من رفعه قطعه مما قبله وابتدأ به، وخبره الذي، ومن خفضه جعله بدلا من الحميد، وتفسير الآية ظاهر، قوله: {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} [إبراهيم: 3] أي: يؤثرونها ويختارونها، قال ابن عباس: ما تجعل لهم من الدنيا يأخذونه تهاونا بأمر الآخرة واستبعادا لها.
كقوله تعالى: {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} [الإنسان: 27] .
{وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [إبراهيم: 3] يمنعون الناس عن دين الله تعالى وطاعته، {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} [إبراهيم: 3] ذكرنا تفسيره، {أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [إبراهيم: 3] قال الكلبي: في خطأ بعيد عن الحق.
قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] بلغتهم ليفهموا عنه ويعقلوا، وهو قوله: {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [إبراهيم: 4] قال ابن عباس: جعل المشيئة إليه وحده لا شريك له.
قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} [إبراهيم: 5] أي: بالبراهين التي دلت على صحة نبوته مثل العصا واليد وغيرهما، {أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم: 5] الأيام يعبر بها عن النعم والنقم، لأنها كلها تقع فيها، قال ابن السكيت: العرب تقول: الأيام في معنى الوقائع يقال: فلان عالم بأيام العرب أي: بوقائعها.
قال ابن عباس: يريد بنعم الله.
وهو قول مجاهد، وقتادة.
وأبي بن كعب رواه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الآية.
496 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ السَّرَّاجُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضرِيُّ، نا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ صَالِحٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِهِ: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم: 5] ، قَالَ: أَيَّامُهُ: نُعَمُهُ
وقال مقاتل: بوقائع الله في الأمم السالفة.
قال الزجاج: أي: ذكرهم بنعم الله عليهم، وبنقم أيام الله التي انتقم فيها من قوم نوح وعاد وثمود.
والمعنى: عظهم بالترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، إِنَّ فِي ذَلِكَ التذكير، لآيَاتٍ لدلالات على قدرة الله تعالى، لكل صبار على طاعة الله وعن معاصيه، شكور لأنعم الله، وما بعدها مفسر في { [البقرة إلى قوله:] وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} [سورة إبراهيم: 7] وهذا عطف على قوله: {إِذْ أَنْجَاكُمْ} [إبراهيم: 6] كأنه قال: اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم، وإذ تأذن ربكم، وهو إخبار عما قال(3/23)
موسى لقومه، ومعنى تأذن: أعلم، قال الفراء: تأذن وآذن بمعنى واحد.
وذكرنا هذا في { [الأعراف.
وقوله] لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [سورة إبراهيم: 7] أي: مما يجب الشكر عليه، وهو النعمة، قال ابن عباس: لئن وحدتموني، وأطعتموني لأزيدنكم طاعتي التي تقود إلى جنتي.
وقال قتادة في هذه الآية: حق على الله أن يعطي من سأله، ويزيد من شكره، والله منعم بحب الشاكرين فاشكروا الله على نعمه.
ومعنى شكر النعمة: الاعتراف بحق المنعم، والاعتراف بحق الله تعالى هو التوحيد والطاعة، ولئن كفرتم جحدتم حقي، وحق نعمتي، {إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] تهديد على كفران النعمة.
{وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ} [إبراهيم: 8] عن خلقه، لا يزيده طاعتكم ملكا، ولا ينقص كفركم ملكوت الله شيئا، حميد في أفعاله، لأنه إما متفضل بفعله، أو عادل.
ثم أخبرهم، عن القرون الماضية، وعما قالت لهم الرسل، وما ردوا عليهم، فقال: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ {9} قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ {10} قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ {11} وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ {12} وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ {13} وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ {14} وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ {15} مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ {16} يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ {17} } [إبراهيم: 9-17] {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [إبراهيم: 9] إلى قوله: {وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} [إبراهيم: 9] أي: من بعد هؤلاء الذين ذكرهم، {لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ} [إبراهيم: 9] لا يحصي عددهم إلا الله، قال ابن عباس: لا يعلمهم إلا الله لكثرتهم.
قال ابن الأنباري: إن الله تعالى أهلك أمما من العرب وغيرها، فانقطعت أخبارهم، وعفت آثارهم: فليس يعرفهم أحد(3/24)
إلا الله، {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} [إبراهيم: 9] قال ابن مسعود: عضوا عليها غيظا.
والمعنى أنهم ثقل عليهم مكان الرسل، فعضوا على أصابعهم من شدة الغيظ، وقال الكلبي: وضعوا الأيدي على الأفواه إشارة إلى الرسل أن اسكتوا.
{وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ} [إبراهيم: 9] أي: على زعمكم بالإرسال لا أنهم أقروا أنهم أرسلوا.
قالت لهم، {رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} [إبراهيم: 10] وهذا استفهام إنكار، أي: لا شك في الله، والمعنى: في توحيد الله، ثم ذكر ما يدل على وحدانيته، فقال: {فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ} [إبراهيم: 10] بالرسل والكتب، {لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [إبراهيم: 10] قال أبو عبيدة: من زائدة.
{وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [إبراهيم: 10] لا يعالجكم بالعذاب، بل يؤخركم ويمتعكم في الدنيا إلى الأجل المسمى لكم، وهو الموت، قالوا للرسل، {إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [إبراهيم: 10] ما أنتم إلا مخلوقون مثلنا، ليس لكم علينا فضل، {تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا} [إبراهيم: 10] على ما تقولون، بسلطان مبين بحجة ظاهرة.
{قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [إبراهيم: 11] اعترفوا لهم بأنهم آدميون مخلوقون مثلهم، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11] يعنون بالنبوة والرسالة، {وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} [إبراهيم: 11] ليس لنا أن نأتيكم ببرهان وحجة ومعجزة إلا أن يشاء الله ذلك، أي: ليس لنا ذلك من قبل أنفسنا، {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [إبراهيم: 11] وإليه فليفوض المؤمنون أمورهم.
{وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ} [إبراهيم: 12] أي: أيُّ شيء لنا إذا لم نتوكل على الله ولم نفوض إليه أمورنا، يعني أن العبد، وإن لم يتوكل، لم يدرك بجهده شيئا لم يقضه الله، {وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [إبراهيم: 12] عرفنا طرق التوكل، {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم: 12] وإنما قص هذا وأمثاله في القرآن على نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليقتدي بمن قبله من النبيين، ويعلم أنهم أوذوا في سبيل الله، فصبروا وتوكلوا.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَكَرِيَّا الْجَوْزَقِيُّ، أنا بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بِشْرٍ، نا دَاوُدُ، نا ابْنُ الْحَسَنِ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْخُوَارِزْمِيُّ، نا عَاصِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جُمَيْعٍ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي مَرْيَمَ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا أَذَاكَ الْبَرَاغِيثُ فَخُذْ قَدَحًا مِنْ مَاءٍ، فَاقْرَأْ عَلَيْهِ: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ} [إبراهيم: 12] الآيَةَ، وَتَقُولُ: فَإِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ؛ فَكُفُّوا شَرَّكُمْ وَأَذَاكُمْ عَنَّا، ثُمَّ تَرُشُّ الْمَاءَ حَوْلَ فِرَاشِكَ، فَإِنَّكَ تَبِيتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ آمِنًا مِنْ شَرِّهَا "(3/25)
قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا} [إبراهيم: 13] أي: ولا نساكنكم على مخالفتكم ديننا، {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم: 13] ذكرنا معناه في قصة شعيب في { [الأعراف،] فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} [سورة إبراهيم: 13] يعني الذين كفروا بالرسل، {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} [إبراهيم: 14] لنعطينكم سكناها بعد هلاكهم، ذَلِكَ الإسكان، {لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} [إبراهيم: 14] .
قال ابن عباس: خاف مقامه بين يدي.
وقال الكلبي: مقامه بين يدي رب العالمين.
وهذا من باب إضافة المصدر إلى المفعول، كما تقول: ندمت على ضربك، {وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 14] قال ابن عباس: خاف مما أوعدت من العذاب.
يعني أن العاقبة بالنصر تكون لمن خاف الله.
واستفتحوا يعني: الرسل، استنصروا الله ودعوا على قومهم بالعذاب لما يئسوا من إيمانهم، {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ} [إبراهيم: 15] متكبر عن طاعة الله، عنيد قال قتادة: العنيد المعرض عن طاعة الله.
وقال مجاهد: هو المجانب للحق.
وقال الزجاج: الذي يعدل عن القصد، والمعنى: فاز الرسل بالنصرة، وخاب كل من كفر.
{مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} [إبراهيم: 16] قال ابن عباس، والمفسرون: يريد أمامه جهنم، فهي بين يديه.
يعني: أنه يردها ويدخلها، ووراء، يكون لخلف وقدام، ومنه قوله: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} [الكهف: 79] أي: أمامهم.
{وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم: 16] الصديد: ماء الجرح المختلط بالدم والقيح.
قال المفسرون: يريد صديد القيح والدم الذي يخرج من فروج الزناة.
498 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَبْدَانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدَانَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُعَيْمٍ، أنا الْحَسَنُ بْنُ حَلِيمٍ الْمَرْوَزِيُّ، أنا أَبُو الْمُوَجِّهِ، أنا عَبْدَانُ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، أنا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ،(3/26)
عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِهِ: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ {16} يَتَجَرَّعُهُ} [إبراهيم: 16-17] قَالَ: يُقَرَّبُ إِلَيْهِ، فَيَتَكَرَّهُهُ فَإِذَا أُدْنِيَ مِنْهُ هَوَى وَجْهُهُ، وَوَقَعَ فَرْوَةُ رَأْسِهِ، فَإِذَا شَرِبَ؛ قَطَّعَ أَمْعَاءَهُ، حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ دُبُرِهِ، يَقُولُ اللَّهِ، تَعَالَى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد: 15] ، وَيَقُولُ اللَّهِ، تَعَالَى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ} [الكهف: 29] .
قَوْلُهُ: {يَتَجَرَّعُهُ} [إبراهيم: 17] التَّجَرُّعُ: تَنَاوُلُ الشَّرَابِ جَرْعَةً جَرْعَةً
قال ابن عباس: يريد بالكره.
{وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ} [إبراهيم: 17] يقال: ساغ الشراب في الحلق سوغا وأساغه الله، قال المفسرون: يتحساه ويشربه بالجرع، لا بمرة واحدة، لمرارته، ولا يسيغه إلا بعد إبطاء، لكراهته للذلك الشراب.
وقوله: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ} [إبراهيم: 17] أي: همُّ الموت، وألمه، وكربه، {مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [إبراهيم: 17] قال ابن عباس: من كل شعرة في جسده.
وقال الثوري: من كل عرق في جسده.
{وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم: 17] موتا تنقطع معه الحياة، ومن ورائه ومن بعد هذا العذاب، وقال الكلبي: ومن بعد هذا الصديد.
{عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 17] متصل الآلام، وقال إبراهيم التيمي: يعني الخلود في النار.
{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم: 18] قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ} [إبراهيم: 18] قال الفراء: تقدير الآية مثل أعمال الذين كفروا بربهم، فحذف المضاف اعتمادا على ذكره بعد المضاف إليه.
وقوله: {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم: 18] أراد عاصف الريح، فحذف الريح لأنها ذكرت في أول الكلام، ويقال: عصفت الريح عصوفا إذا اشتد هبوبها.
ومعنى الآية أن كل ما تقرب به الذين كفروا إلى الله، فمحبط غير منتفع به، لأنهم أشركوا فيها غير الله، كالرماد الذي ذّرَّتْهُ الريح وصار هباء لا ينتفع به، وذلك قوله: {لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا} [إبراهيم: 18] أي في الدنيا، على شيء(3/27)
في الآخرة، قال ابن عباس: لا يجدون ثواب ما عملوا.
{ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم: 18] يعني: ضلال أعمالهم وذهابها كذهاب الرماد في عصوف الريح.
قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ {19} وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ {20} وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ {21} وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {22} وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ {23} } [إبراهيم: 19-23] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [إبراهيم: 19] معنى ألم تر ههنا التنبيه على خلق السموات والأرض، وقرأ حمزة والكسائي خالق السموات على فاعل، كقوله: {فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [إبراهيم: 10] ومعنى قوله: بالحق كقوله: {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ} [يونس: 5] وقد تقدم، وقوله: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [إبراهيم: 19] قال ابن عباس: يريد أميتكم يا معشر الكفار، وأخلق قوما غيركم خيرا منكم وأطوع.
وهذا خطاب لأهل مكة {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم: 20] قال ابن عباس: لا يعز على الله شيء يريده.
وقال الكلبي: ليس يعز على الله شيء أن يميتكم ويأتي بغيركم.
قوله: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا} [إبراهيم: 21] خرجوا من قبورهم للبعث، قال الزجاج: جمعهم الله في حشرهم فاجتمع التابع والمتبوع.
فقال الضعفاء وهم الأتباع، {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} [إبراهيم: 21] والأكابر هم الذين استكبروا عن عبادة الله، إنا كنا في الدنيا، لكم تبعا جمع تابع، مثل خادم وخدم، {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ} [إبراهيم: 21] فهل أنتم دافعون عنا من عذاب الله؟ {قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ} [إبراهيم: 21] لو أرشدنا الله لأرشدناكم، يريدون أنهم إنما دعوهم إلى الضلال لأن الله تعالى أضلهم ولم يهدهم، فدعوا أتباعهم إلى ما كانوا عليه من الضلال، ولو هداهم الله لدعوهم إلى الهدى.
{سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا} [إبراهيم: 21] قال زيد بن أسلم: جزعوا مائة سنة، وصبروا مائة سنة، فلم ينفعهم أحدهم، فقالوا هذا.
وقوله: {مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم: 21] أي: معدل عن العذاب.
قوله: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ} [إبراهيم: 22] أي: فرغ منه، وقضى الله بين العباد، قال المفسرون: إذا استقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في(3/28)
النار، اجتمع أهل النار على إبليس، فيقوم فيما بينهم خطيبا، ويقول: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} [إبراهيم: 22] أي: كون هذا اليوم، فصدقكم وعده، ووعدتكم أنه لا جنة ولا نار، ولا بعث ولا حساب، فأخلفتكم الوعد، {وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [إبراهيم: 22] ما أظهرت لكم حجة أحتج بها عليكم، {إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ} [إبراهيم: 22] هذا من الاستثناء المنقطع، أي: لكن دعوتكم {فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم: 22] فصدقتموني وقبلتم مقالتي، {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم: 22] حيث أجبتموني وصدقتموني من غير برهان، {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} [إبراهيم: 22] بمغيثكم، {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم: 22] بمغيثين لي، أي: لا أنجيكم مما أنتم فيه، ولا تنجوني مما أنا فيه، قال الحسن: إذا كان يوم القيامة، قام إبليس خطيبا على منبر من نار، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} [إبراهيم: 22] الآية.
والقراءة الصحيحة فتح الياء في مصرخي، وهو الأصل، لأن ياء الإضافة إذا كان قبلها ساكن، حركت إلى الفتح لا غير، نحو هداي وعصاي، وقرأ حمزة بكسر الياء، قال الزجاج: هذه القراءة عند جميع النحويين رديئة مرذولة، لا وجه لها إلا وجه ضعيف، وهو ما أجازه الفراء من الكسر على أصل التقاء الساكنين، وأنشد:
قلت لها هل لك يَا تَا فيَّ
قالت لنا ما أنت بالمرضي
وزعم قطرب أن هذه لغة في بني يربوع، يزيدون على ياء الإضافة ياء، نحو هل لك يا تافي؟ وكان الأصل مصرخي، ثم حذفت الياء الزائدة، وأقرت الكسرة على ما كانت عليه، وقوله: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم: 22] أي: كفرت بإشراككم إياي مع الله في الطاعة، والمعنى: جحدت أن أكون شريكا لله فيما أشركتموني، إن الظالمين يريد المشركين، {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22] ، وقوله: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [إبراهيم: 23] ذكرنا تفسيره في { [يونس.
قوله:] أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ {24} تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ {25} وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ {26} يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ {27} } [سورة إبراهيم: 24-27] {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا} [إبراهيم: 24] بين الله شبها، ثم فسر ذلك المثل، فقال: كلمة طيبة قال ابن عباس: يريد لا إله إلا الله، وهو قول الجميع.
{كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم: 24] قالوا: يريد النخلة.
والمعنى: كشجرة طيبة الثمرة.
أصلها أي:(3/29)
أصل هذه الشجرة، ثابت في الثرى، وفرعها أعلاها عال، {فِي السَّمَاءِ {24} تُؤْتِي} [إبراهيم: 24-25] تعطي هذه الشجرة، أكلها ثمرها وما يؤكل منها، كل حين قال ابن عباس: يريد ستة أشهر.
وهو قول سعيد بن جبير، وقتادة، والحسن، قالوا: ما بين صرامها إلى حملها ستة أشهر.
وقال مجاهد، وابن زيد، وعكرمة: كل سنة.
شبه الله تعالى الإيمان بالنخلة، لثبات الإيمان في قلب المؤمن، كثبات النخلة في منبتها، وشبه ارتفاع عمله إلى السماء بارتفاع فروع النخلة، وشبه ما اكتسبه المؤمن من بركة الإيمان وثوابه في كل وقت وزمان، بما ينال من ثمر النخلة في أوقات السنة كلها من الرطب والتمر، {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} [إبراهيم: 25] قال ابن عباس: يريد أهل مكة.
{لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم: 25] لكي يتعظوا.
{وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} [إبراهيم: 26] يعني الشرك بالله، {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} [إبراهيم: 26] قال ابن عباس: يريد الثوم.
وقال الضحاك عنه: هي الكشوث.
وقال أنس بن مالك: هي الحنظل.
فكما أنها أخبث الأشجار، فكذلك الشرك أخبث الكلمات، اجتثت انتزعت واقتلعت، {مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ} [إبراهيم: 26] قال ابن عباس: يريد ليس لها أصل تام، فهي فوق الأرض، لم تضرب فيها بعرق.
وهو قوله: {مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم: 26] من أصل في الأرض، وكما أنها أخبث الأشجار، كذلك الشرك بالله أخبث الكلمات، ليس لها حجة ولا ثبات ولا شيء.
قوله {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [إبراهيم: 27] الذين صدقوا محمدا، {بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27] وهو لا إله إلا الله، {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [إبراهيم: 27] يثبتهم بها على الحق، {وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] يعني في القبر، قال المفسرون: هذه الآية وردت في فتنة القبر، وسؤال الملكين، وتلقين الله المؤمن كلمة الحق في القبر عند السؤال، وتثبيته إياه بها على الحق.
499 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ، نا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، نا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا سُئِلَ فِي قَبْرِهِ؛ قَالَ: رَبِّيَ اللَّهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] .
500 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ شَاذَانَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي(3/30)
أَبِي، أنا أَبُو عَامِرٍ، نا عَبَّادُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جِنَازَةً، فَقَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَإِذَا الإِنْسَانُ دُفِنَ، فَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، جَاءَهُ مَلَكٌ فِي يَدِهِ مِطْرَاقٌ، فَأَقْعَدَهُ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا؛ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ لَهُ: صَدَقْتَ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ فَيَقُولُ: هَذَا كَانَ مَنْزِلُكَ لَوْ كَفَرْتَ بِرَبِّكَ، فَأَمَّا إِذْ آمَنْتَ، فَهَذَا مَنْزِلُكَ، وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ، فَيُرِيدُ أَنْ يَنْهَضَ إِلَيْهِ فَيُقَالُ لَهُ: اسْكُنْ، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا، أَوْ مُنَافِقًا، يَقُولُ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: لا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا، فَقُلْتُ، فَيُقَالُ: لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ وَلا هُدِيتَ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ: هَذَا لَكَ لَوْ آمَنْتَ، فَأَمَّا إِذْ كَفَرْتَ، فَإِنَّ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، أَبْدَلَكَ بِهِ هَذَا، وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ، ثُمَّ يُقْمِعُهُ بِالْمِطْرَاقِ قَمْعَةً، يَسْمَعُهَا خَلْقُ اللَّهِ كُلُّهُمْ غَيْرُ الثَّقَلَيْنِ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَحَدٌ يَقُومُ عَلَيْهِ مَلَكٌ فِي يَدِهِ مَطْرَقَةٌ، إِلا هِيلَ عِنْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ»
وقوله: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 27] يعني: لا يلقن الله المشركين والكافرين حتى إذا سئلوا في قبورهم قالوا: لا ندري.
