى حين إلى منتهى آجالهم.(3/533)
{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ {149} أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ {150} أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ {151} وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ {152} أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ {153} مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ {154} أَفَلا تَذَكَّرُونَ {155} أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ {156} فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {157} وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ {158} سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ {159} إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ {160} } [الصافات: 149-160] قوله: فاستفتهم قال ابن عباس: فسل أهل مكة سؤال توبيخ.
{أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} [الصافات: 149] وذلك أن قريشا وقبائل من العرب قالوا: الملائكة بنات الله، وهذا كقوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى {21} تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى {22} } [النجم: 21-22] .
{أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا} [الصافات: 150] معناه: بل أخلقنا الملائكة إناثا؟ وهم شاهدون حاضرون خلقنا إياهم، أي: كيف جعلوهم إناثا ولم يشهدوا خلقهم.
ثم أخبر عن كذبهم، فقال: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ {151} وَلَدَ اللَّهُ} [الصافات: 151-152] حين زعموا أن الملائكة بنات الله، وإنهم لكاذبون في قولهم.
{أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} [الصافات: 153] قراءة العامة بفتح الهمزة على الاستفهام الذي معناه التوبيخ، وقرأ نافع بغير استفهام على وجه الخبر كأنه قال: أصطفى البنات في زعمكم وفيما تقولون.
وقال الفراء: أراد الاستفهام وحذف حرف الاستفهام كقوله: أذهبتم طيباتكم.
ثم وبخهم، فقال: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات: 154] لله بالبنات ولأنفسكم بالبنين؟ أفلا تذكرون أفلا تتعظون فتنتهون عن هذا القول.
{أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ} [الصافات: 156] حجة بينة على ما تقولون.
{فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ} [الصافات: 157] الذي فيه الحجة، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الصافات: 157] في قولكم.
{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158] قال قتادة: قالوا صاهر الجن والملائكة من الجن.
وقال الكلبي: قالوا لعنهم الله: تزوج من الجن فخرج منها الملائكة.
وقال مجاهد: لما قالت قريش الملائكة بنات الله، قال لهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه: فمن أمهاتهم؟ قالوا: سروات الجن.
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات: 158] أي: علموا أن هؤلاء الكفار الذين قالوا هذا القول يحضرون في النار ويعذبون على ما قالوا.
ثم نزه نفسه عما قالوا من الكذب، فقال: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ {159} إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ {160} } [الصافات: 159-160] يعني: الموحدين الذين استخلصهم الله لتوحيده وعبادته، وهذا استثناء من المحضرين، يقول: علموا أنهم محضرون النار إلا من أخلص العبادة له ووحده.
ثم خاطب كفار مكة بقوله: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ {161} مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ {162} إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ {163} وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ {164} وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ {165} وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ {166} وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ {167} لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأَوَّلِينَ {168} لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ {169} فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ {170} } [الصافات: 161-170] {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} [الصافات: 161] قال ابن عباس: فإنكم وآلهتكم التي تعبدون من دون الله.
{مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} [الصافات: 162] على ما تعبدون، بفاتنين بمضلين، يقال: فتنت الرجل وافتتنته.
ويقال: فتنته على الشيء وبالشيء.
كما يقال: أضله على الشيء وأضله به.
وقال مقاتل: يقول ما أنتم بمضلين أحدا بآلهتكم إلا من قدر الله له أن(3/534)
يصلى الجحيم.
وهو قوله: {إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 163] يعني أن قضاءه سبق في قوم بالشقاوة وأنهم يصلون النار، فهم الذين يضلون في الدنيا ويعبدون الأصنام.
ثم قال جبريل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وما منا يا معاشر الملائكة، {إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات: 164] في السموات يعبد الله فيه، قال الزجاج: هذا قول الملائكة وفيه مضمر.
المعنى: وما منا ملك إلا له مقام معلوم.
{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} [الصافات: 165] قال قتادة: هم الملائكة صفوا أقدامهم.
وقال الكلبي: صفوف الملائكة في السماء كصفوف أهل الدنيا في الأرض.
{وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات: 166] المصلون لله المنزهون الله عن السوء، يخبر جبريل النبي عليهما السلام أنهم يعبدون الله بالصلاة والتسبيح وأنهم ليسوا بمعبودين ولا بنات الله كما زعمت الكفار.
ثم عاد الكلام إلى الإخبار عن المشركين، فقال: {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ {167} لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأَوَّلِينَ {168} } [الصافات: 167-168] أي: كتابا من كتب الأولين، وذلك أنهم قالوا: لو جاءنا ذكر كما جاء غيرنا من الأولين.
{لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات: 169] وهذا كقوله تعالى: {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} [الأنعام: 157] .
قال تعالى: {فَكَفَرُوا بِهِ} [الصافات: 170] المعنى: نجاهم ما طلبوا به، فسوف يعلمون عاقبة كفرهم، وهذا تهديد لهم.
ثم ذكر العاقبة للأنبياء بالنصر وإن كذبهم قومهم، فقال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ {171} إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ {172} وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ {173} فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ {174} وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ {175} أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ {176} فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ {177} وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ {178} وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ {179} } [الصافات: 171-179] {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 171] أي: تقدم الوعد بأن الله ينصرهم بالحجة والظفر بعدوهم، قال مقاتل: عنى بالكلمة قوله: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21] فهذه الكلمة التي سبقت.
{وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 173] حزب الله لهم الغلبة بالحجة والنصرة في العاقبة، لأنهم ينجون من عذاب الدنيا والآخرة.
فتول عنهم أعرض عنهم، حتى حين قال مجاهد، والسدي: حتى نأمرك بالقتال.
وأبصرهم إذا نزل بهم العذاب، فسوف يبصرون ذلك.
فقالوا متى هذا العذاب، فأنزل {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ {176} فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ} [الصافات: 176-177] قال مقاتل: بحضرتهم.
وقال الفراء: العرب تكتفي بالساحة، والعقوة من القوم يقولون: نزل بك العذاب وبساحتك.
والساحة: متسع الدار.
{فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ} [الصافات: 177] بئس صباح الذين أنذروا بالعذاب، وذلك أنهم يصبحون في العذاب معذبين.
ثم كرر ما سبق تأكيدا لوعد العذاب، فقال: {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ {178} وَأَبْصِرْ} [الصافات: 178-179] العذاب إذا نزل بهم، فسوف يبصرون تهديد لهم.
ثم نزه نفسه عن بهتهم ووصفهم بقوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ {180} وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ {181} وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {182} } [الصافات: 180-182] {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ} [الصافات: 180] العزة: الغلبة والقوة، عما يصفون من اتخاذ البنات والنساء.
{وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 181] الذين بلغوا عن الله التوحيد والشرائع.
{وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 182] على هلاك المشركين ونصرة الأنبياء والأولياء.
788 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ، نا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، نا هُشَيْمٌ، عَنْ(3/535)
هَارُونَ الْعَبْدِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غَيْرَ مَرَّةٍ وَلأَمْرٍ تَبَيَّنَ يَقُولُ " فِي آخِرِ صَلَوَاتِهِ، أَوْ حِينَ يَنْصَرِفُ: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ. . . .} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ "
789 - وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ، نا أَبُو عَمْرِو بْنُ نُجَيْدٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْحُلْوَانِيُّ، نا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ، نا وَكِيعٌ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ أَبِي صَفِيَّةَ، عَنِ الأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكْتَالَ بِالْمِكْيَالِ الأَوْفَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلْيَكُنْ آخِرُ كَلامِهِ فِي مَجْلِسِهِ: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ {180} وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ {181} وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {182} }(3/536)
تفسير سورة ص
وهي ثمانون وخمس آيات مكية.
790 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْخَفَّافُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ ص أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ بِوَزْنِ كُلِّ جَبَلٍ سَخَّرَهُ اللَّهُ لِدَاوُدَ حَسَنَاتٍ، وَعَصَمَهُ اللَّهُ، تَعَالَى، أَنْ يُصِرَّ عَلَى ذَنْبٍ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا»(3/537)
بسم الله الرحمن الرحيم {ص وَالْقُرْءَانِ ذِي الذِّكْرِ {1} بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ {2} كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ {3} } [ص: 1-3] ص قال الضحاك: صدق الله.
وقال عطاء، عن ابن عباس: صدق محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{وَالْقُرْءَانِ ذِي الذِّكْرِ} [ص: 1] الشرف، كقوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] وجواب القسم قد تقدم، أقسم الله تعالى بالقرآن أن محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد صدق، كما تقول: فعل والله، وقام والله.
وقال أهل المعاني: جواب القسم محذوف بتقدير والقرآن ذي الذكر ما الأمر كما يقول الكفار.
ودل على هذا المحذوف قوله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [ص: 2] قال مقاتل: كفروا بالتوحيد من أهل مكة.
في عزة حمية وتكبر عن الحق، وشقاق خلاف وعداوة لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم خوفهم، فقال: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} [ص: 3] يعني: الأمم الخالية المهلكة بتكذيب الرسل، فنادوا عند وقوع الهلاك بهم باستغاثة، {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص: 3] أي: ساعة لا منجى ولا فوت.
قال ابن عباس: ليس حين نزو ولا فرار.
وقال قتادة: نادى القوم على غير حين النداء.
والمناص: مصدر ناص ينوص وهو الفوت والتأخر.
ولات بمعنى ليس بلغة أهل اليمن، وقال النحويون: هي لا زيدت فيها(3/538)
التاء.
كما قالوا: ثم وثمت، ورب وربت، وأصلها هاء وصلت بلا، فقالوا: لا لغير معنى حادث، كما زادوا هاء في ثمة، فلما وصلوها جعلوها تاء.
والوقف عليها بالتاء عند الزجاج وأبي علي.
وعند الكسائي الوقف عليها بالهاء، نحو قاعدة وضاربة.
وعند أبي عبيد الوقف على ثم يبتدئ: تحين مناص، لأن عنده أن هذه التاء تزاد مع حين، فيقال: كان هذا تحين كان ذاك.
{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ {4} أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ {5} وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ {6} مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ {7} أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ {8} } [ص: 4-8] قوله: وعجبوا يعني: الكفار الذين ذكرهم الله تعالى في قوله: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [ص: 2] ، {أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} [ص: 4] يعني: رسولا من أنفسهم ينذرهم النار، {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ص: 4] حين زعم أنه رسول.
{أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص: 5] وذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبطل عبادة ما كانوا يعبدون من الآلهة مع الله ودعاهم إلى عبادة الله وحده فتعجبوا من ذلك، وقالوا: كيف جعل لنا إلها واحدا بعد ما كنا نعبد آلهة كثيرة، قوله: إن هذا الذي يقول محمد من أن الإله واحد، لشيء عجاب لأمر عجيب، وهذا كما يقال كبير وكبار، وطويل وطوال.
وقوله: {وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ} [ص: 6] قال المفسرون: إن أشراف قريش أتوا أبا طالب واجتمعوا عنده وشكوا إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،(3/539)
وقالوا: إنه سفه أحلامنا وسب آلهتنا وعاب ديننا.
فعاتب أبو طالب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: ما تريد من قولك يا ابن أخي؟ فقال: أدعوهم إلى كلمة واحدة.
قال: وما هي؟ قال: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ.
فنفروا من ذلك وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص: 5] وخرجوا من عند أبي طالب يقول بعضهم لبعض: {امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} [ص: 6] فذلك قوله: {وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ} [ص: 6] أي: انطلقوا من مجلسهم الذي كانوا فيه عند أبي طالب وهم يقولون: اثبتوا على عبادة آلهتكم، واصبروا على دينكم.
إن هذا الذي نراه من زيادة أصحاب محمد، لشيء يراد لأمر يراد بنا.
{مَا سَمِعْنَا بِهَذَا} [ص: 7] الذي يقول محمد، أي: من التوحيد، {فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ} [ص: 7] يعني النصرانية، لأنها آخر الملل، والنصارى لا يوحدون، لأنهم يقولون ثالث ثلاثة.
وقال قتادة: يعنون دينهم الذي هم عليه.
إن هذا ما هذا الذي جاء به محمد من التوحيد والقرآن، إلا اختلاق كذب وافتعال.
ثم أنكروا تخصيص الله إياه بالقرآن والنبوة، فقالوا: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} [ص: 8] قال الزجاج: قالوا كيف أنزل على محمد القرآن من بيننا ونحن أكبر سنا وأعظم شرفا منه.
فقال الله تعالى: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي} [ص: 8] يعني حين قالوا: {إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ} [ص: 7] والمراد بالذكر القرآن، {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} [ص: 8] تهديد لهم، أي أنهم سيذوقونه.
ثم أجاب عن إنكارهم نبوته بقوله: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ {9} أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ {10} جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأَحْزَابِ {11} } [ص: 9-11] {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} [ص: 9] يقول أبأيديهم مفاتيح النبوة والرسالة فيضعونها حيث شاءوا؟ أي أنها ليست بأيديهم، ولكنها بيد العزيز في ملكه، الوهاب وهب النبوة لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم أخبر أن الملك له يصطفي من يشاء، وهو قوله: {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ} [ص: 10] أي: إن ادعوا شيئا من ذلك فليصعدوا في الأسباب التي توصلهم إلى السماء.
قال قتادة، ومقاتل: يعني الأبواب التي في السماء.
وقال الكلبي: يقول: في(3/540)
طرقها من سماء إلى سماء، وكل ما يوصلك إلى شيء من باب وطريق فهو سببه.
ثم أخبر عن هزيمتهم ببدر، وهو قوله: {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأَحْزَابِ} [ص: 11] قال قتادة: أخبر الله تعالى، وهو يومئذ بمكة، أنه سيهزم جند المشركين، فجاء تأويلها يوم بدر.
وجند خبر ابتداء محذوف بتقدير هم جند، وما زائدة، وهنالك إشارة إلى بدر ومصارعهم بها، والأحزاب سائر من تقدمهم من الكفار الذين تحزبوا على الأنبياء.
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ {12} وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُولَئِكَ الأَحْزَابُ {13} إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ {14} وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ {15} وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ {16} } [ص: 12-16] يدل على هذا قوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ} [ص: 12] قال المفسرون: كانت له أوتاد يعذب الناس عليها، وذلك أنه كان إذا غضب على أحد وَتَّدَ يَدَهُ ورجليه ورأسه على الأرض.
وقال عطية: ذو الجنود والجموع الكثيرة.
يعني أنهم كانوا يقوون أمره ويشددون ملكه كما يقوي الوتد الشيء، وقيل: ذو الملك الشديد الثابت، كما قال الأسود:
في ظل ملك ثابت الأوتاد(3/541)
ولما ذكر هؤلاء المكذبين، قال: أولئك الأحزاب فأعلمنا أن مشركي قريش حزب من هؤلاء الأحزاب.
إن كل ما كل منهم، {إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ} [ص: 14] فوجب عليهم عقابي بتكذيبهم.
{وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ} [ص: 15] يعني كفار مكة، أي: ما ينتظرون لوقوع العذاب بهم، {إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [ص: 15] يعني: النفخة الأخيرة، {مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} [ص: 15] وقرئ بالضم، قال الزجاج: فواق وفواق بضم الفاء وفتحها، أي: ما لها من رجوع.
والفواق ما بين حلبتي الناقة، وهو مشتق من الرجوع أيضا، لأنه يعود اللبن إلى الضرع بين الحلبتين، وأفاق من مرضه أي رجع إلى الصحة.
قال مجاهد: ما لها من فواق رجوع.
أي: ما يرد ذلك الصوت فيكون له رجوع، وهو معنى قول مقاتل: من مرد ولا رجعة.
وقال قتادة، والضحاك: ليس لها مثنوية.
أي صرف ورد، والمعنى أن تلك الصيحة التي هي ميعاد عذابهم إذا جاءت لم ترد ولم تصرف حتى يبعثوا وينجز لهم ميعاد العذاب.
قوله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص: 16] معنى القط في اللغة: النصيب، من القط بمعنى القطع، والنصيب إنما هو القطعة من الشيء، وتسمى كتب الجوائز قطوطا لأنهم كانوا يكتبون الأنصباء من العطايا في الصحائف.
يقال: أخذ فلان قطة إذ أخذ كتابه الذي كتب له بجائزته وصلته، ثم سميت الكتب قطوطا وإن لم تكن للصلة، والمفسرون مختلفون على هذين القولين: فقال ابن عباس: قطنا، حظنا من العذاب والعقوبة.
وقال قتادة: نصيبنا من العذاب، يقولون ذلك استهزاء.
وقال سعيد بن جبير، والسدي: لما ذكر لهم ما في الجنة {قَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا} [ص: 16] نصيبنا منها في الدنيا.(3/542)
وقال أبو العالية، والكلبي، ومقاتل: لما نزلت {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الحاقة: 19] ، {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} [الحاقة: 25] قالت قريش: زعمت يا محمد أنا نؤتى كتابنا بشمالنا، فعجل لنا قطنا قبل يوم الحساب.
يقولون ذلك تكذيبا له، فقال الله عز وجل: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ {17} إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ {18} وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ {19} وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ {20} } [ص: 17-20] اصبر يا محمد، {عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ص: 17] من تكذيبك، {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ} [ص: 17] لكي تتقوى على الصبر بذكر قوته على العبادة، وهو قوله: ذا الأيد أي: ذا القوة على العبادة، وفي طاعة الله، قال الزجاج: وكانت قوة داود على العبادة أتم قوة، كان يصوم يوما ويفطر يوما، وذلك أشد الصوم، وكان يصلي نصف الليل.
إنه أواب رجاع عن كل ما يكره الله إلى ما يحب الله.
قوله تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ} [ص: 18] هذا كقوله: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} [الأنبياء: 79] وقد مر تفسيره، وقوله: {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} [ص: 18] قال الكلبي: غدوة وعشية.
يقال: أشرقت الشمس إذا أضاءت.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه بطرق أنه فسر التسبيح بالإشراق في هذه الآية بصلاة(3/543)
الضحى.
791 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْوَاعِظُ، أنا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، نا عُبَيْدُ اللَهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شَيْبَةَ، نا الْحُسَيْنُ بْنُ بَخْتَوَيْهِ، نا أَبُو أُمَيَّةَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، نا الْحَجَّاجُ بْنُ نُصَيْرٍ، نا أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: {بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} قَالَ: كُنْتُ أَمُرُّ بِهَذِهِ الآيَةِ لا أَدْرِي مَا هِيَ حَتَّى حَدَّثَتْنِي أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَخَلَ عَلَيْهَا فَدَعَا بِوَضُوءٍ، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى الضُّحَى، وَقَالَ: «يَا أُمَّ هَانِئٍ هَذِهِ صَلاةُ الإِشْرَاقِ»
والطير معطوفة على الجبال، كأنه قال: وسخرنا الطير، محشورة مجموعة إليه تسبح لله معه، قال ابن عباس: كان داود إذا سبح جاوبته الجبال واجتمعت إليه الطير، فسبحت معه.
وهو قوله: {كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص: 19] رجاع إلى طاعته وأمره، أي: كل له مطيع بالتسبيح معه.
وشددنا ملكه قوينا ملكه بالحرس والجنود، قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: كان يحرسه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل، فإذا أصبح قيل: ارجعوا فقد رضي عنكم نبي الله، وهذا قول جماعة المفسرين.
792 - أَخْبَرَنِي أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فِيمَا أَجَازَ لِي، أَنَّ أَبَا الْفَضْلِ الْحَدَّادِيَّ أَخْبَرَهُمْ، عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْخَالِدِيِّ، أنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ، نا دَاوُدُ بْنُ أَبِي(3/544)
الْفُرَاتِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّ رَجُلا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ اسْتَعْدَى عَلَى رَجُلٍ مِنْ عُظَمَائِهِمْ عِنْدَ دَاوُدَ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا غَصَبَنِي بَقَرًا لِي، فَسَأَلَ دَاوُدُ الرُّجَل عَنْ ذَلِكَ فَجَحَدَهُ، فَسَأَلَ الآخَرَ الْبَيِّنَةَ، فَلَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِنَّةٌ، فَقَالَ لَهُمَا دَاوُدُ: قُومَا حَتَّى أَنْظُرَ فِي أَمْرِكُمَا، فَقَامَا مِنْ عِنْدِهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ، تَعَالَى، إِلَى دَاوُدَ فِي مَنَامِهِ أَنْ يَقْتُلَ الرَّجُلَ الَّذِي اسْتَعْدَى عَلَيْهِ.
فَقَالَ: هَذِهِ رُؤْيَا وَلَسْتُ أَعْجَلُ حَتَّى أَتَثَبَّتَ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ فِي مَنَامِهِ أَنْ يَقْتُلَهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ الثَّالِثَةَ أَنْ يَقْتُلَهُ، أَوْ تَأْتِيَهُ الْعُقُوبَةُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ أَقْتُلَكَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: تَقْتُلُنِي بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ؟ فَقَالَ دَاوُدُ: نَعَمْ، وَاللَّهِ لأُنَفِّذَنَّ أَمْرَ اللَّهِ فِيكَ.
فَلَمَّا عَرَفَ الرَّجُلُ أَنَّهُ قَاتِلُهُ؛ قَالَ: لا تَعْجَلْ عَلَيَّ حَتَّى أُخْبِرَكَ، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أُخِذْتُ بِهَذَا الذَّنْبِ، وَلَكِنِّي كُنْتُ اغْتَلْتُ أَبَا هَذَا فَقَتَلْتُهُ فَبِذَلِكَ أُخِذْتُ.
فَأَمَرَ بِهِ دَاوُدُ فَقُتِلَ فَاشْتَدَّتْ هَيْبَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِدَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلامُ، عِنْدَ ذَلِكَ وَشُدِّدَ بِهِ مُلْكُهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ}
وقوله: وآتيناه الحكمة قال ابن عباس: النبوة والمعرفة بكل ما حكم.
وقال مقاتل: الفهم والعلم.
وفصل الخطاب يعني الشهود والإيمان، البينة على المدعي واليمين على من أنكر، لأن خطاب الخصوم إنما ينقطع وينفصل بهذا، وهذا قول أكثر المفسرين.
وقال ابن مسعود، ومقاتل، وقتادة: هو العلم بالقضاء والفهم فيه.
قوله تعالى: {(3/545)
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ {21} إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ {22} إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ {23} قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ {24} فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ {25} يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ {26} } [ص: 21-26] {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} [ص: 21] قال مقاتل: بعث الله تعالى إلى داود عليه السلام ملكين جبريل وميكائيل لينبهه على التوبة فأتياه في المحراب.
وهو قوله: {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص: 21] يقال: تسورت الحائط والسور إذا علوته.
وإنما قال: تسوروا والخصم ههنا اثنان، لأنه على مذهب من يجعل الاثنين جماعة، والمحراب ههنا كالغرفة، قال محمد بن إسحاق: بعث الله تعالى إليه ملكين يختصمان إليه، مثلا ضربه الله له وأصحابه، فلم يرع داود إلا بهما واقفين على رأسه في محرابه، فقال: ما أدخلكما علي؟ قالا: لا تخف.(3/546)
وهو قوله: {إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى} [ص: 22] أي نحن، {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص: 22] فجئناك لتقضي بيننا، وهو قوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ} [ص: 22] يقال: شط الرجل وأشط شططا وإشطاطا إذا جار في حكمه وقضيته.
قال المفسرون: لا تجر علينا.
{وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} [ص: 22] احملنا على الحق ولا تخالف بنا إلى غيره.
فقال داود: تكلما.
فقال أحد الملكين: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ} [ص: 23] أي: على ديني، {لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} [ص: 23] يعني امرأة، والنعجة البقرة الوحشية، والعرب تكني بها عن المرأة وتشبه النساء بالنعاج من البقر، وإنما عنى بهذا داود لأنه كانت له تسع وتسعون امرأة، {وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} [ص: 23] امرأة واحدة، فقال أكفلنيها ضعها إلي واجعلني كافلها، وهو الذي يعولها وينفق عليها، والمعنى: طلقها لأتزوجها، {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23] قال عطاء، عن ابن عباس: كان أعز مني وأقوى على مخاطبتي، لأنه كان الملك.
والمعنى أنه كان أقدر على الخطاب بعزة ملكه.
وهذه القصة تمثيل لأمر داود مع أوريا زوج المرأة التي أراد أن يتزوج بها.
قال داود: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ} [ص: 24] أي: بسؤاله نعجتك ليضمها إلى نعاجه، أي: إن كان الأمر على ما تقول فقد ظلمك أخوك بما كلفك من تحولك عن امرأتك ليتزوجها هو، {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ} [ص: 24] وهم الشركاء، واحدهم خليط، وهو المخالط في المال.
يريد أن الشركاء كثير منهم يظلم بعضهم بعضا، وهو قوله: {لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [ص: 24] وظن داود أنهما شريكان فلذلك قال: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ} [ص: 24] وقوله: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [ص: 24] أي: فإنهم لا يظلمون أحدا، {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24] أي: هم قليل، يعني الصالحين الذين لا يظلمون، قال المفسرون: فلما قضى بينهم داود عليه السلام نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك وصعد إلى السماء، فعلم داود أن الله ابتلاه، وأن ما ذكر من القصة تمثيل لقصته هو.
وقوله: {(3/547)
وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} [ص: 24] أي: أيقن وعلم أنا ابتليناه بما وقع له من القصة، ونظره إلى المرأة، وافتتانه بها، وكان قد أعجب بعبادته، فلما ابتلي بها هويها وقال لزوجها تحول لي عنها، فعوتب على محبة امرأة من له امرأة واحدة، وله تسع وتسعون امرأة، فكان ذلك ذنبا من ذنوب الأنبياء التي يعاتبون عليها، وذلك قوله: فاستغفر ربه سأل ربه غفران ذلك الذنب.(3/548)
وخر راكعا قال ابن عباس: ساجدا.
وعبر عن السجود بالركوع لأن كليهما بمعنى الانحناء، وأناب راجع إلى ما يحب الله من التوبة والاستغفار.
793 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الأُمَوِيُّ، أنا الرَّبِيعُ، قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَخْبَرَنِي ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدَةَ، عَنْ زِرٍّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ كَانَ لا يَسْجُدُ فِي ص وَيَقُولُ: إِنَّمَا هِيَ تَوْبَةُ نَبِيٍّ
{فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} [ص: 25] قال ابن عباس: غفر له ذلك الذنب.
{وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى} [ص: 25] لقربة ومكانة ومنزلة حسنة.
أخبرنا سعيد بن محمد الزاهد، أنا أبو علي الفقيه، أنا إبراهيم بن عبد الله العسكري، أنا محمد بن صالح، حدثني محمد بن منصور البرداني، عن جعفر بن سليمان، عن مالك بن دينار في قوله: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى} [ص: 25] قال: يقول الله عز وجل لداود وهو قائم بساق العرش: يا داود، مجدني بذلك الصوت الرخيم اللين.
فيقول: كيف وقد سلبتنيه في الدنيا؟ فيقول: إني أرده عليك.
قال: فيرفع داود صوته بالزبور فيستفرغ نعيم أهل الجنة.
قوله: {وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25] يعني الجنة التي هي مآب الأنبياء والأولياء.
قوله: يا داود أي: قلنا له يا داود إنا جعلناك صيرناك، {خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} [ص: 26] تدبر أمور العباد من قبلنا بأمرنا، {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26] بالعدل الذي هو حكم الله بين خلقه، {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] قال مقاتل: لا يستزلنك الهوى عن طاعة الله.
{إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ(3/549)
الْحِسَابِ} [ص: 26] قال عكرمة، والسدي: في الآية تقديم وتأخير على تقدير ولهم عذاب شديد يوم الحساب بما نسوا، أي: تركوا القضاء بالعدل.
وقال الزجاج: أي بتركهم العمل لذلك اليوم صاروا بمنزلة الناسين، وإن كانوا ينذرون ويذكرون.
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ {27} أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ {28} كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ {29} } [ص: 27-29] {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا} [ص: 27] قال ابن عباس: لا للثواب والعقاب.
{ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [ص: 27] يعني أهل مكة، {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [ص: 27] هم الذين ظنوا أنهم خلقوا لغير شيء، وأنه لا قيامة ولا حساب، قال مقاتل: قال كفار قريش للمؤمنين: إنا نعطى في الآخرة من الخير ما تعطون.
فأنزل الله تعالى {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [ص: 28] أي: صدقوا بي، وعملوا الصالحات عملوا بفرائضي، {كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ} [ص: 28] بالمعاصي، {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ} [ص: 28] يريد به أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كالفجار وهم الكفار كقوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} [الجاثية: 21] الآية، وقوله: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم: 35] : وهم الكفار لقوله: كتاب أي:(3/550)
هذا الكتاب، يعني القرآن، {أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} [ص: 29] كثير خيره ونفعه، ليدبروا ليتدبروا، آياته وليتفكروا فيها فيقرر عندهم صحتها، وليتذكر بما فيه من المواعظ أهل اللب والعقل.
قوله: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ {30} إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ {31} فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ {32} رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ {33} } [ص: 30-33] {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ} [ص: 30] يعني ولدا، ثم مدح سليمان بقوله: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30] راجع عما يكره الله إلى ما يحب.
{إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ} [ص: 31] بعد العصر، الصافنات يقال: صفن الفرس يصفن صفونا إذا قام على ثلاث، وقلب أحد حوافره.
والجياد جمع جواد، وهو الشديد الحضر من الخيل.
قال ابن عباس: يريد الخيل السوابق إذا وقفت صفنت على أطراف حوافرها، عرضت عليه حتى شغلته عن صلاة العصر إلى أن غابت الشمس.
فذلك قوله تعالى: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} [ص: 32] يعني الخيل، والخيل مال، والخير بمعنى المال كثير في التنزيل.
قال الزجاج: الخير ههنا الخيل، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمى زيد الخيل: زيد الخير، وسميت الخيل خيرا لأن الخير معقود بنواصيها: الأجر والمغنم.
قال الفراء: يقول: آثرت حب الخير وكل من أحب شيئا فقد آثره.
وقوله: {عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} [ص: 32] أي: على ذكر ربي، يعني صلاة العصر، {حَتَّى تَوَارَتْ(3/551)
بِالْحِجَابِ} [ص: 32] حتى استترت الشمس بما يحجبها عن الأبصار.
قال الحسن: إن سليمان عليه السلام لما شغله عرض الخيل حتى فاتته صلاة العصر غضب لله تعالى، فقال: ردوها علي أي: أعيدوها عليّ، فطفق قال أبو عبيدة: طفق يفعل، مثل ما زال يفعل، وهو مثل ظل وبات، يقال: طفق يطفق طفقا وطفوقا.
وقوله: مسحا أي: يمسح مسحا، أي يضرب، يقال: مسح علاوته أي ضرب عنقه، وهذا قول الفراء، وأبي عبيدة.
قال الفراء: والمسح ههنا القطع.
والمعنى أنه أقبل يضرب سوقها وأعناقها، لأنها كانت سبب فوت صلاته.
وهذا قول ابن عباس، ومقاتل، قالا: يريد قطع السوق والأعناق.
وقال الحسن: كسّف عراقيبها، وقطع أعناقها، وقال: لا تشغلني عن عبادة ربي مرة أخرى.
قال الزجاج: ولم يكن ليفعل ذلك إلا وقد أباح الله له ذلك.
وجائز أن يباح ذلك لسليمان ويحظر في هذا الوقت، والسوق(3/552)
جمع ساق، مثل لاب ولوب.
{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ {34} قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ {35} فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ {36} وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ {37} وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ {38} هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ {39} وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ {40} } [ص: 34-40] قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} [ص: 34] أي: ابتليناه واختبرناه بسلب ملكه.
قال أكثر المفسرين: تزوج سليمان عليه السلام امرأة من بنات الملوك، فعبدت الصنم في داره، ولم يعلم بذلك سليمان، فامتحن بسبب غفلته كانت عن ذلك.
قال ابن عباس في رواية عطاء {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} [ص: 34] : يريد بصخر، الشيطان الذي لم يكن سخر له، وكان شيطانا ماردا عظيما لا يقوى عليه جميع الشياطين، وكان نبي الله سليمان لا يدخل الكنيف بخاتمه، فجاء صخر في صورة سليمان حتى أخذ الخاتم من امرأة من نسائه وأقام أربعين يوما في مكانه، وسليمان هارب.
وقال مجاهد: إن شيطانا قال له سليمان: كيف تفتنون الناس؟ قال: أرني خاتمك أخبرك.
فلما أعطاه إياه نبذه في البحر فذهب ملكه، وقعد الشيطان على كرسيه، ومنعه الله نساء سليمان، فلم يقربهن، وكان سليمان يستطعم، فيقول: أتعرفونني؟ أطعموني.
فيكذبونه، حتى أعطته امرأته يوما حوتا فشق بطنه فوجد خاتمه في بطنه، فرجع إليه(3/553)
ملكه، فذلك قوله: {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} [ص: 34] يعني الشيطان الذي كان على كرسيه يقضي بين الناس، ثم أناب رجع بعد أربعين يوما إلى ملكه.(3/554)
فلما رجع {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35] قال مقاتل، وأبو عبيدة: لا يكون، فاستجاب الله له ذلك فلم يكن لأحد بعده من الملك ما كان له.
794 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَنْصُورِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، أنا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَحَامِلِيُّ، أنا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، أنا شَبَابَةُ، أنا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ صَلَّى صَلاةً فَقَالَ: " إِنَّ الشَّيْطَانَ عَرَضَ لِي، يُفْسِدُ عَلَيَّ الصَّلاةَ، فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ، فَذَعَتُّهُ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أُوَثِّقَهُ إِلَى سَارِيَةٍ حَتَّى تُصْبِحُوا وَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ أَجْمَعِينَ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ سُلَيْمَانَ، عَلَيْهِ السَّلامُ {هَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} فَرَدَّهُ اللَّهُ خَاسِئًا، أَوْ خَائِبًا، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ(3/555)
إِبْرَاهِيمَ، عَنْ رَوْحٍ، وَغُنْدَرٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ، كُلُّهُمْ، عَنْ شُعْبَةَ
ويدل على ما ذكرنا قوله: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ} [ص: 36] ولم نسخرها لأحد بعده ولا ملكها سواه، {تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً} [ص: 36] لينة الهبوب ليست بالعاصفة، حيث أصاب أراد من النواحي، قال الزجاج: إجماع أهل اللغة والمفسرين حيث أصاب، أي حيث أراد من النواحي.
قال الزجاج: وحقيقته حيث قصد.
وقال الأصمعي: العرب تقول: أصاب فلان الصواب فأخطأ الجواب، معناه أنه قصد الصواب وأراده فأخطأ مراده ولم يتعمد الخطأ.
والشياطين أي: وسخرنا له الشياطين، كل بناء يبنون له ما يشاء من محاريب وتماثيل، وغواص يغوصون في البحار يستخرجون له الدر من البحار.
وآخرين أي: وسخرنا له آخرين، يعني مردة الشياطين سخروا له حتى قرنهم في الأصفاد، وهو قوله: {مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} [ص: 38] يقال: قرنهم في الحبال إذا كانوا جماعة كثيرة، والأصفاد الأغلال، واحدها صفد.
قال الزجاج: هي السلاسل من الحديد، وكل ما شددته شدا وثيقا بالحديد وغيره فقد صفدته.
قال أبو عبيد: يقال صفدت الرجل فهو مصفود، وأصفدته فهو مصفد.
هذا عطاؤنا أي: قلنا له هذا الملك، يعني ما سأل من قوله: {وَهَبْ لِي مُلْكًا} [ص: 35] ، {فَامْنُنْ} [ص: 39] لمن الإحسان إلى من لا تستثيبه.
قال عطاء، عن ابن عباس: أعط من شئت وأمسك عمن شئت.
بغير حساب لا حرج عليك فيما أعطيت وفيما أمسكت.
قال الحسن: ما أنعم الله على أحد نعمة إلا عليه تبعة إلا سليمان، فإن الله تعالى قال: هذا عطاؤنا الآية، إن أعطي أجر، وإن لم يعط لم يكن عليه(3/556)
تبعة.
قال الزجاج: قوله: بغير حساب أي: بغير جزاء، يعني: أعطيناك تفضلا لا مجازاة.
ثم أخبره بمنزلته في الآخرة، فقال: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 40] .
{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ {41} ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ {42} وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ {43} وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ {44} } [ص: 41-44] قوله: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41] النصب والنصب كالحزن والحزن، والعدم والعدم، وهو الضر والمكروه والشدة، يعني ما ابتلاه الله به حين سلط عليه الشيطان، قاله ابن عباس.
قال قتادة: بضر في الجسد وعذاب في المال.
وقال السدي: النصب ما أنصب الجسد، والعذاب أهلك المال.
ثم فرج الله عنه، وهو قوله: اركض برجلك أي: قلنا له اركض برجلك، قال ابن عباس: اضرب الأرض برجلك، فركض فنبعت بركضته عين ماء.
وهو قوله: هذا مغتسل وهو ما اغتسل به من الماء، بارد وشراب شرب منه، قال مقاتل: انفجرت له عين فاغتسل منها، فخرج منها صحيحا، ثم مشى أربعين خطوة فدفع الأرض برجله الأخرى فنبعت عين أخرى ماء عذبا باردا، فذلك قوله: {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ} [ص: 42] يعني الذي اغتسل فيه، وشراب(3/557)
أراد الذي شرب منه.
وقال الحسن ركض ركضة أخرى فإذا عين تنبع حتى غمرته، فرد الله إليه جسده، فركض ركضة أخرى فإذا عين أخرى فشرب منها فطهرت جوفه، وغسلت كل قذر كان فيه.
وما بعد هذا مفسر في { [الأنبياء إلى قوله:] وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} [سورة ص: 44] وهو ملء الكف من الشجر والحشيش والشماريخ، وكان حلف ليجلدن امرأته مائة جلدة.
قال سعيد بن المسيب: اتهمها أنها قارفت شيئا من الخيانة، لأنها أتته يوما بزيادة على ما كانت تأتي به من الخبز.
وقال قتادة: عرض لها إبليس وأراد أن تحمل زوجها على شيء، فقالت لأيوب: لو تقربت إلى الشيطان بشيء فذبحت له عناقا.
فحلف أيوب لئن شفاه الله ليجلدنها مائة جلدة، فأمر أن يأخذ عيدانا رطبة من تمام مائة عود، فيضرب به كما أمره الله تعالى، وهو قوله: {فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: 44] فكان ذلك تحلة ليمينه، وتخفيفا عن امرأته، ثم أثنى على أيوب، فقال: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص: 44] أي: على البلاء الذي ابتليناه به، نعم العبد هو، إنه أواب رجاع إلى ما يحب الله من طاعته.
قوله: {(3/558)
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ {45} إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ {46} وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ {47} وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ {48} هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ {49} } [ص: 45-49] واذكر عبادنا وقرأ ابن كثير عبدنا على الواحد اختصاصا بالإضافة إلى الله على وجه المكرمة، وهو قراءة ابن عباس، يقول: إنما ذكر إبراهيم، ثم ذكر ولده بعده.
قال مقاتل: واذكر يا محمد صبر عبدنا إبراهيم حين ألقي في النار، وصبر إسحاق للذبح، وصبر يعقوب(3/559)
حين ذهب بصره، ولم يذكر إسماعيل لأنه لم يبتل بشيء.
{أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص: 45] قال ابن عباس: أولي القوة في طاعة(3/560)
الله، والأبصار في المعرفة بالله.
فالأيدي في هذه الآية جمع اليد التي هي بمعنى القدرة والقوة.
قال قتادة: أعطوا قوة في العبادة وصبرا في الدين.
وهو قول مجاهد، وسعيد بن جبير، والمفسرين.
قوله: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص: 46] قال مجاهد: اصطفيناهم بذكر الآخرة فأخلصناهم بذكرها.
وقال قتادة: كانوا يدعون إلى الآخرة وإلى الله.
وقال السدي: أخلصوا بخوف الآخرة.
فمن قرأ بالتنوين في بخالصة كان المعنى: جعلناهم لنا خالصين بأن خلصت لهم الذكرى الدار، والخالصة مصدر بمعنى الخلوص، والذكرى بمعنى التذكير، أي: خلص لهم تذكير الدار، وهو أنهم يذكرون بالتأهب لها ويزهدون في الدنيا، وذلك شأن الأنبياء صلوات الله عليهم، وأما من أضاف فالمعنى: أخلصناهم بأن خلصت لهم ذكرى الدار، والخالصة مصدر مضاف إلى الفاعل.
قال ابن عباس: أخلصوا بذكر الدار الآخرة، وأن يعملوا لها.
والذكرى على هذا بمعنى الذكر.
{وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ} [ص: 47] قال ابن عباس: يريد اصطفيتهم واخترتهم.
{وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ} [ص: 48] أي: اذكرهم بصبرهم وفضلهم لتسلك طريقهم، {وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ} [ص: 48] اختارهم الله للنبوة.
هذا ذكر شرف وذكر جميل يذكرون به أبدا، {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 49] يرجعون في الآخرة إلى مغفرة الله.
ثم بين حسن ذلك المرجع، فقال: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ {50} مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ {51} وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ(3/562)
الطَّرْفِ أَتْرَابٌ {52} هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ {53} إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ {54} } [ص: 50-54] {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ} [ص: 50] قال الفراء: المعنى مفتحة لهم أبوابها، والعرب تجعل الألف واللام خلفا من الإضافة.
وقال الزجاج: المعنى مفتحة لهم الأبواب منها، فالألف واللام للتعريف لا للبدل.
متكئين فيها في الجنات، يدعون فيها تقدير الآية: يدعون في الجنات متكئين فيها.
{بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ} [ص: 51] بألوان الفاكهة وألوان الشراب، والمعنى: وشراب كثير، فحذف للدلالة عليه.
{وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} [ص: 52] تقدم تفسيره.
أتراب أقران أسنانهن واحدة، بنات ثلاث وثلاثين سنة.
هذا يعني ما ذكر فيما تقدم ما يوعد به المتقون على لسان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن قرأ بالتاء فالمعنى: قل للمتقين: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ} [ص: 53] ليوم الجزاء.
ثم أعلم أن ذلك غير منقطع، فقال: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص: 54] أي: انقطاع وفناء.
قال ابن عباس: ليس لشيء في الجنة نفاد، وما أكل من ثمارها خلف مكانه مثله، وما أكل من حيوانها وطيرها عاد مكانه حيا.
{هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ {55} جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ {56} هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ {57} وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ {58} هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ {59} قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ {60} قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ {61} } [ص: 55-61] هذا، أي: الأمر هذا الذي ذكرناه.
ثم ذكر ما للكفار، فقال: {وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} [ص: 55] للذين طغوا على الله وكذبوا الرسل، لشر مآب شر مرجع ومصير.
ثم أخبر بذلك، فقال: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ} [ص: 56] قال ابن عباس: بئس المسكن وبئس الممهد.
{هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} [ص: 57] قال الفراء، والزجاج: تقدير الآية: هذا حميم غساق فليذوقوه.
أي: يقال لهم في ذلك اليوم: هذا حميم وغساق فليذوقوه، وعادت الكناية إلى أحدهما اكتفاء به عن(3/563)
الثاني كقوله: {يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا} [التوبة: 34] ومثله كثير، والحميم: الحار الذي قد انتهى حره، والغساق: ما سال من جلود أهل النار من القيح والصديد، من قولهم: غسقت عينه إذا انصبت، الغسقان الانصباب، والوجه التخفيف في غساق، لأنه اسم موضوع، قال: ومن شدد ذهب به إلى غسق يغسق فهو غساق.
وآخر وعذاب آخر، من شكله من مثل ذلك الأول، والشكل المثل، ويريد ضربا من العذاب على شكل الحميم والغساق في الكراهة.
قال المفسرون: هو الزمهرير.
ومن قرأ وأخر فالمعنى: وأنواع أخر من شكله.
وقوله: أزواج أي: ألوان وأنواع وأشباه.
هذا فوج قال صاحب النظم: هذا من قول الملائكة، يقولونه لأهل النار إذا جاءوهم بفوج سواهم من أهل النار.
والفوج القطيع من الناس، وجمعه أفواج، والمقتحم الداخل في الشيء رميا بنفسه فيه.
قال الكلبي: إنهم يضربون بالمقامع حتى يثبوا في النار خوفا من تلك المقامع، ويوقعوا أنفسهم فيها.
فلما قالت الملائكة ذلك لأهل النار قالوا: {لا مَرْحَبًا بِهِمْ} [ص: 59] المرحب والرحب معناه السعة، أي: لا اتسعت بهم مساكنهم، والمعنى: لا كرامة لهم.
هذا إخبار أن مودتهم تنقطع وتصير عداوة.
{إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ} [ص: 59] داخلوها كما دخلنا، ومقاسون حرها.
فأجابهم الفوج، فقالوا: {بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ} [ص: 60] هؤلاء الأتباع يقولون ذلك للقادة وقد سبقوهم إلى النار، يقولون لهم: {أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} [ص: 60] أنتم بدأتم بالكفر قبلنا، فبئس القرار بئس المستقر والمسكن جهنم.
ثم قالت الأتباع: {رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا} [ص: 61] من شرع وسن لنا هذا الكفر، {فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا} [ص: 61] أي: مضاعفا، أي: زدهم على عذابهم عذابا آخر في النار.(3/564)
{وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ {62} أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ {63} إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ {64} قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ {65} رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ {66} } [ص: 62-66] قال الكلبي: ثم ينظرون في النار فلا يرون من كان يخالفهم معهم وهم المؤمنون.
فعند ذلك قالوا: {مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ} [ص: 62] في الدنيا، {مِنَ الأَشْرَارِ} [ص: 62] يعنون فقراء المؤمنين: عمارا، وخبابا، وصهيبا، وبلالا، وسلمان.
ثم ذكروا أنهم كان يسخرون من هؤلاء، وهو قوله: اتخذناهم سخريا ومن قرأ بفتح الألف على الاستفهام فهو بعيد، لأنهم علموا أنهم اتخذوهم سخريا، فكيف يستقيم أن يستفهموا عن ذلك وقد علموه؟ ووجهه أنه على اللفظ لا على المعنى، وذلك لتعادل أم في قوله: {أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ} [ص: 63] قال مقاتل: أم زاغت أبصارنا عنهم، فهم معنا في النار ولا نراهم.
وقال قتادة: زاغت أبصارنا عنهم فلم نرهم حين دخلوا النار.
قال الله تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ} [ص: 64] يعني ما ذكرنا قبل هذا لحق.
ثم بين ما هو فقال: {تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص: 64] يعني: تخاصم القادة والأتباع على ما أخبر به عنهم.
قل لهم يا محمد، لأهل مكة: {إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ} [ص: 65] أنذركم وأحذركم عقوبة الله.
{وَمَا مِنْ إِلَهٍ} [ص: 65] وقل لهم أيضا: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [ص: 65] لخلقه.
{رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [ص: 66] الآية.(3/565)
795 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبُوشَنْجِيُّ، أنا يُوسُفُ بْنُ عَدِيٍّ، أنا عَثَّامُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا تَضَوَّرَ مِنَ اللَّيْلِ؛ قَالَ: «لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ»
{قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ {67} أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ {68} مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ {69} إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ {70} } [ص: 67-70] وقوله: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} [ص: 67] يعني القرآن في قوله الجميع.
قال مقاتل: القرآن حديث عظيم، لأنه كلام الله عز وجل.
وقال الزجاج: قل النبأ الذي أنبأتكم به عن الله نبأ عظيم.
يعني ما أنبأهم به من قصص الأولين، وذلك دليل على صدقه ونبوته، لأنه لم يعلم ذلك إلا بوحي من الله تعالى.
{أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} [ص: 68] لا تتفكرون فيه فتعلموا صدقي في نبوتي.
يدل على صحة هذا المعنى قوله: {مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإِ الأَعْلَى} [ص: 69] يعني الملائكة، إذ يختصمون يعني ما ذكر في قوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] إلى آخر القصة، {إِنْ يُوحَى إِلَيَّ} [ص: 70] ما يوحى إليَّ، {إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [ص: 70] قال الفراء: المعنى ما يوحى إليَّ إلا لأنني نبي ونذير.
مبين أبين لكم ما تأتون به من الفرائض والسنن، وما تدعون من الحرام والمعصية.
{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ {71} فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ {72} فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ {73} إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ {74} قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ {75} قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ {76} } [ص: 71-76] {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ} [ص: 71] متصل بقوله: إذ يختصمون فاعترض بينهما كلام، وما بعد هذا مفسر فيما مضى من { [الحجر.
](3/566)
لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص: 75] أي: لما توليت خلقه كما قال: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71] وهو مر.
{أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص: 75] استفهام توبيخ وإنكار، يقول: أستكبرت بنفسك حتى أبيت السجود لآدم؟ أم كنت من القوم الذين يتكبرون فتكبرت عن السجود بكونك من قوم يتكبرون؟ وما بعد هذا مفسر فيما تقدم.
قوله: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ {77} وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ {78} قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ {79} قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ {80} إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ {81} قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ {82} إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ {83} قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ {84} لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ {85} قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ {86} إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ {87} وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ {88} } [ص: 77-88] {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} [ص: 84] انتصب الحق الأول على تقدير فبالحق، حذف الخافض ونصب كما تقول: والله لأفعلن، والحق الثاني يجوز أن يكون الأول وكرره للتأكيد، ويجوز أن يكون الحق منصوبا بأقول، كأنه قال: وأقول الحق.
وقرأ الكوفيون والحق رفعا وهو مبتد وخبره محذوف على تقدير الحق مني، كما قال: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [البقرة: 147] وهذا قول مجاهد، قال: يقول الله: الحق مني وأنا أقول الحق.
أقسم الله تعالى أن يملأ جهنم من إبليس وأتباعه وهو قوله: {(3/567)
لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ} [ص: 85] الآية.
قل لكفار مكة: {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} [ص: 86] على تبليغ الوحي والقرآن، من أجر مال تعطونيه، {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] أي: ما أتيتكم رسولا من قبل نفسي، ولم أتكلف هذا الإتيان بل أمرت به.
796 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الْحِيرِيُّ الزَّاهِدُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ السِّمِذِيُّ، أنا الْمُفَضَّلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْجَنَدِيُّ، نا عَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ اللَّخْمِيُّ، نا أَبُو قُرَّةَ، قَالَ: ذَكَرَ سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، وَالأَعْمَشِ أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ عَلِمَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلِ: اللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ تَقُولَ لِمَا لا تَعْلَمُ: اللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنِ الأَعْمَشِ
{إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [ص: 87] ما القرآن إلا موعظة للخلق أجمعين، ولتعلمن أنتم يا كفار مكة، نبأه خبر صدقه، بعد حين قال ابن عباس، وقتادة: بعد الموت.
وقال عكرمة: يعني يوم القيامة.
وقال الكلبي: من بقي علم ذلك لما ظهر أمره وعلا، ومن مات علمه بعد الموت.
وقال الحسن: ابن آدم، عند الموت يأتيك الخبر اليقين.(3/568)
تفسير سورة الزمر
مكية وهي سبعون وخمس آيات مكية.
797 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الزُّمَرِ لَمْ يَقْطَعِ اللَّهُ رَجَاهُ، وَأَعْطَاهُ ثَوَابَ الْخَائِفِينَ الَّذِينَ خَافُوا اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ»
{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ {1} إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ {2} أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ {3} لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ {4} } [الزمر: 1-4] بسم الله الرحمن الرحيم {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} [الزمر: 1] مبتدأ وخبره {مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر: 1] أي: إن تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم لا من غيره، كما تقول في الكلام: استقامة الناس من الأنبياء، أي: إنها لا تكون إلا من الأنبياء.
{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [الزمر: 2] قال مقاتل: يقول: لم ننزله باطلا لغير شيء.
{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2] موحدا له لا تشرك به شيئا، والإخلاص أن يقصد العبد بنيته وعمله إلى خالقه، لا يجعل ذلك لعرض الدنيا.
{أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3] يعني أن الدين الخالص من الشرك هو لله تعالى، وما سواه من الأديان فليس بدين الله الذي أمر به.(3/569)
وقال قتادة: الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله.
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الزمر: 3] يعني الآلهة والأصنام، يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] إلا ليشفعوا لنا إلى الله، وذلك التقريب هو الشفاعة في قول المفسرين، والزلفى القربى، وهو اسم أقيم مقام المصدر، كأنه قال: {إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ} [الزمر: 3] تقريبا.
{إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} [الزمر: 3] بين أهل الأديان، وهم الذين اتخذوا من دونه أولياء، يحكم الله بينهم يوم القيامة، {فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر: 3] من أمر الدين، كل يقول: الحق ديني، فهم مختلفون، وحكم الله بينهم أن يعذب كلا على قدر استحقاقه.
ثم أخبر أن هؤلاء لا يهديهم الله، فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3] لا يرشد لدينه من كذب في زعمه أن الآلهة تشفع وكفر في اتخاذ الآلهة دونه، وهذا فيمن سبق عليه القضاء بحرمان الهداية.
{لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [الزمر: 4] على ما يزعم من ينسب الله تعالى إلى اتخاذ الولد، {لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الزمر: 4] يعني الملائكة، كما قال الله تعالى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} [الأنبياء: 17] ، ثم أعلم أنه منزه عن اتخاذ الولد، فقال: سبحانه تنزيها له عن ذلك، {هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ} [الزمر: 4] لا شريك له، ولا صاحبة، ولا ولد القهار لخلقه، قهر ما خلق بالموت، وهو حي لا يموت.
{خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ {5} خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ {6} } [الزمر: 5-6] قوله: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} [الزمر: 5] أي: لم يخلقهما باطلا لغير شيء، {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ} [الزمر: 5] يدخل هذا على هذا، والتكوير: طرح الشيء بعضه على بعض، يقال: كور المتاع إذا ألقى(3/570)
بعضه على بعض.
قال قتادة: يغشي هذا على هذا، كما قال: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [الأعراف: 54] ، و {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} [الحج: 61] .
{وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [الزمر: 5] ذللهما للمسير في بروجهما على ما قدر وأراد، كل منهما، {يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 5] أي: إلى الأجل الذي وقت الله الدنيا إليه، وهو انقضاؤها وفناؤها.
{أَلا هُوَ الْعَزِيزُ} [الزمر: 5] الغالب في ملكه، الغفار لأوليائه وأهل طاعته.
{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الزمر: 6] يعني آدم، قال الفراء، والزجاج: المعنى خلقكم من نفس خلقها واحدة.
{ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر: 6] لأن خلقها كان بعد خلق الزوج، يعني حواء، خلقت من قصيري آدم.
{وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ} [الزمر: 6] معنى الإنزال ههنا: الإنشاء والإحداث، كقوله: {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ} [الأعراف: 26] ولم ينزل اللباس ولكنه أنزل الماء الذي هو سبب، والقطن والصوف واللباس منهما، كذلك الأنعام تكون بالنبات والنبات يكون بالماء، وقوله: ثمانية أزواج مفسر في { [الأنعام،] يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [سورة الزمر: 6] نطفا، ثم علقا إلى أن يخرج من بطن أمه، {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} [الزمر: 6] ظلمة المشيمة، وظلمة البطن، وظلمة الرحم، ذلكم الله الذي خلق هذه الأشياء ربكم، {لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر: 6] عن طريق الحق بعد هذا البيان؟ مثل قوله: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [الأنعام: 95] .
{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {7} وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا(3/571)
لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ {8} } [الزمر: 7-8] قوله: إن تكفروا يا أهل مكة، {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} [الزمر: 7] أي: عن عبادتكم، {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد ولا أرضى لأوليائي وأهل طاعتي الكفر.
وقال في رواية الوالبي: يعني عباده المخلصين الذين قال فيهم: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] فألزمهم شهادة أن لا إله إلا الله، وحببها إليهم.
وقال السدي: لا يرضى لعباده المؤمنين أن يكفروا.
وهذا طريق من قال بالتخصيص في هذه الآية، ومن أجراها على العموم قال: إن الله تعالى لا يرضى الكفر لأحد، وكفر الكافر غير مرضي لله، وإن كان بإرادته.
والله تعالى مريد لكفر الكافر غير راض به، لأنه لا يمدحه ولا يثني عليه، قال قتادة: والله ما رضي الله لعبد ضلالة، ولا أمره بها، ولا دعاه إليها.
وإن تشكروا ما أنعم عليكم من التوحيد، يرضه لكم يرضى ذلك الشكر لكم بأن يثيبكم عليه، وباقي الآية تقدم تفسيره.
قوله: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ} [الزمر: 8] قال عطاء: يريد عتبة بن ربيعة.
وقال مقاتل: يريد أبا حذيفة بن المغيرة.
ضر بلاء وشدة وفقر، أو مرض، {دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} [الزمر: 8] راجعا إليه من شركه، {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ} [الزمر: 8] أعطاه، نعمة منه يعني: أغناه وأنعم عليه بالصحة، {نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} [الزمر: 8] نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه، {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا} [الزمر: 8] رجع إلى عبادة الأوثان، {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [الزمر: 8] ليزل عن دين الله الإسلام، قل لهذا الكافر: {تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا} [الزمر: 8] في الدنيا إلى أجلك، قال الزجاج: لفظ الأمر، ومعناه التهديد والوعيد.
{إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر: 8] أي: إن مصيرك إلى النار.
قوله: {(3/572)
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} [الزمر: 9] {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} [الزمر: 9] الجملة التي عادلت أم قد حذفت، كما يقال: أهذا أم هذا؟ والتقدير: الجاحد الكافر، يعني الذي ذكره في قوله: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ} [الزمر: 8] خير، {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} [الزمر: 9] والأصل أم من هو، فأدغمت الميم في الميم، ومن قرأ بالتخفيف فهي ألف الاستفهام دخلت على من، وهو استفهام إنكار، والمعنى: أمن هو قانت كالأول الذي ذكر بالنسيان والكفر؟ قال الزجاج: أمن هو قانت كهذا الذي ذكرنا ممن جعل لله أندادا؟ والقانت: المقيم على الطاعة، القائم بما يجب عليه من أمر الله.
قال ابن عباس في رواية عطاء: وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
798 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، أنا الْوَلِيدُ بْنُ أَبَانٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ، نا عُمَرُ بْنُ أَبِي مُعَاذٍ النُّمَيْرِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى، عَنْ يَحْيَى الْبَكَّاءِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ، تَعَالَى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} الآيَةَ، قَالَ: نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ(3/573)
عَنْهُ
وقال مقاتل: نزلت في عمار بن ياسر.
وتفسير آناء الليل قد مضى.
وقوله: ساجدا وقائما يعني في الصلاة، يحذر الآخرة قال مقاتل: يحذر عذاب الآخرة.
{وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9] يعني الجنة، كمن لا يفعل ذلك؟ ليسا سواء.
وهو قوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] أن ما وعد الله من الثواب والعقاب حق، {وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] ذلك؟ {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} [الزمر: 9] إنما يتعظ ذوو العقول من المؤمنين، فأما الجاهل الكافر فإنه لا يتعظ.
{قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ {10} قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ {11} وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ {12} قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ {13} قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي {14} فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ {15} } [الزمر: 10-15] {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الزمر: 10] صدقوا بتوحيد الله، اتقوا ربكم بطاعته واجتناب معاصيه، وتم الكلام، ثم قال: للذين أحسنوا وحدوا الله وأحسنوا العمل، {فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} [الزمر: 10] يعني الجنة، {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} [الزمر: 10] قال ابن عباس: يريد ارحلوا من مكة.
وهذا حث لهم على الهجرة من مكة إلى حيث يأمنون.
كقوله تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97] .
{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ} [الزمر: 10] على دينهم فلا يتركونه لمشقة تلحقهم، وهذه الآية نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين لم يتركوا دينهم، ولما اشتد عليهم الأمر صبروا وهاجروا، وقوله: {أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] قال عطاء: بما لا يهتدي إليه عقل ولا وصف.
وقال مقاتل: أجرهم الجنة وأرزاقهم فيها بغير حساب.
قوله: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ} [الزمر: 11] قال مقاتل: إن كفار قريش قالوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما يحملك على الذي أتيتنا به؟ ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وسادة قومك، يعبدون اللات والعزى فتأخذ بها.
فأنزل الله قل يا محمد: {إِنِّي(3/574)
أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 11] أمرت أن أعبده على التوحيد والإخلاص، لا يشوب عبادتي شرك.
وأمرت بهذا، {لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر: 12] من هذه الآمة.
{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} [الزمر: 13] بالرجوع إلى دين آبائي، {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الزمر: 13] .
{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر: 14] بالتوحيد لا أشرك به شيا.
{فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 15] أمر تهديد، {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [الزمر: 15] بأن صاروا إلى النار، وأهليهم من الأزواج والخدم في الجنة.
قال الزجاج: وهذا يعني به الكفار، فإنهم خسروا أنفسهم بالتخليد في النار، وخسروا أهليهم لأنهم لم يدخلوا مدخل المؤمنين الذين لهم أهل في الجنة.
قوله: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ {16} وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ {17} الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ {18} } [الزمر: 16-18] {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ} [الزمر: 16] يعني: أطباقا من النار تلتهب عليهم، كقوله تعالى: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [العنكبوت: 55] الآية.
{وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر: 16] مهاد من النار.
قال السدي: وهي لمن تحتهم ظلل، وهكذا حتى تنتهي إلى القعر.
ذلك الذي وصف من العذاب، {يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} [الزمر: 16] المؤمنين، يعني أن ما ذكر من العذاب معد للكفار، وهو تخويف للمؤمنين ليخافوا فيتقوه بالطاعة والتوحيد.
ثم أمرهم بذلك فقال: {يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر: 16] .
قوله: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} [الزمر: 17] يعني الأوثان والشيطان، {وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ} [الزمر: 17] رجعوا إليه بالطاعة، لهم البشرى بالجنة.
{فَبَشِّرْ عِبَادِ {17} الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ} [الزمر: 17-18] يعني القرآن، فيتبعون أحسنه قال السدي: يتبعون أحسن ما يؤمرون به، فيعملونه.
وقال عطاء، عن ابن عباس: إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه آمن بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصدقه، فجاءه عثمان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة، والزبير، وسعيد بن زيد، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم، فسألوه، فأخبرهم بإيمانه، فآمنوا ونزلت فيهم {فَبَشِّرْ عِبَادِ {17} الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ} [الزمر: 17-18] يعني: من أبي(3/575)
بكر فيتبعون أحسنه، أي حسنه، وكله حسن.
ثم أثنى عليهم بباقي الآية ووصفهم بالهداية والفضل.
ثم ذكر من سبقت له من الله الشقاوة، فقال: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ {19} لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ {20} أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ {21} } [الزمر: 19-21] {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} [الزمر: 19] قال ابن عباس: من سبق في علم الله أنه في النار، أفأنت تنقذه فتجعله مؤمنا.
يعني لا تقدر على ذلك، قال عطاء: يريد أبا لهب وولده ومن تخلف من عشيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الإيمان به.
{لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} [الزمر: 20] بالإيمان والطاعة، {لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} [الزمر: 20] لهم منازل في الجنة رفيعة، وفوقها منازل أرفع منها، وعدهم الله تلك الغرف والمنازل وعدا لا يخلفه، وهو قوله: وعد الله، {لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} [الزمر: 20] .
ثم ذكر ما يدل على توحيده، وهو قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ} [الزمر: 21] أدخل ذلك الماء {يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ} [الزمر: 21] جمع ينبوع، وهو يفعول، من نبع الماء ينبع، والينابيع الأمكنة التي ينبع منها الماء.
قال مقاتل: فجعله عيونا وركابا في الأرض، ثم يخرج بذلك الماء من الأرض زرعا مختلفا ألوانه من أصفر وأحمر وأخضر وأبيض.
ثم يهيج يجف، يقال: هاج النبت يهيج هيجا إذا تم جفافه.
فتراه بعد الخضرة، {مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا} [الزمر: 21] دقاقا متكسرا متفتتا، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ} [الزمر: 21] تفكر لذوي العقول، يذكرون به ما لهم فيه من الدلالة على توحيد الله وقدرته.
وقوله: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ {22} اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ {23} أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ {24} } [الزمر: 22-24] {(3/576)
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الزمر: 22] أي: وسعه لقبول الحق.
روي عن ابن مسعود، أنه قال: تلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الآية، فقالوا: يا رسول الله، وما هذا الشرح؟ قال: «نور يقذفه الله في القلب فينفسح له القلب» .
فقيل له: فهل لذلك من أمارة؟ قال: «نعم» .
قيل: وما هي؟ قال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت» .
وقوله: {فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22] قال قتادة: النور كتاب الله عز وجل، به يأخذ وإليه ينتهي.
وقال عطاء، عن ابن عباس: فهو على يقين من ربه.
وقال الزجاج: تقدير الآية: أفمن شرح الله صدره للإسلام كمن طبع على قلبه فلم يهتد لقسوته؟ ودل على هذا المحذوف قوله: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22] قال مقاتل: نزلت في النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي جهل، لعنه الله.
وقال عطاء: نزلت في علي وحمزة وأبي لهب وولده.(3/577)
وقوله: {مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22] قال الفراء، والزجاج: عن ذكر الله، كما تقول: أتخمت من طعام أكلته، وعن طعام أكلته، سواء، والمعنى أنه غلظ قلبه وصفا عن قبول ذكر الله تعالى.
أولئك أي: القاسية قلوبهم، {فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر: 22] .
قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر: 23] يعني القرآن، وسمي حديثا لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يحدث قومه ويخبرهم بما نزل عليه منه.
وقوله: كتابا متشابها أي: يشبه بعضه بعضا، ويصدق بعضه بعضا، ليس فيه اختلاف ولا تناقض.
{تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر: 23] خوفا مما في القرآن من الوعيد.
ومعنى تقشعر: تأخذهم قشعريرة، وهي تغير يحدث في جلد الإنسان عند الوجل والخوف.
799 - أَخَبْرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، نا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَبَّاسِ الرَّزَّازُ، نا أَبُو شُعَيْبٍ الْحَرَّانِيُّ، نا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيُّ، نا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ الْعَبَّاسِ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا اقْشَعَرَّ جِلْدُ الْعَبْدِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَحَاتَّتْ عَنْهُ ذُنُوبُهُ كَمَا يَتَحَاتُّ عَنِ الشَّجَرَةِ الْيَابِسَةِ وَرَقُهَا»
قال الزجاج: إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلود الخائفين الله تعالى.
{ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ} [الزمر: 23] إذا ذكرت آيات الرحمة، وهذا معنى قول جميع المفسرين.
وقوله: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ} [الزمر: 23] أي: تطمئن وتسكن، {إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23] الجنة والثواب، فحذف مفعول الذكر للعلم به.
قال قتادة: هذا نعت أولياء الله تعالى، نعتهم(3/578)
الله بأنهم تقشعر جلودهم وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم، إنما ذلك في أهل البدع، وهو من الشيطان.
ذلك يعني: أحسن الحديث، وهو القرآن، هدى الله الآية.
قوله: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 24] نزلت في أبي جهل، قال الكلبي: ينطلق به إلى النار مغلولا، فإذا رمت به الخزنة فيها لم يتقها بأول من وجهه.
قال الزجاج: المعنى أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب كمن يدخل الجنة.
وتم الكلام، ثم أخبر عما تقول الخزنة للكفار بقوله: {وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [الزمر: 24] قال عطاء: يريد جزاء ما كنتم تعملون.
{كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ {25} فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ {26} } [الزمر: 25-26] {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الزمر: 25] من قبل كفار مكة، كذبوا رسلهم بالعذاب إذ لم يؤمنوا، {فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} [الزمر: 25] يعني: وهم آمنون في أنفسهم، غافلون عن العذاب.
{فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ} [الزمر: 26] الهوان والعذاب، {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ} [الزمر: 26] مما أصابهم في الدنيا، {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 26] لكنهم لم يعلموا ذلك.
قوله: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْءَانِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ {27} قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ {28} } [الزمر: 27-28] {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ} [الزمر: 27] لأهل مكة، {فِي هَذَا الْقُرْءَانِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الزمر: 27] بينا لهم ما يشبه حالهم، لعلهم يتذكرون يتعظون فيعتبرون.
قرآنا عربيا حال من القرآن في قوله: {فِي هَذَا الْقُرْءَانِ} [الزمر: 27] ، {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: 28] مستقيم ليس بمختلف.
800 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الْعَدْلُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ مُحَمَّدٍ السُّلَمِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ حَمْدُونِ بْنِ خَالِدٍ، نا أَبُو هَارُونَ(3/579)
إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَبُو صَالِحٍ، نا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} ، قَالَ: غَيْرَ مَخْلُوقٍ
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ {29} إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ {30} ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ {31} } [الزمر: 29-31] {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا} [الزمر: 29] ثم بينه، فقال: {رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} [الزمر: 29] متنازعون مختلفون، ورجلا سلما لرجل سلم له من غير منازع، ومن قرأ سلما فهو مصدر وصف به على معنى: ورجلا ذا سلم لرجل، من قولهم: هو لك سلم، أي: مسلم لا منازع لك فيه.
قال الزجاج: وهذا المثل ضرب لمن وحد الله عز وجل، ولمن جعل معه شركاء.
قال مقاتل: يقول: هل يستوي عبد يشترك فيه نفر مختلفون يملكونه جميعا، ورجل خالص لرجل لا شركة فيه لأحد؟ ثم قال: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا} [الزمر: 29] أي: يستوي من يعبد آلهة شتى مختلفة، يعني الكافر، والذي يعبد ربا واحدا، يعني المؤمن؟ وهذا استفهام معناه الإنكار، أي لا يستويان، وذلك أن الخالص لمالك واحد يستحق من معونته وإحسانه ما لا يستحقه صاحب الشركاء المتعاشرين المختلفين في أمره، وتم الكلام، ثم قال: الحمد لله أي: له الحمد كله دون غيره من المعبودين، بل أي: دع الكلام الأول، {أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29] ما يصيرون إليه من العقاب، والمراد بالأكثر الكل.
ثم أخبر نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بأنه يموت، وأن هؤلاء الذين يكذبونه يموتون ويجتمعون للخصومة عند الله، وهو قوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] .
{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 31] قال ابن عباس: يعني الحق والمبطل، والظالم والمظلوم.
801 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ، أنا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَالِكٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، نا ابْنُ نُمَيْرٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} ؛ قَالَ الزُّبَيْرُ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ، أَيُكَرَّرُ عَلَيْنَا مَا كَانَ بَيْنَنَا فِي الدُّنْيَا مَعَ خَوَاصِّ الذُّنُوبِ؟(3/580)
قَالَ: نَعَمْ، لَيُكَرَّرَنَّ عَلَيْكُمْ حَتَّى تُؤَدُّوا إِلَى كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ.
قَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللَّهِ إِنَّ الأَمْرَ لَشَدِيدٌ
قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ {32} وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ {33} لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ {34} لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ {35} } [الزمر: 32-35] {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} [الزمر: 32] بأن له ولدا وشريكا، وكذب بالصدق أي: بالتوحيد والقرآن، {إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [الزمر: 32] مقام للجاحدين؟ وهو استفهام تقرير، يعني أنه كذلك.
{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} [الزمر: 33] محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصدق به أبو بكر رضي الله عنه وأصحابه، وهم المؤمنون الذين صدقوا محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما جاء به من الإسلام، {أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33] الذين اتقوا الشرك.
{لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الزمر: 34] لهم عند الله من الجزاء والكرامة ما يشاءون، {ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 34] في أقوالهم وأعمالهم.
{لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [الزمر: 35] أي: أعطاهم ما شاءوا، {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} [الزمر: 35] يسترها عنهم بالمغفرة، {وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 35] قال مقاتل: يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم، ولا يجزيهم بالمساوي.
قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ {36} وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ {37} } [الزمر: 36-37] {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] يعني محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يكفيه عداوة من يعاديه، ومن قرأ عباده فالمراد بالعباد الأنبياء، وذلك أن الأمم قصدتهم بالسوء، وهو قوله: {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ} [غافر: 5](3/581)
فكفاهم الله تعالى شر من عاداهم، يعني أنه كافيكم كما كفى هؤلاء الرسل قبلك.
{وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 36] أي: بالذين يعبدون من دونه، وهم الأصنام وذلك أنهم قالوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنا نخاف أن يصيبك من آلهتنا جنون أو خبل.
ثم ذكر سبب ضلالهم، فقال: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 36] ، {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} [الزمر: 37] من تولى الله هدايته لم يضله أحد.
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ} [الزمر: 37] غالب لا يمتنع عليه شيء، ذي انتقام ممن عصاه وكفر به.
ثم أعلم أنهم مع عبادتهم الأوثان مقرون بأن الله خالق السموات والأرض، فقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ {38} قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ {39} مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ {40} } [الزمر: 38-40] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر: 38] ثم أمره أن يحتج عليهم بأن ما يعبدون من دون الله لا يملك كشف ضر، فقال: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ} [الزمر: 38] قال ابن عباس، ومقاتل: بمرض أو فقر أو ببلاء أو شدة.
{هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} [الزمر: 38] هل تقدر الآلهة أن تكشف ما ينزل بي من ضر، {أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ} [الزمر: 38] بخير وصحة، {هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} [الزمر: 38] هل تقدر الآلهة أن تحبس عني تلك الرحمة، وقرئ كاشفات وممسكات بالتنوين وبغيره، فمن نون فلأنه غير واقع، وما لم يقع من أسماء الفاعلين فالوجه فيه التنوين، ومن أضاف فعلى الاستخفاف(3/582)
وحذف التنوين، والمعنى على التنوين، وكلا الوجهين حسن.
قال مقاتل: فسألهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك فسكتوا، ولم يجيبوه، فقال الله تعالى للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38] بالله يثق الواثقون.
وما بعد هذا مفسر فيما سبق إلى قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ {41} اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {42} أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ {43} قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {44} } [الزمر: 41-44] {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [الزمر: 41] القرآن، للناس قال ابن عباس: لجميع الخلق.
بالحق أي: ليس فيه شيء من الباطل، فمن اهتدى بالقرآن، فلنفسه وهذه الآية مفسرة في آخر { [يونس،] وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [سورة الزمر: 41] لم يوكلك بهم ولا تؤخذ بهم.
قال مقاتل: وهذا قبل أن يؤمر بالقتال.
قوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] يعني الأرواح، حين موتها عند أجلها، والمعنى: حين موت أبدانها وأجسادها، على حذف المضاف، {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ} [الزمر: 42] أي: ويتوفى الأنفس التي لم تمت، في منامها والتي تتوفى عند النوم هي النفس التي يكون بها العقل والتمييز، قال الزجاج: لكل إنسان نفسان، أحدهما نفس التمييز وهي التي تفارقه إذا نام فلا يعقل، والأخرى نفس الحياة إذا زالت زال معها النفس، والنائم يتنفس.
وقوله: فيمسك أي: عن الجسد الروح التي قبضها حتى لا تعود إليه.
وهو قوله: {الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} [الزمر: 42] وقرئ قضي عليها الموت، والوجه القراءة الأولى، لقوله: الله يتوفى، قوله: ويرسل يعني ويرسل، الأخرى أي: إلى الجسد، {إِلَى(3/583)
أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42] إلى انقضاء الأجل، قال سعيد بن جبير: يقبض أنفس الأحياء والأموات، فيمسك أنفس الأموات ويرسل أنفس الأحياء، فلا يغلط.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر: 42] لدلالات على قدرته حيث لم يغلط في إمساك ما يمسك من الأرواح، وإرسال ما يرسل منها.
وقال مقاتل: لعلامات لقوم يتفكرون في أمر البعث.
يعني أن توفي نفس النائم وإرسالها بعد التوفي دليل على البعث، وهذا كما روي أنه مكتوب في التوراة: يا ابن آدم، كما تنام تموت، وكما تستيقظ تبعث.
قوله: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} [الزمر: 43] نزلت في أهل مكة، زعموا أن الأصنام شفعاؤهم عند الله تعالى، فقال الله منكرا عليهم: أم اتخذوا أي: بل اتخذوا من دون الله آلهة شفعاء، قل يا محمد: أولو كانوا يعني الآلهة، {لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا} [الزمر: 43] من الشفاعة، ولا يعقلون أنكم تعبدونهم، وجواب هذا الاستفهام محذوف تقدير أولو كانوا بهذه الصفة تتخذونهم.
ثم أخبر أنه لا شفاعة إلا بأذنه، فقال: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 44] قال مجاهد: لا يشفع أحد إلا بإذنه.
والمعنى: لا يملك أحد الشفاعة إلا بتمليكه كما قال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] وفي هذا إبطال الشفاعة من ادعيت له الشفاعة من الآلهة.
قوله: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ {45} قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ {46} وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ {47} وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ {48} } [الزمر: 45-48] {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} [الزمر: 45] معنى الاشمئزاز في اللغة: النفور والاستكبار.