قال الفراء: يضلهم عن هذه الكلمة.
{وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27] من تثبيت المؤمن وتلقينه الصواب، وإضلال الكافر، قال الفراء: أي لا تكون له قدرة، ولا يسأل عما يفعل.
قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ {28} جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ {29} وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ {30} } [إبراهيم: 28-30] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا} [إبراهيم: 28] قال جماعة المفسرين: هم مشركو مكة كفار قريش، أنعم الله عليهم بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكفروا به، ودعوا قومهم إلى الكفر به، وذلك قوله: وأحلوا قومهم يعني الذين اتبعوهم، {دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28] أي الهلاك، يعني جهنم، ألا ترى أنه فسرها، فقال: جهنم يصلونها يقاسون حرها، وبئس القرار بئس المقر هي.
501 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، أنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، نا أَبُو مَالِكٍ الْجَنْبِيُّ، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ، عَنِ الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا؛ قَالَ: هُمُ الأَفْجَرَانِ مِنْ قُرَيْشٍ، بَنُو الْمُغِيرَةِ، وَبَنُو أُمَيَّةَ؛ فَأَمَّا بَنُو الْمُغِيرَةِ فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَمَّا بَنُو أُمَيَّةَ فَمُتِّعُوا إِلَى حِينٍ
وقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [إبراهيم: 30] قال ابن عباس:(3/31)
من الحجارة والخشب وغير ذلك، ليضلوا الناس عن دين الله، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو بفتح الياء، والمعنى أنهم لم ينتفعوا بما اتخذوا من الأنداد، ولم يتخذوها إلا ليزيغوا عن الطريق المستقيم، وهذه لام العاقبة، ثم أوعدهم، فقال: {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} [إبراهيم: 30] قال ابن عباس في هذه الآية: لو صار الكافر مريضا سقيما لا ينام ليلا ولا نهارا، جائعا لا يجد ما يأكل ويشرب، لكان هذا كله نعيما يتمتع به القياس إلى ما يصير إليه من شدة العذاب، ولو كان المؤمن في الدنيا في أنعم عيشه، لكان بؤسا عندما يصير إليه من نعيم الآخرة.
قوله: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} [إبراهيم: 31] {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ} [إبراهيم: 31] معناه: قل لهم أقيموا الصلاة، فصرف عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر، وجعل كالجواب للأمر، وهذه الآية أمر للمؤمنين بعبادة الله من الصلاة والإنفاق في وجوه البر قبل يوم القيامة، وهو قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} [إبراهيم: 31] قال أبو عبيدة: البيع ههنا الفداء، والخلال: المخالة.
قال مقاتل: ذلك يوم لا بيع فيه ولا شراء ولا مخالة ولا قرابة، إنما هي أعمال، يثاب بها قوم، ويعاقب عليها آخرون.
والخلال: فعال من المخالة، وهو مصدر الخليل، هذا قول جميع أهل اللغة.
وقال أبو علي الفارسي: ويجوز أن يكون جمع خلة، مثل برمة وبرام، وعلبة وعلاب.
وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ {32} وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ {33} وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ {34} } [إبراهيم: 32-34] {وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ} [إبراهيم: 32] أي: ذللها لكم بالركوب والإجراء إلى حيث تريدون.
{وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [إبراهيم: 33] لتنتفعوا بهما، وتستضيئوا بضوئهما، {دَائِبَيْنِ} [إبراهيم: 33] في إصلاح ما يصلحانه من النبات وغيره، لا يفتران، ومعنى الدءوب مرور الشيء في العمل على عادة جارية فيه، {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ} [إبراهيم: 33] لتسكنوا فيه، راحة لأبدانكم، والنهار لتبتغوا فيه من فضله.
{وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} [إبراهيم: 34] مفعول الإيتاء محذزف بتقدير من كل ما سألتموه مسئولا أو شيئا، ويجوز أن يكون من زيادة، والمعنى: وآتاكم كل ما سألتموه، وقال ابن الأنباري: تقدير الآية وأتاكم من كل ما سألتموه وما لم تسألوه، لأنا لم نسأله شمسا ولا قمرا، ولا كثير من نعمة التي ابتدأنا بها.
وكان قتادة يقرأ {مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} [إبراهيم: 34] قال: لم تسألوه كل الذي آتاكم.
{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ} [إبراهيم: 34] أي: إنعامه، والنعمة ههنا(3/32)
اسم أقيم مقام المصدر، ولذلك لم يجمع، لا تحصوها أي: لا تأتوا على جميعها بالعدد لكثرتها، قال الكلبي: لا تحفظوها.
وقال أبو العالية: لا تطيقون عدها.
إن الإنسان قال ابن عباس: يريد أبا جهل.
لظلوم لنفسه، كفار بنعمة ربه، قال الزجاج: الإنسان اسم الجنس، يقصد به الكافر خاصة.
كما قال: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] ومعنى ظلوم: شاكر غير من أنعم عليه، كفار جحود لنعم الله.
قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ {35} رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {36} رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ {37} رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ {38} الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ {39} رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ {40} رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ {41} وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ {42} } [إبراهيم: 35-42] {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} [إبراهيم: 35] سبق تفسيره في { [البقرة، وقوله:] وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [سورة إبراهيم: 35] يقال: جنبته كذا، وأجنبته وجنبته، أي: باعدته عنه، وجعلته ناحية منه، والمعنى: ثبتني على اجتناب عبادتها، لأنه غير عابد لها، وهذه الدعوة مخصوصة بأبنائه من صلبه، فقد كان من نسله من عبد الصنم، وكان إبراهيم التيمي يقص ويقول: من يأمن البلاء بعد إبراهيم خليل الرحمن؟ يقرأ هذه الآية {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 36] أي: ضلوا بسببها، لأن الأصنام لا تفعل شيئا، ولكن لما ضلوا بسببها صارت كأنها أضلتهم، فمن تبعني على ديني بالتوحيد، فإنه مني أي من المتدينين بديني، {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36] قال السدي: معناه من عصاني ثم تاب فإنك غفور رحيم.
وقال مقاتل: ومن عصاني فيما دون الشرك فإنك غفور رحيم، قال ابن الأنباري: ويحتمل أن هذا كان قبل أن يعلمه الله أنه لا يغفر الشرك كما استغفر لأبيه.
قوله: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 37] قال ابن الأنباري: من دخلت للتوكيد، والمعنى: أسكنت ذريتي.
وعند الفراء: دخلت من التبعيض.
أي: أسكنت بعض ذريتي، وذلك أنه أنزل إسماعيل وأمه بمكة، وإسماعيل بعض ذرية إبراهيم، يدل على هذا قول ابن عباس في هذه الآية يريد إسماعيل، {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم: 37] قال: يريد واد من مكة، ومكة كلها واد.(3/33)
أخبرنا أبو حسان محمد بن أحمد بن جعفر، أنا هارون بن محمد بن هارون، أنا إسحاق بن أحمد الخزاعي، أنا أبو الوليد الأزرقي، حدثني جدي، نا سعيد بن سالم القداح، عن عثمان بن ساج، أخبرني محمد بن إسحاق، أنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد، أن إبراهيم خرج من الشام، وخرج معه ابنه إسماعيل وأمه هاجر، وإسماعيل طفل يرضع، وحملوا على البراق ومعه جبريل حتى قدم مكة، وكانت هي إذ ذاك عضاه من سلم وسمر، وبها ناس يقال لهم العماليق، خارجا من مكة، والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة، فقال إبراهيم لجبريل عليهما السلام: أههنا أمرت أن أضعهما؟ قال: نعم.
فعمد بهما إلى موضع الحجر، فأنزلهما فيه، وأمر هاجر أم إسماعيل أن تتخذ فيه عريشا، ثم قال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37] الآية.
والمعنى: عند بيتك المحرم الذي يحدث في هذا الوادي، لأن إسكان الخليل إسماعيل مكة كان قبل بنائهما البيت، {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ} [إبراهيم: 37] قال ابن عباس: ليعبدوك.
{فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37] تريدهم وتسرع إليهم، قال عطاء: تحن إليهم.
وقال قتادة: تنزع إليهم.
وقال مجاهد: لو قال أفئدة الناس، لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند.
وقال سعيد بن جبير: لو قال أفئدة الناس، لحجت اليهود والنصارى والمجوس، ولكنه قال: أفئدة من الناس.
فهم المسلمون.
قال عكرمة: هو أنهم يحجون إلى مكة.
{وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [إبراهيم: 37] هذا كقوله في { [البقرة:] وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [سورة البقرة: 126] .
{لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37] قال ابن عباس: كي يوحدوك ويعظموك.
قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [إبراهيم: 39] قال ابن عباس: ولد إسماعيل لإبراهيم، وهو ابن تسع وتسعين سنة، وولد إسحاق، وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة.
{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40] قال الزجاج: أي اجعل من ذريتي من يقيم الصلاة.
{رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم: 40] قال ابن عباس: يريد عبادتي.
{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [إبراهيم: 41] قال ابن الأنباري: استغفر(3/34)
لأبويه وهما حيان طمعا في أن يهديا إلى الإسلام، ويسعدا بالدين.
وقيل: أراد بوالديه آدم وحواء.
{وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [إبراهيم: 41] قال ابن عباس: يريد من لقيك مؤمنا مصدقا فتجاوز عنه.
{يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41] يظهر الجزاء على الأعمال.
قوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم: 42] .
502 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ، أنا أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ حَبَشٍ الدِّينَوَرِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ الدِّينَوَرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ آدَمَ الْمِصِّيصِيُّ، نا أَبُو الْمَلِيحِ الرَّقِّيُّ، حَدَّثَنَا مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم: 42] ، قَالَ: وَعِيدٌ لِلظَّالِمِ، وَتَعْزِيَةٌ لِلْمَظْلُومِ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ} [إبراهيم: 42] أَيْ: يُؤَخِّرُ جَزَاءَهُمْ وَلا يَأْخُذُهُمْ بِظُلْمِهِمْ، {لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، تَشْخَصُ فِيهِ أَبْصَارُ الْخَلائِقِ إِلَى الْهَوَاءِ؛ لِعَجَائِبِ مَا يَرَوْنَ، وَلِشِدَّةِ الْحِيرَةِ وَالدَّهْشَةِ لا يُغْمِضُونَ
{مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم: 43] مهطعين قال سعيد بن جبير، والحسن، وقتادة: مسرعين.
وقال الضحاك، والكلبي، والعوفي، عن ابن عباس: مديمي النظر من غير أن يطرفوا.
ومعنى الإهطاع: الإسراع مع إدامة النظر، وقوله: {مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} [إبراهيم: 43] يقال: أقنع رأسه إذا رفعه.
قال المفسرون: رافعي رءوسهم.
قال الحسن: وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء، لا ينظر أحد إلى أحد.
{لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} [إبراهيم: 43] لا ترجع إليهم أبصارهم من شدة النظر، فهي شاخصة، وقوله: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم: 43] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد خرجت القلوب من مواضعها، فصارت في الحناجر.
وقال قتادة: انْتُزِعَتْ حتى صارت في حناجرهم.
فعلى هذا أريد بالأفئدة مواضع القلوب، وأنها خلت عن القلوب فصارت هواء، وقال آخرون: معنى الآية أن قلوبهم خلت عن العقول لما رأوا من الفزع، فهي خالية عن العقل للدهشة والحيرة، ثم عاد إلى خطاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمره بالإنذار.
{وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ {44} وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ {45} } [إبراهيم: 44-45] فقال: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ} [إبراهيم: 44] قال ابن عباس: يعني أهل مكة، {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ} [إبراهيم: 44] يعني يوم القيامة، {فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [إبراهيم: 44] أشركوا بالله، {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [إبراهيم: 44] استمهلوه مدة يسيرة لكي يجيبوا الدعوة، ويتبعوا الرسل، وهو قوله: {نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ(3/35)
الرُّسُلَ} [إبراهيم: 44] فيقال لهم: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} [إبراهيم: 44] حلفتم في الدنيا أنكم لا تبعثون ولا تنتقلون من الدنيا إلى الآخرة.
{وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [إبراهيم: 45] يعني الأمم الكافرة قبلهم، ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية يقول: كان ينبغي أن يرتجعوا ويرتدعوا عن الكفر، اعتبارا بمساكنهم بعد ما تبين {لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ} [إبراهيم: 45] قال ابن عباس: يريد الأمثال التي في القرآن.
{وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ {46} فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ {47} يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ {48} وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ {49} سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ {50} لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ {51} } [إبراهيم: 46-51] قوله: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ} [إبراهيم: 46] يعني مكرهم بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين هموا بقتله ونفيه، {وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ} [إبراهيم: 46] أي: جزاء مكرهم، {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ} [إبراهيم: 46] وما كان مكرهم، {لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم: 46] يعني: أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما أتى به من دين الإسلام، وضرب الجبال مثلا له على معنى أن ثبوته كثبوت الجبال، قال الحسن: إن كان مكرهم لأوهن وأضعف من أن تزول منه الجبال.
وقرأ الكسائي لتزول بفتح اللام الأولى وضم الثانية، وإن على هذه القراءة لا يكون نفيا، بل يكون بمعنى قد، والمعنى: قد كادت الجبال تزول من مكرهم، وهذه مبالغة في وصف مكرهم بالعظم على مذهب العرب في المبالغة، قال الزجاج: وإن كان مكرهم يبلغ في الكيد إلى إزالة الجبال، فإن الله تعالى ينصر دينه.
يدل على هذا قوله: {فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} [إبراهيم: 47] قال ابن عباس: يريد النصر والفتح وإظهار الدين، {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} [إبراهيم: 47] منيع، {ذُو انْتِقَامٍ} [إبراهيم: 47] من الكافرين، وهو أن يجازيهم بالعقوبة على كفرهم.
قوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ} [إبراهيم: 48] قال ابن عباس رضي الله عنهما: الأرض هي تلك الأرض، وإنما تبدل آكامها، وجبالها، وأشجارها.
ونحو هذا روى أبو هريرة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: " يبدل الله الأرض غير الأرض، فيبسطها ويمدها مد الأديم العكاظي {لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه: 107] ".
وأما تبديل السموات فقال ابن الأنباري: باختلاف هيئتها كما ذكر الله(3/36)
أنها تكون مرة كالمهل، ومرة كالدهان.
قال ابن مسعود: تبدل بأرض كالفضة بيضاء نقية لم يسفك فيها دم، ولم يعمل عليها خطيئة.
وهذا قول الكلبي، وعطاء، عن ابن عباس، وأكثر المفسرين.
{وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48] كقوله: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا} [إبراهيم: 21] .
وترى المجرمين قال ابن عباس: يريد الذين أجرموا، زعموا أن لله ولدا وشريكا.
{يَوْمَئِذٍ} [إبراهيم: 49] يوم القيامة، مقرنين يقال: قرنت الشيء بالشيء إذا وصلته به، وجاء ههنا على التشديد، لكثرة أولئك القوم، قوله: في الأصفاد جمع الصفد، وهو القيد، قال عطاء: يريد سلاسل الحديد والأغلال.
وقال الكلبي: كل كافر مع شيطان في غل.
وقال ابن زيد: قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال.
سرابيلهم جمع سربال، وهو القميص، وقال الزجاج: هو كل ما لبس من قطران، وهو هناء الإبل، وهو شيء يتحلب من شجر، وجعلت سرابيلهم من قطران، لأنه أبلغ في اشتعال النار في جلودهم، {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم: 50] أي تعلوها.
{لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} [إبراهيم: 51] ليقع لهم الجزاء من الله بما كسبوا، يعني الكفار.
هَذَا يعني القرآن {بَلاغٌ لِلنَّاسِ} [إبراهيم: 52] أي أنزل، ليبلغوا، {وَلِيُنْذَرُوا بِهِ} [إبراهيم: 52] قال ابن عباس: ولتنذر قومك يا محمد، {وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [إبراهيم: 52] أي: بما فيه من الحجج التي تدل على وحدانيته، {وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} [إبراهيم: 52] وليتعظ أهل العقول والبصائر.(3/37)
سورة الحجر
مكية وآياتها تسع وتسعون.
503 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، نا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ الْحِيرِيِّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ الْحِجْرَ، أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، بِعَدَدِ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالْمُسْتَهْزِئِينَ» .
{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْءَانٍ مُبِينٍ {1} رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ {2} ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ {3} وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ {4} مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ {5} } [الحجر: 1-5] بسم الله الرحمن الرحيم الر قال أبو الضحى، عن ابن عباس: أنا الله أرى.
وقال عكرمة عنه: الر، وحم، وق حروف الرحمن مقطعة.
تلك هذه، {آيَاتُ الْكِتَابِ} [الحجر: 1] يعني القرآن، ثم ذكره، فقال: وقرءان مبين فجمع بين الوصفين لموصوف واحد، قوله: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحجر: 2] وقرئ بالتخفيف لما فيه من التضعيف، والحروف المضاعفة قد تخفف نحو: إن وأن ولكن، وقد خفف كل واحد من هذه الحروف، قال الزجاج: العرب تقول: رب رجل جاءني.
ويخففون فيقولون: رب رجل.
قال المفسرون: نزلت الآية في تمني الكفار الإسلام عند خروج من يخرج من النار من أهل الإسلام.
وهذا تفسير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما:
504 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أنا(3/38)
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا مَحْمُودُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ، نا أَبُو الشَّعْثَاءِ، نا خَالِدُ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ، وَمَعَهُمْ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ؛ قَالَ الْكُفَّارُ لِلْمُسْلِمِينَ: أَلَمْ تَكُونُوا مُسْلِمِينَ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالُوا: فَمَا أَغْنَى عَنْكُمْ إِسْلامُكُمْ وَقَدْ صِرْتُمْ مَعَنَا فِي النَّارِ، قَالُوا: كَانَتْ لَنَا ذُنُوبٌ فَأُخْذِنَا بِهَا، فَسَمِعَ اللَّهُ مَا قَالُوا، فَأَمَرَ اللَّهُ مَنْ كَانَ فِي النَّارِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ فَأُخْرِجُوا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْكُفَّارُ؛ قَالُوا: يَا لَيْتَنَا كُنَّا مُسْلِمِينَ فَنَخْرُجُ مِنَ النَّارِ كَمَا أُخْرِجُوا، قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْءَانٍ مُبِينٍ {1} رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ {2} } [الحجر: 1-2] .
505 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، نا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، نا عَبِيدَةُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَا يَزَالُ اللَّهُ يَشْفَعُ وَيُدْخِلُ الْجَنَّةَ، وَيَرْحَمُ، حَتَّى يَقُولَ: مَنْ كَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَدْخُلِ الْجَنَّةَ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2] .
قوله: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا} [الحجر: 3] يقول: دع الكفار يأخذوا حظوظهم من دنياهم فتلك خلاقهم.
وهذا كقوله: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} [الزخرف: 83] ، {وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ} [الحجر: 3] يشغلهم ما يأملون في دنياهم عن الأخذ بحظهم من الإيمان والطاعة، يقال: ألهاه الشيء أي شغله وأنساه.
فسوف يعلمون وعيد وتهديد، أي: فسوف يعلمون إذا وردوا القيامة وبال ما صنعوا.
{وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} [الحجر: 4] قال ابن عباس: يريد من أهل القرية.
{إِلا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} [الحجر: 4] أجل ينتهون إليه، يعني أن لأهل كل قرية أجلا مؤقتا لا يهلكهم حتى يبلغوه، {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ} [الحجر: 5] من زائدة، كقولك: ما جاءني من.
أجلها ما ضرب لها من الوقت، وما يستأخرون لا يتأخرون عنه، وهذا كقوله: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} [يونس: 49] .
قوله: {وَقَالُوا يَأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ {6} لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ {7} مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ {8} إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ {9} وَلَقَدْ(3/39)
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ {10} وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ {11} كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ {12} لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ {13} وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ {14} لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ {15} } [الحجر: 6-15] {وَقَالُوا يَأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} [الحجر: 6] أي القرآن، قال عطاء، عن ابن عباس: هذا استهزاء منهم، لو أيقنوا أنه أنزل عليه الذكر ما قالوا: إنك لمجنون.
{لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ} [الحجر: 7] قال الفراء: لولا ولوما لغتان، معناهما هلا.
قال ابن عباس: أفلا جئتنا بالملائكة حتى نصدقك؟ قال الله تعالى جوابا لهم: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ} [الحجر: 8] أي: إذا نزل الملائكة وجب العذاب من غير تأخير ولا إنظار.
قال ابن عباس: إذا نزلت الملائكة، لم ينظروا، ولم يمهلوا.
وهو قوله: {وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ} [الحجر: 8] .
قوله: إنا نحن هذا من كلام الملوك، الواحد منهم إذا فعل شيئا قال: نحن فعلنا.
يريد نفسه وأتباعه، ثم صار هذا عادة الملك في خطابه، وإن انفرد بفعل الشيء قال: نحن فعلنا.
فخوطبت العرب بما يعقل من كلامها، وقوله: {نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر: 9] يعني القرآن، {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] قال قتادة: لا يستطيع إبليس أن يزيد فيه باطلا ولا ينقص منه حقا، حفظه الله من ذلك.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} [الحجر: 10] أي رسلا، فحذفت المفعول الدلالة الإرسال عليه، {فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ} [الحجر: 10] قال الحسن، والكلبي: في فرق الأولين.
وقال عطاء، عن ابن عباس: في الأمم الأولين.
قال الفراء: الشيعة الأمة لمتابعة بعضهم بعضها فيما يجتمعون عليه من أمر.
{وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الحجر: 11] يعني كما استهزأ به قومك، وهذا تعزية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودلالة أن كل واحد من الرسل كان مبتلى بقومه.
{كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ} [الحجر: 12] قال الزجاج: كما فعل بالمجرمين الذين استهزءوا، نسلك الضلال في قلوب المجرمين.
والسلك: إدخال الشيء في الشيء.
قال ابن عباس، والحسن: نسلك الشرك في قلوب المكذبين.
ثم أخبر عن هؤلاء المشركين أنهم لا يؤمنون، فقال: {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ} [الحجر: 13] بالرسول وبالقرآن، {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [الحجر: 13] مضت سنة الله بإهلاك من كذب الرسول في القرون الماضية، وهذا تهديد لكفار مكة، ثم أخبر أنهم إذا وردت عليهم الآية بالمعجزة قالوا سحر، فقال: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ} [الحجر: 14] يقال: ظل كذا(3/40)
إذا فعله بالنهار، والعروج الصعود.
يقال: عرج يعرج عروجا.
يقول: لو كشف لهؤلاء عن أبصارهم حتى يعاينوا بابا في السماء مفتوحا تصعد فيه الملائكة لصرفوا ذلك إلى أنهم سحروا، وهو قوله: {لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} [الحجر: 15] قال مجاهد: سدت بالسحر، فيخايل لأبصارنا غير ما نرى.
وأصله من السكر وهو سد الشق لئلا ينفجر الماء، فكأن الأبصار منعت من النظر كما يمنع الماء من الجري، والتشديد لذكر الأبصار، {بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر: 15] سحرنا محمد، فنحن نرى ما لا حقيقة له.
{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ {16} وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ {17} إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ {18} وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ {19} وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ {20} وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ {21} وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ {22} وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ {23} وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ {24} وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ {25} } [الحجر: 16-25] {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} [الحجر: 16] قال ابن عباس: يريد بروج الشمس والقمر، يعني منازلهما.
وزيناها بالشمس والقمر والنجوم، للناظرين للمعتبرين بها والمستدلين على توحيد صانعها.
{وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [الحجر: 17] معنى الرجم في اللغة الرمي بالحجارة، ثم قيل للعنِ والطردِ والإبعادِ رَجْمٌ، لأن الرمي بالحجارة يوجب هذه المعاني، والرجيم: الملعون المطرود المبعد.
وقال أبو عبيدة: الرجيم المرجوم بالنجوم.
بيانه قوله: رجوما للشياطين قال ابن عباس: كانت الشياطين لا تحجب عن السموات، وكانوا يدخلونها ويتحرون أخبارها، فلما ولد عيسى منعوا من ثلاث سموات، فلما ولد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منعوا من السموات كلها، فما منهم من أحد يريد استراق السمع إلا رمي بشهاب.
فذلك قوله: {إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} [الحجر: 18] وذلك أن المارد من الشياطين يعلو لاستراق السمع، فيرمى بالشهاب، وهو قوله: فأتبعه أي لحقه، شهاب مبين شعلة نار ظاهرة(3/41)
لأهل الأرض، ونحن في رأي العين نرى كأنهم يرمون النجوم، فيجوز أن يكون ذلك كما نرى، ثم يصير نارا إذا أدرك الشيطان، ويجوز أنهم يرمون بشعلة نار من الهواء، ولكن لبعده عنا يخيل إلينا أنه نجم.
والأرض مددناها بسطناها على وجه الماء، {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} [الحجر: 19] وهي الجبال الثوابت، {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} [الحجر: 19] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد الثمار مما يكال أو يوزن.
وقال الكلبي: وأنبتنا في الجبال من كل شيء موزون من الذهب والفضة، والنحاس والحديد، والرصاص والكحل، والزرنيخ، وكل شيء يوزن وزنا.
{وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} [الحجر: 20] من الثمار والحبوب، {وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} [الحجر: 20] يعني: العبيد والدواب والأنعام، يرزقهم الله ولا ترزقونهم.
وقال الكلبي: يعني الوحش والطير.
{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ} [الحجر: 21] أي من المطر في قول عامة المفسرين، وذلك أنه سبب الرزق والمعاش، ولما ذكر أنه يعطيهم المعاش، بَيَّنَ أن خزائن المطر الذي هو سبب المعاش عنده، أي في أمره وحكمه وتدبيره، {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر: 21] يعني أن الله تعالى ينزل المطر كل عام بقدر معلوم، ولا ينقصه ولا يزيده، غير أنه يصرفه إلى من شاء حيث شاء، يمطر قوم ويحرم آخرون، وربما كان في البحر.
قوله: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر: 22] قال ابن عباس، والمفسرون: يعني للشجر والسحاب.
قال ابن مسعود: يبعث الله الرياح لتلقح السحاب، فتحمل الماء وتمجه في السحاب، ثم تمر به، فتدر كما تدر اللقحة، ولواقح ههنا بمعنى ملاقح، جمع ملقحة، فحذفت الميم وَرُدَّتْ إلى الأصل الثلاثي، كما يقال: أبقل النبت فهو باقل، يجعلونه بدلا من مبقل.
وقال ابن الأنباري: الريح اللاقح التي تحمل الماء والسحاب.
وهذا قول الفراء، وابن قتيبة، واختيار الأزهري، قالوا: جعل الله الريح هي التي تلقح بمرورها على التراب والماء، فيكون فيها اللقاح.
وقال رجل: كنت جالسا عند ابن مسعود فهاجت ريح، فقال رجل: اللهم العنها.
فقال عبد الله: لا، مَه، فإنها نذور مبشرات ولواقح، ولكن سَلِ اللهَ من خيرها، وتعوذ به من شرها.
وقوله: فأسقيناكموه يقال: سقيته حتى روي، وأسقيته نهرا جعلته شربا له.
ومعنى فأسقيناكموه جعلناه سقيا لكم، {وَمَا أَنْتُمْ لَهُ} [الحجر: 22] لذلك الماء المنزل من السماء، بخازنين بحافظين، يقول: ليست خزانته بأيديكم.
{وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} [الحجر: 23] إذا مات جميع(3/42)
الخلائق لم يبق حيا سواه، كقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ} [مريم: 40] الآية.
{وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} [الحجر: 24] استقدم أي تقدم، وضده استأخر أي تأخر.
506 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ نَصْرُ بْنُ بَكْرٍ الْوَاعِظُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أنا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، نا نُوحُ بْنُ قَيْسٍ، نا عَمْرُو بْنُ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَتْ تُصَلِّي خَلْفَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ فِي آخِرِ النِّسَاءِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَتَقَدَّمُ فِي الصَّفِّ الأَوَّلِ لِئَلا يَرَاهَا، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَكُونُ فِي آخِرِ الصَّفِّ، فَإِذَا رَكَعَ؛ قَالَ هَكَذَا وَنَظَرَ مِنْ تَحْتِ إِبْطِهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ.
رَوَاهُ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي (صَحِيحِهِ) ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نُوحِ بْنِ قَيْسٍ، وَقَالَ الرَّبِيعُ: حَضَّ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى الصَّفِّ الأَوَّلِ فِي الصَّلاةِ، فَازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ، وَاخْتَارَ الْفَرَّاءُ هَذَا الْقَوْلَ
وقال: معنى ولقد علمنا أي: وإنا نعلم جميعهم، فنجزيهم على نياتهم.
وقال الحسن، وعطاء: يعني المتقدمين في طاعة الله والمتأخرين عنها.
وقال قتادة، ومجاهد: يعني من مضى من الأمم السالفة ومن بقي، وهم أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يدل على هذا قوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ} [الحجر: 25] .
يجمعهم للحساب، {إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الحجر: 25] وقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ {26} وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ {27} وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ {28} فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ {29} فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ {30} إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ {31} قَالَ(3/43)
يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ {32} قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ {33} قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ {34} وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ {35} قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ {36} قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ {37} إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ {38} قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ {39} إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ {40} قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ {41} إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ {42} وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ {43} لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ {44} إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ {45} ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنْينَ {46} وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ {47} لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ {48} } [الحجر: 26-48] {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ} [الحجر: 26] يعني آدم، من صلصال وهو طين يصلصل إذا نقر عليه، يقال: صل الحديد وصلصل إذا صوت.
قال ابن عباس في رواية الوالبي: الصلصال الطين اليابس.
وقال في رواية إسرائيل: الصلصال الذي إذا قرع صوت.
507 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، نا يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: خُلِقَ آدَمُ مِنْ أَدِيمِ الأَرْضِ، فَأُلْقِيَ عَلَى الأَرْضِ حَتَّى صَارَ طِينًا لازِبًا، وَهُوَ الطِّينُ الْمُلْتَزِقُ، ثُمَّ تُرِكَ، حَتَّى صَارَ حَمَأً مَسْنُونًا، وَهُوَ الْمُنْتِنُ، ثُمَّ خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، فَكَانَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مُصَوَّرًا، حَتَّى يَبِسَ فَصَارَ صَلْصَالا كَالْفُخَّارِ إِذَا ضُرِبَ عَلَيْهِ صَلْصَلَ، فَذَلِكَ الصَّلْصَالُ وَالْفُخَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ
وقوله: {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 26] الحمأ الطين الأسود المنتن، والمسنون المتغير الرائحة، يقال: سن الماء فهو مسنون، أي تغير.
وقال سيبويه: المسنون المصور على صورة، ومثال من سنة الوجه وهي صورته.
قوله: والجان خلقناه قال عطاء، والحسن، وقتادة، ومقاتل: يريد إبليس.
وقال عامة المفسرين: الجان أبو الجن، سمي جانا لتوريته عن الأعين، يقال: جن الشيء إذا ستره.
فالجان يستر نفسه عن أعين بني آدم، وقوله: من قبل يعني من قبل خلق آدم، {مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر: 27] قال الكلبي: هي نار لا دخان لها، والصواعق تكون منها.
قال ابن مسعود: من نار الريح الحارة،(3/44)
قال: وهذه السموم جزء من سبعين جزءا من السموم التي خلق منها الجان، وتلا هذه الآية.
ومعنى السموم في اللغة: الريح الحارة وفيها نار، وفي الخبر: «إنها من لفح جهنم» .
وقوله: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} [الحجر: 29] أي: عدلت صورته وسويته بالصورة الإنسانية، {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29] النفخ إجراء الريح في الشيء، والروح جسم رقيق يحيا به البدن، ولما أجرى الله الروح في بدن آدم على صفة إجراء الريح، كان قد نفخ الروح فيه، وأضاف روح آدم إليه إكراما وتشريفا، وهي إضافة الملك، وقوله: فقعوا أمر من الوقوع، قال الكلبي: فَخَرُّوا له ساجدين سجود، تحية، ولم تكن سجدة طاعة.
{فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] قال سيبويه: توكيد بعد توكيد.
وما بعد هذا مفسر فيما سبق إلى قوله: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ} [الحجر: 35] قال الكلبي: يلعنك أهل السماء وأهل الأرض إلى يوم الحساب، لأنه أول من عصى الله.
قال ابن عباس: يريد يوم الجزاء حين يجازى العباد بأعمالهم.
فاستنظر إبليس إلى يوم القيامة لئلا يموت إذ يوم القيامة لا يموت فيه أحد، فلم يجب إلى ذلك.
وقيل له: {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [الحجر: 38] قال ابن عباس: يريد النفخة الأولى حين تموت الخلائق كلهم.
قال الكلبي: إذا نفخت النفخة الأولى مات الخلائق كلهم، ومات إبليس معهم، وإنما سمي الوقت المعلوم لأنه يموت فيه الخلائق وإبليس.
{قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر: 39] قال أبو عبيدة: معنى الباء ههنا القسم.
وقال غيره: هي بمعنى السبب، أي بكوني غاويا لأزينن، كما تقول: بطاعته ليدخلن الجنة، وبمعصيته ليدخلن النار.
ومعنى {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} [الحجر: 39] يعني لأولاد آدم، ومفعول التزيين محذوف على تقدير لأزينن لهم الباطل حتى يقعوا فيه.
{إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 40] الذين أخلصوا دينهم وعبادتهم عن كل شائب يناقض الإيمان والتوحيد، فقال الله: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} [الحجر: 41] يعني الإخلاص والإيمان، طريق عليَّ وإليَّ، أي أنه يؤدي إلى جزائي وكرامتي، فهو طريق عليَّ، وهذا معنى قول مجاهد: الحق يرجع إلى الله، وعليه طريقه، لا يعرج على شيء.
{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] قال ابن عباس: اختار الله عبادا فأخبر إبليس أنه ليس له عليهم سلطان، أي قوة وحجة في إغوائهم ودعائهم إلى الشرك والضلال.
ثم أوعد من اتبعه فقال: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 43] قال ابن عباس: يريد إبليس ومن اتبعه من الغاوين.
{لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} [الحجر: 44] قال: سبعة أطباق، طبق(3/45)
فوق طبق.
وقال عليٌّ بن أبي طالب: إن الله وضع النيران بعضها فوق بعض، فأبوابها كإطباق اليد على اليد.
{لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ} [الحجر: 44] من أتباع إبليس، جزء مقسوم والجزء بعض الشيء والجمع أجزاء، قال الضحاك: هي سبعة أدراك بعضها فوق بعض، وأعلاها فيه أهل التوحيد، يعذبون على قدر ذنوبهم ثم يخرجون، والثاني فيه للنصارى، والثالث فيه اليهود، والرابع فيه الصائبون، والخامس فيه المجوس، والسادس فيه مشركو العرب، والسابع فيه المنافقون.
قوله: إن المتقين قال الكلبي: إن المتقين للفواحش والكبائر.
{فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الحجر: 45] يعني عيون الماء والخمر، ويقال لهم: ادخلوها بسلام أي بسلامة، قال ابن عباس: سلموا من سخط الله.
{آمِنْينَ} [الحجر: 46] أمنوا عذاب الله والموت.
{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الحجر: 47] مفسر في { [الأعراف، إخوانا متوادين على سرر جمع سرير، قال ابن عباس: على سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت، السرير مثل ما بين عدن إلى أيلة.
متقابلين لا يرى بعضهم قفا بعض، حيثما التفت رأى وجها يحبه يقابله.
] لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ} [سورة الحجر: 48] لا يصيبهم في الجنة إعياء وتعب، قال ابن عباس: مثل نصب الدنيا إذا مشى نصب، وإذا جامع نصب، {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48] يريد خلودا لا زوال فيه.
{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {49} وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ {50} وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ {51} إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ {52} قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ {53} قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ {54} قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ {55} قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ {56} قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ {57} قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ {58} إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ {59} إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ {60} } [الحجر: 49-60] نبئ عبادي أخبرهم، {أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ} [الحجر: 49] لأوليائي، الرحيم بهم.
{وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر: 50] لأعدائي.
508 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، نا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَرَّاقُ، نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَوَّارٍ، أنا مَرْوَانُ الْعُثْمَانِيُّ، نا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنِ الْعَلاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ(3/46)
الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ مَا طَمِعَ بِجَنَّتِه أَبَدًا، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ رَحْمَتِهِ أَبَدًا»
509 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ أَبِي عَمْرٍو الْمُزَكِّي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مَكِّيٍّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، نا قُتَيْبَةُ، نا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " لَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ؛ لَمْ يَيْئَسْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ؛ لَمْ يَيْئَسْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعَذَابِ؛ لَمْ يَأْمَنْ مِنَ النَّارِ
قوله: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ} [الحجر: 51] هذه القصة مضى ذكرها في { [هود، والضيف في الأصل مصدر، ولذلك وحد في اللفظ، وإن كانوا جماعة.
] إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا} [سورة الحجر: 52] أي سلموا سلاما، فقال إبراهيم: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} [الحجر: 52] الوجل الفزع، وجل يوجل وجلا فهو وجل.
{قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الحجر: 53] .
{قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ} [الحجر: 54] أي: على حالة الكبر والهرم، فبم تبشرون استفهام تعجب، كأنه عجب من الولد على كبره، وقرأ نافع تبشرون بكسر النون، أراد تبشرونني، فحذف النون الثانية وأبقى الكسرة التي تدل على الياء، وابن كثير أدغم ولم يحذف.
{قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ} [الحجر: 55] بما قضاه الله أنه كائن، {فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ} [الحجر: 55] من الآيسين، والقنوط: اليأس من الخير.
{قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ} [الحجر: 56] وقرئ يقنط بفتح النون، وهما لغتان: قنط يقنط، وقنط يقنط قنوطا وقنطا.
قال ابن عباس: يريد ومن ييئس من رحمة ربه إلا المكذبون.
وهذا يدل على أن إبراهيم لم يكن قانطا، ولكنه استبعد ذلك، فظنت الملائكة به قنوطا، فنفى ذلك عن نفسه وأخبر أن القانط من رحمة الله ضال.
{قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ} [الحجر: 57] قال الكلبي: فما بالكم؟ وما الذي جئتم به؟ {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} [الحجر: 58] يعنون قوم لوط، {إِلا آلَ لُوطٍ} [الحجر: 59] استثناء ليس من الأول، وآل لوط هم أتباعه والذين كانوا على دينه، {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ {59} إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ {60} } [الحجر: 59-60] قضينا أنها تبقى مع من يبقى ويتخلف حتى تهلك كما يهلكون، وقرأ عاصم قدرنا(3/47)
مخففة، يقال: قدرت الشيء وقدرته، ونحو هذا قوله: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} [الواقعة: 60] قرئ بالوجهين، وقوله: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 3] .
وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: {فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ {61} قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ {62} قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ {63} وَأَتَيْنَاكَ بَالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ {64} فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ {65} وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ {66} } [الحجر: 61-66] {قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ} [الحجر: 63] أي: بالعذاب الذي كانوا يشكون في نزوله.
وأتيناك بالحق أي بالأمر الثابت الذي لا شك فيه من عذاب قومك.
فأسر بأهلك مفسر في { [هود، إلى قوله:] وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} [سورة الحجر: 65] قال ابن عباس: يعني الشام.
وقال المفضل: حيث يقول لكم جبريل.
وقال الكلبي: أمرهم جبريل أن يمضوا إلى صفر إحدى قرى قوم لوط.
وقضينا إليه أي: أوحينا إليه وألهمناه، وقال ابن قتيبة: أخبرناه، كقوله: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ} [الإسراء: 4] أي أخبرناهم.
وقوله: {ذَلِكَ الأَمْرَ} [الحجر: 66] أي الأمر بهلاك قومه، قال الزجاج: موضع أن نصب، وهو بدل من قوله: {ذَلِكَ الأَمْرَ} [الحجر: 66] لأنه فسر الأمر بقوله: أن دابر.
والمعنى: وقضينا إليه، {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ} [الحجر: 66] أي: آخر من يبقى منهم يهلك وقت الصبح، وهو قوله: مصبحين أي: داخلين في وقت الصبح.
{وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ {67} قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ {68} وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ {69} قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ {70} قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ {71} لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ {72} فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ {73} فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ {74} إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ {75} وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقيمٍ {76} إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ {77} } [الحجر: 67-77] قوله: {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ} [الحجر: 67] يعني مدينة قوم لوط، وهي سذوم، يستبشرون يفرحون بعملهم الخبيث طمعا منهم في ركوب الفاحشة، فقال لهم لوط لما قصدوا أضيافه: {إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ} [الحجر: 68] .(3/48)
يقال: فضحه يفضحه إذ أبان من أمره ما يلزمه به العار.
والمعنى: لا يفضحون بقصدكم إياهم بالسوء، فيعلموا أنه ليس لي عندكم قدر.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ} [الحجر: 69] مذكور في { [هود، فقالوا له:] أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} [سورة الحجر: 70] أي: عن ضيافة العالمين، والمعنى: أولم ننهك عن أن تدخل أحدا بيتك، لأنا نريد منه الفاحشة، فقال لهم لوط: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الحجر: 71] أي: إن كنتم فاعلين لهذا الشأن، فعليكم بالتزوج ببناتي، ومضى الكلام في هذا.
قوله لعمرك العَمر والعُمر واحد، فإذا أقسموا فتحوا العين لا غير، قال الزجاج: لأن الفتح أخف عليهم، وهم يكثرون القسم بلعمري، فلزموا الأخف.
قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد وعيشك يا محمد.
510 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمُقْرِئُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيُّ، نا الْعَبَّاسُ الدُّورِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو عَتَّابٍ سَهْلُ بْنُ حَمَّادٍ، نا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَا خَلَقَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، وَلا ذَرَأَ وَلا بَرَأَ نَفْسًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ، صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا سَمِعْتُ اللَّهَ أَقْسَمَ بِحَيَاةِ أَحَدٍ إِلا بِحَيَاتِهِ، قَالَ: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}
وقوله: {إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] قال عطاء: يريد أن قومك في ضلالتهم يتمادون.
وقال عامة المفسرين: يعني قوم لوط.
{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} [الحجر: 73] يعني صيحة العذاب.
قال المفسرون: صاح بهم جبريل صيحة أهلكتهم.
وقوله: {مُشْرِقِينَ} [الحجر: 73] يقال: أشرق القوم إذا دخلوا في وقت شروق الشمس، مثل أصبحوا وأمسوا.
والمعنى أن العذاب أتاهم في شروق الشمس، يقال: إن أول العذاب كان مع طلوع الصبح، ثم امتد إلى شروق الشمس، لذلك قال: مصبحين، ثم قال: مشرقين.
{فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [الحجر: 74] مفسر في { [هود.
] إِنَّ فِي ذَلِكَ} [سورة الحجر: 75] يعني فيما فعل بقوم لوط، {لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75] يقال: توسمت في فلان خيرا إذا رأيت أثره فيه.
والمتوسم: الناظر في السمة الدالة على الشيء.
قال عطاء، عن ابن عباس: للمتفرسين.
وقال الضحاك: للناظرين.
قال مقاتل: للمتفكرين.
وقال قتادة: للمعتبرين.(3/49)
511 - أَخْبَرَنَا أَبُو حَسَّانٍ الْمُزَكِّي، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الزُّهْرِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَيُّوبَ، نا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَرْمِيُّ، نا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ وَاصِلٍ، نا أَبُو بِشْرٍ الْمُزَلِّقُ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا يَعْرِفُونَ النَّاسَ بِالتَّوَسُّمِ»
قوله: وإنها يعني مدينة قوم لوط، لبسبيل مقيم بطريق واضح لا يندر ولا يخفى، قال ابن عباس: على طريق قومك إلى الشام.
والمعنى أن الاعتبار بها ممكن.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 77] لعبرة للمصدقين، يعني أن المؤمنين اعتبروا وصدقوا.
{وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ {78} فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ {79} وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ {80} وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ {81} وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ {82} فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ {83} فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ {84} } [الحجر: 78-84] قوله: {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ} [الحجر: 78] معنى إن واللام التوكيد، وإن ههنا مخففة من الثقيلة، والأيكة والأيك: الشجر الملتف، قال المفسرون: قوم شعيب كانوا أصحاب غياض، فكذبوا شعيبا، فأهلكوا بعذاب يوم الظلة.
وهو قوله: فانتقمنا منهم قال المفسرون: أخذهم الحر أياما، ثم اضطرم عليهم المكان نارا فهلكوا.
وقوله: وإنهما يعني الأيكة ومدينة قوم لوط، لبإمام مبين بطريق واضح، وسمي الطريق إماما لأنه يؤم ويتبع.
قوله: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} [الحجر: 80] يعني ثمود، وكانت مساكنهم تسمى الحجر.
{وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا} [الحجر: 81] قال ابن عباس: يريد الناقة، وكان في آيات خروجها من الصخرة، ودنو نتاجها عند خروجها، وعظم خلقها حتى لم تشبهها ناقة، وكثرة لبنها حتى كان يكفيهم جميعا.
{فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [الحجر: 81] لم يتفكروا فيها، ولم يستدلوا بها.
{وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} [الحجر: 82] ذكرنا(3/50)
ذلك في { [الأعراف، وقوله:] آمِنِينَ} [سورة الحجر: 82] قال الفراء: آمنين من أن تقع عليهم.
{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ} [الحجر: 83] أتتهم صيحة عظيمة، فماتوا عن آخرهم في وقت الصبح.
وهذا مما قد تقدم في { [الأعراف.
وقوله:] فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ} [سورة الحجر: 84] أي: ما دفع عنهم العذاب، {مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الحجر: 84] من الأموال والأنعام.
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ {85} إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ {86} وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيمَ {87} لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ {88} وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ {89} كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ {90} الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْءَانَ عِضِينَ {91} فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ {92} عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ {93} فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ {94} إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ {95} الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ {96} وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ {97} فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ {98} وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ {99} } [الحجر: 85-99] {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ} [الحجر: 85] أي: للحق وإظهار الحق، وهو الثواب للمصدق، والعقاب للمكذب، {وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ} [الحجر: 85] وإن القيامة لتأتي، فيجازى المشركون بقبح أعمالهم، {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85] أعرض عنهم إعراضا بغير جزع، وهذا منسوخ بآية القتال.
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ} [الحجر: 86] خالق كل شيء، العليم بما خلق.
قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر: 87] واحد المثاني مثناة، وهي كل شيء يثنى، أي يجعل اثنين، وأكثر أهل التفسير على أن المراد بالسبع المثاني فاتحة الكتاب، وهو قول عمر، وعليّ، وابن مسعود، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والربيع، والكلبي، وروي ذلك مرفوعا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
512 - أَخْبَرَنَاهُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ الصُّوفِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ، نا الْحُسَيْنُ بْنُ مُوسَى بْنِ خَلَفٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْهَيْثَمِ الْبَلَدِيُّ، نا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، نا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ آدَمَ، وَإِنَّمَا(3/51)
سُمِّيَتِ الْفَاتِحَةُ السَّبْعَ الْمَثَانِيَ؛ لأَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ وَهِيَ تُثَنَّى فِي كُلِّ صَلاةٍ بِإِعَادَتِهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ
وقال الزجاج: ويجوز أن يكون من المثاني مما أثني به على الله، لأن فيها حمد الله وتوحيده، وذكر ملكه يوم الدين، المعنى: ولقد آتيناك سبع آيات من جملة الآيات التي يثنى بها على الله.
وهذه الآية تدل على فضيلة الفاتحة لأن الله تعالى امتن على رسوله بهذه ال { [، كما امتن عليه بجميع القرآن، حيث فصل هذا من القرآن بالذكر، ثم ذكر القرآن بعده، فقال: والقرءان العظيم أي: العظيم القدر، لأنه كلام الله ووحيه وتنزيله، ولما ذكر منته عليه بالقرآن، نهاه عن النظر إلى الدنيا، فقال:] لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} [سورة الحجر: 88] أي: أصنافا من المشركين واليهود، قال ابن عباس: «نهى اللهُ رسولَه عن الرغبة في الدنيا، فحظر عليه أن يمد عينيه إليها رغبة فيها، فكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ينظر إلى ما يستحسن من الدنيا» .
{وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [الحجر: 88] قال الكلبي: على كفار قريش إن لم يؤمنوا ونزل بهم العذاب.
{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88] ألن لهم جانبك، قال ابن عباس: ارفق بهم، ولا تغلظ عليهم.
والعرب تقول: فلان خافض الجناح إذا كان وقورا ساكنا.
{وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} [الحجر: 89] قال ابن عباس: أنذركم بسخط الله وعذابه، وأبين لكم ما يقربكم إلى الله.
كما أنزلنا ويجوز أن يكون المعنى أني أنذركم ما أنزلنا، وتكون الكاف زائدة، وقوله: على المقتسمين يعني الذين اقتسموا طرق مكة يصدون الناس عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والإيمان به، قال مقاتل: كانوا ستة عشر رجلا بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم يقولون لمن أتى مكة: لا تغتروا بالخارج منا والمدعي النبوة فإنه مجنون.
فأنزل الله بهم عذابا فماتوا شر ميتة.
ثم وصفهم فقال: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْءَانَ عِضِينَ} [الحجر: 91] قال ابن عباس: جزءوه أجزاء، فقالوا: سحر.
وقالوا: أساطير الأولين.
وقالوا: مفترى.
وعضين جمع عضة، مثل عزة وعزين من عضيت الشيء إذا مزقته، وكل قطعة عضة، والمعنى أنهم فرقوا القول في القرآن، حيث اختلفت في وصفة أقوالهم.
قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ {92} عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ {93} } [الحجر: 92-93] قال الكلبي: عن ترك لا إله إلا الله والإيمان برسله، وهذا السؤال سؤال توبيخ، يسألون يوم القيامة، فيقال لهم: لم عصيتم الرسل، وتركتم الإيمان؟ فيظهر خزيهم وفضيحتهم عند تعذر الجواب.
وقال أبو العالية:(3/52)
يسأل العباد كلهم يوم القيامة، عن خلتين عما كانوا يعبدون، وماذا أجابوا المرسلين.
وأما قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ} [الرحمن: 39] الآية، أي: لا يسألون سؤال استفهام ليعلم ذلك من جهتهم.
قوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] قال الزجاج: يقول أظهر ما تؤمر به، أخذ من الصديع وهو الصبح.
وقال المفسرون: اجهر بالأمر أي بأمرك، يعني إظهار الدعوة، وما زال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مستخفيا حتى نزلت هذه الآية، {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] لا تبال بهم ولا تلتفت إلى لومهم إياك على إظهار الدعوة.
{إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95] الذين كانوا يستهزئون بك وبالقرآن، وكانوا جماعة يؤذون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، وأبو زمعة، وهو الأسود بن المطلب، والحارث بن عيطلة، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن عدي، فأومأ جبريل بإصبعه إلى ساق الوليد، وإلى عيني أبي زمعة، وإلى رأس الأسود، وإلى بطن الحارث، وقال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كفيت أمرهم» .
فمر الوليد على قين لخزاعة، وهو يجر ثيابه، فتعلقت بثوبه شوكة، فمنعه الكبر أن يخفض رأسه فينزعها، وجعل يضرب ساقه فخدشته، فلم يزل مريضا حتى قطع إنسياه، فلم يزل حتى مات، ووطئ العاص على شبرقة، فحكت رجله، فلم يزل يحكها حتى مات، وعمي أبو زمعة، وأخذت الأكلة في رأس الأسود، وأخذ الحارث الماء في بطنه فمات خبثا، يعني استسقاء.
ثم وصفهم بالشرك، فقال: {الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 96] وعيد لهم وتهديد.
ثم عزى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الحجر: 97] من تكذيبك والاستهزاء بك.
{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [الحجر: 98] قال الضحاك: قل سبحان الله وبحمده.
{وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 98] قال ابن عباس: من المصلين.
وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] قال جماعة المفسرين: يعني الموت، وسمي الموت(3/53)
يقينا لأنه موقن به.
قال قتادة: اليقين الموت، وعند الموت والله يقين من الخير والشر.
قال الزجاج: المعنى اعبد ربك أبدا، لأنه لو قيل: اعبد ربك بغير توقيت، لجاز إذا عبد الإنسان مرة أن يكون مطيعا، فإذا قال: حتى يأتيك اليقين، فقد أمر بالإقامة على العبادة أبدا ما دام حيا.
513 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ حَيَّانَ، نا أُمَيَّةُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّوَّافُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الأَزْدِيُّ، نا الْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ مُسْلِمٍ الْخَوْلانِيِّ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ أَجْمَعَ الْمَالَ وَأَكُونَ مِنَ التَّاجِرِينَ، وَلَكِنْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ {98} وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}(3/54)
سورة النحل
مكية وآياتها ثمان وعشرون ومائة.
514 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِيرِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ الْكُوفِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَنْ قَرَأَ سُورَةَ النَّحْلِ لَمْ يُحَاسِبْهُ اللَّهُ بِالنَّعِيمِ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَأُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ كَالَّذِي مَاتَ فَأَحْسَنَ الْوَصِيَّةَ "
{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ {1} يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ {2} } [النحل: 1-2] بسم الله الرحمن الرحيم {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1] أي: عذابه لمن أقام على الشرك، وتكذيب رسوله، وهو الأمر بالسيف، {فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1] لا تطلبوه قبل حينه، وهذا كما تقول لمن يطلب أمرا يستعجل فيه: أتاك الأمر فلا تستعجل.
وقال جماعة من المفسرين: أمر الله ههنا الساعة.
وذلك أنهم استبطأوا أمر الساعة، فأعلم الله أن ذلك عنده في القرب بمنزلة ما قد أتى، كما قال: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1] .
سبحانه تنزيها له وبراءة من السوء، وتعالى ارتفع بصفات المدح، {عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل: 1] به من الأصنام، أي أنها ليست شركاء لهم لأنهم لا يخلقون شيئا.
قوله: ينزل الملائكة قال ابن عباس: يريد جبريل وحده، {بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} [النحل: 2] بالوحي، وهو كلام الله، سمي روحا لأنه حياة من موت الكفر، {عَلَى مَنْ يَشَاءُ(3/55)
مِنْ عِبَادِهِ} [النحل: 2] يريد النبيين الذين يختارهم بالرسالة، وقوله: {أَنْ أَنْذِرُوا} [النحل: 2] أي أهل الكفر بأنه {لا إِلَهَ إِلا أَنَا} [النحل: 2] أي: مروهم بتوحيدي، وأعلموهم ذلك مع تخويفهم لو لم يقروا.
ثم ذكر ما يدل على توحيده فقال: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ {3} خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ {4} وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ {5} وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ {6} وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ {7} وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ {8} } [النحل: 3-8] {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} [النحل: 3] الآية.
{خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} [النحل: 4] يعني أبي بن خلف، {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ} [النحل: 4] مخاصم، مبين ظاهر الخصومة، وذلك أنه خاصم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إنكار البعث.
والمعنى: أنه مخلوق من نطفة، ومع ذلك يخاصم وينكر البعث، أفلا يستدل بأوله على آخره، وأن من قدر على خلقه أولا، قادر على إعادته.
والأنعام خلقها يعني الإبل والبقر والغنم، ثم ابتدأ فقال: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} [النحل: 5] ويجوز أن يكون تمام الكلام عند قوله: لكم ثم يبتدئ فيقول: فيها دفء.
وهو ما يستدفأ به من الأكسية والأبنية من أوبارها وأشعارها وأصوافها، قال الأصمعي: الدف السخونة.
وقال الفراء: يقال: دفيت يدفأ دفاء ودفأ.
قوله: ومنافع يعني النسل والدر والركوب، ومنها تأكلون يريد من لحومها.
{وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} [النحل: 6] زينة، {حِينَ تُرِيحُونَ} [النحل: 6] تردونها إلى مراحها، وهو حيث تأوي إليه ليلا، {وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6] ترسلونها بالغداة إلى مراعيها، يقال: سرح القوم إبلهم سرحا.
قال قتادة: وأحسن ما تكون إذا راحت عظاما ضروعها، طوالا أسنمتها.
{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} [النحل: 7] جمع ثقل، وهو متاع المسافر، {إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأَنْفُسِ} [النحل: 7] قال ابن عباس: يريد من مكة إلى اليمن، وإلى الشام وإلى مصر.
هذا قوله، والمراد كل بلد لو تكلفتم بلوغه على غير الإبل شق عليكم، وخص ابن عباس اليمن والشام، لأن متاجر أهل مكة كانت إلى هذه الوجوه، والشق المشقة، معناه: إلا بجهد الأنفس، {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل: 7] بكم إذ من عليكم بالنعم التي فيها هذه المرافق.
قوله: والخيل أي وخلق الخيل، {وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] قال الزجاج: نصبها على أنها مفعول لها.
والمعنى: وخلقها للزينة، والآية لا تدل على تحريم لحوم الخيل وإن ذكرته مع البغال والحمير، لأن القصد بهذه الآية إظهار المنة، بأن خلق لنا من الحيوان ما نركبه ونتجمل به، ولحوم الخيل حلال بالسنة:(3/56)
515 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَكَرِيَّا الْحَافِظُ، أنا مَكِّيُّ بْنُ عَبْدَانَ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَاشِمٍ، نا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: أَكَلْنَا لَحْمَ الْفَرَسِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ هِشَامٍ
516 - أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْعَدْلُ، أنا أَبُو الْهَيْثَمِ الْمَرْوَزِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، نا مُسَدَّدٌ، نا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَ خَيْبَرَ، عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ، وَرَخَّصَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ»
وقوله: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8] قال ابن عباس: إن عن يمين العرش نهرا من نور مثل السموات السبع والأرضين السبع والبحار السبع، يدخل جبريل في كل بحر، فيغتسل، فيزداد نورا إلى نوره، وجمالا إلى جماله، ثم ينتفض فيخلق الله تعالى من كل نقطة تقع من ريشه كذا وكذا ألف ملك، يدخل منهم كل يوم سبعون ألف البيت المعمور، وفي الكعبة سبعون ألفا لا يعودون إليه إلى أن تقوم الساعة.
وقال آخرون: يعني ما أعد في الجنة لأهلها، وما أعد في النار لأهلها.
{وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ {9} هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ {10} يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {11} وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ {12} وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ {13} } [النحل: 9-13] قوله: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل: 9] القصد استقامة الطريق، يقال: طريق قصد وقاصد إذا قصد بك إلى ما تريد.
وقصد السبيل الإسلام، والمعنى أن قصد السبيل الذي هو الإسلام على الله أن يؤدي إلى رضا الله(3/57)
وثوابه وجزائه، قال مجاهد: وطريق الحق على الله.
وهذا كقوله: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} [الحجر: 41] .
قوله: {وَمِنْهَا جَائِرٌ} [النحل: 9] أي مائل عادل عن الحق، قال الكلبي: يعني اليهودية والنصرانية والمجوسية.
وقال ابن المبارك: يعني الأهواء والبدع.
ثم بين أن المشيئة إليه، فقال: {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل: 9] قال ابن عباس: لو شاء لأرشدكم كلكم حتى لا يختلف عليك يا محمد أحد.
قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ} [النحل: 10] تشربونه، ومنه شجر قال الزجاج: كل ما نبت على الأرض فهو شجر.
وقال ابن قتيبة: يعني الكلأ.
والمعنى أنه ينبت بالماء الذي ينزل من السماء ما ترعاه الرعية من دق الشجر وجلها، لأن الإبل ترعى جل الشجر، قوله: فيه أي في الشجر، {تُسِيمُونَ} [النحل: 10] يقال: أسمت الماشية إذا خليتها ترعى، وسامت هي إذا رعت، فهي سائمة.
قوله: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ} [النحل: 11] قال ابن عباس: يريد الحبوب.
والزيتون جمع زيتونة، يقال للشجرة نفسها: زيتونة، وباقي الآية وما بعدها ظاهر تقدم تفسيره، وأكثر القراء على نصب الشمس والقمر والنجوم، وهو الوجه لاستقامتها مع ما قبلها في المعنى، وإذا استقامت في معنى واحد استقامت في إعراب واحد.