قال ابن عباس، ومجاهد: اشمأزت انقبضت عن التوحيد.
وقال قتادة: استكبرت.
وقال أبو عبيدة: نفرت.
وكان المشركون إذا سمعوا لا إله إلا الله وحده(3/584)
لا شريك له، نفروا من هذا، لأنهم كانوا يقولون الأوثان آلهة.
{وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 45] يعني: الأصنام التي عبدوها من دونه، {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45] يفرحون، قل مجاهد، ومقاتل: يعني حين قرأ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة { [النجم، فقال: تلك الغرانيق العلى.
فرح كفار مكة بذلك حين سمعوا أن لها شفاعة.
وما بعد هذا مفسر فيما تقدم إلى قوله:] وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [سورة الزمر: 47] قال مقاتل: ظهر لهم حين بعثوا ما لم يحتسبوا في الدنيا أنه نازل بهم في الآخرة.
والمعنى أنهم كانوا يتقربون إلى الله بعبادة الأصنام، فلما عوقبوا عليها بدا لهم من الله ما لم يحتسبوا.
وقد ظهر هذا في قوله: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} [الزمر: 48] أي: من مساوئ أعمالهم من الشرك وظلم أولياء الله، {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} [الزمر: 48] أنزل بهم كل ما أنذرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به مما كانوا ينكرونه ويكذبون به.
قوله: {فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ {49} قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ {50} فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ {51} أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {52} } [الزمر: 49-52] {فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ} [الزمر: 49] يعني الكافر، {ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ} [الزمر: 49] أعطيناه نعمة منا من عندنا، {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ} [الزمر: 49] ذكر الكناية، لأن المراد بالنعمة الإنعام، وقوله: على علم قال مقاتل: على خير(3/585)
علمه الله عندي.
وقال غيره: على علم من الله بأني له أهل.
قال الله تعالى: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} [الزمر: 49] أي: بلوى يبتلى بها العبد ليشكر أو ليكفر، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 49] أن ذلك استدراج من الله لهم وامتحان.
قد قالها أي: قال تلك الكلمة، وهي قوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [الزمر: 49] قال مقاتل: يعني قارون حين قال: إنما أوتيته على علم عندي.
{الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الزمر: 50] يعني: الكفار الذين كانوا قبل هؤلاء، {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الزمر: 50] ما أغني عنهم الكفر من العذاب شيئا.
والمعنى أنهم ظنوا أن ما آتيناهم لكرامتهم علينا، ولم يكن كذلك، لأنهم وقعوا في العذاب ولم يغن عنهم ما كسبوا شيئا.
وهو قوله: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} [الزمر: 51] أي: جزاؤها، يعني العذاب.
ثم أوعد كفار مكة، فقال: {وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الزمر: 51] لأن مرجعهم إلى الله فهم لا يعجزونه ولا يفوتونه فيجازيهم بأعمالهم.
{أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ} [الزمر: 52] قال مقاتل: وعظهم ليعتبروا في توحيده، وذلك حين أمطروا بعد سبع سنين، فقال: أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يوسع الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ ويقتر على من يشاء.
قوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {53} وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ {54} وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ {55} أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ {56} أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ {57} أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ {58} بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ {59} } [الزمر: 53-59] {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر: 53] المفسرون كلهم قالوا: إن هذه الآية نزلت في قوم خافوا إن أسلموا أن لا يغفر لهم ما جنوا من الذنوب العظام كالشرك، وقتل النفس، ومعاداة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والقتال ضده، والزنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وفرح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذه الآية، ورآها أصحابه من أوسع الآيات(3/586)
في مغفرة الذنوب.
802 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ السَّرَّاجُ، أنا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، أنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أنا الْقَاسِمُ بْنُ سَلامٍ، أنا حَجَّاجٌ، أنا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنِي يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يُحَدِّثُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا، وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا، ثُمَّ أَتَوْا مُحَمَّدًا، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ، لَوْ تُخْبِرُنَا أَنْ لِمَا عَمِلْنَاهُ كَفَّارَةً، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ
ومعنى {أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر: 53] أي: بالشرك والزنا وإراقة الدماء.
{لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53] وذلك أنهم ظنوا أنه لا توبة لهم، {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] وعد بغفران الذنوب وإن كثرت.
803 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ النَّصْرَابَاذِيُّ، أنا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شَارِكٍ، أنا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى السَّاجِيُّ، نا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ شَهْرِ بِن حَوْشَبٍ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ، أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقْرَأُ: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} وَلا يُبَالِي بِهِ {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}
804 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ(3/587)
حَشِيشٍ الْعَدْلُ، نا أَبُو حَامِدٍ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الْحَضْرَمِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، نا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي قَبِيلٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِئَ، يَقُولُ: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُبُلانِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِيَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا بِهَذِهِ الآيَةِ: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} " ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ
فقال: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} [الزمر: 54] أي: ارجعوا من الشرك والذنوب إلى الله تعالى فوحدوه، وأسلموا له وأخلصوا له التوحيد، {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [الزمر: 54] لا تمنعون من عذاب الله.
{وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر: 55] يعني القرآن، يقول: أحلوا حلاله وحرموا حرامه.
وقال السدي: الأحسن ما أمر الله به في كتابه.
{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً} [الزمر: 55] يريد الموت، وذلك أنهم يموتون بغتة فيقعون في العذاب، وهو قوله: {وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ {55} أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ} [الزمر: 55-56] قال المبرد: أي بادروا خوف أن تقول، وحذرا من أن تقول نفس.
وقال الزجاج: خوف أن تصيروا إلى حال تقولون فيها هذا القول.
{يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله} قال الفراء: الجنب القرب، أي: في قرب الله وجواره، والجنب(3/588)
بمعنى القرب كثير في الكلام، يقال: فلان يعيش في جنب فلان، أي في قربه وجواره، ومنه قوله تعالى: والصاحب بالجنب والمعنى على هذا القول: على ما فرطت في طلب جنب الله، أي: في طلب جواره وقربه، وهو الجنة.
وهذا معنى قول ابن الأعرابي في قرب الله من الجنة.
وقال الزجاج: أي فرطت في الطريق الذي هو طريق الله من توحيده والإقرار بنبوة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى هذا الجنب بمعنى الجانب، أي: قصرت في الجانب الذي يؤدي إلى رضا الله عز وجل.
والمفسرون ذكروا هذه المعاني، فقال عطاء، عن ابن عباس: ضيعت في ثواب الله.
وقال مجاهد، والسدي: في أمر الله.
وقال الحسن: في طاعة الله.
{وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر: 56] أي: وما كنت إلا من المستهزءين بالقرآن وبالمؤمنين في الدنيا، أو تقول: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي} [الزمر: 57] أرشدني إلى دينه، {لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر: 57] الشرك.
{أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ} [الزمر: 58] مشاهدة وعيانا: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً} [الزمر: 58] رجعة إلى الدنيا، {فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 58] الموحدين.
ثم يقال لهذا القائل: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي} [الزمر: 59] يعني القرآن، {فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ} [الزمر: 59] قلت: إنها ليست من الله تعالى واستكبرت تكبرت عن الإيمان بها.
قوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ {60} وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ {61} } [الزمر: 60-61] {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ} [الزمر: 60] فزعموا أن له ولدا أو شريكا، وجوههم مسودة.
أخبرنا أبو بكر الحارثي، أنا أبو الشيخ الحافظ، نا عبد الله قحطبة، نا محمد بن الصباح، نا عمرو بن الأزهري، عن أبي الربيع، عن كثير بن زياد، قال: سئل الحسن عن هذه الآية {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60](3/589)
فقال: هم الذين يقولون: الأشياء إلينا إن شئنا فعلنا، وإن شئنا لم نفعل.
وباقي الآية مفسر في هذه ال { [.
قوله: وينجي الله أي: من جهنم، الذين اتقوا الشرك، بمفازتهم المفازة الفوز، هو الظفر بالخير والنجاة من الشر.
قال المبرد: المفازة مفعلة من الفوز، وهو السعادة، وإن جمع فحسن، كقولك: السعادة والسعادات.
والمعنى: ينجيهم الله بفوزهم، أي بنجاتهم من النار وفوزهم بالجنة،] لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ} [سورة الزمر: 61] لا يصيبهم العذاب، {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر: 61] لأنهم رضوا بالثواب.
{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ {62} لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ {63} قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ {64} وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ {65} بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ {66} } [الزمر: 62-66] {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] أي: إن ما في الدنيا والآخرة فهو خالقه، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62] أي: الأشياء كلها موكولة إليه، فهو القائم بحفظها والتصرف فيها.
{لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الزمر: 63] واحدها مقليد ومقلاد.(3/590)
قال ابن عباس، ومقاتل: يريد مفاتيح السموات والأرض بالرزق والرحمة.
وهو قول قتادة.
وقال الليث:(3/591)
المقلاد الخزانة، ومقاليد السموات والأرض خزائنها.
وهو قول الضحاك.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} [الزمر: 63] يعني القرآن، {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الزمر: 63] خسروا حين صاروا إلى النار.
ثم أعلم أنه إنما ينبغي أن يعبد الخالق وحده، فقال: قل لهم: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} [الزمر: 64] قال مقاتل: وذلك أن كفار قريش دعوه إلى دين آبائه.
وفي تأمروني وجوه من القراءة: تأمرونني بنونين، وهو الأصل، وتأمروني بنون مشددة على إسكان الأولى وإدغامها في الثانية، وتأمروني بنون خفيفة على حذف إحدى النونين.
وقوله: أيها الجاهلون أي: فيما تأمرونني.
ثم حذره أن يتبع دينهم، فقال: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] قال ابن عباس: هذا أدب من الله تعالى لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتهديد لغيره، لأن الله تعالى قد عصمه من الشرك ومداهنة الكفار.
ثم أمره بتوحيده، فقال: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} [الزمر: 66] قال عطاء، ومقاتل: وحده، لأن عبادته لا تصح إلا بتوحيده.
{وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: 66] لإنعامه عليك.
قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ(3/592)
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ {67} وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ {68} وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ {69} وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ {70} } [الزمر: 67-70] {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67] أي: ما عظموه إذ عبدوا غيره، وأمروا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعبادة غيره، ثم أخبر عن عظمته، فقال: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 67] القبضة في اللغة ما قبضت عليه بجميع كفك، وأخبر الله عن قدرته فذكر أن الأرض كلها مع عظمتها وكثافتها في مقدوره كالشيء الذي يقبض عليه القابض بكفه، فذكر القبضة، وإن كان لا يقبض عليها تفهيما لنا على عادة التخاطب فيما بيننا، لأنا نقول: هو في يد فلان وفي قبضته للشيء الذي يهون عليه التصرف فيه، وإن لم يقبض عليه.
وكذا قوله تعالى: {وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] ذكر اليمين للمبالغة في الاقتدار، يعني أنه يطويها بقدرته كما يطوي الواحد منا الشيء المقدور له طيه بيمينه.
قال الأخفش: بيمينه، يقول: أي في قدرته نحو قوله: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 36] أي ما كانت لكم عليه قدرة.
وليس الملك لليمين دون الشمال وسائر الجسد، ثم نزه نفسه عن شركهم فقال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67] .
قوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الزمر: 68] الآية، قال المفسرون: مات من الفزع وشدة الصوت أهل السماء والأرض.
{إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68] .
805 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْكُوفِيُّ الصُّوفِيُّ، أنا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الرَّمْلِيُّ، نا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ سَأَلَ جِبْرِيلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَشَإِ اللَّهُ أَنْ يَصْعَقَهُمْ؟ قَالَ: «هُمُ الشُّهَدَاءُ مُتَقَلِّدُونَ أَسْيَافَهُمْ حَوْلَ الْعَرْشِ» ، وَهَذَا قَوْلُ(3/593)
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَالْكَلْبِيُّ: هُوَ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَإِسْرَافِيلُ وَمَلَكُ الْمَوْتِ
{ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى} [الزمر: 68] يعني نفخة البعث، {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ} [الزمر: 68] يعني: الخلق كلهم قيام على أرجلهم، ينظرون ينتظرون ما يقال لهم، وما يؤمرون به.
{وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر: 69] وهو أن الله عز وجل يخلق في القيامة نورا يلبسه وجه الأرض فتشرق به من غير شمس ولا قمر، ووضع الكتاب قال مقاتل: يعني كتب الأعمال.
{وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} [الزمر: 69] وهم الذين يشهدون للرسل بالتبليغ، وهم أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قاله ابن عباس.
وقال عطاء: يعني الحفظة، كقوله: {مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق: 21] .
{وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الزمر: 69] لا ينقضون من ثواب أعمالهم، وهو قوله: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} [الزمر: 70] أي: ثواب ما عملت، {وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} [الزمر: 70] قال عطاء: يريد أني عالم بفعلهم، لا أحتاج إلى كاتب ولا شاهد.
قوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ {71} قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ {72} } [الزمر: 71-72] {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} [الزمر: 71] أفواجا كفارا، كل أمة على حدة، والزمر جماعات في تفرقة بعضها على إثر بعض، واحدتها زمرة.
وقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الزمر: 71] أي: من أنفسكم، {يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ} [الزمر: 71] يعني: ما أنزل الله على الأنبياء، {قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: 71] وهو قوله: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85] .
{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ {73} وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ(3/594)
مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ {74} وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {75} } [الزمر: 73-75] قوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ} [الزمر: 73] إلى قوله: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] هذه الواو زيادة عند الأخفش والكوفيين، والمعنى: فتحت حتى يكون جوابا لقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} [الزمر: 73] كالذي في قصة سوق الكفار.
وقال الزجاج: القول عندي أن الجواب محذوف على تقدير حتى إذا جاءوها وكانت هذه الأشياء التي ذكرت إلى قوله: فادخلوها خالدين دخلوها، فالجواب دخلوها حذف، لأن في هذا الكلام دليل عليه.
وقوله: سلام عليكم أخبر الله تعالى أن خزنة الجنة يسلمون على المؤمنين ويخبرونهم بطيب مقامهم فيها.
قال ابن عباس طبتم: طاب لكم المقام.
وقال قتادة: إنهم قد طيبوا قبل دخول الجنة بالمغفرة، واقتص لبعضهم من بعض، لما هذبوا وطيبوا قال لهم الخزنة: {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73] .
فلما دخلوها قالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر: 74] أي بالجنة، وأورثنا الأرض أرض الجنة، {نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} [الزمر: 74] نتخذ فيها من المنازل ما نشاء، يقول الله تعالى: {فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر: 74] نعم ثواب المحسنين الجنة.
وترى الملائكة يومئذ، {حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر: 75] محيطين محدقين به، يقال: حف القوم بفلان إذا أطافوا به.
{يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الزمر: 75] يحمدون الله حيث أدخل الموحدين الجنة، وقضي بينهم بين الخلائق، بالحق بالعدل، {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 75] أهل الجنة يقولون ذلك شكرا لله على إنجاز وعده حين تم وعد الله لهم.(3/595)
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة حم المؤمن
مكية، وهي ثمانون وخمس آيات.
806 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ الْمُطَّوِعِيُّ، أنا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ زَكَرِيَّا الْمُحَارِبِيُّ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَرَّاجٍ الْكِنْدِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ السُّدِّيُّ، حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ رَافِعٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْتَعَ فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ فَلْيَقْرَأْ بِالْحَوَامِيمِ فِي صَلاةِ اللَّيْلِ»
807 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحِيرِيُّ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ حم الْمُؤْمِن لَمْ يَبْقَ رُوحُ نَبِيٍّ وَلا صِدِّيقٍ وَلا مُؤْمِنٍ إِلا صَلَّوْا عَلَيْهِ وَاسْتَغْفَرُوا لَهُ» .
بسم الله الرحمن الرحيم {حم {1} تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ {2} غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ {3} } [غافر: 1-3] .
حم قال ابن عباس في رواية الوالبي: حم قسم.
وقال في رواية عكرمة: الر،(4/3)
وحم و «نون» حروف الرحمن مقطعة.
وقال في رواية عطاء، والكلبي: حم قضى ما هو كائن، هذا {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ} [غافر: 2] في ملكه، العليم بخلقه.
غافر الذنب لمن يقول: لا إله إلا الله.
وهم أولياؤه، وأهل طاعته، وقابل التوب من الشرك وهو جمع توبة، ويجوز أن تكون مصدرا من تاب يتوب توبا، شديد العقاب لمن لا يوحده، ذي الطول: ذي الغنى عمن لا يوحده، ولا يقول: لا إله إلا الله.
وقال الكلبي: ذي الفضل على عباده، والمن عليهم.
وقال مجاهد: ذي السعة والغنى.
{لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر: 3] : مصير العباد إليه في الآخرة، فيجزيهم بأعمالهم.
قوله: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ {4} كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ {5} وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ {6} } [غافر: 4-6] .
{مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ} [غافر: 4] : ما يخاصم فيها بالتكذيب، وفي دفعها بالباطل، {إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر: 4] بالتجارات والغنى، وسلامتهم في ترفهم بعد كفرهم، فإن عاقبة أمرهم العذاب، كعاقبة من قبلهم من الكفار.
ثم بين ذلك، فقال: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} [غافر: 5] يعني: رسولهم نوحا، {وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ} [غافر: 5] وهم الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتكذيب نحو عاد، وثمود، ومن بعدهم، {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ} [غافر: 5] فصدوه، ليأخذوه قال ابن عباس: ليقتلوه، ويهلكوه.
كقوله:(4/4)
{ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج: 44] ، وجادلوا بالباطل خاصموا رسولهم، فقالوا: {مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [يس: 15] وهلا أرسل الله إلينا ملائكة؟ وأمثال هذا القول، {لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [غافر: 5] الذي جاءت به الرسل، فأخذتهم بالعذاب، {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر: 5] استفهام تقرير لعقوبتهم الواقعة بهم.
وكذلك ومثل ما حق على الأمم المكذبة، {حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} [غافر: 6] بالعذاب، {عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر: 6] من قومك، {أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر: 6] قال الأخفش: لأنهم أو بأنهم.
ثم أخبر بفضل المؤمنين، فقال: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ {7} رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {8} وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {9} } [غافر: 7-9] .
{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} [غافر: 7] يعني: حملة العرش والطائفين به، الكروبيون، سادة الملائكة، {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [غافر: 7] ينزهون الله بالتحميد والتسبيح، ويؤمنون به يصدقون بأنه واحد لا شريك له، ويقولون: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7] وسعت رحمتك وعلمك كل شيء، {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} [غافر: 7] من الشرك، واتبعوا سبيلك دينك: الإسلام وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: وقهم السيئات قال قتادة: يعني: العذاب.
{وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ} [غافر: 9] : يوم القيامة، فقد رحمته لأن المعافى من العذاب مرحوم.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ(4/5)
إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ {10} قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ {11} ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ {12} } [غافر: 10-12] .
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ} [غافر: 10] الآية.
قال المفسرون: إنهم لما رأوا أعمالهم، ونظروا في كتابهم، وأدخلوا النار، مقتوا أنفسهم لسوء صنيعهم، ناداهم مناد: لمقت الله إياكم في الدنيا، {أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ} [غافر: 10] ، {إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر: 10] أنفسكم اليوم.
قال قتادة: ينادون يوم القيامة لمقت الله أهل الضلالة، حين عرض عليهم الإيمان في الدنيا فتركوه، أكبر مما مقتوا أنفسهم حين عاينوا عذاب الله.
ثم أخبر عما يقولون في النار بقوله: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] أي: كنا نطفا في الدنيا أمواتا، فخلقت فينا الحياة، ثم أمتنا وبعثتنا بعد الموت، وهذا كقوله: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28] وإنما قالوا هذا، لأنهم كانوا قد كذبوا في الدنيا بالبعث، فاعترفوا في النار بما كذبوا به، وهو قوله: فاعترفنا بذنوبنا أي: بالتكذيب، وما كنا نكذب به في الدنيا، ثم سألوا الرجعة، فقالوا: {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر: 11] هل من خروج من النار إلى الدنيا فنعمل بطاعتك؟ قال الله تعالى لهم: ذلكم أي: ذلكم العذاب الذي نزل بكم، {بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ} [غافر: 12] إذا قيل: لا إله إلا الله، أنكرتم، وقلتم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص: 5] .
{وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} [غافر: 12] : وإن يجعل له شريك، تؤمنوا: تصدقوا ذلك الذي أشرك، وتشهدوا أن له شريكا، فالحكم لله أي: أنه حكم بعذاب من أشرك به، ولا يرد حكمه، العلي الكبير الذي لا أعلى منه، ولا أكبر.
{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَنْ يُنِيبُ {13} فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ {14} رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ {15} يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ(4/6)
الْقَهَّارِ {16} الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ {17} } [غافر: 13-17] {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ} [غافر: 13] مصنوعاته التي تدل على قدرته، وتوحيده من السماء والأرض، والشمس والقمر، والسحاب، {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} [غافر: 13] يعني: المطر الذي هو سبب الأرزاق، وما يتذكر وما يتعظ بهذه الآيات، فيوحد الله، {إِلا مَنْ يُنِيبُ} [غافر: 13] يرجع إلى طاعته.
ثم أمر المؤمنين بتوحيده، فقال: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 14] موحدين، تخلصون له الطاعة، {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 14] من أهل مكة.
ثم عظم نفسه، فقال: رفيع الدرجات قال عطاء، عن ابن عباس: يريد درجاتكم، والرفيع بمعنى الرافع.
والمعنى: أنه يرفع درجات الأنبياء، والأولياء في الجنة، ذو العرش: خالقه ومالكه، يلقي الروح ينزل الوحي من السماء، من أمره قال ابن عباس: من قضائه.
وقال مقاتل: بأمره.
لينذر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما أوحي إليه، يوم التلاق بيوم التلاق، يلتقي في ذلك اليوم أهل السماء، وأهل الأرض.
{يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ} [غافر: 16] من قبورهم، {لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ} [غافر: 16] لا يستتر منهم أحد، وقال ابن عباس: لا يخفى على الله من أعمالهم شيء.
ويقول الله في ذلك: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16] .
قال الحسن: هو السائل وهو المجيب، لأنه يقول ذلك حين لا أحد يجيبه، فيجيب نفسه.
وهذا قول جماعة المفسرين.
{الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [غافر: 17] يجزى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يقول الله تعالى: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، ولا لأحد من أهل النار أن يدخل النار وعنده مظلمة حتى أقصها منه ".
وتلا هذه الآية.
{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ {18} يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ {19} وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ {20} أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ(4/7)
كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ {21} ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ {22} } [غافر: 18-22] .
وأنذرهم يقول لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وأنذر أهل مكة بـ يوم الآزفة يعني: القيامة، قال ابن عباس: أزف أمرها، أي: دنا.
يقال: أزف الشيء يأزف أزفا.
قال الزجاج: وقيل لها آزفة، لأنها قريبة، وإن استبعد الناس أمرها، وما هو كائن فهو قريب.
{إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} [غافر: 18] وذلك أنها تزول عن مواضعها من الخوف، حتى تصير إلى الحنجرة، كقوله: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10] .
كاظمين: مغمومين، مكروبين، ممتلئين غما، ما للظالمين قال ابن عباس، ومقاتل: يريد المشركين، والمنافقين.
من حميم قريب ينفعهم، {وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18] فيهم، فتقبل فيهم شفاعته.
{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ} [غافر: 19] خيانتها، وهي مسارقة النظر إلى ما لا يحل، {وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19] : وما تسر القلوب، في السر من المعصية.
{وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} [غافر: 20] يحكم به، فيجزي بالحسنة والسيئة، {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} [غافر: 20] من الشركاء، {لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} [غافر: 20] لا يجازون، لأنهم لا يعلمون ولا يقدرون، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ} [غافر: 20] لما يقوله الخلق، البصير بأعمالهم.
قوله: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} [غافر: 21] ظاهر إلى قوله: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ} [غافر: 21] أي: من عذاب الله، من واق يقي العذاب عنهم.
ذلك أي: ذلك العذاب الذي نزل بهم، {بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ} [غافر: 22] الآية.
ثم ذكر قصة موسى وفرعون ليعتبروا، فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ {23} إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ {24} فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ {25} وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ {26} وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ {27} } [غافر: 23-27] .
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} [غافر: 23] إلى قوله: {قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [غافر: 25] قال ابن عباس: أعيدوا عليهم القتل فيهم كالذي كان أولا.
وقال قتادة: كان فرعون أمسك عن قتل الولدان، فلما بعث الله موسى، عليه السلام، إليه أعاد عليهم القتل ليصدهم بذلك عن متابعة موسى.
قوله: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي(4/8)
ضَلالٍ} [غافر: 25] أي: يذهب كيدهم باطلا، ويحيق بهم ما يريده الله عز وجل.
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} [غافر: 26] وإنما قال هذا، لأنه كان في خاصة قوم فرعون، من يمنعه من قتله خوفا من الهلاك، وليدع ربه الذي يزعم أنه أرسله إلينا رسولا، فليمنعه من القتل إن قدر، {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} [غافر: 26] : يبدل عبادتكم إياي، {أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26] أراد ظهور الهدى، وتغير أحكام فرعون، فجعل ذلك فسادا، ومعنى أو: وقوع أحد الشيئين، المعنى: أخاف أن يبدل دينكم، وإن لم يبدله أوقع فيه الفساد، ومن قرأ: وأن يظهر فيكون المعنى: أخاف إبطال دينكم والفساد معه، وقرئ يظهر بضم الياء، الفساد نصبا وهو أشبه بما قبله، لإسناد الفعل إلى موسى.
فلما قال فرعون هذا، استعاذ موسى بالله، فقال: {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ} [غافر: 27] : متعظم عن الإيمان.
ولما قصد فرعون قتل موسى وعظهم المؤمن من آله، وهو قوله: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ {28} يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ {29} وَقَالَ الَّذِي(4/9)
آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ {30} } [غافر: 28-30] .
{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [غافر: 28] قال مقاتل، والسدي: كان قبطيا ابن عم فرعون.
{يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ} [غافر: 28] لأن يقول: ربي الله وهو استفهام إنكار، {وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر: 28] أي: بما يدل على صدقه من المعجزات، {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} [غافر: 28] لا يضركم ذلك، {وَإِنْ يَكُ صَادِقًا} [غافر: 28] وكذبتموه، {يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر: 28] قال أبو عبيدة، وأبو الهيثم: كل الذي يعدكم أي: ينذركم، ويتوعدكم به.
أي: إن قتلتموه وهو صادق، أصابكم ما يتوعدكم به من العذاب، والمراد بالبعض الكل في هذه الآية، وقال الليث: بعض ههنا صلة يريد: يصبكم الذي يعدكم.
وقال أهل المعاني: هذا على المظاهرة في الحجاج.
كأنه قال لهم: أقل ما يكون في صدقه، أن يصيبكم بعض الذي يعدكم، وفي بعض ذلك هلاككم، فذكر البعض ليوجب الكل، لا أن البعض هو الكل، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي} [غافر: 28] أي: إلى دينه، {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} [غافر: 28] مشرك، كذاب مفتر.
ثم ذكرهم هذا المؤمن ما هم فيه من الملك، لتشكروا ذلك بالإيمان بالله، فقال: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ} [غافر: 29] غالبين في أرض مصر، {فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ} [غافر: 29] من يمنعنا من عذاب الله، إن جاءنا والمعنى: أنه يقول: لكم الملك، فلا تتعرضوا لعذاب الله بالتكذيب، وقتل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا مانع من عذابه إن حل بكم.
فقال فرعون عند ذلك: ما أريكم من الرأي، {إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29] ما أدعوكم إلا إلى طريق الهدى.
ثم ذكرهم(4/10)
المؤمن ما نزل بمن قبلهم، فقال: {يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ} [غافر: 30] .
ثم فسر ذلك، فقال: {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ {31} وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ {32} يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ {33} } [غافر: 31-33] .
{مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} [غافر: 31] الآية، أي: مثل حالهم في العذاب، أو مثل عادتهم في الإقامة على التكذيب، حتى أتاهم العذاب، {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 31] لا يهلكهم قبل اتخاذ الحجة عليهم.
ثم حذرهم عذاب الآخرة، فقال: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} [غافر: 32] يعني: يوم القيامة، لأنه ينادى فيه كل أناس بإمامهم، وينادي فيه أهل النار أهل الجنة، وأهل الجنة أهل النار، وينادى فيه بسعادة السعداء، وبشقاوة الأشقياء.
{يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} [غافر: 33] قال قتادة، ومقاتل: إلى النار بعد الحساب.
وقال الضحاك: إنهم إذا سمعوا زفير النار، ولوا هربا، فلا يأتون قطرا من الأقطار إلا وجدوا ملائكة صفوفا، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه.
{مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} [غافر: 33] ما لكم من عذاب الله من يعصمكم ويمنعكم.
ثم وعظهم ليفكروا، فقال: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ {34} الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ {35} } [غافر: 34-35] .(4/11)
{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ} [غافر: 34] يعني: يوسف بن يعقوب، من قبل من قبل موسى، بالبينات يعني: قوله لهم: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ} [يوسف: 39] الآية.
{فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ} [غافر: 34] قال ابن عباس: من عبادة الله وحده لا شريك له.
{حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولا} [غافر: 34] أي: أقمتم على كفركم، وظننتم أن الله لا يجدد عليكم إيجاب الحجة، كذلك مثل ذلك الضلال، {يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} [غافر: 34] مشرك، مرتاب شاك في توحيد الله، وصدق أنبيائه.
قوله: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} [غافر: 35] قال الزجاج: هذا تفسير المسرف المرتاب على معنى هم الذين يجادلون.
ومعنى {فِي آيَاتِ اللَّهِ} [غافر: 35] أي: في إبطالها ودفعها، والتكذيب بها، بغير سلطان بغير حجة أتتهم من الله، كبر مقتا كبر جدالهم مقتا، {عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 35] قال ابن عباس: يمقتهم الله، ويمقتهم الذين آمنوا بذلك الجدال.
كذلك كما طبع الله على قلوبهم حتى كذبوا، وجادلوا بالباطل، {يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35] قال ابن عباس: يختم على قلوبهم فلا يسمعون الهدى، ولا يعقلون الرشاد.
قال مقاتل: متكبر عن عبادة الله والتوحيد، جبار قتال في غير حق.
وقرئ:(4/12)
على كل قلب بالتنوين.
قال الزجاج: الوجه الإضافة، لأن المتكبر هو الإنسان.
قال: ويجوز أن تقول: قلب متكبر، أي: صاحبه متكبر.
وإذا وصف القلب بالتكبر، كان صاحبه في المعنى متكبرا.
ولما وعظه المؤمن من أهل فرعون وأقاربه، وزجره عن قتل موسى، قال فرعون لوزيره: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ {36} أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ {37} وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ {38} يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ {39} مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ {40} } [غافر: 36-40] .
{يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} [غافر: 36] قصرا مشيدا بالآجر، {لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ} [غافر: 36] يعني: الطرق من سماء إلى سماء.
{فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر: 37] بالرفع نسق على قوله: أبلغ الأسباب أي: لعلي أبلغ ولعلي أطلع، ومن نصب جعله جوابا للفعل بالفاء على معنى: إني إذا بلغت اطلعت، {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 37] أي: فيما يقول من أن له ربا في السماء، وما قال موسى له ذلك قط، ولكنه لما قال له: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] ، قال موسى: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الشعراء: 24] ظن فرعون باعتقاده الباطل أنه لما لم يره في الأرض، أنه في السماء، فرام الصعود إلى السماء، لرؤية إله موسى، وكذلك ومثل ما وصفنا، {زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ(4/13)
السَّبِيلِ} [غافر: 37] قال ابن عباس: صده الله عن سبيل الهدى.
ومن قرأ: وصد بنى الفعل لفرعون، أراد وصد فرعون الناس عن السبيل، {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ} [غافر: 37] في إبطال آيات موسى، {إِلا فِي تَبَابٍ} [غافر: 37] خسار وهلاك.
ثم عاد الكلام إلى ذكر نصيحة المؤمن لقومه، وهو قوله: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 38] طريق الهدى.
{يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [غافر: 39] يعني: الحياة في هذه الدار، متاع يتمتع بها أياما، ثم تنقطع، {وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر: 39] التي تستقر فلا تزول.
{مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً} [غافر: 40] يعني: الشرك، {فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا} [غافر: 40] في العظم، يعني: النار، {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا} [غافر: 40] قال ابن عباس: يريد قول: لا إله إلا الله.
{مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [غافر: 40] مصدق بالله وبجميع الأنبياء، {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر: 40] قال مقاتل: يقول: لا تبعة عليهم فيما يعطون في الجنة من الخير.
ثم قال: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ {41} تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ {42} لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ {43} فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ {44} فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ {45} النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ {46} } [غافر: 41-46] .
{وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ} [غافر: 41] أي: ما لكم، كما تقول: ما لي أراك حزينا، معناه: ما لك.
يقول: أخبروني عنكم كيف هذه الحال، {أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ} [غافر: 41] من النار، بالإيمان بالله، {وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر: 41] إلى الشرك الذي يوجب النار.
ثم فسر الدعوتين، فقال: {تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [غافر: 42] بأنه شريك له، {وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ} [غافر: 42] في انتقامه ممن كفر، الغفار لذنوب أهل التوحيد.
لا جرم حقا، {أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [غافر: 43] من المعبودين من دون الله، {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ} [غافر: 43] قال السدي: لا يستجيب لأحد لا في الدنيا، ولا في الآخرة.(4/14)
والتقدير: ليس له استجابة دعوة، {وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ} [غافر: 43] مرجعنا ومصيرنا إليه، فيجازي كلا بما يستحقه، وأن المسرفين المشركين، {هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ {43} فَسَتَذْكُرُونَ} [غافر: 43-44] إذا نزل بكم العذاب، {مَا أَقُولُ لَكُمْ} [غافر: 44] في الدنيا من النصيحة، {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} [غافر: 44] لا أشتغل بمجازاتكم، {إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر: 44] بأوليائه، وأعدائه.
ثم خرج المؤمن من بينهم، فطلبوه، فلم يقدروا عليه، وذلك قوله: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غافر: 45] ما أرادوا به من الشر، وحاق أحاط، ونزل بهم، سوء العذاب قال الكلبي: غرقوا في البحر، ودخلوا النار.
وذلك قوله: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46] ،(4/15)
قال ابن مسعود: إن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود، يعرضون على النار كل يوم مرتين، فيقال: يا آل فرعون هذه داركم.
وقال مقاتل: تعرض روح كل كافر على النار، غدوا وعشيا ما دامت الدنيا.
وهو قول قتادة، والسدي، والكلبي.
808 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الصُّوفِيُّ، أَنَا بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بِشْرٍ، أنا جَعْفَرُ بْنُ الْمُسْتَفَاضِ، نا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنَ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنَ النَّارِ، يُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ".
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، كِلاهُمَا عَنْ مَالِكٍ
ثم أخبر بمستقرهم في الآخرة، فقال: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} [غافر: 46] أي: يقال للملائكة: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] .
ومن قرأ بالوصل، فهو على الأمر لهم بالدخول، قال ابن عباس: يريد ألوان العذاب، غير الذي كانوا يعذبون به منذ غرقوا.
قوله:(4/16)
{وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ {47} قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ {48} وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ {49} قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ {50} } [غافر: 47-50] .
وإذ يتحاجون واذكر يا محمد لقومك إذ يختصمون، يعني: أهل النار، في النار والآية مفسرة في { [إبراهيم.
] قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} [سورة غافر: 48] وهم القادة والرؤساء، {إِنَّا كُلٌّ فِيهَا} [غافر: 48] نحن وأنتم، أي: الملوك والأتباع، {إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر: 48] وقضى بهذا علينا وعليكم.
فلما ذاقوا شدة العذاب، قالوا لخزنة جهنم: {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} [غافر: 49] فاحتج عليهم الخزنة في ترك التخفيف عنهم، بإتيان الرسل إياهم، وتركهم الإجابة، وهو قوله: {قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا} [غافر: 50] أنتم، أي: إنا لا ندعو لكم بالتخفيف، لأنهم علموا أن الكفار لا يخفف عنهم العذاب، قال الله تعالى: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ} [غافر: 50] أي: أن ذلك يبطل ويضل، فلا ينفع.
قوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ {51} يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ {52} وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ {53} هُدًى وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ {54} فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ {55} } [غافر: 51-55] .
{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر: 51] النصر قد يكون بالحجة، ويكون بالغلبة والقهر، ويكون بإهلاك العدو، وكل هذا قد كان للأنبياء والمؤمنين من قبل الله تعالى، فهم منصورون بالحجة على من خالفهم، وقد نصرهم الله بالقهر على من ناوأهم، وقد نصرهم بإهلاك عدوهم،(4/17)
وأنجاهم مع من آمن معهم، وقد يكون نصر بالانتقام لهم، كما نصر يحيى بن زكريا لما قتل، حتى قتل به سبعون ألفا، فهم لا محالة منصورون في الدنيا بأحد هذه الوجوه، وقوله: {وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51] يعني: يوم القيامة، تقوم الحفظة من الملائكة يشهدون للرسل بالتبليغ، وعلى الكفار بالتكذيب، وواحد الأشهاد شاهد مثل طائر وأطيار.
ثم أخبر عن ذلك اليوم، فقال: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ} [غافر: 52] إن اعتذروا من كفرهم لم يقبل منهم، وإن تابوا لم تنفعهم التوبة، ولهم اللعنة البعد من الرحمة، {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر: 52] جهنم.
قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى} [غافر: 53] قال مقاتل: الهدى من الضلالة، يعني: التوراة، وأورثنا من بعد موسى، {بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ} [غافر: 53] وما فيه من البيان.
هدى أي: هو هدى، وذكرى وتذكير، لأولي الألباب.
قوله: فاصبر على أذاهم، {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} [غافر: 55] في نصرتك، وإظهار دينك، {حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر: 55] يعني: الصغائر على قول من جوزها على الأنبياء، وعند من لا يجوزها، يقول: هذا تعبد من الله لنبيه بهذا الدعاء، لكي يزيده درجة، وليصير سنة لمن بعده، {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [غافر: 55] وصل شاكرا لربك، بالعشي والإبكار قال ابن عباس: يريد الصلوات الخمس.
{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ {56} لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ {57} وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلا مَا تَتَذَكَّرُونَ {58} إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ {59} } [غافر: 56-59] .
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} [غافر: 56] يعني: كفار قريش، وقد تقدم تفسير هذا، {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ} [غافر: 56] قال ابن عباس: ما يحملهم على تكذيبك إلا ما في صدورهم من العظمة.
{مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر: 56] مقتضى ذلك الكبر، لأن الله تعالى مذلهم، وقال ابن قتيبة: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ} [غافر: 56] تكبر على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وطمع أن يغلبوه، وما هم ببالغي ذلك.
فاستعذ بالله من شرهم، وكرهم، {إِنَّهُ(4/18)
هُوَ السَّمِيعُ} [غافر: 56] لقولهم، البصير بهم.
ثم نبه على عظم قدرته، بقوله: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [غافر: 57] مع عظمهما، وكثرة أجزائهما، ووقوفهما من غير عمد، وجريان الأفلاك بالكواكب من غير سبب، أعظم في النفس، وأهول في الصدر، {مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر: 57] وإن كان عظيما بالحواس المهيأة للإدراك، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر: 57] يعني: الكفار حين لا يستدلون بذلك على توحيد خالقهما.
ثم ضرب مثل الكافر والمؤمن، فقال: وما يستوي إلى قوله: {قَلِيلا مَا تَتَذَكَّرُونَ} [غافر: 58] يعني: الكفار، يقول: قل نظرهم فيما ينبغي أن ينظروا فيه مما دعوا إليه.
وقرأ أهل الكوفة بالتاء، أي: قل لهم ذلك.
قوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ {60} اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ {61} ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ {62} كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ {63} اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ {64} هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {65} } [غافر: 60-65] .
وقال ربكم قال مقاتل: يعني: لأهل الإيمان.
{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] قال ابن عباس: وحدوني واعبدوني أثبكم.
ويدل على صحة هذا التفسير:
809 - مَا أَخْبَرَنَاهُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ رُحَيمٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَبْسِيُّ، أنا وَكِيعٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ ذَرٍّ، عَنْ يَسِيعَ الْحَضْرَمِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] الآية.
والدعاء بمعنى: العبادة(4/19)
كثير في التنزيل، ولما عبر عن العبادة بالدعاء، جعل الإثابة استجابة ليتجانس اللفظ، ويدل على هذه الجملة قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] صاغرين ذليلين.
ثم ذكرهم النعم، فقال: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ} [غافر: 61] الآية، وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا} [غافر: 64] أي: موضع قرار، كما قال: {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ} [الأعراف: 25] .
والسماء بناء سقفا كالقبة، {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64] قال مقاتل: خلقكم فأحسن خلقكم.
وقال ابن عباس: خلق ابن آدم قائما معتدلا، يأكل بيده ويتناول بيده، وكل ما خلق الله يتناول بفيه.
وقال الزجاج: خلقكم أحسن الحيوان كله.
{وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [غافر: 64] يعني: من غير رزق الدواب، {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} [غافر: 64] الذي فعل ذلك الذي ذكر كله، وروى مجاهد، عن ابن عباس، قال: من قال: لا إله إلا الله، فليقل على أثرها: الحمد لله رب العالمين.
يريد قول الله تعالى: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 65] .
{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِي الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ {66} هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {67} هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ {68} } [غافر: 66-68] .
قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [غافر: 67] الآية أكثرها مفسر في { [الحج، وقوله:] وَلِتَبْلُغُوا أَجَلا مُسَمًّى} [سورة غافر: 67] قال ابن عباس: يريد أجل الحياة إلى الموت، فلكل أجل حياته تنتهي إليه.
ولعلكم تعقلون ولكي تعقلوا توحيد ربكم، وقدرته في خلقكم وله.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ {69} الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ {70} إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ {71} فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ(4/20)
يُسْجَرُونَ {72} ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ {73} مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ {74} ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ {75} ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ {76} } [غافر: 69-76] .
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} [غافر: 69] يعني: القرآن أنه ليس من عند الله، وهم المشركون، أنى يصرفون كيف صرفوا عن دين الله، الذي هو الحق إلى الباطل؟ ثم وصفهم، فقال: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ} [غافر: 70] بالقرآن، {وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا} [غافر: 70] من التوحيد، فسوف يعلمون عاقبة أمرهم.
قوله: {إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ} [غافر: 71] يجرون.
{فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر: 72] قال مقاتل، ومجاهد: توقد بهم النار.
فصاروا وقودها.
{ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ} [غافر: 73] على وجه التوبيخ: {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [غافر: 73] .
{مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا} [غافر: 74] فقدناهم فلا نراهم، {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا} [غافر: 74] أي: شيئا ينفع ويضر، كما يقول من ضاع عمله: ما كنت أعمل شيئا، كذلك أي: كما أضل هؤلاء، {يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} [غافر: 74] .
ذلكم العذاب الذي نزل بكم، {بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [غافر: 75] أي: الباطل الذي كنتم تشتغلون به، {وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر: 75] قال مقاتل: يعني: البطر والخيلاء.
{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ {77} وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ {78} } [غافر: 77-78] .(4/21)
{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} [غافر: 77] بنصرك، {حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} [غافر: 77] الآية مفسرة في { [الرعد.
وقوله:] وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} [سورة غافر: 78] بأمر الله تعالى، وبإرادته، وذلك أن كفار مكة سألوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يأتيهم بآية، {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} [غافر: 78] قضاؤه بين أنبيائه وأممهم، قضي بالحق أي: لم يظلموا إذا عذبوا، وهو قوله: وخسر هنالك عند كذلك، المبطلون المكذبون بالعذاب والمفترون، والمبطل: صاحب الباطل.
ثم ذكر منته عليهم بقوله: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ {79} وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ {80} وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ {81} أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ {82} } [غافر: 79-82] .
{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ} [غافر: 79] إلى قوله: {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} [غافر: 80] قال مجاهد، ومقاتل: تحمل أثقالكم من بلد إلى بلد، وتبلغوا عليها حاجاتكم في البلاد ما كانت.
{وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [غافر: 80] على الإبل في البر، وعلى السفن في البحر.
ويريكم آياته أي: دلائل قدرته، {فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} [غافر: 81] استفهام توبيخ، يقول: أيها تنكرون، بأنها ليست من الله؟ ثم ذكر أن الرسل أتت من قبلهم، وأنهم لم يؤمنوا، بقوله: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ {83} فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ {84} فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا(4/22)
رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ {85} } [غافر: 83-85] .
{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر: 83] رضوا بما عندهم من العلم، وقالوا: نحن أعلم لن نبعث، ولن نعذب.
وسمي ذلك علما على ما يدعونه ويزعمونه، وهو في الحقيقة جهل.
وقوله: {سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} [غافر: 85] قال ابن عباس: يريد هذا قضائي في خلقي، أن من كذب أنبيائي، وجحد ربوبيتي، فإذا نزل به العذاب استكان، وتضرع، لم ينفعه ذلك عندي.
والمعنى: سن الله هذه السنة في الأمم كلها، أن لا ينفعهم الإيمان إذا رأوا العذاب، {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 85] قال ابن عباس: هلك عند ذلك المكذبون.
وقال الزجاج: الكافر خاسر في كل وقت، ولكنه لم يتبين لهم خسرانهم إذا رأوا العذاب.(4/23)
تفسير سورة حم السجدة
مكية، وهي خمسون وأربع آيات.
810 - أَخْبَرَنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو عُثْمَانَ الْمُقْرِي، نا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، نا أَبُو إِسْحَاقَ الْكُوفِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ الْمَدَايِنِيُّ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ حم السَّجْدَة أُعْطِيَ مِنَ الْأَجْرِ بِعَدِدِ كُلِّ حَرْفٍ مِنْهَا عَشْرُ حَسَنَاتٍ»
{حم {1} تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {2} كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ {3} بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ {4} وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ {5} } [فصلت: 1-5] .
بسم الله الرحمن الرحيم {حم {1} تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {2} } [فصلت: 1-2] قال الأخفش، والزجاج: تنزيل مبتدأ، وخبره قوله: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فصلت: 3] .
بين حلاله وحرامه، {قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 3] اللسان العربي.
بشيرا لأولياء الله تعالى، ونذيرا لأعدائه، فأعرض أكثرهم أكثر أهل مكة، {فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت: 4] تكبرا عنه.
{وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ} [فصلت: 5] مثل الكنانة التي فيها السهام، فهي لا تفقه ما تقول، ولا يصل إليها دعاؤك، {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} [فصلت: 5] ثقل وصمم، يمنع من استماع قولك، والمعنى: إنا في ترك القبول عنك بمنزلة من لا يفهم ولا يعقل، ولا يسمع قولك، {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5] أي: بيننا وبينك فرقة في الدين، وحاجز في النحلة فلا نوافقك على ما تقول، وقال مقاتل: إن أبا جهل رفع ثوبه بينه وبين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا محمد، أنت من ذلك الجانب، ونحن من هذا الجانب.
فاعمل(4/24)
أنت على دينك ومذهبك، إننا عاملون على ديننا ومذهبنا.
قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ {6} الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ {7} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ {8} } [فصلت: 6-8] .
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [فصلت: 6] أي: إنما أنا كواحد منكم، ولولا الوحي ما دعوتكم، وهو قوله: {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} [فصلت: 6] لا تميلوا عن سبيله، وتوجهوا إليه بالطاعة، واستغفروه من الشرك، ثم توعدهم، فقال: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ {6} الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6-7] قال ابن عباس في رواية عطاء، وعكرمة: لا يقولون: لا إله إلا الله.
والمعنى: لا يطهرون أنفسهم من الشرك بالتوحيد، وقال الحسن وقتادة: لا يقرون بالزكاة، ولا يرون إيتاءها، ولا يؤمنون بها.
وقال الكلبي: عابهم الله بها، وقد كانوا يحجون ويعتمرون.
وقال قتادة: كان يقال: الزكاة قنطرة الإسلام، فمن قطعها برئ ونجا، ومن لم يقطعها هلك.
ثم أخبر عنهم(4/25)
بأعظم من هذا، فقال: {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ {7} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ {8} } [فصلت: 7-8] غير مقطوع، ولا منقوص.
ثم وبخهم على كفرهم، فقال: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ {9} وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ {10} ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ {11} فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ {12} } [فصلت: 9-12] .
{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9] الأحد والاثنين، {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا} [فصلت: 9] تتخذون معه آلهة، ذلك الذي فعل ما ذكر، {رَبُّ الْعَالَمِينَ {9} وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا} [فصلت: 9-10] جبالا ثوابت من فوق الأرض، وبارك فيها بالأشجار، والثمار، والحبوب، والأنهار.
{وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} [فصلت: 10] قال الحسن، ومقاتل: وقسم في الأرض أرازق العباد والبهائم.
وقال الكلبي: قدر الخبز لأهل قطر، والتمر لأهل قطر، والسمك لأهل قطر.
{فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} [فصلت: 10] أي: في تتمة أربعة أيام، ويعني: الثلاثاء والأربعاء، وهما مع الأحد والاثنين أربعة، سواء نصب على المصدر، على معنى: استوت سواء واستواء، كما تقول: في أربعة(4/26)
أياما تماما، ومن خفض فعلى النعت للأيام، ومن رفع فعلى معنى: هي سواء، للسائلين قال السدي، وقتادة: سواء لا زيادة ولا نقصان، جوابا لمن سأل: في كم خلقت الأرض والأقوات؟ فيقال: في أربعة أيام.
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [فصلت: 11] عمد، وقصد إلى خلقها، وهي دخان قال السدي: كان ذلك الدخان من نفس الماء، حين تنفس خلقها سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبعا في يومين الخميس والجمعة.
{فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [فصلت: 11] أي: ائتيا ما آمركما، أي: افعلاه، كما يقال: إيت ما هو الأحسن، أي: افعله، قال المفسرون: إن الله تعالى، قال: أما أنت يا سماء، فأطلعي شمسك وقمرك ونجومك، وأما أنت يا أرض، فشققي أنهارك، وأخرجي ثمارك ونباتك، قال لهما: افعلا ما آمركما طوعا، وإلا ألجأتكما إلى ذلك حتى تفعلاه كرها.
قال الزجاج: أطيعا طاعة، أو تكرهان كرها، فأطاعتا وأجابتا بالطوع.
وهو قوله: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] أي: أتينا أمرك طائعين، ولما ركب الله فيهن العقول، وخوطبن خطاب من يعقل، جمعهن جمع من يعقل، كما قال: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] .
فقضاهن صنعهن وأحكمهن، وفرغ من خلقهن، {سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} [فصلت: 12] قال مقاتل: وأمر في كل سماء بما أراد.
وقال عطاء، عن ابن عباس: خلق في كل سماء من الملائكة، والبرد، والثلوج، وما لا يعلمه إلا الله.
{وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا} [فصلت: 12] وحفظناها من استماع الشياطين(4/27)
بالكواكب حفظا، ذلك الذي ذكر من صنعه، تقدير العزيز في ملكه، العليم بخلقه.
قوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ {13} إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ {14} } [فصلت: 13-14] .
فإن أعرضوا عن الإيمان بعد هذا البيان، {فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] هلاكا مثل هلاكهم، والصاعقة: المهلكة من كل شيء.
{إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} [فصلت: 14] أتت الرسل آباءهم، ومن كان قبلهم، ومن خلفهم من خلف الرسل، الذين بعثوا إلى آبائهم رسل إليهم أن لا، بأن لا، {تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنْزَلَ مَلائِكَةً} [فصلت: 14] أي: لو شاء ربنا دعوة الخلق، لأنزل ملائكة، ثم أظهروا الكفر بهم، وهو قولهم: {فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [فصلت: 14] .
ثم قص قصة عاد وثمود، فقال: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ {15} فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ {16} وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ {17} وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ {18} } [فصلت: 15-18] .
{فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ} [فصلت: 15] تكبروا عن الإيمان وعملوا، بغير الحق وأعجبتهم أجسامهم، {وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15] وذلك أن هودا هددهم بالعذاب، فقالوا: نحن نقدر على دفعه عنا، بفضل قوتنا.
فقال الله تعالى، ردا عليهم: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت: 15] يكفرون بحججنا عليهم.
ثم ذكر عذابهم، بقوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} [فصلت: 16] عاصفا، شديدة الصوت، من الصرة وهي: الصيحة، وقال ابن عباس: وهي الباردة من الصر، وهي: البرد.
وقال الفراء: هي الباردة، تحرق كما تحرق النار.
{فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فصلت: 16] نكدات مشئومات، ذات نحوس،(4/28)
قال ابن عباس: كانوا يتشاءمون بتلك الأيام.
والقراء قرءوا بكسر الحاء وسكونها، قال الزجاج: من قرأ بكسر الحاء فواحدها نحس، ومن قرأ بالسكون فواحدها نحس.
{لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ} [فصلت: 16] أي: عذاب الهوان والذل، وهو العذاب الذي يخزون به، {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى} [فصلت: 16] أشد إهانة، {وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت: 16] أي، لا يمنعون من العذاب.
ثم ذكر قصة ثمود، فقال: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت: 17] قال ابن عباس: بينا لهم سبيل الهدى.
وقال مجاهد: دعوناهم.
وقال الفراء: دللناهم على مذهب الخير، أي: بإرسال الرسول.
{فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17] فاختاروا الكفر على الإيمان، {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ} [فصلت: 17] أي: ذي الهوان، وهو الذي يهينهم ويخزيهم، {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [فصلت: 17] من تكذيبهم صالحا، وعقرهم الناقة.
قوله: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ {19} حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {20} وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {21} وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ {22} وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ {23} } [فصلت: 19-23] .
{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [فصلت: 19] يحبس أولهم على آخرهم، ليتلاحقوا، والمعنى: إذا حشر أعداء الله، وقفوا.
{حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا} [فصلت: 20] جاءوا النار التي حشروا إليها، {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ} [فصلت: 20] قال مقاتل: تنطق جوارحهم بما كتبت الألسن، من عملهم بالشرك.
811 - أَخْبَرَنِي عَقِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُرْجَانِيُّ فِيمَا أَجَازَ لِي، أَنَّ(4/29)
أَبَا الْفَرَجِ الْقَاضِي أَخْبَرَهُمْ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ الْغِفَارِيُّ، نا عَلِيُّ بْنُ قَادِمٍ، أنا شَرِيكٌ، عَنْ عُبَيْدٍ الْمُكْتِبِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: ضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَلا تَسْأَلُونِي مِمَّا ضَحِكْتُ؟ قَالُوا: مِمَّ ضَحِكْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " عَجِبْتُ مِنْ مُجَادَلَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ: يَقُولُ: يَا رَبِّ، أَلَيْسَ وَعَدْتَنِي أَنْ لا تَظْلِمَنِي؟ قَالَ: فَإِنَّ لَكَ ذَلِكَ، قَالَ: فَإِنِّي لا أَقْبَلُ عَلَيَّ شَاهِدًا إِلا مِنْ نَفْسِي، قَالَ: أَوَلَيْسَ كَفَى بِي شَهِيدًا وَبِالْمَلائِكَةِ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ؟ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَجَرْتَنِي مِنَ الظُّلْمِ فَلَنْ أُجِيزَ الْيَوْمَ عَلَيَّ شَاهِدًا إِلا مِنْ نَفْسِي.
قَالَ: فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ وَتَتَكَلَّمُ أَرْكَانُهُ بِمَا كَانَ يَعْمَلُ، قَالَ: فَيَقُولُ لَهُنَّ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا، عَنْكُنَّ كُنْتُ أُجَادِلُ.
وقوله: {وَجُلُودُهُمْ} [فصلت: 20] قال ابن عباس: يريد فروجهم.
وهو قول الجميع.
قالوا: كنى الله تعالى عنها بالجلود.
{وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21] أي: مما ينطق، وتم الكلام، ثم قال الله تعالى: {وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [فصلت: 21] وليس هذا من جواب الجلود.
{وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ} [فصلت: 22] أي: من أن يشهد، عليكم لأنكم ما كنتم تظنون ذلك، ولكن ظننتم الآية، قال ابن عباس: إن الكفار كانوا يقولون: إن الله لا يعلم ما في أنفسنا، ولكنه يعلم ما نظهر.
{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ} [فصلت: 23] أي: ظنكم أن الله لا يعلم ما تعملون، أرداكم أهلككم.
وقال ابن عباس: طرحكم في النار.
ثم أخبر عن حالهم، فقال:(4/30)
{فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ {24} وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ {25} وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ {26} فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ {27} ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ {28} وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ {29} } [فصلت: 24-29] .
فإن يصبروا أي: على النار، {فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [فصلت: 24] مسكن، {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت: 24] أن يسألوا أن يرجع بهم إلى ما يحبون، لم يرجع بهم، لأنهم لا يستحقون ذلك، يقال: أعتبني فلان، أي: أرضاني بعد إسخاطه إياي، واستعتبته: طلبت منه أن يعتب، أي: يرضى.
قوله: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} [فصلت: 25] قال مقاتل: هيأنا لهم.
قرناء من الشياطين، وقال الزجاج: سببنا لهم حتى أضلوهم.
وهو قوله: {فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [فصلت: 25] من أمر الآخرة، أنه لا جنة ولا نار، ولا بعث ولا حساب، وما خلفهم من أمر الدنيا، فزينوا لهم اللذات، وجمع الأموال، وترك النفقة في وجوه البر، وباقي الآية قد تقدم تفسيره.
قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْءَانِ} [فصلت: 26] أي: لا تستمعون، وعارضوه باللغو والباطل، وهو قوله: والغوا فيه يقال: لغى يلغي لغا فهو لغ، واللغا واللغو كل كلام لا وجه له، ولا فائدة فيه، وكان الكفار يوصي بعضهم بعضا، إذا سمعتم القرآن من محمد وأصحابه، فارفعوا أصواتكم، حتى تلبسوا عليهم قولهم، فيسكنون، وهو قوله تعالى: لعلكم تغلبون فيسكنون، قال مقاتل: لكي تغلبوهم فيسكنون.
ثم وعدهم الله تعالى بقوله: {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي} [فصلت: 27] .
قال مقاتل: بأسوأ ما.
كانوا يعملون وهو الشرك.
ذلك العذاب الشديد، {جَزَاءُ(4/31)
أَعْدَاءِ اللَّهِ} [فصلت: 28] وقوله: النار بدل من قوله: {جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ} [فصلت: 28] ثم ذكر أن إقامتهم فيها دائمة، أي: فقال لهم فيها في النار، دار الخلد دار الإقامة، لا انتقال منها، جزاء أي: للجزاء، {بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت: 28] قال مقاتل: يعني: القرآن يجحدون أنه من عند الله.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [فصلت: 29] أي: في النار، يقولون: {رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} [فصلت: 29] يعنون: إبليس وقابيل، لأنهما سنا المعصية، {نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا} [فصلت: 29] أسفل منا في النار، ليكونا في الدرك الأسفل من النار، قال ابن عباس: ليكونا أشد عذابا منا.
ثم ذكر المؤمنين بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ {30} نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ {31} نُزُلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ {32} وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ {33} } [فصلت: 30-33] .
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: استقاموا على أن الله ربهم.
812 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ النَّصْرَابَاذِيُّ، أنا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، نا أَبُو شُعَيْبٍ الْحَرَّانِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ وَاقِدٍ الْحَرَّانِيُّ، نا زُهَيْرٌ، نا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ نِمْرَانَ، أَنَّهُ قَالَ: قَرَأَ(4/32)
أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَوْ قَرَأَ عَلَيْهِ رَجُلٌ {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] قَالُوا: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا الاسْتِقَامَةُ؟ قَالَ: الاسْتِقَامَةُ أَنْ لا تُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ الذَّيِنَ لَمْ يُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا حَتَّى يَلْقَوْهُ.
813 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْوَرْكَانِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَاعِزٍ الْعَامِرِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، " مُرْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ، قَالَ: قُلْ: رَبِّيَ اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَقِمْ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَكْثَرُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ؟ قَالَ: فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا ".
وَكَانَ الْحَسَنُ إِذَا تَلا هَذِهِ الْآيَةَ، قَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبُّنَا فَارْزُقْنَا الاسْتِقَامَةَ
814 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدِ بْنُ أَبِي الْمُطَّوِعِيِّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، نا يُوسُفُ بْنُ عَاصِمٍ، نا الْجَرَّاحُ بْنُ مَخْلَدٍ، نا أَبُو قُتَيْبَةَ سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ، نا سُهَيْلُ بْنُ أَبِي حَزْمٍ، نا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَرَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ(4/33)
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] فَقَالَ: " قَدْ قَالَهَا نَاسٌ ثُمَّ كَفَرَ أَكْثَرُهُمْ، فَمَنْ قَالَهَا حَتَّى يَمُوتَ فَهُوَ مِمَّنِ اسْتَقَامَ عَلَيْهَا.
وذهب كثير من المفسرين إلى: أن الاستقامة على طاعة الله، وأداء فرائضه، ولزوم السنة.
قال الكلبي، عن ابن عباس: استقاموا على ما فرض عليهم.
وروى الزهري، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه تلا هذه الآية، فقال: «استقاموا لله بطاعته، ولم يروغوا روغان الثعالب» .
وقوله: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} [فصلت: 30] قال ابن عباس: عند الموت.
وقال قتادة، ومقاتل: إذا قاموا من قبورهم.
ألا بأن لا، تخافوا من الموت، ولا تحزنوا على ما خلفتم من أهل وولد، وروى جعفر، عن ثابت، أنه قال: بلغنا أنه إذا انشقت الأرض يوم القيامة، نظر المؤمن إلى حافظيه، قائمين على رأسه، يقولان له: لا تخف اليوم ولا تحزن، وأبشر بالجنة التي كنت توعد، نحن أولياؤك في الحياة الدنيا وفي الآخرة، أبشر يا ولي الله، إنك سترى اليوم أمرا لم تر مثله، فلا يهولنك، وإنما يراد به غيرك.
قال ثابت: فما عظيمة تغشى الناس يوم القيامة، إلا وهي لكل مؤمن قرة عين لما هداه الله في الدنيا.
وقال مجاهد: لا تخافوا ما تقدمون عليه من أمر الآخرة، ولا تحزنوا على ما خلفتم من أمر دنياكم، من ولد أو أهل أو دين، فإنه سيخلفكم في ذلك كله.
{نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [فصلت: 31] هذا من قول الملائكة للمؤمنين، يقولون: نحن الحفظة الذين كنا معكم في الحياة الدنيا، وفي الآخرة يقولون: لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة.
ولكم فيها في الآخرة، {مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ} [فصلت: 31] من الكرامات واللذات، {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت: 31] تتمنون، كقوله: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} [يس: 57] وقد مر.
نزلا يجوز أن يكون جمع نازل، ويكون المعنى: ولكم فيها ما تدعون {مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت: 32] نازلين، ويجوز أن يراد به: القوت الذي(4/34)
يقام للنازل والضيف، والمعنى: ثبت لهم ما يدعون {نُزُلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت: 32] .
قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت: 33] قال ابن عباس: هو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دعا إلى شهادة أن لا إله إلا الله.
وقال الحسن: هو المؤمن أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته.
وعمل صالحا في إجابته، {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33] لربي، وقالت عائشة رضي الله عنها: «أرى هذه الآية نزلت في المؤذنين» .
وقال عطاء: وعمل صالحا: قام لله بحقه وفرائضه.
وقال قيس بن أبي حازم: هو الصلاة بين الأذان والإقامة.
{وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ {34} وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ {35} وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {36} } [فصلت: 34-36] {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} [فصلت: 34] لا الثانية زائدة، لأن المعنى: ولا تستوي الحسنة والسيئة، يعني: الصبر والغضب، والحلم والجهل، والعفو والإساءة، {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت: 34] كدفع الغضب بالصبر، والإساءة بالعفو، {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ(4/35)
وَبَيْنَهُ} [فصلت: 34] أي: فإذا فعلت ذلك، ودفعت السيئة بالتي هي أحسن، صار {الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ} [فصلت: 34] كالصديق القريب، وقال عطاء: التي هي أحسن: السلام إذا لقي من يعاديه، سلم عليه ليلين له.
وقال مقاتل بن حيان: هو أبو سفيان بن حرب، وذلك أنه لان للمسلمين بعد شدة عداوته بالمصاهرة التي حصلت بينه وبين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم أسلم فصار وليا في الإسلام، حميما بالقرابة.
وما يلقاها قال الزجاج: وما يلقى هذه الفعلة وهذه الحالة، وهي دفع السيئة بالحسنة.
{إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا} [فصلت: 35] على كظم الغيظ، واحتمال المكروه، {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35] في الثواب والخير، وقال قتادة: الحظ العظيم: الجنة، أي: ما يلقاها إلا من وجبت له الجنة.
ثم أمره أن يستعيذ بالله إن صرفه الشيطان عن الاحتمال، فقال: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ} [فصلت: 36] الآية مفسرة في آخر { [الأعراف.
ثم ذكر علامات توحيده، ودلالات قدرته، فقال:] وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ {37} فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ(4/36)
وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ {38} وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {39} } [سورة فصلت: 37-39] .
{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ} [فصلت: 37] الآية ظاهرة.
فإن استكبروا تكبروا عن عبادتي، والسجود لي، {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} [فصلت: 38] يعني: الملائكة، {يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [فصلت: 38] يصلون له، وينزهونه عن السوء، {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] لا يملون، ويفترون.
ومن آياته دلائل قدرته، {أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً} [فصلت: 39] قال الأزهري: إذا يبست الأرض ولم تمطر قيل: قد خشعت.
قال ابن عباس: مقشعرة.
{فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ} [فصلت: 39] تحركت بالنبات، وهذا مفسر فيما سبق.
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {40} إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ {41} لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ {42} مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ {43} وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْءَانًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ {44} } [فصلت: 40-44] .
{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا} [فصلت: 40] تقدم تفسير الإلحاد، وقال مقاتل: يميلون عن الإيمان بالقرآن.
وقال مجاهد: {يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا} [فصلت: 40] بالمكاء، واللغط.
{لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [فصلت: 40] أي: إنا نعلمهم، فنجازيهم بما يعملون، {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ} [فصلت: 40] وهو أبو جهل، {خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [فصلت: 40] وهو حمزة، ثم هددهم بقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] قال الزجاج: لفظه لفظ الأمر، ومعناه الوعيد.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ} [فصلت: 41] بالقرآن، لما جاءهم ثم أخذ في وصف الذكر، وترك جواب {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [فصلت: 41] على تقدير: إن(4/37)
الذين كفروا بالذكر، يجازون بكفرهم، {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصلت: 41] قال الكلبي: كريم على الله.
وقال قتادة: أعزه الله، فلا يجد الباطل إليه سبيلا.
وهو قوله: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42] قال مقاتل: لا يأتيه التكذيب من الكتب التي قبله، ولا يجيء من بعده كتاب فيبطله.
وهو قول الكلبي.
وقال الزجاج: معناه أنه محفوظ من أن ينقص منه، فيأتيه الباطل من بين يديه، أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه.
وهذا قول قتادة، والسدي.
ومعنى الباطل على هذا: الزيادة والنقصان.
{تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ} [فصلت: 42] في خلقه، حميد إليهم.
ثم عزى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على تكذيبهم، فقال: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت: 43] قال قتادة: يقول: قد قيل للأنبياء من قبلك: ساحر، وكذبوا كما كذبت.
{إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ} [فصلت: 43] لمن آمن، {وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} [فصلت: 43] أليم لمن كذبك.
قوله: {جَعَلْنَاهُ قُرْءَانًا أَعْجَمِيًّا} [فصلت: 44] لو جعلنا هذا الكتاب الذي تقرؤه على الناس بغير لغة العرب، {لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فصلت: 44] هلا بينت آياته بالعربية، حتى نفهمه، أأعجمي وعربي أكتاب أعجمي ونبي عربي؟ وهذا استفهام على وجه الإنكار، أي: أنهم كانوا يقولون: المنزل عليه عربي، والمنزل أعجمي، فكان ذلك أشد لتكذيبهم، قل لهم يا محمد: هو أي: القرآن، {لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى} [فصلت: 44] من الضلالة، وشفاء من الأوجاع، وقال مقاتل: شفاء لما في القلوب، للبيان الذي فيه، {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ} [فصلت: 44] لأنهم صم عن استماع القرآن، والانتفاع بما فيه من البيان، {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: 44] قال قتادة: عموا عن القرآن، وصموا عنه.
وقال السدي: عميت قلوبهم عنه.
والمعنى: وهو عليهم ذو عمى، {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44] أي: أنهم لا يسمعون ولا يفهمون، كما أن من دعي من مكان بعيد لم يسمع، ولم يفهم، قال الفراء: تقول للرجل الذي لا يفهم كلامك: أنت تنادي من مكان بعيد.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي(4/38)
شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ {45} مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ {46} إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ {47} وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ {48} } [فصلت: 45-48] .
قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [فصلت: 45] هذا تعزية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول: كما آتيناك الكتاب، فكذب به قومك، وصدق بعضهم، آتينا موسى الكتاب، فمن مكذب به، ومن مصدق، وهو قوله: {فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} [فصلت: 45] في تأخير العذاب عن مكذبي القرآن إلى أجل مسمى، يعني: القيامة، لقضي بينهم بالعذاب الواقع لمن كذب، {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} [فصلت: 45] من صدقك، وكتابك، مريب موقع لهم الريبة.
قوله تعالى: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} [فصلت: 47] أخبر أن علم القيامة متى يقوم عند الله، لا يعلمه غيره، فعلمها إذا سئل عنها مردود إليه، وما تخرج من ثمرة من أكمامها أوعيتها، وهي ما كانت فيه الثمرة، واحدها كم، وقرئ ثمرات، والإفراد يدل على الكثرة، فيستغنى به عن الجمع، ويوم يناديهم ينادي الله تعالى المشركين، أين شركائي أي: في قولكم وزعمكم، كما قال: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص: 62] ، قالوا آذناك أعلمناك، {مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} [فصلت: 47] شاهد بأن لك شريكا، يتبرءون يومئذ من أن يكون مع الله شريك.
{وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ} [فصلت: 48] زال وبطل في الآخرة، ما كانوا يعبدون في الدنيا، وظنوا علموا وأيقنوا، {مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} [فصلت: 48] فرار عن النار.
قوله: {لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ {49} وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ {50} وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ {51} } [فصلت: 49-51] .(4/39)
{لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} [فصلت: 49] لا يمل الكافر، ولا يزال يسأل ربه الخير والمال، والغنى، {وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ} [فصلت: 49] البلاء، والشدة، والفقر، فيئوس قنوط شديد اليأس، قنوط من روح الله.
{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا} [فصلت: 50] ولئن آتيناه خيرا، وعافية، وغنى، {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} [فصلت: 50] قال مجاهد: هذا بعملي، وأنا محقوق به.
وكل هذا من أخلاق الكافر حب المال، والغنى، غير سائم منه، حتى إذا مسه الشر، صار إلى حال الآيس، فإذا عاد إليه المال، نسي أن الله هو المتفضل عليه بما أعطاه، فيبطر ويظن أنه المستحق لذلك، ثم يشك في البعث، فيقول: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [فصلت: 50] ثم يتوهم أن له مع كفره في الآخرة منزلة، فيقول: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي} [فصلت: 50] أي: لست على يقين من البعث، فإن كان الأمر على ذلك، ورددت إلى ربي، {إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت: 50] الجنة، أي: كما أعطاني في الدنيا، سيعطيني في الآخرة الجنة، قال الله تعالى: {فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا} [فصلت: 50] قال ابن عباس: لنقفنهم يوم القيامة على مساوئ أعمالهم.
{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ} [فصلت: 51] مفسر في { [بني إسرائيل، قوله:] فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} [سورة فصلت: 51] أي: كثير، والمعنى: أنه يسأل ربه أن يكشف ما به، لا يمل من الدعاء في الشدة، ويعرض عن الدعاء في الرخاء.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ {52} سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ {53} أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ {54} } [فصلت: 52-54] .
قل يا محمد لأهل مكة، {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ} [فصلت: 52] القرآن، {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ} [فصلت: 52] خلاف للحق، بعيد عنه، وهو أنتم، أي: فلا أحد أضل منكم.
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ} [فصلت: 53] ما يفتح من القرى على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وللمسلمين في النواحي والأطراف، وفي أنفسهم يعني: فتح مكة، وهذا قول مجاهد، والسدي، والحسن، قالوا: هي ظهور محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الآفاق، وعلى مكة.
يقول: يفتح القرى ومكة على محمد، حتى يعرفوا(4/40)
أن الذي أتى به من القرآن هو من عند الله، لأنهم بذلك يعرفون أنه مؤيد من قبل الله، بعد ما كان واحدا لا ناصر له، وهو قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] أي: أن القرآن من عند الله، {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] قال مقاتل: أولم يكف بربك شاهدا أن القرآن من الله.
قال الزجاج: ومعنى الكفاية ههنا: أن الله عز وجل قد بين لهم ما فيه كفاية في الدلالة.
والمعنى: أولم يكف بربك، لأنه على كل شيء شهيد، شاهد للأشياء لا يغيب عنه شيء.
{أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ} [فصلت: 54] في شك من البعث، والثواب والعقاب، {أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت: 54] أحاط بكل شيء علما، لأنه عالم الغيب والشهادة.(4/41)
تفسير سورة حم عسق
مكية، وهى خمسون وثلاث آيات.
815 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْعرافِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ أَبِي الْفَضْلِ الشروطي، نا أَبُو إِسْحَاقَ الْأَسَدِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا الْمَدَائِنِيُّ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ قَرَأَ سُورَةَ {حم {1} عسق {2} } [الشورى: 1-2] كَانَ مِمَّنْ تُصَلِّي عَلَيْهِ الْمَلائِكَةُ وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ وَيَسْتَرْحِمُونَ لَهُ ".
بسم الله الرحمن الرحيم {حم {1} عسق {2} كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {3} لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ {4} تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {5} وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ {6} } [الشورى: 1-6] .
حم عسق روى عكرمة، عن ابن عباس، أنه قال: ح: حلمه، م: مجده، ع: علمه، س: سناؤه، ق: قدرته، أقسم الله تعالى بها.
{كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} [الشورى: 3] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد إخبار الغيب.
وما يكون قبل أن يكون أوحي إليك وإلى الذين من قبلك، والمعنى: كالوحي الذي تقدم، يوحي إليك إخبار الغيب، وقرأ ابن كثير يوحى بضم الياء وفتح الحاء، وحجته قوله: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} [الزمر: 65] ،(4/42)
وقوله: {اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الشورى: 3] على هذه القراءة تبيين للفاعل، كأنه قيل: من يوحي؟ فقيل: الله.
{تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ} [الشورى: 5] يريد كل واحدة منها تتفطر فوق التي تليها، من قول المشركين: اتخذ الله ولدا.
نظيرها التي في آخر { [مريم،] وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [سورة الشورى: 5] ينزهونه عما لا يجوز في صفته، ويعظمونه، {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الشورى: 5] قال ابن عباس: للمصدقين بالله ورسوله.
قال قتادة: للمؤمنين منهم.
{أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الشورى: 5] لأوليائه، وأهل طاعته.
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الشورى: 6] يعني: كفار مكة، اتخذوا آلهة، فعبدوها من دون الله، {اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} [الشورى: 6] حافظ على أعمالهم، ليجازيهم بها، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الشورى: 6] لم نوكلك بهم، حتى تؤاخذ بهم.
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ {7} وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ {8} أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {9} } [الشورى: 7-9] .
وكذلك ومثل ما ذكرنا، {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا} [الشورى: 7] ليفهموا ما فيه، {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} [الشورى: 7] أي: أهل أم القرى، وهي مكة، سميت أم القرى، لأن الأرض دحيت من تحتها، ومن حولها يعني: قرى الأرض كلها، {وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ} [الشورى: 7] وتنذرهم بيوم الجمع، وهو يوم القيامة، يجمع الله تعالى فيه الأولين والآخرين، وأهل السموات وأهل الأرض، {لا رَيْبَ فِيهِ} [الشورى: 7] لا شك في الجمع أنه كائن، ثم بعد الجمع يتفرقون، وهو قوله: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7] قال ابن عباس: فريق في الجنة يتمتعون ويتنعمون، وفريق في السعير يعذبون.(4/43)
816 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْبُحْتُرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ السَّرَّاجُ، نا قُتَيْبَةُ، نا بَكْرُ بْنُ مُضَرَ، نا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي قَبِيلٍ، عَنْ شُفَيٍّ الْأَصْبَحِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي يَدِهِ كِتَابَانِ، فَقَالَ: " أَتَدْرُونَ مَا هَذَانِ الْكِتَابَانِ؟ فَقُلْنَا: لا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلا أَنْ تُخْبِرَنَا، فَقَالَ لِلَّذِي فِي يَدِهِ الْيُمْنَى: هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيهِ تَسْمِيَةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَتَسْمِيَةُ آبَائِهِمْ، ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ، لا يُزَادُ فِيهِمْ وَلا يُنْقَصُ، وَقَالَ لِلَّذِي فِي شِمَالِهِ: هَذَا كِتَابٌ كَتَبَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ تَسْمِيَةُ أَهْلِ النَّارِ وَتَسْمِيَةُ آبَائِهِمْ، ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ، لا يُزَادُ فِيهِمْ وَلا يُنْقَصُ.
قَالُوا: فَفِيمَ الْعَمَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِنَّ عَامِلَ الْجَنَّةِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ، وَإِنَّ عَامِلَ النَّارِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ.
فَرَغَ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ، ثُمَّ قَرَأَ: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7] ".
ثم ذكر سبب افتراقهم، فقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الشورى: 8] قال ابن عباس: على دين واحد.
وقال مقاتل: على ملة الإسلام.
كقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام: 35] فبين لهم أنهم افترقوا بالمشيئة الأزلية، {وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الشورى: 8] في دينه الإسلام، والظالمون الكافرون، {مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ} [الشورى: 8] يدفع عنهم العذاب، ولا نصير يمنعهم من النار.
{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الشورى: 9] بل اتخذ الكافرون من دون الله أولياء، {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} [الشورى: 9] قال ابن عباس: وليك يا محمد وولي من اتبعك.
{وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى} [الشورى: 9] يبعثهم للجزاء، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} [الشورى: 9] من الإحياء، وغيره، قدير.
قوله: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ {10} فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ(4/44)
شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ {11} لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {12} } [الشورى: 10-12] .
{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] قال الكلبي: أي من أمر الدين.
{فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] أي: يقضي فيه، وقال مقاتل: إن أهل مكة كفر بعضهم بالقرآن، وآمن به بعضهم، فقال الله تعالى: الذي اختلفتم فيه، فإن حكمه إلي، أحكم فيه.
يعني: يوم القيامة، يحكم للمؤمنين بالقرآن بالجنة، وللمكذبين به بالنار، وقيل: إن هذا عام فيما اختلف فيه العباد، يحكم الله فيه يوم القيامة بالفصل الذي يزيل الريب، ويبطل الاختلاف، ذلكم الله الذي يحكم بين المختلفين، هو {رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} [الشورى: 10] في كفاية مهماتي، وإليه أنيب أرجع في المعاد.
{فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الشورى: 11] تقدم تفسيره، {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [الشورى: 11] جعل لكم مثل خلقكم نساء، {وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا} [الشورى: 11] أصنافا: ذكورا وإناثا، أي: خلق الذكر والأنثى من الحيوان كله، يذرؤكم فيه يخلقكم في هذا الوجه الذي ذكر من جعل الأزواج، وذلك أنه جعل سبب خلقنا الأزواج، والكفاية في قوله: فيه تعود إلى الجعل المراد بقوله: جعل لكم، وقال الزجاج: المعنى: يذرؤكم به، أي: يجعله منكم، ومن الأنعام أزواجنا.
وهذا قول الفراء، جعل في بمعنى: الباء.
وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] قال ابن عباس: ليس له نظير.
والكاف مؤكدة، والمعني: ليس مثله شيء، وهو السميع لما يقال، البصير بأعمال الخلق.
{لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الشورى: 12] قال ابن عباس: يريد مفاتيح الرزق في السموات والأرض.
وقال الكلبي: مقاليد السموات: خزائن المطر، وخزائن الأرض النبات.
والمعنى: أنه يقدر على فتحها، يملك فتح السماء بالمطر، والأرض بالنبات، يدل على هذا قوله: {يَبْسُطُ(4/45)
الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الشورى: 12] لأن مفتاح الرزق بيده، {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ} [الشورى: 12] من البسط والقدر، عليم.
{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ {13} وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ {14} فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ {15} } [الشورى: 13-15] .
شرع لكم بين لكم، وأوضح، {مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13] يعني: التوحيد، والبراءة من الشرك، {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الشورى: 13] من القرآن، وشرائع الإسلام، وما وصينا وشرع لكم، {وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى: 13] ، ثم بين ما وصى به هؤلاء، فقال: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} [الشورى: 13] قال مقاتل: يعني: التوحيد.
{وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] يقول: لا تختلفوا في التوحيد، وقال مجاهد: يعني: أنه شرع لكم، ولمن قبلكم من الأنبياء دينا واحدا.
{كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: 13] قال ابن عباس: من توحيد الله تعالى، والإخلاص له وحده لا شريك له.
وقال مقاتل: عظم على مشركي مكة ما تدعوهم إليه من التوحيد، لأنهم قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] .
ثم خص أولياءه بقوله: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ} [الشورى: 13] يصطفي الله من عباده لدينه من يشاء، ويهدي إلى دينه، من ينيب من يقبل إلى طاعته، واتبع دينه.
ثم ذكر تفرقهم بعد الإيصاء بترك الفرقة، فقال: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} [الشورى: 14] أي: ما تفرقوا إلا عن علم بأن الفرقة ضلالة، ولكنهم فعلوا ذلك للبغي، وهو قوله: بغيا بينهم قال عطاء: بغيا منهم على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} [الشورى: 14] في تأخير المكذبين من هذه الأمة، {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الشورى: 14] يعني: يوم القيامة، لقضي بينهم بين من آمن، وبين من كفر، يعني: لنزل العذاب بالمكذبين في(4/46)
الدنيا، {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ} [الشورى: 14] يعني: اليهود والنصارى، من بعدهم من بعد أنبيائهم، {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} [الشورى: 14] من محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {مُرِيبٍ {14} فَلِذَلِكَ فَادْعُ} [الشورى: 14-15] قال الفراء، والزجاج: فإلى ذلك فادع، كما تقول: دعوت إلى فلان ولفلان.
وذلك إشارة إلى ما وصى به الأنبياء من التوحيد، {وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [الشورى: 15] على الدين الذي أمرت به، {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [الشورى: 15] أهواء أهل الكتاب، وذلك أنهم دعوه إلى دينهم، وقل لهم: {آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} [الشورى: 15] أي: آمنت بكتب الله كلها، {وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15] قال ابن عباس: أمرت أن لا أحيف عليكم بأكثر مما افترض الله عليكم في الأحكام.
ومعنى العدل بينهم في الأحكام: هو أنهم إذا ترافعوا إليه، لم يلزمهم شيئا، لا يلزمهم الله، {اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} [الشورى: 15] أي: إلهنا واحد، وإن اختلفت أعمالنا، فكل يجازى بما يعمل، وهو قوله: لنا أعمالنا أي: ثوابها، {وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} [الشورى: 15] لا خصومة، وهذا قبل أن أمر بالقتال، وإذا لم يؤمر بالقتال وأمر بالدعوة، لم تكن بينه وبين من لا يجيب خصومة، ولا قتال، ثم ذكر مصير الفريقين إلى الله، فيجازي كلا بعمله وهو قوله: {اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشورى: 15] .
{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى: 16] .
{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ} [الشورى: 16] يخاصمون في دين الله نبيه، قال قتادة: هم اليهود والنصارى، قالوا: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا فبل نبيكم، فنحن خير منكم.
فهذه خصومتهم، وإنما قصدوا بما قالوا دفع ما أتى به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} [الشورى: 16] أي: من بعد ما دخل الناس في الإسلام، وأجابوه إلى ما دعاهم إليه، {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الشورى: 16] خصومتهم باطلة حين زعموا أن دينهم أفضل من الإسلام، {وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى: 16] في الآخرة.
{اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ {17} يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا(4/47)
يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ {18} اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ {19} } [الشورى: 17-19] .
{اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ} [الشورى: 17] القرآن، بالحق بما ضمنه من الأمر والنهي، والفرائض، والأحكام وكله حق من الله تعالى، وقوله: والميزان قال قتادة، ومجاهد، ومقاتل: العدل.
وسمي العدل ميزانا، لأن الميزان آلة الإنصاف، والتسوية بين الخلق، قال ابن عباس: أمر الله تعالى بالوفاء، ونهى عن البخس.
وقال مقاتل: وذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الساعة، وعنده قوم من المشركين، فقالوا: متى تقوم الساعة؟ تكذيبا بها، فأنزل الله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [الشورى: 17] .
وقد تقدم هذا في آخر { [الأحزاب.
] يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا} [سورة الشورى: 18] لأنهم لا يخافون ما فيها، إذ لم يؤمنوا بها، فهم يطلبون قيامها إبعادا لكونها، {وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا} [الشورى: 18] قال مقاتل: لأنهم لا يدرون على ما يهجمون.
وقال الزجاج: لأنهم يعلمون أنهم محاسبون، ومجزيون.
{وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} [الشورى: 18] أنها آتية لا ريب فيها، {أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ} [الشورى: 18] يدخلهم المرية والشك، {فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [الشورى: 18] حين لم يفكروا، فيعلموا أن الله الذي خلقهم أولا، قادر على بعثهم.
{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [الشورى: 19] حفي، بار، رفيق بأوليائه وأهل طاعته، وقال مقاتل: لطيف بالبر والفاجر، لا يهلكهم جوعا.
يدل على هذا قوله: {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} [الشورى: 19] فكل من رزقه الله تعالى من مؤمن وكافر،(4/48)
وذي روح، فهو ممن شاء الله أن يرزقه، وهو القوي على ما أراد من رزقه من يرزقه، العزيز الغالب، فلا يغلب فيما أراد.
قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ {20} أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {21} تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ {22} } [الشورى: 20-22] .
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ} [الشورى: 20] معنى الحرث في اللغة: الكسب، يقال: هو يحرث لعياله ويحترث، أي: يكتسب، قال ابن عباس: من كان يريد العمل لله بما يحب الله، ويرضى.
{نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} [الشورى: 20] أعينه على عبادتي، وأسهل عليه، {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا} [الشورى: 20] أي: من كان يسعى لدنياه، وآثرها على آخرته، نؤته منها قال قتادة: أي: بقدر ما قسم له، كقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ} [الإسراء: 18] .
{وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20] لأن عمل لدنياه، لا لآخرته، وهذا يعني به الكافر.
قوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ} [الشورى: 21] يعني: كفار مكة، يقول: ألهم آلهة سنوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله؟ قال ابن عباس: شرعوا لهم دينا غير دين الإسلام.
{وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} [الشورى: 21] لولا أن الله تعالى حكم في كلمة الفصل بين الخلق، بتأخير عذاب هذه الأمة إلى الآخرة، لفرغ من عذاب الذين يكذبونك في الدنيا، وإن الظالمين الذين يكذبونك، {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 21] في الآخرة.
ترى الظالمين يعني: في الآخرة، مشفقين خائفين، مما كسبوا من الكفر والتكذيب، {وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} [الشورى: 22] أي: وجزاؤه واقع بهم، قال الزجاج: وجزاء كسبهم واقع بهم.
وباقي الآية ظاهر التفسير.
قوله: {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ {23} أَمْ يقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى(4/49)
قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {24} وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ {25} وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ {26} } [الشورى: 23-26] .
{ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ} [الشورى: 23] يعني: ما تقدم ذكره من الجنات، يبشر الله به، {عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشورى: 23] ، وقوله: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] .
817 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْكُوفِيُّ الصُّوفِيُّ، أنا أَبُو الْقَاسِمِ الْمُؤَمَّلُ بْنُ أَحْمَدَ الشَّيْبَانِيُّ، نا يَحْيَى بْنُ صَاعِدٍ، نا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، نا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، نا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ طَاوُسٍ، قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قُرْبَى آلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَجِبْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ بُطُونِ قُرَيْشٍ إِلا وَلِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ قَرَابَةٌ، وَإِنَّمَا قَالَ: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ أَجْرًا إِلا أَنْ تَصِلُوا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ بُنْدَارٍ، عَنْ شُعْبَةَ.
وقال الشعبي: أكثر الناس علينا في هذه الآية، فكتبنا إلى ابن عباس فسأله، فكتب ابن عباس: " إن رسول الله كان أوسط النسب في قريش، ليس بطن من بطونهم إلا وقد ولدوه، فقال الله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ} [الشورى: 23] على ما أدعوكم إليه أجرا إلا أن تودوني في قرابتي منكم، وتحفظوني لها.
وقال عكرمة: لا أسألكم أجرا على ما أدعوكم إليه من الحق، إلا أن تحفظوني في قرابتي بيني وبينكم، قال: وليس كما يقول الكذابون.(4/50)
أخبرنا محمد بن عبد العزيز المروزي فيما كتب إلي، أنا محمد بن الحسين الحدادي، أنا محمد بن يزيد بن يحيى، أنا إسحاق بن إبراهيم، أنا علي بن عبد الله مولى بني قراد، عن عبد الكريم وهو أبو أمية، قال: سألت مجاهدا عن هذه الآية، فقال: " أما إني لا أقول قول الخشبية، يقول: يا معشر قريش، لا أسألكم على ما أقول أجرا، ارقبوني في الذي بيني وبينكم، لا تعجلوا إلي، ودعوني والناس ".
وهذا قول قتادة، ومقاتل، والسدي، والضحاك، وابن زيد، ورواية الوالبي، والعوفي، عن ابن عباس.
وقال الحسن: إلا أن توددوا إلى الله تعالى، فيما يقربكم إليه من العمل الصالح.
818 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَبْدَانَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الضَّبِّيُّ، حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حَمْشَاذٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ شَاذَانَ الْجَوْهَرِيُّ، نا حَسَنُ بْنُ مُوسَى الْأَشْيَبُ، نا قَزَعَةُ بْنُ سُوَيْدٍ، نا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لا أَسْأَلُكُمْ عَلَى مَا آتَيْتُكُمْ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى أَجْرًا إِلا أَنْ تُوَادُّوا اللَّهَ وَأَنْ تَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ» .
وفي الآية قول ثالث:
819 - أَخْبَرَنَا أَبُو حَسَّانٍ الْمُزَكِّي، أنا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، نا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ السُّدِّيُّ، نا(4/51)
يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيُّ، نا حُسَيْنٌ الْأَشْقَرُ، نا قَيْسٌ، نا الْأَعْمَشُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " لَمَّا نَزَلَتْ {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَأْمُرُنَا اللَّهُ تَعَالَى مَوَدَّتَهُمْ؟ قَالَ: عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَوَلَدَيْهِمَا ".
820 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ، أنا أَبُو الشَّيْخِ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَيْدٍ، نا قُتَيْبَةُ بْنُ مِهْرَانَ،(4/52)
نا عَبْدُ الْغَفُورِ أَبُو الصَّبَّاحِ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ الرَّمَانِيِّ، عَنْ زَاذَانَ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: فِينَا فِي آلِ حم آيَةٌ لا يَحْفَظُ مَوَدَّتَنَا إِلا كُلُّ مُؤْمِنٍ، ثُمَّ قَرَأَ: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]
وقال الكلبي: قل لا أسألكم على الإيمان جعلا، إلا أن تودوا أقاربي، حث الله تعالى الناس عن ذوي قرابته.
وعلى الأقوال كلها قول: إلا المودة استثناء ليس من الأول، وليس المعنى أسألكم المودة في القربى، لأن الأنبياء عليهم السلام لا يسألون أجرا على تبليغ الرسالة، والمعنى: ولكني أذكركم المودة في القربى، وأذكركم قرابتي منكم، وغلط من قال: إن هذه الآية نسخت، بقوله: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ: 47] ، وقوله: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان: 57] لأنه لا يصح أن يقال: نسخت مودة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكف الأذى عنه لأجل قرابته، ولا مودة آله وأقاربه، ولا التقرب إلى الله بالطاعة، ومن ادعى النسخ، توهم أن الاستثناء متصل، ورأى إبطال الأجر في هاتين الآيتين، وليس الأمر على ذلك، فإن الاستثناء منقطع، ولا تنافي بين هذه الآية، والآيتين الأخرتين، وقوله: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً} [الشورى: 23] قال مقاتل: يكتسب حسنة واحدة.
{نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} [الشورى: 23] نضاعفها بالواحدة عشرا فصاعدا، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} [الشورى: 23] للذنوب، شكور للقليل حتى يضاعفه.
أم يقولون بل أيقولون، يعنى: كفار مكة، {افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الشورى: 24] حين زعم أن القرآن من عند الله، {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24] يربط على قلبك، بالصبر على أذاهم، حتى لا يشق عليك قولهم: إنه مفتر.
ثم أخبر أنه يذهب ما يقولونه باطلا، فقال: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ} [الشورى: 24] أي: الإسلام، بكلماته بما أنزله من كتابه، وقد فعل الله ذلك، فأزهق باطلهم، وأعلى كلمة الإسلام، {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الشورى: 24] بما في قلوب خلقه.
{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى: 25] قال ابن عباس: يريد أولياءه، وأهل طاعته.
{وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى: 25] من خير وشر، ومن قرأ بالتاء فهو خطاب للمشركين، وتهديد لهم.
قوله: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا(4/53)
الصَّالِحَاتِ} [الشورى: 26] يجيبهم إلى ما يسألونه، وقال عطاء، عن ابن عباس: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [إبراهيم: 27] ، {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الشورى: 26] سوى ثواب أعمالهم، تفضلا عليهم.
وقال أبو صالح عنه: يشفعهم في إخوانهم.
قوله: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ {27} وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ {28} } [الشورى: 27-28] .
{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ} [الشورى: 27] قال خباب بن الأرت: فينا نزلت هذه الآية، وذلك أنا نظرنا إلى أموال قريظة والنضير، فتمنيناها، فأنزل الله هذه الآية.
قال مقاتل: يقول: لو أوسع الله الرزق لعباده، فرزقهم من غير كسب.
{لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ} [الشورى: 27] لعصوا، وبطروا النعمة، وطلبوا ما ليس لهم أن يطلبوه، {وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 27] نظرا منه لأوليائه وأهل طاعته، {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27] يعلم أنه لو أعطاهم ما يتمنون بغوا.
قوله: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [الشورى: 28] أي: المطر، {مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} [الشورى: 28] من بعد ما يئس الناس منه، وذلك أدعى لهم إلى شكر منزله، والمعرفة بموقع إحسانه، قال مقاتل: حبس الله تعالى المطر عن أهل مكة سبع سنين، حتى قنطوا، ثم أنزل الله المطر، فذكرهم النعمة.
وينشر رحمته يبسط مطره، وهو الولي لأهل طاعته، الحميد عند خلقه.
{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ {29} وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ {30} وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ {31} } [الشورى: 29-31] .
{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ} [الشورى: 29] يعني: الناس وغيرهم من الملائكة، قال مجاهد: الناس والملائكة.
{وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ} [الشورى: 29] يوم القيامة في الآخرة، {إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى: 29] .
{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ} [الشورى: 30] يعني: ما يلحق المؤمن مما يكره من نكبة حجر، أو عثرة قدم، فصاعدا،(4/54)
{فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] من المعاصي، {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] من السيئات، فلا يعاقب بها، وقال الحسن: لما نزلت هذه الآية، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والذي نفسي بيده، ما من خدش عود، ولا عثرة قدم، ولا اختلاج عرق، إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر» .
821 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْفَضْلِ، أنا عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ خَلَفٍ، أنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَلَبِيُّ، نا عُبَيْدُ بْنُ جَنَادٍ الْحَلَبِيُّ، نا عَطَاءُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ أَزْهَرَ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ الْخَضِرِ بْنِ الْقَوَّاسِ، عَنْ أَبِي سُخَيْلَةَ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خَيْرُ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] يَا عَلِيُّ، مَا مِنْ خَدْشٍ وَلا نَكْبَةِ قَدَمٍ إِلا بِذَنْبٍ وَمَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَعُودَ فِيهِ، وَمَا عَاقَبَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يُثَنِّيَ عَلَى عَبْدِهِ ".
في(4/55)
مصاحف المدينة والشام بما كسبت أيديكم بغير فاء، قال الزجاج: إثبات الفاء أجود، لأن الفاء مجازاة جواب الشرط.
ومن حذف الفاء فعلى أن ما في معنى الذي، والمعنى: الذي أصابكم وقع بما كسبت أيديكم.
وما أنتم يا معشر المشركين، {بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} [الشورى: 31] لا تعجزونني حيث ما كنتم، ولا تسبقونني هربا في الأرض، ولا في السماء لو كنتم فيها.
قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ {32} إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ {33} أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ {34} وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ {35} فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ {36} } [الشورى: 32-36] .
{وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ} [الشورى: 32] السفن التي تجري، {فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} [الشورى: 32] كالجبال، جمع علم، وهو الجبل الطويل.
{إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ} [الشورى: 33] التي تجريها، فيظللن يعني: الجواري، رواكد يعني: ثوابت على ظهر البحر، لا تجري ولا تبرح، {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [الشورى: 33] الذي ذكر، {لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [الشورى: 33] أي: لكل مؤمن، لأن من صفة المؤمن الصبر في الشدة، والشكر في الرخاء.
أو يوبقهن يهلكهن ويغرقهن، يعني: أهلها، بما كسبوا بما أشركوا، واقترفوا من الذنوب، {وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 34] من ذنوبهم، فينجيهم من الهلكة، ولا يفرقهم.
{وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} [الشورى: 35] يعني: أن الكفار الذين يكذبون بالقرآن، إذا صاروا إلى الله تعالى بعد البعث، علموا ألا مهرب لهم من عذاب الله، والوجه قراءة ويعلمُ رفعا، لأنه يقطعه من الأول، ويجعله جملة معطوفة على جملة، ومن قرأ بالنصب، فقال الفراء: هو مردود على الجزم، إلا أنه صرف، والجزم إذا صرف عنه(4/56)
معطوفة نصب.
قوله: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الشورى: 36] مفسر فيما تقدم إلى قوله: للذين آمنوا وهو بيان أن ما عند الله خير للمؤمنين، لا للكافرين، فقد استوى الفريقان في أن ما أعطوه من الدنيا متاع يتمتعون به ثم يزول، فإذا صاروا إلى الآخرة كان ما عند الله خيرا {لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى: 36] .
{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ {37} وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ {38} وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ {39} وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {40} وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ {41} إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {42} وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ {43} } [الشورى: 37-43] .
{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ} [الشورى: 37] تقدم تفسير الكبائر في { [النساء، وقرأ حمزة: كبير الإثم على الواحد وهو يريد الجمع، كقوله:] وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ} [سورة النحل: 18] ، أو يريد بكبير الإثم: الشرك، على ما فسره ابن عباس، قال: يريد: الشرك.
وقوله: والفواحش يعني: الزنا وأنواعه، وقال مقاتل: يعني: ما تقام فيه الحدود في الدنيا.
{وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37] أي: يكظمون الغيظ، ويعفون عمن ظلمهم، يطلبون بذلك ثواب الله تعالى، وعفوه.
{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ} [الشورى: 38] أجابوه إلى ما دعاهم إليه، من توحيد الله تعالى، وعبادته، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] هي فعلى من المشاورة، وهي الأمر الذي يتشاور فيه، يقال: صار هذا الأمر شورى بين القوم، إذا تشاوروا فيه، والمعنى: أنهم يتشاورون فيما يبدو لهم، ولا يعجلون في الأمر، قال الحسن: والله ما تشاور قوم قط، إلا هداهم الله لأفضل ما بحضرتهم.
822 - أَخْبَرَنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْفَقِيهُ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا(4/57)
الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْجُمَحِيُّ، نا صَالِحٌ الْمُرِّيُّ، عَنْ سَعِيدٍ الْجَرِيرِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ خِيَارُكُمْ وَأَغْنِيَاؤُكُمْ سُمَحَاءُكُمْ وَأَمْرُكُمْ شُورَى بَيْنَكُمْ فَظَهْرُ الْأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَطْنِهَا، وَإِذَا كاَنَ أُمَرَاؤُكُمْ شِرَارَكُمْ وَأَغْنِيَاؤُكُمْ بُخَلاءَكُمْ وَأُمُورُكُمْ إِلَى نِسَائِكُمْ فَبَطْنُ الْأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ ظَهْرِهَا» .
قوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ} [الشورى: 39] الظلم والعدوان، هم ينتصرون ممن ظلمهم، قال عطاء: يعني المؤمنين الذين أخرجهم الكفار من مكة، وبغوا عليهم، ثم مكنهم الله في الأرض، حتى انتصروا ممن ظلمهم.
وقال ابن زيد: جعل الله المؤمنين صنفين: صنف يعفون عن ظالمهم، فبدأ بذكرهم، وهو قوله: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37] : وصنف ينتصرون من ظالمهم، وهم الذين ذكروا في هذه الآية.
ومن انتصر فأخذ بحقه، ولم يجاوز في ذلك ما حد الله تعالى له، فهو مطيع لله، ومن أطاع الله فهو محمود.
ثم ذكر حد الانتصار، فقال: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] قال مقاتل: يعني القصاص في الجراحات والدماء.
وقال مجاهد، والسدي: هو جواب القبيح إذا قال: أخزاك الله، يقول: أخزاك الله من غير أن يعتدي.
ثم ذكر العفو، فقال: فمن عفا أي: عمن ظلمه، وأصلح بالعفو بينه وبين ظالمه، {فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] ضمن الله تعالى له أجره بالعفو، وقال الحسن: إذا كان يوم القيامة، قام مناد، فنادى: من كان له على الله أجر فليقم، فلا يقوم إلا من عفا، ثم قرأ هذه الآية: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40] .
قال مقاتل: يعني من يبدأ بالظلم.
ثم ذكر المنتصر، فقال: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ} [الشورى: 41] بعد ظلم الظالم إياه، والمصدر ههنا مضاف إلى المفعول، كقوله: {مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} [فصلت: 49] ، وبسؤال نعجتك، فأولئك يعني: المنتصرين {مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41] بعقوبة ومؤاخذة.
{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} [الشورى: 42] قال(4/58)
ابن عباس: يريد: يبدءون بالظلم.
{وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: 42] يعملون فيها بالمعاصي.
ولمن صبر فلم ينتصر، {وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ} [الشورى: 43] الصبر والتجاوز، {لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: 43] قال مقاتل: من الأمور التي أمر الله بها.
وقال الزجاج: الصابر يؤتى بصبره ثوابا، فالرغبة في الثواب أتم عزم.
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ {44} وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ {45} وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ {46} } [الشورى: 44-46] .
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ} [الشورى: 44] عن الهدى، {فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ} [الشورى: 44] فما له من أحد يلي هدايته، بعد إضلال الله إياه، وترى الظالمين المشركين، {لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} [الشورى: 44] في الآخرة، يسألون الرجعة إلى الدنيا، يقولون: {هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 44] .
{وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} [الشورى: 45] على النار، قبل دخولهم النار، {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} [الشورى: 45] ساكنين، متواضعين، {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45] يعني: خفي النظر لما عليهما من الذل، يسارقون النظر إلى النار، خوفا منها، وذلة في أنفسهم، وعرف المؤمنون خسران الكافرين ذلك اليوم، فقالوا: {إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [الشورى: 45] بأن صاروا إلى النار، وأهليهم في الجنة، بأن صاروا لغيرهم، قال الله تعالى: {أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} [الشورى: 45] .
قوله: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ} [الشورى: 46] ظاهر.
قوله: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ {47} فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنْسَانَ كَفُورٌ {48} } [الشورى: 47-48] .(4/59)
استجيبوا لربكم أجيبوا داعي ربكم، يعني: محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ} [الشورى: 47] لا يقدر أحد على رده ودفعه، وهو يوم القيامة، {مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ} [الشورى: 47] تلجئون إليه، {وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} [الشورى: 47] إنكار وتغيير للعذاب.
قوله: فإن أعرضوا عن الإجابة، {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [الشورى: 48] تحفظ أعمالهم، وإنما أرسلناك داعيا ومبلغا، وهو قوله: {إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ} [الشورى: 48] ما عليك إلا أن تبلغهم، {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً} [الشورى: 48] قال ابن عباس: يعني الغنى والصحة.
فرح بها يعني: الكافر، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} [الشورى: 48] يعني: قحط المطر، {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [الشورى: 48] من الكفر، {فَإِنَّ الإِنْسَانَ كَفُورٌ} [الشورى: 48] أي: لما تقدم من نعمة الله عليه، ينسى ويجحد بأول شديدة جميع ما سلف من النعم.
{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ {49} أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ {50} } [الشورى: 49-50] .
{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الشورى: 49] له التصرف فيهما بما يريد، {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا} [الشورى: 49] يعني: البنات ليس فيهم ذكر، كما وهب للوط عليه السلام، لم يولد له إلا بنات، {وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49] يعني: البنين ليس معهم أنثى، كإبراهيم عليه السلام، لم يولد له إلا ذكور.
أو يزوجهم يعني: الإناث والذكور، يجعلهم أزواجا، وهو أن يولد للرجل ذكور وإناث، قال الحسن: يجمع لهم الإناث والذكران، كما جمع لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فإنه ولد له أربعة بنين وأربع بنات، {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشورى: 50] لا يولد له، كعيسى ويحيى عليهما السلام، والآية عامة، وهذه الأقسام موجودة في غير الأنبياء، وإنما ذكر الأنبياء تمثيلا، إنه عليم بما خلق، قدير على ما يشاء.
قوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ {51} وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {52} صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ {53} } [الشورى: 51-53] .
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا} [الشورى: 51] يريد الوحي في المنام، أو الإلهام، كما كان الأنبياء(4/60)
عليهم السلام، {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51] كما كلم موسى عليه السلام، يريد أن كلامه يسمع من حيث لا يرى، كما يرى سائر المتكلمين ليس إن ثم حجابا يفصل موضعا من موضع، فيدل ذلك على تحديد المحجوب، فهو بمنزلة ما يسمع من وراء حجاب، حيث لم ير المتكلم، {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا} [الشورى: 51] جبريل، أو غيره من الملائكة، فيوحي ذلك الرسول إلى المرسل إليه بإذن الله، ما يشاء الله، قال الزجاج: المعنى: أن كلام الله للبشر، إما أن يكون بإلهام يلهمهم الله، أو يكلمهم من وراء حجاب، كما كلم موسى، أو برسالة ملك إليهم، وتقدير الكلام: ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحي وحيا، أو يكلمه من وراء حجاب، أو يرسل رسولا.
ومن قرأ يرسل رفعا، أراد وهو يرسل، فهو ابتداء واستئناف، والوقف كاف على ما قبله.
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الشورى: 52] أي: فعلنا في الوحي إليك، كما فعلنا بالرسل من قبلك، {رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] قال مقاتل: يعين الوحي بأمرنا.
ومعناه: القرآن، لأنه يهتدى به، ففيه حياة من موت الكفر، {مَا كُنْتَ تَدْرِي} [الشورى: 52] قبل الوحي، {مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى: 52] لأنه كان لا يعرف القرآن قبل الوحي، وما كان يعرف شرائع الإيمان ومعالمه، وهي كلها إيمان، وهذا القول هو اختيار إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة، واحتج بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] يعني: الصلاة سماها إيمانا، وشيخنا الأستاذ أبو إسحاق، يقول في هذا التخصيص بالوقت، فقال: كان هذا قبل البلوغ، وحين كان طفلا في المهد ما كان يعرف الإيمان.
والحسين بن الفضل البجلي يجعل الآية من باب حذف المضاف، يقول: معناه: ولا أهل الإيمان، يعني: من الذي يؤمن، ومن الذي لا يؤمن؟ إجماع الأصوليين على أن الرسل قبل الوحي كانوا مؤمنين، ونبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعبد الله قبل الوحي على دين إبراهيم عليه السلام.(4/61)
823 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ النَّصْرَابَاذِيِّ، أنا الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ، أنا الْحُسَيْنُ بْنُ مُوسَى بْنِ خَلَفٍ الرَّسْعَنِيُّ، نا إِسْحَاقُ بْنُ زُرَيْقٍ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ، نا أَبُو سَيَّارٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَلْ عَبَدْتَ وَثَنًا قَطُّ؟ قَالَ: لا.
قَالُوا: هَلْ شَرِبْتَ خَمْرًا قَطُّ؟ قَالَ: لا، وَمَا زِلْتُ أَعْرِفُ أَنَّ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ كُفْرٌ، وَمَا كُنْتُ أَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ، وَلِذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى: 52] .
قوله: ولكن جعلناه يعني: القرآن، نورا يعني: ضياء، ودليلا على التوحيد والإيمان، {نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52] نرشده إلى الدين الحق، وإنك لتهدي قال ابن عباس، ومقاتل، والسدي، وقتادة: وإنك لتدعو.
فالهدى ههنا دعوة وبيان، والمعنى: وإنك لتدعو بما أوحينا إليك، إلى طريق مستقيم، يعني: الإسلام.
{صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي} [الشورى: 53] شرعه لعباده، الذي {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [الشورى: 53] ملكا وخلقا، {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى: 53] يعني: أمور الخلائق في الآخرة.(4/62)
تفسير سورة حم الزخرف
مكية، وهي ثمانون وتسع آيات.
824 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْعَزَايِمِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سَلْهَمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الزُّخْرُف كَانَ مِمَّنْ يُقَالُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا عِبَادِي، لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ، ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ".
بسم الله الرحمن الرحيم {حم {1} وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ {2} إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {3} وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ {4} أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ {5} } [الزخرف: 1-5] .
{حم {1} وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ {2} } [الدخان: 1-2] أقسم الله تعالى بالقرآن، الذي أبان طرق الهدى من طرق الضلالة، وأبان ما تحتاج إليه الأمة في الشريعة.
{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] أي: صيرنا قراءة هذا الكتاب عربيا، لأن من التنزيل ما هو عبري وسرياني، وكتاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ بالعربية، وهذا يدل على أنه إذا قرئ بغير العربية لا يكون قرآنا.
وإنه يعني: القرآن، {فِي أُمِّ الْكِتَابِ} [الزخرف: 4] في اللوح المحفوظ، قال الزجاج: أم الكتاب: أصل الكتاب، وأصل كل شيء أمه، والقرآن مثبت عند الله في اللوح المحفوظ، كما قال: {بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَجِيدٌ {21} فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ {22} } [البروج: 21-22] .
وقوله: لدينا قال ابن عباس: يريد الذي عندنا.
لعلي حكيم قال(4/63)
قتادة: يخبر عن منزلته وشرفه، وفضله، أي: إن كذبتم به يأهل مكة، فإنه عندنا رفيع شريف، محكم من الباطل.
قوله: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} [الزخرف: 5] يقال: ضربت عنه، وأضربت عنه، أي: تركته، وأمسكت عنه، والصفح مصدر قولهم: صفحت، عند إذا أعرضت عنه، وذلك أنك توليه صفحة وجهك وعنقك، والمراد بالذكر ههنا القرآن، قال الكلبي: يقول الله لأهل مكة: أفنترك عنكم الوحي صفحا، فلا نأمركم ولا ننهاكم، ولا نرسل إليكم رسولا؟ وهذا استفهام معناه الإنكار، أي: لا نفعل ذلك، ومعنى الآية: أفنمسك عن إنزال القرآن ونهملكم، فلا نعرفكم ما يجب عليكم، من أجل أنكم أسرفتم في كفركم؟ وهو قوله: {أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف: 5] والمعنى: لأن كنتم، والكسر في إن على أنه جزاء استغنى عن جوابه بما تقدمه، كما تقول: أنت ظالم إن فعلت كذا.
قال الفراء: ومثله {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ} [المائدة: 2] بالفتح والكسر، وقد تقدم.
ثم عزى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بقوله: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ {6} وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ {7} فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ {8} } [الزخرف: 6-8] .
{وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ} [الزخرف: 6] إلى قوله: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا} [الزخرف: 8] أقوى من قومك، يعني: الأولين الذين أهلكوا بتكذيبهم الرسل، {وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} [الزخرف: 8] سبق فيما أنزلنا إليك تشبيه حال الكفار الماضية بحال هؤلاء في التكذيب، ولما أهلكوا أولئك بتكذيبهم، فعاقبة هؤلاء أيضا إلى هلاك.
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ {9} الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ {10} وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا(4/64)
بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ {11} وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ {12} لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ {13} وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ {14} } [الزخرف: 9-14] .
ولئن سألتهم سألت قومك، {مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9] أقروا بعزتي وعلمي، وهذا إخبار عن غاية جهلهم، إذ أقروا بأن الله خلق السموات والأرض، ثم عبدوا معه غيره، وأنكروا قدرته على البعث، وقد تم الإخبار عنهم.
ثم ابتدأ جل وعز دالا على نفسه بصنيعه، فقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا} [الزخرف: 10] وتفسير هذه الآية قد سبق في { [طه، وقوله:] لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة الزخرف: 10] لكي تهتدوا في أسفاركم إلى مقاصدكم.
{وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} [الزخرف: 11] قال ابن عباس: يريد ليس كما أنزل على قوم نوح بغير قدر، حتى أغرقهم وأهلكهم، بل هو بقدر، حتى يكون معاشا لكم، ولأنعامكم.
{وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا} [الزخرف: 12] الأصناف والضروب والألوان، والذكر والأنثى، وكل هذا قول للمفسرين، {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف: 12] في البحر، والبر.
{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف: 13] على ظهور ما جعل لكم، فالكناية تعود إلى لفظ ما، {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف: 13] يعني: النعمة بتسخير ذلك المركب في البر والبحر، قال مقاتل، والكلبي: هو أن يقول: الحمد لله الذي رزقني هذا، وحملني عليه.
{وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} [الزخرف: 13] ذلل لنا هذا المركب، قال قتادة: قد علمكم كيف تقولون إذا ركبتم.
{وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13] قال ابن عباس: يريد: ولا طاقة لنا بالإبل، ولا بالفلك، ولا بالبحر لولا أن الله تعالى سخره لنا.
ومعنى المقرن: المطيق، يقال: أقرنت هذا البعير، أي: أطقته.
825 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْفَارِسِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَطِيَّةَ، نا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، نا رَوْحٌ، نا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَلِيًّا الْأَزْدِيَّ أَخْبَرَهُ، أَنَّ ابْنَ(4/65)
عُمَرَ عَلَّمَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارِجًا فِي سَفَرِهِ كَبَّرَ ثَلاثًا، وَقَالَ: " {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13] {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 14] اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، وَالْعَمَلَ بِمَا تَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ ".
وَإِذَا رَجَعَ، قَالَ: «آيِبُونَ تَائِبُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ» .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ هَارُونَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ الْحَنْظَلِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنْ رَوْحٍ.
ثم رجع إلى ذكر الكفار الذين قدم ذكرهم، فقال: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ {15} أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ {16} وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ {17} أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ {18} } [الزخرف: 15-18] .
{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} [الزخرف: 15] حكموا بأن بعض العباد، وهم الملائكة، له أولاد، ومعنى الجعل ههنا: الحكم بالشيء، وهذا معنى قول ابن عباس، ومجاهد، والحسن، قالوا: زعموا أن الملائكة بنات الله.
تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وقال الأزهري: ومعنى الآية: أنهم جعلوا لله من عباده نصيبا على معنى أنهم جعلوا نصيب الله من الولد.
إن الإنسان يعني: الكافر، لكفور جحود لنعم الله، مبين ظاهر الكفران.
ثم أنكر عليهم هذا، فقال: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} [الزخرف: 16] وهذا استفهام توبيخ وإنكار، يقول: أتخذ ربكم لنفسه البنات؟ وأصفاكم أخلصكم، بالبنين كقوله: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ} [الإسراء: 40] الآية.
ثم زاد في الاحتجاج عليهم بقوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلا} [الزخرف: 17] بما جعل لله شبها، وذلك أن ولد كل شيء شبيهه وجنسه، والآية مفسرة في { [النحل.
ثم وبخهم بما افتروه، فقال:] أَوَمَنْ يُنَشَّأُ(4/66)
فِي الْحِلْيَةِ} [سورة الزخرف: 18] قال المبرد: تقدير الآية: أوتجعلون له من ينشأ في الحلية؟ يعني: البنت تنبت في الزينة، وقرأ حمزة: ينشأ بالتشديد على غير تسمية الفاعل، وهو رديء، لأنه لم يحك في اللغة نشأ بمعنى أنشأ، إلا أن قال: إنه في القياس بلغ وأبلغ، وفرج وأفرج.
{وَهُوَ فِي الْخِصَامِ} [الزخرف: 18] يعني: المخاصمة، غير مبين للحجة، قال قتادة: قل ما تتكلم امرأة بحجتها، إلا تكلمت بالحجة عليها.
{وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ {19} وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ {20} أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ {21} بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ {22} } [الزخرف: 19-22] وجعلوا الملائكة الجعل ههنا بمعنى القول، والحكم على الشيء، كما تقول: جعلت زيدا أفضل الناس، أي: وصفته بذلك، وحكمت به، {الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ} [الزخرف: 19] وقرئ: عند الرحمن وكل صواب، وقد جاء التنزيل بالأمرين جميعا في وصف الملائكة، وذلك قوله: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] ، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [الأعراف: 206] ، وفي قوله: عند الرحمن دلالة على رفع(4/67)
المنزلة، والقربة من الكرامة، وقوله: إناثا يعني قولهم: الملائكة بنات الله، قال الله تعالى: أشهدوا خلقهم من الشهادة التي هي بمعنى الحضور، وبخوا على ما قالوا ما لم يشاهدوا، مما يعلم بالمشاهدة، وقرأ نافع: أو أشهدوا خلقهم على أفعلوا من الإشهاد، وقبلها همزة الاستفهام، وتخفيف الهمزة الثانية على معنى: أحضروا خلقهم حتى علموا أنهم إناث؟ وهذا كقوله: {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ} [الصافات: 150] ، قال ابن عباس: يريد: أحضروا أم عاينوا خلقهم؟ وقال الكلبي، ومقاتل: لما قالوا هذا القول، سألهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: «وما يدريكم أنهم إناث؟» قالوا: سمعنا من آبائنا، ونحن نشهد أنهم لم يكذبوا أنهم إناث.
فقال الله تعالى: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 19] عنها في الآخرة.
{وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20] يعني: بني مليح من خزاعة، كانوا يعبدون الملائكة، {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} [الزخرف: 20] أي: بما قالوا من قولهم: الملائكة إناث، وهم بنات الله، أخبر الله تعالى أنهم لم يقولوا ذلك عن علم، وأنهم كذبوا في ذلك، وهو قوله: {إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 20] أي: ما هم إلا كاذبون فيما قالوا، ولم يتعرض لقولهم: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20] بشيء، قال صاحب النظم: لأن هذا القول من الكفار حق، وإن كان من الكفار.
وهذا كقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل: 35] .
وإن جعلت قوله: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} [الزخرف: 20] ردا لقولهم: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20] كان المعنى: أنهم قالوا: إن الله قررنا على عبادتها، فلا يعاقبنا، لأنه رضي بذلك منا.
وهذا كذب منهم، لأن الله تعالى وإن أراد كفر الكافر لا يرضاه، وتقريره الكافر على كفره، لا يكون(4/68)
رضا منه.
قوله: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ} [الزخرف: 21] يقول: هل أعطيناهم كتابا من قبل القرآن، بأن يعبدوا غير الله، {فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} [الزخرف: 21] يأخذون بما فيه؟ ثم أعلم أنهم اتبعوا ملة آباءهم في الضلالة، فقال: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22] على سنة وملة، ودين، {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22] جعلوا أنفسهم باتباع آبائهم مهتدين، وليست لهم حجة إلا تقليد آبائهم.
ثم أخبر الله أن غيرهم قال هذا القول.
فقال: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ {23} قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ {24} فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ {25} } [الزخرف: 23-25] .
وكذلك أي: وكما قالوا، {مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا} [الزخرف: 23] ملوكها وأغنياؤها، ورؤساؤها: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] بهم.
فقال الله تعالى لنبيه عليه السلام، قال: {أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف: 24] قال الزجاج: قل لهم: أتتبعون ما وجدتم عليه آباءكم، وإن جئتكم بأهدى منه؟ فأبوا أن يقبلوا ذلك، {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ} [الزخرف: 24] أيها الرسل، كافرون.
ثم ذكر ما فعل بالأمم المكذبة، تخويفا لهم، فقال: فانتقمنا منهم الآية، يعني: ما صنع بقوم نوح، وعاد، وثمود.
قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ {26} إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ {27} وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ {28} } [الزخرف: 26-28] .
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ} [الزخرف: 26] يعني: حين خرج من المسرب، وهو ابن سبع عشرة سنة، رأى قومه وأباه يعبدون الأصنام، فقال لهم: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف: 26] والبراء: مصدر لا يثنى، ولا يجمع، ويريد بالمصدر الفاعل.
ثم استثنى خالقه من البراء، فقال: {إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 27] يرشدني لدينه.
وجعلها وجعل كلمة التوحيد، وهى لا إله إلا الله، {كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف: 28] في ذرية إبراهيم، ونسله، قال قتادة: لا يزال في ذريته من يعبد الله ويوحده.
لعلهم يرجعون لعل أهل مكة يتبعون هذا الدين، ويرجعوه إلى دينك دين إبراهيم، إذ كانوا من ولده، قال السدي: لعلهم يتوبون، ويرجعون عما هم عليه إلى عبادة(4/69)
الله.
ثم ذكر نعمته على قريش، فقال: {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ {29} وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ {30} وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ {31} أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ {32} وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ {33} وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ {34} وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ {35} } [الزخرف: 29-35] .
{بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ} [الزخرف: 29] يعني: المشركين، يقول: أمتعتهم بأنفسهم وأموالهم، وأنواع النعم، ولم أعاجلهم بعقوبة كفرهم، {حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ} [الزخرف: 29] يعني: القرآن، ورسول مبين يبين لهم الأحكام والدين، وكان من حق هذا الإنعام أن يطيعوا الرسول بإجابته، فلم يجيبوه، وعصوا.
وهو قوله: {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ} [الزخرف: 30] يعني: القرآن، {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف: 30] .
{وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] يعنون: الوليد بن المغيرة بمكة، وعروة بن مسعود الثقفي بالطائف.
فقال الله عز وجل ردا عليهم، وإنكارا لما قالوا: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32] يعني: النبوة، وذلك أنهم اعترضوا على الله بقولهم: لم لم ينزل هذا القرآن على غير محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فبين الله أنه هو الذي يقسم النبوة لا غيره، قال مقاتل: يقول: أبأيديهم مفاتيح الرسالة، فيضعونها حيث شاءوا؟ ثم قال: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف: 32] أي: قسمنا الرزق في المعيشة، وليس لأحد أن يتحكم في شيء من ذلك، فكما فضلنا بعضهم على بعض في الرزق، كذلك اصطفينا للرسالة من نشاء، ومعنى الآية: إنا تولينا قسم معايشهم، فكذلك تولينا قسم النبوة.
826 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَبْدَانَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَايِعُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الشَّيْبَانِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، أنا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، نا أَبَانُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الصَّبَّاحِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ(4/70)
نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} [الزخرف: 32] الآية.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ قَسَّمَ بَيْنَكُمْ أَخْلاقَكُمْ كَمَا قَسَّمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ وَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ أَحَبَّ وَمَنْ لا يُحِبُّ، وَلا يُعْطِي الدِّينَ إِلا مَنْ أَحَبَّ فَمَنْ أَعْطَاهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ.
وقال قتادة في قوله: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} [الزخرف: 32] : تلقى الرجل ضعيف الحيلة، عيي اللسان، وهو مبسوط له في الرزق، وتلقاه شديد الحيلة، بسط اللسان، وهو مقتر عليه.
وقوله: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف: 32] يعني: الفضل في الغنى والمال، {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32] ليستخدم بعضهم بعضا، فيتسخر الأغنياء بأموالهم الفقراء، ليلتئم قوام أمر العالم، وقال قتادة: ليملك بعضهم بما لهم بعضا، فيتخذونهم عبيدا ومماليك.
وقوله: {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32] يعني: الجنة للمؤمنين خير مما يجمع الكفار من الدنيا، أي: النبوة لك خير من أموالهم التي يجمعونها.
ثم أخبر عن قلة الدنيا عنده، فقال: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الزخرف: 33] لولا أن يجتمعوا على الكفر، {لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ} [الزخرف: 33] لهوان الدنيا عندنا، {لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} [الزخرف: 33] يعني: سماء البيت، وهو واحد يدل على الجمع، وعلم بقوله: لبيوتهم أي: أن لكل بيت سقفا، وقرئ: سقفا وهو جمع سقف، مثل رهن ورهن، وفرس ورد، وخيل ورد، ومعارج يعني: الدرج، عليها يظهرون يرتقون ويعلون، يقال: ظهر على البيت وعلى السطح، إذا علاه.
ولبيوتهم أبوابا أي: من فضة، وسررا من فضة، وهو جمع سرير، عليها يتكئون من الاتكاء، وهو التحامل على الشيء.
وزخرفا كلهم قالوا: إنه الذهب.
والمعنى: ونجعل لهم مع ذلك ذهبا وغنى، ومعنى الآية: لولا أن تميل الدنيا بالناس، فيصير الخلق كفارا، لأعطى الله(4/71)
الكافر في الدنيا غاية ما يتمنى فيها، لقلتها عنده، ولكنه عز وجل لم يفعل ذلك، لعلمه بأن الغالب على الخلق حب العاجلة، ثم أخبر أن جميع ما ذكر إنما يتمتع به في الدنيا، فقال: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف: 35] الفراء على تخفيف لما وهو لغو، والمعنى: لمتاع الحياة الدنيا، وقرأ حمزة: لما بالتشديد، جعله في معنى إلا، حكى سيبويه: نشدتك الله لما فعلت، بمعنى: إلا فعلت، ويقوي هذه القراءة أن في حرف أُبَيِّ: وما ذلك إلا متاع الحياة الدنيا قال ابن عباس: يزول ويذهب.
وقال مقاتل: يتمتعون فيها قليلا.
والآخرة يعني: الجنة، {عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 35] خاصة لهم.
قوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ {36} وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ {37} حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ {38} وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ {39} } [الزخرف: 36-39] .
{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} [الزخرف: 36] يعرض عن القرآن، ويقال: عشوت إلى النار أعشو عشوا، أي: قصدتها مهتديا بها، وعشوت عنها: أعرضت عنها، كما تقول: عدلت إلى فلان، وعدلت عنه، وملت إليه، وملت عنه، قال الزجاج: معنى الآية: أن من أعرض عن القرآن وما فيه من الحكمة، إلى أباطيل المضلين، نعاقبه بشيطان، نقيضه له حتى يضله، ويلازمه قرينا له، فلا يهتدي، مجازاة له حين آثر الباطل على الحق البين.
وهو قوله: {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36] صاحب له، يزين له العمى، ويخيل إليه أنه على الهدى، وهو على الضلالة.
وذلك قوله: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} [الزخرف: 37] وإن الشياطين ليمنعونهم عن سبيل الهدى، وجمع الكناية، لأن قوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} [الزخرف: 36] في مذهب جمع، وإن كان اللفظ على الواحد، {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 37] يحسب كفار بني آدم أنهم على هدى.
827 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، أنا أَبُو يَعْلَى، نا مُحَرِزُ بْنُ عَوْنٍ، نا عُثْمَانُ بْنُ مَطَرٍ، نا(4/72)
عَبْدُ الْغَفُورِ، عَنْ أَبِي نَضِيرٍ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " عَلَيْكُمْ بِلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَالاسْتِغْفَارِ، فَأَكْثِرُوا مِنْهُمَا، فَإِنَّ إِبْلِيسَ قَالَ: أَهْلَكْتُ النَّاسَ بِالذُّنُوبِ، وَأَهْلَكُونِي بِلا إِلَهَ إلا اللَّهُ وَالاسْتِغْفَارِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ أَهْلَكْتُهُمْ بِالْأَهْوَاءِ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ".
قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا} [الزخرف: 38] يعني: الكافر، وقرئ: جاآنا يعني: الكافر وشيطانه، جعلا في سلسلة واحدة، وروى معمر عن الجريري، قال: بلغنا أن الكافر إذا بعث يوم القيامة من قبره، أخذ بيده شيطان، فلم يفارقه حتى يصيرهما الله إلى النار.
فذلك حيث يقول: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} [الزخرف: 38] بعد ما بين المشرق والمغرب، فغلب لفظ المشرق، كما قالوا: القمران، والعمران، فبئس القرين أنت أيها الشيطان.
ويقول الله تعالى في ذلك اليوم للكفار: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ} [الزخرف: 39] أشركتم في الدنيا، {أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف: 39] قال المفسرون: لا يخفف الاشتراك عنهم شيئا من العذاب، لأن لكل واحد من الكفار والشياطين الحظ الأوفر من العذاب.
ثم ذكر أنه لا ينفع الدعوة والوعظ من سبقت له الشقاوة، فقال: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ {40} فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ {41} أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ {42} فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {43} وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ {44} } [الزخرف: 40-44] .
{أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ} [الزخرف: 40] قال ابن عباس: يريد أنهم لا يعقلون ما جئت به، ولا يبصرونه، لأن من أعميت قلبه لم يهتد.
{وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزخرف: 40] يريد من ظهرت ضلالته بتكذيب الصادق الأمين.(4/73)
قوله: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ} [الزخرف: 41] بأن نميتك قبل أن نريك النقمة في كفار مكة، {فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} [الزخرف: 41] بالقتل بعدك.
أو نرينك في حياتك، ما وعدناهم من العذاب بالذل، والقتل، {فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} [الزخرف: 42] يقول الله تعالى لنبيه عليه السلام مطيبا قلبه: إن ذهبنا بك انتقمنا لك، ممن كذبك بعدك، أو أريناك في حياتك ما وعدناهم من العذاب، فإنا قادرون عليهم، متى شئنا عذبناهم.
ثم أري ذلك يوم بدر.
ثم أمره بالتمسك بالقرآن، فقال: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف: 43] يعني: دين الإسلام.
وإنه وإن القرآن الذي أوحي إليك، {لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] شرف لك بما أعطاك الله من الحكمة، ولقومك المؤمنين بما هداهم به، حتى أدركوا الحق.
وروى الضحاك، عن ابن عباس: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا سئل: لمن هذا الأمر بعدك؟ لم يخبر بشيء، حتى نزلت هذه الآية، فكان بعد ذلك إذا سئل، قال: «لقريش» .
فهذا يدل على أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهم من هذا أنه يلي على المسلمين بحكم النبوة وشرف القرآن، ثم قومه من قريش يخلفونه في الولاية، بشرف القرآن الذي أنزل على رجل منهم، ومذهب مجاهد: أن القرآن ههنا العرب، والقرآن لهم شرف إذ أنزل بلغتهم، ثم يختص بذلك الشرف الأخص فالأخص من العرب، حتى يكون الشرف أكثر لقريش من غيرهم، ثم لبني هاشم.
وسوف تسألون عن شكر ما جعله الله لكم من الشرف، قاله الكلبي، والزجاج.
وقال غيرهما: تسألون عن القرآن، وعما يلزمكم من القيام بحقه.
قوله: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ {45} وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ {46} فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا(4/74)
يَضْحَكُونَ {47} وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ {48} } [الزخرف: 45-48] .
{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} [الزخرف: 45] الآية.
قال عطاء، عن ابن عباس: لما أسري بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بعث الله له آدم ومن ولد من المرسلين، فأذن جبريل، ثم أقام وقال: يا محمد، تقدم فصل بهم.
فلما فرغ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الصلاة، قال له جبريل: سل يا محمد {مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} [الزخرف: 45] الآية.
فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا أسأل، قد اكتفيت» .
وهذا قول الزهري، وسعيد بن جبير، وابن زيد، قالوا: جمع له الرسل ليلة أسري به، فلقيهم، وأمر أن يسألهم، فلم يشكك، ولم يسأل.
وقال أكثر المفسرين: سل مؤمني أهل الكتاب، الذين أرسلت إليهم الأنبياء: هل جاءتهم الرسل إلا بالتوحيد؟ وعلى هذا قال الزجاج: المعنى: سل أمم من أرسلنا؟ فحذف المضاف.
وقال ابن الأنباري: سل أتباع من أرسلنا.
ومعنى الأمر بالسؤال: التقرير لمشركي قريش، بأنه لم يأت رسول، ولا كتاب بعبادة غير الله.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} [الزخرف: 46] إلى قوله: {إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ} [الزخرف: 47] أي: يهزءون بآياته، ويضحكون منها، جهلا وغفلة.
{وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} [الزخرف: 48] يعني: ما ترادف عليهم من الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والطمس وكانت كل آية من هذه الآيات أكبر من(4/75)
التي قبلها، وهي العذاب المذكور في قوله: وأخذناهم بالعذاب لأنهم عذبوا بهذه الآيات، فكانت عذابا لهم، ودلالات لموسى عليه السلام، فغلب عليهم الشقاء، ولم يؤمنوا.
{وَقَالُوا يَأَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ {49} فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ {50} } [الزخرف: 49-50] .
{وَقَالُوا يَأَيُّهَا السَّاحِرُ} [الزخرف: 49] قال الكلبي: يأيها العالم، وكان الساحر فيهم عظيما يعظمونه، ولم يكن صفة ذم.
وقال الزجاج: خاطبوه بما تقدم له عندهم من التسمية بالساحر.
{ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} [الزخرف: 49] فيمن آمن به من كشف العذاب عنه، إننا لمهتدون مؤمنون بك.
فدعا موسى ربه، فكشف عنهم، فلم يؤمنوا، فذلك قوله: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} [الزخرف: 50] العهد الذي عاهدوا موسى.
{وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ {51} أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ {52} فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ {53} فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ {54} فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ {55} فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ {56} } [الزخرف: 51-56] .
ونادى فرعون إلى قوله: وهذه الأنهار يعني: أنهار النيل، {تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف: 51] أراد: من تحت قصوري، وقال قتادة: بين يدي في جناني.
وقال الحسن: بأمري.
وعلى هذا معناه: تجري تحت أمري، أفلا تبصرون عظمتي، وشدة ملكي، وفضلي على موسى.(4/76)
قال قتادة: افتخر عدو الله بملكه، وقال: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ} [الزخرف: 52] أي: بل أنا خير وأفضل، {مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} [الزخرف: 52] ضعيف حقير.
يعني: موسى {وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 52] الكلام، يعني: آفة بلسانه، وهي اللثغة التي كانت بلسان موسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} [الزخرف: 53] هلا حلي بأ { [الذهب إن كان عظيما، وكان الرجل فيهم إذا سودوه سوروه بسوار، وطوقوه بطوق من ذهب، أي: إن كان سيدا تجب طاعته، هلا سور،] أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [سورة الزخرف: 53] متتابعين، يعينوه على أمره الذي بعث له، ويشهدون له بصدقه.
فاستخف فرعون، قومه القبط، أي: حملهم على خفة الجهل بكيده وغروره، فأطاعوه على تكذيب موسى، وقبلوا قوله، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف: 54] عاصين لله.
قوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا} [الزخرف: 55] قال المفسرون: أغضبونا.
والأسف الغضب، ذكرنا ذلك عند قوله: غضبان أسفا.
أخبرني محمد بن عبد العزيز المروزي، فيما كتب إلي أن أبا الفضل الحدادي أخبرهم، عن محمد بن يزيد، أنا إسحاق بن إبراهيم، أنا عبد الرزاق، نا معمر، عن سماك بن الفضل، قال: كنا عند عروة بن الزبير، وإلى جانبه وهب بن منبه، فجاء قوم فشكوا عاملهم، وذكروا منه شيئا قبيحا، فتناول وهب عصا كانت في يد عروة، فضرب بها رأس العامل، حتى سال دمه، فضحك عروة، واستلقى على قفاه، وقال: يعيب علينا أبو عبد الله الغضب، وهو يغضب.
فقال وهب: وما لي لا أغضب، وقد غضب الذي خلق الأحلام، إن الله يقول: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55] ، يقول: أغضبونا.
أخبرنا محمد بن إبراهيم بن محمد بن يحيى، أنا أبو بكر ابن الأنباري، نا محمد بن أبي العوام، يقول:(4/77)
سمعت أبي، يقول: سمعت شعيب بن حرب، يقول: قال عمر بن ذر: يا أهل المعاصي، لا تغتروا بطول حلم الله عز وجل عنكم، فاحذروا أسفه، فإنه قال عز من قائل: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الزخرف: 55] .
فجعلناهم سلفا جمع سالف، مثل خادم وخدم، وحارس وحرس، يقال: سلف يسلف سلوفا، إذا تقدم ومضى.
قال الفراء، والزجاج، يقول: جعلناهم متقدمين، ليتعظ بهم الآخرون.
وقرأ حمزة: سلفا بالضم، وهو جمع سليف من سلف بضم اللام، أي: تقدم، فهو سليف، ومثلا للآخرين أي: عبرة وعظة لمن بقي بعدهم، والمعنى: أن حال غيرهم يشبه حالهم، إذا أقاموا على العصيان.
قوله: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ {57} وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ {58} إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ {59} وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ {60} وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ {61} وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ {62} } [الزخرف: 57-62] .
{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا} [الزخرف: 57] أكثر المفسرين على أن هذه الآية نزلت في مجادلة ابن الزبعري مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لما نزل قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء: 98] الآية.
وقد ذكرنا تلك القصة، قال مقاتل: ولما وصف ابن مريم شبها في العذاب بالآلهة، أي: فيما قالوه وعلي زعمهم.
لأن الله تعالى لم يذكر عيسى ابن مريم عليه السلام في تلك الآية، ولم(4/78)
يرده بقوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء: 98] الآية، وإنما أراد أوثانهم، ولكنهم ألزموه عيسى جدالا، وعنتا، وضربوه مثلا لآلهتهم، وشبهوه بها في أنه معبود للنصارى من دون الله، وقوله: {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57] يعني: قومه الكفار، كانوا يضجون ضجيج المجادلة حيث خاصموه، وقالوا: رضينا أن تكون آلهتنا بمنزلة عيسى.
وهو قوله: {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} [الزخرف: 58] أي: ليست آلهتنا خيرا من عيسى، فإن كان عيسى في النار بأنه يعبد من دون الله فكذلك آلهتنا، وقرئ يصدون بكسر الصاد وضمها، قال الفراء، والزجاج، والأخفش، والكسائي: هما لغتان، معناهما: يضجون.
قال الله تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا} [الزخرف: 58] قال مقاتل: ما وصفوا لك ذكر عيسى إلا ليجادلوك به، لأنهم قد علموا أن المراد بحصب جهنم ما اتخذوه من الموات، ثم ذكر أنهم أصحاب خصومات، فقال: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58] .
ثم ذكر عيسى، فقال: {إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} [الزخرف: 59] أي: بالنبوة، {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف: 59] آية وعبرة لهم، يعرفون به قدرة الله على ما يريد، حيث خلقه من غير أب، فهو مثل لهم يشبهون به ما يرون من أعاجيب صنع الله.
ثم خاطب كفار مكة، فقال: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً} [الزخرف: 60] أي: لو نشاء أهلكناكم، وجعلنا بدلا منكم ملائكة، {فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف: 60] يكونون خلفا منكم، قال الأزهري: ومن قد تكون للبدل، كقوله: جعلنا منكم، يريد: بدلا منكم.
ثم رجع إلى ذكر عيسى، فقال: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف: 61] يعني: نزول عيسى من أشراط الساعة، يعلم به قربها، {فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا} [الزخرف: 61] قال ابن عباس: لا تكذبون بها.
واتبعون على التوحيد، هذا الذي أنا عليه، صراط مستقيم من دين إبراهيم.
قوله: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ(4/79)
وَأَطِيعُونِ {63} إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ {64} فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ {65} هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ {66} الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ {67} } [الزخرف: 63-67] .
{وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى} [الزخرف: 63] بني إسرائيل، بالبينات قال قتادة، ومقاتل: يعني: الإنجيل.
وهو قوله: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ} [الزخرف: 63] وقال عطاء: يريد النبوة.
{وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} [الزخرف: 63] قال مجاهد: يعني: من أحكام التوراة.
وقال ابن عباس: ما تختلفون فيه من أمري، وأمر دينكم.
وقال قتادة: يعني: اختلاف الفرق الذين تحزبوا في أمر عيسى.
وقال الزجاج: الذي جاء به عيسى في الإنجيل، وإنما هو بعض الذي اختلفوا فيه، وبين لهم في غير الإنجيل ما احتاجوا إليه.
وما بعد هذا مفسر فيما مضى إلى قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ} [الزخرف: 66] أي: هل يرتقبون إلا القيامة، يعني: أن تأتيهم لا محالة، فكأنهم يرتقبونها، وإن كانوا أمواتا فهم أيضا يرتقبونها، ولكن لا يدري، متى تفجأ؟ وهو قوله: {أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الزخرف: 66] .
الأخلاء في الدنيا، يومئذ يوم تأتي الساعة، {بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [الزخرف: 67] يعني: أن الخلة إذا كانت على المعصية والكفر، صارت عداوة يوم القيامة، إلا المتقين يعني: الموحدين المؤمنين، الذين يخال بعضهم بعضا على الإيمان والتقوى، فإن خلتهم لا تصير عداوة.
قوله: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ {68} الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ {69} ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ {70} يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {71} وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {72} لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ {73} } [الزخرف: 68-73] .
{يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [الزخرف: 68] قال مقاتل: إذا وقع الخوف يوم القيامة، نادى مناد: يا(4/80)
عبادي لا خوف عليكم، أي: من عذاب اليوم، فإذا سمعوا النداء، رفع الخلائق رءوسهم.
فيقال: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف: 69] فينكس أهل الأديان رءوسهم غير المسلمين.
ويقال لهم: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف: 70] تكرمون، وتنعمون.
{يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ} [الزخرف: 71] جمع صحفة، وهي القصعة الواسعة العريضة، وأكواب جمع كوب، وهو إناء مستدير مدور الرأس، لا عرى لها، وفيها ما تشتهي الأنفس، وقرئ: تشتهيه بالهاء، وحذف الهاء ههنا كإثباتها، وأكثر ما جاء في التنزيل حذف الهاء من الصلة، كقوله: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا} [الفرقان: 41] ، {وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] ، وإنما صنعوا كيد سحر، والأصل إثبات الهاء، والحذف حسن كثير، وقد جاءت مثبتة كقوله: {إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275] ، وقوله: وتلذ الأعين يقال: لذذت الشيء ألذه، مثل استلذذته، والمعنى: أنه ما من شيء اشتهته نفس، أو استلذته عين، إلا وهو في الجنة، وقد عبر الله تعالى بهذين اللفظين عن جميع نعيم أهل الجنة، فإنه ما من نعمة إلا وهي نصيب النفس، أو العين، ثم تمم هذه النعم بقوله: {وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف: 71] لأنها لو انقطعت لم تطب.
وتلك الجنة يعني: الجنة التي ذكرها في قوله: ادخلوا الجنة، التي أورثتموها قال ابن عباس: الكافر يرث نار المؤمن، والمؤمن يرث جنة الكافر.
وهذا كقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} [المؤمنون: 10] وقد تقدم.
{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ {74} لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ {75} وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ {76} وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ {77} لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ {78} أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ {79} أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ {80} } [الزخرف: 74-80] .
وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: وما ظلمناهم أي: ما عذبناهم على غير ذنب، {وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76](4/81)
لأنفسهم، بما جنوا عليها من العذاب.
وقوله: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} [الزخرف: 77] يدعون خازن جهنم، {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77] الموت، والمعنى: أنهم توسلوا بمالك إلى الله تعالى، ليسأل لهم الموت، فيستريحوا من شدة العذاب، فيسكت عنهم، ولا يجيبهم أربعين سنة في قول عبد الله بن عمرو، والكلبي، ومقاتل.
وألف سنة فيما روي عن ابن عباس.
ثم يقول: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77] مقيمون في العذاب.
{لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ} [الزخرف: 78] يقول الله تعالى: أرسلنا إليكم يا معشر قريش محمدا رسولنا، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف: 78] قال ابن عباس: يريد: كلكم كارهون لما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا} [الزخرف: 79] بل أحكموا أمرا في كيد محمد، والمكر به، فإنا مبرمون محكمون في مجازاتهم، قال مجاهد: إن كادوا شرا، كدتهم مثله.
{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [الزخرف: 80] سرهم: ما يسرونه من غيرهم، ونجواهم: ما يتناجون به بينهم، بلى نسمع ذلك، ورسلنا من الملائكة، يعني: الحفظة، لديهم يكتبون.
قوله: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} [الزخرف: 81] في قولكم، وعلى زعمكم، {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 81] أول من عبد الله ووحده، والمعنى: فأنا أول الموحدين، لأن من عبد الله واعترف بأنه إلهه، فقد دفع أن يكون له ولد.
قال ابن قتيبة: لما قال المشركون: لله ولد.
ولم يرجعوا عن مقالتهم، بما أنزل الله على رسوله من التبرؤ من ذلك، قال الله عز وجل لرسوله: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ {81} سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ {82} فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ {83} } [الزخرف: 81-83] .
قل لهم، {إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} [الزخرف: 81] أي: عندكم، وفي ادعائكم، {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 81] أول الموحدين، ومن وحد الله فقد عبده، ومن جعل له ولدا أو ندا، فليس من العابدين، وإن اجتهد.(4/82)
وقال ابن عباس في رواية عطاء: إن كان للرحمن ولد كما تزعمون، فأنا أول من غضب للرحمن أن يقال: له ولد.
وعلى هذا القول العابد من العبد بمعنى الغضب، قال الفراء: عبد عليه، أي: غضب.
وروي أن سفيان بن عيينة سئل عن هذه الآية، فقال: يقول: فكما أني لست أول من عبد الله، فكذلك ليس لله ولد.
وهذا كما تقول: إن كنت كاتبا فأنا حاسب، تريد: لست أنت كاتبا ولا أنا حاسب.
ثم نزه نفسه، فقال: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الزخرف: 82] قال مقاتل: عما يقولون من الكذب.
فذرهم يعني: كفار مكة، حين كذبوا بالعذاب في الآخرة، يخوضوا في باطلهم، ويلعبوا في دنياهم، حتى يلاقوا يوم القيامة.
{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ {84} وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {85} وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {86} وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ {87} وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ {88} فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ {89} } [الزخرف: 84-89] .
{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] قال قتادة: يعبد في السماء، وفي الأرض، وهو إله واحد لا إله إلا الله.
وقال أبو علي الفارسي: المعنى عن الإخبار بإلهيته، لا عن الكون في السماء، أي: أنه تبارك اسمه يقصد بالعبادة في السماء والأرض.
وهو الحكيم في ملكه، العليم بخلقه.
ذكر أنه لا شفاعة لمعبوديهم عند الله، فقال: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ(4/83)
الشَّفَاعَةَ} [الزخرف: 86] ، ثم استثنى عيسى وعزيرا والملائكة، فقال: {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} [الزخرف: 86] قال قتادة: إنهم عبدوا من دون الله، ولهم عند الله شفاعة ومنزلة.
ومعنى شهد بالحق: شهد أنه لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وهم يعلمون بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم، وفي هذا دليل على أنه لا يتحقق إيمان، وشهادة حتى يكون ذلك عن علم بالقلب، لأن الله تعالى، شرط مع الشهادة العلم، وقد قال أصحابنا: إن شرط الإيمان طمأنينة القلب على ما اعتقده، بحيث لا يتشكك إذا شكك، ولا يضطرب إذا حرك.
{وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} [الزخرف: 88] قال قتادة: هذا نبيكم يشكو قومه إلى ربه.
وقال ابن عباس: شكا إلى ربه تخلف قومه عن الإيمان، قال: وتقدير الآية: أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم وقيله يا رب.
قال المبرد: العطف على المنصوب حسن، وإن تباعد المعطوف من المعطوف عليه.
ومن قرأ بكسر اللام فعلى معنى: وعندهم علم الساعة وعلم قِيله يَا رَبِّ، والقيل: مصدر كالقول، قال أبو عبيد: يقال: قلت قولًا، وقيلًا، وقالا.
{فَاصْفَحْ عَنْهُمْ} [الزخرف: 89] أعرض عنهم، وقل سلام قال عطاء: يريد مداراة حتى ينزل حكمي فيهم، ومعناه: المتاركة، كقوله: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55] .
فسوف يعلمون عاقبة كفرهم، وهذا تهديد، ومن قرأ بالتاء فعلى الأمر للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علم بأن يخاطبهم بهذا، قال مقاتل: نسخ السيف الإعراض والسلام.(4/84)
تفسير سورة حم الدخان
مكية، وهي خمسون وتسع آيات.
828 - أَخْبَرَنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَقْبُرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْيَرْبُوعِيُّ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الدُّخَانِ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ غُفِرَ لَهُ» .
بسم الله الرحمن الرحيم {حم {1} وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ {2} إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ {3} فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ {4} أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ {5} رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {6} } [الدخان: 1-6] {حم {1} وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ {2} } [الدخان: 1-2] قال ابن عباس: يريد القرآن، وما أنزل فيه من البيان، والحلال والحرام.
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3] يعني: ليلة القدر، قال مقاتل: كان ينزل من اللوح كل ليلة قدر من الوحي، على مقدار ما ينزل به جبريل في السنة إلى مثلها من العام، حتى نزل القرآن كله في ليلة القدر.
وقد ذكرنا بيان هذا عند قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ} [البقرة: 185] .
وقوله: فيها في تلك الليلة المباركة، يفرق يفصل ويبين، من قولهم: فرقت الشيء أفرقه فرقًا، {كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] والأمر الحكيم: المحكم، يعني: أمر السنة إلى مثلها من العام القابل.
قال ابن عباس: يكتب في أم الكتاب في ليلة القدر، ما هو كائن في السنة من الخير والشر، والأرزاق، والآجال، حتى الحجاج يقال: يحج فلا، ويحج فلان.
وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: إنك لترى الرجل يمشي في(4/85)
الأسواق، وقد وقع اسمه في الموتى.
{أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا} [الدخان: 5] قال الزجاج: أمرًا نصب ب يفرق بمنزلة فرقًا، لأن أمرًا بمعنى: فرقًا.
والمعنى أنا نأمر ببيان ذلك، ونسخه من اللوح المحفوظ، {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان: 5] محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن قبله من الأنبياء عليهم السلام.
{رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الدخان: 6] قال ابن عباس: رأفة مني بخلقي، ونعمة عليهم بما بعثنا إليهم من الرسل.
نصبه على أنه مفعول له على تقدير للرحمة، وقال الزجاج: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3] للرحمة.
{إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} [الدخان: 6] لمن دعاه، العليم بخلقه.
{رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ {7} لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ {8} بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ {9} } [الدخان: 7-9] .
{رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الدخان: 7] بالرفع على قوله: هو السميع العليم رب السموات، وبالخفض على البدل من ربك في قوله: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الدخان: 6] ، وما بينهما من الخلق والهواء، {إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الدخان: 7] بذلك، وهو أنه لا إله غيره.
بل هم يعني: الكفار، في شك من هذا القرآن، يلعبون يهزءون به، لاهين عنه، وقال ابن عباس: في ضلال يتمادون.
{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ {10} يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ {11} رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ {12} أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ {13} ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ {14} إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ {15} يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ {16} } [الدخان: 10-16] .
فارتقب فانتظر يا محمد، {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] وذلك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا على قومه لما كذبوه، فقال: «اللهم سبعًا كسنين يوسف» .
فأجديت الأرض، فأصابت قريشًا المجاعة، وكان الرجل لما به من الجوع يرى بينه وبين السماء كالدخان.
829 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ الْفَضْلِ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ العفار، أنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى الْبِرْتِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، نا سُفْيَانُ، نا الْأَعْمَشُ وَمَنْصُورٌ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: إِنَّ قُرَيْشًا أَبْطَئُوا عَنِ الْإِسْلامِ فَدَعَا عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ أَعِنِّي بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ، فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَتَّى هَلَكُوا فِيهَا، وَأَكَلُوا الْمَيْتَةَ وَالْعِظَامَ، وَيَرَى الرَّجُلُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ» ، فَجَاءَهُ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ جِئْتَ تَأْمُرُ بِصِلَةِ الرَّحِمِ وَقَوْمُكَ قَدْ هَلَكُوا، فَادْعُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ:(4/86)
{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] ".
{يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ {11} رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ {12} أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ {13} ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ {14} إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ {15} يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ {16} } قوله: {يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان: 11] إلى قوله: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان: 15] فكشف عنهم، ثم عادوا إلى الكفر، فذلك قوله: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} [الدخان: 16] وذلك يوم بدر.
رواه البخاري، عن محمد بن كثير.
قوله: يغشى الناس، من صفة قوله: بدخان، والناس هم أهل مكة، وهم الذين يقولون: {هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ {11} رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ} [الدخان: 11-12] الجوع والدخان، إنا مؤمنون بمحمد، والقرآن.