وقوله: مسخرات حال مؤكدة، لأن تسخيرها قد عرف بقوله: وسخر.
وقرأها ابن عامر بالرفع، فابتدأ الشمس والقمر، وجعل مسخرات خبرا عنها، وقرأ حفص مسخرات بالرفع وحدها وجعلها خبر ابتداء محذوف كأنه قال: مسخرات.
قوله {وَمَا ذَرَأَ} [النحل: 13] أي: وسخر لكم ما خلق، لكم أي لأجلكم، يعني الدواب والشجر وغيرها، {مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} [النحل: 13] أي هيئته ومناظره.
{وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {14} وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ {15} وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ {16} } [النحل: 14-16] {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ} [النحل: 14] ذلك للركوب والغوص، {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14] يعني السمك، {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14] يريد الدر واللؤلؤ والمرجان، {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} [النحل: 14] شواق الماء بدفعه بصدرها، ومخر السفينة: شقها الماء بصدرها، {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [النحل: 14] يعني لتركبوه للتجارة فتطلبوا الربح من فضل الله.
{وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ} [النحل: 15] جبالا ثوابت، {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15] الميد الحركة والاضطراب، ماد يميد ميدا، قال ابن عباس: أوتدها بالجبال لئلا تميد بأهلها.
وأنهارا وجعل فيها أنهارا، النيل، والفرات، ودجلة،(3/58)
وسيحان، وجيحان، وسبلا طرقا إلى كل البلاد، لعلكم تهتدون لكي تهتدوا إلى مقاصدكم من البلاد، فلا تضلون.
وعلامات يعني الجبال، وهي علامات للطرق بالنهار كالنجوم بالليل، {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] أراد جميع النجوم، لأن بها يهتدون، وإلى الطرق والقبلة والبر والبحر.
ثم دل بهذه الأشياء التي خلقها على نفسه، فقال: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ {17} وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ {18} وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ {19} وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ {20} أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ {21} } [النحل: 17-21] أفمن يخلق يعني ما ذكر في هذه ال { [،] كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [سورة النحل: 17] يعني الأوثان وهي لا تخلق شيئا، {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17] يعني المشركين، يقول: أفلا تتعظون كما اتعظ المؤمنون؟ قوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] تقدم تفسيره، {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ} [النحل: 18] لما كان منكم من تقصير شكر نعمه، رحيم بكم حيث لم يقطعها عنكم بتقصيركم، وما بعد هذا ظاهر التفسير إلى قوله: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} [النحل: 21] يعني الأصنام التي كانوا يعبدونها، وهي موات لا روح لها، {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 21] الأصنام متى تبعث، قال ابن عباس: وذلك أن الله يبعث الأصنام لها أرواح ومعها شياطينها، فيتبرءون من عابديهم، ثم يؤمر بالشياطين والذين كانوا يعبدونها إلى النار.
ثم ذكر وحدانيته فقال: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ {22} لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ {23} } [النحل: 22-23] {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النحل: 22] وقد مضى بيانه في { [البقرة،] فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} [سورة النحل: 22] يعني بالبعث والثواب والعقاب، {قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ} [النحل: 22] جاحدة غير عارفة توحيد الله ولا القرآن، {وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 22] ممتنعون من قبول الحق.
لا جرم حقا، {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [النحل: 23] أي أنه يجازيهم بذلك، لأنه يعلمه، {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل: 23] لا يثيبهم، ولا يرضى عنهم.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ {24} لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ {25} قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ {26} ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ {27} الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {28} فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ {29} } [النحل: 24-29] {(3/59)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} [النحل: 24] لهؤلاء المنكرين، {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} [النحل: 24] ما الذي أنزل ربكم على محمد؟ {قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [النحل: 24] أي: الذي يذكرون أنه منزل أساطير الأولين، أي: أكاذيبهم وما سطروه في كتبهم من الأخبار والقصص.
ليحملوا أوزارهم هذه لام العاقبة، لأنهم لم يقولوا للقرآن: أساطير الأولين ليحملوا الأوزار، ولكن لما كانت عاقبتهم ذلك جاز أن يقال: فعلوا ذلك له، كقوله {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] .
وقوله: {كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النحل: 25] لأنهم لم يكفر عنهم شيء من ذنوبهم بما يصيبهم في الدنيا من نكبة وبلية كما يكفر عن المؤمنين ومن أوزار الذين يضلونهم لأنهم كانوا رؤساء يقتدى بهم في الضلال، فحمل عليهم من أوزار من اتبعهم، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أيما داع دعا إلى ضلالة، فاتبع، كان عليه مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» .
وقوله: بغير علم يعني أنهم يفعلون ذلك جهلا منهم بما يكتسبون من أوزارهم، ومثل أوزار من اتبعهم، ثم ذم صنيعهم، فقال: {أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25] بئس ما حملوا على ظهورهم.
قوله: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النحل: 26] يعني نمرود بن كنعان، بنى صرحا طويلا ورام منه الصعود إلى السماء ليقاتل أهلها بزعمه، ومعنى المكر ههنا التدبير الفاسد، قوله: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ} [النحل: 26] أي: أتى أمر الله، وهو الريح التي خربتها وحركتها، وقال المفسرون: أرسل الله ريحا، فألقت رأس الصرح في البحر، وخر عليهم الباقي.
وقوله: من القواعد قال الزجاج: من أساطير البناء التي تعمده.
{فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 26] سقط أعلى البيوت على أصحاب نمرود، {وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} [النحل: 26] من حيث ظنوا أنهم في أمان منه.
{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ} [النحل: 27] يذلهم ويهينهم بالعذاب، {وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ} [النحل: 27] قال الزجاج: هذه حكاية لقولهم، والله لا شريك له.
والمعنى: أين الذين في دعواكم أنهم شركائي؟ أي: أين هم لا يحضرونكم فيدفعوا عنكم العذاب؟ {الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} [النحل: 27] تخالفون المسلمين فيهم فتعبدونهم وهم يعبدون الله، وقرأ نافع بكسر النون أراد تشاقونني، فحذف إحدى النونين كما ذكرنا في قوله: فبم تبشرون، والمعنى: تنازعونني فيهم وتتخذونهم أولياء من دوني، ومعنى مخالفتهم الله في الشركاء: مخالفتهم أمر الله لأجلها، {قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [النحل: 27] قال ابن عباس: يريد الملائكة.
وقال غيره: هم المؤمنون، يقولون حين يرون خزي الكفار يوم القيامة.
{إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ} [النحل: 27] أي: الفضيحة والعذاب، على(3/60)
الكافرين لا علينا.
ثم وصفهم فقال: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النحل: 28] تقدم تفسيره، فألقوا السلم انقادوا وأقروا لله بالربوبية، أخبر الله عنهم بالمشاقة في الدنيا، وأخبر أنهم عند الموت ينقادون ويتبرءون من الشرك، وهو قوله: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} [النحل: 28] فقال الملائكة ردا عليهم: {بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 28] من التكذيب والشرك.
ثم يقال لهم: {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [النحل: 29] مقام المتكبرين عن توحيد الله وعبادته.
{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ {30} جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ {31} الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {32} } [النحل: 30-32] {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} [النحل: 30] قال المفسرون: كان هذا في أيام الموسم، يأتي الرجل مكة فيسأل المشركين عن محمد وأمره، فيقولون: إنه ساحر، وكاهن، وكذاب.
فيأتي المؤمنين ويسألهم عن محمد وأمره، وما أنزل الله عليه، فيقولون: خيرا.
أي أنزل خيرا، ثم فسر ذلك الخير فقال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا} [النحل: 30] قالوا: لا إله إلا الله.
حسنة قال ابن عباس: يريد مضعفة بعشر.
{وَلَدَارُ الآخِرَةِ} [النحل: 30] يعني الجنة، {خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ {30} جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [النحل: 30-31] هذا كما يقول: نعم الدار دار تنزلها.
قوله: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ} [النحل: 32] قال الكلبي: طيبين من الشرك.
وقال مجاهد: زاكية أفعالهم وأقوالهم.
{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ {33} فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ {34} } [النحل: 33-34] {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ} [النحل: 33] نظير هذه الآية في { [البقرة، وآخر سورة الأنعام، وقد تقدم، وقوله] كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [سورة النحل: 33] يريد كفار الأمم الماضية، {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} [النحل: 33] بتعذيبهم، {وَلكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: 33] بإقامتهم على الشرك.
{فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} [النحل: 34] أي جزاؤها، قال ابن عباس: جزاء ما عملوا من الشرك.
وحاق أحاط بهم، {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [النحل: 34] من العذاب.
{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ(3/61)
شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ {35} وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ {36} إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ {37} } [النحل: 35-37] {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} [النحل: 35] يعني أهل مكة، {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل: 35] أي: لو شاء الله ما أشركنا، ولكنه شاءه لنا، {وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل: 35] من البحيرة، والسائبة، قال الزجاج: إنهم قالوا هذا على جهة الهزء، ولو قالوا هذا معتقدين لكانوا مؤمنين، ولكنهم قالوا مستهزئين.
ونظير هذه الآية قد تقدم في { [الأنعام، وقوله:] كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [سورة النحل: 35] أي: من تكذيب الرسل، وتحريم ما أحل الله، {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35] يعني ليس عليهم إلا التبليغ، فأما الهداية فهي إلى الله، يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
وقد حقق هذا فيما بعد، وهو قوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا} [النحل: 36] يعني كما بعثناك في هؤلاء، {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [النحل: 36] أي بعبادة الله، واجتنبوا الطاغوت الشيطان وكل من يدعو إلى الضلالة، {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ} [النحل: 36] أرشده، {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل: 36] قال ابن عباس: يريد في سابق علمي.
قال الزجاج: أعلم الله أنه بعث الرسل بالأمر بالعبادة وهو من وراء الإضلال والهداية.
ومعنى حقت عليهم الضلالة وجب عليهم الكفر، كما قال: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} [الأعراف: 30] ، ثم قال: {فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} [النحل: 36] أي: معتبرين بآثار الأمم المكذبة، وهو قوله: {فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: 36] ثم أكد أن من حقت عليه الضلالة لا يهتدي.
فقال: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ} [النحل: 37] أي: إن تطلب بجهدك ذلك، {فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37] أي من يضله، وهذا كقوله: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ} [الأعراف: 186] وقرأ أهل الكوفة بفتح الياء، والمعنى: فإن الله لا يرشد من أضله.
قوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ {38} لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ {39} إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ {40} وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ {41} الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ {42} } [النحل: 38-42] {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [النحل: 38] قال ابن عباس: أغلظوا في الإيمان، تكذيبا منهم بقدرة الله على البعث بعد الموت.
وهو قوله: {لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل: 38] فقال الله ردا عليهم: {بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} [النحل: 38] أي: بلى ليبعثنهم وعدا(3/62)
للبعث حقا، {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [النحل: 38] يعني المشركين.
ليبين لهم بالبعث، {الَّذِي} [النحل: 39] اختلفوا، فيه مع المؤمنين وذهبوا فيه إلى خلاف ما ذهب إليه المؤمنون، {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} [النحل: 39] فيما أقسموا من أنه لا بعث.
ثم أخبر بقوته وقدرته على البعث فقال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ} [النحل: 40] الآية، قال الزجاج: أعلمهم الله سهولة خلق الأشياء عليه، فأخبر أنه متى أراد الشيء كان.
وهذا كقوله: {فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [غافر: 68] وقد تقدم تفسيره، وقراءة أكثر القراء فيكون بالرفع على معنى فهو يكون، وقرأ ابن عامر فيكون نصبا، عطفا على أن يقول فيكون.
قوله: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ} [النحل: 41] نزلت في قوم أذاهم المشركون وعذبوهم بمكة، منهم صهيب، وبلال، وخباب، ومعنى هاجروا في الله هاجروا في رضا الله وطلب ثوابه.
وقوله: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [النحل: 41] أي دارا حسنة، أو بلدة حسنة، وهي المدينة في قول مجاهد، والشعبي، والحسن، وقتادة، {وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [النحل: 41] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد أن أمر الجنة أكبر وأعظم من أن يعلمه أحد ويقدر على صفته أحد.
ثم أثنى عليهم ومدحهم بالصبر، فقال: {الَّذِينَ صَبَرُوا} [النحل: 42] أي: على دينهم لم يتركوه بمشقة وجهد أصابهم، وهم في ذلك واثقون بربهم متوكلون عليه، وهو قوله: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 42] .
قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ {43} بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ {44} } [النحل: 43-44] {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [النحل: 43] قال المفسرون: إن مشركي مكة أنكروا نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا، فهلا بعث إلينا ملكا؟ فقال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} [النحل: 43] أي إلى الأمم الماضية إلا رجالا آدميين لا ملائكة، أعلم الله أن الرسل كانوا بشرا، إلا أنهم يوحى إليهم، وقوله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] يعني أهل الكتاب، قال الزجاج: فاسألوا أهل الكتاب.
وذلك أن أهل الكتب يعترفون أن الأنبياء بشر كلهم.
وقوله: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النحل: 44] أي أرسلناهم، يعني الأنبياء بالحجج الواضحة والكتب، {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ} [النحل: 44] يعني القرآن، {لِتُبَيِّنَ(3/63)
لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] في هذا الكتاب من الحلال والحرام، والوعد والوعيد، لعلهم يتفكرون في ذلك فيعتبرون.
قوله: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ {45} أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ {46} أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ {47} أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ {48} وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ {49} يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ {50} } [النحل: 45-50] {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ} [النحل: 45] قال ابن عباس: يريد المشركين، أهل مكة وما حول المدينة، ومعنى مكروا السيئات قال ابن عباس: عملوا السيئات يعني عبادة غير الله.
وقال قتادة: يعني الشرك.
وسمى عبادتهم غير الله مكرا لأن المكر في اللغة السعي بالفساد، {أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ} [النحل: 45] كما خسف بقارون، ومعنى الاستفهام ههنا الإنكار، أي: يجب ألا يأمنوا عقوبة تلحقهم كما لحقت المكذبين من قبلهم، {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} [النحل: 45] قال ابن عباس: يعني يوم بدر.
يريد أنهم أهلكوا يوم بدر، وما كانوا يقدرون ذلك ولا يشعرونه.
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} [النحل: 46] في أسفارهم وتجارتهم، وقال مقاتل: يريد في تقلبهم في كل حال من الأحوال ليلا ونهارا، فيدخل في هذا تقلبهم على الفرش يمينا وشمالا.
{فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} [النحل: 46] بممتنعين ولا فائتين.
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل: 47] قال عامة المفسرين: على تنقص، إما بقتل أو بموت.
يعني تنقص من أطرافهم ونواحيهم، يأخذ منهم الأول فالأول حتى يأتي الأخذ على جميعهم، والتخوف: التنقص، يقال: هو يتخوف المال، أي: يتنقصه ويأخذ من أطرافه، {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل: 47] إذ لم يعجل عليهم بالعقوبة والإهلاك، قال الزجاج: أي من رأفته أمهل وجعل فسحة للتوبة.
قوله: أولم يروا قراءة العامة بالياء لأن ما قبله غيبة، وهو قوله: {أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ} [النحل: 45] ، {أَوْ يَأْخُذَهُمْ} [النحل: 46] كذلك أولم يروا وقرأ حمزة بالتاء على أن الخطاب لجميع الناس، قوله: {إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [النحل: 48] أراد من(3/64)
شيء له ظل من جبل، وشجر، وبناء، وجسم قائم، يتفيأ يتفعل من الفيء، يقال: فاء الظل يفيء فيئا إذا رجع وعاد بعد ما كان ضياء الشمس نسخه.
وتفيؤ الظلال: رجوعها بعد انتصاب النهار، وقوله: ظلاله جمع ظل، وجمع هو مضاف إلى مفرد لأنه واحد يراد به الكثرة، ومثله: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف: 13] ومعنى تفيؤ الظلال عن اليمين والشمائل، قال الكلبي: إذا طلعت الشمس وأنت متوجه إلى القبلة كان الظل قدامك، فإذا ارتفعت كان على يمينك، فإذا كان بعد ذلك كان خلفك، وإذا كان قبل أن تغرب الشمس كان يسارك، فهذا تفيؤه عن اليمين والشمائل، أي تميله عن جانب إلى جانب.
ووحد اليمين والمراد به الجمع إيجازا في اللفظ كقوله: يولون الدبر ودلت الشمائل على أن المراد به الجميع، وقوله: سجدا لله دورانه من جانب إلى جانب هو سجوده لأنه مستسلم منقاد مطيع بالتسخير، وهذه الآية كقوله: {وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد: 15] وقد مر بيانه، قوله: وهم داخرون أي صاغرون، يقال: دخر يدخر دخورا، فهو داخر، وهو الذي يفعل ما تأمره شاء أو أبى، قال الزجاج: يعني أن هذه الأشياء مجبولة على الطاعة.
قوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [النحل: 49] السجود على نوعين: سجود عبادة وطاعة كسجود المسلمين، وسجود هو خضوع وتذلل وهو سجود ما لا يعقل، وسجود الجمادات، وهذه الأشياء بما فيها من الدلالة على الحاجة إلى مدبر وصانع ساجدة، أي خاضعة متذللة، وقوله: من دابة قال ابن عباس: يريد كل ما دب على الأرض.
والملائكة أخرجهم بالذكر لخروجهم عن صفة الدبيب بما جعل لهم من الأجنحة، {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 49] يريد عن عبادة الله، وهذا من صفة الملائكة خاصة لقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] وفي هذه الآية قولان: أحدهما أن الآية من باب حذف المضاف على تقدير يخافون من عقاب ربهم من فوقهم، لأن أكثر ما يأتي العقاب المهلك إنما يأتي من فوق، والآخر: أن الله تعالى لما كان موصوفا بأنه علي متعال علو الرتبة في القدرة، حسن أن يقال: من فوقهم ليدل على أنه في أعلى مراتب القادرين، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية مجاهد، قال: ذلك مخافة الإجلال.
واختاره الزجاج، فقال: يخافون ربهم خوف مجلين.
ويدل على صحة هذا المعنى قوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18] وقوله إخبارا عن فرعون: {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127] وذهب بعض الناس إلى أن قوله: من فوقهم من صفة الملائكة، والمعنى أن الملائكة الذين هم فوق بني آدم، وفوق ما في الأرض من دابة يخافون الله مع علو رتبتهم، فلأن يخاف من دونهم أولى، وقوله: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] يعني الملائكة، وهذا كقوله: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم: 6] .
قوله: {(3/65)
وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ {51} وَلَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ {52} وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ {53} ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ {54} لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ {55} } [النحل: 51-55] {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النحل: 51] أي لا تعبدوا معه غيره، {إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ} [النحل: 51] ليس له ثان، ثم حذرهم نفسه، فقال: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النحل: 51] .
{وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} [النحل: 52] الدين الطاعة، والوصوب الدوام، وصب الشيء يصب وصوبا فهو واصب إذا دام، قال الزجاج: أي طاعته واجبة أبدا.
وقال ابن قتيبة ليس من أحد يطاع إلا انقطع ذلك بزوال، أو هلكة غير الله، فإن الطاعة تدوم له.
ثم قال: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} [النحل: 52] أي: أفغير الله الذي قد أبان لكم أنه واحد خالق كل شيء وأمر أن لا يتخذ معه إله تتقون.
{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] أي: ما أعطاكم من صحة جسم، أو سعة في رزق، أو إمتاع بمال وولد فكل ذلك من الله عز وجل.
517 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ، نا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ، نا أَبُو سَلَمَةَ، نا هِشَامُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا مَسَّتْ عَبْدًا نِعْمَةٌ فَعَلِمَ أَنَّهَا مِنَ اللَّهِ إِلا كُتِبَ لَهُ شُكْرُهَا وَإِنْ لَمْ يَحْمَدْ»
وقوله: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53] قال ابن عباس: يريد الأسقام والأمراض والحاجة.
فإليه ترفعون أصواتكم بالاستغاثة، وتتضرعون بالدعاء، يقال: جأر يجأر جؤارا إذا رفع صوته في تضرع.
{ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ} [النحل: 54] الآية، قال ابن عباس: يريد أهل النفاق.
وقال الكلبي: يعني الكفار.
قال الزجاج: هذا خاص فيمن كفر وقابل كشف الضر عنه بالجحود والكفر.
{لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} [النحل: 55] ليجحدوا نعمة الله في كشف الضر عنهم، ثم أوعدهم بقوله: {فَتَمَتَّعُوا} [النحل: 55] أي بدنياكم الفانية، {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 55] عاقبة أمركم، وما ينزل بكم من العذاب.
قوله: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ {56} وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ {57} وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ {58} يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ {59} } [النحل: 56-59] {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ} [النحل: 56] يعني الأوثان لا يعلمون لها ضرا ولا نفعا، ومفعول العلم محذوف، وتقديره(3/66)
ما ذكرنا، وهذا قول مجاهد، وقتادة.
وقال أهل المعاني: هذا من صفة الأوثان، والمعنى: ويجعلون للشركاء والأصنام الذين لا يعلمون شيئا ولا معرفة لهم ولا حسنا، {نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} [النحل: 56] قال المفسرون: هم مشركو العرب، جعلوا لأوثانهم جزءا من أموالهم كقوله: {فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} [الأنعام: 136] .
ثم خاطبهم بعد الخبر عنهم، فقال: {تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ} [النحل: 56] سؤال توبيخ، {عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} [النحل: 56] تتقولونه على الله من أنه أمركم بذلك.
{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} [النحل: 57] قال المفسرون: يعني خزاعة، وكنانة زعموا أن الملائكة بنات الله.
سبحانه تنزيها له عما زعموا، {وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57] يعني البنين، فهذا كقوله: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} [الطور: 39] .
ثم ذكر كراهيتهم البنات، فقال: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى} [النحل: 58] أخبر بولادة بنت، والتبشير ههنا بمعنى الإخبار كقوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] ، {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} [النحل: 58] تغير وجهه تغير مغتم، قال قتادة: هذا صنيع مشركي العرب، أخبر الله بخبث صنيعهم، فأما المؤمن، فهو حقيق أن يرضى بما قسم الله له، وقضاء الله للمرء خير مما قضى المرء لنفسه، وما قضى لك يا ابن آدم فيما تكره خير مما قضى لك فيما تحب فاتق الله، وارض بقضائه، فإنه رب جارية خير لأهلها من غلام، ورب غلام لا يأتي أهله بخير، وقوله: وهو كظيم أي: ممتلئ غما.
يتوارى يختفي ويتغيب، {مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} [النحل: 59] كان الرجل في الجاهلية إذا ضرب امرأته المخاض توارى إلى أن يعلم ما يولد له، فإن كان ذكرا سر به وابتهج، وإن كانت أنثى اكتأب لها وحزن، ولم يظهر للناس أياما، يدبر كيف يصنع في أمرها، وهو قوله: {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ} [النحل: 59] أي يحبسه، والإمساك ههنا بمعنى الحبس كقوله: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37] والكناية تعود إلى ما في قوله: {مَا بُشِّرَ بِهِ} [النحل: 59] والهون الهوان يقال: إنه ليهون عليّ هونا وهوانا.
قال المفسرون: كان أحدهم في الجاهلية إذا ولدت له بنت ضاق بها ذرعا فلم يدر ما يصنع بها، أيدسها تحت التراب، أو يتهاون بها فيلقيها.
والدس: إخفاء الشيء في الشيء، يعني ما كانوا يفعلونه من الوأد في الجاهلية، قوله: {أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل: 59] قال ابن عباس: بئس ما حكموا إذ جعلوا لله البنات اللاتي محلهن منهم هذا المحل، ونسبوه إلى اتخاذ الولد، وجعلوا لأنفسهم البنين.
وهذا كقوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى {21} تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى {22} } [النجم: 21-22] .
قوله: {(3/67)
لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {60} وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ {61} وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ {62} تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {63} وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {64} } [النحل: 60-64] {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} [النحل: 60] أي: صفة السوء من احتياجهم إلى الولد وكراهيتهم الإناث خوف العيلة والعار، {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل: 60] الصفة العليا من تنزهه عن الولد.
قوله: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ} [النحل: 61] قال ابن عباس: يريد المشركين.
بظلمهم بافترائهم على الله، {مَا تَرَكَ عَلَيْهَا} [النحل: 61] على الأرض، من دابة يعني دواب الأرض، قال السدي: يقول لأقحط المطر، فلم يبق في الأرض دابة إلا هلكت.
وروي عن ابن مسعود، أنه قرأ هذه الآية، فقال: كاد أن يهلك الجعل في جحره بذنب ابن آدم.
والمعنى أن شؤم ذنوب المشركين كاد أن يصيب دواب الأرض حتى تهلك بسبب ذلك لولا حلم الله وتأخيره العقوبة، {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [النحل: 61] يعني منتهى آجالهم، وانقضاء أعمارهم، وباقي الآية تقدم تفسيره.
ويجعلون يعني المشركين، {لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} [النحل: 62] يعني البنات، والمعنى: يحكمون لله بما يكرهون هم لأنفسهم، {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ} [النحل: 62] أي: تقول الكذب، ثم فسر ذلك الكذب، فقال: {أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى} [النحل: 62] يعني الجنة، قال الزجاج: يصفون أن لهم مع قبيح قولهم من الله الجزاء الحسن، فرد الله عليهم قولهم، وأثبت لهم النار، فقال: {لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ} [النحل: 62] ، لا ردٌ لقولهم، أي: ليس الأمر على ما وصفوا جرم فعلهم وقولهم، أي: كسب لهم النار، والمفسرون يقولون: حقا إن لهم النار، {وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} [النحل: 62] قال مجاهد، والكلبي، والضحاك: متركون منسيون في النار.
وقال الكسائي: يقال: ما أفرطت(3/68)
من القوم أحدا، أي ما تركت.
وقال الفراء: تقول العرب: أفرطت من القوم ناسا، أي خلقتهم ونسيتهم.
وقال قتادة: معجلون إلى النار، يقال: أفرط القوم الفارط إذا قدموا إلى الماء ليصلح لهم شأنهم.
وهذا اختيار الزجاج، قال: معنى مفرطون مقدمون إلى النار.
وقرأ نافع بكسر الراء على معنى أنهم أفرطوا في الذنوب فكانوا مفرطين على أنفسهم في معصية الله، وقال ابن عباس: أفرطوا في الافتراء على الله.
قوله: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} [النحل: 63] قال ابن عباس يعزي نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا.
يقول: لقد أرسلنا إلى أمم، يعني رسلا وأنبياء من قبلك، فزين لهم الشيطان حتى عصوا وكذبوهم، {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ} [النحل: 63] يعني يوم القيامة، يقول: فهو ولي أولئك الذين زين لهم سوء أعمالهم يوم القيامة، ومن كان الشيطان وليه ذلك اليوم دخل النار.
{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [النحل: 64] يعني القرآن وما فيه من أخبار الأمم الماضية، {إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} [النحل: 64] إلا لتبين لهؤلاء الكفار ما اختلف فيه الأمم من الدين والأحكام، فذهبوا فيه إلى خلاف ما ذهب إليه المسلمون، فتقوم الحجة عليهم بدعائك وبيانك، وهدى ورحمة وللهدى والرحمة، لقوم يؤمنون.
وما بعده ظاهر إلى قوله: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ {65} وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ {66} وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ {67} وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ {68} ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {69} وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ {70} } [النحل: 65-70] {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ} [النحل: 66] يعني الإبل والبقرة والغنم، لعبرة لدلالة على قدرة الله، ثم ذكرها، فقال: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} [النحل: 66] من فتح النون فحجته ظاهرة لأنه يقال: سقيته ماء ولبنا، وما كان للشفة فهو بفتح(3/69)
النون.
ومن ضم النون، فهو من قولهم: أسقاه إذا جعل له شربا، كقوله: {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} [المرسلات: 27] وذكر الكناية في بطونه لأن النعم والأنعام شيء واحد، فرجع التذكير إلى النعم إذ كان يؤدي عن معنى الأنعام، وهذا قول الفراء، وأنشد:
وطاب ألبان اللقاح وبرد
فرجع إلى اللبن، لأن اللبن والألبان بمعنى واحد، وقال الكسائي: أراد مما في بطون ما ذكرنا.
قال الفراء: وهو الصواب.
وقال المبرد: هذا فاش في القرآن مثل قوله للشمس: {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76] .
يعني هذا الشيء الطالع، وكذلك {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} [النمل: 35] ثم قال: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ} [النمل: 36] ولم يقل: جاءت، لأن المعنى جاء الشيء الذي ذكرنا، وقوله: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ} [النحل: 66] الفرث سرجين الكرش، قال ابن عباس في رواية الكلبي: إذا استقر العلف في الكرش صار أسفله فرثا، وأعلاه دما، وأوسطه لبنا، فيجري الدم في العروق، والبن في الضرع، ويبقى الفرث كما هو.
فذلك قوله: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا} [النحل: 66] لا يشوبه الدم ولا الفرث، سائغا للشاربين جائزا في حلوقهم، يقال: ساغ الشراب في الحق وأساغه صاحبه.
ومنه قوله: {وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ} [إبراهيم: 17] قال أصحابنا: وهذه الآية تدل على أن مني الآدمي طاهر وإن كان في باطنه مجاورا للنجاسات، كاللبن الطاهر يخرج من بين نجسين.
قوله: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ} [النحل: 67] الآية، قال صاحب النظم: تقدير الآية ولكم من ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه سكرا.
والعرب تضمر ما، كقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ} [الإنسان: 20] أي: ما ثَمَّ، والأعناب عطف على الثمرات، أي: ومن الأعناب، {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} [النحل: 67] وكل ما يسكر، والرزق الحسن ما أحل منهما كالزبيب، والخل، والتمر.
518 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، أنا الْحَسَنُ بْنُ الْمُثَنَّى بْنِ مُعَاذٍ، أنا أَبُو حُذَيْفَةَ(3/70)
مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ، أنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} ؛ قَالَ: السَّكَرُ: مَا حُرِّم مِنْ ثَمَرِهَا، وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ: مَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنْ ثَمَرِهَا، رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي (صَحِيحِهِ) ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ الْفَقِيهِ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ نَجْدَةَ، عَنْ قَبِيصَةَ، عَنْ سُفْيَانَ، وَهَذِهِ الآيَةُ نَازِلَةٌ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: أَمَّا السَّكَرُ؛ فَهِيَ الْخَمْرُ قَبْلَ أَنْ تُحَرَّمَ، وَأَمَّا الرِّزْقُ الْحَسَنُ؛ فَالتَّمْرُ، وَالْعِنَبِ، وَالزَّبِيبُ، وَشَبَهُهُ
519 - حَدَّثَنَا الإِمَامُ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الإِسْفَرَايِينِيُّ، إِمْلاءً فِي مَسْجِدِ عَقِيلٍ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِ مِائَةٍ، أنا الإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الإِسْمَاعِيلِيُّ، نا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْكُوفِيُّ، نا إِسْحَاقُ بْنُ حَاتِمٍ، نا مَسْعُودُ بْنُ مُشْكَانَ الْوَاسِطِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فِي الْعِنَبِ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ حَلالٌ: تَأْكُلُونَهُ عِنَبًا، وَعَصِيرًا مَا لَمْ يُنَشَّ، وَتَتَّخِذُونَ مِنْهُ زَبِيبًا، وَرُبًّا، وَخَلا "
قوله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68] قال: المفسرون قذف في أنفسها وألهمها، {أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ} [النحل: 68] قال ابن عباس: هي تتخذ من الجبال لأنفسها بيوتا إذا كانت لا أصحاب لها.
وقوله: {وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل: 68] قرئ بضم الراء وكسرها، وهما لغتان مثل يعكفون ويعكفون، ومعناه: يبنون ويسقفون، يعني ما يبني الناس لها من خلاياها التي تعمل فيها النحل، ولولا التسخير وإلهام الله ما كانت تأوي إلى ما يبنى لها من بيوتها.
{ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [النحل: 69] مما تثمره الأشجار {فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ} [النحل: 69] قال ابن عباس: طرق ربك تطلب فيها الرعي.
{ذُلُلا} [النحل: 69] جمع ذلول وهو المنقاد اللين المسخر، ويجوز أن يكون من نعت النحل، يعني مطيعة للتسخير وإخراج العسل من بطنها، وهذا قول قتادة، واختيار ابن قتيبة.
ويجوز أن يكون من نعت السبل، وهو قول مجاهد، قال: لا يتوعر عليها مكان سلكته، وهي ترعى الأماكن البعيدة ذوات(3/71)
الغياض.
واختاره الزجاج، لأنه قال: قد ذللها الله لك وسهل عليك مسالكها.
وقوله: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} [النحل: 69] قال ابن عباس: منه أحمر، وأبيض، وأصفر.
وقال الزجاج: هي تأكل الحامض والمر، فيحيل الله ذلك عسلا، يخرج من بطونها إلا أنها تلقيه من أفواهها كالريق الذي يخرج من فم ابن آدم.
وقوله: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] قال السدي: فيه شفاء للأوجاع التي شفاؤها فيه.
وقال قتادة: فيه شفاء للناس من الأدواء.
520 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّقَطِيُّ، نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أنا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَخِي قَدِ اسْتُطْلِقَ بَطْنَهُ، فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلا فَسَقَاهُ عَسَلا، ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إِلا اسْتِطْلاقًا، ثُمَّ قَالَ: اسْقِهِ عَسَلا، قَالَ: فَشُفِيَ إِمَّا فِي الثَّالِثَةِ، وَإِمَّا فِي الرَّابِعَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ اللَّهُ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: صَدَقَ اللَّهُ؛ أَيْ: فِي قَوْلِهِ {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}
521 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمَّادٍ الدَّقَّاقِ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ السَّرَّاجُ، نا الْحَسَنُ بْنُ حَمَّادٍ الْوَرَّاقُ، نا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ» .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ الْحَنْظَلِيِّ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ
522 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا الْحَكَمُ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ، عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أُتِيَ بِرَجُلٍ سَقِيمٍ، فَقَالُوا: إِنَّا عَالَجْنَاهُ فَلَيْسَ يَنْفَعُهُ شَيْءٌ، فَقَالَ عَلِيٌّ: لِيَأْخُذَنَّ مِنْ مَهْرِ امْرَأَتِهِ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، فَيَشْتَرِي بِهَا عَسَلا فَإِذَا أَمْطَرَتِ السَّمَاءُ فَلْيَشْرَبْ بِهِ، قَالَ اللَّهُ، تَعَالَى: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}
523 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُطَّوِّعِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرِ بْنِ الْعَبَّاسِ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّامِيُّ، نا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، نا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ خَيْثَمَةَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: عَلَيْكُمْ بِشِفَاءَيْنِ: الْقُرْآنِ وَالْعَسَلِ
وقوله: {(3/72)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 69] أي: في عظمة الله وقدرته.
قوله: والله خلقكم الآية، قال المفسرون: خلقكم ولم تكونوا شيئا.
ثم يتوفاكم عند انقضاء آجالكم، {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} [النحل: 70] وهو أرداه وأوضعه، يقال: رذل يرذل رذالة.
قال السدي: أرذل العمر الخوف.
وقال قتادة.
تسعون سنة.
وروي عن علي رضي الله عنه، قال: أرذل العمر خمس وسبعون سنة.
قوله: {لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} [النحل: 70] قال ابن عباس: كي يصير كالصبي الذي لا عقل له.
قال عطاء، عن ابن عباس: ليس هذا في المسلمين، المسلم لا يزداد في طول العمر والبقاء إلا كرامة عند الله، وعقلا، ومعرفة.
وقال عكرمة: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر حتى لا يعلم بعد علم شيئا.
{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ} [النحل: 70] بما صنع بأوليائه وأعدائه، قدير على ما يريد.
{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ {71} وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ {72} وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ {73} فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ {74} } [النحل: 71-74] {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} [النحل: 71] يعني كثر وقلل، وبسط وقبض، ووسع وضيق، {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا} [النحل: 71] في الرزق، وأعطوا الفضل، {بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [النحل: 71] يقول: لا يرد المولى على ما ملكت يمينه مما زرق شيئا حتى يكون المولى والمملوك في المال سواء.
وهذا مثل ضربه الله للمشركين في تصييرهم عبادا له شركاء له، فقال: إذا لم يكن عبيدكم معكم سواء في الملك فكيف تجعلون عبيدي معي سواء؟ قال السدي: يقول: فكما لا يرد أحدكم على مملوكه مما رزقه حتى يكون مثله، فكذلك لا يكون الله والصنم الذي هو من خلقه وملكه سواء.
{أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [النحل: 71] حيث أشركوا به غيره، ومن قرأ بالتاء كان التقدير قل لهم يا محمد أفبنعمة الله تجحدون بالإشراك به؟ فقوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [النحل: 72] قال المفسرون: يعني النساء،(3/73)
خلق حواء من ضلع آدم.
{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 72] الحفدة جمع حافد، يقال: حفد يحفد حفدا وحفودا إذا أسرع، ومنه الدعاء: وإليك نسعى ونحفد.
وكل من خف في الخدمة، وأسرع في العمل بالطاعة، فهو حافد، قال ابن عباس في رواية الوالبي: هم أختان الرجل على بناته.
وقال السدي، وعكرمة: هم ولد الرجل الذين يعينونه.
وقال مجاهد: ولد الولد.
وقال عطية العوفي: هم بنو امرأة الرجل ليسوا منه.
قوله: {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [النحل: 72] قال ابن عباس: يريد من أنواع الثمار والحبوب والحيوان.
{أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 72] قال: يعني الأصنام.
وقال مقاتل: يعني الشيطان.
وقال عطاء: يصدقون أن لي شريكا وصاحبة وولدا.
{وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل: 72] قال ابن عباس: يعني التوحيد، وما أنعم عليهم من القرآن والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَوَاتِ} [النحل: 73] يعني الأصنام لا تملك أن ترزقهم من السموات المطر، ولا من الأرض النبات والثمار التي تخرج منها، وقوله: شيئا قال الأخفش: جعل شيئا بدلا من الرزق.
وهو في معنى: لا يملكون رزقا قليلا ولا كثيرا، ولا يستطيعون لا يقدرون على شيء، وليست لهم استطاعة.
{فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل: 74] أي ولا تشبهوه بخلقه لأنه لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء، {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} [النحل: 74] قال ابن عباس: يعلم ما يكون قبل أن يكون، وما هو كائن إلى يوم القيامة.
{وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 74] قدر عظمتي، حيث أشركتم بي، وعجزتموني أن أبعث خلقي.
قوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ {75} وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {76} } [النحل: 75-76] {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا} [النحل: 75] بين الله شبها فيه بيان المقصود، ثم ذكر ذلك المثل، فقال: عبدا مملوكا إلى قوله: سرا وجهرا قال(3/74)
السدي: هذا مثل ضربه الله للآلهة، يقول: كما لا يستوي عندكم عبد مملوك لا يقدر من أمره على شيء، ورجل حر فقد رزق رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا لا يخاف من أحد، فكذلك أنا، وهذه الآلهة التي تدعون ليست تملك شيئا، وأنا الذي أملك وأرزق من شئت.
وقوله: هل يستوون جمع الفعل لأن المراد بقوله: عبد مملوكا وبقوله: ومن رزقناه الشيوع في الجنس لا التخصيص، وقوله: الحمد لله أنه المستحق للحمد، لأنه المنعم ولا نعمة للأصنام عندهم، {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل: 75] يعني أن المشركين لا يعلمون أن الحمد لي لأن جميع النعمة مني، وذكر الأكثر وهو يريد الجميع.
ثم ذكر مثلا آخر، فقال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ} [النحل: 76] لا يقدر على شيء، وهو العييُّ الأقطع اللسان، {لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 76] من الكلام لأنه لا يفهم ولا يفهم عنه، {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ} [النحل: 76] ثقل ووبال على صاحبه وقريبه وابن عمه، والكَلُّ الذي هو عيال وثقل على صاحبه، أينما يوجهه أينما يرسله، والتوجيه: الإرسال في وجه الطريق، يقال: وجهته إلى موضع كذا فتوجه إليه.
وقوله: {لا يَأْتِ بِخَيْرٍ} [النحل: 76] لأنه عاجز لا يفهم ما يقال له ولا يفهم عنه، {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ} [النحل: 76] أي: هذا الأبكم الذي هو بهذا الوصف، {وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل: 76] وهو قادر تام التمييز متكلم، ناطق بالحق، آمر بالعدل، {وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 76] دين مستقيم، وهذا مثل للمؤمن والكافر.