قال الله تعالى: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى} [الدخان: 13] التذكر والاتعاظ، يقول: كيف يتذكرون ويتعظون، وحالهم أنه {قَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ} [الدخان: 13] ظاهر الصدق، والدلالة.
{ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ} [الدخان: 14] أعرضوا عنه، ولم يقبلوا قوله، وقالوا معلم أي: هو معلم، يعلمه بشر، مجنون بادعائه النبوة.
قال الله تعالى: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ} [الدخان: 15] يعني: عذاب الجوع، قليلًا أي: زمانا يسيرا، قال مقاتل: يعني: إلى يوم بدر.
{إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان: 15] في كفركم، وتكذيبكم.
{يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} [الدخان: 16] أي: واذكر لهم ذلك اليوم، يعني: يوم بدر، وهذا قول الأكثرين، قالوا: لما كشف عنهم الجوع، عادوا إلى التكذيب، فانتقم الله منهم بيوم بدر.
وقال الحسن: البطشة الكبرى يوم القيامة.
وهو قول ابن عباس في رواية عكرمة.
ومعنى البطش: الأخذ بشدة، إنا منتقمون منهم ذلك اليوم.(4/87)
{وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ {17} أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ {18} وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ {19} وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ {20} وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ {21} } [الدخان: 17-21] .
{وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ} [الدخان: 17] بلونا قبل هؤلاء، قوم فرعون بإرسال موسى إليهم، وهو قوله: {وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} [الدخان: 17] على ربه، وقال مقاتل: حسن الخلق.
{أَنْ أَدُّوا} [الدخان: 18] بأن أدوا، {إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} [الدخان: 18] هذا من وقول موسى لفرعون وقومه، يقول: أطلقوا بني إسرائيل من العذاب والتسخير، فإنهم أحرار.
كما قال: {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: 105] ، {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الدخان: 18] على الرسالة.
{وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ} [الدخان: 19] لا تتجبروا عليه، بترك طاعته، {إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 19] بحجة بينة، تدل على صدقي.
فلما قال هذا، توعدوه بالقتل، فقال: {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ} [الدخان: 20] تقتلون.
{وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي} [الدخان: 21] لم تصدقوني، فاعتزلون فاتركوني، لا معي ولا علي، وقال ابن عباس: فاعتزلوا أذاي.
{فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ {22} فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ {23} وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ {24} كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ {25} وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ {26} وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ {27} كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ {28} فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ {29} } [الدخان: 22-29] .
فكفروا ولم يؤمنوا {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ} [الدخان: 22] بأن هؤلاء، قوم مجرمون قال الكلبي، ومقاتل: مشركون، لا يؤمنون.
فأجاب الله دعاه، وأمره أن يسري، وهو قوله: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلا} [الدخان: 23] يعني: من آمن به من بني إسرائيل، إنكم متبعون يتبعكم فرعون وقومه، أعلمه الله أنهم يتبعونهم، إذا سروا ليلًا لطلبهم.
ثم يكون ذلك سببًا لغرقهم {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} [الدخان: 24] أي: ساكنًا، والرهو: مشي في سكون، يقال: رها يرهو رهوًا فهو راه، ويقال لكل شيء ساكن، لا يتحرك: راه.
قال مجاهد: رهوًا ساكنًا كما هو، أي: كهيئته بعد أن ضربه.
يقول: لا تأمره يرجع، اتركه(4/88)
حتى يدخله آل فرعون وجنوده.
وقال قتادة: لما قطع موسى البحر، عطف ليضرب البحر بعصاه ليلتئم، وخاف أن يتبعه فرعون وجنوده، فقيل له: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} [الدخان: 24] أي: كما هو.
ونحو هذا قال مقاتل.
والمعنى: اترك البحر راهيًا، أي: ساكنًا على حاله، فسمي بالمصدر، أو يكون المعنى: ذا رهو، فحذف المضاف، وقال ابن عباس: اتركه طريقًا.
والرهو يكون بمعنى الفرجة بين الشيئين، قال الأصمعي: ونظر أعرابي إلى فالج، قال: سبحان الله رهو بين سنامين! ويكون المعنى على هذا: ذا رهو، أي: ذا فرجة، يعني: الطريق الذي أظهره فيما بين الماء، قوله: {إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} [الدخان: 24] أخبر الله موسى أنه يغرقهم، ليطمئن قلبه في ترك البحر كما جاوزه.
ثم ذكر ما تركوا بمصر من عقارهم، ومساكنهم، فقال: كم تركوا يعني: بعد الغرق، من جنات والآية مفسرة في { [الشعراء.
ونعمة وعيش لين رغد،] كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [سورة الدخان: 27] مفسر فيما تقدم.
كذلك قال الكلبي: كذلك أفعل بمن عصاني.
{وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان: 28] صيرناها إليهم، وأعطيناهم إياها، كما قال في الشعراء: {وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 59] .
{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} [الدخان: 29] .
830 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، أنا أَبُو بَحْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ كوثر، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عِيسَى الْعَطَّارُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ زَكَرِيَّا، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيِّ،(4/89)
عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبَانٍ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ إِلا وَلَهُ بَابَانِ بَابٌ يَصْعَدُ فِيهِ عَمَلُهُ وَبَابٌ يَنْزِلُ مِنْهُ رِزْقُهُ، فَإِذَا مَاتَ بَكَيَا عَلَيْهِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} [الدخان: 29] .
وفي غير هذه الرواية، أنهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملًا صالحًا تبكي عليهم، ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم، ولا من عملهم كلام طيب، ولا عمل صالح، فيفقدهم، ويبكي عليهم، وهذا قول جماعة المفسرين، قالوا: لم تبك عليهم مصاعد أعمالهم من السماء، ولا مواضع سجودهم من الأرض.
وقال مجاهد: ما مات مؤمن، إلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحًا.
{وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 29] لم ينظروا حين أخذهم العذاب لتوبة، ولا لغيرها.
{وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ {30} مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ {31} وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ {32} وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ {33} } [الدخان: 30-33] .
{وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [الدخان: 30] يعني: قتل الأبناء، واستخدام النساء، والتعب في العمل.
{مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ} [الدخان: 31] كان جبارًا عاصيًا من المشركين، والعالي في الإحسان صفة مدح، والعالي في الإساءة صفة ذم.
ولقد اخترناهم يعني: بني إسرائيل، على علم علمه الله فيهم، على العالمين على عالمي زمانهم.
{وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ} [الدخان: 33] يعني: فلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى، والنعم التي أنعمها عليهم، وهو قوله: {مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ} [الدخان: 33] أي: نعمة ظاهرة.
ثم رجع إلى ذكر كفار مكة، فقال: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ {34} إِنْ هِيَ إِلا مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ {35} فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {36} أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ {37} } [الدخان: 34-37] .
{إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ {34} إِنْ هِيَ إِلا مَوْتَتُنَا الأُولَى} [الدخان: 34-35] ما الموتة إلا موتة نموتها في الدنيا، ثم لا بعث بعدها، وهو قوله: {وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ} [الدخان: 35] بمبعوثين.
{فَأْتُوا بِآبَائِنَا} [الدخان: 36] أي: ابعثوهم لنا، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الدخان: 36] في البعث بعد الموت.
ثم خوفهم مثل عذاب الأمم الخالية، فقال: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} [الدخان: 37] أي:(4/90)
ليسوا خيرًا منهم، يعني: أقوى وأشد وأكثر، قالت عائشة رضي الله عنها: «وكان تبع رجلًا صالحًا، ألا ترى أن الله تعالى ذم قومه، ولم يذمه» .
قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ {38} مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ {39} إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ {40} يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ {41} إِلا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ {42} } [الدخان: 38-42] .
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الدخان: 38] قال مقاتل: لم نخلقهما عابثين لغير شيء.
{مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ} [الدخان: 39] أي: للحق، يعني: الثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية، ولكن أكثرهم يعني: المشركين، لا يعلمون.
قوله: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ} [الدخان: 40] يعني: يوم يفصل الرحمن بين العباد، ميقاتهم ميعادهم، أجمعين يوافي يوم القيامة الأولون والآخرون.
ثم نعت ذلك اليوم، فقال: {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا} [الدخان: 41] لا ينفع قريب قريبًا، ولا يدفع عنه شيئًا، {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [الدخان: 41] لا يمنعون من عذاب الله.
{إِلا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ} [الدخان: 42] يريد: المؤمنين، فإنه يشفع بعضهم في بعض، {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ} [الدخان: 42] في انتقامه من أعدائه، الرحيم بالمؤمنين.
قوله تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ {43} طَعَامُ الأَثِيمِ {44} كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ {45} كَغَلْيِ الْحَمِيمِ {46} خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ {47} ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ {48} ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ {49} إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ {50} } [الدخان: 43-50] .
{إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ} [الدخان: 43] تقدم تفسيره.
طعام الأثيم ذي الإثم، وهو أبو جهل، لعنه الله.
كالمهل(4/91)
وهو دردي الزيت، وعكر القطران، وقد تقدم تفسيره، {يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} [الدخان: 45] يعني: بطون الكفار، وقرئ بالتاء لتأنيث الشجرة، ومن قرأ بالياء حمله على الطعام، واختار أبو عبيد الياء، قال: لأن المهل مذكر، وهو الذي يلي الفعل، فصار أولى به، للتذكير وللقرب.
قال أبو علي الفارسي: لا يجوز أن يحمل الغلي على المهل، لأن المهل إنما ذكر للتشبيه به في الذوب.
ألا ترى أن المهل لا يغلي في البطون، إنما يغلي ما شبه به، وهو قوله: كغلي الحميم يعني: الماء الحار إذا اشتد غليانه؟ خذوه أي: يقال للزبانية: خذوه، يعني: الأثيم، فاعتلوه العتل: القود بالعنف، يقال: عتله يعتله ويعتله، إذا جره بالعنف، وذهب به إلى مكروه، قال مقاتل، ومجاهد: ادفعوه على وجهه.
{إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الدخان: 47] وسطه، كقوله تعالى: {فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 55] .
{ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ} [الدخان: 48] قال مقاتل: إن خازن النار يضربه على رأسه، فيثقب رأسه عن دماغه، ثم يصب فيه ماء حميمًا قد انتهى حره.
ويقول له: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49] وذلك أنه كان يقول: أنا أعز أهل هذا الوادي، وأكرمهم.
فيقول له الملك: ذق العذاب، أيها المتعزز المتكرم في زعمك، وفيما كنت تقوله.
وقرأ الكسائي أنك بفتح الألف، على تأويل: ذق العذاب بأنك، أو لأنك، قال الفراء: أي بهذا القول الذي قلته في الدنيا.
ويقول لهم الخازن: إن هذا العذاب، {مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} [الدخان: 50] تشكون في الدنيا، وتكذبون به.
ثم ذكر مستقر المتقين، فقال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ {51} فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ {52} يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ {53} كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ {54} يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ {55} لا يَذُوقُونَ(4/92)
فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ {56} فَضْلا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {57} } [الدخان: 51-57] .
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} [الدخان: 51] أمنوا فيه الغير من الموت والحوادث، والمقام: المجلس كقوله: ومقام كريم، وقرئ بضم الميم، يراد به: موضع الإقامة، ومعنى القراءتين واحد.
وما بعد هذا مفسر فيما تقدم إلى قوله: كذلك أي: الأمر كما وصفنا، {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الدخان: 54] أي: قرناهم بهن، وليس من عقد التزويج، لأنه لا يقال: زوجته بامرأة.
وقال أبو عبيدة: جعلناهم أزواجًا بهن، كما يزوج النعل بالنعل، أي: جعلناهم اثنين اثنين.
ونحو هذا، قال الأخفش: جعلناهم أزواجًا بالحور.
وهن البيض الوجوه، وقال أبو عبيدة: الحوراء: الشديدة بياض العين، الشديدة سوادها.
والعين جمع عيناء، وهي: العظيمة العينين.
{يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} [الدخان: 55] من التخم، والأسقام، والأوجاع.
{لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان: 56] أي: سوى الموتة التي ذاقوها في الدنيا، وهذا قول الفراء، والزجاج، وقالا: إلا بمعنى سوى.
كقوله: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] أي: سوى ما قد سلف، وقال ابن قتيبة: إنما استثنى الموتة الأولى، وهي في الدنيا، من موت في الجنة، لأن السعداء حين يموتون، يصيرون بلطف الله وقدرته، إلى أسباب من الجنة، يلقون الروح والريحان، ويرون منازلهم من الجنة، ويفتح لهم أبوابها، فإذا ماتوا في الدنيا، فكأنهم ماتوا في الجنة، لاتصالهم بأسبابها، ومشاهدتهم إياها.
وقوله: {فَضْلا مِنْ رَبِّكَ} [الدخان: 57] أي: فعل الله ذلك بهم فضلًا منه.
{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ {58} فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ {59} } [الدخان: 58-59] .
{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} [الدخان: 58] هونا القرآن على لسانك، لعلهم يتذكرون لكي يتعظوا، فيؤمنوا به.
فارتقب فانتظر بهم العذاب، إنهم مرتقبون منتظرون هلاكك.(4/93)
تفسير سورة حم الجاثية
مكية، وهي ثلاثون وسبع آيات.
831 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْعَزَايِمِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ الْمَدَايِنِيُّ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ حم الجاثية سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَسَكَّنَ رَوْعَتَهُ عِنْدَ الْحِسَابِ» .
بسم الله الرحمن الرحيم {حم {1} تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ {2} إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ {3} وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ {4} وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ {5} تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ {6} } [الجاثية: 1-6] .
حم مبتدأ، وخبره: تنزيل الكتاب.
ثم أخبر لما يدل على قدرته، فقال: {إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الجاثية: 3] قال مقاتل: إن في خلق، السموات والأرض وهما خلقان عظيمان، لآيات للمؤمنين.
قال الزجاج: ويدل على أن المعنى في خلق السموات والارض، قوله: وفي خلقكم.
قال ابن عباس، ومقاتل: وفي خلق أنفسكم من تراب ثم من نطفة إلى أن يصير إنسانًا.
{وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ} [الجاثية: 4] وما يفرق في الأرض من جميع ما خلق، على اختلاف ذلك في الخلق والصور، والمشي، آية على توحيد من خلقها، وقدرته، لقوم يوقنون أنه لا إله غيره، وقرأ حمزة آيات، وكذلك تصريف الرياح آية بالكسر، وهي(4/94)
في موضع نصب، نسقًا على قوله: {إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ} [الجاثية: 3] على معنى: وإن في خلقكم آيات، ومن رفع فقال الفراء: الرفع على الاستثناف بعد إن تقول العرب: إن لي عليك مالا، وعلى أخيك مال.
ينصبون الثاني ويرفعونه، والآية التي بعدها ظاهرة وقد تقدم تفسيرها.
{تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ} [الجاثية: 6] قال ابن عباس: يريد هذا الذي قصصنا عليك من آيات الله نقصها.
{عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ} [الجاثية: 6] بعد كتاب الله تعالى، وآياته يؤمنون إن لم يؤمنوا بهذا، ومن قرأ بالتاء فعلى تأويل قل لهم يا محمد: فبأي حديث تؤمنون.
{وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ {7} يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ {8} وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ {9} مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {10} هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مَنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ {11} } [الجاثية: 7-11] .
{وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الجاثية: 7] كذاب صاحب إثم، يعني: النضر بن الحارث، والآية الثانية مفسرة في { [لقمان.
] وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا} [سورة الجاثية: 9] قال مقاتل: إذا سمع من آيات القرآن شيئًا.
{اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [الجاثية: 9] رد الكلام إلى معنى: كل في قوله: {لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الجاثية: 7] .
فلذلك جمع {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ} [الجاثية: 10] قال ابن عباس: يريد أمامهم جهنم.
يعني: أنهم في الدنيا، ولهم في الآخرة النار يردونها، ويدخلونها، {وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا} [الجاثية: 10] من الأموال، شيئًا ولا ما عبدوا من دون الله من الآلهة.
هذا هدى هذا القرآن بيان من الضلالة، والذين كفروا به، {لَهُمْ عَذَابٌ مَنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} [الجاثية: 11](4/95)
بالرفع على نعت العذاب، وبالكسر على نعت الرجز، والرجز: معناه: العذاب، كقوله: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 59] .
{اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {12} وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {13} } [الجاثية: 12-13] .
وقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ} [الجاثية: 13] من شمس وقمر، ونجوم ومطر، وثلج وبرد، وماء، {وَمَا فِي الأَرْضِ} [الجاثية: 13] من دابة، وشجر، ونبات، وثمار، وأنهار ومعنى تسخيره لها هو: أنه خلقها لانتفاعنا بها، فهو مسخر لنا، من حيث إنا ننتفع به على الوجه الذي نريده، وقوله تعالى: جميعًا منه قال ابن عباس: كل ذلك رحمة منه لكم.
وقال في رواية عكرمة: منه النور، ومنه الشمس، ومنه القمر.
وقال الزجاج: كل ذلك تفضل منه، وإحسان.
ويحسن الوقف على قوله: جميعًا ثم يقول: منه أي: ذلك التسخير منه لا من غيره، فهو فضله وإحسانه، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 13] في صنع الله وإحسانه، فيوحدونه.
{قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ {14} مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ {15} } [الجاثية: 14-15] قوله: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا} [الجاثية: 14] الآية نزلت في عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: شتمه رجل بمكة، فهم أن يبطش به عمر، فأمره الله بالعفو، والتجاوز.
والمعنى: قل للذين آمنوا: اغفروا، ولكنه شبهه بالشرط والجزاء، كقوله: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ} [إبراهيم: 31] وقد مر، وقوله تعالى: {لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية: 14] قال مقاتل: لا يخشون مثل عذاب الأمم الخالية، وذلك أنهم لا يؤمنون به، فلا يخافون عقابه.
وذكرنا تفسير أيام الله عند قوله: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم: 5] وهذه الآية منسوخة بآية القتال، وقوله: {لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الجاثية: 14] أي: ليجزي الله الكفار بما عملوا من(4/96)
السيئات، كأنه قال: لا تكافئوهم أنتم، لنكافئهم نحن.
ثم ذكر المؤمنين وأعمالهم، والمشركين وأعمالهم، بقوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا} [الجاثية: 15] الآية.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ {16} وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ {17} } [الجاثية: 16-17] {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ} [الجاثية: 16] التوراة، والحكم الفهم في الكتاب، {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [الجاثية: 16] يعني: المن والسلوى، {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الجاثية: 16] تقدم تفسيره.
قال ابن عباس: لم يكن أحد من العالمين في زمانهم أكرم على الله، ولا أحب إليه منهم.
{وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ} [الجاثية: 17] يعني: العلم بمبعث محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما بين لهم من أمره، فما اختلفوا إلى آخر الآية مفسر في مواضع.
{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ {18} إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ {19} } [الجاثية: 18-19] ثم جعلناك يا محمد، {عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ} [الجاثية: 18] على دين وملة، ومنهاج وطريقة، يعني: بعد موسى وقومه، {فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18] توحيد الله، يعني: كفار قريش، قالوا له: ارجع إلى دين آبائك، فهم كانوا أفضل منك.
ثم ذكر أن اتباعهم لا ينفعه، ولا يدفعون عنه شيئًا، فقال: {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الجاثية: 19] لن يدفعوا عنك من عذاب الله شيئًا لو اتبعتهم، {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الجاثية: 19] يعني: المشركين، {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 19] يعني: المؤمنين، الذين اتقوا الشرك.
{هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ {20} أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ {21} وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ {22} } [الجاثية: 20-22] هذا يعني: هذا القرآن، بصائر للناس فسرناها في آخر { [الأعراف.
قوله:] أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ(4/97)
اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} [سورة الجاثية: 21] الآية نزلت حين قال كفار مكة للمؤمنين: إنا نعطي في الآخرة من الخير، مثل ما تعطون من الآجر.
والمعنى: بل أحسب، وهو استفهام إنكار الذين عملوا الشرك، واكتسبوا الآثام، أن نجعلهم في الآخرة كالمؤمنين في الدرجة والثواب، وهو قوله: كالذين آمنوا أي: بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والقرآن، وعملوا الصالحات الطاعات من الصلاة والزكاة، وتم الكلام، ثم قال: {سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} [الجاثية: 21] وارتفع سواء بأنه خبر ابتداء مقدم، تقديره: محياهم ومماتهم سواء، والضمير فيهما يعود إلى القبيلين، المؤمنين والكافرين، يقول: المؤمن مؤمن محياه مؤمن مماته، والكافر كافر محياه ومماته.
والمعنى: أن المؤمن يموت على إيمانه ويبعث عليه، والكافر يموت على كفره ويبعث عليه، يريد: أن محيا القبيلين ومماتهم سواء، ومن قرأ سواء نصبًا جعله مفعولًا ثانيًا، على تقدير: أن نجعل محياهم ومماتهم سواء، يعني: أحسبوا أن حياتهم ومماتهم، كحياة المؤمنين وموتهم؟ كلا، فإنهم يعيشون كافرين ويموتون كافرين، والمؤمنون يعيشون مؤمنين ويموتون مؤمنين، وقد ميز الله بين الفريقين: فجعل حزب الإيمان في الجنة، وحزب الكفر في النار، {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21] بئس ما يقضون، حين يرون أن لهم في الآخرة ما للمؤمنين.
أخبرنا أبو نصر المهرجاني، أنا أبو عبد الله بن بطة، أنا أبو القاسم ابن بنت منيع، نا علي بن الجعد، أنا شعبة، عن عمرو بن مرة، سمعت أبا الضحى، عن مسروق، قال: قال لي رجل من أهل مكة: هذا مقام أخيك تميم الداري، لقد رأيته ذات ليلة حتى أصبح أو كرب، أن يصبح يقرأ آية من القرآن يركع بها، ويسجد، ويبكي {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية: 21] الآية، ثم ذكر أنه خلق السموات والأرض، للحق والجزاء {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الجاثية: 22] كيلا يظن الكافر أنه لا يجزى بكفره، وأنه يستوي مع المؤمن، وهو قوله: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الجاثية: 22] الآية.
قوله:(4/98)
{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ {23} وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ {24} وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {25} قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكَثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ {26} وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ {27} } [الجاثية: 23-27] .
{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس في هذه الآية: كان أحدهم يعبد الحجر، فإذا رأى ما هو أحسن منه، رمى به وعبد الآخر، فهو يعبد ما تهواه نفسه.
وقال قتادة: هو الكافر لا يهوى شيئًا إلا ركبه.
وهو قول عطاء، عن ابن عباس، قال: إذا هوي شيئًا هو لله سخط اتبعه.
وهذا كما يقال: الهوى إله يعبد من دون الله، يعني: أن ذا الهوى يترك أمر الله وطاعته لهواه.
832 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا الْحُسَيْنُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَبِي الْأَحْوَصِ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ الْخَصِيبِ بْنِ جَحْدَرٍ، عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَحْتَ ظِلِّ السَّمَاءِ إِلَهٌ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَبْغَضَ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَوًى»
وقوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23] قال سعيد بن جبير: على علمه فيه.
قال الزجاج: أي: على ما سبق في علمه، أنه ضال قبل أن يخلقه.
{وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ} [الجاثية: 23] طبع عليه، فلم يسمع الهدى، وعلى قلبه فلم يعقل الهدى، {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: 23] يعني: ظلمة، فهو لا يبصر الهدى، وليس يبقي للقدرية مع هذا البيان في منع الكافر عن الإيمان عذر ولا حيلة، ثم أكد ذلك بقوله: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ(4/99)
اللَّهِ} [الجاثية: 23] أي: من بعد إضلال الله، أي: من يهديه بعد أن أضله الله؟ أفلا تذكرون فتعرفوا قدرته على ما يشاء.
وقالوا يعني: منكري البعث، ما هي ما الحياة، {إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الجاثية: 24] ما هم فيه من الحياة، نموت ونحيا قال مقاتل: نموت نحن، ويحيا آخرون ممن يأتون بعدنا.
وهو قول المفسرين.
وقال الزجاج: المعنى: نحيا ونموت والواو للاجتماع.
{وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] إلا طول العمر، واختلاف الليل والنهار، قال الله تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ} [الجاثية: 24] الذي قالوه، من علم أي: لم يقولوه عن علم علموه، قالوه ضلالًا شاكين، وهو قوله: {إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24] .
وما بعد هذا ظاهر التفسير، سابق فيما تقدم، إلى قوله: يخسر المبطلون يعني: المكذبين الكافرين، الذين هم أصحاب الأباطيل، يظهر في ذلك اليوم خسرانهم بأن يصيروا إلى النار.
قوله: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {28} هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {29} فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ {30} وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ {31} } [الجاثية: 28-31] .
{وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية: 28] جالسة على الركب عند الحساب، كما يجثي بين يدي الحاكم ينتظر القضاء، قال سلمان الفارسي: إن في يوم القيامة ساعة هي عشر سنين، يخر الناس فيها جثاء على ركبهم، حتى إن إبراهيم عليه السلام ينادي: نفسي، لا أسالك إلا نفسي.
وقوله تعالى: {كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} [الجاثية: 28] يعني: إلى كتاب أعمالها، ويقال لهم: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 28] .
هذا كتابنا يعني: ديوان الحفظة، ينطق يشهد، عليكم بالحق أي: يبينه بيانًا شافيًا، حتى كأنه ناطق، {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29] نأمر الملائكة بنسخ أعمالكم، أي: بكتبها، وإثباتها عليكم، وأكثر المفسرين على أن هذا الاستنساخ من اللوح المحفوظ، تستنسخ الملائكة كل عام ما يكون من أعمال بني آدم، فيجدون ذلك موافقًا لما يعملونه.
قالوا: والاستنساخ لا يكون إلا من أصل هو أن يستنسخ كتاب من كتاب.
ثم ذكر الفريقين من المؤمنين والكافرين، فقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [الجاثية: 30] الآية ظاهرة.
{وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [الجاثية: 31] فيقال لهم: {أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} [الجاثية: 31] يعني: آيات القرآن، فاستكبرتم عن الإيمان بها، {وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الجاثية: 31] متكبرين، كافرين.(4/100)
{وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ {32} وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ {33} وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ {34} ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ {35} } [الجاثية: 32-35] .
وإذا قيل لكم، {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} [الجاثية: 32] بالبعث، حق كائن، {وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا} [الجاثية: 32] والقيامة آتية، كائنة بغير شك، {قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ} [الجاثية: 32] أنكرتموها، {إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا} [الجاثية: 32] أي: ما نعلم ذلك إلا حدسًا وتوهما، {وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32] ما نستيقن كونها.
{وَبَدَا لَهُمْ} [الجاثية: 33] في الآخرة، {سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} [الجاثية: 33] في الدنيا.
وقيل لهم: اليوم ننساكم نترككم في النار، {كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الجاثية: 34] كما تركتم الإيمان والعمل، للقاء هذا اليوم.
ذلكم الذي فعلنا بكم، {بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ} [الجاثية: 35] القرآن، هزوا مهزوءًا به، {وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الجاثية: 35] حتى قلتم: إنه لا بعث ولا حساب، {فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا} [الجاثية: 35] من النار، {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الجاثية: 35] لا يطلب منهم أن يرجعوا إلى طاعة الله، لأن ذلك اليوم لا يقبل فيه منهم عذر، ولا توبة.
ثم ذكر عظمته، فقال: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {36} وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {37} } [الجاثية: 36-37] .
{فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الجاثية: 36] .
{وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ} [الجاثية: 37] العظمة والجبروت، {فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الجاثية: 37] .
833 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا أَبُو سَعِيدٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ الْجُرْجَانِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زِيدَانَ الْبَجَلِيُّ، نا كُرَيْبٌ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: «الْكِبْرَيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَلْقَيْتُهُ فِي النَّارِ» .(4/101)
تفسير سورة حم الأحقاف
مكية، وهي ثلاثون وخمس آيات.
834 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ السِّجِسْتَانِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، نا الْمَدَايِنِيُّ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْأَحْقَافِ أُعْطِيَ مِنَ الْأَجْرِ بِعَدِدِ كُلِّ رَمْلٍ فِي الدُّنْيَا عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمُحِيَ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ وَرُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ» .
بسم الله الرحمن الرحيم {حم {1} تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ {2} مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ {3} } [الأحقاف: 1-3] .
{حم {1} تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ {2} } [الجاثية: 1-2] ذكرنا نظم هذه الآية في { [الجاثية.
] مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ} [سورة الأحقاف: 3] قال ابن عباس: لم يخلقهما باطلا لغير شيء، ما خلقناهما إلا للثواب والعقاب.
وأجل مسمى يعني: يوم القيامة، وهو الأجل الذي تنتهي إليه السموات والأرض، وهذا إشارة إلى فنائهما وانقضاء أمدهما، ذكر أن الكفار أعرضوا عن الإيمان، فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف: 3] أي: خوفوا به في القرآن من البعث، والحساب والجزاء معرضون.
قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ(4/102)
هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {4} وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ {5} وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ {6} } [الأحقاف: 4-6] .
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأحقاف: 4] مفسر في { [فاطر، إلى قوله:] ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [سورة الأحقاف: 4] من قبل القرآن، فيه برهان ما تدعون من عبادة الأصنام، أو أثارة أي: بقية، من علم يقال: ناقة ذات أثارة، أي: بقية من شحم.
قال ابن قتيبة: أي: بقية من علم عن الأولين.
وقال الفراء، والمبرد: يعني: ما يؤثر من علم من كتب الأولين.
وهو معنى قول المفسرين.
وقال عطاء: يريد: أو شيء تأثرونه عن نبي كان قبل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال مقاتل: أو رواية من علم عن الأنبياء.
{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف: 4] أن لله شريكًا.
ثم ذكر ضلالتهم، فقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ} [الأحقاف: 5] يعني: الأصنام لا تجيب عابديها إلى شيء يسألونه، {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأحقاف: 5] يعني: أبدًا ما دامت الدنيا، {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: 5] لأنها جماد لا تسمع.
ثم إذا قامت القيامة، صارت الآلهة أعداء لمن عبدها في الدنيا، وهو قوله: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً} [الأحقاف: 6] وهذا كقوله: {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 82] وذلك أنهم يتبرءون من عابديهم، كقوله: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص: 63] .
ثم ذكر أنهم يسمون القرآن سحرًا، فقال: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ {7} أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {8} قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ {9} قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {10} } [الأحقاف: 7-10] .
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} [الأحقاف: 7] الآية.
ويقولون: إن محمدًا أتى به من قبل نفسه، وهو قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} [الأحقاف: 8] .
فقال الله: {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الأحقاف: 8] لا تقدرون على أن تردوا عني عذابه، أي: فكيف أفتري على الله من أجلكم، وأنتم لا تقدرون على دفع عقابي عني، إن(4/103)
افتريت عليه شيئًا؟ هو أي: الله، {أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} [الأحقاف: 8] بما تقولون في القرآن، وتخوضون فيه من التكذيب به، والقول فيه بأنه سحر، وكهانة، {كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأحقاف: 8] أن القرآن جاء من عند الله، {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الأحقاف: 8] في تأخير العذاب عنكم، حين لا يعجل عليكم بالعقوبة، وقال الزجاج: هذا دعاء لهم من الله إلى التوبة، معناه: أن من أتى من الكبائر بمثل ما أوتيتم به، من الافتراء على الله وعليّ، ثم تاب، فالله غفور له رحيم به.
قوله: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 9] ما أنا بأول رسول، قد بعث قبلي كثير من الرسل، والبدع والبديع من كل شيء: المبتدأ، {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [الأحقاف: 9] أيتركني بمكة، أو يخرجني منها، ويخرجكم؟ وقال الحسن: لا أدري أأموت أم أقتل؟ ولا أدري أيها المكذبون، أترمون بالحجارة من السماء، أم يخسف بكم، أم أي شيء يفعل بكم، مما فعل بالأمم المكذبة؟ وهذا إنما هو في الدنيا، فأما في الآخرة فقد علم أنه في الجنة، وأن من كذبه في النار، {إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأحقاف: 9] ما أتبع إلا القرآن، ولا أبتدع من عندي شيئًا، {وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الأحقاف: 9] أنذركم العذاب، وأبين لكم الشرائع.
قل أرأيتم معناها: أخبروني، أي: ماذا تقولون؟ إن كان القرآن، {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [الأحقاف: 10] هو أنزله، وكفرتم أنتم أيها المشركون، {بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأحقاف: 10] يعني: عبد الله بن سلام، كان شاهدًا على صدق محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نبوته، على مثله المثل صلة، معناه: عليه، أي: على أنه من عند الله، فآمن يعني: الشاهد، واستكبرتم أنتم عن الإيمان به، وجواب قوله: {إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [الأحقاف: 10](4/104)
محذوف على تقدير: أليس قد ظلمتم.
ويدل على هذا المحذوف قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف: 10] وقال الحسن: جوابه: فمن أضل منكم؟ كما قال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ} [فصلت: 52] الآية، وقال أبو علي الفارسي: تقديره أتأمنون عقوبة الله.
ومعنى قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف: 10] إن الله جعل جزاء المعاندين للإيمان بعد الوضوح والبيان، أن نمدهم في ضلالتهم، ونحرمهم الهداية.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ {11} وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ {12} } [الأحقاف: 11-12] .
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأحقاف: 11] يعني: المشركين، للذين آمنوا من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {لَوْ كَانَ خَيْرًا} [الأحقاف: 11] لو كان ما جاء به محمد خيرًا، {مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11] نظم الكلام يوجب أن يكون ما سبقتمونا إليه، ولكنه على ترك المخاطبة.
أخبرنا أحمد بن محمد بن عبد الله الحافظ، أنا عبد الله بن محمد بن جعفر الحافظ، أنا أبو العباس الهروي، نا يونس بن عبد الأعلى، أنا ابن وهب، أخبرني ابن أبي الزناد، عن أبيه، قال: كانت زنيرة امرأة ضعيفة البصر، فلما أسلمت كان الأشراف من مشركي قريش يستهزئون بها، ويقولون: والله لو كان ما جاء به محمد خيرًا ما سبقتنا إليه زنيرة، فأنزل الله فيها وفي أمثالها هذه الآية.
{وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ} [الأحقاف: 11] لم يصيبوا الهداية بالقرآن، فسيقولون: إنه كذب، وهو قوله: {فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف: 11] أي: أساطير الأولين.
ومن قبله قبل القرآن، كتاب موسى يعني: التوراة، إمامًا يقتدى به، ورحمة من الله للمؤمنين به، من قبل القرآن، قال الزجاج: إمامًا منسوب على الحال.
وتقدير الكلام: وتقدمه كتاب موسى إمامًا، وفي الكلام محذوف به يتم المعنى، وتقديره: فلم يهتدوا به، ودل(4/105)
عليه قوله في الآية الأولى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ} [الأحقاف: 11] ، وذلك أن المشركين لم يهتدوا بالتوراة، فيتركوا ما هم عليه من عبادة الأوثان، ويعرفوا منها صفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال: {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ} [الأحقاف: 12] أي: للكتب التي قبله، لسانًا عربيًا منصوب على الحال، المعنى: مصدقًا لما بين يديه عربيًا، وذكر اللسان توكيدًا، كما تقول: جاءني زيد رجلًا صالحًا، فيذكر رجلًا توكيدًا، لِتُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني: مشركي مكة، ومن قرأ بالياء أسند الفعل إلى الكتاب، وبشرى وهو بشرى، يعني: الكتاب للمحسنين الموحدين، يقول: الكتاب لهم بشرى بالجنة.
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ {13} أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {14} } [الأحقاف: 13-14] .
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [الأحقاف: 13] تقدم تفسيره.
قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ {15} أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ {16} } [الأحقاف: 15-16] .
{وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} [الأحقاف: 15] تقدم تفسيره في { [العنكبوت، وقرئ ههنا إحسانًا والمعنى: أمرناه بالإحسان إليهما، كقوله: وبالوالدين إحسانًا، ثم ذكر ما(4/106)
قاسته الأم في حمل الولد، ووضعه، فقال:] حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا} [سورة الأحقاف: 15] يعني: حين أثقلت، وثقل عليها الولد، ووضعته كرهًا قال ابن عباس: يريد شدة الطلق.
{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] يريد: أن مدة حمله إلى أن فصل من الرضاع، كانت هذا القدر، روى عكرمة، عن ابن عباس، أنه قال: إذا حملت المرأة تسعة أشهر، أرضعته واحدًا وعشرين شهرًا، وإذا حملته ستة أشهر، أرضعته أربعة وعشرين شهرًا.
وقال مقاتل، وعطاء، والكلبي، عن ابن عباس: هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضى الله عنه، وكان حمله وفصاله هذا القدر.
ويدل على صحة هذا قوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} [الأحقاف: 15] إلى آخر الآية، وقد علمنا أن كثيرًا من الناس ممن بلغ هذا المبلغ لم يكن منه هذا القول، وهو ما ذكر الله تعالى عنه {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} [الأحقاف: 15] إلى آخر الآية، فدل على أنه إنسان بعينه، وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ومعنى قوله: بلغ أشده قال عطاء: يريد ثماني عشرة سنة.
وذلك أنه صحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ابن ثماني عشرة سنة، والنبي ابن عشرين سنة، في تجارته إلى الشام، فكان لا يفارقه في أسفاره وحضوره، فلما بلغ أربعين سنة، ونبئ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا ربه، فقال: رب أوزعني ألهمني، {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [الأحقاف: 15] بالهداية والإيمان، حتى لا أشرك بك، وعلى والدي أبي قحافة عثمان بن عمرو، وأم الخير بنت صخر بن عمرو، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هذه الآية في أبي بكر رضي الله عنه، أسلم أبواه جميعًا، ولم يجتمع لأحد من الصحابة، رضي الله عنهم، المهاجرين أبواه غيره، وأوصاه الله بهما، ولزم ذلك من بعده.
وقوله: {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} [الأحقاف: 15] قال ابن عباس:(4/107)
أجابه الله تعالى، فأعتق تسعة من المؤمنين، يعذبون في الله، ولم يرد شيئًا من الخير إلا أعانه الله عليه، واستجاب الله له في ذريته إذ قال: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} [الأحقاف: 15] فلم يبق له ولد، ولا والد، ولا والدة إلا آمنوا بالله وحده.
أخبرنا أبو بكر التميمي، أنا عبد الله بن محمد الحافظ، أنا إسحاق بن أحمد الفارسي، سمعت محمد بن إسماعيل البخاري، يقول: حدثني عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة، قال: قال لي موسى بن عقبة: لم يدرك أربعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم وأبناؤهم إلا هؤلاء: أبو قحافة، وأبو بكر، وابنه عبد الرحمن , وأبو عتيق بن عبد الرحمن بن أبي بكر.
قال البخاري: أبو عتيق أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو ابن عبد الرحمن بن أبي بكر.
وقوله: {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15] قال عطاء، عن ابن عباس: إني رجعت إلى كل ما تحب، وأسلمت لك بقلبي ولساني.
أولئك يعني: أهل هذا القول، {نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [الأحقاف: 16] يعني: الأعمال الصالحة التي عملوها في الدنيا، وكلها حسن، فالأحسن بمعنى: الحسن، {وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ} [الأحقاف: 16] قال عطاء: يريد ما كان في الشرك.
{فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ} [الأحقاف: 16] أي: في جملة من يتجاوز عنهم، وهم أصحاب الجنة، وعد الصدق يعني: ما وعد الله أهل الإيمان أن يتقبل من محسنيهم، ويتجاوز عن مسيئيهم، {الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 16] في الدنيا على لسان الرسل.
{وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ {17} أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ {18} وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ {19} } [الأحقاف: 17-19] .
{وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ} [الأحقاف: 17] المفسرون على أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه، كان أبواه يدعوانه إلى الإسلام(4/108)
وهو يأبي، ويسيء القول لهما، وهو قوله: أف لكما، وكانا يخبرانه بالبعث بعد الموت، فيقول: {أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ} [الأحقاف: 17] من القبر، {وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} [الأحقاف: 17] يعني: الأمم الخالية، فلم أر أحدًا منهم بعث؟ أين عبد الله بن جدعان، أين فلان وفلان؟ وهما يعني: والديه، يستغيثان الله يدعوان الله له بالهدى، والاستغاثة بالله دعاء الله، ليعينك على ما نابك، والجار محذوف، لأن التقدير: يستغيثان بالله، ويقولان له: ويلك آمن صدق بالبعث.
{إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ} [الأحقاف: 17] لهما، ما هذا الذي تقولان، {إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأحقاف: 17] ، والصحيح: أن الآية نزلت في كافر عاق لوالديه، قال الزجاج: قول من قال الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه، يبطله قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} [الأحقاف: 18] الآية، أعلم الله أن هؤلاء قد حقت عليهم كلمة العذاب، وعبد الرحمن مؤمن من أفاضل المسلمين، لا يكون ممن حقت عليه كلمة العذاب.
قال صاحب النظم، رضي الله عنه: ذكر الله تعالى في الآيتين قبل هذه من بر والديه، وعمل بوصية الله، ثم ذكر من لم يعمل بالوصية، فقال: {لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} [الأحقاف: 17] يصفه بالعقوق، حين لم يطع الله في قوله: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] ، ثم دخل في هذه الآية من(4/109)
كان بهذه الصفة من الكفر والعقوق، لقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} [الأحقاف: 18] .
والآية مفسرة في حم السجدة.
قوله: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأحقاف: 19] قال ابن عباس: يريد من سبق إلى الإسلام، فهو أفضل ممن تخلف عنه ولو بساعة.
وقال مقاتل: ولكل فضائل بأعمالهم.
وليوفيهم الله جزاء أعمالهم، وثوابها.
{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف: 20] .
{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} [الأحقاف: 20] يعني: كفار مكة، ويقال لهم: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ} [الأحقاف: 20] قرئ بالاستفهام والخبر، قال الفراء، والزجاج: العرب توبخ بالألف وبغير الألف، فتقول: أذهب ففعلت كذا، وذهبت ففعلت كذا.
والمعنى في القراءتين سواء، وهو التوبيخ لهم.
قال الكلبي: يعني اللذات، وما كانوا فيه من المعايش، وتمتعهم بها في الحياة الدنيا.
ولما وبخ الله الكافرين بالتمتع بالطيبات في الدنيا، آثر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأصحابه والصالحون اجتناب نعيم العيش ولذته، وآثروا التقشف والزهد، رجاء أن يكون ثوابهم في الآخرة أكمل.
835 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ النَّصْرَابَاذِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَنْصُورٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَبَانٍ، نا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فِي(4/110)
مَشْرُبَةٍ، وَإِنَّهُ لَمُضْطَجِعٌ عَلَى خَصَفَةٍ، وَإِنَّ بَعْضَهُ لَعَلَى التُّرَابِ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مَحْشُوَّةٌ لِيفًا، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ جَلَسْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ، وَصْفَوَتُهُ، وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَكِسْرَى وَقَيْصَرُ عَلَى سُرُرِ الذَّهَبِ، وَفُرُشِ الدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عُمَرُ إِنَّ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ وَهِيَ وَشِيكَةُ الانْقِطَاعِ، وَإِنَّا أُخِّرَتْ لَنَا طَيِّبَاتُنَا» .
836 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، نا أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، نا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلالٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا نَعْبَأُ بِلَذَّاتِ الْعَيْشِ أَنْ نَأْمُرَ بِصِغَارِ الْمِعْزَى فَتُسْمَطُ لَنَا، وَنَأْمُرُ بِلُبَابِ الْحِنْطَةِ فَيُخْبَزُ لَنَا، وَنَأْمُرُ بِالزَّبِيبِ فَيُنْبَذُ لَنَا حَتَّى إِذَا صَارَ مِثْلَ عَيْنِ الْيَعْقُوبِ أَكَلْنَا هَذَا وَشَرِبْنَا هَذَا وَلَكِنَّا نُرِيدُ أَنْ نَسْتَبْقِيَ طَيِّبَاتِنَا لَأَنَّا سَمِعْنَا اللَّهَ تَعَالَى يَذْكُرُ قَوْمًا، فَقَالَ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20] .
837 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، أنا أَبُو يَحْيَى، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ،(4/111)
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَحْمًا مُعَلَّقًا فِي يَدَيَّ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا جَابِرُ؟ فَقُلْتُ: اشْتَهَيْتُ لَحْمًا فَاشْتَرَيْتُهُ.
فَقَالَ عُمَرُ: أَوَ كُلَّمَا اشْتَهَيْتَ يَا جَابِرُ اشْتَرَيْتَ؟ أَمَا تَخَافُ هَذِهِ الْآيَةَ يَا جَابِرُ {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20]
838 - أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِهِ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْحَدَّادَ أَخْبَرَهُمْ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا جَرِيرٌ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، قَالَ: دَخَلَ عُتْبَةُ بْنُ فَرْقَدٍ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ يَكْدِمُ كَعْكًا شَامِيًّا وَيَتَفَوَّقُ لَبَنًا جَازِرًا فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ أَمَرْتَ أَنْ أَضَعَ لَكَ طَعَامًا أَلْيَنَ مِنْ هَذَا؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ فَرْقَدٍ أَتَرَى أَحَدًا مِنَ الْعَرَبِ أَقْدَرَ عَلَى ذَلِكَ مِنِّي؟ فَقَالَ: مَا أَحَدٌ أَقْدَرَ عَلَى ذَلِكَ مِنْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ عُمَرُ: سَمِعْتُ اللَّهَ عَيَّرَ أَقْوَامًا، فَقَالَ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20] الآية.
قوله: فاليوم يعني: يوم القيامة، {تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأحقاف: 20] يعني: العذاب الذي فيه ذلك، وخزي، {بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأحقاف: 20] تتكبرون عن عبادة الله، والإيمان به، {وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف: 20] تعصون.
{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ {21} قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ {22} قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ {23} فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ {24} تُدَمِّرُ(4/112)
كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ {25} } [الأحقاف: 21-25] .
واذكر يا محمد، لقومك أهل مكة، أخا عاد هودًا، {إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ} [الأحقاف: 21] حذرهم عذاب الله إن لم يؤمنوا به، بالأحقاف وهي: جمع حقف، وهو المستطيل المعوج من الرمال، قال عطاء: يعني: رمال بلاد الشحر.
وقال مقاتل: هي باليمن في حضرموت.
{وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} [الأحقاف: 21] وقد مضت الرسل، من قبل هود ومن بعده، إلى قومهم {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ} [الأحقاف: 21] أي: لم أبعث رسولًا قبل هود، ولا بعده إلا بالأمر بعبادة الله وحده، وهذا كلام اعترض بين إنذار هود، وكلامه لقومه، ثم عاد إلى كلام هود لقومه، بقوله: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأحقاف: 21] وتقدير الكلام: إذ أنذر قومه بالأحقاف، فقال: إني أخاف، الآية.
فقالوا له: {أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا} [الأحقاف: 22] لتصرفنا عن عبادتها بالإفك، {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} [الأحقاف: 22] من العذاب، {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأحقاف: 22] أن العذاب نازل بنا.
قال هود: {إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحقاف: 23] هو يعلم متى يأتيكم العذاب؟ {وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ} [الأحقاف: 23] من الوحي والإنذار، يعني: أنا مبلغ، والعلم بوقت العذاب عند الله، {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [الأحقاف: 23] حين أدلكم على الرشاد، وأنتم تصدون، وتعرضون عنه.
قوله: فلما رأوه أي: ما يوعدون في قوله: بما تعدنا، عارضًا سحابًا يعرض في ناحية من السماء، ثم يطبق السماء، مستقبل أوديتهم قال المفسرون: كانت عاد قد حبس عنهم المطر أيامًا، فساق الله تعالى إليهم سحابة سوداء، فخرجت عليهم من واد لهم يقال له: المغيث، {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} [الأحقاف: 24] استبشروا، {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] غيم فيه مطر، فقال هود: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ} [الأحقاف: 24] ثم بين ما هو، فقال: {رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24] والريح التي عذبوا بها نشأت من ذلك السحاب.
قال ابن عباس:(4/113)
كانت الريح تطير بهم بين السماء والأرض، حتى أهلكتهم.
تدمر تهلك، كل شيء مرت به من الناس، والدواب، والأموال، فأصبحوا يعني: عادا، {لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف: 25] ، قال الزجاج: تأويله: لا يرى شيء إلا مساكنهم.
وقرئ لا ترى بفتح التاء، إلا مساكنهم بالنصب، على معنى: لا ترى أيها المخاطب، أي: لا تشاهد شيئًا إلا مساكنهم، لأن السكان والأنعام بادت بالريح، وقال ابن عباس: فلم يبق إلا هود ومن آمن معه.
ثم خوف كفار مكة، وذكر فضل عاد بالأجسام، والقوة عليهم، فقال: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ {26} وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ {27} فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ {28} } [الأحقاف: 26-28] {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} [الأحقاف: 26] أي: في الشيء الذي لم نمكنكم فيه من المال، والعمر، وشدة الأبدان، قال المبرد: ما في قوله: فيما بمنزلة الذي، وإن بمنزلة ما، وتقديره: ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه.
وجعلنا لهم الآية، أخبر الله تعالى: أنهم أعرضوا عن قبول الحجج، والتفكر فيما يدلهم على التوحيد، مع ما أعطاهم الله من الحواس التي بها تدرك الأدلة.
ثم زاد في التخويف، فقال: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى} [الأحقاف: 27] الخطاب لأهل مكة، وأراد: القرى المهلكة باليمن، والشام، وصرفنا الآيات بيناها، لعلهم لعل أهل القرى، يرجعون.
ثم ذكر أنهم لم ينصرهم من الله ناصر، حين حل بهم العذاب، وهو قوله: فلولا نصرهم فهلا نصرهم؟ وهذا استفهام إنكار، أي: لم ينصرهم، {الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} [الأحقاف: 28] قال ابن قتيبة: اتخذوهم آلهة، يتقربون بها إلى الله.
والقربان: ما يتقرب به إلى الله، {بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} [الأحقاف: 28] قال مقاتل: ضلت الآلهة عنهم، فلم تنفعهم عند نزول العذاب بهم.
وذلك إفكهم أي: اتخاذهم الآلهة دون الله كذبهم، وافتراؤهم، وهو قوله: {وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأحقاف: 28] يكذبون من أنها آلهة شركاء.
قوله تعالى:(4/114)
{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ {29} قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ {30} يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ {31} وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ {32} } [الأحقاف: 29-32] {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} [الأحقاف: 29] قال المفسرون: لما أيس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قومه أهل مكة أن يجيبوه، خرج إلى الطائف، ليدعوهم إلى الإسلام، فلما انصرف إلى مكة وكان ببطن نخلة، قام يقرأ القرآن في صلاة الفجر، فمر به نفر من أشراف جن نصيبين، واستمعوا لقرآنه.
قال ابن عباس: كانوا سبعة نفر.
وقال الكلبي، ومقاتل: كانوا تسعة صرفوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليستمعوا منه، وينذروا قومهم.
وهو قوله: {يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ} [الأحقاف: 29] أي: حضروا استماع القرآن، قالوا أنصتوا قال بعضهم لبعض: اسكتوا، أي: لنستمع إلى قراءته، فلا يحول بيننا وبين الاستماع شيء، فلما قضي أي: فرغ من التلاوة، {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف: 29] انصرفوا إليهم، محذرين إياهم عذاب الله إن لم يؤمنوا.
ثم أخبر عنهم بما قالوا لقومهم، وهو قوله: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف: 30] يعنون: القرآن، {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأحقاف: 30] الآية.
{يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف: 31] يعنون محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا يدل على أنه كان مبعوثًا إلى الجن، كما كان مبعوثًا إلى الإنس، قال مقاتل: ولم يبعث الله نبيًا إلى الإنس والجن قبله.
{وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي(4/115)
الأَرْضِ} [الأحقاف: 32] لا يعجز الله، فيسبقه ويفوته، {وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ} [الأحقاف: 32] أنصار يمنعونه من الله، أولئك الذين لا يجيبون الرسل، {فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف: 32] .
ثم احتج على إحياء الموتى، بقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {33} وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ {34} فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ {35} } [الأحقاف: 33-35] .
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} [الأحقاف: 33] لم يعجز عن ذلك، يقال: عيي فلان بأمره، إذا لم يهتد له، ولم يقدر عليه، بقادر قال أبو عبيدة، والأخفش: الباء زائدة مؤكدة.
وقال الفراء: العرب تدخل الباء مع الجحد، مثل قولك: ما أظنك بقائم.
وهو قول الكسائي، والزجاج.
وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35] قال ابن عباس، وقتادة: يريد: نوحًا، وإبراهيم، وموسى، وعيسى عليهم السلام.
وقال مقاتل: هم ستة: نوح صبر على أذى قومه، وإبراهيم صبر على النار، وإسحاق صبر على الذبح، ويعقوب صبر على فقد الولد وذهاب البصر، ويوسف صبر في البئر والسجن، وأيوب صبر على الضر.
وقال الكلبي: هم الذين أمروا بالجهاد والقتال، فأظهروا المكاشفة، وجاهدوا في الدين.
وهذا قول السدي.
وقال أهل المعاني والتحقيق: كل الرسل أولو العزم، ولم يبعث الله رسولًا إلا كان ذا عزم، وحزم، ورأي، وكمال عقل.
ومن في قوله: من الرسل تبيين لا تبعيض، كما يقال: أكسيه من الخز، وكأنه قيل له: اصبر كما صبر الرسل قبلك على أذى قومهم، ووصفهم بالعزم، لصبرهم ورزانتهم، ويدل على صحة هذا ما
839 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّانَ، أنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ، نا(4/116)
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَجَّاجِ، نا السَّرِيُّ بْنُ حَيَّانَ، نا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ، نا مُجَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: قَالَتْ لِي عَائِشَةُ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عَائِشَةُ إِنَّ الدُّنْيَا لا تَنْبَغِي لِمُحَمَّدٍ وَلا لِآلِ مُحَمَّدٍ، يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ إِلا الصَّبْرَ عَلَى مَكْرُوهِهَا وَالصَّبْرَ عَلَى مَحْبُوبِهَا، وَلَمْ يَرْضَ إِلا أَنْ كَلَّفَنِي مَا كَلَّفَهُمْ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35] وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا بُدٌّ لِي مِنْ طَاعَتِهِ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَصْبِرَنَّ كَمَا صَبَرُوا، وَأَجْهَدَنَّ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ "
وقوله تعالى: {وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف: 35] أي: العذاب، وكأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضجر بعض الضجر، وأحب أن ينزل العذاب بمن أبى من قومه، فأمر بالصبر، وترك الاستعجال، ثم أخبر أن العذاب منهم قريب بقوله: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 35] أي: من العذاب في الآخرة، لم يلبثوا في الدنيا، {إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [الأحقاف: 35] أي: إذا عاينوا العذاب، صار طول لبثهم في الدنيا، والبرزخ كأنه ساعة من نهار، لأن ما مضى كأنه لم يكن وإن كان طويلًا، وتم الكلام، ثم قال: بلاغ أي: هذا القرآن، وما فيه من البيان، بلاغ عن الله إليكم، والبلاغ بمعنى: التبليغ، {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف: 35] أي: لا يقع العذاب إلا بالعاصين، الخارجين عن أمر الله، وقال قتادة: اعلموا، والله ما يهلك على الله إلا هالك مشرك ولى ظهره للإسلام، أو منافق صدق بلسانه وخالف بعمله.
وقال الزجاج: تأويله لا يهلك مع رحمة الله وتفضله، إلا القوم الفاسقون.
ولهذا قال قوم: ما في الرجاء لرحمة الله تعالى آية أقوى، وأتم من هذه الآية.(4/117)
تفسير سورة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وهي ثلاثون وثمان آيات، مدنية.
840 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحِيرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِيرِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ» .
بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ {1} وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ {2} ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ {3} } [محمد: 1-3] .
الذين كفروا بتوحيد الله، وصدوا الناس، {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد: 1] الإيمان، والإسلام، يعني: مشركي قريش، أضل أعمالهم أبطلها، وأذهبها حتى كأنها لم تكن، إذ لم يروا في الآخرة لها ثوابًا، وأراد بأعمالهم: إطعامهم الطعام، وصلتهم الأرحام.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [محمد: 2] يعني: أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} [محمد: 2] من آيات القرآن، وهو الحق الصدق، من ربهم من عند ربهم، {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} [محمد: 2] سترها عنهم: بأن غفرها لهم، فلا يحاسبون عليها يوم القيامة، كما أضل أعمال الكفار، وأصلح بالهم قال المبرد: البال الحال ههنا.
قال ابن عباس: عصمهم أيام حياتهم، يعني: أن هذا الإصلاح يعود إلى إصلاح أعمالهم حتى لم يعصوا، ويعود إلى إصلاح حالهم في الدنيا من إعطاء المال.
ثم ذكر السبب في ذلك، فقال:(4/118)
{ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [محمد: 3] أي: ذلك الإصلاح والإضلال، باتباع الكافرين الشرك، وعبادة الشيطان، واتباع المؤمنين التوحيد، والقرآن، {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} [محمد: 3] قال الزجاج: كذلك يبين الله للناس أمثال حسنات المؤمنين، وإضلال أعمال الكافرين.
يعني: أن من كان كافرًا أضل الله عمله، ومن كان مؤمنًا كفر سيئاته، كما ذكر ههنا في الفريقين.
ثم علم المؤمنين كيف يصنعون بالكافرين إذا لقوهم، فقال: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ {4} سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ {5} وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ {6} } [محمد: 4-6] .
{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [محمد: 4] أي: في القتال، فضرب الرقاب أي: فاضربوا رقابهم، والمعنى: اقتلوهم، لأنه أكثر مواضع القتل ضرب العنق، فإن ضربه على مقتل آخر كان كما لو ضرب عنقه، لأن القصد قتله، {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ} [محمد: 4] بالغتم في قتلهم، وأكثرتم القتل، فشدوا الوثاق يعني: في الأسر، والأسر يكون بعد المبالغة في القتل، كما قال: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] ، والوثاق اسم من الإيثاق، يقال: أوثقه إيثاقًا ووثاقًا إذا شد أسره، كيلا يفلت، {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] أي: بعد أن تأسروهم، إما مننتم عليهم منًا فأطلقتموهم بغير عوض، وإما أن تفدوا فداء، قال الوالبي، عن ابن عباس: لما كثر المسلمون، واشتد سلطانهم، أنزل الله على نبيه في الأسارى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] فجعل الله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمؤمنين بالخيار في الأسارى: إن شاءوا قتلوهم، وإن شاءوا استعبدوهم، وإن شاءوا فادوهم.
ويجوز الإطلاق بغير فداء، لقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ} [محمد: 4] والإمام يتخير في الأسارى البالغين من الكفار بين هذه الخلال الأربع: من القتل، والاسترقاق، والفداء، والمن وذهب جماعة من المفسرين إلى نسخ المن والفداء بالقتل، لقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] ، وقوله: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ} [الأنفال: 57] الآية، وهو قول قتادة، ومجاهد، والحسن، والسدي.
قال أبو عبيد: لم يزل رسول الله(4/119)
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عاملًا بهذه الأحكام كلها من القتل، والفداء، والمن، حتى توفاه الله على ذلك، ولا نعلمه نسخ شيئًا منها.
وقوله: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] قال ابن عباس: حتى لا يبقى أحد من المشركين.
وقال مجاهد: حتى لا يكون دين إلا دين الإسلام.
وقال سعيد بن جبير: يعني: خروج المسيح.
ومعنى الآية: حتى تضع حربكم، وقتالكم أوزار المشركين، وقبائح أعمالهم بأن يسلموا، فلا يبقى دين غير الإسلام، ولا يعبد وثن، وهذا كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن تقاتل آخر أمتي الدجال» .
قال الزجاج: أي: اقتلوهم وأسروهم حتى يؤمنوا، فما دام الكفر فالحرب قائمة أبدًا.
وقال الفراء: المعنى: حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم.
وقوله: ذلك أي: الأمر ذلك الذي ذكرنا، {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ} [محمد: 4] أن أنه قادر على الانتصار من الكفار بإهلاكهم، وتعذيبهم بما شاء، ولكن أمركم بالحرب، {لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد: 4] قال ابن عباس: يريد من قتل من المؤمنين صار إلى الثواب، ومن قتل من المشركين صار إلى العذاب.
والمعنى: أن الله تعالى ابتلى الفريقين أحدهما بالآخرة، ليثيب المؤمن، ويكرمه بالشهادة، ويخزي الكافر بالقتل، وَالَّذِينَ قَاتلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ جاهدوا المشركين، {فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 4] كما أضل أعمال الكافرين، وقرأ أبو عمرو {وَالَّذِينَ قُتِلُوا} [محمد: 4] والوجه قراءة العامة، لأنها تشمل من قاتل ممن قتل ولم يقتل، وقراءة أبي عمرو تخص المقتولين.(4/120)
ولأن الله تعالى قال: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمد: 5] ، قال ابن عباس: سيهديهم إلى أرشد الأمور، ويعصمهم أيام حياتهم في الدنيا.
وهذا لا يحسن في وصف المقتولين.
ويدخلهم الجنة في الآخرة، عرفها لهم بينها لهم حتى عرفوها من غير استدلال، وذلك أنهم إذا دخلوا الجنة، تفرقوا إلى منازلهم، فكانوا أعرف بها من أهل الجمعة إذا انصرفوا إلى منازلهم، هذا قول عامة المفسرين.
وروى عطاء، عن ابن عباس، قال: يريد طيبها لهم.
وهذا من العرف وهو الرائحة الطيبة، وطعام معرف، أي: مطيب، والمعنى: طيبها لهم بما خلق فيها من الروائح الطيبة.
قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ {7} وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ {8} ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ {9} } [محمد: 7-9] .
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ} [محمد: 7] تنصروا دينه، ورسوله، ينصركم على عدوكم، ويثبت أقدامكم عند القتال.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ} [محمد: 8] قال المبرد: فمكروها لهم وسوءًا.
وهذا إنما يقال لمن دعي عليه بالشر والهلكة، يقال: تعس يتعس تعسًا، إذا انكب وعثر.
قال ابن عباس: يريد في الدنيا العثرة، وفي الآخرة التردي في النار.
وأضل أعمالهم ذكرنا تفسيره.
ذلك التعس والإضلال، {بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [محمد: 9] على نبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبين من الفرائض من الصلاة والزكاة، فأحبط أعمالهم لأنها لم تكن في إيمان.
ثم خوف كفار مكة، بقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا {10} ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ {11} إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ {12} وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً(4/121)
مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ {13} } [محمد: 10-13] .
أفلم يسيروا إلى قوله: وللكافرين أمثالها أي: أمثال عاقبة الأولين، من إهلاكهم بالعذاب، والتدمير عليهم.
ثم ذكر سبب نصر المؤمنين، فقل: ذلك النصر، {بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [محمد: 11] وليهم، وناصرهم، {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11] لا ولي، ولا ناصر لهم.
841 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّانَ، أنا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا الْعَسْكَرِيُّ، نا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ الطَّائِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ الْكَوَّاءِ: مَنْ رَبُّ النَّاسِ؟ قَالَ: اللَّهُ، قَالَ: فَمَنْ مَوْلَى النَّاسِ؟ قَالَ: اللَّهُ، قَالَ: كَذَبْتَ، اللَّهُ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَإِنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ
ثم ذكر ما للفريقيين، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا} [محمد: 12] إلى قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ} [محمد: 12] أي: في الدنيا، {وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ} [محمد: 12] تأكل وتشرب، ولا تدري ما في غد، كذلك الكفار لا يلتفتون إلى الآخرة، {وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد: 12] منزل، ومقام، ومصير.
ثم خوفهم ليحذروا، فقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ} [محمد: 13] يعني: مكة، التي أخرجتك أخرجك أهلها، الكلام على القرية والمراد الأهل، قال ابن عباس: كم من رجال هم أشد من أهل مكة.
ولهذا قال: أهلكناهم فكنى عن الرجال، قال مقاتل: أي: بالعذاب حين كذبوا رسولهم.
{فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد: 13] قال ابن عباس: لم يكن لهم ناصر.
ثم ذكر ما بين المؤمن والكافر، فقال: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ {14} مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ {15} } [محمد: 14-15] .
{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} [محمد: 14] يقين من دينه، {كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} [محمد: 14] يعني: عبادة الأوثان، واتبعوا أهواءهم في عبادتها.
ثم وصف الجنات التي وعدها المؤمنين بقوله: مثل الجنة أي: صفتها، وقد تقدم تفسير هذا في { [الرعد،] الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [سورة محمد: 15] قال الكلبي، ومقاتل: هم أمة النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتقون الشرك.
{فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد: 15] يقال: أسن الماء، يأسن ويأسن أسنًا وأسنًا وأسونا إذا تغير، وهو الذي لا يشربه أحد من نتنه فهو آسن وأسن، مثل حاذر وحذر، {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد: 15] لم يحمض، كما يتغير ألبان أهل الدنيا، لأنها لم تخرج من ضروع الإبل والغنم،(4/122)
{وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [محمد: 15] لذيذة لهم، كما قال: {بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [الصافات: 46] ، {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد: 15] من العكر والكدر، ولهم فيها في الجنة، {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} [محمد: 15] قال الفراء: أراد: أمن كان في هذا النعيم، كمن هو خالد في النار؟ {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا} [محمد: 15] شديد الحر، تستعر عليه جهنم منذ خلقت، فقطع أمعاءهم في الجوف، من شدة الحر.
842 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدَانَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَايِعُ، أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ حَلِيمٍ الْمَرْوَزِيُّ، نا أَبُو الْمُوَجَّهِ، أنا عَبْدَانُ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، نا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِذَا شَرِبَهُ قَطَّعَ أَمْعَاءَهُ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ دُبُرِهِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [مُحَمَّد: 15] .
أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن الفضل، أنا عبد المؤمن بن خلف، أنا أبو العباس أحمد بن محمد المسروقي، حدثني علي بن يحيى، عن محمد بن عبيد الله الكاتب، قال: قدمت من مكة، فلما صرت إلى طيزناباذ، ذكرت بيت أبي نواس:
بطيزناباذ كرم ما مررت به ... إلا تعجبت ممن يشرب الماء
فهتف بي هاتف، أسمع صوته، ولا أراه:(4/123)
وفي الجحيم حميم ما تجرعه حلق ... فأبقى له في البطن أمعاء
والأمعاء: جميع ما في البطن من الحوايا، وأحدها معاء.
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ {16} وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ {17} فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ {18} فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ {19} } [محمد: 16-19] .
ومنهم يعني: من المنافقين، كانوا يستمعون إلى خطبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الجمعة، وكان يعرض بهم، ويعينهم، فإذا خرجوا من المسجد، قالوا لأولي العلم من الصحابة: {مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد: 16] أي: الساعة، ومعنى الآنف من الائتناف، يقال: ائتنفت الأمر، أي: ابتدأته، وأصله من الأنف وهو ابتداء كل شيء، وإنما سألوا أولي العلم، لأنهم لم يعقلوا ما قاله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لمنع الله تعالى إياهم عن ذلك، وهو قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [محمد: 16] قال مقاتل: ختم الله على قلوبهم بالكفر، فلا يعقلون الإيمان.
{وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 16] في الكفر والنفاق.
والذين اهتدوا يعني: أهل الإسلام، زادهم ما قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هدى قال الضحاك: كلما أتاهم من الله تنزيل فرحوا به، فزادهم الله به هدى.
وآتاهم تقواهم وفقهم للعمل بما أمروا به، وهو التقوى، ويجوز أن يكون المعنى: وآتاهم ثواب تقواهم، أي: في الآخرة.
ثم خوف كفار مكة بقرب الساعة، وأنها إذا أتت لم يقبل منهم شيء، فقال: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} [محمد: 18] وقد تقدم تفسير هذا في آي كثيرة، وقوله: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18] أي: علاماتها واحدها شرط، قال ابن عباس: معالمها.
يريد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أشراطها، وقد قال: «بعثت أنا والساعة كهاتين» .
وقال مقاتل: يعني: أعلامها من انشقاق القمر، والدخان، وخروج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد عاينوا هذا كله.
{فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} [محمد: 18] قال قتادة: يقول: أني لهم أن يتذكروا، أو يتوبوا إذا جاءتهم الساعة.
وقال عطاء: من أين لهم التوبة إذا جاءتهم الساعة؟ ومثله قوله: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر: 23] .
وقوله: {فَاعْلَمْ(4/124)
أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} [محمد: 19] قال الزجاج: الخطاب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد به غيره، ويجوز أن يكون المعنى: أقم على ذلك العلم، واثبت عليه.
ويجوز أن يكون هذا متعلقًا بما قبله، على معنى: إذا جاءتهم الساعة {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} [محمد: 19] ، يعني: أن الممالك تبطل عند ذلك، فلا ملك، ولا حكم لأحد إلا الله تعالى، واستغفر لذنبك إنما أمر بالاستغفار مع أنه مغفور له، لتستن به أمته في الاستغفار.
843 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، نا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَالِكٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، نا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ حَمْدَانَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} [مُحَمَّد: 19] الدَّوَامُ وَالثَّبَاتُ عَلَيْهِ.
844 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْحِذَامِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الضَّبِّيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ السُّكَّرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الْأَسَدِيُّ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَتَلا قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} [مُحَمَّد: 19] {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [مُحَمَّد: 19] ، قَالَ: كُنْتُ رَجُلا ذَرِبَ اللِّسَانِ عَلَى أَهْلِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَأَخْشَى أَنْ يُدْخِلَنِي لِسَانِي النَّارَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَيْنَ أَنْتَ مِنَ الاسْتِغْفَارِ؟ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ»
وقوله: وللمؤمنين والمؤمنات هذا إكرام من الله تعالى لهذه الأمة، حين أمر نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يستغفر لذنوبهم، وهو الشفيع المجاب فيهم، ثم أخبر عن علمه بأحوال الخلق ومآلهم، بقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد: 19] قال ابن عباس: متصرفكم في أعمالكم في الدنيا، ومصيرهم في الآخرة، إلى الجنة أو إلى النار.
وقال مقاتل: منتشركم بالنهار، ومأواكم بالليل.
والمعنى: أنه عالم بجميع أحوالكم، فلا يخفى عليه شيء منها.(4/125)
{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ {20} طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ {21} فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ {22} أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ {23} أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا {24} } [محمد: 20-24] .
{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ} [محمد: 20] قال ابن عباس: إن المؤمنين سألوا ربهم أن ينزل { [فيها ثواب القتال في سبيل الله.
قال الله تعالى:] فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ} [سورة محمد: 20] أي: لم ينسخ منها شيء، {وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [محمد: 20] وهم المنافقون، {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [محمد: 20] قال ابن قتيبة، والزجاج: يريد: أنهم يشخصون نحوك بأبصارهم، وينظرون نظرًا شديدًا، كما ينظر الشاخص بصره عند الموت، وإنما ذلك لأنهم منافقون، يكرهون القتال.
فأولى لهم تهديد، ووعيد لهم، قاله مقاتل، والكلبي، وقتادة.
قال الأصمعي: معنى قولهم في التهديد أولى لك، أي: وليك، وقاربك ما تكره.
{طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [محمد: 21] ابتداء محذوف الخبر، تقديره: طاعة وقول معروف أمثل وأحسن، والمعنى على هذا: أن الله تعالى، قال: لو أطاعونا، وقالوا قولًا معروفًا، كان أمثل وأحسن.
ويجوز أن يكون هذا متصلًا بما قبله، على معنى: فأولى لهم طاعة الله ورسوله وقول معروف بالإجابة، أي: لو أطاعوا كانت الطاعة والإجابة أولى لهم، وهذا معنى قول ابن عباس، في رواية عطاء، واختيار الكسائي، {فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ} [محمد: 21] أي: جد الأمر، ولزم فرض القتال، وصار الأمر معزومًا عليه، وجواب إذا محذوف، يدل عليه قوله: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد: 21] وتقديره: فإذا عزم الأمر نكلوا، أو كذبوا فيما وعدوا من أنفسهم، {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ} [محمد: 21] في إيمانهم وجهادهم، {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد: 21] من المعصية، والكراهية.
{فَهَلْ عَسَيْتُمْ} [محمد: 22] يقول: فلعلكم، إن توليتم أعرضتم عن الإسلام، وما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {أَنْ تُفْسِدُوا فِي(4/126)
الأَرْضِ} [محمد: 22] يعني: تعودوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية فتفسدوا، ويقتل بعضكم بعضًا، وهو قوله تعالى: {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22] وكأن الله تعالى يذكر منته عليهم بالإسلام حين جمعهم به، وأكرمهم بالألفة، بعدما كانوا عليه من القتل، والبغي، وقطيعة الرحم، فيقول: لعلكم إذا كرهتم الإسلام، تريدون أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه.
ثم ذم من يريد هذا، بقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 23] فلا يسمعون الحق، ولا يهتدون لرشد.
{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ} [محمد: 24] فيعرفوا ما أعد الله للمتمسك بالإسلام، {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] قال مقاتل: يعني: الطبع على القلب.
والأقفال استعارة لانغلاق القلب عن معرفة الإسلام والقرآن، ومعنى تنكير القلوب: إرادة قلوب هؤلاء، ومن كان مثلهم من غيرهم، وفي إضافة الأقفال إلى القلوب تنبيه على أن المراد بها ما هو للقلوب بمنزلة الأقفال للأبواب، إذ ليست للقلوب أقفال حقيقية، ومعنى الاستفهام في قوله: أم: الإخبار أنها كذلك، لأن معنى أم ههنا: بل.
845 - أَخْبَرَنِي أَبُو عَمْرٍو الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِهِ، أنا أَبُو الْفَضْلِ الْحَدَّادِيُّ، أنا أَبُو يَزِيدَ الْخَالِدِيُّ، أنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا الْمُغِيرَةُ بْنُ سَلَمَةَ، نا وُهَيْبٌ، نا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقْرِئُ شَابًّا فَقَرَأَ: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [مُحَمَّد: 24] فَقَالَ الشَّابُّ: عَلَيْهَا أَقْفَالُهَا حَتَّى يُفَرِّجَهَا اللَّهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقْتَ»
ثم ذكر اليهود، وسوء عاقبتهم حين ارتدوا بعد المعرفة، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ {25} ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ {26} فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ {27} ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ {28} } [محمد: 25-28] .
{إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} [محمد: 25] رجعوا كفارا، {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} [محمد: 25] ظهر لهم أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنعته، وصفته في كتابهم، {الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ} [محمد: 25] زين لهم القبيح، وأملى لهم الله أمهلهم موسعًا عليهم، ليتمادوا في طغيانهم، ولم يعجل عليهم بالعقوبة، كما قال: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 183] ويحسن الوقف على قوله: {سَوَّلَ لَهُمْ} [محمد: 25] لأنه فعل الشيطان، والإملاء فعل الله تعالى.
وعلى قول الحسن لا يحسن الوقف، لأنه يقول في تفسير وأملى لهم: مد لهم الشيطان في الأمل.
وقرأ أبو عمرو وأملي لهم على ما لم(4/127)
يسم فاعله، وهي حسنة للفصل بين فعل الشيطان وفعل الله، ويعلم يقينًا أنه لا يؤخر أحد مدة أحد، ولا يوسع فيها إلا الله عز وجل، وإن كان قد بني الفعل للمفعول.
وقوله: ذلك أي: ذلك الإملاء لليهود، {بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ} [محمد: 26] يعني: المشركين، {سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ} [محمد: 26] يعنى: في التعاون على عداوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم قالوا ذلك سرًا فيما بينهم، فأخبر الله به عنهم، وأعلم أنه يعلم ذلك، فقال: وَاللَّهُ يَعْلَمُ أسرارَهُمْ وقرئ بكسر الألف على المصدر.
ثم خوفهم، فقال: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ} [محمد: 27] أي: فكيف يكون حالهم، {إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [محمد: 27] وقد مر تفسيره.
ثم ذكر سبب ذلك الضرب، فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ} [محمد: 28] قال ابن عباس: بما كتموا من التوراة، وكفروا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} [محمد: 28] كرهوا ما فيه رضوان الله وهو الطاعة والإيمان، وإذا كرهوا ما فيه الرضوان فقد كرهوا الرضوان، {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28] التي كانوا يعملونها من صلاة، وصدقة، وصلة رحم، لأنها في غير إيمان.
ثم رجع إلى ذكر المنافقين، فقال: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ {29} وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ {30} وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ {31} إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ {32} } [محمد: 29-32] .
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} [محمد: 29] أن لن يطلع الله على ما في قلوبهم، من الحقد والعداوة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وللمؤمنين، ومعنى يخرج الله: يظهر الله ذلك من ستر الكتمان، والضغن والضغينة: الحقد.
{وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ} [محمد: 30] لأعلمناكهم، ولعرفناكهم، فلعرفتهم بسيماهم قال الزجاج: المعنى: لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة وهي السيماء، فلعرفتهم بتلك العلامة.
{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30] قال أبو زيد يقال: لحنت له ألحن إذا(4/128)
قلت له قولًا يفقهه عنك، ويخفى على غيره.