524 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْهَيْثَمِ الأَنْبَارِيُّ، نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شَاكِرٍ، نا عَفَّانُ، نا وُهَيْبٌ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نَزَلَتْ فِي رَجُلَيْنِ؛ فَالأَبْكَمُ مِنْهُمَا الْكَلُّ عَلَى مَوْلاهُ: هُوَ السَّيِّدُ ابْنُ أَبِي الْعَيْصِ، وَالَّذِي يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ: هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قوله: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {77} وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {78} أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {79} وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ {80} } [النحل: 77-80] {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النحل: 77] تقدم تفسيره، قوله: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ} [النحل: 77] يعني القيامة، {إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ} [النحل: 77] اللمح النظر بسرعة، يقال: لمحه ببصر، قال السدي: يقول: هو كلمح العين من السرعة.
{أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل: 77] من ذلك إذا أردنا، وقال الزجاج: أعلم الله أن البعث والإحياء في قدرته ومشيئته كلمح البصر أو هو أقرب، ليس يريد أن الساعة تأتي في أقرب من لمح البصر، ولكنه يصف سرعة القدرة على الإتيان بها متى شاء.
يدل على هذا قوله: {(3/75)
إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النحل: 77] .
قوله: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78] أي: أخرجكم جاهلين غير عالمين، {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} [النحل: 78] خلق لكم الحواس التي بها تعلمون وتقفون على ما تجهلون، لعلكم تشكرون لكي تشكروا خالق هذه الحواس، فتعرفوا نعمته وقدرته.
ثم ذكر الدليل عليها، فقال: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ} [النحل: 79] مذللات، {فِي جَوِّ السَّمَاءِ} [النحل: 79] وهو الهواء، ما يمسكهن حتى لا يسقطن على الأرض، إلا الله وهذا كقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} [الملك: 19] ، وقوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} [النحل: 80] موضعا تسكنون فيه، قال ابن عباس، ومجاهد: يعني المساكن من الحجر والمدر.
يستر عوراتكم وحرمكم، وذلك أن الله خلق الخشب والمدر والآلة التي بها يمكن تسقيف البيوت وبناؤها، {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ} [النحل: 80] يعني الأنطاع والأدم، بيوتا يعني القباب والخيام، {تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} [النحل: 80] يخف عليكم حملها في أسفاركم، وفيه قراءتان: تسكين العين، وتحريكها، وهما لغتان كالشعر والشعر، والنهر والنهر، ومعنى الظعن سير أهل البوادي لنجعة، أو حضور ماء، أو طلب مرتع، ويوم إقامتكم قال مقاتل: لا تثقل عليكم في الحالتين، ومن أصوافها وهي للضأن، وأوبارها وهي للإبل، وأشعارها وهي للمعز، أثاثا الأثاث أنواع المتاع من متاع البيت من الفرش، والأكسية، قال ابن عباس: يريد طنافس، وبسطا، وثيابا، وكسوة، ومتاعا يتمتعون به، إلى حين البلى.
قوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل: 81] {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالا} [النحل: 81] قال ابن عباس: يريد ظلال الغمام.
كما قال: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} [البقرة: 57] وقال الكلبي: يعني ظلال البيوت تقيكم من الشمس.
وقال قتادة: ظلالا هي الشجر.
واختاره الزجاج، فقال: جعل لكم من الشجر ما يستظل به.
{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} [النحل: 81] يعني الغيران والأسراب، واحدها كن، وهو كل شيء وقى شيئا وستره، {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ} [النحل: 81] وهي القمص، واحدها سربال.
قال ابن عباس، وقتادة: هي القمص من الكتان، والقطن، والصوف.
وقوله: {تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] ولم يقل البرد،(3/76)
لأن ما وقى من الحر وقى من البرد، فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر للعلم به، وقوله: {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} [النحل: 81] يعني دروع الحديد تقيكم شدة الطعن والضرب والرمي، كَذَلِكَ مثل ما جعل لكم هذه الأشياء وأنعم بها عليكم، {يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [النحل: 81] يريد نعمة الدنيا، لأن الخطاب لأهل مكة، يدل على هذا قوله: {لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل: 81] قال ابن عباس: لعلكم يا أهل مكة تعلمون أنه لا يقدر على هذا غيره فتوحدوه وتصدقوا رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ {82} يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ {83} وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ {84} وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ {85} وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ {86} وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ {87} الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ {88} } [النحل: 82-88] فإن تولوا أعرضوا عن الإيمان، فإنما عليك يا محمد، البلاغ المبين عليك أن تبلغ الرسالة وتبين الدلالة، وهذا تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} [النحل: 83] قال السدي: يعني محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واختاره الزجاج، فقال: يعرفون أن أمر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق ثم ينكرون ذلك.
وقال الكلبي: قروا بأن ما ذكر من النعم في هذه ال { [كلها من الله، ولكنهم قالوا بشفاعة آلهتنا.
واختاره الفراء، فقال: وإذا قيل لهم: من رزقكم.
قالوا: الله.
ثم يقولون بشفاعة آلهتنا فيشركون، فذلك إنكارهم نعمته، وأكثرهم الكافرون قال الحسن: وجميعهم كفار.
فذكر الأكثر والمراد به الجميع.
قوله:] وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} [سورة النحل: 84] يعني يوم القيامة نبعث الأنبياء ليشهدوا على الأمم بما فعلوا من التصديق والتكذيب، {ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [النحل: 84] في الكلام والاعتذار، {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [النحل: 84] ولا يطلب منهم أن يرجعوا(3/77)
إلى ما أمر الله ويرضاه، لأن الآخرة ليست بدار تكليف، {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [النحل: 85] أشركوا بالله، الْعَذَابِ يعني النار، {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ} [النحل: 85] العذاب، {وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} [النحل: 85] لا يؤخرون ولا يمهلون.
{وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ} [النحل: 86] يعني الأصنام التي جعلوها شركاء لله في العبادة، وذلك أن الله تعالى يبعث كل ما كان يعبد من دون الله، {قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ} [النحل: 86] أي أجابوهم، وقالوا لهم: {إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} [النحل: 86] كذبوهم في عبادتهم إياهم، لأن الشركاء كانت جمادا أمواتا ما كانت تعرف عبادة عابديها، فظهر عند ذلك فضيحتهم حيث عبدوا من لم يشعر بالعبادة، وهذا كقوله: {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} [مريم: 82] ، {وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ} [النحل: 87] استسلموا وأقروا لله بالربوبية، {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [النحل: 87] زال وبطل، وذهب ما زين لهم الشيطان أن لله شريكا وولدا.
قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [النحل: 88] قال ابن عباس: منعوا الناس من طاعة الله والإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} [النحل: 88] .
525 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، أنا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ، أنا مُعَاوِيَةُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} ، قَالَ: زِيدُوا عَقَارِبَ، أَنْيَابُهَا كَالنَّخِيلِ الطِّوَالِ
526 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ حَيَّانَ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: زِيدُوا حَيَّاتٍ كَأَمْثَالِ الْفِيَلَةِ وَعَقَارِبِ الْبِغَالِ الدُّلْمِ، وَقَالَ أَبُو الْمِنْهَالِ: إِنَّهُمْ يَسْتَغِيثُونَ بِالنَّارِ فِرَارًا مِنْ تِلْكَ الأَفَاعِي وَالْعَقَارِبِ وَهَرَبًا مِنْهُمَا.
قوله: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [النحل: 89] يريد الأنبياء، وكل نبي شاهد على أمته، والأنبياء شهداء على أممهم بما فعلوا وهم من أنفسهم، لأن كل نبي يبعث من قومه، وجئنا بك يا محمد، {شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ} [النحل: 89] قال ابن(3/78)
عباس: يريد على قومك.
وتم الكلام، ثم قال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] قال مجاهد: يعني ما أمر به وما نهى عنه.
وقال أهل المعاني: يعني لكل شيء من أمور الدين، إما بالنص عليه، أو الإحالة على ما يوجب العلم من بيان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو إجماع المسلمين.
فالكتاب هو الأصل والمفتاح لعلوم الدين، قال الزجاج: تبيان اسم في معنى البيان.
قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {90} وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ {91} وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ {92} وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {93} } [النحل: 90-93] {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90] يعني بالعدل في الأفعال، والإحسان في الأقوال، فلا يفعل إلا ما هو عدل، ولا يقول إلا ما هو حسن، قال ابن عباس في رواية الوالبي: العدل شهادة أن لا إله إلا الله، والإحسان أداء الفرائض.
{وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90] وصلة الأرحام، {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ} [النحل: 90] الزنا، والمنكر الشرك، والبغي الكبر والظلم، يعظكم ينهاكم عن هذا كله، ويأمركم أن تتحاضوا على ما فيه لله رضا لكي تتعظوا، قال قتادة في هذه الآية: إنه ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويعظمونه ويحسنونه إلا أمر الله به، وليس من خلق سيئ كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه، وقدم فيه.
527 - أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ، أنا جَدِّي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ السَّرَّاجُ، نا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، نا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: جَاءَ شُتَيْرٌ، وَمَسْرُوقٌ، فَقَالَ شُتَيْرٌ: إِمَّا أَنْ تُحَدِّثَ مَا سَمِعْتَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فَأُصَدِّقَكَ، وَإِمَّا أَنْ أَتَحَدَّثَ فَتُصَدِّقَنِي، فَقَالَ مَسْرُوقٌ: لا بَلْ حَدِّثْ فَأُصَدِّقَكَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ، يَقُولُ: إِنَّ أَجْمَعَ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ لِخَيْرٍ، أَوْ شَرٍّ آيَةٌ فِي النَّحْلِ {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} ، قَالَ مَسْرُوقٌ: صَدَقْتَ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي (صَحِيحِهِ) ، عَنِ الْعَنْبَرِيِّ، عَنْ(3/79)
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلامِ، عَنْ إِسْحَاقَ الْحَنْظَلِيِّ، عَنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ مَنْصُورٍ
قوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] قال المفسرون: العهد الذي يجب الوفاء به هو الذي يحسن فعله، فإذا عاهد يجب الوفاء به.
قال ابن عباس في هذه الآية: والوعد من العهد.
{وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91] بعد تغليظها، وتشديدها بالعزم والعقد على اليمين، بخلاف لغو اليمين، {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا} [النحل: 91] بالوفاء، وذلك أن من حلف بالله فكأنه أكفل الله بالوفاء بما حلف عليه، {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل: 91] قال ابن عباس: لا يخفى عليه شيء.
{وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا} [النحل: 92] هي امرأة من قريش يقال لها: ريطة.
كانت حمقاء، تغزل الغزل هي وجواريها، ثم تأمرهن أن ينقضن ما غزلن، {مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ} [النحل: 92] أي: من بعد إبرام وفتل للغزل، أنكاثا جمع نكث، وهو الغزل من الصوف والشعر يبرم وينسج، فإذا أخلقت النسيجة قطعت ونكثت خيوطها، ثم غزلت ثانية.
ومعنى الآية لا تكونوا في نقض الأيمان بعد توكيدها كهذه المرأة غزلت غزلا وقوت مرته، ثم نقضته فجعلته أنكاثا، وقوله: {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ} [النحل: 92] الدخل والدغل: الغش والخيانة، قال الزجاج: غشا ودغلا.
{أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} [النحل: 92] أي أكثر، يقال: ربا الشيء يربو إذا كثر.
قال مجاهد: كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعز، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون هؤلاء الذين هم أعز منهم، فنهوا عن ذلك.
وتلخيص التأويل: النهي عن أن يخلف على ما هو منطو على خلافه، وأن يغر غيره بيمينه، وقوله: {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ} [النحل: 92] أي بالأمر بالوفاء {وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [النحل: 92] في الدنيا من شأن البعث والقرآن، وكل ما وقع الاختلاف فيه، قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [النحل: 93] قال ابن عباس: على ملة واحدة ودين واحد، {وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل: 93] وهذا صريح في تكذيب القدرية حيث أضاف الضلالة والهداية إلى نفسه وجعلهما لمن شاء من خلقه بالمشيئة الأزلية، ثم أخبر أنهم يسألون عن أعمالهم، فقال: {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 93] فبان أن الأمر على ما أخبر الله به من قوله: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] .
ثم استأنف نهيا عن إيمان الخديعة والمكر، توكيدا للمنع عنها، وأوعد عليها، فقال: {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 94] {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} [النحل: 94] قال ابن عباس: تزل عن الإيمان بعد المعرفة(3/80)
بالله.
قال المفسرون: وهذا في نهي الذين بايعوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن نقض عهده على الإسلام ونصرة الدين، يدل على هذا قوله: {وَتَذُوقُوا السُّوءَ} [النحل: 94] أي العذاب، بما صددتم بصدكم، {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [النحل: 94] يريد أنهم إذا نقضوا العهد مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صدوا غيرهم عن الدخول في الإسلام فاستحقوا العذاب، فنهوا عن ذلك بذكر الوعيد عليه، قوله: {وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 94] قال ابن عباس: يريد في الآخرة.
ثم زاد توكيدا، فقال: {وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ {95} مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {96} مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {97} } [النحل: 95-97] {وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا} [النحل: 95] يقول: لا تنقضوا عهودكم تطلبون بنقضها عوضا من الدنيا.
{إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ} [النحل: 95] من الثواب على الوفاء، {خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [النحل: 95] ذلك قوله.
{مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ} [النحل: 96] أي: يفنى وينقطع، يعني الدنيا، {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ} [النحل: 96] من الثواب والكرامة، باق دائم لا ينقطع، {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا} [النحل: 96] على عهودهم، وعلى طاعة ربهم، {بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 96] يعني الطاعات، ومن جزاه الله بأحسن عمله، غفر له ذنوبه.
قوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير: هي القناعة.
قال: وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «اللهم قنعني بما رزقتني، وبارك لي فيه» .
528 - أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الْمَاوَرْدِيُّ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمْدَوَيْهِ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْجَارُودِ، نا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الرِّبَاطِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَكَمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] قَالَ: الْقَنَاعَةُ، وَرِزْقُ يَوْمٍ بِيَوْمٍ.
وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَوَهْبٍ، وَالْقَرَظِيِّ.
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ، وَأَبِي مَالِكٍ، وَعَطَاءٍ: هِيَ الرِّزْقُ الْحَلالُ، وَأَكْلُ الْحَلالِ.(3/81)
أخبرنا الفضيل بن أحمد الصوفي، أنا زاهر بن أحمد، أنا زيد بن الهيثم القاضي، نا أحمد بن عثمان الأودي، نا عون بن سلام، نا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] قال: يلبس حلالا، ويأكل حلالا.
وروي عن أبي نجيح، عن مجاهد: {حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] قال: الجنة.
وهو قول الحسن، قال: لا يطيب لأحد الحياة إلا في الجنة.
أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر الخشاب، أنا أبو عمرو محمد بن أحمد الحيري، نا أبو بكر أحمد بن محمد بن عبيدة الوبري، نا يوسف بن سعيد بن مسلم، نا علي بن بكار، عن أبي العوام، عن قتادة في قوله: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] قال: رزق يوم بيوم.
قوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ {98} إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ {99} إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ {100} وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ {101} قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ {102} } [النحل: 98-102] {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98] قال الزجاج، وجميع أصحاب المعاني: معناه إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ، ليس معناه استعذ بعد أن تقرأ القرآن، ومثله إذا أكلت فقل بسم الله.
وهذا إجماع من الفقهاء(3/82)
أن الاستعاذة قبل القراءة، إلا ما روي عن أبي هريرة، وداود، ومالك، أنهم قالوا: الاستعاذة بعد القراءة.
ذهبوا إلى ظاهر الآية، والأولى والمستحب أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
لنص القرآن، وللخبر المتصل المسلسل، وهو أني قرأت على الأستاذ أبي إسحاق الثعالبي رحمه الله، فقلت: أعوذ بالسميع العليم.
فقال: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإني قرأت على أبي الفضل محمد بن جعفر الخزاعي، فقلت: أعوذ بالسميع العليم، هكذا.
فقال لي: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإني قرأت على أبي الحسين عبد الرحمن بن محمد، بالبصرة، فقلت: أعوذ بالسميع العليم.
فقال لي: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإني قرأت على أبي محمد عبد الله بن عجلان الزنجاني، فقلت: أعوذ بالسميع العليم.
فقال لي: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإني قرأت على أبي عثمان إسماعيل بن إبراهيم الأهوازي، فقلت: أعوذ بالسميع العليم.
فقال لي: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإني قرأت على محمد بن عبد الله بن بسطام، فقلت: أعوذ بالسميع العليم.
فقال لي: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإني قرأت على روح بن عبد المؤمن، فقلت: أعوذ بالسميع العليم.
فقال لي: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإني قرأت على يعقوب الحضرمي، فقلت: أعوذ بالسميع العليم.
فقال لي: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فلقد قرأت على سلام بن أبي المنذر، فقلت: أعوذ بالسميع العليم.
فقال لي: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فلقد قرأت على عاصم، فقلت: أعوذ بالسميع العليم.
فقال لي: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فلقد قرأت على زر بن حبيش، فقلت: أعوذ بالسميع العليم.
فقال لي: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فلقد قرأت على عبد الله بن مسعود، فقلت: أعوذ(3/83)
بالسميع العليم.
فقال لي: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فلقد قرأت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلت: أعوذ بالسميع العليم.
فقال لي: " يا ابن أم عبد، قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، هكذا أقرأنيه جبريل، عن القلم، عن اللوح المحفوظ ".
قوله: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [النحل: 99] يعني به سلطان الإغواء، وهو معنى قول المفسرين: ليس له حجة.
أي: لا حجة له على المؤمنين في إغوائهم ودعائهم إلى الضلالة، {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} [النحل: 100] قال ابن عباس: يطيعونه.
يقال: توليته، أي أطعته وواليته.
ومنه قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 56] .
قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 100] قال مجاهد: يعدلونه برب العالمين.
قوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101] قال الكلبي، وغيره: كان إذا نزلت آية فيها شدة، ثم نزلت آية ألين منها، قال كفار قريش: إن محمدا يسخر بأصحابه، يأمرهم اليوم بأمر، وغدا بأمور، وإنه ليتكذبه ويأتيهم به من عند نفسه، فأنزل الله {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101] .
قال مجاهد: نسخناها وأنزلنا غيرها.
{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} [النحل: 101] من ناسخ ومنسوخ، وتغليظ وتخفيف، هو أعلم بجميع ذلك في مصالح العباد، فما بالهم ينسبون محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الافتراء لأجل التبديل والنسخ، {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل: 101] حقيقة القرآن وفائدة النسخ.
قل نزله يعني نزل بالقرآن، روح القدس جبريل، من ربك من كلام ربك، بالحق بالأمر الحق الصحيح الثابت، {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} [النحل: 102] بما فيه من الحجج والآيات، فيزدادوا تصديقا ويقينا، وقوله: وهدى أي: وهو هدى، فهو خبر ابتداء محذوف.
قوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ {103} إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {104} إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ {105} } [النحل: 103-105] {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103] قال مجاهد، وقتادة: قالت قريش: إنما يعلم محمدا عبد لبني الحضرمي، رومي، يقال له يعيش، صاحب كتاب.
وقال عبيد الله بن مسلم: كان لنا غلامان نصرانيان من أهل عين التمر، اسم أحدهما يسار،(3/84)
والآخر جبر، وكانا صيقلين، يقرآن كتابا لهما بلسانهما، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمر عليهما ويسمع قراءتهما، وكان المشركون يقولون: يتعلم منهما.
فأكذبهم الله، فقال: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} [النحل: 103] .
الإلحاد معناه الميل، يقال: لحد وألحد إذا مال عن القصد.
وقراءة العامة بضم الياء، وقرئ بفتح الياء من لحد، والأولى ضم الياء لأنه لغة القرآن، يدل عليه قوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} [الحج: 25] ويكون الإلحاد بمعنى الإمالة، وفسر الإلحاد في هذه الآية بالقولين، فقال الفراء: يميلون من الميل.
وقال الزجاج: لسان الذي يميلون القول إليه أعجمي.