ولحن القارئ فيما قرأ إذا ترك الإعراب الصواب وعدل عنه، قال المفسرون: ولتعرفنهم في فحوى القول ومعناه، ومقصده، ومغزاه، وما يعرضون به من تهجين أمرك، وأمر المسلمين والاستهزاء بهم.
وكان بعد هذا لا يتكلم منافق عنده إلا عرفه بكلامه لما نبهه الله على ذلك بقوله: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30] استدل بفحوى كلامهم على فساد دخيلتهم.
ولنبلونكم ولنعاملنكم معاملة المختبر، بأن نأمركم بالقتال والجهاد، حتى يتبين المجاهد، والصابر على دينه، من غيره وهو قوله: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد: 31] أي: العلم الذي هو علم وجود، وهو الذي يقع به الجزاء، {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31] أي: نظهرها، ونكشفها، بإباء من يأبى القتال، ولا يصبر على الجهاد.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد: 32] يعني: قريظة والنضير، {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} [محمد: 32] بما بين لهم في التوراة، {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} [محمد: 32] إنما يضرون أنفسهم، بتركهم الهدى، وسيحبط الله أعمالهم، فلا يرون لها في الآخرة ثوابًا.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ {33} إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ {34} } [محمد: 33-34] .
قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [محمد: 33] إلى قوله: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] قال عطاء: بالشك والنفاق.
وقال الكلبي: بالرياء، والسمعة.
وقال الحسن: بالمعاصي والكبائر.
وقال أبو العالية: كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرون أنه لا يضر مع الإخلاص لله ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فخافوا الكبائر بعد أن تحبط الأعمال.
ثم قال للمسلمين: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ {35} إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ {36} إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ {37} هَأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ {38} } [محمد: 35-38] .(4/129)
{فَلا تَهِنُوا} [محمد: 35] لا تضعفوا، {وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} [محمد: 35] لا تدعوا الكفار إلى الصلح ابتداء، قال الزجاج: منع الله المسلمين أن يدعوا الكفار إلى الصلح، وأمرهم بحربهم حتى يسلموا.
وأنتم الأعلون الغالبون، قال الكلبي: آخر الأمر لكم، وإن غلبوكم في بعض الأوقات.
والله معكم بالعون، والنصرة على عدوكم، {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35] لن ينقصكم شيئًا من ثواب أعمالكم، يقال: وتره يتره وترًا، وترة إذا نقصه حقه، قال مقاتل بن حيان: لن يظلمكم أعمالكم الصالحة.
أي: يؤتيكم أجورهم.
ثم حض على طلب الآخرة، فقال: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد: 36] باطل وغرور، وتفنى وتزول عن قريب، وإن تؤمنوا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتتقوا الفواحش والكبائر، يؤتكم أجوركم بجزاء أعمالكم في الآخرة، {وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} [محمد: 36] كلها في الصدقة.
{إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ} [محمد: 37] يجهدكم بمسألة جميعها، يقال: أحفى فلان فلانًا إذا أجهده , وألحف عليه بالمسألة، تبخلوا بها فلا تعطوها، قال السدي: إن يسألكم جميع ما في أيديكم {تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد: 37] ويظهر بغضكم، وعداوتكم لله ورسوله، ولكنه فرض عليكم يسيرًا: ربع العشر.
قال قتادة: علم الله تعالى أن في مسألة الأموال خروج الأضغان.
{هَأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد: 38] يعني: ما فرض عليهم في أموالهم، أي: إنما تؤمرون بإخراج ذلك، وإنفاقه في طاعة الله، {فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ} [محمد: 38] بما فرض عليه من الزكاة، {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد: 38] قال مقاتل: إنما يبخل بالخير، والفضل في الآخرة عن نفسه.
والله الغني عما عندكم من الأموال، وأنتم الفقراء إليه، وإلى ما عنده من الخير والرحمة، وإن تتولوا عن الإسلام، وعما افترضت عليكم من حقي، {يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [محمد: 38] أمثل، وأطوع لله منكم، {ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] بل يكونون خيرًا منكم وأطوع، قال الكلبي: لم يتولوا، ولم يستبدل بهم.
846 - أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، نا جَدِّي، أنا عَلِيُّ بْنُ(4/130)
حُجْرٍ، أنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ نَجِيحٍ، عَنِ الْعَلاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ إِنْ تَوَلَّيْنَا اسْتُبْدِلُوا ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَنَا؟ قَالَ: وَكَانَ سَلْمَانُ إِلَى جَنْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى فَخِذِ سَلْمَانَ، فَقَالَ: «هَذَا وَقَوْمُهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ مَنُوطًا بِالثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ» .(4/131)
تفسير سورة الفتح
وهي عشرون وتسع آيات، مدنية.
847 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحِيرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِيرِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْفَتْحِ فَكَأَنَّمَا كَانَ مَعَ مَنْ شَهِدَ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتْحَ مَكَّةَ»
848 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، أنا أَبُو بَكْرٍ الْقَطِيعِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، نا أَبُو نُوحٍ، أنا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَقَالَ: " نَزَلَتْ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ سُورَةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا {1} لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 1-2] .
رَوَاهُ الْبُخَارِيّ، عَنِ الْقَعْنَبِيّ، عَنْ مَالِكٍ
849 - أَخْبَرَنَا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ السَّامَانِيُّ، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَامِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ، نا أَبُو الْأَشْعَثِ، نا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: لَمَّا رَجَعْنَا مِنْ غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَقَدْ حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ نُسُكِنَا، فَنَحْنُ بَيْنَ الْحُزْنِ وَالْكَآبَةِ، أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ(4/132)
فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا كُلِّهَا» .
{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا {1} لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا {2} وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا {3} } [الفتح: 1-3] .
بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] يعني: صلح الحديبية، كان فتحًا بغير قتال، قال الفراء: الفتح قد يكون صلحًا.
ومعنى الفتح في اللغة: فتح المنغلق، والصلح الذي حصل مع المشركين بالحديبية كان مسدودًا متعذرًا، حتى فتحه الله، قال جابر: ما كنا نعد فتح مكة إلا يوم الحديبية.
وقال الزهري: لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين، فسمعوا كلامهم، فتمكن الإسلام في قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير.
قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} [الفتح: 2] قال ابن الأنباري: سألت أبا(4/133)
العباس عن اللام في قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} [الفتح: 2] .
فقال: هي لام كي، معناها: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة في الفتح، فلما انضم إلى المغفرة شيء حادث واقع، حسن معنى كي، وغلط من قال: ليس الفتح سبب المغفرة، ولكن المعنى: ليجمع لك مع المغفرة تمام النعمة.
وقوله: {مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] قال ابن عباس: ما تقدم ما كان عليك من إثم الجاهلية، وما تأخر مما يكون.
وهذا على طريقة من جوز الصغائر على الأنبياء عليهم السلام، وقال سفيان الثوري: ما تقدم مما عملت في الجاهلية، {وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] ما لم تعمله.
ويذكر هذا على طريقة التأكيد كما يقال: أعطى من رآه ومن لم يره، وضرب من لقيه ومن لم يلقه.
850 - أَخْبَرَنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أنا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ بِلالٍ الْبَزَّارُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَمُرَةَ الْأَحْمَسِيُّ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُ حَتَّى تَرِمَ قَدَمَاهُ، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَصْنَعُ هَذَا وَقَدْ جَاءَكَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَنْ قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا
وقوله: {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [الفتح: 2] قال ابن عباس: في الجنة.
وروي عنه أي: بالنبوة والمغفرة، والمعنى: ليجتمع لك مع الفتح تمام النعمة بالمغفرة، والهداية إلى صراط مستقيم وهو الإسلام.
وينصرك الله على عدوك، نصرًا عزيزًا إذا عز لا يقع معه ذل.(4/134)
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا {4} لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا {5} وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا {6} وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا {7} } [الفتح: 4-7] .
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 4] الطمأنينة والوقار، لئلا تنزعج نفوسهم بما يرد عليهم، وذلك لأنهم يجدون برد اليقين في قلوبهم، {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4] وهو أنهم كلما أمروا بشيء من الشرائع والفرائض، كالصلاة، والصيام، والصدقة صدقوا به، فازدادوا تصديقًا، وذلك السكينة التي أنزلها الله في قلوبهم، وقال الكلبي: كلما نزلت آية من السماء فصدقوا بها، ازدادوا تصديقًا، وذلك بالسكينة إلى تصديقهم.
{وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الفتح: 4] قال ابن عباس: يعني: الملائكة، والجن، والإنس، والشياطين.
{وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} [الفتح: 4] بما في قلوب عباده، حكيمًا في حكمه وتدبيره.
{لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [الفتح: 5] .
851 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِئُ، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَدِينِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أنا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا {1} لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 1-2] قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُمْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَنِيئًا لَكَ مَا أَعْطَاكَ اللَّهُ، فَمَا لَنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [الفتح: 5]
وقوله: وكان ذلك أي: ذلك الوعد بإدخالهم الجنة، وتكفير سيئاتهم، عند الله في حكمه، فوزًا عظيمًا لهم، أي: حكم لهم بالفوز، فلذلك(4/135)
وعدهم إدخال الجنة.
{وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} [الفتح: 6] من أهل المدينة، والمشركين والمشركات من أهل مكة، أي: بأيدي المؤمنين، لأن نصرة الرسول والفتح عليه يقتضي ذلك، {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} [الفتح: 6] هو أنهم ظنوا أن محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ينصر، {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [الفتح: 6] أي: العذاب والهلاك يقع بهم، وقد تقدم الكلام في هذا.
قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا {8} لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا {9} إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا {10} } [الفتح: 8-10] .
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} [الفتح: 8] على أمتك بتبليغ الرسالة، ومبشرًا بالجنة للمطيعين، ونذيرًا لأهل المعصية.
ليؤمنوا بالله يعني: من آمن به وصدقه، ومن قرأ بالتاء فمعناه: قل لهم: لتؤمنوا به، وتعزروه وتعينوه، وتنصروه بالسيف واللسان، وتوقروه تعظموه وتبجلوه، {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا} [الفتح: 9] تصلوا لله بالغداة والعشي، وكثير من القراء اختاروا الوقف على: وتوقروه لاختلاف الكناية فيه، وفيما بعده.
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ} [الفتح: 10] يعني: بيعة الرضوان بالحديبية، بايعوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ألا يفروا ويقاتلوا، {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10] لأنهم باعوا أنفسهم من الله بالجنة، والعقد كان مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] نعمة الله في الهداية فوق أيديهم في الطاعة، أي: إحسان الله إليهم بأن هداهم للإيمان، أبلغ وأتم من إحسانهم إليك بالنصرة والبيعة.
وقال ابن كيسان: قوة الله ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم.
أي: ثق بنصرة الله لك، لا بنصرتهم وإن بايعوك، فمن نكث نقض ما عقد من البيعة، {فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الفتح: 10] يرجع ضرر ذلك النقض عليه، قال ابن عباس: وليس له الجنة، ولا كرامة.
ومن أوفى ثبت على الوفاء، {بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ} [الفتح: 10] من البيعة، {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10] يعني: الجنة فما فوقها.
قوله:(4/136)
{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا {11} بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا {12} وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا {13} وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا {14} } [الفتح: 11-14] .
{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ} [الفتح: 11] وهم: الذين خلفهم الله عن صحبة رسوله حين خرج عام الحديبية: شغلتنا عن الخروج معك، أموالنا وأهلونا يعني: النساء والذراري، أي: لم يكن لنا من يخلفنا فيهم، فاستغفر لنا تخلفنا عنك، {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: 11] أي: من أمر الاستغفار، لا يبالون استغفر لهم النبي أم لا، {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الفتح: 11] قال ابن عباس: فمن يمنعكم من عذاب الله.
{إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا} [الفتح: 11] يعني: سوءا، وقرئ بضم الضاد وهو سوء الحال، {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا} [الفتح: 11] يعني: الغنيمة، وذلك أنهم ظنوا أن تخلفهم عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدفع عنهم الضر، ويعجل لهم النفع بالسلامة في أنفسهم وأموالهم، فأخبرهم الله أنه إن أراد بهم شيئًا، لم يقدر أحد على دفعه عنهم، {بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [الفتح: 11] كان عالمًا بما كنتم تعملون في تخلفكم.
{بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا} [الفتح: 12] ظننتم أنهم لا يرجعون إلى من خلفوا بالمدينة من الأهل والأولاد، لأن العدو يستأصلهم، {وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ} [الفتح: 12] زين الشيطان ذلك الظن في قلوبكم، قال قتادة: ظنوا بنبي الله، وأصحابه أنهم لن يرجعوا من وجههم ذلك، وأنهم سيهلكون، فذلك الذي خلفهم.
وهو قوله {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح: 12] هلكى، لا تصلحون لخير، قال الزجاج: هالكين عند الله.
وقد تقدم تفسيره.
وما بعد هذا ظاهر، إلى قوله: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلا(4/137)
قَلِيلا {15} قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا {16} } [الفتح: 15-16] سيقول المخلفون يعني: هؤلاء، إذا انطلقتم سرتم، وذهبتم أيها المؤمنون، {إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} [الفتح: 15] يعني: غنائم خيبر، وذلك أنهم لما انصرفوا من الحديبية بالصلح، وعدهم الله فتح خيبر، وخص بغنائمها من شهد الحديبية، فلما انطلقوا إليها، قال هؤلاء المخلفون: ذرونا نتبعكم قال الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح: 15] وقرئ كلم الله وهو جمع قلة، قال ابن عباس: يريدون مواعيد الله لأهل الحديبية بغنيمة خيبر خاصة.
وقال مقاتل: يعني: أمر الله لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألا يسير معه منهم أحد.
{قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} [الفتح: 15] أي: قال الله بالحديبية قبل خيبر مرجعنا إليكم، إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية، {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} [الفتح: 15] يمنعكم الحسد أن نصيب معكم الغنائم، فقال الله: {بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ} [الفتح: 15] لا يعلمون عن الله ما لهم، وما عليهم من الدين، إلا قليلًا يسيرًا منهم، وهو من صدق الله والرسول، ولم ينافق.
{قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الفتح: 16] أكثر المفسرين: على أن هؤلاء بنو حنيفة أتباع مسيلمة، وقال رافع بن خديج: كنا نقرأ هذه الآية، ولا نعلم من هم، فلما دعا أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، إلى قتال بني حنيفة، فعلمنا أنهم هم.
وقال ابن جريج: سيدعوكم عمر، رضي الله عنه، إلى قتال فارس.
{تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] أو يكون منهم الإسلام، فإن تطيعوا أبا بكر، وعمر رضي الله عنهما، {يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا} [الفتح: 16] يعني: الجنة، وإن تتولوا تعرضوا عن طاعتهما، {كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ} [الفتح: 16] أعرضتم عن طاعة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المسير إلى الحديبية، يعذبكم في الآخرة، عذابًا أليمًا والآية تدل على خلافة الشيخين رضي الله عنهما لأن الله تعالى وعد على طاعتهما الجنة، وعلى مخالفتهما العذاب الأليم.(4/138)
{لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 17] .
{لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} [الفتح: 17] قال مقاتل: عذر الله أهل الزمانة، الذين تخلفوا عن المسير إلى الحديبية بهذه الآية.
ثم ذكر الذين أخلصوا نيتهم لله، وشهدوا بيعة الرضوان، فقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا {18} وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا {19} وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا {20} وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا {21} } [الفتح: 18-21] .
{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] يعني: بيعة الحديبية، وهي تسمى بيعة الرضوان لهذه الآية، قال عطاء، عن ابن عباس: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج يريد مكة، فلما بلغ الحديبية، وقفت ناقته، فزجرها، فلم تنزجر وبركت، فقال أصحابه: خلأت الناقة.
فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما هذا لها بعادة، ولكن حبسها حابس الفيل» .
ودعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ليرسله إلى أهل مكة، ليأذنوا له بأن يدخل مكة، ويحل من عمرته، وينحر هديه، فقال: يا رسول الله، ما لي بها حميم، وإني أخاف قريشًا على نفسي، ولقد علمت قريش شدة عداوتي(4/139)
إياها، ولكن أدلك على رجل هو أعز بها مني، عثمان بن عفان.
قال: «صدقت» .
فدعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عثمان بن عفان رضي الله عنه، فأرسله، فجاء الشيطان، وصاح في عسكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن أهل مكة قتلوا عثمان بن عفان، فقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الشجرة فاستند إليها، وبايع الناس على قتال أهل مكة، قال عبد الله بن أبي أوفي: كنا يومئذ ألف وثلاث مائة.
وقال جابر: كنا ألف وأربع مائة.
وقال البراء: كنا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربع عشرة مائة، والحديبية بئر فنزحناها، فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأتاها فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ وتمضمض، ودعا ثم صبه فيها، فتركناها غير بعيد، ثم إنا أصدرنا، فأنشأنا نشرب نحن وركابنا.
وقوله: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: 18] أي: من الصدق والوفاء، {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 18] يعني: فتح خيبر.
{وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} [الفتح: 19] من أموال يهود خيبر، وكانت ذات عقار وأموال، {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا} [الفتح: 19] غالبًا، حكيمًا في أمره: حكم لكم بالغنيمة، ولأهل خيبر بالسبي والهزيمة.
ثم ذكر سائر المغانم التي يأخذونها فيما يأتي من الزمان، فقال: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} [الفتح: 20] قال مقاتل: مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن بعده إلى يوم القيامة.
{فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح: 20] يعني: غنيمة خيبر، {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} [الفتح: 20] وذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قصد خيبر، وحاصر أهلها، قبائل من أسد، وغطفان، أن يغيروا على عيال المسلمين وذراريهم بالمدينة، فكف الله تعالى أيديهم، بإلقاء الرعب في قلوبهم، ولتكون الغنيمة التي عجلها الله لكم، آية للمؤمنين على صدقك، حيث وعدتهم أن يصيبوها، {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 20] يزيدكم هدى، بالتصديق لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولما جاء به، مما(4/140)
ترون من عدة الله في القرآن بالفتح والغنيمة.
{وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} [الفتح: 21] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد فارس والروم، وما كانت العرب تقدر على القتال فارس والروم، وفتح مدائنهم.
بل كانوا خولًا لهم حتى قدروا عليها بالإسلام، {قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} [الفتح: 21] جعلها لكم، وحواها لكم، قال الفراء: أحاط الله بها لكم حتى يفتحها عليكم، كأنه قال: حفظها لكم، ومنعها عن غيركم، حتى تفتحوها فتأخذوها.
{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} [الفتح: 21] من فتح القرى، وغير ذلك، قديرًا.
قوله تعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا {22} سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا {23} وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا {24} هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا {25} إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا {26} } [الفتح: 22-26] .
{وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الفتح: 22] يعني: أسدًا وغطفان، الذين أرادوا نهب ذراري المسلمين، لولوا الأدبار لانهزموا عنكم، لأن الله تعالى ينصركم عليهم، {ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [الفتح: 22] قال ابن عباس: من تولى غير الله، خذله الله ولم ينصره.
ثم ذكر أن سنة الله النصرة لأوليائه، فقال: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ} [الفتح: 23] قال ابن عباس: يريد هذه سنتي في أهل طاعتي، وأهل معصيتي: أنصر أوليائي، وأخذل أعدائي.
ثم ذكر منته بالمحاجزة بين الفريقين، بقوله: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} [الفتح: 24] وذلك أن المشركين جاءوا يصدون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن البيت عام الحديبية.(4/141)
852 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّيْدَلانِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَيِّعُ، أنا أَبُو الْعَبَّاسِ السَّيَّارِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِلالٍ، نا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، أنا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، حَدَّثَنِي ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا ثَلاثُونَ شَابًّا عَلَيْهِمُ السِّلاحُ فَثَارُوا فِي وُجُوهِنَا، فَدَعَا عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ اللَّهُ أَبْصَارَهُمْ، فَقُمْنَا إِلَيْهِمْ فَأَخَذْنَاهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَلْ جِئْتُمْ فِي عَهْدٍ، أَوْ هَلْ جَعَلَ لَكُمْ أَحَدٌ أَمَانًا؟ فَقَالُوا: اللَّهُمَّ لا، فَخَلَّى سَبِيلَهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الفتح: 24] .
853 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَمْرَوَيْهِ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ ثَمَانِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ هَبَطُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جَبَلِ التَّنْعِيمِ مُتَسَلِّحِينَ يُرِيدُونَ غِرَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، فَأَخَذَهُمْ سِلْمًا فَاسْتَحْيَاهُمْ(4/142)
وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 24] وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ مِنَّتَهُ بِحَجْزِهِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ حَتَّى لَمْ يَقْتَتِلا، وَحَتَّى اتَّفَقَ بَيْنَهُمُ الصُّلْحُ الَّذِي كَانَ أَعْظَمَ مِنَ الْفَتْحِ
ثم ذكر سبب منعه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك العام دخول مكة، فقال: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الفتح: 25] يعني: كفار مكة، {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الفتح: 25] أن تطوفوا به، وتحلوا من عمرتكم، والهدي وصدوا الهدي، وهي: البُدْن التي ساقها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معه، وكانت سبعين بدنة، معكوفًا محبوسًا، يقال: عكفته عن كذا عكفًا، أي: حبسته فعكف عكوفًا، كما يقال: رجعته رجعًا، فرجع رجوعًا، {أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] منحره، وهو حيث تحل نحره يعني: الحرم، {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} [الفتح: 25] يعني: المستضعفين من المؤمنين الذين كانوا بمكة بين الكفار، لم تعلموهم لم تعرفوهم، أن تطئوهم بالقتل وتوقعوا بهم، قال الزجاج: المعنى: لولا أن تطئوا رجالًا مؤمنين، ونساء مؤمنات.
{فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ} [الفتح: 25] إثم، وجناية بغير علم، وذلك: أنهم لو كبسوا مكة وفيها قوم مؤمنون، لم يتميزوا من الكفار، لم يأمنوا أن يقتلوا المؤمنين فتلزمهم الكفارة، وتلحقهم سبة بأنهم قتلوا من هو على دينهم، فهذه المعرة التي صان الله المؤمنين عنها، وقوله: بغير علم موضعه التقديم، لأن التقدير: لولا أن تطئوهم بغير علم، {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [الفتح: 25] اللام متعلقة بمحذوف دل عليه معنى الكلام على تقدير: حال بينكم وبينهم، ليدخل الله في رحمته من يشاء، يعني: من أسلم من الكفار بعد الصلح، لو تزيلوا لو تميزوا، يعني: المؤمنين من الكفار، {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 25] يعني: بالقتل، والسبي بأيديكم.
{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ} [الفتح: 26] وهي الأنفة والإنكار، يقال: فلان ذو حمية منكرة، إذا كان ذا غضب وأنفة، قال المقاتلان: قال أهل مكة: قد قتلوا أبناءنا وإخواننا، ويدخلون علينا في منازلنا، فتحدث العرب أنهم قد دخلوا علينا رغم أنفنا! واللات والعزى لا يدخلونها عليها.
فهذه حمية الجاهلية التي دخلت قلوبهم، {فَأَنْزَلَ اللَّهُ(4/143)
سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 26] حتى لم يدخلهم ما دخلهم من الحمية، فيعصوا الله في قتالهم، وقوله: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح: 26] وهي: لا إله إلا الله، الكلمة التي ينفى بها الشرك.
854 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَخْلَدِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ، أنا مُحَمَّد بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، نا الْحَسَنُ بْنُ قَزَعَةَ، نا سُفْيَانُ بْنُ حَبِيبٍ، نا شُعْبَةُ، عَنْ ثُوَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح: 26] قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ.
855 - أَخْبَرَنَا عبد الرحمن بن حمدان، أنا أحمد بن جعفر القطيعي، نا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حَدَّثَنِي أبي، نا عبد الوهاب الخفاف، نا شعبة، عن قتادة، عن مسلم بن يسار، عن حمدان بن أبان، عن عثمان بن عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سمعت رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول: «إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد حقًا من قلبه إلا حرم على النار» فَقَالَ عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أنا أحدثك مَا هِيَ، هِيَ كلمة الإخلاص التي ألزمها الله تَعَالَى محمدًا وأصحابه، وهي كلمة التقوى التي ألاص عليه نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمه أبو طالب عند الموت، شهادة أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ
{وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا} [الفتح: 26] من كفار مكة، وكانوا أهلها في علم الله، لأن الله تعالى اختار لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولدينه أهل الخير، ومن هم أولى بالهداية من غيرهم، {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الفتح: 26] من أمر الكفار وما يستحقونه، وأمر المؤمنين وما يستحقونه.
قوله:(4/144)
{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا {27} هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا {28} } [الفتح: 27-28] .
{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} [الفتح: 27] قال المفسرون: إن الله تعالى أرى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام، بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية، كأنه وأصحابه حلقوا، وقصروا، فأخبر بذلك أصحابه، ففرحوا، وحسبوا أنهم دخلوا مكة عامهم ذلك، وقالوا: إن رؤيا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق.
فلما انصرفوا، ولم يدخلوا مكة، قال المنافقون: والله ما حلقنا، ولا قصرنا، ولا دخلنا المسجد الحرام.
فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأخبر أنه أرى رسوله الصدق في منامه لا الباطل، وأنهم يدخلونه، فقال: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [الفتح: 27] يعني: العام المقبل، {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الفتح: 27] قال أبو عبيدة: إن بمعنى: إذ، يعني: إذ شاء الله حيث أرى رسوله ذلك.
وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: استثنى الله فيما يعلم، ليستثني الخلق فيما لا يعلمون.
يعني: أنه تعالى علم أنهم يدخلونه، ولكنه استثنى على ما أمر به في قوله: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا {23} إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23-24] ، وقوله: آمنين أي: من العدو، محلقين رءوسكم يقال: حلق رأسه، وحلقه بمعنى، ومقصرين أي: من الشعر، يقال: قصر شعره: إذا جزه من طوله، وهذا يدل على أن المحرم بالخيار عند التحلل من الإحرام، إن شاء حلق، وإن شاء قصر، لا تخافون أي: غير خائفين عدوا من المشركين، {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا} [الفتح: 27] علم الله ما في تأخير الدخول من الخير والصلاح، ولم تعلموا أنتم، وهو خروج المؤمنين من بيتهم، والصلح المبارك موقعة، {فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ} [الفتح: 27] من قبل الدخول، فتحًا قريبًا يعني: فتح خيبر، في قول عطاء، ومقاتل.
وفي قول الآخرين يعني: صلح الحديبية.
قوله: {هُوَ(4/145)
الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى} [الفتح: 28] مفسر في { [براءة،] وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [سورة الفتح: 28] أي: على ما أرسل.
قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29] .
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29] قال ابن عباس: شهد له بالرسالة.
والذين معه قال: يعني: أهل الحديبية.
وقال مقاتل: والذين آمنوا معه من المؤمنين.
{أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح: 29] غلاظ عليهم، كالأسد على فريسته، رحماء بينهم متوادون ببعضهم لبعض، كالولد لوالده، والعبد لسيده، كقوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] ، {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح: 29] إخبار عن كثرة صلاتهم، ومداومتهم عليها، {يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29] يعني: الجنة، ورضا الله، {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29] لكثرة صلاتهم بالليل، يتبين في وجوههم أثر السهر، قال الضحاك: إذا سهر الرجل أصبح مصفرًا.
وقال عطية: مواضع السجود أشد وجوههم بياضًا يوم القيامة.
وهذا قول الزهري، وقال مجاهد: هو الخشوع والتواضع.
وهو قول ابن عباس، في رواية الوالبي، قال: الهدى والسمت الحسن.
المعنى: أن السجود أورثهم ذلك الخشوع، والسمت الحسن الذي يعرفون به، وقال عكرمة: هو التراب على الجباه.
قال أبو العالية: لأنهم يسجدون على الترب، لا على الأثواب.
{ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الفتح: 29] يعني: ما ذكر من وصفهم هو ما وصفوا به في التوراة أيضًا، ثم ذكر نعتهم في الإنجيل، فقال: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} [الفتح: 29] أي: فراخه، وجمعه أشطاء، يقال: أشطأ الزرع إذا فرخ، والشطأ والشطأ لغتان، كالنهر والنهر، فآزره ستره، وأعانه، وقواه، قال المبرد: يعني: أن هذه الأفرخ لحقت الأمهات حتى صارت مثلها.(4/146)
وقرأ ابن عامر: فأزره مقصورًا، قال الفراء: أزرت فلانًا آزره، إذا قويته.
فاستغلظ أي: غلظ ذلك الزرع، {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح: 29] قام على قصبه وأصوله، فأعجب ذلك زراعه، وهو قوله: يعجب الزراع وهذا مثل ضربه الله تعالى لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، فالزرع محمد، والشطأ أصحابه، والمؤمنون حوله، وكانوا في ضعف وقلة كما كان أول الزرع دقيقًا، ثم غلظ وقوي، وتلاحق، كذلك المؤمنون قوي بعضهم بعضًا، حتى استغلظوا، واستووا على أمرهم، {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29] أي: إنما كثرهم وقواهم، ليكونوا غيظًا للكافرين.
856 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ، أنا أَبُو الشَّيْخُ، نا الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ، نا رسته، نا أَبُو غَزْوَةَ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فَذَكَرُوا رَجُلًا يَنْتَقِصُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ أَصْبَحَ مِنَ النَّاسِ، وَفِي قَلْبِهِ غَيْظٌ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ أَصَابَتْهُ هَذِهِ الآيَةُ.
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ} [الفتح: 29] قال الزجاج: منهم تخليص للجنس، وليس يريد بعضهم، لأنهم كلهم مؤمنون.
{مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29] يعني: الجنة.(4/147)
تفسير سورة الحجرات
وهي ثماني عشرة آية، مدنية.
857 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمُقْرِي، أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَخْلِدِيُّ، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ حَمْدَوَيْهِ بْنِ خَالِدٍ، نا هِلالُ بْنُ الْعَلاءِ، قَالَ: نا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَهِ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ الرَّحْبِيِّ، عَنْ ثَوْبَانَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ أَعْطَانِي السَّبْعَ الطُّوَلَ مَكَانَ التَّوْرَاةِ، وَأَعْطَانِي الْمِئِينَ. . . . . . . . . .(4/148)
مَكَانَ الْإِنْجِيلِ، وَأْعَطَانِي مَكَانَ الزَّبُورِ الْمَثَانِيَ، وَفَضَّلَنِي رَبِّي بِالْمُفَصَّلِ»
858 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِي، نا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْعَدْلُ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا الْمَدَائِنِيُّ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْفَتْحِ فَكَأَنَّمَا كَانَ مَعَ مَنْ شَهِدَ مَعَ مُحَمَّدٍ فَتْحَ مَكَّةَ، وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْحُجُرَاتِ أُعْطِيَ مِنَ الْأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ بِعَدَدِ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ عَصَاهُ» .
بسم الله الرحمن الرحيم {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {1} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ {2} إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ {3} إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ {4} وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ {5} } [الحجرات: 1-5] .
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] قدم ههنا بمعنى: تقدم، وهو لازم، يدل عليه قراءة الضحاك لا تَقْدَموا بفتح التاء والدال، قال أبو عبيدة: العرب(4/149)
تقول: لا تقدم بين يدي الإمام، وبين يدي الأب.
أي: لا تعجل بالأمر والنهي دونه.
ومعنى بين اليدين ههنا: الأمام والقدام، وذلك راجع إلى قدام الأمر والنهي، لأن المعنى: لا تقدموا قبل أمرهما ونهيهما، وبين اليدين عبارة عن الأمام، لأن ما بين يدي الإنسان أمامه، ومعنى الآية: لا تقطعوا أمرًا دون الله ورسوله، أي: ولا تعجلوا به، قال جابر: نزلت في النهي عن الذبح يوم الأضحى قبل الصلاة.
وقالت عائشة رضي الله عنها: نزلت في النهي عن صوم يوم الشك.
859 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْهَيْثَمِ الْأَنْبَارِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْعَوَّامِ، نا أَبِي، نا النُّعْمَانُ بْنُ عَبْدِ السَّلامِ التَّمِيمِيُّ، عَنْ زُفَرَ بْنِ الْهُذَيْلِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ حبال بْنِ رُفَيْدَةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] قَالَتْ: لا تَصُومُوا قَبْلَ أَنْ يَصُومَ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
واتقوا لله في تضييع حقه، ومخالفة أمره، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} [الحجرات: 1] لأقوالكم، عليم بأفعالكم.
قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] قال أنس: لما نزلت هذه الآية، قال ثابت بن قيس الأنصاري: أنا الذي كنت أرفع صوتي فوق صوت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأجهر له بالقول، حبط عملي، وأنا من أهل النار.
وكان ثابت رفيع الصوت، فذكر ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال:(4/150)
«هو من أهل الجنة» .
{وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} [الحجرات: 2] قال الزجاج: أمرهم الله تعالى بتبجيل نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن يغضوا أصواتهم، وأن يخاطبوه بالسكينة والوقار.
{أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} [الحجرات: 2] أي: لئلا تحبط، أو مخافة أن تحبط أعمالكم، {وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2] لا تعلمون به، وهذا يدل على أنه يجب أن يعظم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غاية التعظيم، فقد يأتي الإنسان الشيء اليسير في بابه، فيكون ذلك محبطًا لعمله، مهلكًا إياه وهو لا يعلم ذلك.
{إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} [الحجرات: 3] قال عطاء، عن ابن عباس: لما نزل قوله: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} [الحجرات: 2] تألى أبو بكر رضي الله عنه، أن لا يكلم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلا كأخي السرار، فأنزل الله تعالى في أبي بكر هذه الآية.
860 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْقَاضِي، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْقُرَشِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ، نا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، نا حُصَيْنُ بْنُ عُمَرَ الْأَحْمَسِيُّ، نا مُخَارِقٌ، عَنْ طَارِقٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ} [الحجرات: 3] الآية آلَيْتُ عَلَى نَفْسِي أَنْ لا أُكَلِّمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلا كَأَخِي السِّرَارِ
وقال ابن الزبير: ما حدث عمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد قوله: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} [الحجرات: 2] فيسمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلامه حتى يستفهمه مما يخفض صوته، فأنزل الله تعالى فيه: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ} [الحجرات: 3] والغض: النقص من كل شيء.
ذكرنا عند قوله: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان: 19] ، {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات: 3] قال الفراء: أخلص قلوبهم للتقوى، كما يمتحن الذهب بالنار، فيخرج جيده من رديئه ويسقط خبثه.
وعلى هذا تقدير الكلام: {امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الحجرات: 3] فأخلصها للتقوى، فحذف الإخلاص لدلالة الامتحان عليه، ولهذا قال مقاتل، ومجاهد، وقتادة: أخلص الله قلوبهم.
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} [الحجرات: 4] هم الجفاة من(4/151)
بني تميم، قدموا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لفداء ذراري لهم سبيت، فنادوا: يا محمد اخرج إلينا.
وقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد نام للقابلة، فتأذى بأصواتهم، ولم يعلموا في أي حجرة هو، فكانوا يطوفون على الحجرات، وينادونه، {أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4] وصفهم الله بالجهل، وقلة الصبر، وقلة العقل، فقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [الحجرات: 5] .
قال مقاتل: يعني بالخير: أنهم لو صبروا، لخلى سبيلهم بغير فداء، فلما نادوه، أعتق نصف ذراريهم، وفادى نصفهم.
يقول الله تعالى: ولو صبروا، لكنت تعتق كلهم.
{وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 5] لمن تاب منهم.
قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ {6} وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ {7} فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {8} } [الحجرات: 6-8] .
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات: 6] نزلت في الوليد بن عقبة، بعثه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مصدقًا إلى بني المصطلق، فلما سمعوا به، اجتمعوا ليتلقوه، وكانت بينهم عداوة في الجاهلية، ففرق الوليد، ورجع إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: إنهم قد منعوا الصدقة، وارتدوا.
فنزلت فيه هذه الآية، قوله: فتبينوا ذكرنا القراءة فيه في { [النساء،] أَنْ تُصِيبُوا} [سورة الحجرات: 6] أي: لئلا تصيبوا، {قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6] بحالهم، وما هم عليه من الإسلام، والطاعة، {فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ} [الحجرات: 6] من إصابتهم بالخطأ، نادمين وذلك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم بالإيقاع بهم حتى نزلت هذه(4/152)
الآية.
ثم وعظهم، فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} [الحجرات: 7] معناه: اتقوا أن تكذبوا، أو تقولوا باطلًا، فإن الله تعالى يخبره، فتفتضحوا، ثم قال: لو يطيعكم أي: الرسول، {فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ} [الحجرات: 7] مما تخبرونه فيه بالباطل، لعنتم أي: لوقعتم في عنت، وهو الإثم والهلاك، ثم خاطب المؤمنين الذين لا يكذبون، فقال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ} [الحجرات: 7] جعله أحب الأديان إليكم، {وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7] حتى اخترتموه، {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ} [الحجرات: 7] جعل الكفر تكرهونه، والفسوق قال ابن عباس: يريد الكذب.
والعصيان جميع معاصي الله.
ثم عاد إلى الخبر عنهم، فقال: {أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7] هم المهتدون إلى محاسن الأمور.
ثم بين أن جميع ذلك تفضل من الله تعالى، فقال: {فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات: 8] قال ابن عباس: يريد تفضلًا مني عليهم، ورحمة مني لهم.
والله عليم بما في قلوبهم، حكيم فيهم بعلمه.
قوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {9} إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ {10} } [الحجرات: 9-10] .
{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] .
861 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سِنَانٍ الْمُقْرِئُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى، نا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ، نا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قِيلَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَوْ أَتَيْتَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ، فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَكِبَ حِمَارًا، وَانْطَلَقَ الْمُسْلِمُونَ يَمْشُونَ، وَهِيَ أَرْضٌ سَبِخَةٌ، فَلَمَّا أَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِلَيْكَ عَنِّي فَوَاللَّهِ لَقَدْ آذَانِي نَتْنُ حِمَارِكَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: وَاللَّهِ لَحِمَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْيَبُ رِيحًا مِنْكَ، فَغَضِبَ لِعَبْدِ اللَّهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ وَغَضِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْحَابُهُ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا ضَرْبٌ بِالْجَرِيدِ وَالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ، فَبَلَغَنَا أَنَّهُ أُنْزِلَتْ فِيهِمْ {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُسَدَّدٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى كِلاهُمَا عَنِ الْمُعْتَمِرِ
قال الحسن، وقتادة، والسدي: فأصلحوا بينهما(4/153)
بالدعاء إلى حكم كتاب الله، والرضا بما فيه، لهما وعليهما.
{فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا} [الحجرات: 9] طلبت ما ليس لها، ولم ترجع إلى الصلح، {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] ترجع إلى طاعة الله، والصلح الذي أمر الله به.
862 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ التَّاجِرُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ شَاذَانَ، نا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، نا أَبُو نَصْرٍ التَّمَّارُ، نا كَوْثَرُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ " هَلْ تَدْرِي كَيْفَ حُكْمُ اللَّهِ، فِيمَنْ بَغَى مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ؟ قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: لا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهَا، وَلا يُقْتَلُ أَسِيرُهَا، وَلا يُطْلَبُ هَارِبُهَا، وَلا يُقْسَمُ فَيْئُهَا "
وأقسطوا أي: اعدلوا في الإصلاح بينهما، وفي كل حكم، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هم الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم، وما ولوا» .
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] قال الزجاج: أعلم الله أن الدين يجمعهم، وأنهم إخوة إذا كانوا متفقين في دينهم، فرجعوا بالاتفاق في الدين إلى أصل النسب، لأنهم لآدم وحواء.
{فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] يعني: بين كل مسلمين تخاصما، وتقاتلا، ومعنى الآيتين يأتي على الجميع، لأن تأويله بين كل أخوين.
863 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، نا أَبُو أَحْمَدَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ، نا قُتَيْبَةُ، نا اللَّيْثُ، عَنْ عَقِيلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ وَلا يَشْتُمُهُ مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ كِلاهُمَا عَنِ اللَّيْثِ.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ(4/154)
وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {11} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ {12} يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {13} قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {14} إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ {15} قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {16} يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {17} إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ {18} } [الحجرات: 11-18] .
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات: 11] قال مقاتل: يقول: لا يستهزئ الرجل من أخيه، فيقول: إنك رديء المعيشة، لئيم الحسب، وأشباه ذلك مما ينتقصه به، ولعله خير منه عند الله.
وهو قوله: {عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} [الحجرات: 11] ، وقوله: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: 11] أي: لا تعيبوا إخوانكم الذين هم كأنفسكم، كقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] ، {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات: 11] التنابز: التفاعل من النبز، وهو مصدر والنبز الاسم، والألقاب: جمع اللقب، وهو اسم غير الاسم الذي سمي به الإنسان، قال المفسرون: هو أن يقول لأخيه المسلم: يا فاسق يا منافق، أو يقول لمن أسلم: يا يهودي، يا نصراني.
يدعوه بما كان عليه في الشرك، وقال عطاء: هو كل شيء أخرجت به أخاك عن الإسلام، كقوله: يا كلب، يا حمار، يا خنزير.
{بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ} [الحجرات: 11] أي: بئس الاسم أن تقول له: يا يهودي، يا نصراني، وقد آمن، {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ} [الحجرات: 11] من التنابز، {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11] .
قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات: 12] قال الزجاج: هو أن تظن بأهل الخير سوءًا، فأما أهل السوء، والفسق، فلنا أن نظن بهم مثل الذي ظهر منهم.
وقال المقاتلان: هو أن يظن بأخيه المسلم سوءًا، ولا بأس به ما لم يتكلم به، فإن تكلم بذلك الظن،(4/155)
وأبداه أثم.
وهو قوله: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12] يعني: ما أعلنه مما ظن بأخيه المسلم، ولا تجسسوا التجسس: البحث عن عيوب المسلمين وعوراتهم، يقول: لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه، حتى يطلع عليه إذا ستره الله.
864 - أَخْبَرَنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، أنا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الْقَاضِي، نا عَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ، أنا سُلَيْمُ بْنُ حَيَّانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلا تَجَسَّسُوا، وَلا تَقَاطَعُوا، وَلا تَحَاسَدُوا، وَلا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا»
وقوله: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12] ، يقول: لا يتناول بعضكم بعضًا بظهر الغيب، بما يسوءه مما هو فيه، فإن تناوله بما ليس فيه، فهو بهت وبهتان.
865 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَأَبُو مَنْصُورِ بْنُ طَاهِرٍ، وَأَبُو سَعْدِ بْنُ أَبِي رُشَيْدٍ، قَالُوا جَمِيعًا: أنا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبُوشَنْجِيُّ، نا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامٍ، نا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، نا رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنِ الْعَلاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ مَا الْغِيبَةُ؟ قَالَ: " ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ، قَالَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: إِنْ كَانَ فِي أَخِيكَ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَلاءِ
866 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ، أنا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ بِوَاسِطَ، نا أَبُو بَكْرٍ خَلِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ، أنا جَدِّي تَمِيمُ بْنُ الْمُنْتَصِرِ، أنا أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَبُو رَجَاءٍ الْخُرَاسَانِيُّ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنِ الْجَرِيرِيِّ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَالْغِيبَةَ، فَإِنَّ الْغِيبَةَ أَشَدُّ مِنَ الزِّنَا» ،(4/156)
قَالَ: ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرَّجُلَ يَزْنِي ثُمَّ يَتُوبُ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنَّ صَاحِبَ الْغِيبَةِ لا يُغْفَرُ لَهُ حَتَّى يَغْفِرَ لَهُ صَاحِبُهَا» .
867 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدُّرَّكِيُّ، أنا أَبُو بَحْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ كَوْثَرٍ، نا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ يَزْدَادَ الرَّاسِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَمْرٍو، حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا اغْتَابَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ مِنْ خَلْفِهِ، فَلْيَسْتَغْفِرْ لَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَفَّارَةٌ لَهُ»
868 - حَدَّثَنَا الْإِمَامُ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ إِمْلاءً، أنا الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ، نا جعديةُ بْنُ يَحْيَى اللَّيْثِيُّ، عَنِ الْعَلاءِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ لِفَاسِقٍ غِيبَةٌ»
ثم ضرب للغيبة مثلًا، فقال: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} [الحجرات: 12] قال الزجاج: تأويله: إن ذكرك بسوء من لم يحضرك، بمنزلة أكل لحمه وهو ميت لا يحس بذلك.
قال مجاهد: لما قيل لهم: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} [الحجرات: 12] قالوا: لا.
قيل: فكرهتموه أي: فكما كرهتم هذا، فاجتنبوا ذكره بالسوء غائبًا.
ويقال للمغتاب: فلان يأكل لحوم الناس.
869 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ نُجَيْدٍ، نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَوَّارٍ، أنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، نا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: مَرَّ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عَلَى بَغْلٍ مَيِّتٍ، فَقَالَ: لَأَنْ يَأْكُلَ أَحَدُكُمْ مِنْ هَذَا حَتَّى يَمْتَلِئَ جَوْفُهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ لَحْمِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ.
أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر الخشاب، أنا إبراهيم بن عبد الله الأصبهاني، أنا محمد بن إسحاق السراج، نا قتيبة، عن مروان بن سالم القرشي، نا(4/157)
مسعدة بن اليسع، عن الربيع بن صبيح، عن يزيد الرقاشي: أن رجلًا اغتاب عنده رجلًا، قال: فأخبرني أنه رأى في المنام، كأن زنجيًا أتاه بطبق عليه جنب لحم خنزير لم أر لحمًا أنتن منه، فقال: كل.
فقلت: آكل لحم خنزير! قال: فتهددني، وقال لي: كل.
فأكلت، قال يزيد: فحلف لي أنه لم يزل شهرًا يجد نتن ذلك في فيه.
واتقوا الله في الغيبة، {إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ} [الحجرات: 12] على من تاب، رحيم به.
قوله: {يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13] يعني: آدم وحواء، أي: إنكم متساوون في النسب، لأن كلكم يرجع بالنسب إلى آدم وحواء، نزلت الآية في الزجر عن التفاخر بالأنساب.
870 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَحْرٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الصَّنْعَانِيُّ، نا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حَنَشٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّمَا أَنْتُمْ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ كَطَفِّ الصَّاعِ لَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ فَضْلٌ إِلا بِالتَّقْوَى»
ثم ذكر أنه إنما فرق بين أنساب الناس، ليتعارفوا، لا ليتفاخروا، فقال: وجعلناكم شعوبًا وهي جمع شعب، وهو الحي العظيم مثل مضر وربيعة، والقبائل دونها، وهم كبكر من ربيعة، وتميم من مضر، هذا قول جماعة المفسرين، وروى عطاء، عن ابن عباس، قال: يريد بالشعوب الموالي، وبالقبائل العرب.
وإلى هذا ذهب قوم، فقالوا: الشعوب من العجم، وهم من لا يعرف لهم أصل، ولا نسب كالهند، والجيل، والترك، والقبائل من العرب.
وقوله: لتعارفوا أي:(4/158)
يعرف بعضكم بعضًا في قرب النسب وبعده، ثم أعلمهم أن أرفعهم عنده منزلة أتقاهم، فقال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] .
871 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدَانَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدَوَيْهِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الشَّيْبَانِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَخْزُومِيُّ، حَدَّثَتْنِي أُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ الْعَلاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهَا، عَنْ جَدِّهَا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَمَرْتُكُمْ فَضَيَّعْتُمْ مَا عَهِدْتُ إِلَيْكُمْ فِيهِ، وَرَفَعْتُمْ أَنْسَابَكُمْ فَالْيَوْمَ أَرْفَعُ نَسَبِي وَأُضَيِّعُ أَنْسَابَكُمْ، أَيْنَ الْمُتَّقُونَ أَيْنَ الْمُتَّقُونَ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]
أخبرنا أبو الحسن محمد أحمد بن محمد بن الفضل، أنا أبو يعلي النسفي، أنا محمد بن يونس الكريمي، نا أبو عاصم، نا موسى بن عبيد، عن سعيد المقبري، قال: سأل رجل عيسى ابن مريم عليه السلام: أي الناس أفضل؟ فأخذ قبضتين من تراب، فقال: أي هاتين أفضل؟ الناس خلقوا من تراب، فأكرمهم عند الله أتقاهم.
وقال قتادة: أكرم الكرم التقوى، وألأم واللؤم الفجور.
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من سره أن يكون أكرم الناس، فليتق الله بقوله» .
{قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا} [الحجرات: 14] نزلت في بني أسد، أتوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سنة جدبة، وأظهروا الإسلام،(4/159)
ولم يكونوا مؤمنين في السر، إنما كانوا يطلبون الصدقة، والمعنى: أنهم يقولون: صدقنا ما جئت به.
{قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} [الحجرات: 14] لم تصدقوا، {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] انقدنا واستسلمنا، مخافة القتل والسبي، ثم بين أن الإيمان محله القلب لا اللسان، بقوله: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] .
قال الزجاج: الإسلام إظهار الخضوع، وقبول ما أتى به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبذلك يحقن الدم، فإن كان مع ذلك الإظهار اعتقاد، وتصديق بالقلب، فذلك الإيمان وصاحبه المؤمن.
وقد أخرج هؤلاء من الإيمان بقوله: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] أي: لم تصدقوا، إنما أسلمتم تعوذًا من القتل.
872 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، نا عَلِيُّ بْنُ مَسْعَدَةَ، حَدَّثَنِي قَتَادَةُ، حَدَّثَنِي أَنَسٌ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِسْلامُ عَلانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ، وَأَشَارَ إِلَى صَدْرِهِ»
{وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحجرات: 14] قال ابن عباس: تخلصوا الإيمان.
{لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الحجرات: 14] وقرأ أبو عمرو لا يألتكم بالألف، من ألت يألت ألتا إذا نقص، ويقال أيضًا: لات يليت ليتا بهذا المعنى، قال ابن عباس، ومقاتل: لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئًا.
ثم نعت الصادقين في إيمانهم، فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15] لم يشكوا في دينهم بعد الإيمان، {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الحجرات: 15] وذلك أن الجهاد مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ(4/160)
وَسَلَّمَ كان فرضًا في ذلك الوقت، {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15] في إيمانهم، فلما نزلت الآيتان أتوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يحلفون أنهم مؤمنون صادقون.
وعرف الله غير ذلك منهم، فأنزل: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} [الحجرات: 16] علم ههنا بمعنى: أعلم، لذلك أدخلت الباء في بدينكم، يقول: أتخبرون الله بالدين الذي أنتم عليه؟ أي: أنه عالم بذلك، لا يحتاج إلى إخباركم به، وهو قوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [الحجرات: 16] الآية.
وكان هؤلاء الأعراب يقولون لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جئناك بالعيال، والمال، والأنفال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان.
يمنون عليه بذلك، فأنزل الله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} [الحجرات: 17] الآية، وهي ظاهرة إلى آخر السورة.(4/161)
تفسير سورة ق
وهي أربعون وخمس آيات، مكية.
873 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الزَّعْفَرَانِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو السَّخْتِيَانِيُّ، أنا أَبُو إِسْحَاقَ الْأَسَدِيُّ الْكُوفِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ ق هَوَّنَ اللَّهُ عَلَيْهِ تَارَاتِ الْمَوْتِ وَسَكَرَاتِهِ»
بسم الله الرحمن الرحيم {ق وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ {1} بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ {2} أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ {3} قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ {4} بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ {5} } [ق: 1-5] .
ق قال المفسرون: هو اسم جبل محيط بالدنيا، من زبرجد أو زمردة، والسماء مقببة عليه، وهو وراء الحجاب الذي تغيب الشمس من ورائه بمسيرة سنة.
وحكى الفراء، والزجاج: أن قومًا قالوا: معنى ق قضي الأمر ما هو كائن، كما قيل في حم: حم الأمر.
والقرءان(4/162)
المجيد الكريم على الله، الكثير الخير.
{بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} [ق: 2] مفسر في { [ص،] فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} [سورة ق: 2] معجب، عجبوا من كون محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولًا إليهم، فأنكروا رسالته، وأنكروا البعث بعد الموت، وهو قوله: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا} [ق: 3] أي: أنبعث إذا متنا؟ ذلك رجع رد إلى الحياة، بعيد غير كائن، أي: يبعد عندنا أن نبعث بعد الموت.
قال الله عز وجل: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ} [ق: 4] أي: ما تأكل من لحومهم، ودمائهم، وأشعارهم، يعني: أن ذلك لم يعزب عن علمه، وأخبر أن عنده بذلك كتبًا، فقال: {وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق: 4] حافظ لعدتهم وأسمائهم، وهو اللوح المحفوظ، وقد أثبت فيه ما يكون.
ثم أخبر بتكذيبهم، فقال: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ} [ق: 5] بالقرآن، {لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق: 5] مختلط ملتبس، قال الحسن: ما ترك قوم الحق إلا مرج أمرهم.
وذكر الزجاج معنى اختلاط أمرهم، فقال: هو أنهم كانوا يقولون للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرة: شاعر، ومرة: ساحر، ومرة: معلم.
وللقرآن: إنه سحر، ومرة يقولون: إنه رجز , ومرة يقولون: مفترى.
فكان أمرهم ملتبسًا، مختلطًا عليهم.
ثم دلهم على قدرته على البعث بعظيم خلقه، فقال: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ {6} وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ {7} تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ {8} وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ {9} وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ {10} رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ {11} } [ق: 6-11] .
{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} [ق: 6] بغير عمد، وزيناها بالكواكب، {وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق: 6] فتوق، وشقوق، وصدوع.
والأرض مددناها بسطناها، {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} [ق: 7] جبالًا ثوابت، {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [ق: 7] من كل لون حسن.
تبصرة وذكرى قال الزجاج: أي: فعلنا ذلك لنبصر، ونذكر به.
فهي تذكير لكل عبد منيب يرجع إلى الله، ويفكر في قدرته.
{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} [ق: 9] كثير الخير، وفيه حياة كل شيء، وهو المطر، {فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق: 9] يعني: ما يقتات به، ويحصد من الحبوب، وأراد نبت الحب الحصيد.(4/163)
والنخل باسقات طوالًا، يقال: بسقت النخلة بسوقًا إذا طالت، لها طلع وهو: أول ما يظهر من ثمر النخل قبل أن ينشق، نضيد منضود بعضه على بعض، وذلك قبل أن ينفتح وهو نضيد في أكمامه، فإذا خرج من أكمامه فليس بنضيد.
رزقًا للعباد أي: أنبتنا هذه الأشياء للرزق، {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} [ق: 11] يعني: بالمطر أنبتنا الكلأ، كذلك الخروج من القبور، أي: كما خلقنا هذه الأشياء نبعثكم.
ثم ذكر الأمم المكذبة، تخويفًا لكفار مكة، فقال: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ {12} وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ {13} وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ {14} أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ {15} } [ق: 12-15] .
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} [ق: 12] إلى قوله: وقوم تبع وهو: تبع الحميري، الذي ذكر في قوله: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} [الدخان: 37] ، كل من هؤلاء المذكورين: {كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق: 14] أي: وجب عليهم عذابي، وحقت عليهم كلمة العذاب.
ثم أنزل جوابًا لقولهم: {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق: 3] : {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ} [ق: 15] يعني: أعجزنا حين خلقناهم أولًا ولم يكونوا شيئًا؟ فكيف نعجز عن بعثهم؟ وهذا تقرير لهم، لأنهم اعترفوا بأن الله هو الخالق، وأنكروا البعث، ويقال لكل من عجز عن شيء: عيي به.
ثم ذكر أنهم في شك من البعث بعد الموت، فقال: {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: 15] أي: في ضلال وشك عن إعادة الخلق جديدًا.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ {16} إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ {17} مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ {18} وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ {19} وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ {20} وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ {21} لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ {22} } [ق: 16-22] .
قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ} [ق: 16] ابن آدم، {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16] يحدث به قلبه، أي: نعلم ما يخفي، ويكن في نفسه، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} [ق: 16] بالعلم، {مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] وهو عرق يتفرق في البدن،(4/164)
مخالط للإنسان في جميع أعضاءه، وذلك أن أبعاض الإنسان يحجب بعضها بعضًا، ولا يحجب علم الله عنه شيء.
ثم ذكر أنه مع علمه، وكل به ملكين، يكتبان ويحفظان عليه عمله، إلزامًا للحجة، فقال: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} [ق: 17] قال مقاتل: يعني: الملكين يتلقيان عمل ابن آدم ومنطقه، أي: يأخذان ذلك ويثبتانه.
والتلقي: الأخذ، ذكر ذلك عند قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة: 37] ، {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق: 17] أراد: عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد، فاكتفى بأحدهما عن الآخر، والمراد بالقعيد ههنا: الملازم الذي لا يبرح، لا القاعد الذي هو ضد القائم.
قال مجاهد: عن اليمين كاتب الحسنات، وعن الشمال كاتب السيئات.
{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} [ق: 18] ما يتكلم عن كلام، فيلفظه، أي: يرميه من فمه، {إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ} [ق: 18] حافظ، يعني: الملك الموكل به: إما صاحب اليمين، وإما صاحب الشمال، عتيد حاضر معه أينما كان.
874 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورِ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسْتَفَاضِ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَلاءِ، نا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْمٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ صَاحِبَ الشِّمَالِ لَيَرْفَعُ الْقَلَمَ سِتَّ سَاعَاتٍ، عَنِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ الْمُخْطِئِ أَوِ الْمُسِيءِ، فَإِنْ نَدِمَ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ مِنْهَا أَلْقَاهَا، وَإِلا كَتَبَ وَاحِدَةً»
875 - أَخْبَرَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ(4/165)
إِسْمَاعِيلَ، أنا جَدِّي الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، أنا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ سُلَيْمَانَ الْقَطَّانُ، نا إِسْمَاعِيلُ هُوَ ابْنُ عَلِيٍّ مَوْلَى عِيسَى الْعَطَّارِ، نا الْمُسَيِّبُ بْنُ شَرِيكٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صَاحِبُ الْيَمِينِ أَمِيرٌ عَلَى صَاحِبِ الشِّمَالِ، فَإِذَا عَمِلَ حَسَنَةً كَتَبَهَا لَهُ صَاحِبُ الْيَمِينِ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَإِذَا عَمِلَ سَيِّئَةً فَأَرَادَ صَاحِبُ الشِّمَالِ أَنْ يَكْتُبَهَا، قَالَ لَهُ صَاحِبُ الْيَمِينِ: أَمْسِكْ , فَيُمْسِكُ عَنْهُ سَبْعَ سَاعَاتٍ، فَإِنِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ مِنْهَا لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَغْفِرْ كُتِبَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَةً وَاحِدَةً ".
876 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَامِدٍ الْعَطَّارُ، نا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، نا شُرَيْحُ بْنُ يُونُسَ، نا هُشَيْمٌ، عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ جَمَّازٍ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَكَّلَ بِعَبْدِهِ مَلَكَيْنِ يَكْتُبَانِ عَلَيْهِ، فَإِذَا مَاتَ قَالا: يَا رَبِّ قَدْ قَبَضْتَ عَبْدَكَ فُلانًا، فَإِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: سَمَائِي مَمْلُوءَةٌ مِنْ مَلائِكَتِي يَعْبُدُونَنِي وَأَرْضِي مَمْلُوءَةٌ مِنْ خَلْقِي يُطِيعُونَنِي، اذْهَبَا إِلَى قَبْرِ عَبْدِي فَسَبِّحَانِي، وَكَبِّرَانِي، وَهَلِّلانِي، وَاكْتُبَا ذَلِكَ فِي حَسَنَاتِ عَبْدِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ".
قوله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ} [ق: 19] أي: غمرته، وشدته التي تغشى(4/166)
الإنسان، وتغلب على عقله، بالحق قال مقاتل: يعني: أنه حق كائن.
ويقال لمن جاءته سكرة الموت: ذلك أي: ذلك الموت، {مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19] تهرب وتميل، يقال: حاد عنه يحيد حيدًا إذا مال عنه.
قال أبو عباس: تكره.
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [ق: 20] يعني: نفخة البعث، ذلك اليوم، يوم الوعيد قال مقاتل: يعني بالوعيد: العذاب في الآخرة.
والمعنى: ذلك يوم وقوع الوعيد.
وجاءت في ذلك اليوم، {كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ} [ق: 21] يسوقها إلى المحشر، وشهيد يشهد عليها بما عملت، قال الكلبي: السائق هو الذي كان يكتب عليه السيئات، والشهيد الذي كان يكتب الحسنات.
والمراد بالنفس ههنا: نفس الكافر، يدل عليه قوله: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [ق: 22] أي: يقال له: لقد كنت في غفلة من هذا اليوم في الدنيا، {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} [ق: 22] الذي كان في الدنيا يغشي قلبك، وسمعك، وبصرك، {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22] فأنت اليوم عالم، نافذ البصر، تبصر ما كنت تنكر في الدنيا.
{وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ {23} أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ {24} مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ {25} الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ {26} قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ {27} قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ {28} مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ {29} يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ {30} } [ق: 23-30] .
وقال قرينه يعني: الملك الذي كان يكتب عمله السيئ في الدنيا، يقول لربه: كنت وكلتني به، وقد أحضرته.
وهو قوله: {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [ق: 23] يعني: الشخص الذي أتى به، وما بمعنى من، وهذا قول مجاهد، وقال ابن قتيبة: يعني: ديوان أعماله، وما كتبه عليه، يقول: ما كتبته من عمله، حاضر عندي.
يقول الله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24] هذا خطاب للواحد بلفظ الثنية على عادة العرب، يقولون للواحد: ارحلاها وازجراها.
والخطاب لخازن النار، وقال الزجاج: هذا أمر للملكين الموكلين به، وهما السائق والشهيد.
كل كفار للنعم، عنيد مجانب للإيمان.
مناع للخير لا يبذل خيره، ولا يعطي في حق الله، معتد آثم ظالم، لا يقر بتوحيد الله، مريب شاك في الحق، وهو توحيد الله، من قولهم: أراب الرجل إذا صار ذا ريب.
قال قرينه يعني: شيطانه، {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} [ق: 27] ما أضللته، وما أغويته، أي: لم أتول ذلك من نفسي، ولكنه كان في الدنيا في ضلال بعيد عن الحق، بخذلانك إياه، وذلك أن شيطانه يعتذر إلى ربه، فيقول: لم تكن لي قوة أن أضله بغير سلطانك.
ومعنى: ضلال بعيد طويل، لا يرجع عنه إلى الحق.
فيقول الله تعالى: {لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} [ق: 28] وذكر الله اختصامهم في { [الصافات عند قوله:] وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ(4/167)
يَتَسَاءَلُونَ {27} قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ {28} } [سورة الصافات: 27-28] الآيات، {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} [ق: 28] قد أخبرتكم على لسان الرسل، بعذابي في الآخرة لمن كفر.
{مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق: 29] لا خلف لوعدي، وقد قضيت ما أنا قاض عليكم من العذاب، فلا تبديل له، وقال قوم: معنى قوله: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق: 29] : ما يكذب عندي، ولا يغير القول عن جهته، لأني أعلم الغيب، أعلم كيف ضلوا، وكيف أضللتموهم.
وهذا قول الكلبي، واختيار الفراء، وابن قتيبة وهو أظهر، لأنه قال: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق: 29] ولم يقل: ما يبدل قولي، {وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق: 29] فأعاقب من غير جرم.
{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ} [ق: 30] وقرأ نافع: يقول بالياء، على معنى: يقول الله لجهنم، هل امتلأت قال المفسرون: أراها الله تصديق قوله: لأملأن جهنم، فلما امتلأت، قال لها: هل امتلأت.
{وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 30] أي: قد امتلأت، ولم يبق في موضع لم يمتلئ، وهذا استفهام إنكار، هذا الذي ذكرنا قول عطاء، ومجاهد، ومقاتل بن سليمان، وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: إنها تستزيد إلى ما فيها.
ووجه هذا القول، أن هذا السؤال في قوله: هل امتلأت كان قبل دخول جميع أهلها فيها، ويجوز أن يكون المعنى: أنها طلبت أن يزداد فيها في سعتها، لتضايقها بأهلها.
قوله: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ {31} هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ {32} مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ {33} ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ {34} لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ {35} } [ق: 31-35] .
وأزلفت الجنة قربت الجنة، وأدنيت للمتقين الشرك، غير بعيد ينظرون إليها قبل دخولها.
ويقال لهم: هذا الذي ترونه: {مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ} [ق: 32] راجع عن معاصي الله، قال مجاهد: هو الذي يذكر ذنبه، فيستغفر منه.
وقال سعيد بن المسيب: هو الذي يذنب ثم يتوب، ثم يذنب ثم يتوب.
حفيظ يحفظ ذنوبه حتى يرجع عنها، ويستغفر لها، ذكره يحيى بن وثاب، عن ابن عباس.
{مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ} [ق: 33] أي: هو من خشي، يعني: الأواب(4/168)
الحفيظ، {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [ق: 33] خافه، وأطاعه، ولم يره، {وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 33] مخلص، راجع عن معاصي الله إلى طاعة الله.
ادخلوها أي: يقال لهم: ادخلوا الجنة، بسلام أي: بسلامة من الهموم، والعذاب، {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} [ق: 34] في الجنة، لأنه لا موت فيها.
{لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا} [ق: 35] وذلك أنهم يسألون الله حتى تنتهي مسألتهم، فيعطون ما شاءوا، ثم يزيدهم الله من عنده ما لم يسألوه، وهو قوله: ولدنيا مزيد.
877 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ الْوَاسِطِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْوَاسِطِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُصَفَّى، أنا سُوَيْدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ الْوَاسِطِيُّ، نا زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35] قَالَ: يَتَجَلَّى لَهُمْ
ثم خوف كفار مكة، فقال: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ {36} إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ {37} } [ق: 36-37] .
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ} [ق: 36] ساروا، وتقلبوا، وطافوا، وأصله من النقب وهو: الطريق، كأنهم سلكوا كل طريق، فلم يجدوا محيصًا عن أمر الله.
قال الزجاج: لم يروا محيصًا من الموت.
وفي هذا إنذار لأهل مكة، وأنهم على مثل سبيلهم، لا يجدون مفرًا(4/169)
من الموت، يموتون فيصيرون إلى عذاب الله.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} [ق: 37] الذي ذكر من الإهلاك للقرى، لذكرى تذكرة، وموعظة، {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37] قال ابن عباس: عقل.
قال الفراء: وهذا جائز في العربية، أن تقول ما لك قلب، وما قلبك معك، أي: ما عقلك معك.
{أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} [ق: 37] أي: استمع ما يقال له، يقال: ألق سمعك إلىّ، أي: استمع مني، وهو شهيد شاهد القلب والفهم، وليس بغافل، ولا ساه.
878 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، أنا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَعْقِلٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، نا أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ، عَنْ شَبِيبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37] قَالَ: كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَجْلِسُونَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَخْرُجُونَ فَيَقُولُونَ: مَاذَا قَالَ آنِفًا؟ قَالَ: لَيْسَ مَعَهُمْ قُلُوبُهُمْ
قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ {38} فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ {39} وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ {40} وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ {41} يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ {42} إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ {43} يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ {44} نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ {45} } [ق: 38-45] .
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [ق: 38] الآية، قال جماعة المفسرين: إن اليهود قالت: خلق الله السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، أولها يوم الأحد، وآخرها يوم الجمعة، واستراح يوم السبت، فلذلك لا يعمل فيه شيئًا.
فأكذبهم الله تعالى بقوله: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38] يقال: لغب يلغب لغوبًا، إذا أعيا من التعب.
{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ق: 39] في بهتهم وكذبهم، وهذا من قبل أن أمر بالقتال، {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [ق: 39] صل حمدًا لله تعالى، {قَبْلَ طُلُوعِ(4/170)
الشَّمْسِ} [ق: 39] يعني: الفجر، وقبل الغروب يعني: الظهر، والعصر.
879 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعَفْرٍ، أنا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْفَقِيهُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ الْبَلَوِيُّ، نا أَبُو شِهَابٍ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَقَالَ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا كَمَا تَرَوْنَ هَذَا لا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لا تُغْلَبُوا عَنْ صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ فَافْعَلُوا، وَقَرَأَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39] رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى، عَنْ عَاصِمِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ أَبِي شِهَابٍ
{وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} [ق: 40] يعني: المغرب والعشاء، وإدبار السجود بكسر الهمزة، مصدر أدبر الشيء إدبارًا إذا ولى، ومن فتح الهمزة جعله جمع دبر، بمعنى: خلف، قال عطاء، عن ابن عباس: يريد الوتر، الذي جعله الله تعالى سنة بعد الصلاة.
وأكثر المفسرين على أن المراد به: ركعتان بعد صلاة المغرب، وروي ذلك مرفوعًا.
880 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ(4/171)
إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ الْجُرْجَانِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ زَيْدَانَ الْبَجَلِيُّ، نا أَبُو كُرَيْبٍ، نا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ رُشْدِ بْنِ كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ «رَكْعَتَانِ قَبْلَ صَلاةِ الْغَدَاةِ إِدْبَارُ النُّجُومِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ إِدْبَارُ السُّجُودِ»
واسمتع أي: صيحة القيامة، والبعث، والنشور، {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} [ق: 41] قال مقاتل: هو إسرافيل ينادي بالحشر، فيقول: يأيها الناس، هلموا إلى الحساب.
{مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [ق: 41] قال قتادة: كنا نحدث أنه ينادي من صخرة بيت المقدس.
قال الكلبي: وهي أقرب الأرض إلى السماء باثني عشر ميلًا.
{يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ} [ق: 42] يعني: قول المنادي: يا أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، واللحوم المتمزقة، إن الله يأمركن، أن تجتمعن لفصل القضاء.
وقوله: بالحق قال الكلبي: بالبعث.
وقال مقاتل: يعني: أنها كائنة حقًا.
{ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} [ق: 42] من القبور.
قوله: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ} [ق: 43] أراد نميت في الدنيا، ونحيي بالبعث، وإلينا المصير بعد البعث.
وهو قوله: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا} [ق: 44] أي: خارجين سراعًا يسرعون إلى الداعي، {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق: 44] جمع علينا هين.
ثم عزى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} [ق: 45] في تكذيبك، يعني: كفار مكة، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45] بمسلط، قال ابن عباس: لم تبعث لتجبرهم على الإسلام، إنما بعثت مذكرًا.
وذلك قبل أن يؤمر بالقتال، فذكر بالقرءان فعظ به، {مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] ما أوعدت من عصاني من العذاب.(4/172)
تفسير سورة الذاريات
وهي ستون آية، مكية.
881 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِئُ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الذَّارِيَاتِ أُعْطِيَ مِنَ الْأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ بِعَدِدِ كُلِّ رِيحٍ هَبَّتْ وَجَرَتْ فِي الدُّنْيَا»
بسم الله الرحمن الرحيم.
{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا {1} فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا {2} فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا {3} فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا {4} إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ {5} وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ {6} } [الذاريات: 1-6] .
والذاريات ذروا يعني: الرياح تذرو التراب، وهشيم النبات، أي: تفرقه وهي مخفوضة على القسم.
فالحاملات وقرًا يعني: السحاب يحمل ثقلًا من الماء.
فالجاريات يسرًا يعني: السفن تجري ميسرة في الماء، جريًا سهلًا.
فالمقسمات أمرًا يعني: الملائكة يقسمون الأمر بين الخلق على ما أمروا به، أقسم الله تعالى بهذه الأشياء، لما فيها من الدلالة على صنيعه وقدرته.
ثم ذكر المقسم عليه، فقال: إنما توعدون أي: من الثواب والعقاب، {لَصَادِقٌ {5} وَإِنَّ الدِّينَ} [الذاريات: 5-6] الجزاء، لواقع لكائن.
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ {7} إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ {8} يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ {9} قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ {10} الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ {11} يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ {12} يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ {13} ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ {14} } [الذاريات: 7-14] .(4/173)
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} [الذاريات: 7] ذات الخلق الحسن المستوي، هذا قول الأكثرين، وروى معمر، عن قتادة: ذات الخلق الشديد.
وقال مقاتل، والكلبي: ذات الطرائق، كحبك الماء إذا ضربته الريح، وحبك الرمل، والشعر، الجعد.
ولكنا لا نرى تلك الحبك، لبعدها عنا.
ثم ذكر جواب القسم، فقال: إنكم يا أهل مكة: {لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} [الذاريات: 8] في محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعضكم يقول: شاعر، وبعضكم يقول: مجنون.
وفي القرآن تقولون: إنه سحر، وكهانة، ورجز، وما سطره الأولون.
{يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات: 9] يصرف عن الإيمان به من صرف، حتى يكذب به، يعني: من حرمه الله تعالى الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقرآن.
قوله: قتل الخراصون قالوا جميعًا: لعن الكذابون.
قال ابن الأنباري: والقتل إذا أخبر عن الله به كان بمعنى اللعنة، لأن من لعنه الله كان بمنزلة المقتول الهالك.
وقال الزجاج: الخراصون هم الكذابون، يقال: قد تخرص على فلان الباطل.
قال الفراء: هم الذين، قالوا: محمد شاعر كذاب، مجنون، ساحر، خرصوا ما لا علم لهم به.
{الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ} [الذاريات: 11] غفلة وعمي، وجهالة عن أمر الآخرة، ساهون لاهون غافلون، والسهو: الغفلة عن الشيء، وذهاب القلب عنه.
{يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} [الذاريات: 12] يقولون: يا محمد متى يوم الجزاء؟ تكذيبًا منهم، واستهزاء.
ثم أخبر عن ذلك اليوم، فقال: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 13] يحرقون، ويعذبون بها، قال عكرمة: ألم تر أن الذهب إذا أدخل في النار، قيل: فتن؟ وتقول لهم خزنة النار: ذوقوا فتنتكم حريقكم، وعذابكم.
{هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات: 14] في الدنيا تكذيبًا به.
ثم أعلم ما لأهل الجنة عنده، فقال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ {15} آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ {16} كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ {17} وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ {18} وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ {19} وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ {20} وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ {21} وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ {22} فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ {23} } [الذاريات: 15-23] .(4/174)
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ {15} آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} [الذاريات: 15-16] ما أعطاهم ربهم من الخير والكرامة، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ} [الذاريات: 16] يعني: في الدنيا، محسنين في أعمالهم.
ثم ذكر إحسانهم، فقال: {كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] الهجوع: النوم بالليل دون النهار، وما صلة، والمعنى: كانوا يهجعون قليلًا من الليل، يصلون أكثر الليل، قال عطاء: وذلك حين أمروا بقيام الليل، ثم نزلت الرخصة.
ويجوز أن يكون المعنى: كان الليل الذي ينامون فيه كله قليلًا، ويكون الليل اسمًا للجنس، وهذا معنى قول سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كانوا قل ليلة تمر بهم إلا صلوا فيها.
وقال مطرف بن الشخير: قل ليلة أتت عليهم هجعوها كلها.
وقال مجاهد: كانوا لا ينامون كل الليل.
واختار قوم الوقف على قوله: قليلًا على معنى: كانوا من الناس قليلًا، وهو قول الضحاك، ومقاتل، ثم ابتدأ فقال: {مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] وهذا على نفي النوم عنهم البتة، قال عطاء: المراد بهؤلاء القليل: يمانون من نصارى نجران، والشام آمنوا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصدقوه.
{وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18] قال الحسن: مدوا الصلاة إلى الأسحار، ثم أخذوا في الأسحار بالاستغفار.
وقال الكلبي، ومقاتل، ومجاهد: وبالأسحار هم يصلون، وذلك أن صلاتهم بالأسحار طلب منهم للمغفرة.
ثم ذكر صدقاتهم، فقال: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19] وهو الذي ليس له في الغنيمة سهم، ولا يجري عليه من الفيء شيء، ومعناه في اللغة: الذي منع الخير والعطاء، وقال قتادة، والزهري: هو المتعفف الذي لا يسأل.
وقد ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يقطن بحاجته فيتصدق عليه.
قوله: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات: 20] يعني: ما فيها من الجبال، والبحار، والأشجار، والأنهار، والثمار، والنبت عامًا بعام، ففيها آيات للموقنين(4/175)
بالله، يعرفونه بصنعه.
وفي أنفسكم آيات، إذ كانت نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظمًا إلى أن نفخ فيها الروح، وقال عطاء، عن ابن عباس: يريد اختلاف الألسنة، والصور، والألوان، والطبايع.
وقال ابن الزبير: يعني: سبيل الخلاء والبول، يأكل ويشرب من مدخل واحد، ويخرج من سبيلين.
وتم الكلام، ثم عنفهم، فقال: أفلا تبصرون قال مقاتل: أفلا تبصرون كيف خلقكم، فتعرفون قدرته على البعث.
قوله: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} [الذاريات: 22] قال ابن عباس، ومقاتل، ومجاهد: يعني: المطر الذي هو سبب الأرزاق.
وما توعدون قال عطاء: من الثواب والعقاب.
وقال الكلبي: من الخير والشر.
وقال مجاهد: الجنة والنار.
ثم أقسم الرب عز وجل بنفسه، فقال: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} [الذاريات: 23] قال الكلبي: يعني: ما قص في الكتاب كائن.
وقال الزجاج: وهو ما ذكر من أمر الرزق، والآيات.
وقال مقاتل: يعني: أمر الساعة.
{مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 23] من قرأ بالرفع فهو من صفة الحق، ومن نصب جعل: مثل مع ما: بمنزلة شيء واحد، ذكر ذلك أبو عثمان المازني , وأبو علي الفارسي، قال: ومثله قول حميد:
وويحًا لمن لم يدر ما هن ويحما
فبنى ويح مع ما، ولم يلحقه التنوين، وقال الفراء: من نصب مثل مع ما، جعله في مذهبه مصدرًا،(4/176)
كقولك: إنه لحق حقًا، ويجوز ذلك.
قال الزجاج: والمعنى: إنه لحق كما أنكم تنطقون.
شبه الله تعالى تحقق ما أخبر عنه، بتحقيق نطق الآدمي ووجوده، وهذا كما يقول: إنه لحق كما أنك تقول ههنا، وإنه لحق كما أنك تتكلم، والمعنى: أنه في صدقه ووجوده كالذي تعرفه ضرورة.
قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ {24} إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ {25} فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ {26} فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ {27} فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ {28} فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ {29} } [الذاريات: 24-29] .
هل أتاك قال ابن عباس، ومقاتل: يريد: قد أتاك، ولم يكن إذ ذاك أتاه.
{حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات: 24] يعني: عند الله، وذلك أنهم كانوا ملائكة كرامًا، وقد قال الله تعالى في صفتهم: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] ، وذكر ابن عباس أسماءهم، فقال: يريد: إسرافيل، وجبريل، وميكائيل.
وقال مقاتل: أكرمهم إبراهيم، فأحسن القيام، وكان لا يقوم على رأس ضيف، فلما رأى هيأتهم حسنة، قام هو وامرأته سارة لخدمتهم.
وقال الكلبي، أكرمهم بالعجل.
882 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، أنا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا أَبُو يَحْيَى زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ نَافِعَ بْنَ جُبَيْرٍ يُخْبِرُ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ»(4/177)
{إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ} [الذاريات: 25] مفسر في { [هود، قوم منكرون قال ابن عباس: قال في نفسه: هؤلاء قوم لا نعرفهم، وذلك أنه ظنهم من الإنس، ولم يعرفهم.
] فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ} [سورة الذاريات: 26] أي: عدل ومال إلى سارة، {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات: 26] وكان مشويًا، لأنه قال في آية أخرى: بعجل حنيذ.
{فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} [الذاريات: 27] ليأكلوا، فلم يأكلوا، {فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الصافات: 91] وما بعد هذا مفسر إلى قوله: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ} [الذاريات: 29] في ضجة وصيحة، أي: أخذت تولول، كما قال: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَا} [هود: 72] ، فصكت وجهها قال مقاتل، والكلبي: جمعت أصابعها، فضربت جبينها تعجبًا.
ومعنى الصك: ضرب الشيء بالشيء العريض، {وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} [الذاريات: 29] أي: إني عجوز عقيم، فكيف ألد؟ كما: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ} [هود: 72] .
{قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ {30} قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ {31} قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ {32} لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ {33} مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ {34} فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {35} فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ {36} وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ {37} } [الذاريات: 30-37] .
{قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ} [الذاريات: 30] أي: كما قلنا لك، قال ربك: إنك ستلدين غلامًا.
وما بعد هذا مفسر فيما تقدم إلى قوله: للمسرفين قال ابن عباس، ومقاتل: للمشركين.
والشرك أسرف الذنوب، وأعظمها.
{فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا} [الذاريات: 35] يعني: في قرى قوم لوط، من المؤمنين وذلك قوله: فأسر بأهلك الآية، وهو أن الله تعالى أمر لوطًا بأن يخرج هو ومن معه المؤمنين، لئلا يصيبهم العذاب.
{فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ} [الذاريات: 36] غير أهل بيت، من المسلمين يعني: لوطًا وبنتيه، وصفهم الله تعالى بالإيمان والإسلام جميعًا، لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم.
وتركنا فيها في مدينة قوم لوط، آية علامة للخائفين، تدلهم على أن الله أهلكهم، فيخافون مثل عذابهم.
{وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ {38} فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ {39} فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ {40} } [الذاريات: 38-40] .(4/178)
وفي موسى أيضًا، {إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [الذاريات: 38] بحجة ظاهرة، وهي العصا.
فتولى بركنه أي: بجمعه، وجنده الذي كان يتقوى بهم، كالركن الذي يقوى البنيان، والباء في بركنه للتعدية، أي: جعلهم يتولون، وقال لموسى، {سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ {39} فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} [الذاريات: 39-40] فطرحناهم في البحر، يعني: حين أغرقهم، وهو مليم أتى ما يلام عليه، حين ادعى الربوبية، وكذب الرسول.
{وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ {41} مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ {42} وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ {43} فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ {44} فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ {45} وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ {46} } [الذاريات: 41-46] .
وفي عاد أيضًا آية، أي: في إهلاكهم، وهو قوله: {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات: 41] وهي التي لا خير فيها، ولا بركة: لا تلقح شجرًا، ولا تحمل مطرًا، إنما هي ريح الإهلاك.
ثم وصفها، فقال: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ} [الذاريات: 42] من أنفسهم، وأنعامهم، وأموالهم، {إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 42] كالشيء الهالك البالي، وهو نبات الأرض إذا يبس وديس.
وفي ثمود أيضًا، {إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا} [الذاريات: 43] وذلك أنهم لما عقروا الناقة، قال لهم صالح: تمتعوا ثلاثة أيام.
وهو قوله: {تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ} [الذاريات: 43] .
فأخذتهم الصاعقة بعد مضي الأيام الثلاثة، وهي: الموت في قول ابن عباس، وقال مقاتل: يعني: العذاب.
والصاعقة: كل عذاب مهلك، وقرأ الكسائي: الصعقة وهو الصوت الذي يكون عن الصاعقة، وهم ينظرون يرون ذلك عيانًا.
{فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ} [الذاريات: 45] قال قتادة: من نهوض.
يعني: لم ينهضوا من تلك الصرعة، {وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ} [الذاريات: 45] ممتنعين من العذاب.
{وَقَوْمَ نُوحٍ} [الذاريات: 46] نصبه بالحمل على المعنى، وهو: أن قوله: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} [الذاريات: 40] يدل على إغراقهم، فكأنه قال: فأغرقناهم، أغرقنا قوم نوح من قبل، أي: من قبل هؤلاء، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الذاريات: 46] عاصين، خارجين عن أمر الله.(4/179)
{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ {47} وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ {48} وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {49} فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ {50} وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ {51} } [الذاريات: 47-51] .
{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47] بقدرة وقوة، {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47] لذو سعة لخلقنا، والمعنى: قادرون على رزقهم، لا نعجز عنه، والموسع ذو الوسع والسعة، وهو: الغنى والجدة.
والأرض فرشناها بسطناها، فنعم الماهدون نحن، قال ابن عباس: نعم ما وطأت لعبادي.
{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات: 49] صنفين، ونوعين: كالبحر والبر، والحلو والمر، الشمس والقمر، والسماء والأرض، والنور والظلمة، {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49] فتعلموا أن خالق الأزواج فرد.
{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات: 50] بالتوبة من ذنوبكم، والمعنى: فروا من الكفر والعصيان، إلى الطاعة والإيمان، {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ} [الذاريات: 50] من الله، نذير مبين أنذركم العقاب على الكفر والمعصية.
{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ {52} أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ {53} فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ {54} وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ {55} } [الذاريات: 52-55] .
كذلك أي: الأمر كذلك، وهو أنه: {مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الذاريات: 52] من قبل كفار مكة، {مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا} [الذاريات: 52] هو: {سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات: 52] .
يقول الله تعالى: أتواصوا أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب، والاستفهام للتوبيخ، {بَلْ هُمْ قَوْمٌ} [الذاريات: 53] يعني: أهل مكة، طاغون قال ابن عباس: حملهم الطغيان فيما أعطيتهم، ووسعت عليهم، على تكذيبك.
فتول عنهم أعرض عن هؤلاء المشركين، فقد بلغت وأنذرت، وهو قوله: {فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات: 54] لا لوم عليك إذا أديت الرسالة، قال ابن عباس، والمفسرون: لما نزلت هذه الآية حزن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنون، وظنوا أن الوحي قد انقطع، وأن العذاب قد حضر، حتى نزلت الآية الثانية.
883 - أَخْبَرَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، أنا جَدِّي الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، أنا أَبُو خَلِيفَةَ الْجُمَحِيُّ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، نا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: خَرَجَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُعْتَمًّا مُشْتَمِلًا فِي قَمِيصِهِ، فَقَالَ: لَمَّا(4/180)
نَزَلَتْ {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات: 54] لَمْ يَبْقَ مِنَّا أَحَدٌ إِلا أَيْقَنَ بِالْهَلَكَةِ إِذْ أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَوَلَّى عَنْهُمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55] طَابَتْ أَنْفُسُنَا
قال مقاتل: عظ كفار مكة.
{فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55] أي: من علم الله تعالى أن يؤمن منهم، وقال الكلبي: عظ بالقرآن من آمن من قومك، فإن الذكرى تنفعهم.
قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ {56} مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ {57} إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ {58} فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ {59} فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ {60} } [الذاريات: 56-60] .
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] قال المفسرون: هذا خاص لأهل طاعته، يعني: من آمن من الفريقين، وهذا قول الكلبي، والضحاك، واختيار الفراء، وابن قتيبة، والدليل على صحة هذا ما
884 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى، نا سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ، نا أَبُو وَهْبٍ الشَّامِيُّ، عَنْ سُلَيْمَانَ الْقَافْلانِيِّ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: هِيَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلا لِيَعْبُدُونَ
وقال أهل المعاني: إلا ليخضعوا لي، ويتذللوا.
ومعنى العبادة في اللغة: الذل والانقياد، وكل مخلوق من الإنس والجن خاضع لقضاء الله، متذلل لمشيئته، خلقه على ما أراد، ورزقه كما قضى، لا يملك أحد لنفسه خروجًا عما خلق عليه.
{مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ} [الذاريات: 57] أن يرزقوا أحدًا من خلقي، ولا أن يرزقوا أنفسهم، {وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 57] أن يطعموا أحدًا، فقد أطعمه، وهذا كما يروى أن الله تعالى، يقول:(4/181)
عبدي استطعمتك فلم تطعمني، أي: لم تطعم عبدي.
وذلك أن الاستطعام، وسؤال الرزق يستحيل في وصف الله تعالى، ومعنى الآية: أنه ما أوجب على عباده، ولم يكلفهم القيام برزق الخلق والإطعام.
ثم بين أن الرزاق هو لا غيره، فقال: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} [الذاريات: 58] يعني: خلقه، ذو القوة على ما خلق، المتين القوي، متن متانة إذا قوي.
ثم ذكر أن لمشركي مكة من العذاب، مثل ما لغيرهم من الأمم الكافرة، فقال: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} [الذاريات: 59] نصيبًا من العذاب، نصيب أصحابهم الذين أهلكوا، نحو قوم نوح، وعاد، وثمود، ومعنى الذنوب في اللغة: الدلو العظيمة، قال ابن قتيبة: كانوا يستقون، فيكون لكل واحد ذنوب، فجعل الذنوب مكان الحظ والنصيب.
فلا يستعجلون بالعذاب، يعني: أنهم أخروا إلى يوم القيامة، يدل على ذلك: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الذاريات: 60] يعني: يوم القيامة.(4/182)
تفسير سورة الطور
أربعون وتسع آيات، مكية.
885 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْفَارِسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْحَافِظُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْحَافِظِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْحَافِظُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نا كَامِلُ بْنُ طَلْحَةَ، نا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَقْرَأُ بِالطُّورِ فِي الْمَغْرِبِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى كِلاهُمَا عَنْ مَالِكٍ.
886 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْعَزَايِمِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ السَّخْتِيَانِيُّ، نا أَبُو إِسْحَاقَ الْأَسَدِيُّ، نا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْيَرْبُوعِيُّ، نا الْمَدَايِنِيُّ، عَنْ هَارُونَ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الطُّورِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُؤَمِّنَهُ مِنْ عَذَابِهِ وَأَنْ يُنَعِّمَهُ فِي جَنَّتِهِ» .
{وَالطُّورِ {1} وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ {2} فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ {3} وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ {4} وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ {5} وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ {6} إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ {7} مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ {8} يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا {9} وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا {10} فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ {11} الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ {12} يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا {13} هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ {14} أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ {15} اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {16} } [الطور: 1-16] .
بسم الله الرحمن الرحيم والطور أقسم الله تعالى بالجبل، الذي كلم عليه موسى عليه السلام.
وكتاب مسطور يعني: ما أثبت على بني آدم من أعمالهم.
{فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور: 3] الرق: ما يكتب فيه، والمنشور: المبسوط، قال مقاتل: تخرج إليهم أعمالهم يومئذ في رق، يعني: أديم الصحف.
وقال الفراء: الرق: الصحائف التي تخرج إلى بني آدم(4/183)
يوم القيامة، فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله.
وهذا كقوله: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} [الإسراء: 13] ، والبيت المعمور.
887 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ بُجَيْرٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْخَلِيلِ نا هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، نا رَوْحُ بْنُ جَنَاحٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَفِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ نَهَرٌ يُقَالُ لَهُ الْحَيَوَانُ يَدْخُلُهُ جِبْرِيلُ كُلَّ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ، فَإِذَا خَرَجَ انْتَفَضَ انْتِفَاضَةً خَرَّتْ مِنْهُ سَبْعُونَ أَلْفَ قَطْرَةٍ، يَخْلُقُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ قَطْرَةٍ مَلَكًا يُؤْمَرُونَ أَنْ يَأْتُوا الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ فَيُصَلُّونَ فِيهِ فَيَفْعَلُونَ ثُمَّ لا يَعُودُونَ إِلَيْهِ أَبَدًا» .
888 - أَخْبَرَنَا أَبُو حَسَّانٍ الْمُزَكِّي، أنا هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدٍ الإِسْتِرَابَاذِيُّ، أنا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ الْخُزَاعِيُّ، أنا أَبُو الْوَلِيدِ الْأَزْرَقِيُّ، نا جَدِّي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْبَيْتُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، يُقَالُ لَهُ: الضُّرَاحُ، وَهُوَ بِحِذَاءِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَلَوْ سَقَطَ سَقَطَ عَلَيْهِ، يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ ثُمَّ لا يَعُودُونَ فِيهِ أَبَدًا ".
أخبرنا إسماعيل النصراباذي، أنا المغيرة بن عمرو بن الوليد العدني، أنا المفضل بن محمد الشعبي، نا محمد بن يوسف، نا أبو قرة، قال: سمعت عبد الله بن عتبة بن طاوس، يذكر عن عمه عبد الله بن طاوس، أنه سمعه، يقول: إن البيت المعمور في السماء السابعة بحذاء هذا البيت، تحج إليه الملائكة يوم حجكم هذا.
والسقف المرفوع(4/184)
يعني: السماء.
والبحر المسجور المملوء، يقال: سجرت الإناء إذا ملأته، روي عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أنه قال: هو بحر تحت العرش، فيه ماء غليظ، يقال له: بحر الحيوان، يمطر العباد بعد النفخة الأولى منه أربعين صباحًا، فينبتون في قبورهم.
وهذا قول الكلبي، ومقاتل، قالا: يحيى الله تعالى به الموتى فيما بين النفختين.
وقال مجاهد: البحر المسجور الموقد.
من السجر وهو: إيقاد النار في التنور.
وهذا كما يروى: إن الله تعالى يجعل البحار كلها نارًا، فتزداد في نار جهنم.
أقسم الله تعالى بهذه الأشياء للتنبيه على ما قيل من عظيم القدرة، على أن تعذيب المشركين حق.
وهو قوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} [الطور: 7] لكائن في الآخرة.
{مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور: 8] يدفع عنهم ذلك العذاب، قال جبير بن مطعم: أتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأكلمه في أسارى بدر، فدفعت إليه وهو يصلي بأصحابه المغرب، وصوته يخرج من المسجد، فسمعته يقرأ: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ {7} مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ {8} } [الطور: 7-8] ، فكأنما صدع عن قلبي حين سمعت القرآن، ولم يكن أسلم يومئذ.
ثم بين أنه متى يقع، فقال: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} [الطور: 9] تدور دورانًا وتضطرب، وتتحرك وتستدير، كل هذا من عبارات المفسرين، والمور في اللغة: الذهاب والمجيء، والتردد والدوران.
وتسير الجبال عن أماكنها، حتى تستوي بالأرض.
فويل فشدة عذاب، {يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ {11} الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ {12} } [الطور: 11-12] يخوضون في حديث محمد عليه السلام، بالتكذيب، والاستهزاء، يلهون بذكره.
{يَوْمَ يُدَعُّونَ} [الطور: 13] يدفعون، {إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور: 13] دفعا بعنف وجفوة، قال مقاتل: تغل أيديهم إلى أعناقهم، وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم، ثم يدفعون إلى جهنم دفعًا على وجوهم.
حتى إذا دنوا منها، قال لهم خزنتها: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [الطور: 14] في الدنيا.
ثم وبخهم لما عاينوا ما كانوا يكذبون به، وهو قوله: أفسحر هذا الذي ترون، {أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور: 15] ؟ وذلك أنهم كانوا ينسبون محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى السحر، وإلى أنه يغطي على الأبصار بالسحر، فلما شاهدوا ما وعدوا به من العذاب، وبخوا بهذا.
وقيل لهم: اصلوها وآسوا شدتها، فاصبروا على العذاب، {أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} [الطور: 16] الصبر والجزع، {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 16] أي: جزاء ما كنتم تعملون من الكفر والتكذيب.
ثم ذكر ما للمؤمنين، فقال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ {17} فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ {18} كُلُوا وَاشْرَبُوا(4/185)
هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {19} مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ {20} وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ {21} وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ {22} يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ {23} وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ {24} وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ {25} قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ {26} فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ {27} إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ {28} } [الطور: 17-28] .
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ {17} فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} [الطور: 17-18] معجبين بذلك، ناعمين، وقد تقدم تفسيره، ووقاه ربهم وصرف عنهم، عذاب الجحيم.
ويقال لهم: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا} [الطور: 19] أكلا وشربا هنيئًا، مأمون العاقبة من التخمة والسقم، قال زيد بن أرقم: جاء رجل من أهل الكتاب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا أبا القاسم، تزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون؟ فقال النبي: «والذي نفسي بيده، إن الرجل منهم ليؤتى قوة مائة رجل في الأكل، والشرب، والجماع» .
قال: فإن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة.
فقال: «عرق يفيض مثل ريح المسك، فإذا كان ذلك ضمر له بطنه» .
ثم ذكر له حالهم في الأكل والشرب، فقال: {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ} [الطور: 20] جمع سرير، مصفوفة موضوعة بعضها إلى جنب بعض، {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الطور: 20] مفسر في آخر { [الدخان.
قوله:] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} [سورة الطور: 21] يعني: أولادهم الصغار والكبار، لأن الكبار يتبعون الآباء بإيمان منهم، والصغار يتبعون الآباء بإيمان من الآباء، والولد يحكم له بالإسلام تبعًا لوالده، {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] يدفعون إليهم، فتقر بهم أعينهم، وإن كانوا دونهم في العمل.
889 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُطَّوِعِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمْدَانَ بْنِ عَلِيٍّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَوْنٍ الرَّاذَانِيُّ، نا جِبَارَةُ بْنُ مُغَلِّسٍ، نا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ(4/186)
ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ لَيَرْفَعُ ذُرِّيَّةَ الْمُؤْمِنِ حَتَّى يُلْحِقَهُمْ بِهِ، وَإِنْ كَانُوا دُونَهُ فِي الْعَمَلِ لِتَقَرَّ بِهِمْ عَيْنُهُ ثُمَّ قَرَأَ {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] إِلَى آخِرِ الآيَةِ.
890 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ، أنا أَبُو بَكْرٍ الْقَطِيعِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ فَضْلٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ زَاذَانَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ وَأَوْلادَهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَأَوْلادَهُمْ فِي النَّارِ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} [الطور: 21] " الآية
{وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21] قال ابن عباس: لم ننقص الآباء من الثواب، حين ألحقنا بهم ذريتهم.
وذكرنا تفسير الألت عند قوله: لا يلتكم، والفراء على فتح اللام في: ألتناهم، وقرأ ابن كثير بكسر اللام، وذلك لا يعرفه أهل اللغة وتم الكلام، ثم ذكر أهل النار، فقال: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21] قال مقاتل: كل امرئ كافر، بما عمل من الشرك، مرتهن في النار، والمؤمن لا يكون مرتهنًا، لقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ {38} إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ {39} } [المدثر: 38-39] فاستثنى المؤمنين.
ثم ذكر ما يزيدهم من الخير والنعمة، فقال: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الطور: 22] قال ابن عباس: زيادة غير الذي كان لهم.
يتنازعون يتعاطون، ويتناولون، {فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} [الطور: 23] قال الزجاج: لا يجري بينهم ما يلغى، ولا ما فيه إثم، كما يجري في الدنيا لشربه الخمر.
وقال ابن قتيبة: لا تذهب(4/187)
بعقولهم، فيلغوا ويرفثوا، كما يكون من خمر الدنيا، ولا يكون منهم ما يؤثمهم.
والتأثيم تفعيل من الإثم، يقال: أثمه، إذا جعله ذا إثم، والمعنى: أن تلك الكأس لا تجعلهم آثمين.
ويطوف عليهم بالخدمة، {غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ} [الطور: 24] في الحسن، والبياض، لؤلؤ مكنون مستور، مصون لم تسمه الأيدي، قال قتادة: ذكر لنا أن رجلًا، قال: يا نبي الله، هذا الخادم، فكيف المخدوم؟ فقال: «والذي نفسي بيده، إن فضل المخدوم على الخادم، كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» .
{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الطور: 25] قال ابن عباس: يتذكرون ما كانوا فيه في الدنيا، من التعب والخوف.
وهو قوله: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا} [الطور: 26] في دار الدنيا، مشفقين خائفين من العذاب.
{فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} [الطور: 27] بالمغفرة، {وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: 27] يعني: عذاب جهنم، والسموم: اسم من أسماء جهنم في قول الحسن، ومقاتل، وقال الكلبي: عذاب النار.
وهو قول أبي عبيدة، وقال الزجاج: عذاب السموم: عذاب سموم جهنم، وهو ما يوجد من لفحها، وحرها.
{إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ} [الطور: 28] أي: في الدنيا، ندعوه نوحده، ونعبده، {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 28] من فتح الهمزة كان المعنى: ندعوه لأنه هو البر الرحيم، أي: فلرحمته ندعوه، لأنه يجيب من دعاه، ومن كسر الهمزة قطع الكلام مما قبله.
واستأنف قوله: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ {29} أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ {30} قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ {31} أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ {32} أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ {33} فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ {34} أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ {35} أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ {36} أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ {37} أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ {38} } [الطور: 29-38] .(4/188)
فذكر فعظ بالقرآن أهل مكة، {فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ} [الطور: 29] بإنعامه عليك بالنبوة، {بِكَاهِنٍ} [الطور: 29] وهو: الذي يوهم أنه يعلم الغيب، ويخبر بما في غد، من غير وحي، يقال: كهن يكهن كهانة، مثل: كتب يكتب كتابة، أي: لست تقول ما تقوله كهانة، ولا تنطق إلا بوحي.
أم يقولون أي: بل يقولون: شاعر هو شاعر، {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 30] صروف الدهر وحوادثه، أي: ننتظر به حدثان الموت، وحوادث الدهر، فيهلك كما هلك من قبله من الشعراء، والمنون يكون بمعنى: الدهر، ويكون بمعنى: المنية.
قال الله تعالى: قل تربصوا انتظروا بي الموت، {فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور: 31] من المنتظرين عذابكم، فعذبوا يوم بدر بالسيف.
{أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا} [الطور: 32] قال المفسرون: كانت عظماء قريش توصف بالأحلام والعقول، فأزرى الله بحلومهم، حين لم تتم لهم معرفة الحق من الباطل.
ثم أخبر عن طغيانهم، فقال: {أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الطور: 32] قال ابن عباس: يريد حملهم الطغيان على تكذيبك.
{أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} [الطور: 33] افتعل القرآن، وتكذبه من تلقاء نفسه، والتقول: تكلف القول، ولا يستعمل إلا في الكذب، بل ليس الأمر على ما زعموا، لا يؤمنون بالقرآن استكبارًا.
ثم ألزمهم الحجة، فقال: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} [الطور: 34] مثل القرآن في نظمه، وحسن بيانه، {إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور: 34] أن محمدًا تقوله.
ثم احتج عليهم بابتلاء الخلق، فقال: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} [الطور: 35] قال الزجاج: أم خلقوا لغير شيء، أي: أخلقوا باطلًا، لا يحاسبون، ولا يؤمرون، ولا ينهون، ونحو هذا.
قال ابن كيسان: أم خلقوا عبثًا، وتركوا سدى، لا يؤمرون ولا ينهون.
{أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35] لأنفسهم، فلا يجب عليهم لله أمر.
{أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الطور: 36] فيكونوا هم الخالقين؟ ليس الأمر على هذا، لا يوقنون بالحق، وهو توحيد الله، وقدرته على البعث.
{أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ} [الطور: 37] قال مقاتل: يقول: أبأيديهم مفاتيح ربك بالرسالة، فيضعونها حيث شاءوا؟ وقال الكلبي: خزائن المطر والرزق.
{أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ} [الطور: 37] أي: هم الأرباب المسلطون، فلا يكونوا تحت أمر ونهي، يفعلون ما شاءوا.
{أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ} [الطور: 38] مرقى ومصعد إلى السماء، يستمعون فيه، أي: عليه، كقوله: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] والمعنى: يستمعون الوحي، فيعلمون أن ما هم عليه حق، فليأت مستمعهم إن ادعى ذلك، بسلطان مبين بحجة واضحة.(4/189)
{أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ {39} أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ {40} أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ {41} أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ {42} أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ {43} } [الطور: 39-43] .
{أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} [الطور: 39] هذا انكار عليهم، حيث جعلوا لله ما يكرهون، كقوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} [الصافات: 149] .
{أَمْ تَسْأَلُهُمْ} [الطور: 40] يا محمد، على ما جئتهم به من الدين والشريعة، {أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} [الطور: 40] أثقلهم ذلك الغرم الذي تسألهم، فمنعهم ذلك عن الإسلام، قال قتادة: يقول: هل سألت هؤلاء القوم أجرًا فجهدهم، فلا يستطيعون الإسلام؟ {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ} [الطور: 41] قال قتادة: هذا جواب لقولهم: {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 30] .
يقول الله تعالى: أعندهم الغيب حتى علموا أن محمدًا يموت قبلهم؟ فهم يكتبون قال ابن قتيبة: يحكمون بما يقولون.
{أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا} [الطور: 42] مكرًا به، فيهلكون بذلك المكر، {فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} [الطور: 42] المجزيون بكيدهم، يريد: أن ضرر ذلك يعود عليهم، ويحيق بهم مكرهم، كما قصدوا المكر به لما اجتمعوا في دار الندوة، فجزاهم الله بكيدهم، أن قتلهم ببدر.
{أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ} [الطور: 43] يرزقهم، ويحفظهم، وينصرهم، يعني: أن الذين اتخذوهم آلهة، ليست بآلهة تدفع وتنفع، ثم نزه نفسه، فقال: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الطور: 43] به من الآلهة.
ثم ذكر عنادهم، وقساوة قلوبهم، فقال تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ {44} فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ {45} يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ {46} وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ {47} وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ {48} وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ {49} } [الطور: 44-49] .
{وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا} [الطور: 44] يقول: إن عذبناهم بسقوط بعض من السماء عليهم، لم ينتهوا عن كفرهم، وقالوا: هو قطعة من السحاب، وهو قوله: {يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطور: 44] بعضه على بعض.
فذرهم فخل عنهم، حتى يعاينوا يوم موتهم، وهو قوله: {حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} [الطور: 45] أي: يموتون، من قوله: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الزمر: 68] من قرأ يصعقون بضم الياء، فهو من أصعقهم الله، إذا قتلهم وأهلكهم.
وذلك اليوم لا ينفعهم كيدهم، ولا يمنعهم من العذاب مانع، وهو قوله: {لا يُغْنِي عَنْهُمْ(4/190)
كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ {46} وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} [الطور: 46-47] يعني: كفار مكة، عذابًا في الدنيا، دون ذلك قبل عذاب الآخرة، يعني: القتل ببدر، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الطور: 47] بما هو نازل بهم.
{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الطور: 48] أي: إلى أن يقع بهم العذاب، الذي حكمنا عليهم، فإنك بأعيننا قال ابن عباس: أرى ما يفعل بك.
وقال الزجاج: إنك بحيث نراك ونحفظك، ونرعاك، فلا يصلون إلى مكروهك.
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48] أمر أن يقول حين يقوم من مجلسه: سبحان الله وبحمده.
وقال ابن عباس: صل لله حين تقوم من منامك.
{وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} [الطور: 49] قال مقاتل: صل المغرب، والعشاء.
وإدبار النجوم يعني: الركعتين قبل صلاة الفجر، وذلك حين تدبر النجوم، أي: تغيب بضوء الصبح.(4/191)
تفسير سورة النجم
ستون وآيتان، مكية.
891 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا الْيَرْبُوعِيُّ، نا الْمَدَايِنِيُّ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ أُعْطِيَ مِنَ الْأَجْرِ بِعَدَدِ كُلِّ مَنْ صَدَّقَ بِمُحَمَّدٍ وَجَحَدَهُ» .
{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى {1} مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى {2} وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى {3} إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى {4} عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى {5} ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى {6} وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى {7} ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى {8} فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى {9} فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى {10} مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى {11} } [النجم: 1-11] .
بسم الله الرحمن الرحيم {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم: 1] أقسم الله تعالى بالقرآن، إذ أنزل نجومًا متفرقة على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عشرين سنة، والمراد بالنجم: القرآن، سمي نجمًا، لتفريقه في النزول، والعرب تسمي التفريق تنجيمًا، والمفرق منجمًا، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء، وزاذان , وهوى معناه: نزل من أعلى إلى أسفل، يقال: هوى يهوي هويًا وهويًا، إذا سقط من علو إلى أسفل، وقال في رواية الوالبي، وعطية: يعني: الثريا إذا سقطت وغابت.
والعرب تطلق اسم النجم على الثريا خاصة، وقال في رواية عكرمة: يعني: المرجوم من النجوم، وهو ما يرمى به الشياطين عند استراق السمع.
وجواب القسم قوله تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}(4/192)
[النجم: 2] يعني: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول: ما ضل عن طريق الهدى.
{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] وما يتكلم بالباطل، وذلك أنهم قالوا: إن محمدًا يقول القرآن من تلقاء نفسه.
فقال الله تعالى: ما ينطق محمد بالقرآن من هوى نفسه.
إن هو ما القرآن إلا من الله، وحي يوحى إليه، يأتيه به جبريل، وهو قوله: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 5] يعني: جبريل، والقوى: جمع قوة.
ذو مرة ذو قوة، وشدة في خلقه، فاستوى جبريل.
وهو كناية عن جبريل، بالأفق الأعلى يعني: أفق المشرق والمغرب، والمراد بالأعلى: جانب المشرق، وهو فوق جانب المغرب، في صعيد الأرض لا في الهواء، قال المفسرون: إن جبريل كان يأتي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صورة الآدميين، فسأله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يريه نفسه على صورته التي خلق عليها، فأراه نفسه مرتين، مرة في الأرض، ومرة في السماء، فأما في الأرض: ففي الأفق الأعلى، وذلك أن محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان بحراء، فطلع له جبريل عليه السلام من المشرق، فسد الأفق إلى المغرب، فخر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مغشيًا عليه، فنزل جبريل في صورة الآدميين، فضمه إلى نفسه، وهو يقول: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم: 8] تقديره: ثم تدلى فدنا، أي: قرب بعد بعده وعلوه في الأفق الأعلى، فدنا من محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال الحسن، وقتادة: ثم دنا جبريل، بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض، فنزل إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال أبو صالح: جبريل الذي دنا فتدلى.
وقال الزجاج: معنى دنا وتدلى واحد، لأن المعنى: أنه قرب، وتدلى زاد في القرب، كما تقول: قد دنا مني فلان وقرب، ولو قلت: قرب مني ودنا جاز.
{فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ} [النجم: 9] يقال: قاب قوس، وقيب قوس، أي: قدر قوس، وهذا قول جميع المفسرين في القاب، قال الكسائي: هي لغة حجازية، يقال: كان مني قاب قوسين، وقاد قوسين، وقيد قوسين.
قال الزجاج: كان ما بينه وبين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقدار قوسين.
والقوس: ما يرمى به في قول(4/193)
مجاهد، وعكرمة، وعطاء، عن ابن عباس، وخصت بالذكر على عادتهم، كما قال الكسائي، وقال عبد الله بن مسعود: قدر ذراعين.
وهو قول شقيق بن سلمة، وأبي إسحاق الهمذاني، وروي ذلك مرفوعًا.
892 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَافِظُ، فِيمَا أَجَازَ لِي أَنَا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ الْوَاعِظُ، نا عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، نا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عِيسَى، نا الْمُسَيِّبُ بْنُ شَرِيكٍ، عَنْ مُحَمَِّد بْنِ عَمْرٍو، عَنْ كَثِيرِ بْنِ خُنَيْسٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9] أَمَا قَابَ قَوْسَيْنِ , فَقَوْلُ ذِرَاعَيْنِ أَوْ أَدْنَى مِنْ ذِرَاعَيْنِ وَمَعْنَى الْقَوْسِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَا يُقَاسُ بِهِ الشَّيْءُ، وَالذِّرَاعُ مَا يُقَاسُ بِهِ
قال ابن السكيت: قاس الشيء يقوسه قوسًا، لغة في قاسه يقيسه إذا قدره.
893 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَارِسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَمْرَوَيْهِ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، نا ابْنُ نُمَيْرٍ، نا أَبُو أُسَامَةَ، نا زَكَرِيَّا، عَنِ ابْنِ أَشْوَعَ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى {8} فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى {9} فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى {10} } [النجم: 8-10] قَالَتْ: إِنَّمَا ذَاكَ جِبْرِيلُ كَانَ يَأْتِيهِ فِي صُورَةِ الرِّجَالِ، وَإِنَّهُ أَتَاهُ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ فِي صُورَتِهِ الَّتِي هِيَ صُورَتُهُ فَسَدَّ أُفُقَ السَّمَاءِ
ومعنى قوله: أو أدنى قال الزجاج: أي: فيما تقدرون أنتم، والله تعالى عالم بمقادير الأشياء، ولكنه يخاطبنا على ما جرت به عادة المخاطبة فيما بيننا.
ومعنى الآية: أن جبريل عليه السلام مع عظمه، وكثرة أجزائه، حتى سد الأفق بجناحيه، دنا من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غير تلك الصورة، حتى قرب منه، وفي ذلك بيان قدرة الله تعالى.
894 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمُطَّوِعِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمْدَانَ بْنِ عَلِيٍّ الْمُقْرِي، أنا أَبُو يَعْلَى، نا أَبُو خَيْثَمَةَ، نا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، نا زُهَيْرٌ، نا أَبُو(4/194)
إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ، قَالَ: أَتَيْتُ دَارَةَ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، فَأَلْقَيْتُ عَلَى مَحَبَّةٍ مِنْهُ، وَعِنْدَهُ شَبَابٌ، فَقَالُوا لِي: سَلْهُ {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9] فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى جِبْرِيلَ وَلَهُ سِتُّ مِائَةِ جَنَاحٍ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ الْعَوَّامِ كِلاهُمَا، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ
قوله: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] قال ابن عباس في رواية عطاء، والكلبي: أوحى جبريل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أوحى الله إليه.
وقال قتادة: يوحي الله إلى جبريل، ويوحي جبريل إلى محمد صلى الله عليهما.
قوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] يقال: كذبه، إذا قال له الكذب ولم يصدقه، قال المبرد: معنى الآية: أنه رأى شيئًا فصدق فيه.
وقال أبو الهيثم: ما رأى بمعنى: الرؤية، تقول: ما أوهمه الفؤاد أنه رأى ولم ير، بل صدقه الفؤاد رؤيته.
وما رأى مصدر في موضوع النصب، لأنه مفعول كذب، وهذا إخبار عن رؤية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة المعراج ربه، قال ابن عباس: رأى محمد ربه بفؤاده، ولم يره بعينه.
ويكون ذلك على أن الله تعالى جعل بصره في فؤاده، أو خلق لفؤاده بصرًا، حتى رأى ربه رؤية غير كاذبة، كما ترى بالعين، ومذهب جماعة من المفسرين: أنه رآه بعينه.
وهو قول أنس، وعكرمة، والحسن، وكان يحلف بالله: لقد رأى محمد ربه.
فكل هؤلاء أثبتوا رؤية صحيحة: إما بالعين، وإما بالفؤاد، ومذهب عبد الله بن مسعود، وعائشة رضي الله عنهما في هذه الآية: أنه رأى جبريل في صورته التي خلق عليها.
وقرأ ابن عامر ما كذب بالتشديد، وقال المبرد: في هذه القراءة بعد، لأنه إذا رأى بقلبه، فقد(4/195)
علمه أيضًا، والقلب يكذب ويصدق، فإذا كان الشيء في القلب معلومًا، فكيف يكون معه تكذيب؟ وهذا على ما قال المبرد: إذا جعلت الرؤية للفؤاد، فإن جعلتها للعين زال الإشكال، وصح المعنى، فيقال: ما كذب فؤاده ما رآه ببصره.
{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13] قال ابن عباس: رأى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه.
895 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْوَرْكَانِيُّ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّا، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: رَأَى مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ.
896 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْمَرْوَزِيُّ، نا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، نا قَيْسٌ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اصْطَفَى إِبْرَاهِيمَ بِالْخُلَّةِ، وَاصْطَفَى مُوسَى بِالْكَلامِ وَاصْطَفَى مُحَمَّدًا بِالرُّؤْيَةِ.
897 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْمِهْرَجَانِيُّ، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أنا الْبَغَوِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ الْمُؤَدِّبِ، قُلْتُ: أَخْبَرَكُمُ الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ الْمُزَنِيُّ، نا سُفْيَانُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ عَمِّهِ سُلَيْمِ بْنِ زِيَادٍ، قَالَ: خَرَجْتُ مِنْ مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَقِيتُ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا نَضْرٍ لا تَبْرَحْ حَتَّى أُشْهِدَ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ وَإِذَا الرَّجُلُ مُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي بِمَا أَخْبَرَكَ أَبُوكَ، عَنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَهُ: أَنَّهُ رَأَى رَبَّ الْعَالَمِينَ فِي خُضْرٍ مِنَ الْفِرْدَوْسِ، قَالَ سُفْيَانُ: فَلَقِيتُ عِكْرِمَةَ بَعْدُ، فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْحَدِيثِ، فَقَالَ: نَعَمْ كَذَا حَدَّثَنِي إِلا أَنَّهُ قَالَ: رَأَى رَبَّهُ بِفُؤَادِهِ.
وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا نَازِلًا مِنَ السَّمَاءِ نَزْلَةً أُخْرَى، وَذَلِكَ أَنَّهُ رَآهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بِالْأُفُقِ الأَعْلَى، وَمَرَّةً أُخْرَى رَآهُ مُنْهَبِطًا(4/196)
مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ سَادًّا خَلْقُهُ مَا بَيْنَهُمَا
وعلى قول ابن عباس معنى: نزلة أخرى هو: أنه كانت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عرجات في تلك الليلة، لما استحط ربه من أعداد الصلوات المفروضة، فيكون لكل عرجة نزلة، فرأى ربه في بعض تلك النزلات.
قوله: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى {12} وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى {13} عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى {14} عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى {15} إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى {16} مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى {17} لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى {18} } [النجم: 12-18] .
{أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم: 12] قال جماعة من المفسرين: أفتجادلونه.
وذلك أنهم جادلوه حين أسري به، فقالوا: صف لنا مسجد بيت المقدس، وأخبرنا عن عيرنا في طريق الشام، وغير ذلك مما جادلوه به، والمعنى: أفتجادلونه جدالًا، ترومون به دفعه عما علمه وشاهده؟ ومن قرأ: أفتمرونه كان معناه: أفتجحدونه، يقال: مريت الرجل حقه إذا جحدته، قال المبرد: أي: أفتدفعونه عما يرى.
وعلى في موضع عن، والمعنيان متقاربان، لأن مجادلتهم جحود، وكل مجادل جاحد.
{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13] رأى جبريل في صورته التي خلق عليها، نازلًا من السماء نزلة أخرى، وذلك أنه رآه في صورته مرتين على ما ذكرنا.
{عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم: 14] يعني: رآه محمد وهو عند سدرة المنتهى، وقال الكلبي، ومقاتل: هي شجرة عن يمين العرش، فوق السماء السابعة، انتهى إليها علم كل ملك.
898 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْمَنْصُورِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، نا أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، نا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " لَمَّا رُفِعَتْ إِلَيَّ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ نَبْقُهَا مِثْلُ قِلالِ هَجَرَ وَوَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ، يَخْرُجُ مِنْ سَاقِهَا نَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، وَنَهْرَانِ بَاطِنَانِ، قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا؟ قَالَ: أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَفِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ "
وقال عبد الله بن مسعود: إليها ينتهي ما يصعد به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها.
والمنتهى: موضوع الانتهاء، وهذه الشجرة حيث تنتهي إليها الملائكة،(4/197)
فأضيفت إليه.
{عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم: 15] قال عطاء، عن ابن عباس: جنة يأوي إليها جبريل والملائكة.
وقال مقاتل، والكلبي: جنة يأوي إليها أرواح الشهداء.
{إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم: 16] قالوا: فراش من ذهب يغشاها.
وقال الحسن، ومقاتل: تغشاها الملائكة أمثال الغربان، حتى يقعن على الشجرة.
وروي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «رأيت على كل ورقة من ورقها ملكًا، قائمًا يسبح الله عز وجل» .
{مَا زَاغَ الْبَصَرُ} [النجم: 17] ما مال بصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمينًا، ولا شمالًا، وما طغى وما جاوز ما رأى، وهذا وصف أدبه في ذلك المقام، إذ لم يلتفت إلى جانب، ولم يمل بصره، ولم يمده أمامه إلى حيث ينتهي.
لقد رأى تلك الليلة، {مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18] يعني: الآيات العظام التي رآها تلك الليلة، وقال قوم: يعني: رأى من آيات ربه الآية الكبرى.
وهو قول عبد الله بن عباس في رواية أبي صالح، قال: رأى جبريل في صورته التي خلق عليها، له ست مائة جناح.
ولما قص الله تعالى هذه الأقاصيص، قال للمشركين: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى {19} وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى {20} أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى {21} تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى {22} إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى {23} أَمْ لِلإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى {24} فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى {25} وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى {26} إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى {27} وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا {28} } [النجم: 19-28] .
{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى {19} وَمَنَاةَ} [النجم: 19-20] والمعنى: أخبرونا عن هذه الآلهة، التي تعبدونها من دون الله،(4/198)
هل لها قدرة توصف بها، كما يوصف الله تعالى بالقدرة والعظمة؟ وهذه أسماء أصنام اتخذوها آلهة، فعبدوها من دون الله، وكانوا يشتقون لها أسماء من أسماء الله تعالى، فقالوا: من الله: اللات، ومن العزيز: العزى.
وكان الكسائي يختار الوقف عليها بالهاء، وقال الزجاج: الوقف عليها بالتاء لاتباع المصحف، فإنها تكتب بالتاء.
والعزى تأنيث الأعز، وهي بمعنى: العزيزة، وكانت شجرة بنخلة لغطفان يعبدونها، فبعث إليها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خالد بن الوليد فقطعها، وقال:
يا عز كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك
وقال قتادة: كانت مناة للأنصار.
وقال الضحاك، والكلبي: كانت لهذيل وخزاعة.
وكان ابن كثير يقرأها بالمد والهمزة، والصحيح: قراءة العامة، لأن العرب سمت زيد مناة، وعبد مناة، ولم يسمع فيها المد، والثالثة نعت لمناة يعني: الثالثة للصنمين في الذكر، والأخرى نعت لها أيضًا.
{أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى} [النجم: 21] قال الكلبي: قال مشركو مكة: الأصنام، والملائكة بنات الله.
فنحلوه البنات، وكان الرجل منهم إذا بشر بالأنثى كره.
فقال الله تعالى منكرًا عليهم: ألكم الذكر يعني: البنين، وله الأنثى يعني: ما نحلوه من الأصنام، وهي إناث في أسمائها والملائكة.
{تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم: 22] جائرة غير معتدلة، يعني: القسمة التي قسمتم، من نسبة البنات إلى الله تعالى، وإيثاركم أنفسكم البنين،(4/199)
قسمة غير عادلة، والقراء على ترك الهمز من ضيزى، وقرأ ابن كثير بالهمز، يقال: ضاز حقه يضيز، وضأز يضأز مثله، قال الفراء، وزجاج: ضيزى فعلى، فنقلت إلى فعلى لتسلم الياء، كما قالوا: بيض وعين فكسروا أولهما لتكونا بالياء، كذلك كرهوا أن يقولوا: ضوزى، فتصير بالواو وهي من الياء.
{إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ} [النجم: 23] أخبر الله تعالى أن هذه الأصنام التي سموها بهذه الأسامي لا معاني تحتها، لأنه لا ضر عندها ولا نفع، فهي تسميات ألقيت على جمادات، {سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23] قال مقاتل: لم ينزل كتابًا، لكم فيه حجة بما تقولون إنها آلهة.
والمعنى: ما أنزل الله بعبادتها من سلطان، ثم رجع إلى الإخبار عنهم بعد المخاطبة، فقال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ} [النجم: 23] في أنها آلهة، وهو ما زين لهم الشيطان، {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23] البيان والرشاد، بالكتاب والرسول، وهذا تعجيب من حالهم، حيث لم يتركوا عبادتها، مع وضوح البيان.
ثم أنكر على الكفار تمنيهم شفاعة الأصنام، فقال: أم للإنسان يعني: الكافر، ما تمنى من شفاعة الأصنام.
{فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى} [النجم: 25] أي: لا يملك فيهما أحد شيئًا إلا بإذنه.
ثم أكد هذا بقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} [النجم: 26] جمع الكناية لأن المراد بقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ} [النجم: 26] الكثرة، {إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ} [النجم: 26] في الشفاعة، {لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26] أي: من أهل التوحيد، قال ابن عباس: يريد لا تشفع الملائكة، إلا لمن رضي الله عنه، كقوله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] .
ثم ذم صنيعهم، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} [النجم: 27] بالبعث، {لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى} [النجم: 27] حين زعموا أن الملائكة بنات الله.
{وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ} [الجاثية: 24] أي: التسمية، من علم قال مقاتل: ما يستيقنون أنهم إناث.
{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] لا يقوم مقام الحق، ولا يغني عن العلم، فالحق ههنا معناه: العلم، وهذا يدل على أن الظان غير عالم.
ثم أمره بالإعراض عنهم، بقوله: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا {29} ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى {30} وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ(4/200)
الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى {31} الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى {32} } [النجم: 29-32] .
{فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} [النجم: 29] يعني: القرآن، وهذا مما نسخته آية القتال.
ثم صغر رأيهم، فقال: {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [النجم: 30] أي: لم يبلغوا من العلم إلا ظنهم أن الملائكة بنات الله، وأن الأصنام تشفع لهم، فاعتمدوا ذلك، وأعرضوا عن القرآن، {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [النجم: 30] أي: أنه عالم بهم، فهو يجازيهم، {وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} [النجم: 30] أي: أنه عالم بالفريقين، فلا يذهب عليه جزاؤهما.
{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [النجم: 31] إخبار عن قدرته، وسعة ملكه، وهذا معترض بين الآية الأولى، وبين قوله: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا} [النجم: 31] الآية، واللام في ليجزي متعلق بمعنى الآية الأولى، لأنه إذا كان أعلم بهم، جازى كلا بما يستحقه، وهي لام العاقبة، وذلك لأن علمه بالفريقين أدى إلى جزائهم باستحقاقهم، وإنما يقدر على مجازاة المحسن والمسيء إذا كان كثير الملك، لذلك أخبر به في قوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ} [النجم: 31] في الآخرة، الذين أساءوا أشركوا، بما عملوا من الشرك، {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا} [النجم: 31] وحدوا ربهم، بالحسنى بالجنة.
ثم نعتهم، فقال: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ} [النجم: 32] وهو: كل ذنب ختم بالنار، والفواحش كل ذنب فيه الحد، وقرأ حمزة كبير الإثم لأنه مضاف إلى واحد في اللفظ، وإن كان يراد به الكثرة، فلتوحيده في اللفظ وحد الكبير، وقوله: إلا اللمم يعني: صغائر الذنوب، كالنظرة، والقبلة، وما كان دون الزنا، وهذا قول ابن مسعود، وأبي هريرة، والشعبي، ويصدق هذا ما:
899 - أَخْبَرَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ النَّسَوِيُّ، أنا أَبُو الْقَاسِمِ النَّسَوِيُّ، أنا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ فَضَالَةَ، أنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لا مَحَالَةَ فَزِنَا الْعَيْنِ(4/201)
النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَشْتَهِي وَتَمَنَّى وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُهُ الْفَرْجُ» .
فَإِنْ تَقَدَّمَ بِفَرْجِهِ كَانَ الزِّنَا وَإِلا فَهُوَ اللَّمَمُ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ غَيْلانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ
وقال ابن عباس: هو أن يلم بالذنب مرة، ثم يتوب منه، ولا يعود.
وهو قول الحسن، والسدي، قال ابن عباس: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول:
إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما
وهذا القول اختيار أبي إسحاق، فقال: اللمم هو: أن يكون الإنسان قد ألم بالمعصية، ولم يقم على ذلك.
ويدل على هذا قوله: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم: 32] قال ابن عباس: لمن فعل ذلك، ثم تاب.
وتم الكلام هاهنا، ثم قال: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ} [النجم: 32] يعني: قبل أن خلقكم، {إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [النجم: 32] يريد: ما كان من خلق آدم من التراب، {وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ} [النجم: 32] جمع جنين، {فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم: 32] قال الحسن: علم الله تعالى من كل نفس ما هي صانعة، وإلى ما هي صايرة.
{فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32] لا تبرئوها عن الآثام، ولا تمدحوها بحسن أعمالها، يدل على هذا ما روي أن زينب بنت أبي سلمة، قالت: سميت برة، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بالبر منكم» .
{هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32] أي: بر، وأطاع، وأخلص العمل لله.
قوله: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى {33} وَأَعْطَى قَلِيلا وَأَكْدَى {34} أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى {35} أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ(4/202)
مُوسَى {36} وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى {37} أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى {38} وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى {39} } [النجم: 33-39] .
{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى} [النجم: 33] أدبر عن الحق والإسلام، يعني: الوليد بن المغيرة، كان قد آمن، ثم عيره بعض المشركين بترك دينه، فقال: إني خشيت عذاب الله.
فقال: أنا أتحمل عنك العذاب، إن أعطيتني من مالك كذا وكذا.
فرجع إلى الشرك، وأعطى الذي عيره بعض ذلك المال، ومنعه تمامه، وذلك قوله: {وَأَعْطَى قَلِيلا وَأَكْدَى} [النجم: 34] قال الفراء: أمسك من العطية وقطع.
وقال المبرد: منع منعًا شديدًا.
{أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ} [النجم: 35] ما غاب عنه من أمر العذاب، فهو يرى أي: يعلم أن صاحبه يتحمل عنه عذابه.
{أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ} [النجم: 36] لم يخبر، ولم يحدث، {بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى} [النجم: 36] يعني: أسفار التوراة.
وإبراهيم وفي صحف إبراهيم، الذي وفى وتمم، وأكمل ما أمر به، قال المفسرون: بلغ قومه، وأدى إليهم ما أمر به.
وقال آخرون: أكمل ما يجب لله عليه من الطاعة، في كل ما أمر، وامتحن به.
ثم بين ما في صحفهما، فقال: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 38] أي: لا تحمل نفس حاملة حمل أخرى، ومعناه: لا تؤاخذ نفس بإثم غيرها، وفي هذا إبطال لقول من ضمن للوليد أن يحمل عنه الإثم، وهذا عام في كل شريعة، وقد روي في شرعنا: أن رؤساء الكفر، والداعين إلى الضلالة، يزاد لهم الوزر، بسبب إضلالهم أتباعهم، وهو قوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13] ، وقوله: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25] فأما أن تحمل نفس ذنب نفس أخرى، حتى تصير المحمول عنها، كأنها لم تأت بذنب، فليس ذلك في شريعة.
{وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] عطف على قوله تعالى: ألا تزر وهذا أيضًا مما في صحف إبراهيم وموسى، ومعناه: ليس له جزاء إلا جزاء سعيه، إن عمل خيرًا جزي خيرًا، وإن عمل شرًا جزي شرًا، وروى الوالبي، عن ابن عباس: أن هذا منسوخ الحكم في هذه الشريعة، بقوله: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] رفع الله درجة الذرية، وإن لم يستحقوها بأعمالهم.
ونحو هذا قال(4/203)
عكرمة، وكان ذلك لقوم إبراهيم وموسى، فأما هذه الأمة: فلهم ما سعى غيرهم نيابة عنهم، ومن قال: إنه غير منسوخ الحكم، قال: الآية تدل على منع النيابة في الطاعات، إلا ما قام عليه الدليل كالحج.
وهو أن امرأة قالت لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن إبي مات، ولم يحج.
قال: «فحجي عنه» .
{وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى {40} ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى {41} وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى {42} وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى {43} وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا {44} وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى {45} مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى {46} وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى {47} وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى {48} وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى {49} وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى {50} وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى {51} وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى {52} وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى {53} فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى {54} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى {55} هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى {56} أَزِفَتِ الآزِفَةُ {57} لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ {58} أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ {59} وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ {60} وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ {61} فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا {62} } [النجم: 40-62] .
{وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} [النجم: 40] يوم القيامة في منزلته، من أريته الشيء.
ثم يجزاه يجزى الإنسان سعيه، يقال: جزيت فلانًا سعيه.
يتعدى إلى مفعولين، الجزاء الأوفى الأكمل الأتم.
{وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42] منتهى العباد، ومرجعهم إليه.
{وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم: 43] هذا يدل على أن كل ما يعمله الإنسان فبقضاء الله وقدره، حتى الضحك والبكاء، قال الكلبي: أضحك أهل الجنة، وأبكى أهل النار.
وقال الضحاك: أضحك الأرض بالنبات، وأبكى السماء بالمطر.
{وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ} [النجم: 44] في الدنيا، وأحيا بالبعث.
{وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ} [النجم: 45] الصنفين، الذكر والأنثى من كل حيوان.
{مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} [النجم: 46] تصب في الرحم.
{وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى} [النجم: 47] الخلق الثاني للبعث يوم القيامة.
{وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى} [النجم: 48] الناس، بالأموال ومولهم، وأقنى أعطى القنية، وأصول الأموال، وما يدخرونه بعد الكفاية، وقال مقاتل، ومجاهد: أقنى: قنع، ورضي بما أعطى الفقير.
{وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} [النجم: 49] وهو كوكب خلف الجوزاء، كانت خزاعة تعبدها، فقال الله تعالى: أنا رب الشعرى(4/204)
فاعبدوني.
{وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى} [النجم: 50] وهم: قوم هود، أهلكوا بريح صرصر، وكان لهم عقب، فكانوا عادا الأخرى.
وثمودًا وهم: قوم صالح، أهلكهم الله بالصيحة، فما أبقى منهم أحدًا.
{وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ} [النجم: 52] أهلك الله قوم نوح من قبل عاد، وثمود، {إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} [النجم: 52] من غيرهم، لطول دعوة نوح إياهم، وعتوهم على الله بالمعصية، والتكذيب.
والمؤتفكة قرى قوم لوط، المخسوف بها، أهوى أسقط، أي: أهواها جبريل، بعد أن رفعها، وأتبعهم الله بالحجارة، فذلك قوله: فغشاها ألبسها الله، ما غشى يعني: الحجارة.
{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} [النجم: 55] هذا خطاب للإنسان، لما عدد الله ما فعله مما يدل على وحدانيته، قال: فبأي نعم ربك، التي تدلك على وحدانيته، تتشكك؟ قال ابن عباس: يريد: تكذب يا وليد، يعني: الوليد بن المغيرة.
هذا نذير يعني: محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {مِنَ النُّذُرِ الأُولَى} [النجم: 56] من الرسل قبله، قال قتادة: يقول أنذر محمد، كما أنذر الرسل من قبله.
أزفت الآزفة دنت القيامة، واقتربت الساعة.
{لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [النجم: 58] أي: إذا غشيت الخلق بشدائدها، وأهوالها، لم يكشفها عنهم أحد، ولم يردها، وهذا قول عطاء، والضحاك، وقتادة.
وتأنيث كاشفة على تقدير: نفس كاشفة، ويجوز أن تكون الكاشفة مصدرًا، كالجاثية، والعاقبة، والمعنى: ليس لها من دون الله كشف، أي: لا يكشف عنها غيره، ولا يظهرها، كقوله: {لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ} [الأعراف: 187] .
قوله: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ} [النجم: 59] يعني: القرآن، تعجبون أي: من إنزاله على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتكذبون به.
وتضحكون تستهزئون به، ولا تبكون مما فيه من الوعيد.
وأنتم سامدون لاهون، غافلون، معرضون، والسمود: الغفلة والسهو عن الشيء.
فاسجدوا لله الخالق، واعبدوا فإنه المستحق للعبادة.
900 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أنا أَبُو خَلِيفَةَ الْقَاضِي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أنا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ فَسَجَدَ فِيهَا فَمَا بَقِيَ مِنَ الْقَوْمِ إِلا رَجُلٌ وَاحِدٌ قَدْ أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصَا، فَوَضَعَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ، وَقَالَ: يَكْفِينِي، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا ".
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ بُنْدَارٍ، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ.(4/205)
تفسير سورة القمر
وهي خمسون وخمس آيات، مكية.
1144 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْعَزَايِمِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1] فِي كُلِّ غِبٍّ بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَوَجْهُهُ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَمَنْ قَرَأَهَا كُلَّ لَيْلَةٍ كَانَ أَفْضَلَ، وَجَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَوَجْهُهُ مُسْفِرٌ عَلَى وُجُوهِ الْخَلائِقِ ".
بسم الله الرحمن الرحيم {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ {1} وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ {2} وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ {3} وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ {4} حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ {5} } [القمر: 1-5] .
{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] وقال ابن عباس: اجتمع المشركون إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالوا: إن كنت صادقًا، فشق لنا القمر فرقتين.
فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن فعلت تؤمنون» .
قالوا: نعم.
وكانت ليلة بدر، فسأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه أن يعيطه ما قالوا، فانشق القمر فرقتين، ورسول الله ينادي يا فلان يا فلان اشهدوا.
1145 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى، نا أَبُو خَيْثَمَةَ، نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: " انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَقَّتَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اشْهَدُوا " رَوَاهُ الْبُخَارِيّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، وَرَوَاه مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ(4/206)
كِلاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ، وَحَدِيثُ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ
روينا عن جميعهم ذلك في مسند التفسير، وجميع المفسرين على هذا، إلا ما روى عثمان بن عطاء، عن أبيه، أنه قال: معناه: سينشق القمر.
والعلماء كلهم على خلافه وإنما ذكر اقتراب الساعة مع انشقاق القمر، لأن انشقاقه من علامات نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونبوته وزمانه من أشراط اقتراب الساعة، قال الزجاج: زعم قوم عندوا عن القصد، وما عليه أهل العلم أن تأويله: أن القمر ينشق يوم القيامة.
والأمر بين في اللفظ وإجماع أهل العلم، لأن قوله: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 2] يدل على أن هذا كان في الدنيا، لا في القيامة، قال المفسرون: لما انشق القمر، قال المشركون: سحرنا محمد.
فقال الله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً} [القمر: 2] ، يعني: انشقاق القمر، يعرضوا عن التصديق، والإيمان بها، {وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 2] قوي شديد، يعلو كل سحر، من قولهم: استمر الشيء إذا قوي واستحكم.
ثم ذكر تكذيبهم، فقال: وكذبوا يعني: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما عاينوا من قدرة الله، {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [القمر: 3] وما زين لهم الشيطان من الباطل الذي هم عليه، {وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} [القمر: 3] قال الكلبي: لكل أمر حقيقة ما كان منه في الدنيا فسيظهر، وما كان منه في الآخرة فسيعرف.
وقال قتادة: وكل أمر مستقر فالخير يستقر بأهل الخير، والشر يستقر بأهل الشر.
وقال الفراء: يقول: يستقر قرار تكذيبهم، وقرار قول المصدقين، حتى يعرفوا حقيقته بالثواب(4/207)
والعقاب.
ولقد جاءهم يعني: أهل مكة، من الأنباء من أخبار الأمم المكذبة في القرآن، {مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} [القمر: 4] مصدر بمعنى الازدجار، أي: نهي وعظة، يقال: زجرته وازدجرته إذا نهيته عن السوء.
حكمة بالغة يعني: القرآن حكمة تامة، قد بلغت الغاية، {فما تغني النذر} يجوز أن تكون ما نفيا على معنى: فليست تغني النذر، وهو جمع نذير، ويجوز أن تكون استفهامًا، والمعنى: فأي شيء تغني النذر، إذا لم يؤمنوا؟ كقوله: {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101] .
ثم أمره بالإعراض عنهم، بقوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ {6} خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ {7} مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ {8} } [القمر: 6-8] .
فتول عنهم وههنا وقف التمام، وقوله: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} [القمر: 6] قال مقاتل: هو إسرافيل، ينفخ قائمًا على صخرة بيت المقدس.
{إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} [القمر: 6] إلى أمر فظيع لم يروا مثله، فينكرونه استعظامًا له.
{خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ} [القمر: 7] وقرئ خاشعًا، ويجوز في أسماء الفاعلين إذا تقدمت على الجماعة التوحيد، والجمع، والتأنيث، تقول: مررت بشباب حسن أوجههم، وحسان أوجههم، وحسنة أوجههم، وفي قراءة عبد الله خاشعة أبصارهم أي: ذليلة خاضعة عند رؤية العذاب، {يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ} [القمر: 7] وهي القبور، {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} [القمر: 7] ينبت بعضها في بعض، والمعنى: أنهم يخرجون فزعين، لا جهة لأحد منهم فيقصدها، والجراد لا جهة لها، تكون أبدًا مختلفة بعضها في بعض.
{مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} [القمر: 8] مقبلين إلى صوت إسرافيل، {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر: 8] صعب شديد، قال ابن عباس: عسير على الكافرين، سهل يسير على المؤمنين.
كقوله: {يَوْمٌ عَسِيرٌ {9} عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ {10} } [المدثر: 9-10] .(4/208)
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ {9} فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ {10} فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ {11} وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ {12} وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ {13} تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ {14} وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ {15} فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ {16} وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ {17} } [القمر: 9-17] .
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} [القمر: 9] إلى قوله: {وَازْدُجِرَ} [القمر: 9] زجروه عن دعوته بالشتم، والوعيد.
فدعا نوح، {رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر: 10] فانتقم لي ممن كذبني.
{فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} [القمر: 11] منصب انصبابًا شديدًا، لا ينقطع أربعين يومًا.
{وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا} [القمر: 12] وذلك أن الله تعالى أرسل من السماء ماء كما يسيل من أفواه القرب، وانفتحت الأرض بعيون الماء، حتى اجتمع الماءان، وهو قوله: فالتقى الماء يعني: ماء السماء وماء الأرض، {عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر: 12] قضي عليهم، وقال مقاتل: قدر الله تعالى أن يكون الماءان سواء، فكانا على ما قدر.
وحملناه يعني: نوحًا، على سفينته، {ذَاتِ أَلْوَاحٍ} [القمر: 13] وهي خشباتها العريضة التي منها جمعت، ودسر قال الزجاج: يعني: المسامير التي تشد بها الألواح، واحدها دسار، وكل شيء أدخل في شيء بشدة فهو الدسر.
تجري تلك السفينة، بأعيننا بمنظر ومرأى منا، وحفظ، كقوله: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37] ، {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر: 14] قال الفراء: يقول: فعلنا به وبهم ما فعلنا من إنجائه وإغراقهم، ثوابًا لمن كان كفر به، وجحد أمره، وهو نوح عليه السلام.
{وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا} [القمر: 15] يعني: الفعلة التي فعلنا، آية علامة يعتبر بها، {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 15] متذكر يعلم أن ذلك حق فيعتبر، ويخاف.
{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي} [القمر: 16] استفهام عن تلك الحالة، ومعناه: التعظيم لذلك العذاب، ونذر وهو اسم من الإنذار يقوم مقام المصدر، وفي هذا تخويف لمشركي مكة.
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ} [القمر: 17] للحفظ والقراءة، قال سعيد بن جبير: ليس من كتب الله كتاب يقرأ كله ظاهرًا إلا القرآن.
{فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17] من ذاكر يذكره، وقارئ يقرأه، ومعناه: الحث على قراءة القرآن، ودرسه، وتعلمه.
وقوله: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ {18} إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ {19} تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ {20} فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ {21} وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ {22} } [القمر: 18-22] .(4/209)
وما بعده ظاهر إلى قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} [القمر: 19] شديدة الهبوب، وقال ابن عباس: ريحًا باردة.
وقد مر، {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} [القمر: 19] دائم الشؤم، استمر عليهم بنحوسته، قال ابن عباس: كانوا يتشاءمون بذلك اليوم.
وقال الزجاج: قيل: في يوم الأربعاء، في آخر الشهر.
تنزع الناس تقلعهم من الأرض من تحت أقدامهم، فتصرعهم على الأرض موتى، {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ} [القمر: 20] جمع عجز، وهو مؤخر الشيء، منقعر منقلع ساقط، يقال: قعرت النخلة إذا قعلتها من أصلها، حتى تسقط وقد انقعرت هي.
شبههم في طول قاماتهم حين صرعتهم الريح، وكبتهم على وجوههم، بالنخيل الساقطة على الأرض التي ليست لها رءوس، وذلك أن الريح قلعت رءوسهم أولًا، ثم كبتهم على وجوههم.
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ {23} فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ {24} أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ {25} سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ {26} إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ {27} وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ {28} فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ {29} فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ {30} إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ {31} وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ {32} } [القمر: 23-32] .
قوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} [القمر: 23] بالإنذار الذي جاءهم به صالح.
{فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ} [القمر: 24] أي: هو آدمي مثلنا، وهو واحد فلا نكون له تبعًا، إنا إذا إن فعلنا ذلك، لفي ضلال خطأ، وذهاب عن(4/210)
الحق، وسعر شقاء وعناء، وشدة عذاب مما يلزمنا من طاعته، وقال عطاء، عن ابن عباس: وجنون من قولهم: ناقة مسعورة، إذا كان بها جنون.
ثم أنكروا أن يكون الوحي يأتيه، فقالوا: {أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا} [القمر: 25] كيف خص من بيننا بالنبوة والوحي، {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ} [القمر: 25] فيما يقول، أشر بطر متكبر، يريد أن يتعظم علينا بالنبوة.
قال الله تعالى: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا} [القمر: 26] حين ينزل بهم العذاب، وقال الكلبي: يعني: يوم القيامة.
{مَنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ} [القمر: 26] أهم، أم صالح؟ {إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ} [القمر: 27] قال ابن عباس: إنهم تعنتوا على صالح، فسألوه أن يخرج لهم من صخرة ناقة حمراء عشراء، تضع لهم، ثم ترد ماءهم فتشربه، ثم تغدون عليهم بمثله لبنًا.
فقال الله تعالى: {إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ} [القمر: 27] أي: باعثوها بإنشائها، فتنة لهم محنة واختبارًا، فارتقبهم فانتظر، ما هم صانعون واصطبر على ما يصيبك من الأذى.
{وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} [القمر: 28] بين ثمود وبين الناقة، يوم لها ويوم لهم، وهو قوله: {كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} [القمر: 28] يحضر القوم يومًا، وتحضر الناقة يومًا، وحضر واحتضر واحد.
فنادوا صاحبهم قدار بن سالف عاقر الناقة، فتعاطى تناول الناقة بالعقر، فعقر وقد مضى تفسير العقر.
{إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً} [القمر: 31] قال عطاء: يريد: صيحة جبريل عليه السلام.
{فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} [القمر: 31] الهشيم: حطام الشجر والبقل، والمحتظر: الذي يتخذ لغنمه حظيرة، يمنعها من برد الريح، يقال: احتظر على غنمه، إذا جمع الشجر، ووضع بعضها فوق بعض، قال الزجاج: كانوا كالهشيم الذي يجمعه صاحب الحظيرة.
والمعنى: أنهم بادوا وأهلكوا، فصاروا كيبيس الشجر إذا تحطم.(4/211)
{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ {33} إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ {34} نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ {35} وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ {36} وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ {37} وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ {38} فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ {39} وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ {40} } [القمر: 33-40] .
{إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا} [القمر: 34] قال ابن عباس: يريد: ما حصبوا به من السماء من الحجارة.
قال أبو عبيدة، والنضر: الحاصب: الحجارة في الريح.
وقد يكون الحاصب: الرامي، ويكون المعنى على هذا: إنا أرسلنا عليهم عذابًا يحصبهم يرميهم بحجارة، {إِلا آلَ لُوطٍ} [القمر: 34] يعني: لوطًا وبنتيه، نجيناهم بسحر من ذلك العذاب الذي أصاب قومه.
{نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} [القمر: 35] للإنعام عليهم، كذلك كما أنعمنا عليهم، {نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} [القمر: 35] قال مقاتل: من وحد الله، لم يعذب مع المشركين.
ولقد أنذرهم لوط، بطشتنا أخذنا إياهم بالعذاب، فتماروا بالنذر أي: شكوا بالإنذار، ولم يصدقوه.
{وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ} [القمر: 37] طلبوا أن يسلم إليهم أضيافه، فطمسنا أعينهم وهو أن جبريل عليه السلام صفق أعينهم بجناحه صفقة فأذهبها، والقصة مذكورة في { [هود وتم الكلام، ثم قال: فذوقوا أي: فقلنا لقوم لوط لما أرسلنا عليهم العذاب: ذوقوا، عذابي ونذر وما أنذركم به لوط من العذاب، سمي العذاب باسم الإنذار.
] وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً} [سورة القمر: 38] أتاهم صباحًا، عذاب مستقر نازل بهم، قال مقاتل: استقر بهم العذاب بكرة.
{وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ {41} كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ {42} أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ {43} أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ {44} سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ {45} بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ {46} } [القمر: 41-46] .
{وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ} [القمر: 41] يعني: القبط، النذر يجوز أن يكون بمعنى: الإنذار، ويجوز أن يكون: جمع نذير، وهي الآيات التي أنذرهم بها موسى، وذلك قوله: {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا(4/212)
فَأَخَذْنَاهُمْ} [القمر: 42] بالعذاب، أخذ عزيز غالب في انتقامه، مقتدر قادر على إهلاكهم.
ثم خوف كفار مكة، فقال: أكفاركم يا معشر العرب، خير أشد وأقوى، من أولئكم وهذا استفهام معناه: الإنكار، أي: ليسوا أقوى من قوم نوح، وعاد، وثمود وقد أهلكناهم، {أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} [القمر: 43] يقول: ألكم براءة من العذاب في الكتب، أنه لن يصيبكم ما أصاب الأمم الخالية.
{أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} [القمر: 44] قال الكلبي: نحن جميع أمرنا ننتصر من أعدائنا.
والمعنى: نحن يد واحدة على من خالفنا، ننتصر ممن عادانا، فيدلون بقوة واجتماع عليك، ووحد المنتصر للفظ الجميع وهو واحد في اللفظ، وإن كان اسمًا للجماعة، كالرهط والجيش.
قال الله تعالى: سيهزم الجمع يعني: جميع كفار مكة، ويولون الدبر ينهزمون، فيولونكم أدبارهم في الهزيمة، أخبر الله تعالى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه يظهره عليهم ويهزمهم، فكانت هذه الهزيمة يوم بدر.
ثم قال: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ} [القمر: 46] يعني: أن موعد الجميع للعذاب يوم القيامة، والساعة أدهى أعظم في الضر، وأفظع من الدهاء، وهو النكر والفظاعة، وأمر أشد مرارة من القتل، والأسر في الدنيا.
{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ {47} يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ {48} إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ {49} وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ {50} وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ {51} وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ {52} وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ {53} إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ {54} فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ {55} } [القمر: 47-55] .
قوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 47] .
1146 - حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَّاجُ إِمْلاءً، أنا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى الْكَعْبِيُّ، نا حَمْدَانُ بْنُ صَالِحٍ الأَشَجُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، نا عَبْدَانُ، نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَيَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ، قَالا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يُخَاصِمُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقَدَرِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 47] {يَوْمَ يُسْحَبُونَ(4/213)
فِي النَّارِ} [القمر: 48] إِلَى قَوْلِهِ {خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ
1147 - أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَارِثِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْحَافِظُ، قَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْبَزَّارُ، قَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَسَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ جَنْدَلٍ، يَقُولُ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَسَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خُرَاسَانَ، يَقُولُ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الصَّقْرِ الْحَافِظَ، يَقُولُ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَسَمِعْتُ عُفَيْرَ بْنَ مَعْدَانَ، يَقُولُ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَسَمِعْتُ سُلَيْمَ بْنَ عَامِرٍ، يَقُولُ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَسَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ، يَقُولُ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْقَدَرِيَّةِ» {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ {47} يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ {48} } [القمر: 47-48] .
1148 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، أنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ، نا عَلِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَالِدٍ وَهُوَ عَبْدُونُ الْقُرْقُسَانِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْقَدَرِيَّةُ وَهُمُ الْمُجْرِمُونَ الَّذِينَ سَمَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ {47} يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} [القمر: 47-48](4/214)
1149 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَيَّانَ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ الزِّيَادِيُّ، نا أَبُو الْعَاصِ أُمَيَّةُ بْنُ عُتْبَةَ، حَدَّثَنِي بَقِيَّةُ، حَدَّثَنِي صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو السَّكْسَكِيُّ، حَدَّثَنِي جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْخَلائِقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي نِدَاءً يَسْمَعُهُ الْأَوَّلُونَ وَالآخِرُونَ أَيْنَ خُصَمَاءُ اللَّهِ، فَيَقُومُ الْقَدَرِيَّةُ فَيَؤُمُّهُمْ إِلَى النَّارِ»
يقول الله تعالى {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ {48} إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ {49} } [القمر: 48-49] .
وإنما سموا خصماء الله، لأنهم يقولون: يكتب الله علينا المعاصي ثم يعذبنا.
هذا ما لا يكون أبدًا، يخاصمون في أنه لا يجوز أن يقدر المعصية على العبد ثم يعذبه عليها، فقوله تعالى: إن المجرمين يريد: القدرية المشركين، وإخوانهم من قدرية هذه الأمة، {فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 47] ذهاب عن طريق الجنة في الدنيا، وسعر ونار متسعرة في الآخرة.
{يَوْمَ يُسْحَبُونَ} [القمر: 48] يجرون في النار، على وجوههم ويقال لهم: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر: 48] أصابتهم إياهم بعذابها، وحرها.
{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] أي: كل ما خلقناه فمقدور، مكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه.
1150 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ يُوسُفَ الْفَارِسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ السَّرَّاجُ، نا قُتَيْبَةُ، نا مَالِكٌ، عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُسٍ، قَالَ:(4/215)
سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزِ وَالْكَيْسِ» رَوَاه مُسْلِمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ
وقال ابن عباس: كل شيء بقدر حتى وضعك يدك على خدك.
{وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد: أن قضائي في خلقي أسرع من لمح البصر.
وقال الكلبي، عنه: وما أمرنا بمجيء الساعة في السرعة إلا كلمح البصر.
ومعنى اللمح: النظر بالعجلة.
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ} [القمر: 51] أشباهكم، ونظراءكم في الكفر من الأمم الماضية، {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 51] متعظ، يعلم أن ذلك حق فيخاف، ويعتبر.
ثم أخبر أن جميع ما فعلته الأمم قبلهم كان مكتوبًا عليهم، فقال: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} [القمر: 52] قال مقاتل: مكتوب عليهم في اللوح المحفوظ.
{وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ} [القمر: 53] من الخلق، والأعمال، مستطر مكتوب على فاعليه، قبل أن يفعلوه.
قوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} [القمر: 54] أراد: أنهارًا، يعني: أنهار الجنة من الماء، والخمر، واللبن، والعسل، فوحد لوفاق الفواصل.
{فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} [القمر: 55] في مجلس حسن، {عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 55] عند ملك قادر، لا يعجزه شيء، والمعنى: في المكان الذي كرمه لأوليائه.(4/216)
تفسير سورة الرحمن
وهي سبعون وثماني آيات، مكية.
1151 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الزَّعْفَرَانِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو السِّجِسْتَانِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ، نا الْمَدَايِنِيُّ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الرَّحْمَنِ رَحِمَ اللَّهُ ضَعْفَهُ وَأَدَّى شُكْرَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ»
بسم الله الرحمن الرحيم {الرَّحْمَنُ {1} عَلَّمَ الْقُرْءَانَ {2} خَلَقَ الإِنْسَانَ {3} عَلَّمَهُ الْبَيَانَ {4} الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ {5} وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ {6} وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ {7} أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ {8} وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ {9} وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ {10} فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ {11} وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ {12} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {13} } [الرحمن: 1-13] .
{الرَّحْمَنُ {1} عَلَّمَ الْقُرْءَانَ {2} } [الرحمن: 1-2] قال الكلبي: علم القرآن محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلمه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمته.
وقال الزجاج: معنى علم القرآن: يسره لأن يذكر.
خلق الإنسان يعني: آدم.
علمه البيان أسماء كل شيء، ويقال: الإنسان اسم للجنس، ومعناه: الناس جميعًا، علمه البيان النطق، والكتابة، والخط، والفهم والإفهام، حتى عرف ما يقول، وما يقال له، وهذا قول أبي العالية، ومرة، وابن زيد، والحسن، والسدي.
{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] يجريان بحساب، ومنازل لا يعدوانهما، وهما يدلان على عدد الشهور والسنين،(4/217)
والأوقات.
والنجم يعني: نبت الأرض مما ليس له ساق، والشجر ما كان له ساق، يبقى في الشتاء، يسجدان يعني: سجود ظلالهما، كقوله: {يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ} [النحل: 48] ، وكقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ} [الحج: 18] إلى قوله: والنجوم.
والسماء رفعها فوق الأرض، ووضع الميزان يعني: آلة الوزن، ليتوصل به إلى الإنصاف والانتصاف، وقال الزجاج، وصاحب النظم: المراد بالميزان: العدل.
والمعنى: أنه أمر بالعدل، يدل عليه قوله: {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} [الرحمن: 8] أي: لا تجاوزوا العدل.
{وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} [الرحمن: 9] قال عطاء: لا تخونوا من وزنتم له، أقيموا لسان الميزان بالعدل.
{وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن: 9] لاتنقصوا، ولا تبخسوا الوزن.
{وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} [الرحمن: 10] بسطها على الماء، لجميع الخلق الذين ثبتهم فيها.
فيها فاكهة يعني: ما يتفكه من ألوان الثمار، {وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ} [الرحمن: 11] الأوعية والغلف، وثمرها يكون في غلف ما لم ينشق.
والحب يريد: جميع الحبوب، مما يحرث في الأرض من الحنطة، والشعير، وغيرهما، ذو العصف يعني: الورق، فإذا يبس وديس صار تبنًا، وقال السدي، والفراء: هو بقل الزرع، وهو أول ما ينبت منه.
قال ابن كيسان: يبدو أولًا ورقًا وهو العصف، ثم يبدو له ساق، ثم يحدث الله فيه أكمامًا، ثم يحدث الله في الأكمام حبًا.
وقوله: والريحان يعني: الرزق في قول الأكثرين، وقال الحسن، وابن زيد: هو ريحانكم الذي يشم.
وقرأ ابن عامر: والحب ذا العصف حمله على قوله: والأرض وضعها المعنى: وخلق الحب، والوجه الرفع نسقًا على قوله: {فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ} [الرحمن: 11] ، والحب أي: وفيها الحب والريحان، وقرأ حمزة بالخفض حملًا على ذو كأنه قيل: والحب ذو العصف وذو الريحان، وهو رزق الناس والعصف رزق(4/218)
الدواب، فذكر قوت الناس والأنعام.
ثم خاطب الجن والإنس، بقوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] فبأي نعم ربكما تكذبان من هذه الأشياء المذكورة؟ لأنها كلها منعم عليكم بها، وكررت هذه الآية في هذه السورة، تقريرًا للنعمة، وتأكيدًا في التذكير بها، على عادة العرب في الإبلاغ والإشباع.
1152 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَخْلَدِيُّ، أنا أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْبَاغَنْدِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْفَيْضِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ خُزَيْمٍ، أَنَّ هِشَامَ بْنَ عَمَّارٍ حَدَّثَهُمْ، نا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، نا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَذْكُورِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَرَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةَ الرَّحْمَنِ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ: " مَا لِي أَرَاكُمْ سُكُوتًا لَلْجِنُّ كَانُوا أَحْسَنَ مِنْكُمْ رَدًّا، مَا قَرَأْتُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الآيَةَ مِنْ مَرَّةٍ {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] إِلا قَالُوا: وَلا بِشَيْءٍ مِنْ نِعَمِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ فَلَكَ الْحَمْدُ ".
رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ هِشَامٍ.
{خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ {14} وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ {15} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {16} رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ {17} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {18} مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ {19} بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ {20} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {21} يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ {22} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {23} وَلَهُ(4/219)
الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ {24} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {25} } [الرحمن: 14-25] .
قوله: {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ} [الرحمن: 14] تقدم تفسيره في { [الحجر،] كَالْفَخَّارِ} [سورة الرحمن: 14] وهو: الخزف الذي طبخ بالنار، معناه: من طين يبسه كالخزف.
{وَخَلَقَ الْجَانَّ} [الرحمن: 15] يعني: أبا الجن، {مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن: 15] وهو الصافي من لهب النار.
رب المشرقين يعني: مشرق الصيف، ومشرق الشتاء، وكذلك: المغربين.
{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} [الرحمن: 19] تفسير هذه الآية، والتي بعدها قد تقدم في { [الفرقان، والمعنى: أن الله تعالى ذكر عظيم قدرته، حيث خلق البحرين العذب والمالح، يلتقيان ثم لا يختلط أحدهما بالآخر، وهو قوله: بينهما برزخ أي: حاجز من قدرة الله تعالى، لا يبغيان فلا يبغي المالح على العذب فيفسده، ولا العذب على المالح فيختلط به.
قوله: يخرج منهما أكثر القراء على يخرج بضم الياء، من الإخراج، لأنه يخرج ولا يخرج بنفسه، ومن قرأ يخرج فهو اتساع، وذلك أنه إذا أخرج خرج، وقال: منهما وإنما يخرج من المالح دون العذب، ولكن الله تعالى ذكرهما جميعًا، وجمعهما وهما بحر واحد، فإذا خرج من أحدهما، فقد خرج منهما، هذا قول الزجاج.
وقال أبو علي الفارسي: أراد: من أحدهما، فحذف المضاف.
وقوله: اللؤلؤ والمرجان قال الفراء: اللؤلؤ: العظام، والمرجان: ما صغر.
وهو قول جميع أهل اللغة، وقال عطاء: اللؤلؤ: الكبير، والمرجان: الصغير.
وذكر مقاتل على الضد من هذا، وهو قول مجاهد، والسدي.
وله الجوار يعني: السفن الجارية في الماء، المنشآت المرفوعات، وهي التي رفع خشبها بعضها على بعض فركب، حتى ارتفعت وطالت، والوجه فتح الشين، ومن كسر أراد: المنشئات السير، أي: اللاتي ابتدأن وأنشأن السير، وقوله: كالأعلام أي: كالجبال، والعلم: الجبل الطويل، قال مقاتل: شبه السفن في البحر، كالجبال في البر.(4/220)
[كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ {26} وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ {27} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {28} يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ {29} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {30} } [سورة الرحمن: 26-30] .
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا} [الرحمن: 26] على الأرض، {فَانٍ} [الرحمن: 26] هالك، يعني: أن كل من دب ودرج على الأرض من حيوان، فهو فان هالك، يفنى ولا يبقى.
{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27] أي: ربك الظاهر بأدلته، ظهور الإنسان بوجهه، {ذُو الْجَلالِ} [الرحمن: 27] العظمة والكبرياء، واستحقاق الصفات بإحسانه، وإنعامه، {وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] إكرامه أنبياءه وأولياءه، فهو مكرمهم بلطفه مع جلاله وعظمته.
{يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الرحمن: 29] قال قتادة: لا يستغني عنه أهل السماء، ولا أهل الأرض.
وقال أبو صالح: يسأله من في السموات الرحمة، ويسأله من في الأرض المغفرة والرزق.
وقال مقاتل: يسأل أهل الأرض الرزق والمغفرة، وتسأل الملائكة لهم أيضًا الرزق والمغفرة.
{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] قال المفسرون: من شأنه أنه يحيي ويميت، ويرزق، ويعز ويذل، ويشفي مريضًا، ويجيب داعيًا، ويعطي سائلًا، ويغفر ذنبًا، ويكشف كربًا، إلى ما لا يحصى من أفعاله، وأحداثه في خلقه ما يشاء.
1153 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أنا يَحْيَى بْنُ مَنْصُورٍ الْقَاضِي، نا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّسَوِيُّ، نا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، نا الْوَزِيرُ بْنُ صُبَيْحٍ، نا يُونُسُ بْنُ حَلْبَسٍ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] قَالَ: مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَغْفِرَ ذَنْبًا وَيُفَرِّجَ كَرْبًا وَيَرْفَعَ قَوْمًا وَيَضَعَ آخَرِينَ.(4/221)
1154 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدُوسٍ النَّحْوِيُّ إِمْلاءً، أنا أَبُو حَامِدٍ الْبِلالِيُّ، نا يَحْيَى بْنُ الرَّبِيعِ، نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، نا أَبُو حَمْزَةَ الثُّمَالِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ مِمَّا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَوْحًا مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ وَقَنَاةً مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، قَلَمُهُ نُورٌ وَكِتَابُهُ نُورٌ يَنْظُرُ اللَّهُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ ثَلاثَ مِائَةٍ وَسِتِّينَ نَظْرَةً يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ، وَيُحْيِي وَيُمِيتُ وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ وَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ.
{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ {31} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {32} يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ {33} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {34} يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ {35} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {36} } [الرحمن: 31-36] .
{سَنَفْرُغُ لَكُمْ} [الرحمن: 31] هذا وعيد من الله تعالى للخلق بالمحاسبة، ولا يشغله شأن عن شأن، وإنما حسن لفظ الفراغ لسبق ذكر الشأن، والمعنى: سنترك ذلك الشأن إلى هذا، قال الزجاج: سنقصد لحسابكم.
وهذا قول ابن الأعرابي، واختيار أبي علي الفارسي، قال: ليس الفراغ ههنا فراغًا من شغل، ولكن تأويله القصد.
والمفسرون على أن هذا تهديد منه لبعاده، وقرئ بالياء سيفرغ لتقدم قوله: {وَلَهُ الْجَوَارِ} [الرحمن: 24] ، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27] ، وقوله: {أَيُّهَ الثَّقَلانِ} [الرحمن: 31] يعني: الجن والإنس، يدل عليه قوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا} [الرحمن: 33] أي: تخرجوا، يقال: نفذ الشيء من الشيء إذا أخلص منه، كالسهم ينفذ من الرمية، {مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الرحمن: 33] جوانبها ونواحيها، واحدها: قطر، والمعنى: إن استطعتم أن تهربوا من الموت، بالخروج من أقطار السموات والأرض، فاهربوا واخرجوا منها، والمعنى: أنكم حيث ما كنتم أدرككم الموت، كما قال الله(4/222)
تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} [النساء: 78] ، ولن تستطيعوا أن تهربوا منه، {لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33] يقول: إلا بملكي، أي: حيث توجهتم فتم ملكي، وأنا آخذكم بالموت، ومعنى السلطان: القوة التي يتسلط بها على الأمر، ثم الملك، والقدرة، والحجة كلها سلطان.
قوله: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ} [الرحمن: 35] جاء في الخبر: يحاط على الخلق بلسان من نار، ثم ينادون: يا معشر الجن والإنس، {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ} [الرحمن: 33] الآية، وذلك قوله: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ} [الرحمن: 35] والشواظ: اللهب الذي لا دخان معه، وقرأ ابن كثير بكسر الشين، وهو لغة أهل مكة، ومثله صوار من بقي وصوار، وقوله: {وَنُحَاسٌ} [الرحمن: 35] وهو الدخان، وهو قول ابن عباس في رواية عطاء، والكلبي، وسعيد بن جبير، والوالبي، وأكثر القراء فيه على الرفع، بالعطف على قوله: {شُوَاظٌ} [الرحمن: 35] والمعنى: يرسل عليكما شواظ، ويرسل نحاس، أي: يرسل هذا مرة وهذا مرة، ويجوز أن يرسلًا معًا من غير أن يختلط أحدهما بالآخر، وقرئ بالكسر وهو ضعيف، لأنه لا يمكن أن يعطف به على نار، في قوله: من نار لأنه لا يكون شواظ من نحاس، قال أبو علي: وهو يجوز من وجه، على أن تقديره: يرسل عليكما شواظ من نار، وشيء من نحاس، على أنه قد حكي أن الشواظ لا يكون إلا من النار والدخان جميعًا.
ونحو هذا حكي عن أبي عمرو، وقوله: {فَلا تَنْتَصِرَانِ} [الرحمن: 35] أي: لا تمتنعان من الله، ولا يكون لكم ناصر منه.
{فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ {37} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {38} فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ {39} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {40} يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ {41} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {42} هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ {43} يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ {44} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {45} } [الرحمن: 37-45] .
{فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ} [الرحمن: 37] لنزول الملائكة، {فَكَانَتْ وَرْدَةً} [الرحمن: 37] كلون الفرس الورد، وهو الأبيض الذي يضرب إلى الحمرة والصفرة، قال قتادة: هي اليوم خضراء كما ترون، ولها يوم القيامة لون(4/223)
آخر إلى الحمرة.
{كَالدِّهَانِ} [الرحمن: 37] جمع دهن، قال الفراء: شبه تلون السماء بتلون الوردة من الخيل، وشبه الوردة في اختلاف ألوانها، بالدهن واختلاف ألوانه.
وهذا قول الضحاك، ومجاهد، وقتادة، والربيع.
{فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ} [الرحمن: 39] يعني: لا يسأل لتعرف ذلك بالمسألة من جهته، لأن الله تعالى قد أحصى الأعمال، وحفظها على العباد، فلا يسألون سؤال استفهام، ولكن يسألون سؤال تقريع وتوبيخ.
{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن: 41] قالوا: بسواد الوجوه، وزرقة الأعين، يدل على هذا قوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] ، وقوله: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه: 102] ، {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن: 41] تجعل الأقدام مضمومة إلى النواصي من خلف، ويلقون في النار، روى الحسن، عن أنس بن مالك، قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول: «والذي نفسي بيده، لقد خلقت ملائكة جهنم قبل أن تخلق جهنم بألف عام، فهم كل يوم يزدادون قوة إلى قوتهم، حتى يقبضوا على من قبضوا عليه بالنواصي والأقدام، فيستجير بالله منهم ومن جهنم» .
أخبرنا أبو نصر الجوزقي، أنا بشر بن أحمد، نا محمد بن موسى الحلواني، نا الفضل بن زياد، نا مروديه الصايغ، قال: صلى بنا الإمام صلاة الصبح، فقرأ { [الرحمن ومعنا علي بن الفضيل بن عياض، فلما قرأ الإمام:] يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} [سورة الرحمن: 41] الآية، خر عليّ مغشيًا عليه، ففرغنا من الصلاة، فلما كان بعد ذلك قلنا له: يا علي، أما سمعت الإمام يقول: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن: 72] .
قال: شغلني عنها: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن: 41] .
قوله: هذه جهنم أي: يقال لهم: هذه جهنم التي كنتم تكذبون بها، أي: أنها لا تكون.
ثم أخبر عن حالهم فيها، فقال: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 44] قال الفراء: هو الذي قد انتهى حره.
قال الزجاج: أنى(4/224)
يأني فهو آن إذا انتهى في النضج والحرارة.
وقال الحسن: قد بلغ منتهى حره.
والمعنى: أنهم يسعون بين عذاب الجحيم وعذاب الحميم، فإذا استغاثوا من النار، جعل غياثهم الحميم الآني، الذي قد صار كالمهل، وهو قوله: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} [الكهف: 29] الآية.
وكل ما ذكر الله تعالى من قوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا} [الرحمن: 26] إلى ههنا مواعظ ومزاجر، وتهديد وتخويف، وهي كلها نعمة من الله تعالى الانزجارية عن المعاصي، ولذلك ختم كل آية بقوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 28] .
ثم ذكر ما أعده لمن اتقاه وخافه، فقال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ {46} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {47} ذَوَاتَا أَفْنَانٍ {48} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {49} فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ {50} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {51} فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ {52} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {53} } [الرحمن: 46-53] .
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [الرحمن: 46] أي: مقامه بين يدي ربه للحساب، فترك المعصية والشهوة، قال مجاهد: هو الذي يهم بالمعصية فيذكر الله، فيدعها.
جنتان قال مقاتل: يعني: جنة عدن وجنة النعيم.
وقال الضحاك: هذا لمن راقب الله في السر والعلانية بعمله، فما عرض له من محرم تركه من خشية الله، وما عمل من خير أفضى به إلى الله، لا يحب أن يطلع عليه أحد فله جنتان.
وقال قتادة: إن المؤمنين خافوا ذلك المقام، فعملوا لله، ودأبوا له بالليل والنهار.
1155 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَالِكٍ الْقَطِيعِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الْقُرَشِيُّ، نا أَبُو الْعَبَّاسِ الْبَصْرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَثْمَةَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الأَنْصَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْمَلَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] ،(4/225)
قَالَ: قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي الدَّرْدَاءِ
ثم وصف الجنتين، فقال: ذواتا أفنان الأفنان: الأغصان، واحدها فنن وهو الغصن المستقيم طولًا، وهذا قول مجاهد، وعكرمة، وعطية , والكلبي، وقال الزجاج: الأفنان: الألوان، واحدها فن وهو الضرب من كل شيء.
قال الضحاك: ذواتا ألوان من الفاكهة.
وهو قول سعيد بن جبير، وجمع عطاء بين القولين، فقال: يريد: في كل غصن فنون من الفاكهة.
{فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} [الرحمن: 50] قال الحسن: إحداهما السلسبيل، والأخرى التسنيم.
{فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن: 52] أي: ضربان، وصنفان، ونوعان، يعني: أن فيهما من كل ما يتفكه ضربين رطبًا ويابسًا، لا يقصر يابسه عن رطبه في الفضل والطيب، ولا رطبه عن يابسه في العدم، كما يكون في الدنيا.
{مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ {54} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {55} فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ {56} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {57} كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ {58} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {59} هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ {60} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {61} } [الرحمن: 54-61] .
{مُتَّكِئِينَ} [الرحمن: 54] فيها، حال الذين ذكروا في قوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [الرحمن: 46] ، {عَلَى فُرُشٍ} [الرحمن: 54] جمع فراش، {بَطَائِنُهَا} [الرحمن: 54] جمع بطانة، وهي: التي تحت الظهارة، قال الزجاج: وهي ما يلي الأرض.
{مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: 54] وهو كل ما غلظ من الديباج، قال ابن مسعود: أخبرتم بالبطائن، فكيف بالظهاير؟ وقال أبو هريرة: هذه البطائن فما ظنكم بالظواهر؟ وقيل لسعيد بن جبير: البطائن من إستبرق، فما الظواهر؟ فقال: هذا مما قال الله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] .
وقال ابن عباس: وصف البطائن، وترك الظواهر، لأنه ليس في(4/226)
الأرض أحد يعرف ما الظواهر.
وقوله: {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن: 54] الجنى: ما يجتنى من الثمار، قال ابن عباس: تدنو الشجرة حتى يجتنيها ولي الله إن شاء قائمًا، وإن شاء قاعدًا.
وقال قتادة: لا ترد أيديهم عنها بعد ولا شوك.
فيهن يعني: في الفرش التي ذكرها، ويجوز أن يكون في الجنان، لأنها معلومة وإن لم يذكر، قاصرات الطرف قال قتادة: قصرن طرفهن على أزواجهن فلا يردن غيرهن.
وقال ابن زيد: إنها تقول لزوجها: وعزة ربي ما أرى في الجنة شيئًا أحسن منك، فالحمد الله الذي جعلني زوجك، وجعلك زوجي.
لم يطمثهن قال الفراء: الطمث: الافتضاض، وهو النكاح بالتدمية، يقال: طمث ويطمث وطمثت الجارية إذا افترعتها.
قال المفسرون: لم يطأهن، ولم يغشاهن، ولم يجامعهن.
قال مقاتل: لأنهن خلقن في الجنة، فعلى قوله: هؤلاء من حور الجنة.
وقال الشعبي: هن من نساء الدنيا، لم يمسسن منذ أنشئن خلقًا.
وهو قول الكلبي: لم يجامعهن في هذا الخلق الذي أنشئن فيه إنس ولا جان.
قال الزجاج: في هذه الآية دليل على أن الجني يغشى الإنس.
{كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 58] أراد لهن صفاء الياقوت في بياض المرجان.
{هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] أي: ما جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يحسن إليه في الآخرة، قال ابن عباس: هل جزاء من قال لا إله إلا الله، وعمل بما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلا الجنة.
1156 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْفَضْلِ، أنا عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ خَلَفٍ، نا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ بِهْرَامٍ، نا حَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ، نا قُتَيْبَةُ، نا بِشْرُ بْنُ الْحُسَيْنِ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الآيَةَ {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] قَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَا يَقُولُ رَبُّكُمْ، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّ رَبَّكُمْ، يَقُولُ: هَلْ جَزَاءُ مَنْ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ بِالتَّوْحِيدِ إِلا الْجَنَّةُ.
{وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ {62} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {63} مُدْهَامَّتَانِ {64} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {65} فِيهِمَا(4/227)
عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ {66} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {67} فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ {68} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {69} فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ {70} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {71} حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ {72} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {73} لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ {74} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {75} مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ {76} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {77} تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ {78} } [الرحمن: 62-78] .
{وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن: 62] أي: من دون الأوليين في الفضل، روى أبو موسى، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما» .
ثم نعتهما، فقال: مدهامتان قال أبو عبيدة، والزجاج: من خضرتهما قد اسودتا من الري وكل نبت أخضر، فتمام خضرته من الري أن يضرب إلى السواد، يقال: ادهام الزرع إذا علاه السواد ريًا ادهيمامًا فهو مدهام.
{فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن: 66] فوارتان، والنضخ: فوران الماء من العين، قال ابن عباس: تنضخ على أولياء الله بالمسك، والعنبر، والكافور.
قوله: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ} [الرحمن: 68] يعني: ألوان الفاكهة، {وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] حكى الزجاج، عن يونس النحوي، قال: وهو مثل الخليل في القدم والحذق: أن الرمان والنخل من أفضل الفاكهة، وإنما فُصِلا بالواو لفضلهما، واستشهد بقوله: {وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] قال: فصلا بالواو لفضلهما.
قال الأزهري: ما علمت أحدًا من العرب، قال في النخيل، والكروم وثمارها إنها ليست من الفاكهة، وإنما قال من قال ذلك، لقلة علمه بكلام العرب، وعلم اللغة، وتأويل القرآن العربي المبين، والعرب تذكر أشياء جملة، ثم تخص شيئًا منها بالتسمية، تنبيها على فضل فيه، قال الله عز وجل: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ} [البقرة: 98] إلى قوله: وميكال فمن قال: إنهما ليسا من الملائكة لإفراد الله إياهما بالتسمية، فهو كافر، ومن قال ثمر النخل والرمان ليسا من الفاكهة لإفراد الله إياهما بالتسمية بعد ذكر الفاكهة، فهو جاهل.
هذا كلام الأزهري.
قوله: فيهن يعني: في الجنان الأربع، خيرات جمع خيرة، قال المفسرون: خيرات الأخلاق حسان الوجوه.(4/228)
1157 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، نا عَمْرُو بْنُ هَاشِمٍ الْبَيْرُوتِيُّ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي كَرِيمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن: 70] قَالَ: خَيِّرَاتُ الْأَخْلاقِ حِسَانُ الْوُجُوهِ
{حُورٌ مَقْصُورَاتٌ} [الرحمن: 72] محبوسات، {فِي الْخِيَامِ} [الرحمن: 72] يعني: أنهن خدرن فيها، وهذا قول مقاتل، وأبي عبيدة، وقال المفسرون: قصرن على أزواجهن، فلا يردن غيرهم.
والخيام جمع خيم، وخيم جمع خيمة، وهي: أعواد تنصب وتظلل بالنبات، فتكون أبرد من الأخبية، وأما خيام الجنة، فروى قتادة، عن ابن عباس، قال: الخيمة درة مجوفة، فرسخ في فرسخ، فيها أربعة آلاف مصراع من ذهب.
1158 - أَخْبَرَنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعَالِبِيُّ، أنا شُعَيْبُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أنا مَكِيُّ بْنُ عَبْدَانَ، نا أَبُو الْأَزْهَرِ رَوْحٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ الْأَشْعَرِيَّ أَخْبَرَهُ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْخَيْمَةُ دُرَّةٌ مُجَوَّفَةٌ طُولُهَا فِي السَّمَاءِ سِتُّونَ مِيلا فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا أَهْلُ الْمُؤْمِنِ لا يَرَاهُمُ الآخَرُونَ»
{مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ(4/229)
خُضْرٍ} [الرحمن: 76] قال أبو عبيدة: الرفارف البسط.
وهو قول الضحاك، ومقاتل، والحسن، قالوا: المحابس والبسط.
وقال الزجاج: قالوا: الرفرف ههنا رياض الجنة، وقالوا: الرفرف: الوسائد، وقالوا: الرفرف المحابس.
وقوله: {وَعَبْقَرِيٍّ} [الرحمن: 76] يعني: عتاق الزرابي، والطنافس المخملة الموشية، قال أبو عبيدة: كل شيء من البسيط عبقري.
وعبقري ههنا جمع، واحدتها عبقرية، لذلك قال: {حِسَانٍ} [الرحمن: 76] .
ثم ختم ال { [بما ينبغي أن يمجد به ويعظم، فقال:] تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [سورة الرحمن: 78] وقرأ ابن عباس: ذو الجلال إجراء على الاسم، وذلك يدل على أن الاسم هو المسمى.(4/230)
تفسير سورة الواقعة
وهي تسعون وست آيات.
1159 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحِيرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِيرِيُّ، نا أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْوَاقِعَةِ كُتِبَ لَيْسَ مِنَ الْغَافِلِينَ» .
أخبرنا عمرو بن أبي عمرو، أنا جدي، أنا محمد بن إسحاق الثقفي، نا قتيبة، نا جرير، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن مسروق، قال: من أراد أن يعلم نبأ الأولين والآخرين، ونبأ أهل الجنة، ونبأ أهل النار، ونبأ أهل الدنيا والآخرة، فليقرأ { [الواقعة.
بسم الله الرحمن الرحيم] إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ {1} لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ {2} خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ {3} إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا {4} وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا {5} فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا {6} وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً {7} فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ {8} وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ {9} وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ {10} أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ {11} فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ {12} } [سورة الواقعة: 1-12] .
{إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الواقعة: 1] قال ابن عباس: إذا قامت القيامة.
والواقعة اسم للقيامة، كالآزفة وغيرها.
ليس لوقعتها لمجيئها وظهورها، كاذبة كذب، أي: أنها تقع صدقًا وحقًا، وليس فيها، ولا في(4/231)
الإخبار عن وقوعها كذب.
خافضة رافعة قال ابن عباس: تخفض ناسا، وترفع آخرين.
وقال عطاء عنه: تخفض أقوامًا كانوا في الدنيا مرتفعين، وترفع أقوامًا كانوا في الدنيا متضعين.
وقال قتادة: خفضت أقوامًا في عذاب الله، ورفعت أقوامًا في كرامة الله.
والمعنى: أنها تخفض أقوامًا إلى أسفل سافلين في النار، وترفع أقوامًا آخرين إلى أعلى عليين في الجنة.
{إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا} [الواقعة: 4] حركت حركة شديدة، قال قتادة، ومقاتل: زلزلت زلزالًا.
وقال جماعة من المفسرين: ترج كما يرج الصبي في المهد، حتى ينهدم كل بناء عليها، وينكسر كل ما عليها من الجبال.
وهو قوله: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} [الواقعة: 5] قال عطاء: فتتت فتًا.
وهذا قول مقاتل، ومجاهد، وقال السدي: كسرت كسرًا.
وقال الحسن: قلعت من أصلها.
يقال: بس الشيء إذا فتّته حتى يصير فتاتًا.
{فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة: 6] غبارًا متفرقًا، كالذي يرى في شعاع الشمس إذا دخل من الكوة وهو الهباء.
ثم ذكر أحوال الناس، فقال: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} [الواقعة: 7] أي: أصنافًا ثلاثة.
ثم فسرها، فقال: فأصحاب الميمنة يعني: اليمين، وهم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم، ويجوز أن يراد بهم: الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، {مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [الواقعة: 8] تعجيب من شأنهم، كقولك: زيد ما زيد، ومثله: {الْحَاقَّةُ {1} مَا الْحَاقَّةُ {2} } [الحاقة: 1-2] .
{وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} [الواقعة: 9] يعني: أصحاب الشمال، وتفسير هذه الآية على الضد من تفسير التي قبلها.
{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة: 10] يعني: الذين سبقوا إلى توحيد الله، والإيمان برسوله، وقال مقاتل: إلى الأنبياء بالإيمان.
{أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 11] إلى جزيل ثواب الله، وعظيم كرامته، مثل النبيين والمرسلين.
ثم أخبر أين محلهم، فقال: {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة: 12] .
{ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ {13} وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ {14} عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ {15} مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ {16} يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ {17} بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ {18} لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ {19} وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ {20} وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ {21} وَحُورٌ عِينٌ {22} كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ {23} جَزَاءً بِمَا كَانُوا(4/232)
يَعْمَلُونَ {24} لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا {25} إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا {26} } [الواقعة: 13-26] .
{ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ} [الواقعة: 13] يعني: من لدن آدم إلى زمان نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والثلة: جماعة غير محصورة العدد، قال مقاتل: يعني: سابق الأمم.
{وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة: 14] من هذه الأمة، قال الزجاج: الذين عاينوا جميع النبيين، وصدقوا بهم، أكثر ممن عاين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} [الواقعة: 15] منسوجة، كما توضن حلق الدرع، فيدخل بعضها في بعض، قال المفسرون: منسوجة بقضبان الذهب.
{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة: 17] غلمان لا يهرمون، ولا يتغيرون، قال الفراء: والعرب تقول للرجل إذا كبر ولم يشمط: إنه لمخلد.
قال: ويقال: مخلدون مقرطون، يقال: خلد جاريته، إذ أخلدها بالخلد، وهي القرطة.
قال ابن عباس: غلمان لا يموتون.
بأكواب هي الأقداح المستديرة الأفواه، لا آذان لها ولا عرى، والأباريق ذات الخراطيم، واحدها: إبريق، وهو الذي برق لونه من صفائه.
وما بعد هذا مفسر في { [والصافات، إلى قوله: مما يتخيرون أي: يختارون، يقال: تخيرت الشيء أخذت خيره.
] وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [سورة الواقعة: 21] قال ابن عباس: يخطر على قلبه الطير، فيصير ممثلًا بين يديه على ما اشتهى.
وحور عين أكثر القراءة بالرفع على معنى: ولهم أو عندهم حور عين، ومن قرأ بالخفض، فقال الفراء: هو وجه الكلام على أن يتبع آخر الكلام أوله، وإن لم يحسن في الآخرة ما حسن في الأول، يعني: أنه عطف على الأول في الظاهر، وإن لم يعطف في المعنى، كما قال الشاعر:
وزججن الحواجب والعيونا.(4/233)
فعطف العيون على الحواجب وهي لا تتزجج، على معنى: كحلن العيون.
لذلك ههنا معناه: ويكرمون بفاكهة، ولحم طير، وحور عين.
{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة: 24] أي: يفعل ذلك بهم جزاء أعمالهم.
{لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} [الواقعة: 25] أي: لا لغو فيها فيسمع، {وَلا تَأْثِيمًا} [الواقعة: 25] أي: لا يقولون بعضهم لبعض: أثمت، لأنهم لا يتكلمون بما فيه إثم، وهذا معنى قول ابن عباس: لا يتكلمون بالإثم كما يتكلم أهل الدنيا.
إلا قليلًا أي: لكن يقولون قيلًا، أو يسمعون قيلًا، سلامًا يسلمون فيه من اللغو والإثم، وقال عطاء: يحيي بعضهم بعضًا بالسلام.
ثم ذكر أصحاب اليمين، وعجب من شأنهم، فقال: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ {27} فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ {28} وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ {29} وَظِلٍّ مَمْدُودٍ {30} وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ {31} وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ {32} لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ {33} وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ {34} إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً {35} فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا {36} عُرُبًا أَتْرَابًا {37} لأَصْحَابِ الْيَمِينِ {38} ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ {39} وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ {40} } [الواقعة: 27-40] .
{وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ {27} فِي سِدْرٍ} [الواقعة: 27-28] وهو نوع من الشجر، مخضود منزوع الشوك، خضد شوكه أي: قطع شوكه، فلا شوك فيه.
وطلح وهو من أعظم أشجار العرب، منضود نضد بالحمل من أوله إلى آخره، فليست له سوق بارزة.
وظل ممدود دائم باق لا يزول، ولا تنسخه الشمس، والعرب تقول لكل شيء طويل، لا ينقطع: ممدود.
وماء مسكوب مصبوب، يجري الليل والنهار لا ينقطع عنهم، فهو مسكوب بسكب الله إياه في مجاريه.
وفاكهة كثيرة يعني: ألوان فواكه الجنة.
لا مقطوعة قال ابن عباس: لا تنقطع إذا جنيت.
ولا ممنوعة لا تمنع من أحد أراد أخذها، وقال ابن قتيبة: يعني: أنها غير محظورة عليها، كما يحظر على بساتين الدنيا.
فينظر الناظر إلى ثمارها، ولا يصل إليها فهي محظورة مقطوعة، ممنوعة عن الناس ممنوعة، ويجوز أن يكون المعنى: أنها غير مقطوعة بالأزمان، كما تنقطع أكثر فواكه الدنيا في الشتاء، ولا ممنوعة بالأثمان، لا يتوصل إليها إلا بالثمن، يدل على هذا ما روي أن ابن شوذب، قال: مررت بالحجاج بن فرافصة، وهو واقف على أصحاب الفاكهة،(4/234)
فقلت له: ما يقيمك ههنا.
قال: أنظر إلى هذه المقطوعة الممنوعة.
وفرش مرفوعة على الأسرة، وهو قول علي رضي الله عنه، قال: فوق السرير.
وجماعة المفسرين، قالوا: بعضها فوق بعض، فهي مرفوعة عالية.
قوله: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} [الواقعة: 35] خلقناهن خلقًا جديدًا، قال ابن عباس: يعني: النساء الآدميات العجز الشمط، يقول: خلقناهن بعد الكبر والهرم في الدنيا خلقًا آخر، وقال الضحاك: أنشأهن الله بعد إذ كن عجزًا.
فجعلناهن أبكارًا عذارى، وقال مقاتل: يعني: الحور العين أنشأهن الله تعالى، لم تقع عليهن ولادة.
ثم نعتهن، فقال: عربًا جمع عروب، وهي المتحببة إلى زوجها، قال المبرد: هي العاشقة لزوجها.
أترابًا أمثالًا، مستويات في السن على سن واحد.
لأصحاب اليمين يريد: أنشأناهن لأصحاب اليمين.
ثم نعتهم، فقال: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ} [الواقعة: 39] من المؤمنين الذين كانوا قبل هذه الأمة.
{وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة: 40] من مؤمني هذه الأمة، وهذا قول عطاء، ومقاتل، وذهب جماعة: أن الثلثين جميعًا من هذه الأمة، وهو قول مجاهد، والضحاك، واختيار الزجاج، قال: جماعة ممن تبع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعاينه، وجماعة ممن آمن به وكان بعده.
وروي مرفوعًا:
1160 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْقَاضِي، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَفَّانَ، نا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ {39} وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ {40} } [الواقعة: 39-40] ، قَالَ: جَمِيعُ الثُّلُثَيْنِ مِنْ أُمَّتِي
ثم ذكر أصحاب الشمال، وذكر منازلهم، فقال: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ {41} فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ {42} وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ {43} لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ {44} إِنَّهُمْ كَانُوا(4/235)
قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ {45} وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ {46} وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ {47} أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ {48} قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ {49} لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ {50} ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ {51} لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ {52} فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ {53} فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ {54} فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ {55} هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ {56} } [الواقعة: 41-56] .
{وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ {41} فِي سَمُومٍ} [الواقعة: 41-42] أي: في حر النار، {وَحَمِيمٍ} [الواقعة: 42] ماء حار يغلي.
{وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} [الواقعة: 43] من دخان جهنم، واليحموم: يفعول من الأحم وهو الأسود، والعرب تقول: أسود يحموم، إذا كان شديد السواد.
ثم نعت ذلك الظل، فقال: {لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} [الواقعة: 44] قال ابن عباس: يريد: لا بارد المدخل، ولا كريم المنظر.
قال الفراء: العرب تجعل الكريم تابعًا لكل شيء نعت عنه وصفًا ينوي به الذم، تقول: ما هو بسمين ولا كريم، وما هذه الدار بواسعة ولا كريمة.
ثم ذكر أعمالهم التي أوجبت لهم هذا، فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة: 45] كانوا في الدنيا منعمين، متكبرين في ترك أمر الله.
{وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 46] الحنث: الذنب الكبير.
قال أهل التفسير: عنى به الشرك، أي: كانوا لا يتوبون عن الشرك.
وقال الشعبي: {الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 46] : اليمين الغموس.
ومعنى هذا: أنهم كانوا يحلفون أنهم لا يبعثون، وكذبوا في ذلك، فهذا إصرارهم على الحنث العظيم، ويدل على هذا قوله: {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا} [الواقعة: 47] الآية وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} [الواقعة: 55] وقرئ بضم الشين، قال المبرد: الفتح على أصل المصدر، والضم اسم للمصدر، والمعنى فيهما واحد، تقول: شغله شغلًا والاسم الشغل، وضعف ضعفًا والاسم الضعف.
والهيم الإبل العطاش، وقال ابن عباس: هي التي بها الهيام لا تروى.
وقال مقاتل: يلقى على أهل النار العطش، فيشربون كشرب الهيم.
هذا نزلهم يعني: ما ذكر من الزقوم، والشراب غذاؤهم، يوم الدين يوم يجازون بأعمالهم.
ثم احتج عليهم في البعث، بقوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ {57} أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ {58} أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ {59} نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ(4/236)
الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ {60} عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ {61} وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذْكَّرُونَ {62} } [الواقعة: 57-62] .
نحن خلقناكم قال مقاتل: خلقناكم ولم تكونوا شيئًا مذكورًا، وأنتم تعلمون ذلك.
فلولا فهلا، تصدقون بالبعث.
{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} [الواقعة: 58] ما تقذفون، وتصبون في أرحام النساء من النطف.
أأنتم تخلقون ما تمنون بشرًا، {أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ {59} نَحْنُ قَدَّرْنَا} [الواقعة: 59-60] وقرأ ابن كثير مخففًا، وهما لغتان: قدرت الشيء وقدرته، {بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} [الواقعة: 60] قال مقاتل: فمنكم من يموت كبيرًا، ومنكم من يموت صغيرًا، وشابًا، وشيخًا.
وقال الضحاك: تقديره: أنه جعل أهل السماء وأهل الأرض فيه سواء.
وعلى هذا يكون معنى قدرنا: قضينا.
{وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} [الواقعة: 60] بمغلوبين.
{عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} [الواقعة: 61] أي: نأتي بخلق مثلكم بدلًا منكم، قال الزجاج: إن أردنا أن نخلق خلقًا غيركم، لم يسبقنا سابق، ولا يفوتنا.
{وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} [الواقعة: 61] من الصور، أي: إن أردنا أن نجعل منكم القردة والخنازير لم نسبق، ولا فاتنا ذلك.
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى} [الواقعة: 62] ابتداء الخلق، حين خلقتم من نطفة، وعلقة، ومضغة، {فَلَوْلا تَذْكَّرُونَ} [الواقعة: 62] فلا تنكروا قدرة الله على النشأة الأخيرة.
قوله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ {63} أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ {64} لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ {65} إِنَّا لَمُغْرَمُونَ {66} بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ {67} أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ {68} أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ {69} لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ {70} أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ {71} أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ {72} نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ {73} فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ {74} } [الواقعة: 63-74] .
{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} [الواقعة: 63] تعملون في الأرض، وتلقون فيها من البذر.
{أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ} [الواقعة: 64] تنبتونه، أم نحن المنبتون، قال المبرد: يقال: زرعه الله أي: أنماه.
{لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ} [الواقعة: 65] جعلنا ما تحرثون، {حُطَامًا} [الواقعة: 65] قال عطاء: تبنا لا قمح فيه.
قال الزجاج: أي: أبطلناه حتى يكون متحطمًا، لا حنطة فيه ولا شيء.
والمعنى: أنه يقول: لو نشاء لجعلنا ما تحرثون كلأ، يصير بعد يبسه حطامًا متكسرًا، لا حنطة فيه، {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة: 65] قال الفراء: تفكهون: تتعجبون مما نزل(4/237)
بكم في زرعكم.
وهو قول عطاء، والكلبي، ومقاتل، قال: ويقال: معناه: تندمون.
وهو قول عكرمة، وقتادة، والحسن، وقال أبو عمرو، والكسائي: هو التلهف على ما فات.
ويقولون: إنا لمغرمون المغرم: الذي ذهب ماله بغير عوض، تقولون: إنا قد غرمنا الحب الذي بذرناه، فذهب من غير عوض.
وهو قوله: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الواقعة: 67] حرمنا ما كنا نطلبه من الريع في الزرع، وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} [الواقعة: 71] تستخرجونها وتقدحونها، يقال: أوريت النار إذا قدحتها.
{أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا} [الواقعة: 72] التي تقدح منها، {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} [الواقعة: 73] قال عطاء: موعظة ليتعظ بها المؤمن.
وقال عكرمة، ومجاهد، ومقاتل: جعلنا النار تذكرة للنار الكبرى.
أي: إذا رآها الرائي، ذكر جهنم وما يخافه من العذاب، فذكر الله، واستجار به منها، {وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة: 73] المقوي: الذي ينزل بالقوى، وهي الأرض الخالية، والمعنى: ينتفع بها أهل البوادي والأسفار، النازلين في الأرض القي، ومنفعتهم بما بها أكثر من منفعة المقيم، وذلك أنهم يوقدونها ليلًا لتهرب منهم السباع، ويهتدي بها الضال من الطريق، وقال عكرمة، ومجاهد: للمقوين: للمستمتعين بها من الناس أجمعين، المسافرين والحاضرين، يستضيئون بها في الظلمة، ويصطلون من البرد، وينتفعون بها في الطبخ والخبز.
وعلى هذا القول المقوي من الأضداد، يقال للفقير: مقو، لخلوه من المال، وللغني: مقو، لقوته على ما يريد، يقال: أقوى الرجل إذا صار إلى حالة القوة، والمعنى: ومتاعًا للأغنياء والفقراء، وذلك لأنه لا غنى لأحد عنها.
ولما ذكر الله تعالى ما يدل على توحيده، وما أنعم به عليهم، قال: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74] أي: فبرئ الله مما يقولون في وصفه.
{فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ {75} وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ {76} إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ {77} فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ {78} لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ {79} تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ {80} أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ {81} وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ {82} } [الواقعة: 75-82] .(4/238)
فلا أقسم لا زائدة، والمعنى: فأقسم، ويجوز أن تكون ردًا لما يقوله الكفار في القرآن، من أنه سحر، وشعر، وكهانة، ثم استأنف القسم على أنه قرآن كريم، وقوله: بمواقع النجوم قال ابن عباس: أقسم بنزول القرآن، نزل متفرقًا قطعًا نجومًا.
وقال جماعة من المفسرين: يريد: مغارب النجوم ومساقطها.
وقرئ بموقع النجوم على واحد، وقال المبرد: موقع ههنا مصدر، فهو يصلح للواحد والجمع.
ثم أخبر عن عظم هذا القسم، فقال: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 76] قال الفراء، والزجاج: هذا يدل على أن المراد بمواقع النجوم نزول القرآن.
والضمير في: إنه يعود على القسم، ودل عليه أقسم، والمعنى: وإن القسم بمواقع النجوم لقسم عظيم لو تعلمون.
ثم ذكر المقسم عليه، بقوله: {إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77] قال مقاتل: كرمه الله وأعزه، لأنه كلامه.
وقال أهل المعاني: القرآن الكريم الذي من شأنه أن يعطي الخير الكثير بالدلائل التي تؤدي إلى الحق في الدين.
وقال الأزهري: الكريم: اسم جامع لما يحمد، والقرآن الكريم يحمد لما فيه من الهدى، والبيان، والعلم، والحكمة.
{فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 78] مستور من خلقه عند الله، في اللوح المحفوظ.
{لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] أكثر المفسرين على أن الكناية في قوله: لا يمسه تعود إلى الكتاب المكنون، والمطهرون هم الملائكة، قال المبرد: لا يمس ذلك اللوح المحفوظ إلا الملائكة، الذين وصفوا بالطهارة.
ومذهب قوم: أن الضمير يعود إلى القرآن، والمراد به: المصحف، كما روي في الحديث: «نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو» ، يعني به: المصحف، والمراد بقوله: المطهرون أي: من الأحداث والجنايات، وقالوا: لا يجوز للمحدث، والحائض، والجنب مس المصحف.
وهذا قول محمد بن علي، وعطاء، وطاوس، وسالم، والقاسم، ومذهب مالك، والشافعي.(4/239)
1161 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْمَنْصُورِيُّ، أنا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدٍ، نا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ، نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أنا مَعْمَرٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: لا تَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلا عَلَى طُهْرٍ
{تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة: 80] يعني: القرآن، منزل من عند رب العالمين على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: أفبهذا الحديث يعني: القرآن، أنتم يا أهل مكة، مدهنون تكفرون وتكذبون، قال الزجاج: أي: أفبالقرآن تكذبون، قال: والمدهن المداهن: الكذاب المنافق.
ومعنى المدهن: من الإدهان، وهو الجري في الباطن على خلاف الظاهر، هذا أصله، ثم قيل للمكذب: مدهن.
وإن صرح بالتكذيب والكفر.
{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] قال المفسرون: تجعلون شكركم، أنكم تكذبون بنعم الله عليكم، فتقولون: سقينا بنوء كذا.
وذلك أنهم كانوا يقولون: مطرنا بنوء كذا.
ولا ينسبون السقيا إلى الله تعالى، فقيل لهم: أتجعلون رزقكم، أي: شكركم بما رزقتم التكذيب، والمعنى: شكر رزقكم فحذف المضاف، قال الأزهري: معنى الآية: وتجعلون بدل شكر رزقكم الذي رزقكم الله التكذيب، فإنه من عند الله الرزاق.
قال: ومن جعل الرزق من عند الله، وجعل النجم وقتًا وقته الله للغيث، ولم يجعله المغيث الرازق، رجوت أن لا يكون مكذبًا.
والله أعلم.
1162 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمِهْرَجَانِيُّ، أنا ابْنُ بَطَّةَ، أنا الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، نا عَمْرُو بْنُ(4/240)
مَرْزُوقٍ، نا عِمْرَانُ الْقَطَّانُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ اللَّيْثِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «يُصْبِحُ النَّاسُ مُجْدِبِينَ فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ تَعَالَى بِرِزْقٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَيُصْبِحُونَ مُشْرِكِينَ يَقُولُونَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا» .
1163 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الزَّاهِدُ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، نا حَرْمَلَةُ وَعْمَرُو بْنُ سَوَادٍ السَّرْحِيُّ، قَالا: أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلَمْ تَرَ إِلَى مَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالَ: مَا أَنْعَمْتُ عَلَى عِبَادِي مِنْ نِعْمَةٍ إِلا أَصْبَحَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِهَا كَافِرِينَ يَقُولُونَ: الْكَوَاكِبُ وَبِالْكَوَاكِبِ ".
رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ حَرْمَلَةَ وَعَمْرِو بْنِ سَوَادَةَ.
{فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ {83} وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ {84} وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ {85} فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ {86} تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {87} } [الواقعة: 83-87] .
{فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة: 83] يقول: فهلا إذا بلغت الروح، أو النفس الحلقوم عند الموت.
{وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ} [الواقعة: 84] قال الزجاج: وأنتم يا أهل الميت في تلك الحال، ترون الميت قد صار إلى أن يخرج نفسه.
وقال صاحب النظم: معنى تنظرون ههنا: لا يمكنكم الدفع ولا تملكون شيئًا.
{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} [الواقعة: 85] أي: بالعلم، والقدرة، والرؤية، {وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة: 85] لا تعلمون ذلك، والخطاب للكفار، وقال المفسرون: ونحن أقرب يعني: ملك الموت وأعوانه.
والمعنى: ورسلنا القابضون روحه، {أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة: 85] أولئك الذي حضروه.
فلولا فهلا، {إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} [الواقعة: 86] غير مملوكين، وقال أكثرهم: غير محاسبين.
ترجعونها تردونها إلى موضعها، إن كنتم محاسبين، ولا مجزيين كما تزعمون، يقول: إن كان الأمر كما تقولون أنه لا بعث، ولا حساب، ولا جزاء، ولا إله يحاسب ويجازي، فهلا تردون(4/241)
نفس من يعز عليكم، إذا بلغت الحلقوم! وإذ لم يمكنكم ذلك بوجه، فاعلموا أن الأمر إلى غيركم، وهو الله عز وجل.
ثم ذكر طبقات الخلق عند الموت، بقوله: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ {88} فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ {89} وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ {90} فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ {91} وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ {92} فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ {93} وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ {94} إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ {95} فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ {96} } [الواقعة: 88-96] .
{فَأَمَّا إِنْ كَانَ} [الواقعة: 88] الذي بلغت روحه الحلقوم، {مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الواقعة: 88] عند الله.
{فَرَوْحٌ} [الواقعة: 89] أي: فله روح، وهو الراحة والاستراحة، وقال مجاهد: الروح: الفرح.
{وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} [الواقعة: 89] يعني: الرزق في الجنة، وقال الحسن، وأبو العالية: يؤتى بغصن من ريحان الجنة فيشمه.
{وَأَمَّا إِنْ كَانَ} [الواقعة: 90] المتوفى، {مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ {90} فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ {91} } [الواقعة: 90-91] أي: أنك ترى فيهم ما تحب من السلامة، وقال مقاتل: هو أن الله تعالى يتجاوز عن سيئاتهم، ويقبل حسناتهم.
{وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ} [الواقعة: 92] بالبعث، الضالين عن الهدى.
{فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ} [الواقعة: 93] فالذي يعد له حميم جهنم.
وتصلية جحيم وإدخال لنار عظيمة، كما يقال: ويصلى سعيرًا في قراءة من شدد.
1164 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَخْلَدِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الْحَافِظُ، أنا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، نا عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، نا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، نا الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ حَسَّانِ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ(4/242)
جُنَادَة، قَالَ: نا فُلانٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ، فَأَنْشَأَ الْقَوْمُ يَبْكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يُبْكِيكُمْ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ مِنَّا أَحَدٌ إِلا وَهُوَ يَكْرَهُ الْمَوْتَ، فَقَالَ: لَيْسَ كَذَلِكَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ {88} فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ {89} } [الواقعة: 88-89] قَالَ عِنْدَ الْمَوْتِ فَيُحِبُّ لِقَاءَ اللَّهِ وَاللَّهُ لِلِقَائِهِ أَحَبُّ {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ {92} فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ {93} وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ {94} } [الواقعة: 92-94] فَيَكْرَهُ لِقَاءَ اللَّهِ وَاللَّهُ لِلِقَائِهِ أَكْرَهُ ".
قوله: إن هذا يعني: ما ذكر من قصة المحتضرين، {لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة: 95] حق الأمر اليقين.
{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 96] نزه الله عنه السوء، والباء زائدة، والاسم يكون بمعنى: الذات والنفس، كأنه قيل: فسم اسم ربك العظيم.(4/243)
تفسير سورة الحديد
وهي عشرون وتسع آيات، مدنية.
1165 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْحَدِيدِ كُتِبَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ» .
بسم الله الرحمن الرحيم {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {1} لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {2} هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {3} } [الحديد: 1-3] .
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الحديد: 1] قال المقاتلان: يعني: كل شيء من ذي الروح وغيره، وكل خلق فيهما، ولكن لا تفقهون تسبيحهم.
وقد تقدم الكلام في تسبيح الجماد، في قوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] وفي مواضع.
يحيي الموات للبعث، ويميت الأحياء في الدنيا.
قبل كل شيء كان هو ولا شيء موجود، فهو الأول بلا ابتداء، والآخر بعد كل شيء بلا انتهاء، يفني الأشياء ويبقي آخرًا، كما كان أولًا، والظاهر الغالب العالي على كل شيء، ويجوز أن يكون معناه: الظاهر بالأدلة والشواهد، والباطن العالم بما بطن، من قولهم: فلان يبطن أمر فلان.
أي: يعلم دخله أمره، ويجوز أن يكون معنى الباطن: أنه محتجب عن الأبصار.
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {4} لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ {5} يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {6} } [الحديد: 4-6] .
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الحديد: 4] مفسر في { [الأعراف، إلى قوله:] يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي(4/244)
الأَرْضِ} [سورة الحديد: 4] وهو مفسر في { [سبأ، إلى قوله:] وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [سورة الحديد: 4] يعني: بالعلم والقدرة، فليس يخلو أحد من تعلق علم الله، وقدرته به، أين ما كان من أرض، وسماء، وبر، وبحر، وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ {7} وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {8} هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ {9} وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ {10} مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ {11} } [الحديد: 7-11] .
{آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحديد: 7] يخاطب كفار قريش، {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7] يعني: المال الذي كان بيد غيرهم، فأهلكهم الله، وأعطى قريشًا ذلك المال، وكانوا فيه خلفاء عمن مضوا، ثم ذكر ثواب من أنفق في سبيل الله، بقوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الحديد: 7] .
{وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [الحديد: 8] هذا استفهام إنكار، أي: أي شيء لكم من الثواب في الآخرة إذا لم تؤمنوا بالله؟ {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} [الحديد: 8] حين أخرجكم من ظهر آدم، {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الحديد: 8] بالحجة والدليل، فقد بان وظهر على يد محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببعثه، وإنزال القرآن عليه، ويدل على هذا قوله: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ} [الحديد: 9] محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، آيات بينات يعني: القرآن، ليخرجكم من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان، {وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحديد: 9] حين بعث الرسول، ونصب الأدلة.
ثم حثهم على الإنفاق، فقال: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الحديد: 10] يقول: أي شيء لكم في ترك الإنفاق فيما يقرب من الله تعالى، وأنتم ميتون تاركون أموالكم، ثم بين فضل من سبق بالإنفاق في سبيل الله، فقال: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد: 10] يعني: فتح مكة، قال مقاتل: لا يستوي في الفضل من أنفق ماله، وقاتل العدو من قبل فتح مكة، مع من أنفق من بعد وقاتل.
قال الكلبي، في رواية محمد بن فضيل: نزلت في أبي بكر رضوان الله عليه، يدل على هذا أنه كان أول من أنفق المال على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سبيل الله، وأول من قاتل على الإسلام.
قال ابن مسعود: أول من أظهر إسلامه بسيفه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر رضي الله عنه، وقد شهد(4/245)
النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإنفاق ماله قبل الفتح.
1166 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، نا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ السَّلِيطِيُّ إِمْلاءً، نا عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمٍ الْبَغْدَادِيُّ الْمُقْرِي، نا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُحْرِمِيُّ، نا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ الشَّيْبَانِيُّ، نا الْعَلاءُ بْنُ عَمْرٍو أَبُو عَمْرٍو، نا أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ آدَمَ بْنِ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ وَعِنْدَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْهِ عَبَاءَةٌ قَدْ خَلَّهَا عَلَى صَدْرِهِ بِخِلالٍ إِذْ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَأَقْرَأَهُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ السَّلامَ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَا لِي أَرَى أَبَا بَكْرٍ عَلَيْهِ عَبَاءَةٌ قَدْ خَلَّهَا عَلَى صَدْرِهِ بِخِلالٍ؟ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ أَنْفَقَ مَالَهُ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ عَلَيَّ، قَالَ: فَأَقْرِئْهُ مِنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى السَّلامَ وَقُلْ لَهُ يَقُولُ لَكَ رَبُّكَ: أَرَاضٍ أَنْتَ عَنِّي فِي فَقْرِكَ هَذَا أَمْ سَاخِطٌ؟ فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُكَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ السَّلامَ، وَيَقُولُ لَكَ رَبُّكَ: أَرَاضٍ أَنْتَ عَنِّي فِي فَقْرِكَ هَذَا أَمْ سَاخِطٌ، قَالَ: فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: عَلَى رَبِّي أَغْضَبُ أَنَا عَنْ رَبِّي رَاضٍ، أَنَا عَنْ رَبِّي رَاضٍ
وقوله: {أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد: 10] قال عطاء: درجات الجنة تتفاضل، فالذين أنفقوا من قبل الفتح في أفضلها.
قال الزجاج: لأن المتقدمين نالهم من المشقة أكثر مما نال من بعدهم، وكانت بصائرهم أيضا أنفذ.
{وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10] كلا الفريقين وعد الله الحسنى الجنة، وقرأ ابن عامر: وكل بالرفع على لغة من يقول: زيد ضربت.
قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [الحديد: 11] قال مقاتل: طيبة به نفسه.
وقد تقدم تفسيرة في { [البقرة، قال أهل(4/246)
العلم: القرض الحسن أن يجمع عشرة أوصاف: أن يكون من الحلال، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «إن الله طيب، لا يقبل إلا الطيب» .
وقد قال أيضًا: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول» .
وأن يكون من أكرم ما يملك، دون أن يقصد الرديء بالإنفاق، لقوله تعالى:] وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [سورة البقرة: 267] ، وأن يتصدق وهو يحب المال ويرجو الحياة، لما روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن أفضل الصدقة، فقال: " أن تعطيه وأنت صحيح شحيح، تأمل العيش، وتخشى الفقر، ولا تمهل، حتى إذا بلغت التراقي، قلت: لفلان كذا ولفلان كذا ".
وأن تضعه في الأحق الأحوج الأولى بأخذه، ولذلك خص الله تعالى أقوامًا بأخذ الصدقات وهم أهل السهمان، وأن يكتمه ما أمكن، لقوله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271] ، وأن لا تتبعه المن والأذى، لقوله تعالى: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة: 264] ، وأن يقصد به وجه الله تعالى، ولا يرائي بذلك، لأن المرائي مذموم على لسان الشرع، وأن يستحقر ما يعطي وإن كثر، لأن الدنيا كلها قليلة، لقوله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء: 77] ، وأن تكون من أحب ماله، لقوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] فهذه أوصاف عشرة، إذا استكملتها الصدقة كانت قرضًا حسنًا إن شاء لله تعالى عز وجل، وقوله: {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11] يعني: الجنة.(4/247)
{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {12} يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ {13} يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ {14} فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ {15} } [الحديد: 12-15] .
{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [الحديد: 12] يعني: على الصراط يوم القيامة، وهو دليلهم إلى الجنة، قال قتادة: إن المؤمن يضيء له نوره، كما بين عدن إلى صنعاء ودون ذلك، حتى إن من المؤمنين من لا يضيء له نوره إلا موضع قدميه.
وقال ابن مسعود: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، منهم من نوره مثل الجبل، وأدناهم نورًا نوره على إبهامه يطفئ مرة، ويوقد أخرى.
وقوله: {وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد: 12] قال الضحاك، ومقاتل: وبأيمانهم كتبهم التي أعطوها، فكتبهم بأيمانهم، ونورهم بين أيديهم.
وتقول لهم الملائكة: {بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ} [الحديد: 12] الآية.
ثم ذكر حال المنافقين في ذلك اليوم، فقال: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ} [الحديد: 13] الآية، قال أبو أمامة: يغشى الناس يوم القيامة ظلمة شديدة، ثم يقسم النور، فيعطى المؤمن نورًا، ويترك الكافر والمنافق فلا يعطيان شيئًا.
فيمضي المؤمنون، ويقول المنافقون: {لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13] قال الكلبي: يستضيء المنافقون بنور المؤمنين ولا يعطون النور، فإذا سبقهم المؤمنون، قال: انظرونا نقتبس من نوركم، أي: انتظرونا، ونظر بمعنى: انتظر، كثير في التنزيل.
وقرأ حمزة: انظرونا بقطع الألف من الإنظار، قال الزجاج: معناه: انتظرونا أيضًا، وأنشد بيت عمرو بن كلثوم:
أبا هند فلا تعجل علينا ... وانظرنا نخبرك اليقينا(4/248)
قوله: {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ} [الحديد: 13] قال ابن عباس: يقول المؤمنون لهم.
وقال مقاتل: قالت لهم الملائكة: ارجعوا وراءكم، من حيث جئتم من الظلمة، فالتمسوا نورًا.
فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور، فلا يجدون شيئًا، فينصرفون إليهم ليلحقوهم، فيميز بينهم وبين المؤمنين، وهو قوله: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ} [الحديد: 13] أي: بين المؤمنين والمنافقين، {بِسُورٍ} [الحديد: 13] وهو الحائط، له لذلك السور، {بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} [الحديد: 13] في باطن ذلك السور الرحمة، وهي: الجنة التي فيها المؤمنين، وظاهره وخارج السور، {مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 13] أي: من قبله يأتيهم العذاب، يعني: جهنم والنار، قال قتادة: هو حائط بين الجنة والنور.
والمعنى: أن المؤمنين يسبقونهم فيدخلون الجنة، والمنافقون يحصلون في العذاب والنار، وبينهم السور الذي ذكره الله تعالى.
{يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} [الحديد: 14] وهو أن المؤمنين إذا فاتوا المنافقين ينادونهم من وراء السور، {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} [الحديد: 14] نصلي بصلاتكم في مساجدكم، {قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} [الحديد: 14] استعملتموها في الكفر، والمعاصي، والشهوات، وكلها فتنة، {وَتَرَبَّصْتُمْ} [الحديد: 14] بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الموت، وقلتم: يوشك أن يموت، فنستريح منه، {وَارْتَبْتُمْ} [الحديد: 14] شككتم في نبوته، وفيما أوعدكم، {وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ} [الحديد: 14] يعني: ما كانوا يتمنون من نزول الدوائر بالمؤمنين، {حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} [الحديد: 14] يعني: الموت، قال قتادة: ما زالوا في خدعة من الشيطان حتى قذفهم الله في النار.
وهو قوله: {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد: 14] أي: وغركم الشيطان بحلم الله، وإمهاله.
{فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ} [الحديد: 15] بدل بأن تفدوا أنفسكم من العذاب، {مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ} [الحديد: 15] هي أولى بكم لما أسلفتم من الذنوب والمعاصي، والمعنى: أنها هي التي تلي عليكم، لأنها قد ملكت أمركم، فهي أولى بكم من كل شيء.
قوله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ {16} اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {17} } [الحديد: 16-17] .
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحديد: 16] يقال: أني لك يأني إنى إذا حان، يقول: أما حان للمؤمنين، {أَنْ تَخْشَعَ} [الحديد: 16] ترق، وتلين قلوبهم، لذكر الله أي: يجب أن يورثهم الذكر خشوعًا، {وَلا يَكُونُوا} [الحديد: 16] كمن يذكره بالغفلة فلا يخشع قلبه للذكر.(4/249)
قال ابن مسعود: لم يكن بين إسلامهم وبين أن أعلمهم الله بهذه الآية إلا أربع سنين.
وقال الزجاج: نزلت في طائفة من المؤمنين، حثوا على الرقة والخشوع، فأما من وصفهم الله تعالى بالرقة والخشوع فطبقة من المؤمنين فوق هؤلاء.
{وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16] يعني: القرآن، ومن قرأ بالتخفيف فالمعنى فيهما واحد، لأنه لا ينزل إلا بأن ينزله الله تعالى، {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ} [الحديد: 16] يعني: اليهود والنصارى، {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ} [الحديد: 16] الزمان بينهم وبين أنبيائهم، {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد: 16] قال ابن عباس: مالوا إلى الدنيا، وأعرضوا عن مواعظ الله.
والمعنى: أنه ينهى المؤمنين أن يكونوا في صحبة القرآن كاليهود والنصارى، الذين قست قلوبهم لما طال عليهم الدهر، ولهذا قال القرظي: يجب أن يزداد المؤمن إيمانًا، ويقينًا، وإخلاصًا في طول صحبة الكتاب.
1167 - أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ أَحْمَدَ الصُّوفِيُّ، أنا أَبُو عَلِيٍّ الْفَقِيهُ، أنا أَبُو الْوَلِيدِ، نا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، نا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي حَرْبِ بْنِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَعَثَ أَبُو مُوسَى إِلَى قُرَّاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ ثَلاثُ مِائَةِ رَجُلٍ قَدْ قَرَأُوا الْقُرْآنَ، فَقَالَ: أَنْتُمْ خِيَارُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَقُرَّاؤُهُمْ، فَاتْلُوهُ وَلا يَطُولَنَّ الأَمَدُ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ كَمَا قَسَتْ قُلُوبُ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ.
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ
{وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16] يعني: الذين تركوا الإيمان بعيسى ومحمد عليهما السلام.
{إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ {18} وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ {19} } [الحديد: 18-19] .(4/250)
{إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} [الحديد: 18] قرأه العامة بتشديد الصاد، على معنى: المتصدقين، فأدغمت التاء في الصاد، ومن قرأ بالتخفيف فهو من التصديق الذي هو بمعنى: الإيمان، ومعناه: إن المؤمنين والمؤمنات، {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [الحديد: 18] تقدم تفسيره، يضاعف لهم ذلك القرض الحسن، بأن أثبت لهم أضعافه، {وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 18] ثواب حسن.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد: 19] قال مجاهد: كل من آمن بالله ورسله فهو صديقه ثم قرأ هذه الآية.
وقال المقاتلان: هم الذين لم يشكوا في الرسل حين أخبروهم، ولم يكذبوهم ساعة.
وقال الضحاك: وهم ثمانية نفر من هذه الأمة، سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام: أبو بكر، وعلي، وزيد، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وحمزة، وتاسعهم عمر ألحقه الله بهم لما عرف من صدق نيته.
{وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الحديد: 19] يعني: أولئك هم الشهداء عند ربهم، وقال مسروق: هذه الآية للشهداء خاصة، وهم الأنبياء الذين يشهدون للأمم وعليهم.
وهذا قول مقاتل بن حيان، واختيار الفراء، والزجاج، وقال مقاتل بن سليمان، وابن جرير يعني: الذين استشهدوا في سبيل الله.
{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ {20} سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ {21} } [الحديد: 20-21] .(4/251)
وقوله: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الحديد: 20] يعني: الحياة في هذه الدار، {لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الحديد: 20] يعني: حياة الكافر تكون باطلًا وغرورًا، لأنها في غير طاعة الله تعالى، وهي تنقضي عن قريب، {وَزِينَةٌ} [الحديد: 20] يعني: أن الكافر يشتغل في جميع حياته بالتزين للدنيا، دون العمل للآخرة، {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ} [الحديد: 20] قال ابن عباس: يفاخر الرجل قريبه وجاره.
{وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الحديد: 20] قال: يجمع ما لا يحل له تكاثرًا به، ويتطاول على أولياء الله بماله، وخدمه، وولده.
والمعنى: أنه يفني عمره في هذه الأشياء، ثم بين أن لهذه الحياة الدنيا شبها، فقال: {كَمَثَلِ غَيْثٍ} [الحديد: 20] يعني: مطرًا، {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ} [الحديد: 20] الزراع، {نَبَاتُهُ} [الحديد: 20] ما ينبت من ذلك الغيث، {ثُمَّ يَهِيجُ} [الحديد: 20] ييبس، {فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا} [الحديد: 20] بعد خضرته وريه، {ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} [الحديد: 20] يتحطم، وينكسر بعد يبسه، وشرح هذا المثل للحياة الدنيا قد تقدم في قوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ} [الكهف: 45] الآية، وفي { [يونس أيضًا،] وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [سورة الحديد: 20] قال مقاتل: لأعداء الله.
{وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} [الحديد: 20] لأولياه، وأهل طاعته، {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20] لمن اغتر بها، ولم يعمل لآخرته، قال سعيد بن جبير: متاع الغرور لمن لم يشتغل بطلب الآخرة، ومن اشغل بطلبها فله متاع بلاغ إلى ما هو خير منه.
قوله: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد: 21] الآية تقدم تفسيرها في { [آل عمران، وقوله:] أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [سورة الحديد: 21] في هذا أعظم رجاء، إذ ذكر أن الجنة أعدت لمن آمن، ولم يذكر مع الإيمان شيئًا آخر، ثم قال: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الحديد: 21] فبين أنه لا يدخل أحد الجنة إلا بفضل الله.
{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ {22} لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ {23} الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ {24} } [الحديد: 22-24] .
{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ} [الحديد: 22] يعني: قحط المطر، وقلة النبات، ونقص الثمار، {وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ} [الحديد: 22] يعني: الأمراض، وفقد الأولاد، {إِلا فِي كِتَابٍ} [الحديد: 22] يعني: اللوح المحفوظ، {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22] بخلق الأنفس، يعني: أنه أثبتها في اللوح المحفوظ، وقدرها قبل خلق الأنفس، {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22] يعني: إثبات ذلك على كثرته هين على الله.
{لِكَيْلا تَأْسَوْا} [الحديد: 23] تحزنوا، {عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [الحديد: 23] من الدنيا، {وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 23] بما أعطاكم الله منها، والذي يوجب نفي الأسى والفرح من هذا أن الإنسان إذا علم أن ما قضي عليه من مفرح أو محزن سيصيبه لا محالة، قل فرحه وحزنه لعلمه بذلك قبل وقوعه، وقرأ أبو عمرو بما أتاكم مقصورًا، من الإتيان عادل به، فاتكم ونقيض الفوت الإتيان، قال(4/252)
ابن عباس: ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن، ولكن اجعلوا للمصيبة صبرًا، وللخير شكرًا.
{وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 23] ذم للفرح الذي يختال فيه صاحبه، ويبطر.
{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [الحديد: 24] مفسر في { [النساء، ومن يتول أي: عن الإيمان، فإن الله غني عن عبادته، حميد إلى أوليائه، وقرأه العامة:] فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ} [سورة الحديد: 24] وقرأ ابن عامر فإن الله الغني، فمن أثبت هو كان فصلًا ولم يكن مبتدأ، ومن حذف قال: فلأن الفصل حذفه سهل، ألا ترى أنه لا موضع للفصل من الإعراب، فحذفه لا يخل بالمعنى.
قوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25] .
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد: 25] بالآيات والحجج، {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ} [الحديد: 25] الذي يتضمن الأحكام، والميزان قال قتادة، ومقاتل بن حيان: الميزان العدل.
ويكون المعنى: وأمرنا بالعدل، وهذا كقوله: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} [الشورى: 17] وقال مقاتل بن سليمان: هو ما يوزن به.
ويكون المعنى على هذا القول: ووضعنا الميزان، أي: أمرنا به، كقوله: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} [الرحمن: 7] ، {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] ليتبعوا ما أمروا به من العدل، فيعاملوا بينهم بالنصفة، {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} [الحديد: 25] روى ابن عمر، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «إن الله عز وجل أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض، أنزل الحديد، والنار، والماء، والملح» .
وقال أهل المعاني: معنى وأنزلنا الحديد: أنشأناه وأحدثناه، كقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6] .
وهذا معنى قول مقاتل: بأمرنا كان الحديد.
وقال قطرب: معنى أنزلنا ههنا: هيأنا، وخلقنا من النزل، وهو ما يهيأ للضيف.
والمعنى: أنعمنا بالحديد، وجعلناه مهيأ لكم، {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 25] قال الزجاج: يمتنع به ويحارب.
والمعنى أنه يتخذ منه آلتان للحرب، آلة الدفع، وآلة الضرب، كما قال مجاهد: فيه جنة وسلاح.
ومنافع للناس ما ينتفعون به في(4/253)
معاشهم مثل السكين، والفأس، والإبرة، وليعلم الله معطوف على قوله: ليقوم الناس أي: ليعامل بالعدل، {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحديد: 25] وذلك أن الله تعالى أمر في الكتاب الذي أنزل بنصرة دينه ورسله، فمن نصر دينه ورسله علمه ناصرًا، ومن عصى علمه بخلاف ذلك، وقوله: بالغيب أي: ولم ير الله، ولا أحكام الآخرة، وإنما يحمد ويثاب إذا أطاع بالغيب، {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ} [الحديد: 25] في أمره، عزيز في ملكه.
وما بعد هذا ظاهر التفسير إلى قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ {26} ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ {27} } [الحديد: 26-27] .
{وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} [الحديد: 27] يعني: الحواريين، وأتباعهم اتبعوا عيسى، رأفة ورحمة يعني: المودة، كانوا متوادين بعضهم لبعض، كما وصف الله تعالى أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: رحماء بينهم، وقوله: ورهبانية ليس بعطف على ما قبله، وانتصابه بفعل مضمر يدل عليه ما بعده، كأنه قال: وابتدعوا رهبانية، أي: جاءوا بها من قبل أنفسهم، وهو قوله: {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد: 27] قال ابن عباس: ما فرضناها عليهم.
وتلك الرهبانية: غلوهم في العبادة، من حمل المشاق على أنفسهم في الامتناع عن المطعم، والمشرب، والملبس، والنكاح، والتعبد في الجبال، {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27] حين ضيعوها وكفروا بدين عيسى، حتى أدركوا محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فآمنوا به، وهو قوله: {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 27] الذين تهودوا، وتنصروا.
1168 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، نا شَيْبَانُ، نا الصَّعْقُ بْنُ حَزْنٍ، نا عَقِيلُ بْنُ يَحْيَى الْجَعْدِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا ابْنَ مَسْعُودٍ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: اخْتَلَفَ مَنْ كَانَ قَبْلِي عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً نَجَا مِنْهَا ثَلاثٌ وَهَلَكَ سَائِرُهُمْ، فِرْقَةٌ وَازَتِ الْمُلُوكَ وَقَاتَلُوهُمْ عَلَى دِينِهِمْ وَدِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ اتَّخَذُوهُمْ فَقَتَلُوهُمْ وَقَطَّعُوهُمْ بِالْمَنَاشِيرِ، وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طَاقَةٌ بِمُوَازَاةِ الْمُلُوكِ، وَلا بِأَنْ يُقِيمُوا بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ، فَيَدْعُونَهُمْ إِلَى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ عِيسَى فَسَاحُوا فِي الْبِلادِ وَتَرَهَّبُوا وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد: 27] الآية فَقَالَ(4/254)
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ آمَنَ بِي وَصَدَّقَنِي وَاتَّبَعَنِي، فَقَدْ رَعَاهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، وَمَنْ لَمْ يَتَّبِعْنِي فَأُولَئِكَ هُمُ الْهَالِكُونَ» .
رَوَاهُ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ هَانِئٍ، عَنْ يَحْيَى الشَّهِيدِ، عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنِ الصَّعْقِ.
1169 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْغَازِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ الزَّاهِدُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى، نا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى الْمِصْرِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ سَهْلَ بْنَ أَبِي أُمَامَةَ، حَدَّثَهُ أَنَّهُ دَخَلَ هُوَ وَأَبُوهُ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: " لا تَشِدُّوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَشُدِّدَ عَلَيْهِمْ فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارَاتِ {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد: 27] ".
1170 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ الْمِهْرَجَانِيُّ، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أنا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: دَخَلَتِ امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَهِيَ بَاذَّةُ الْهَيْئَةِ، فَسَأَلَتْهَا: مَا شَأْنُكِ، فَقَالَتْ: زَوْجِي يَقُومُ اللَّيْلَ وَيَصُومُ النَّهَارَ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ لَهُ فَلَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُثْمَانَ، فَقَالَ: يَا عُثْمَانُ «إِنَّ الرَّهْبَانِيَّةَ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْنَا فَمَا لَكَ فِيَّ أُسْوَةٌ، فَوَاللَّهِ إِنَّ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ(4/255)
وَأَحْفَظُكُمْ لِحُدُودِهِ لَأَنَا» .
1171 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، أنا يَحْيَى بْنُ مَنْصُورٍ الْقَاضِي، نا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الْقَاضِي، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ، نا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ زَيْدٍ الْعَمِّيِّ، عَنْ أَبِي إِيَاسٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَهْبَانِيَّةً وَرَهْبَانِيَّةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» .
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ {28} لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ {29} } [الحديد: 28-29] .
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [الحديد: 28] الخطاب لأهل الكتابين من اليهود والنصارى، يقول: يأيها الذين آمنوا بموسى وعيسى، اتقوا الله في محمد، وآمنوا به {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ} [الحديد: 28] ضعفين، وأجرين، ونصيبين، من رحمته وذكرنا تفسير الكفل في { [النساء،] وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} [سورة الحديد: 28] يعني: الصراط، كما قال: {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [التحريم: 8] فهذا علامة المؤمنين في القيامة، وهذا قول ابن عباس، ومقاتل، ويجوز أن يكون المعنى: ويجعل لكم سبيلًا واضحًا في الدين تهتدون به، وهذا معنى قول مجاهد: يعني: الهدى والبيان.
وعد الله تعالى لمن آمن من أهل الكتاب أجرين اثنين: أجرًا لإيمانهم بالنبي الأول والكتاب الأول، وأجرًا لإيمانهم بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكتابه، كما قال في موضوع آخر: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} [القصص: 54] .
1172 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ الصُّوفِيُّ النَّصْرَابَاذِيُّ، أنا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَامِدٍ، أنا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، نا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، حَدَّثَنِي عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ صَالِحٍ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ، فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا وَعَلَّمَهَا،(4/256)
فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا، فَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَأَيُّمَا مَمْلُوكٍ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ، فَلَهُ أَجْرَانِ، قَالَ عَبْدَةُ: قَالَ صَالِحٌ: قَالَ لِي الشَّعْبِيُّ: أَعْطَيْتُكُمَا بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ الرَّاكِبُ لَيَرْكَبُ فِيمَا دُونَهَا إِلَى الْمَدِينَةِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيّ، عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِد.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ هُشَيْمٍ، وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَة، عَنْ عَبْدَةَ بْنِ سُلَيْمَان كُلُّهُمْ عَنْ صَالِحِ بْنِ صَالِحٍ.
ولما نزلت هذه الآية، وآمن من آمن من أهل الكتاب، حسدهم الذين لم يؤمنوا، فأنزل الله تعالى قوله: {لِئَلَّا يَعْلَمَ} [الحديد: 29] أي: لأن يعلم، ولا صلة، أهل الكتاب يعني: الذين لم يؤمنوا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحسدوا المؤمنين منهم، {أَلا يَقْدِرُونَ} [الحديد: 29] أنهم لا يقدرون، {عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الحديد: 29] والمعنى: جعلنا الأجرين لمن آمن بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليعلم الذين لم يؤمنوا أنهم لا أجر لهم، ولا نصيب لهم في فضل الله، {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الحديد: 29] فآتى المؤمنين منهم أجرين، {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 29] يتفضل على من يشاء من عباده المؤمنين، وهذه الآية مشكلة ليس للمفسرين، ولا لأهل المعاني فيها بيان ينتهي إليه، ويلقى به بين هذه الآية والتي قبلها، وأقوالهم مختلفة متدافعة، وقد بان واتضح المعنى فيما ذكرنا، والله المحمود.(4/257)
تفسير سورة المجادلة
عشرون وآيتان، مدنية.
1173 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْخَفَّافُ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْمُجَادَلَةِ كُتِبَ مِنْ حِزْبِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
بسم الله الرحمن الرحيم {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ {1} الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ {2} وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ {3} فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ {4} } [المجادلة: 1-4] .
{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} [المجادلة: 1] الآيات، قال المفسرون: نزلت هذه الآيات في خولة بنت ثعلبة وزوجها أوس بن الصامت،(4/258)
وكان به لمم، فاشتد به لممه ذات يوم، فظاهر منها، ثم ندم على ذلك، وكان الظهار طلاقًا في الجاهلية، فقال لها: ما أراك إلا وقد حرمت عليّ.
فقالت: والله ما ذكرت طلاقًا، ثم أتت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: يا رسول الله أوس بن الصامت أبو ولدي وابن عمي، وأحب الناس إليّ، ظاهر مني، والله ما ذكر طلاقًا.
فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما أراك إلا قد حرمت عليه» .
فهتفت، وشكت، وبكت، وجعلت تراجع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبينا هي في ذلك، إذ تربد وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للوحي، ونزل عليه قوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} [المجادلة: 1] الآيات، قالت عائشة: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويخفى على بعضه، وهي تحاور رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآيات.
قوله: {قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] أي: في قول زوجها، وهو أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلما قال لها: «حرمت عليه» ، قالت: والله ما ذكر طلاقًا.
فكان هذا جدالها، {وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1] وهو قولها: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي، وإن لي صبية صغارًا، إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلىّ جاعوا.
وجعلت ترفع رأسها إلى السماء، وتقول: اللهم إني أشكو إليك.
{وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة: 1] تخاطبكما، ومراجعتكما الكلام، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} [المجادلة: 1] لمن يناجيه، ويتضرع إليه، بصير لمن يشكو إليه.
ثم ذم الظهار والمظاهر، فقال: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 2] أي: يقولون لهن: أنتن كظهور أمهاتنا.
وذكرنا القرآن واللغات في ابتداء { [الأحزاب، ماهن أمهاتهم ما اللواتي تجعلونهن من الزوجات كالأمهات بأمهات، وقراءة العامة بكسر التاء، وهي في موضع نصب على خبر ما، المعنى: ليس هن بأمهاتهم، وقرأ عاصم في بعض الروايات برفع التاء.
قال الفراء: وهي لغة أهل نجد، وأنشد على لغتهم:(4/259)
ويزعم حسل أنه فرع قومه ... وما أنت فرع يا حسيل ولا أصل
] إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} [سورة المجادلة: 2] ما أمهاتهم إلا الوالدات، وإنهم يعني: المظاهرين، {لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ} [المجادلة: 2] لا يعرف في شرع، وزورًا كذبًا، {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة: 2] عفا عنهم، وغفر لهم بإيجاب الكفارة عليهم.
{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] يمتنعون منهن، أي: من جماعهن بهذا اللفظ، {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] كثر الاختلاف في معنى العود ههنا من المفسرين والفقهاء، والذي ذهب إليه الشافعي رضي الله عنه: أن معنى العود لما قالوا: السكوت عن الطلاق بعد الظهار زمانًا، يمكنه أن يطلق فيه.
وذلك أنه إذا ظاهر فقد قصد التحريم، فإن وصل ذلك بالطلاق فقد جرى على ما ابتدأه ولا كفارة، وإذا سكت عن الطلاق، فذلك للندم منه على ما أبتدأ به، فهو عود منه إلى ما كان عليه، فحينئذ تجب الكفارة، ويدل على هذا أن ابن عباس فسر العود في هذه الآية: بالندم، فقال: يندمون فيرجعون إلى الألفة.
قال الفراء: يعودون لما قالوا إلى ما قالوا، وفيما قالوا، معناه: يرجعون عما قالوا، يقال: عاد لما فعل، أي: نقض ما فعل.
وهذا الذي ذكره الفراء يبين لك صحة ما ذهب إليه الشافعي رضي الله عنه، وقال أهل العراق: معنى العود: العزم على الوطء، فإذا عزم على وطئها كان عودًا، ويلزمها الكفارة.
وقال مقاتل، والحسن، وطاوس، والزهري: العود لما قالوا هو: الوطء.
وهو مذهب مالك، قال: إن وطئها كان عودًا، وإن لم يطأها لم يكن عودا.
قال أصحابنا: العود المذكور ههنا: صالح للجماع كما قال مالك، وللعزم على الجماع كما قال أهل(4/260)
العراق، ولترك الطلاق كما قال الشافعي، وهو أول ما ينطلق عليه اسم العود، فوجب تعلق الحكم به، لأنه الظاهر، وما زاد عليه يعرف بدليل آخر.
وقال أبو العالية: إذا كرر اللفظ بالظهار كان عودًا، وإن لم يكرر لم يكن عودًا.
وإلى هذا ذهب أهل الظاهر: فجعلوا العود تكرير لفظ الظهار، واحتجوا بأن ظاهر قوله: ثم يعودون يدل على تكرير اللفظ، وقال أبو علي الفارسي: ليس في هذا ظاهر كما ادعوا، لأن العود قد يكون إلى شيء لم يكن عليه قبل، وسميت الآخرة المعاد، ولم يكن فيها أحد ثم صار إليها.
وقال الأخفش: تقدير الآية: والذين يظاهرون من نسائهم، فتحرير رقبة لما قالوا، ثم يعودون إلى نسائهم، أي: فعليهم تحرير رقبة لما نطقوا به من ذلك التحريم، والتقديم والتأخير كثير في التنزيل.
وقال ابن قتيبة: أجمع الناس على أن الظهار يقع بلفظ واحد، وتأويل قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] هو: أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون بالظهار، فجعل الله حكم الظهار في الإسلام خلاف حكمه عندهم في الجاهلية، فقال: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] يريد: في الجاهلية، {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] في الإسلام.
{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] أي: يجامعا، {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} [المجادلة: 3] قال الزجاج: ذلكم: التغليظ في الكفارة.
توعظون به أي: أن غلظ الكفارة وعظ لكم، حتى تتركوا الظهار.
ثم ذكر حكم العاجز عن الرقبة، فقال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [المجادلة: 4] أي: الرقبة، فصيام شهرين فعليه صيام شهرين، {مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ} [المجادلة: 4] الصيام، فكفارته {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ} [المجادلة: 4] أي: الغرض من ذلك الذي وصفنا، {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [المجادلة: 4] لتصدقوا بما أتى به الرسول، وتصدقوا أن الله أمر به،(4/261)
{وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [المجادلة: 4] يعني: ما وصف من الكفارة في الظهار، {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة: 4] قال ابن عباس: لمن جحد هذا، وكذب به.
1174 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَامِدٍ الْعَدْلُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَكَرِيَّا، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفَقِيهُ، نا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ سَيَّارٍ، نا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ، وَكَانَتْ عِنْدَ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ ذَاتَ يَوْمٍ، فَكَلَّمَنِي بِشَيْءٍ وَهُوَ فِيهِ كَالضَّجَرِ فَرَادَدْتُهُ فَغَضِبَ، فَقَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، ثُمَّ خَرَجَ فَجَلَسَ فِي نَادِي قَوْمِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيَّ فَأَرَادَنِي عَلَى نَفْسِي، فَامْتَنَعْتُ، فَشَادَّنِي فَشَادَدْتُهُ فَغَلَبْتُهُ بِمَا تَغْلِبُ بِهِ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ الضَّعِيفَ، فَقُلْتُ: كَلا وَالَّذِي نَفْسُ خَوْلَةَ بِيَدِهِ لا تَصِلُ إِلَيَّ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ فِيَّ وَفِيكَ بِحُكْمِهِ، ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْكُو مَا لَقِيتُ، فَمَا بَرِحْتُ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْكَفَّارَةِ ثُمَّ قَالَ: مُرِيهِ فَلْيُعْتِقْ رَقَبَةً، قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا عِنْدَهُ رَقَبَةً يَعْتِقُهَا، قَالَ: مُرِيهِ فَلْيَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، شَيْخٌ كَبِيرٌ مَا بِهِ مِنْ صِيَامٍ، قَالَ: فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا عِنْدَهُ مَا يُطْعِمُ، فَقَالَ: بَلَى سَنُعِينُهُ بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ مَكِيلٍ يَسَعُ ثَلاثِينَ صَاعًا، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَنَا أُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ.
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ {5} يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ(4/262)
شَهِيدٌ {6} أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {7} } [المجادلة: 5-7] .
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 5] يعادونهما، ويخالفون أمرهما، كبتوا أذلوا وأخزوا، يقال: كبت الله فلانًا إذا أذله، والمردود بالذي يقال له: مكبوت، قال المقاتلان: أخزوا كما أخزي من قبلهم من أهل الشرك.
{وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [المجادلة: 5] قال ابن عباس: فرائض قيمة معروفة.
وللكافرين لمن لم يعمل، ولم يصدق بها، عذاب مهين.
ثم بين وقت ذلك العذاب، فقال: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ} [المجادلة: 6] حفظ الله أعمالهم، ونسوه.
ثم أخبر أنه يعلم ما يجري وما يكون، فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ} [المجادلة: 7] أي: من سرار ثلاثة، قال ابن عباس: ما من شيء تناجي به صاحبيك إلا هو رابعهم بالعلم.
يعني: أن نجواهم معلومة عنده، كما تكون معلومة عند الرابع الذي هو معهم، وباقي الآية ظاهر التفسير إلى قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ {8} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ {9} إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ {10} } [المجادلة: 8-10] .
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى} [المجادلة: 8] الآية، قال المفسرون: إن المنافقين واليهود كانوا يتناجون فيما بينهم، ويوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوءهم، فيحزنون لذلك، فلما طال ذلك وكثر، شكوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمرهم ألا يتناجوا دون المسلمين، فلم ينتهوا عن ذلك، وعادوا إلى مناجاتهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقوله: {وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المجادلة: 8] يعني: في مخالفة الرسول في النهي عن النجوى،(4/263)
وهو قوله: ومعصيت الرسول وذلك: أنه نهاهم عن النجوى، فعصوه، ويجوز أن يكون الإثم والعدوان ذلك السر الذي يجري بينهم، لأنه شيء يسوء المسلمين، ويوصي بعضهم بعضًا بمعصية الرسول، وترك أمره، {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} [المجادلة: 8] وذلك أن اليهود كانوا يأتون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقولون: السام عليك.
والسام: الموت، وهم يوهمونه أنهم يقولون: السلام عليك، {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8] وذلك: أنهم قالوا: لو كان محمد نبيًا، لعذبنا الله بما نقول.
قال الله تعالى: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [المجادلة: 8] .
1175 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الزَّاهِدُ، أنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَصْفَهَانِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ، نا قُتَيْبَةُ، نا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَاءَ نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَقُلْتُ: السَّامُ عَلَيْكُمْ وَفَعَلَ اللَّهُ بِكُمْ وَفَعَلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَهْ يَا عَائِشَةُ، فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلا التَّفَحُّشَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَسْتَ تَرَى مَا يَقُولُونَ؟ قَالَ: أَلَسْتِ تَرَيْنَ أَرُدُّ عَلَيْهِمْ مَا يَقُولُونَ؟ أَقُولُ: وَعَلَيْكُمْ، قَالَتْ: وَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي ذَلِكَ {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8] قَالَتْ: بِمَا يَقُولُونَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ} [المجادلة: 8] الآية
ثم نهى المنافقين عن التناجي، فقال: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ} [المجادلة: 9] قال مقاتل: يعني: المنافقين.
وقال عطاء: يريد: آمنوا بزعمهم.
{فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ} [المجادلة: 9] تقدم تفسيره، {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المجادلة: 9] بالطاعة، وترك المعصية، ثم خوفهم، فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المجادلة: 9] فيجزيكم بأعمالكم، وذكر أن هذه الآية خطاب للمؤمنين، وأنهم نهوا أن يفعلوا كفعل المنافقين واليهود، وهو اختيار الزجاج.
ثم ذكر أن ما يفعله اليهود والمنافقون من جهة الشيطان، وأن ذلك لا يضر المؤمنين، فقال: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ} [المجادلة: 10] أي: من تزيين الشيطان، {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة: 10] أي: إنما يزين لهم ذلك، ليحزن المؤمنين، وذلك: أن المؤمنين إذا رأوهم(4/264)
متناجين، قالوا: لعلهم يتناجون بما بلغهم عن إخواننا الذين خرجوا في السرايا قتل، أو موت، أو هزيمة، قال الله تعالى: {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا} [المجادلة: 10] وليس الشيطان بضارهم شيئًا، {إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} [المجادلة: 10] إلا ما أراد الله ذلك، قال مقاتل: يقول: إلا بإذن الله في الضرر.
{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة: 10] أي: يكلون أمورهم على الله.
قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11] .
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا} [المجادلة: 11] الآية، قال مقاتل بن حيان: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكرم أهل بدر، فجاء ناس منهم يومًا وقد سبقوا إلى المجلس، فقاموا حيال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينتظرون أن يوسع لهم، فلم يوسع، فشق ذلك على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لمن حوله: قم يا فلان، قم يا فلان.
وشق ذلك على من أقيم من مجلسه، فأنزل الله تعالى الآية.
ومعنى: تفسحوا توسعوا، وذلك: أنهم كانوا قد جلسوا متضايقين حول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منضمين إليه، فلم يجد غيرهم مجلسًا عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمروا أن يتنحوا عنه في الجلوس ويتوسعوا، ليجد غيرهم مكانًا يجلس فيه، ليتساوى الناس في الأخذ بالحظ منه، وتظهر فضيلة أهل بدر بالجلوس قرب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقرئ: في المجالس لأن لكل جالس مجلسًا، ومعناه: ليتفسح كل رجل منكم في مجلسه، والوجه التوحيد، لأنه يعنى به مجلس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقوله: فافسحوا أي: فأوسعوا، يقال: فسح يفسح فسحًا، إذا وسع في المجلس، {يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} [المجادلة: 11] يوسع الله لكم في الجنة، والمجالس فيها، وقوله: {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} [المجادلة: 11] قال عكرمة، والضحاك: كان رجال يتثاقلون عن الصلاة، فقيل لهم: إذا نودي للصلاة، فانهضوا.
وقال مجاهد: إلى كل خير من قتال عدو، وأمر بمعروف، أو حق ما كان.
{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] قال ابن عباس: يرفع الله الذين أوتوا العلم من المؤمنين، على الذين لم يؤتوا العلم درجات.(4/265)
قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {12} ءَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ {13} } [المجادلة: 12-13] .
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12] قال ابن عباس في رواية الوالبي: إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى شقوا عليه، وأراد الله أن يخفف عن نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فلما نزلت ضن كثير من الناس، فكفوا عن المسألة.
قال المفسرون: إنهم نهوا عن المناجاة حتى يتصدقوا، فلم يناجه أحد إلا علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، تصدق بدينار.
1176 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ، أنا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَيَّانَ، نا أَبُو يَحْيَى، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا أَبُو قَبِيصَةَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَمْ يَعْمَلْ بِهَا أَحَدٌ قَبْلِي , وَلَنْ يَعْمَلَ بِهَا أَحَدٌ بَعْدِي، آيَةُ النَّجْوَى: كَانَ لِي دِينَارٌ فَبِعْتُهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، فَكُلَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أُنَاجِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّمْتُ دِرْهَمًا فَنُسِخَتْ بِالآيَةِ الأُخْرَى {ءَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} [المجادلة: 13] الآية.
وقوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} [المجادلة: 12] يعني: تقديم الصدقة على المناجاة خير لكم، لما فيه من طاعة الله، {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المجادلة: 12] يعني: الفقراء الذين لا مال لهم، فمن لم يجد ما يتصدق به كان معفوا عنه.
{ءَأَشْفَقْتُمْ} [المجادلة: 13] قال ابن عباس: أبخلتم.
والمعنى: أخفتم العيلة إن قدمتم، {بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} [المجادلة: 13] فإذا لم تفعلوا ما أمرتم به، وتاب الله عليكم بعفوه، إياكم عن هذه الصدقة، {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [المجادلة: 13] المفروضة، {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [المجادلة: 13] الواجبة.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {14} أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {15} اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ(4/266)
مُهِينٌ {16} لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {17} يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ {18} اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ {19} } [المجادلة: 14-19] .
قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا} [المجادلة: 14] الآية نزلت في المنافقين، تولوا اليهود، ونقلوا إليهم أسرار المسلمين، وأراد بقوله: {قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [المجادلة: 14] اليهود، {مَا هُمْ مِنْكُمْ} [المجادلة: 14] يعني: المنافقين ليسوا من المؤمنين في الدين والولاية، ولا من اليهود، {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ} [المجادلة: 14] وذلك: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعبد الله بن نبتل المنافق: على ماذا تشتمني أنت وأصحابك؟ فحلفوا أنهم لم يفعلوا، ولم يوالوا اليهود، فذلك قوله: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة: 14] أنهم كذبة.
{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة: 16] يتوقون بها من القتل، {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [المجادلة: 16] صدوا المؤمنين عن جهادهم، وأخذ مالهم.
{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} [المجادلة: 18] قال مقاتل، وقتادة: يحلفون لله في الآخرة أنهم كانوا مؤمنين، كما حلفوا لأوليائه في الدنيا.
{وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} [المجادلة: 18] من أيمانهم الكاذبة، {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة: 18] في قولهم وأيمانهم.
{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} [المجادلة: 19] غلب واستولى، قال المبرد: استحوذ على الشيء: حواه وأحاط به، ومعناه: استدار عليهم الشيطان وأحاط بهم.
وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ {20} كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ {21} لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {22} } [المجادلة: 20-22] .(4/267)
{أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} [المجادلة: 20] قال عطاء: يريد الذل في الدنيا، والخزي في الآخرة، أي: هم في جملة من يلحقهم الذل في الدنيا والآخرة.
كتب الله قضى الله قضاء ثابتًا، {لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21] قال الزجاج: معنى غلبة الرسل على نوعين: من بعث منهم بالحرب، فهو غالب في الحرب، ومن بعث منهم بغير حرب، فهو غالب الحجة.
قوله: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ} [المجادلة: 22] الآية، أخبر الله: أن إيمان المؤمنين يفسد بمودة الكفار، وإن من كان مؤمنًا لا يوالي من كفر، وإن كان أباه، أو ابنه، أو أخاه، أو واحدًا من عشيرته، نزلت في الذين عادوا عشائرهم الكفار وقاتلوهم، غضبًا لله ولدينه، قال الله: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ} [المجادلة: 22] أثبت التصديق في قلوبهم، ومعناه: جمع الله في قلوبهم الإيمان حتى استكملوه، {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22] قال ابن عباس: قواهم بنصر منه في الدنيا على عدوهم.
وهو قول الحسن، سمى نره إياهم روحًا، لأن به يحيا أمرهم، وما بعد هذا إلى آخر السورة ظاهر.(4/268)
تفسير سورة الحشر
عشرون وأربع آيات، مدنية.
1177 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِئُ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي ذَكَرْنَا، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْحَشْرِ لَمْ تَبْقَ جَنَّةٌ وَلا نَارٌ وَلا عَرْشٌ وَلا الْكُرْسِيُّ، وَالْحُجُبُ وَالسَّمَواتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُونَ السَّبْعُ، وَالْهَوَامُّ وَالرِّيَاحُ، وَالطَّيْرُ وَالْجِبَالُ، وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ، وَالشَّمْسُ وَالْمَلائِكَةُ، إِلا صَلَّوْا عَلَيْهِ وَاسْتَغْفَرُوا لَهُ، فَإِنْ مَاتَ مِنْ يَوْمِهِ أَوْ لَيْلَتِهِ كَانَ شَهِيدًا» .
بسم الله الرحمن الرحيم {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {1} هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ {2} وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ {3} ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {4} مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ {5} } [الحشر: 1-5] .
سبح لله الآية تقدم تفسيرها.
{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [الحشر: 2] يعني: يهود بني النضير، غدروا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن عاهدوه، وصاروا عليه مع المشركين يدًا واحدة، فحاصرهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى رضوا بالجلاء، وذكر الله تلك القصة في هذه ال { [، وكان ابن عباس يسمي هذه(4/269)
السورة سورة بني النضير،] لأَوَّلِ الْحَشْرِ} [سورة الحشر: 2] كان جلاؤهم ذلك أول حشر إلى الشام، ثم يحشر الخلق يوم القيامة إلى الشام، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لهم: «اخرجوا» .
قالوا: إلى أين؟ قال: «إلى أرض المحشر» .
وقال الكلبي: إنهم كانوا أول من أجلي من أهل الذمة من جزيرة العرب، ثم أجلي آخرهم زمن عمر رضي الله عنه، فكان جلاؤهم أول حشر من المدينة.
ما ظننتم أيها المؤمنون، أن يخرجوا من ديارهم، لعزهم، ومنعتهم، وذلك أنهم كانوا أهل حصون، وعقار، ونخيل كثيرة، وحلقة، وظن بنو النضير أن حصونهم تمنعهم وذلك قوله: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} [الحشر: 2] أي: من سلطان الله، فأتاهم الله أي: أمر الله وعذابه، {مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر: 2] وهو أنه أمر نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتالهم، وإجلائهم، وكانوا لا يظنون أن ذلك يكون، ولا يحتسبونه، {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الحشر: 2] بقتل سيدهم كعب بن الأشرف، {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} [الحشر: 2] وذلك: أنهم لما أيقنوا بالجلاء، حسدوا المسلمين أن يسكنوا منازلهم، فجعلوا يخربونها من داخل، والمسلمون من خارج، قال الزجاج: ومعنى تخريبها بأيدي المؤمنين: أنهم عرضوها لذلك.
وقرأه العامة: يخربون من الإخراب، وقرأ أبو عمرو مشددًا من التخريب، وهما واحد مثل فرحته وأفرحته، {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] معنى الاعتبار: النظر في الأمور ليعرف بها شيء آخر من جنسها، والمعنى: تدبروا وانظروا فيما نزل بهم يا أهل اللب، والعقل، والبصائر.
{وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ} [الحشر: 3] قضى عليهم أنهم يخرجون من أوطانهم إلى الشام وخيبر، {لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} [الحشر: 3] بالقتل، والسبي كما فعل بقريظة، {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} [الحشر: 3] مع ما حل بهم في الدنيا، ذلك الذي لحقهم، {بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحشر: 4] خالفوهما ولم(4/270)
يطيعوهما، والآية مفسرة في الأنفال.
قوله: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} [الحشر: 5] وهي النخل كله ما خلا البرني والعجوة، وجمعها ليان، قال مجاهد: إن بعض المهاجرين وقعوا في قطع النخيل، ونهاهم بعضهم، وقالوا: إنما هي مغانم المسلمين.
وقال الذين قطعوا: بل هو غيظ للعدو.
ونزل القرآن بتصديق من نهى عن القطع، وتحليل من قطعه من الإثم، فقال: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا} [الحشر: 5] الآية.
1178 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا عَمْرُو بْنُ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ، نا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أنا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " حَرَّقَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَقَطَعَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5] رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ
قال الزجاج: {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5] بأن يريهم أموالهم يتحكم فيها المؤمنون كيف أحبوا من قطع، وترك.
والتقدير: وليخزي الفاسقين إذن في ذلك، ودل على هذا المحذوف قوله: فبإذن الله.
قوله: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {6} مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {7} } [الحشر: 6-7] .
{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر: 6] أي: رده عليه من مال الكفار، يقال: فاء يفيء إذا رجع، وأفاءه الله منهم من يهود بني النضير، {فَمَا أَوْجَفْتُمْ} [الحشر: 6] يقال: وجف الفرس والبعير يجف وجيفًا وهو: سرعة السير، وأوجفه(4/271)
صاحبه إذا حمله على السير السريع، وقوله: عليه أي: على ما أفاء الله من: {خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر: 6] وهي الإبل التي تحمل القوم، واحدتها راحلة، قال المفسرون: إن بني النضير لما جلوا عن أوطانهم، وتركوا رباعهم وضياعهم، طلب المسلمون من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يخمسها بينهم، كما فعل بغنائم بدر، فأنزل الله تعالى هذه الآية، يبين أنها في إذا لم يوجف المسلمون عليه خيلا ولا ركابًا، ولم يقطعوا إليه مسافة، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [الحشر: 6] فجعل الله تعالى أموال بني النضير لرسوله خاصة، يفعل فيها ما يشاء، فقسمها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين المهاجرين، ولم يعط الأنصار شيئا منها، إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة وهم: أبو دجانة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمة.
ثم ذكر حكم الفيء، فقال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] الآية، من أموال كفار أهل القرى، فلله يأمركم فيه بما أحب، ولرسوله بتمليك الله إياه، ولذي القربى يعني: بني هاشم وبني المطلب، لأنهم قد منعوا الصدقة، فجعل لهم حق في الفيء، {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7] أربعة أخماسه لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والباقي لهؤلاء الذي ذكرهم الله تعالى، {كَيْ لا يَكُونَ} [الحشر: 7] الفيء، دُولَةً وهي: اسم للشيء يتداوله القوم بينهم، يكون لهذا مرة، ولهذا مرة، {بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] يعني: الرؤساء يعمل فيه كما كان يعمل في الجاهلية، قال مقاتل: يغلب الأغنياء الفقراء، فيقسمونه بينهم.
ثم قال للرؤساء: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ} [الحشر: 7] من الفيء، فخذوه فهو لكم حلال، وما نهاكم عن أخذه، فانتهوا وهذا نازل في أمر الفيء، ثم هو عام في كل ما أمر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونهى عنه، واتقوا الله في أمر الفيء، {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7] .
ثم بين من المساكين الذين لهم الحق، بقوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ {8} وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {9} وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ {10} } [الحشر: 8-10] .(4/272)
{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8] يعني: أن كفار مكة أخرجوهم، {يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ} [الحشر: 8] رزقًا يأتيهم، ورضوانًا رضا ربهم حين خرجوا إلى دار الهجرة، {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8] في إيمانهم.
ثم مدح الأنصار حين طابت أنفسهم عن الفيء، فقال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ} [الحشر: 9] يعني: المدينة، وهي دار الهجرة، تبوأها الأنصار قبل المهاجرين، وتقدير الآية: والذين تبوءوا الدار من قبلهم والإيمان، لأن الأنصار لم يؤمنوا قبل المهاجرين، وعطف الإيمان على الدار في الظاهر لا في المعنى، لأن الإيمان ليس بمكان يتبوأ، والتقدير: وآثروا الإيمان، أو اعتقدوا الإيمان، {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} [الحشر: 9] لأنهم أحسنوا إلى المهاجرين، وأشركوهم في أموالهم ومساكنهم، {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} [الحشر: 9] أي: حسدًا، وحزازة مما أوتي المهاجرين دونهم، ويؤثرون المهاجرين، على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم، {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] فقر وحاجة، بين الله تعالى أن إيثارهم لم يكن عن غنى وعن مال، ولكن كان حاجة، وكان ذلك أعظم لأجرهم.
1179 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمُقْرِي، أنا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الشَّيْبَانِيُّ، أنا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، أنا مَحْمُودُ بْنُ خِدَاشٍ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَا أَخَذْتُ بِيَدِي مِيزَانًا قَطُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ، نا الْفُضَيْلُ بْنُ غَزْوَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: " جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ أَصَابَهُ الْجَهْدُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي جَائِعٌ فَأَطْعِمْنِي فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَزْوَاجِهِ، هَلْ عِنْدَكُنَّ شَيْءٌ، فَكُلُّهُنَّ قُلْنَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدَنَا إِلا الْمَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مَا يُطْعِمُكَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يُضِيفُ هَذَا هَذِهِ اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ؟ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَتَى بِهِ مَنْزِلَهُ، فَقَالَ لِأَهْلِهِ: هَذَا ضَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأكْرِمِيهِ وَلا تَدَّخِرِي عَنْهُ شَيْئًا، فَقَالَتْ: مَا عِنْدَنَا إِلا قُوتُ الصِّبْيَةِ، فَقَالَ: قُومِي فَعَلِّلِيهِمْ عَنْ قُوتِهِمْ حَتَّى يَنَامُوا وَلا يَطْعَمُوا شَيْئًا، ثُمَّ أَسْرِجِي وَابْرُزِي، فَإِذَا أَخَذَ الضَّيْفُ لِيَأْكُلَ قُومِي كَأَنَّكَ تُصْلِحِينَ السِّرَاجَ، فَأَطْفِئِيهِ وَتَعَالَيْ نَمْضُغُ أَلْسِنَتَنَا لِضَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَشْبَعَ، فَقَامَتْ إِلَى الصِّبْيَةِ فَعَلَّلَتْهُمْ حَتَّى نَامُوا عَنْ قُوتِهِمْ، ثُمَّ قَامَتْ وَخَرَجَتْ، فَلَمَّا أَخَذَ الضَّيْفُ لِيَأْكُلَ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ السِّرَاجَ، فَأَطْفَأَتْهُ وَجَعَلا يَمْضُغَانِ أَلْسِنَتَهُمَا، فَظَنَّ الضَّيْفُ أَنَّهُمَا يَأْكُلانِ مَعَهُ حَتَّى شَبِعَ، وَبَاتَا طَاوِيَيْنِ، فَلَمَّا أَصْبَحَا غَدَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِمَا تَبَسَّمَ، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ مِنْ فُلانٍ وَفُلانَةٍ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] "
وقال داود بن أبي هند: كان أنس بن مالك يحلف بالله عز وجل: ما في الأنصار بخيل، ويقرأ هذه(4/273)
الآية: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] .
وقوله: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} [الحشر: 9] قال مقاتل: حرص نفسه.
وقال أبو زيد: من لم يأخذ شيئًا نهاه الله عنه، ولم يمنع شيئًا أمره الله بأدائه، فقد وقي شح نفسه.
وقال سعيد بن جبير: شح النفس هو أخذ الحرام، ومنع الزكاة.
وجاء رجل إلى عبد الله بن مسعود، فقال: لقد خفت ألا تصيبني هذه الآية: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] والله أقدر أن أعطي شيئًا أطيق منعه.
فقال عبد الله: إنما ذلك البخل، وبئس الشيء البخل، ولكن الشح أن تأخذ مال أخيك بغير حقه.
1180 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، نا مَحْمُودُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ، نا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ، أنا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ اللَّجْلاجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالْإِيمَانُ فِي قَلْبِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ، وَلا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي جَوْفِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ» .
1181 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أنا أَبُو خَلِيفَةَ، نا الْحَوْضِيُّ، نا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُحْشَ، فَإِنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ الْفَاحِشَ، وَإِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالشُّحِّ، أَمَرَهُمْ(4/274)
بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا» .
قال المفسرون: يعني: أن الأنصار ممن وقي الشح، حين طابت أنفسهم عن الفيء.
قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] يعني: التابعين، وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة، ثم ذكر أنهم يدعون لأنفسهم، ولمن سبقهم بالإيمان بالمغفرة، بقوله: {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر: 10] أي: غشًا وحسدًا وبغضًا، فكل من لم يترحم على جميع أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان في قلبه غل على أحد منهم، فإنه ليس ممن عناه الله بهذه الآية، لأن الله تعالى رتب المؤمنين على ثلاث منازل: المهاجرين، والأنصار، والتابعين الموصوفين بما ذكر، فمن لم يكن من التابعين بهذه الصفة، كان خارجًا عن أقسام المؤمنين.
1182 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ أَبُو دَاوُدَ، نا أَبُو عُتْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حُمَيْدٍ، قَالَ: سَمِعَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَجُلًا يَنَالُ مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ أَنْتَ؟ قَالَ: لا، قَالَ: أَمِنَ الْأَنْصَارِ أَنْتَ؟ ، قَالَ: لا، قَالَ: فَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ لَسْتَ مِنَ التَّابِعِينَ بِإِحْسَانٍ.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ {11} لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ {12} لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ {13} لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ {14} كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {15} كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ {16} فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ {17} } [الحشر: 11-17] .
قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا} [الحشر: 11] يعني: عبد الله بن أبيّ وأصحابه، {يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ} [الحشر: 11] أي: في الدين، لأنهم(4/275)
كفار مثلهم، وهم اليهود، وهو قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ} [الحشر: 11] أي: من المدينة، {لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ} [الحشر: 11] في خذلانكم، أحدًا أبدًا ووعدوهم النصر، بقولهم: {وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ} [الحشر: 11] وكذبهم الله تعالى في ذلك بقوله: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الحشر: 11] .
ثم ذكر أنهم يخلفونهم ما وعدوهم من الخروج والنصر، بقوله: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ} [الحشر: 12] فكان الأمر على ما ذكره الله تعالى، لأنهم أخرجوا من ديارهم، فلم يخرج معهم المنافقون، وقوتلوا فلم ينصروهم، أظهر الله كذبهم، وبان صدق ما قال الله، وقوله: {وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ} [الحشر: 12] معناه: ولئن قدر وجود نصرهم، لأن ما نفاه الله لا يجوز وجوده، قال الزجاج: معناه: لو قصدوا نصر اليهود، لولوا الأدبار منهزمين، ثم لا ينصرون.
يعني: ابن النضير لا يصيرون منصورين، إذا انهزموا ناصروهم.
لأنتم أيها المؤمنون، {أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} [الحشر: 13] قال ابن عباس: هم منكم أشد خوفًا منهم من الله.
ذلك الخوف الذي لهم منكم من أجل، {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الحشر: 13] عظمة الله.
ثم أخبر عن اليهود، فقال: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ} [الحشر: 14] أي: لا يبرزون لحربكم، إنما يقاتلون متحصنين بالقرى والجدران، وهو قوله: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر: 14] ومن قرأ جدار فالمراد بالإفراد الجمع أيضًا، لأنه يعلم أنهم لا يقاتلونهم من وراء جدار واحد، {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} [الحشر: 14] بعضهم فظ على بعض، وبينهم مخالفة وعداوة، وهو قوله: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: 14] أي: أنهم مختلفون، لا تستوي قلوبهم ونياتهم، لأن الله خذلهم، ذلك أي: ذلك الاختلاف، {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [الحشر: 14] ما فيه الحظ لهم.
ثم ضرب لليهود مثلًا، فقال: كمثل الذين أي: مثلهم، {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا} [الحشر: 15] يعني: مشركي مكة، {ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} [الحشر: 15] يعني: القتل ببدر، وكان ذلك قبل غزوة بني النضير بستة أشهر، {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الحشر: 15] في الآخرة.
ثم ضرب لليهود والمنافقين مثلًا، فقال: كمثل الشيطان أي: مثل المنافقين في غرورهم بني النضير وخذلانهم، {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ} [الحشر: 16] وهو عابد في بني إسرائيل ذكر ابن عباس قصته، فقال: كان في بني إسرائيل عابد، عَبَدَ الله زمانًا من الدهر، حتى كان يؤتي بالمجانين يداويهم، ويعودهم فيبرأون على يده، وإنه أتى(4/276)
بامرأة في شرف قد جنت، وكان لها إخوة فأتوه بها، فكانت عنده، فلم يزل به الشيطان يزين له حتى وقع عليها، فحملت، فلما استبان حملها، قتلها ودفنها، فلما فعل ذلك ذهب الشيطان حتى لقي أحد إخوتها، فأخبره بالذي فعل الراهب، وأنه دفنها في مكان كذا وكذا، ثم أتى بقية إخوانها رجلًا رجلًا، فذكر ذلك فجعل الرجل يلقى أخاه، فيقول: والله لقد أتاني آت ذكر لي شيئًا يكبر عليّ ذكره.
فذكر بعضهم لبعض حتى بلغ ذلك ملكهم، فسار الملك والناس فاستنزلوه، فأقر لهم بالذي فعل، فأمر به فصلب، فلما رفع على خشبة، تمثل له الشيطان، فقال: أنا الذي زينت لك هذه الفتنة، وألقيتك فيها، وهل أنت مطيعي فيما أقول لك أخلصك مما أنت فيه؟ قال: نعم.
قال: اسجد لي سجدة واحدة.
قال: فسجد له وقتل الرجل.
فهو قوله: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ} [الحشر: 16] تبرأ منه الشيطان، وهو قوله: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر: 16] ذكرنا تفسيره في { [الأنفال، ضرب الله هذه القصة مثلًا لبني النضير، حين اغتروا بالمنافقين، ثم تبرءوا منهم عند الشدة، وأسلموهم.
ثم ذكر أنهما صارا إلى النار، بقوله: فكان عاقبتهما أي: عاقبة الشيطان وذلك الإنسان،] أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [سورة الحشر: 17] قال مقاتل: يعني: فكان عاقبة المنافقين واليهود أن صاروا إلى النار، وذلك جزاؤهم.
ثم رجع إلى موعظة المؤمنين، فقال: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ {18} وَلا(4/277)
تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ {19} لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ {20} } [الحشر: 18-20] .
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18] يعني: ليوم القيامة، والمعنى: ينظر أحدكم أيش قدم ليوم القيامة لنفسه أعملًا صالحًا ينجيه؟ أم سيئًا يوبقه؟ {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ} [الحشر: 19] تركوا أمر الله، فأنساهم أنفسهم حظوظ أنفسهم، حتى لم يعملوا بطاعة الله، ولم يقدموا كذلك خيرًا، قال ابن عباس: يريد: قريظة، والنضير، وبني قينقاع.
وهو قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19] .
ثم ذكر فضيلة أصحاب الجنة بالآية التي بعد هذه.
{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ {21} هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ {22} هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ {23} هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {24} } [الحشر: 21-24] .
قوله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ} [الحشر: 21] الآية، أخبر الله تعالى أن من شأن القرآن وعظمته وبيانه، أنه لو جعل في الجبل تمييز، وأنزل عليه القرآن، لخشع وتشقق من خشية الله، والمعنى: أن الجبل على قساوته وصلابته، يتشقق من خشية الله، وحذرًا من أن لا يؤدي حق الله في تعظيم القرآن، والكافر مستخف بحقه، معرض عما فيه من العبر كأن لم يسمعها، وهذا وصف للكافر بالقسوة، حيث لم يلن قلبه لمواعظ القرآن، الذي لو نزل على جبل لخشع، وهذا تمثيل يدل على ذلك قوله: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ(4/278)
يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21] .
ثم أخبر بربوبيته وعظمته، فقال: هو الله وتفسير هذا سبق فيما تقدم، إلى قوله: القدوس وهو الطاهر من كل عيب، المنزه عما لا يليق به، السلام الذي سلم من النقص والعيب، المؤمن الذي أمن أولياءه عذابه، المهيمن الشهيد على عباده بأعمالهم، وهو قول قتادة، ومجاهد، ومقاتل، يقال: هيمن يهيمن فهو مهيمن.
إذا كان رقيبًا على الشيء، وذهب كثير من المفسرين إلى أنه: مؤيمن على الأصل من آمن يؤمن، فيكون بمعنى: المؤمن، وذكرنا هذا فيما تقدم، الجبار العظيم، وجبروت الله عظمته، والعرب تسمى الملك: الجبار العظيم، ويجوز أن يكون فعالًا من جبر، إذا أغنى الفقير، وأصلح الكسير، يجوز أن يكون من جبره على كذا، إذا أكرهه على ما أراد، وهو قول السدي، ومقاتل، قالا: هو الذي يقهر الناس، ويجبرهم على ما أراد.
وهو اختيار الزجاج، {الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر: 23] قال قتادة: الذي تكبر على كل سوء.
وقال ابن الأنباري: المتكبر: ذو الكبرياء وهو الملك.
وقال أهل المعاني: المتكبر في صفة الله تعالى الكبير.
والعرب تضع تفعل في موضوع فعل، مثل: تظلم بمعنى ظلم، وتشتم بمعنى: شتم، والباقي إلى آخر السورة تقدم تفسيره فيما سبق.(4/279)
1183 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، أنا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَهْدِيٍّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ صَالِحٍ الأَنْطَاكِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ نَجْدَةَ، نا أَبُو الْمُغِيرَةِ عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ الْحَجَّاجِ، نا يَحْيَى بْنُ ثَعْلَبَةَ، حَدَّثَنِي الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمِ فِي سِتِّ آيَاتٍ فِي آخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ» .(4/280)
تفسير سورة الممتحنة
ثلاث عشرة آية، مدنية.
1184 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْمُمْتَحِنَةِ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ لَهُ شُفَعَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
بسم الله الرحمن الرحيم {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ {1} إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ {2} لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {3} } [الممتحنة: 1-3] .
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] .
1185 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، نا أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَعْقِلِيُّ، أنا الرَّبِيعُ، أنا الشَّافِعِيُّ، أنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَِّد بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَالْمِقْدَادَ وَالزُّبَيْرَ، فَقَالَ: انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ، فَخَرَجْنَا تَتَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ، فَقُلْنَا لَهَا: أَخْرِجِي الْكِتَابَ، فَقَالَتْ: مَا مَعِي كِتَابٌ،(4/281)
فَقُلْنَا لَهَا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَتُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ، فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا فِيهِ: مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أُنَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ يُخْبِرُ بِبَعْضِ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا حَاطِبُ؟ فَقَالَ: لا تَعْجَلْ عَلَيَّ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ نَفْسِهَا، وَقَالَ: مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَاتِهِمْ، وَلَمْ تَكُنْ لِي بِمَكَّةَ قَرَابَةٌ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا، وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُهُ شَكًّا فِي دِينِي، وَلا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ قَدْ صَدَقْتَ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ " وَنَزَلَتْ {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] الآية رَوَاهُ الْبُخَارِيّ، عَنِ الْحُمَيْدِيّ، وَرَوَاه مُسْلِم، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَجَمَاعَةٌ كُلُّهُمْ عَنْ سُفْيَان
قال المفسرون: إن الآية نزلت في حاطب، حين كتب إلى مشركي قريش يخبرهم بمسير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم لما قصد فتح مكة، ينهاه الله عن موالاة الكفار.
وقوله: {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1] قال الزجاج: تلقون إليهم أخبار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسره، بالمودة التي بينكم وبينهم، وقد كفروا والواو للحال، لأن المعنى: وحالهم، {وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة: 1] يعني: القرآن، {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} [الممتحنة: 1] من مكة، أن تؤمنوا لأن تؤمنوا، كأنه قال: يفعلون ذلك لإيمانكم، {بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ} [الممتحنة: 1] هذا شرط جوابه متقدم، وهو قوله: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] ، وقوله: {جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي} [الممتحنة: 1] منصوبان لأنهما مفعول لهما، {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1](4/282)
قال مقاتل: النصيحة.
ثم ذكر أنه لا يخفي عليه من أحوالهم شيء، فقال: {وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ} [الممتحنة: 1] من المودة للكفار، وما أعلنتم أظهرتم بألسنتكم، {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ} [الممتحنة: 1] يعني: الإسرار والإلقاء إليهم، {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1] أخطأ طريق الهدى.
ثم أخبر بعداوة الكفار، فقال: إن يثقفوكم يظفروا بكم، {يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} [الممتحنة: 2] بالضرب، وألسنتهم بالشتم، {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة: 2] كما كفروا، والمعنى: التقريب إليهم بنقل أخبار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم.
{لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ} [الممتحنة: 3] يعني: قراباتهم، والمعنى: ذوو أرحامكم، يقول: لا تدعونكم، ولا تحملنكم قراباتكم، وأولادكم التي بمكة إلى خيانة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين، فلن ينفعكم أولئك الذي عصيتم الله لأجلهم، {يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ} [الممتحنة: 3] الله، بينكم فيدخل أهل طاعته والإيمان به الجنة، وأهل معصيته والكفر به إلى النار، وقرأ ابن كثير: يفصل بضم الياء، والمعنى: راجع إلى الله، كما أن قوله: {خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] معناه: خلق الله الإنسان، وقرئ من التفضيل بالوجهين أيضًا، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الممتحنة: 3] يعني: بما عمل حاطب من مكاتبته أهل مكة، حيث أخبر نبيه بذلك.
ثم ضرب لهم إبراهيم عليه السلام مثلًا حين تبرأ من قومه، فقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ {4} رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {5} لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ {6} } [الممتحنة: 4-6] .
{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الممتحنة: 4] اقتداء حسن، يقال: لي به أسوة في هذا الأمر.
أي: اقتداء، أعلم الله تعالى أن إبراهيم وقومه تبرءوا من قومهم وعادوهم، وقال لهم: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ} [الممتحنة: 4] قال الفراء: يقول أفلا تأسيت يا حاطب(4/283)
بإبراهيم، فتتبرأ من أهلك، كما تبرأ إبراهيم من قومه.
وقوله {إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4] قال ابن عباس: {كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ} [الممتحنة: 4] في صنيع إبراهيم، إلا في استغفاره لأبيه وهو مشرك.
وقال مجاهد: نهوا أن يتأسوا بإبراهيم في استغفاره للمشركين.
وهذا مذكور في آخر { [براءة، وقوله:] وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [سورة الممتحنة: 4] من قول إبراهيم لأبيه، يقول: ما أغني عنك، ولا أدفع عنك عذاب الله إن أشركت به، كان من دعاء إبراهيم وأصحابه: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4] .
وقوله: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [الممتحنة: 5] قال الزجاج: لا تظهرهم علينا، فيظنوا أنهم على حق فيفتتنوا بذلك.
وقال مجاهد: لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك، فيقولون: لو كان هؤلاء على الحق ما أصابهم هذا.
ثم أعاد الكلام في ذكر الأسوة، فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ} [الممتحنة: 6] أي: في إبراهيم، والذين معه من المؤمنين، أسوة حسنة قال ابن عباس: إنهم كانوا يبغضون من خالف الله.
وقوله: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ} [الممتحنة: 6] بدل من قوله: لكم وبيان أن هذه الأسوة لمن يخاف الله، ويخاف عقاب الآخرة، وهو قوله: {وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ} [الممتحنة: 6] يعرض عن الإيمان، ويوالي الكفار، {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ} [الممتحنة: 6] عن خلقه، الحميد إلى أوليائه وأهل طاعته.
قال مقاتل: فلما أمر الله المؤمنين بعداوة الكفار، عادوا أقرباءهم، فأنزل الله: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ {7} لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {8} إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {9} } [الممتحنة: 7-9] .
{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ} [الممتحنة: 7] أي: من كفار مكة، مودة ففعل بأن أسلم كثير منهم بعد الفتح: أبو سفيان بن حرب، وأبو سفيان بن الحارث، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وحكيم بن حزام، وكانوا من رؤساء الكفار، والمعادين لأهل الإسلام، والله قدير على جعل المودة، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 7] بهم بعد ما تابوا(4/284)
وأسلموا.
قوله: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 8] يعني: أهل العهد، الذين عاهدوا المؤمنين على ترك القتال والمظاهرة في العداوة، وهم خزاعة، وقوله: أن تبروهم أي: لا ينهاكم الله عن بر الذين لم يقاتلوكم، وهذا يدل على جواز البر بين المسلمين والمشركين، وإن كانت الموالاة منقطعة، وتقسطوا إليهم يقال: أقسطت إلى الرجل إذا عاملته بالعدل.
قال الزجاج: أي: وتعدلوا فيما بينكم وبينهم من الوفاء بالعهد.
ثم ذكر من الذين ينهاهم عن صلتهم، فقال: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 9] إلى قوله: أن تولوهم أي: إنما ينهاكم الله أن تتولوا هؤلاء، يعني: أن مكاتبتهم بإظهار سر المسلمين موالاة لهم.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {10} وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ {11} } [الممتحنة: 10-11] .
قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] لما صالح قريشًا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الحديبية، على أن يرد عليهم من جاءهم من المسلمين، فلما هاجرت إليه النساء أبى الله أن يرددن إلى المشركين، وأمر بامتحانهن، وهو قوله: فامتحنوهن وذلك أن تستحلف ما هاجرت لبغض زوجها، ولا لحدث أحدثته، ولا خرجت عشقًا لرجل من المسلمين، وما خرجت إلا رغبة في الإسلام، هذا معنى الامتحان المأمور به، وقوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} [الممتحنة: 10] أي: إن هذا الامتحان لكم، والله أعلم بهن، والأمر بالامتحان غير واجب، ولا يجوز رد المرأة إلى الكفار، إذا هاجرت إلى المسلمين، وأظهرت الإيمان، وهو قوله: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] وإنما يعلم إيمانها بإقرارها، {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ(4/285)
وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] قال ابن عباس: لم يحل الله مؤمنة لكافر، ولا نكاح كافرة لمؤمن.
وآتوهم يعني: أزواجهن الكفار، ما أنفقوا عليهن من المهر، {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الممتحنة: 10] أباح الله نكاحها بشرط المهر، لأن الإسلام فرق بينها وبين زوجها الكافر، {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] يقول: لا تعتد بامرأتك الكافرة، فإنها ليست لك بامرأة، يعني: من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتد بها، فقد انقطعت عصمة الزوجية بينهما، قال ابن عباس: يريد بالعصمة: النكاح فيما بينهما.
{وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ} [الممتحنة: 10] أي: إن لحقت امرأة منكم بأهل العهد من الكفار مرتدة، فاسألوهم ما أنفقتم من المهر إذا منعوها، ولم يدفعوها إليكم، فعليهم أن يغرموا لها صداقها كما يغرم لهم، وهو قوله: {وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ} [الممتحنة: 10] يعني: ما ذكر في هذه الآية.
فإن كانوا أهل حرب ولم يكونوا أهل عهد، فالحكم ما ذكر في قوله: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ} [الممتحنة: 11] قال المفسرون: فغنمتم.
قال الزجاج: تأويله: فكانت العقبي لكم، أي: كانت الغلبة لكم حتى غنمتم.
ومعنى الآية: فغنمتم من العدو شيئًا بأن صارت العاقبة في الظفر لكم، فاعطوا الأزواج من رأس الغنيمة ما أنفقوا عليهن من المهر، وهو قوله: {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 11] .
{يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 12] .
قوله: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} [الممتحنة: 12] لما فتح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة، جاءته النساء يبايعنه، فأنزل الله هذه الآية، وشرط في مبايعتهن أن يأخذ عليهن هذه الشروط، وهو قوله: {أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 12] فكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبايعهن وهو على الصفا، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه أسفل منه، وهند بنت عتبة متنقبة متنكرة مع النساء، خوفًا أن يعرفها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئًا.
فقالت هند: إنك لتأخذ علينا أمرًا، ما رأيناك أخذته على الرجال.
وبايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد(4/286)
فقط، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلا يَسْرِقْنَ} [الممتحنة: 12] فقالت هند: إن أبا سفيان رجل مسيك، وإني أصبت من ماله هنات، فلا أدري أيحل لي أم لا؟ فقال أبو سفيان: ما أصبت من مالي من شيء، فيما مضى وفيما غبر، فهو لك حلال.
فضحك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعرفها، فقال لها: وإنك لهند بنت عتبة؟ قالت: نعم، فاعف عما سلف يا نبي الله، عفا الله عنك.
فقال: {وَلا يَزْنِينَ} [الممتحنة: 12] فقالت هند: أوتزني الحرة؟ فقال: {وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ} [الممتحنة: 12] فقالت هند: ربيناهم وهم صغار، وقتلتموهم وهم كبار، فأنتم وهم أعلم.
وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر، فضحك عمر رضي الله عنه حتى استلقى، وتبسم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال المفسرون: يعني: الوأد الذي كان يفعله أهل الجاهلية.
قوله: {وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} [الممتحنة: 12] قال ابن عباس: لا تلحق بزوجها ولدًا ليس منه.
قال الفراء: كانت المرأة تلتقط المولود، فتقول لزوجها: هذا ولدي منك، فذلك البهتان المفترى.
{بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} [الممتحنة: 12] وذلك أن المولود إذا وضعته الأم، سقط بين يديها ورجليها، وليس المعنى نهيهن من أن يأتين بولد من الزنا، فينسبنه على الأزواج، لأن الشرط بنهي الزنا قد تقدم، ولما قال هذا، قالت هند: والله إن البهتان لقبيح، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق.
وقوله: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة: 12] لما قال هذا، قالت هند: ما جلسنا مجلسنا هذا في وقتنا هذا، وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء.(4/287)
فأقرت النسوة بما أخذ عليهن، ومعنى: في معروف في كل أمر وافق طاعة الله، وقال عطاء: في كل بر وتقوى.
وقال الكلبي، والمقاتلان: عنى بالمعروف النهي عن النوح، وتمزيق الثياب، وجز الشعر، وشق الجيب، وخمش الوجه، والدعاء بالويل.
وروي عن إسماعيل بن عبد الرحمن بن عطية الأنصاري، عن جدته أم عطية، قالت: قلت: ما المعروف الذي نهيتني عن المعصية فيه؟ قال: النياحة.
1186 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ فُضَيْلُ بْنُ أَحْمَدَ الْأَبِيوَرْدِيُّ، أنا أَبُو عَلِيٍّ الْفَقِيهُ، نا أَبُو لَبِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ، نا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلانَ، نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أنا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَايِعُ النِّسَاءَ بِالْكَلامِ بِهَذِهِ الآيَةِ {عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 12] وَمَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَ امْرَأَةٍ إِلا امْرَأَةً يَمْلِكُهَا، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ غَيْلانَ
وقوله: فبايعهن جواب إذا في أول الآية، أي: إذا بايعنك على هذه الشرائط فبايعهن.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة: 13] .(4/288)
قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الممتحنة: 13] قال المقاتلان: يقول للمؤمنين: لا تتولوا اليهود.
وذلك أن ناسا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود بأخبار المسملين، ويتواصلون إليهم بذلك، فيصيبون من ثمارهم، فنهى الله عن ذلك، وقوله: {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ} [الممتحنة: 13] يعني: أن اليهود بتكذيبهم محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم يعرفون صدقه، وأنه رسول صادق، يئسوا من أن يكون لهم في الآخرة، {كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ} [الممتحنة: 13] الذين ماتوا وصاروا في القبور، من أن يكون لهم في الآخرة حظ، وتبينوا أنه ليس لهم في الخير نصيب، قال مجاهد: {يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ} [الممتحنة: 13] بكفرهم.
{كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة: 13] من ثواب الآخرة، حين تبين لهم عملهم، وقال سعيد بن جبير: {يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ} [الممتحنة: 13] الذين ماتوا فعاينوا الآخرة.(4/289)
تفسير سورة الصف
وهي أربع عشرة آية، مكية.
1187 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِئُ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي ذَكَرْنَا، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ، كَانَ عِيسَى مُصَلِّيًا عَلَيْهِ مُسْتَغْفِرًا لَهُ مَا دَامَ فِي الدُّنْيَا، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُوَ رَفِيقُهُ» .
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {1} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ {2} كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ {3} إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ {4} } [الصف: 1-4] .
1188 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمُزَكِّي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَكَرِيَّا، أنا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، نا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ الصَّنْعَانِيُّ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ، قَالَ: قَعَدْنَا نَقْرَأُ مَعَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْنَا: لَوْ نَعْلَمُ أَيَّ الْأَعْمَالِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَمِلْنَاهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {1} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ {2} كَبُرَ(4/290)
مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ {3} إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} [الصف: 1-4] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ،
فَقَرَأَهَا عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال المفسرون: إن المؤمنين، قالوا: وددنا أن الله يخبرنا بأحب الأعمال إليه حتى نعمله، ولو ذهبت فيه أموالنا وأنفسنا.
فأنزل الله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} [الصف: 4] فكرهوا الموت، وأحبوا الحياة، وتولوا يوم أحد، فأنزل الله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] .
ثم ذم القول إذا لم يشفعه الفعل، فقال: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] أي: عظم ذلك عند الله في المقت، والبغض عند الله، أي: إن الله يبغضه بغضًا شديًا أن تعدوا من أنفسكم شيئًا ثم لم تفوا به.
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} [الصف: 4] أي: يصفون أنفسهم عند القتال صفًا، {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4] يقال: رصصت البناء أرصه رصًا، إذا صممت بعضه إلى بعض، قال مقاتل: مرصوص ملتزق بعضه إلى بعض.
أعلم الله أنه يحب من يثبت في القتال، ويلزم مكانه، كثبوت البناء المرصوص.
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ {5} وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ {6} وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {7} يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ {8} هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ {9} } [الصف: 5-9] .(4/291)
قوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي} [الصف: 5] يعني: حين رموه بالأدرة، وذكرنا ذلك عند قوله: {لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} [الأحزاب: 69] ، {وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} [الصف: 5] هذا إنكار عليهم إيذاءه بعد ما علموا أنه رسول الله، والرسول يعظم ولا يؤذى، وقوله: فلما زاغوا قال مقاتل: عدلوا عن الحق.
{أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] أمالها عن الحق، يعني: أنهم تركوا الحق بإيذاء نبيهم، أمال الله قلوبهم عن الحق، جزاء لما ارتكبوا، {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5] قال الزجاج: لا يهدي من سبق في علمه أنه فاسق.
وما بعد هذا مفسر فيما سبق إلى قوله: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] هذا بيان أن عيسى بشر قومه بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقوله: {اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] يحتمل معنيين: أحدهما: أن نجعل أحمد مبالغة من الفاعل، فيكون معناه: أنه أكثر حمدًا لله من غيره، والآخر: أن يجعل مبالغة من المفعول، فيكون معناه: أنه يحمد بما فيه من الأخلاق، والمحاسن أكثر مما يحمد غيره، وأحمد معروف في أسماء نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
1189 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، أنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ، نا الشَّافِعِيُّ، نا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِي أَسْمَاءً أَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ تَعَالَى بِي الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي، وَأَنَا الْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدِي نَبِيٌّ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ عَنْ أَبِي الْيَمَانِ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ
وما بعد هذا ظاهر مفسر في { [براءة، إلى قوله:] يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ {10} تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ {11} يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {12} وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ {13} } [سورة الصف: 10-13] .
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10] نزل هذا لما قالوا: لو نعلم أي الأعمال أفضل وأحب إلى الله.
وجعل ذلك العمل بمنزلة التجارة، لأنهم يربحون فيها رضا الله تعالى، ونيل جنته،(4/292)
والنجاة من النار.
ثم بين تلك التجارة ما هي، فقال: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الصف: 11] إلى قوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الصف: 12] قال الزجاج: هذا جواب تؤمنون وتجاهدون، لأن معناه الأمر، كأنه قال: آمنوا بالله ورسوله، وجاهدوا يغفر لكم.
وقوله: وأخرى تحبونها قال الفراء: وخصلة أخرى تحبونها في العاجل مع ثواب الآخرة.
{نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف: 13] قال الكلبي: يعني: النصر على قريش، وفتح مكة.
وقال عطاء: يريد فتح فارس والروم.
وبشر يا محمد، المؤمنين بالنصر في الدنيا، والجنة في الآخرة.
ثم حض المؤمنين على نصرة دينه، فقال: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14] .
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} [الصف: 14] أي: دوموا على ما أنتم عليه من النصرة، واختار أبو عبيدة قراءة من قرأ: كونوا أنصار الله بغير تنوين، كقوله: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [الصف: 14] ، ولم يقل: أنصارًا لله، قوله: {كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ} [الصف: 14] أي: انصروا دين الله، مثل نصرة الحواريين لما قال لهم عيسى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [الصف: 14] أي: من ينصرني مع الله؟ فقالوا: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [الصف: 14] .
{فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ} [الصف: 14] قال ابن عباس: يعني: في زمن عيسى.
وذلك أنه لما رفع تفرق قومه ثلاث فرق، فرقة قالوا: كان الله فارتفع.
وفرقة قالوا: كان ابن الله فرفعه إليه.
وفرقة قالوا: كان عبد الله ورسوله فرفعه إليه.
وهم المؤمنون، واتبع كل فرقة منهم طائفة من الناس، فاقتتلوا فظهرت الفرقتان الكافرتان على المؤمنين، حتى بعث محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فظهرت الفرقة المؤمنة على الكافرة، فذلك قوله: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14] غالبين عالين، وروى مغيرة، عن إبراهيم، قال: أصبحت حجة من آمن بعيسى ظاهرة بتصديق محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن عيسى كلمة الله، وروحه.(4/293)
تفسير سورة الجمعة
إحدى عشرة آية، مدنية.
1190 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْعَزَايِمِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْجُمُعَةِ أُعْطِيَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ بِعَدَدِ مَنْ أَتَى الْجُمُعَةَ، وَبِعَدَدِ مَنْ لَمْ يَأْتِهَا فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ» .
بسم الله الرحمن الرحيم {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ {1} هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ {2} وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {3} ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ {4} } [الجمعة: 1-4] .
يسبح لله الآية، قال أهل المعاني: إنما أعيد ذكر التسبيح في هذه ال { [، لاستفتاح السورة بتعظيم الله من جهة ما سبح له، كما يستفتح ب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وإذا جعل المعنى في تعظيم الله حسن الاستفتاح به.
قوله:] هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ} [سورة الجمعة: 2] يعني: العرب , وكانت أمة أمية، لا تكتب ولا تقرأ، ولم يبعث إليهم نبي، رسولًا منهم يعني: محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نسبه نسبهم، وهو من جنسهم، كما قال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] ، وقوله: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [الجمعة: 2] والهداية إلى دينه.
{وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 4] ذو المن العظيم على خلقه ببعثه محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
مفسر في { [البقرة إلى قوله:] وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سورة الجمعة: 2] أي: ما كانوا قبل بعثه فيهم، إلا في ضلال مبين وهو الشرك، وكانوا يعبدون الأوثان من الحجارة وآخرين وبعث في آخرين يعني: الأعاجم، ومن لم يتكلم بلغة العرب، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبعوث إلى من شاهده، وإلى كل من كان بعدهم من العرب، والعجم، وقوله: منهم لأنهم إذا أسلموا صاروا منهم، والمسلمون كلهم يد واحدة، وأمة واحدة، وإن اختلفت أجناسهم، كما قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] ومن لم يؤمن بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنهم ليسوا ممن عناهم الله بقوله: وآخرين منهم وإن كان مبعوثًا إليهم بالدعوة، لأنه قال: {وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ} [الجمعة: 2] ، ومن لم يؤمن فإنه ليس ممن زكاه، وعلمه القرآن والسنة، وقوله: {لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 3] أي: في الفضل والسابقة لأن التابعين لا يدركون شأو الصحابة.
{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الجمعة: 4] يعني: الإسلام.
ثم ضرب لليهود الذين تركوا العمل بالتوراة مثلًا، فقال:(4/294)
{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {5} قُلْ يَأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {6} وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ {7} قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {8} } [الجمعة: 5-8] .
{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ} [الجمعة: 5] كلفوا القيام بها، والعمل بما فيها، {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} [الجمعة: 5] أي: حق حملها من أداء حقها، والعمل بموجبها، {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5] جمع سفر، وهو الكتاب الكبير، شبه اليهود إذ لم ينتفعوا بما في التوراة، وهي دالة على الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بالحمار يحمل كتب العلم، ولا يدري ما فيها، وهذا المثل يلحق من لم يفهم معاني القرآن ولم يعمل به، ولهذا قال ميمون بن مهران: يا أهل القرآن، اتبعوا القرآن قبل أن يتبعكم، ثم تلا هذه الآية.
وقوله: {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} [الجمعة: 5] ذم لمثلهم، والمراد به ذمهم، واليهود كذبوا بالقرآن وبالتوراة، حين لم يؤمنوا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة: 5] الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب الأنبياء، يعني: من سبق في علمه أنه لا يهديهم.
قوله: {قُلْ يَأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ} [الجمعة: 6] الآية والتي بعدها سبق تفسيرها في { [البقرة.
قل يا محمد لليهود: {إِنَّ(4/295)
الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [سورة الجمعة: 8] وذلك أن اليهود علموا أنهم أفسدوا على أنفسهم أمر الآخرة بتكذيبهم محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكانوا يكرهون الموت أشد الكراهة، فقال الله تعالى لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قل لهم: إنكم وإن فررتم من الموت وكرهتموه، فإنه لا بد ينزل بكم ويلقاكم، ثم تردون بعد الموت إلى عالم الغيب والشهادة، ما غاب عن العباد وما شهدوه.
قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ {9} فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {10} وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ {11} } [الجمعة: 9-11] .
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ} [الجمعة: 9] يعني: النداء إذا جلس الإمام على المنبر يوم الجمعة، لأنه لم يكن على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نداء سواه، كان إذا جلس على المنبر أذن بلال على باب المسجد، وكذا كان على عهد أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، وقوله: للصلاة يعني: لوقت الصلاة، يدل على ذلك قوله: {مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] والصلاة لا تكون من اليوم، والجمعة يوم يخص بهذا الاسم، لاجتماع الناس فيه.
1191 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْقَاضِي، أنا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ، أنا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُنِيبٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْقَرْثَعِ، عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَتَدْرِي مَا الْجُمُعَةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: لا، قَالَ: فِيهِ جُمِعَ أَبُوكَ، يَعْنِي تَمَامَ خَلْقِهِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ "
ونذكر هاهنا أحاديث يحتاج إليها في سنن هذا اليوم، وفضله.(4/296)
1192 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْمَعْقِلِيُّ، أنا الرَّبِيعُ، أنا الشَّافِعِيُّ، أنا مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ، ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ حَضَرَتِ الْمَلائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ» .
رَوَاهُ البخاري عن عبد الله بن يوسف، ورواه مسلم، عن قتيبة كلاهما عن مالك.
1193 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ الْفَضْلِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ، نا أَبُو الدَّرْدَاءِ بْنُ هَاشِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ الأَنْصَارِيُّ، نا عُتْبَةُ بْنُ السَّكَنِ، نا الضَّحَّاكُ بْنُ حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسِلَتْ ذُنُوبُهُ وَخَطَايَاهُ، فَإِذَا رَاحَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ قَدَمٍ عَمَلَ عِشْرِينَ سَنَةً، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ أُجِيزَ بِعَمَلِ مِائَتَيْ سَنَةٍ» .
1194 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسْتَفَاضِ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، نا ابْنُ عَبَّاسٍ، ونا مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلانَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَدِيعَةَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَأَحْسَنَ غُسْلَهُ، وَلَبِسَ مِنْ صَالِحِ ثِيَابِهِ، وَمَسَّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ أَوْ دُهْنِهِ، ثُمَّ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اثْنَيْنِ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأُخْرَى، وَزِيَادَةُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ بَعْدَهَا» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ آدَمَ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ.
1195 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَّاجُ إِمْلاءً، نا أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَعْقِلِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ، نا عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ، نا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنِي عَقِيلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ(4/297)
فِي جُمُعَةٍ مِنَ الْجُمَعِ: «يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ , إِنَّ هَذَا يَوْمٌ جَعَلَهُ اللَّهُ عِيدًا لِلْمُسْلِمِينَ فَاغْتَسِلُوا فِيهِ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طِيبٌ فَلا يَضُرُّهُ أَنْ يَمَسَّ مِنْهُ، وَعَلَيْكُمْ بِالسِّوَاكِ» .
1196 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، أنا أَبُو الْعَبَّاسِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مِيكَالَ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَى، نا زَيْدُ بْنُ الْحَرِيشِ، نا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ، نا الْأَزْوَرُ بْنُ غَالِبٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ للَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ سِتَّ مِائَةِ أَلْفِ عَتِيقٍ مِنَ النَّارِ كُلَّهُمْ قَدِ اسْتَوَجَبَ النَّارَ» .
1197 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحِيرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ دُحَيْمٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الحنينِ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى الثَّقَفِيُّ، نا عُثْمَانُ بْنُ مَطَرٍ، عَنْ سَلامِ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ بِتَارِكٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلا غُفِرَ لَهُ» .
1198 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ السَّخْتِيَانِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَوَّارٍ الْهَاشِمِيُّ، نا جَنْدَلُ بْنُ وَالِقٍ، نا مِنْدَلُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ(4/298)
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ يَتَّخِذَ الضَّيْعَةَ عَلَى رَأْسِ مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ أَوْ ثَلاثَةٍ، تَأْتِي عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ فَلا يَشْهَدُهَا ثُمَّ تَأْتِي عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ، فَلا يَشْهَدُهَا ثُمَّ تَأْتِي عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ فَلا يَشْهَدُهَا فَيُطْبَعُ عَلَى قَلْبِهِ» .
1199 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ الصُّوفِيُّ، أنا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَرْوَزِيُّ، أنا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، نا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمُحَارِبِيُّ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَدَوِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جَدْعَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، تُوبُوا إِلَى رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمُوتُوا، وَبَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ الزَّاكِيَةِ قَبْلَ أَنْ تُشْغَلُوا، وَصِلُوا الَّذِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَبِّكُمْ بِكَثْرَةِ ذِكْرِكُمْ لَهُ وَالصَّدَقَةِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ تُنْصَرُوا وَتُجْبَرُوا وَتُرْزَقُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْجُمُعَةَ فِي مَقَامِي هَذَا فِي يَوْمِي هَذَا فِي شَهْرِي هَذَا فِي عَامِي هَذَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ تَرَكَهَا فِي حَيَاتِي أَوْ بَعْدَ مَوْتِي وَلَهُ إِمَامٌ عَادِلٌ أَوْ جَائِرٌ اسْتِخْفَافًا بِهَا أَوْ جُحُودًا لَهَا أَلا فَلا جَمَعَ اللَّهُ لَهُ شَمْلَهُ، وَلا بَارَكَ لَهُ فِي أَمْرِهِ، أَلا لا صَلاةَ لَهُ، أَلا لا زَكَاةَ لَهُ، أَلا لا صِيَامَ لَهُ، أَلا لا حَجَّ لَهُ، إِلا أَنْ يَتُوبَ فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ»
قوله: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] قال عطاء: يعني: الذهاب والمشي إلى الصلاة.
قال الفراء: المضي، والسعي، والذهاب في معنى واحد.
يدل على ذلك قراءة ابن مسعود: فامضوا إلى ذكر(4/299)
الله.
وقال الشافعي، رحمه الله: السعي في هذا الموضع هو العمل.
وتلا قوله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 4] ويكون المعنى على هذا: فاعملوا على المضي إلى ذكر الله من التفرغ له، والاشتغال بالطهارة والغسل، والتوجه إليه بالقصد والنية، {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] قال الحسن: إذا أذن المؤذن يوم الجمعة، لم يحل الشراء والبيع.
قال أصحابنا من باع في تلك الساعة فقد خالف الأمر، وبيعه منعقد، لأن هذا نهي تنزيه، لقوله: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} [الجمعة: 9] فدل هذا على الترغيب في ترك البيع.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9] أي: ما هو خير لكم وأصلح.
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة: 10] فإذا صليتم الفريضة، وفرغتم من الصلاة، {فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة: 10] هذا أمر إباحة.
قال ابن عباس: إن شئت فاخرج، وإن شئت فصل إلى العصر، وإن شئت فاقعد.
وكذلك قوله: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] إباحة لطلب الرزق بالتجارة بعد المنع بقوله: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] ، ويروى أن عراك بن مالك، كان إذا صلى الجمعة انصرف، فوقف على باب المسجد، وقال: اللهم أجبت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين.
قوله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا} [الجمعة: 11] الآية، قال الحسن: أصاب أهل المدينة جوع، وغلاء سعر، فقدمت عير، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب يوم الجمعة، فسمعوا بها وخرجوا إليها، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائم كما هو، فقال: «لو ابتع آخرهم أولهم، التهب عليهم الوادي نارًا» .(4/300)
1200 - أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أنا أَبُو الْحَسَنِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ الْعَدْلُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ وَارَةَ، أنا الْحَسَنُ بْنُ عَطِيَّةَ، نا إِسْرَائِيلُ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ أَقْبَلَتْ عِيرٌ قَدْ قَدِمَتْ، فَخَرَجُوا إِلَيْهَا حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَعَهُ، إِلا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا} [الجمعة: 11] الآية رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ حُصَيْنٍ.
وَعَنَى بِالتِّجَارَةِ وَاللَّهْوِ الْعِيرَ وَالطَّبْلَ
وقوله: {انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] أي: تفرقوا عنك خارجين إليها، وقال المبرد: مالوا إليها والضمير للتجارة، وخصت برد الضمير إليها، لأنها كانت أهم إليهم.
{وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] أجمعوا على أن هذا القيام كان في الخطبة، قال جابر بن سمرة: ما رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب إلا وهو قائم، فمن حدثك أنه خطب وهو جالس فكذبه.
{قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ} [الجمعة: 11] أي: من ثواب الصلاة، والثبات مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة: 11] قال الزجاج: أي: ليس يفوتهم من أرزاقهم لتخلفهم عن النظر إلى الميرة شيء، ولا بتركهم البيع في وقت الصلاة.(4/301)