وقال ابن قتيبة: أي يؤمنون إليه، ويزعمون أن يعلمك أعجمي لا يفصح ولا يتكلم بالعربية، فكيف يتعلم منه ما هو في أعلى طبقات البيان.
وهو قوله: هَذَا يعني القرآن، {لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103] قال ابن عباس: أفصح ما يكون من العربية، وأبينه لسان سعد بن بكر بن هوازن.
ثم جعل المشركين هم الذين يفترون، فقال: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [النحل: 105] قال الزجاج: إنما يفتري الكذب الذين إذا رأوا الآيات التي لا يقدر عليها إلا الله كذبوا بها، فهؤلاء أكذب الكذبة.
ثم سماهم الكاذبين، وحصر فيهم الكذب، فقال: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل: 105] أي أن الكذب نعت لازم لهم، وعادة من عاداتهم، وهذا كما تقول: كذبت وأنت كاذب، فيكون قولك: وأنت، زيادة في الوصف بالكذب.
وفي الآية أبلغ زجر عن الكذب، حيث أخبر الله أنه إنما يفتري الكذب من لا يؤمن.
529 - أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم المقري، أنا أبو حفص عمر بن أحمد الجوزي، أنا جدي محمد بن عمر بن حفص الزاهد، أنا أبو بكر محمد بن الفرج الأزرق، نا سعيد بن عبد الحميد بن جعفر الأنصاري، نا أبو زياد يزيد بن عبد الله، نا يعلى بن الأشدق، عن عبد الله بن جراد، قال: قلت: يا رسول الله، المؤمن يزني؟ قال: قد يكون ذلك.
قلت: يا رسول الله، المؤمن يسرق؟ قال: قد يكون ذلك.
قال: قلت: يا رسول الله، المؤمن يكذب؟ قال: لا، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [النحل: 105] .(3/85)
530 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، أنا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَبَّاسِ الرَّزَّازُ، نا أَبُو شُعَيْبٍ الْحَرَّانِيُّ، نا جَدِّي، نا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: إِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ مُجَانِبٌ لِلإِيمَانِ
قوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {106} ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ {107} أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ {108} لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ {109} } [النحل: 106-109] {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} [النحل: 106] نزلت في عمار بن ياسر، أخذه المشركون، فلم يتركوه حتى سب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذكر آلهتهم بخير، ثم تركوه، فلما أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «ما وراءك» .
قال: شر يا رسول الله، ما تركت حتى نلت منك، وذكرت آلهتهم بخير.
قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان.
قال: إن عادوا لك فعد لهم بما قلت ".
قال ابن عباس في رواية الوالبي: أخبر الله سبحانه أنه من كفر بعد إيمانه فعليه غضب من الله، ولهم عذاب عظيم، فأما من أكره، فتكلم بلسانه، وخالف قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوه، فلا حرج عليه لأن الله سبحانه إنما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم.
قوله: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل: 106] أي: فتحه ووسعه لقبول الكفر، قال الكلبي: والمراد بقوله: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل: 106] من ارتد عن الدين وطابت نفسه(3/86)
بالكفر.
يدل على هذا قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} [النحل: 107] أي: ذلك الشرح، وذلك الكفر بأنهم أحبوا الدنيا، واختاروها على الآخرة، وبأن الله لا يريد هدايتهم.
ثم وصفهم بأنهم مطبوع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ} [النحل: 108] الآية، وقوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [النحل: 108] قال ابن عباس: غافلون عما يراد بهم.
ثم حكم لهم بالخسارة وأكد ذلك، فقال: {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ} [النحل: 109] قوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ {110} يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ {111} } [النحل: 110-111] {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} [النحل: 110] نزلت في المستعفين من المؤمنين الذين كانوا بمكة، عذبوا في الله، وأريدوا على الكفر، فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم، وهاجروا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بعدما فتنوا، وقال ابن عباس: من بعد ما عذبوا.
ثم جاهدوا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصبروا على الدين والجهاد، {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا} [النحل: 110] من بعد تلك الفتنة، وتلك الفعلة التي فعلوها من التلفظ بكلمة الكفر، لغفور رحيم وقرأ ابن عامر فتنوا بفتح الفاء، والمعنى: من بعدما فتنوا أنفسهم بإظهار ما أظهروا للتقية، وجعل ذلك فتنة، لأن الرخصة فيه لم تكن نزلت بعد.
قوله: يوم تأتي أي: ذكرهم يا محمد يوم تأتي، {كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل: 111] هذا يوم القيامة كل أحد لا يهمه إلا نفسه، فهو مخاصم ومحتج عن نفسه، لا يتفرغ إلى غيره.
531 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، نا دَاوُدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، نا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، نا عَيَّادُ بْنُ كُلَيْبٍ اللَّيْثِيُّ، عَنْ صَالِحٍ الْمُرِّيِّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِكَعْبِ الأَحْبَارِ: يَا كَعْبُ، خَوِّفْنَا، حَدِّثْنَا حَدِيثًا تُنَبِّهُنَا بِهِ.
قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ وَافَيْتَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمِثْلِ عَمَلِ سَبْعِينَ نَبِيًّا لأَتَتْ عَلَيْكَ تَارَاتٍ، وَأَنْتَ لا يُهِمُّكَ إِلا نَفْسُكَ، وَإِنَّ لِجَهَنَّمَ زَفْرَةً لا يَبْقَى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ إِلا وَقَعَ جَاثِيًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، حَتَّى إِنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ لَيُدْلِي بِالْخُلَّةِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، أَنَا خَلِيلُكَ إِبْرَاهِيمُ، لا أَسْأَلُكَ إِلا نَفْسِي.
وَإِنَّ تَصْدِيقَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْكُمْ، أَمَا سَمِعْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى قَوْلِهِ: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل: 111] .
وَقَوْلِهِ: {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} [النحل: 111] أَيْ: جَزَاءُ مَا عَمِلَتْ، {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [النحل: 111] لا يُنْقَصُونَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا.
قوله: {(3/87)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ {112} وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ {113} } [النحل: 112-113] {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً} [النحل: 112] الآية، نزلت في أهل مكة، وما امتحنوا به من الخوف والجوع بعد الأمن والنعمة بتكذيبهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو قوله: قرية يعني مكة، {كَانَتْ آمِنَةً} [النحل: 112] ذات أمن يأمن فيها أهلها لا يغار عليهم، مطمئنة قارة ساكنة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها لخوف أو ضيق، وهو قوله: {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [النحل: 112] يأتيهم رزقهم في بلدهم، يجلب إليها من كل بلد، كما قال الله تعالى: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57] ، {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} [النحل: 112] حيث كذبوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخالفوا أمره، {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل: 112] قال المفسرون: عذبهم الله بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام المحرقة.
قال ابن قتيبة: {لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل: 112] ما ظهر عليهم من سوء آثارهم بالضمر والشحوب، وتغير الحال.
ومعنى {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل: 112] عرفها سوء أثرهما، وقد يستعمل الذوق في المعرفة، يقال: ذقت ما عند فلان إذا جربته وعرفته.
ويقال: اركب هذا الفرس تذقه أي: تعرف ما عنده من الجري، ومنه قول الشماخ يصف قوسا:
فذاق فأعطته من اللين جانبا ... كفاف لها أن يعزق السهم حاجزا
والمراد بالخوف خوفهم من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن السرايا التي كان يبعثهم إليهم فيطوفون بهم.
وروي عن أبي عمرو بنصب الخوف حملا على الإذاقة، والكلام في الآية خرج على القرية، والمراد أهلها، يدل على هذا قوله: {بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] فعاد الكلام إلى أهل القرية، قال ابن عباس: يريد بفعلهم بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث كذبوه، وأخرجوه من مكة، وما هموا به من قتله.
ولقد جاءهم يعني أهل مكة، رسول منهم من نسبهم، {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} [النحل: 113] يعني الجوع في قول ابن عباس، وقال مجاهد: يعني القتل ببدر.
ثم خاطب المؤمنين، فقال: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ {114} إِنَّمَا(3/88)
حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {115} وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ {116} مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {117} } [النحل: 114-117] فكلوا يا معشر المؤمنين، {مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [النحل: 114] من الغنائم، حلالا طيبا وهذه الآية والتي بعدها مفسرة في { [البقرة.
قوله:] وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ} [سورة النحل: 116] أي: لأجل وصفكم الكذب، والمعنى أنكم تحلون وتحرمون لأجل الكذب لا لغيره، فليس لتحليلكم وتحريمكم معنى إلا الكذب فقط، والمعنى: لا تفعلوا ذلك، والإشارة بقوله: {هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل: 116] إلى ما كانوا يحلونه ويحرمونه، قال ابن عباس: يعني قولهم: {مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} [الأنعام: 139] .
وقوله: {لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل: 116] هو أنهم كانوا ينسبون ذلك التحريم والتحليل إلى الله، ويقولون إنه أمرنا بذلك، ثم أوعد المفتري، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116] .
وبين أن ما هم فيه من نعيم الدنيا يزول عن قرب، فقال: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ} [النحل: 117] قال الزجاج: متاعهم متاع قليل.
يعني ما يتمتعون به، {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 117] في الآخرة.
قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ {118} ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ {119} إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {120} شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {121} وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ {122} ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {123} إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ {124} } [النحل: 118-124] {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} [النحل: 118] تقدم ذكره في { [الأنعام في قوله:] وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [سورة الأنعام: 146] الآية، وما ظلمناهم بتحريم ما حرمنا عليهم، {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: 118] بالبغي والمعاصي.
ثم ذكر المغفرة لمن تاب بعد المعصية، فقال: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النحل: 119] قال مجاهد: كل من عمل بمعصية الله فذلك منه جهل حتى يرجع.
وقال السدي: كل من عصى الله فهو جاهل.
وهذا كقوله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء: 17] قال ابن عباس: يريد بالسوء الشرك.
{ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [النحل: 119] السوء، وأصلحوا قال: آمنوا، وصدقوا، وقاموا لله تعالى بفرائضه.
{إِنَّ رَبَّكَ مِنْ(3/89)
بَعْدِهَا} [النحل: 119] من بعد تلك الجهالة، لغفور رحيم.
قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] قال أكثر أهل التفسير: معلما للخير.
قال ابن الأعرابي: يقال للرجل العالم أمة، والأمة الرجل الجامع للخير.
قانتا مطيعا لله، حنيفا قال ابن عباس: إنه أول من اختتن وأقام المناسك وضحى، فهذه صفة الحنيفية.
532 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ الْمُزَكِّي، أنا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفَقِيهُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ، نا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، نا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ، نا مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْغُدَانِيُّ، نا الشَّعْبِيُّ، حَدَّثَنِي فَرْوَةُ بْنُ نَوْفَلٍ الأَشْجَعِيُّ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: إِنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قُلْتُ: غَلِطَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا} ، قَالَ: فَأَعَادَهَا فَعَرَفْتُ أَنَّهُ تَعَمَّدَ الأَمْرَ تَعَمُّدًا فَسَكَتُّ، فَقَالَ: أَتَدْرِي مَا الأُمَّةُ؟ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسُ الْخَيْرَ، وَكَانَ مُطِيعًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالْقَانِتُ الْمُطِيعُ لِلَّهِ، وَكَذَلِكَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُعَلِّمُ الْخَيْرَ وَكَانَ مُطِيعًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ
قال ابن عباس في قوله: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 120] : أخلص لله التوحيد صبيا وكبيرا.
{شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ} [النحل: 121] انتصب على البدل من قوله: {أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} [النحل: 120] والأنعم جمع نعمة، اجتباه اختاره للنبوة، {وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 121] وهو دين الحنيفية.
{وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [النحل: 122] قال الوالبي، عن ابن عباس: يعني الذكر الحسن.
وقال الحسن: هي النبوة.
وقال مجاهد: لسان صدق في الآخرين.
وقال مقاتل: يعني عليه مقرونة بالصلاة على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال قتادة: هي أنه ليس من أهل دين إلا وهم يتلونه ويرضونه.
{وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [النحل: 122] ترغيب في الصلاح ليكون صاحبه في جنبة إبراهيم، وهذا أكمل مدح لإبراهيم حيث شرف جملة هو منها.
{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [النحل: 123] يا محمد، {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ(3/90)
حَنِيفًا} [النحل: 123] هذا يدل على أن دين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دين إبراهيم، حيث أمر باتباعه لسبقه إلى القول بالحق والعمل به، وقال عبد الله بن عمر: وأمر باتباعه فِي مناسك الحج كما علم جبريل إبراهيم.
وقوله: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} [النحل: 124] قال عطاء، عن ابن عباس: تهاونوا وصادوا فِيهِ وتعدوا.
وقال قتادة: استحله بعضهم، وحرمه بعضهم.
واختلافهم استحلالهم الصيد زمن داود يعني أهل أيلة، فجعل السبت عليهم، حيث عوقبوا بترك تحريمه، وهم الذين خالفوا أهل الحق فِي استحلال السبت، ثم ذكر بباقي الآية أنه يحكم بينهم يوم القيامة.
قوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ {125} وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرينَ {126} وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ {127} إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ {128} } [النحل: 125-128] {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} [النحل: 125] قال ابن عباس: دين ربك.
بالحكمة يعني النبوة، والموعظة الحسنة يعني مواعظ القرآن، وجادلهم أقبل على المشركين، واصرفهم عما هم عليه من الشرك، {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] أي: ألن لهم جانبك، ولا تكن فظا عليهم، {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ} [النحل: 125] إلى آخرها، أي: الله أعلم بالفريقين، فهو يأمرك فِيهمَا بما فِيهِ الصلاح.
قوله: وإن عاقبتم الآية،
533 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أنا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى الْحَافِظُ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نا بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ الْكِنْدِيُّ، نا صَالِحٌ الْمُرِّيُّ، نا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أَشْرَفَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى حَمْزَةَ فَرَآهُ صَرِيعًا، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا كَانَ أَوْجَعَ لِقَلْبِهِ مِنْهُ، فَقَالَ: «وَاللَّهِ لأَقْتُلَنَّ بِكَ سَبْعِينَ مِنْهُمْ» ، فَنَزَلَتْ {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا} الآيَةَ
وهذا قول عامة المفسرين، قالوا: نزلت لما نظر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى حمزة يوم أحد، وقد مثل به، فقال: والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك.
فنزل جبريل، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واقف بعد، بخواتيم { [النحل، فصبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمسك عما أراد، وكفر عن يمينه.
ثم أمره بالصبر عزما، فقال:] وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ} [سورة النحل: 127] أي بتوفيقه ومعونته، {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [النحل: 127] على قتلى أحد، فإنهم أفضوا إلى رحمة الله، ويقال: ولا تحزن على المشركين بإعراضهم عنك، {وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127] قال الفراء: الضيق ما ضاق عنه صدرك، والضيق ما يكون فِي الذي يتسع مثل الدار(3/91)
والثوب.
والمعنى: لا يضيق صدرك من مكرهم، وقرأ ابن كثير بكسر الضاد، قال الأخفش: يقال: ضاق يضيق ضيقا وضيقا فِي المصدر.
{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} [النحل: 128] الفواحش والكبائر وما حرم عليهم، {وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128] فِي العمل، وفيما افترض عليهم، قال الزجاج: ومعنى أن الله معهم أي أنه ناصرهم.(3/92)
سورة الإسراء
مكية وآياتها إحدى عشرة ومائة.
534 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَرَقَّ قَلْبُهُ عِنْدَ ذِكْرِ الْوَالِدَيْنِ، أُعْطِيَ قِنْطَارَيْنِ فِي الْجَنَّةِ مِنَ الأَجْرِ، وَالْقِنْطَارُ أَلْفٌ وَمِائَتَا أُوقِيَّةٍ، الأُوقِيَّةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1] بسم الله الرحمن الرحيم {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] أي: البراءة له، والتنزيه عما ينفى عنه مما لا يليق به، قال ابن عباس: نزه نفسه.
535 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبُوشَنْجِيُّ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ ابْنُ عَائِشَةَ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمَّادٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَأَلْتُ نَبِيَّ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ تَفْسِيرِهِ سُورَةِ سُبْحَانَ؛ قَالَ: «تَنْزِيهُ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، عَنْ كُلِّ سُوءٍ، نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْهُ»
وقوله: أسرى بعبده قال الزجاج: معناه سير عبده يعني محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلا.
قال مقاتل: كان ذلك الليل قبل الهجرة بسنة.
{مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1] قال الحسن، وقتادة: يعني نفس المسجد.
وقال عامة المفسرين: أسرى(3/93)
برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من دار أم هانئ، وأراد بالمسجد الحرام مكة، ومكة الحرم كلها مساجد.
{إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء: 1] يعني بيت المقدس، وقيل له الأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام، {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1] بالثمار والأنهار والأنبياء والصالحين، قال مجاهد: لأنه مقر الأنبياء، ومهبط الملائكة.
{لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء: 1] يعني ما رأى فِي تلك الليلة من العجائب التي أخبر بها الناس، والأخبار فِي قصة الإسراء كثيرة نقتصر منها على حديث أنس الذي أجمع الشيخان على صحته، وهو ما:
536 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أنا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ، نا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُنِيبٍ، نا عُثْمَانُ، نا هَمَّامٌ، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، وَأَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمِهْرَجَانِيُّ، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدَانَ، أنا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَنِيعِيُّ، نا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ النَّرْسِيُّ، نا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، نا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ مَالِكَ بْنَ صَعْصَعَةَ، أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَدَّثَهُ، عَنْ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ، قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ، وَرُبَّمَا قَالَ قَتَادَةُ: فِي الْحِجْرِ مُضْطَجِعًا إِذْ أَتَانِي آتٍ فَقَدَّ، وَسَمِعْتُ قَتَادَةَ يَقُولُ: فَشَقَّ مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ، قَالَ قَتَادَةُ: فَقُلْتُ لِلْجَارُودِ وَهُوَ إِلَى جَنْبِي: مَا يَعْنِي؟ قَالَ: مِنْ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ إِلَى شَعْرَتِهِ، قَالَ: فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي، وَأُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءٍ إِيمَانًا وَحِكْمَةً، فَغُسِلَ قَلْبِي، ثُمَّ حُشِيَ، ثُمَّ أُعِيدَ، ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ دُونَ الْبَغْلِ وَفَوْقَ الْحِمَارِ أَبْيَضَ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْجَارُودُ: أَهُوَ الْبُرَاقُ يَا أَبَا حَمْزَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ يَقَعُ خَطْوُهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرَفِهِ، قَالَ: فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ، فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى بِيَ السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَفُتِحَ لَنَا، قَالُوا: مَرْحَبًا بِهِ، وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ: فَأَتَيْتُ عَلَى آدَمَ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ انْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَفَتَحُوا لَنَا، وَقَالُوا: مَرْحَبًا بِهِ، وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَأَتَيْتُ عَلَى عِيسَى وَيَحْيَى، ابْنَيِ الْخَالَةِ، فَقُلْتُ: يَا جِبرِيلُ، مَنْ هَذَانِ؟ قَالَ: عِيسَى وَيَحْيَى، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِمَا، قَالا:(3/94)
مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا السَّمَاءَ الثَّالِثَةَ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قَالُوا: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَفَتَحُوا لَنَا، وَقَالُوا: مَرْحَبًا بِهِ، وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ: فَأَتَيْتُ عَلَى يُوسُفَ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا أَخُوكَ يُوسُفُ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَفَتَحُوا لَنَا، فَقَالُوا: مَرْحَبًا بِهِ، وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ: فَأَتَيْتُ عَلَى إِدْرِيسَ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَنْ هَذَا؟ قَالَ: إِدْرِيسُ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَفُتِحَ لَنَا، وَقَالُوا: مَرْحَبًا بِهِ، وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَأَتَيْتُ عَلَى هَارُونَ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا هَارُونُ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا السَّمَاءَ السَّادِسَةَ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَفُتِحَ لَنَا، وَقَالُوا: مَرْحَبًا بِهِ، وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَأَتَيْتُ عَلَى مُوسَى، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا مُوسَى، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، قَالَ: فَلَمَّا جَاوَزْتُهُ بَكَى، فَنُودِيَ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: رَبِّ، هَذَا غُلامٌ بَعَثْتَهُ بَعْدِي، وَيَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِهِ الْجَنَّةَ أَكْثَرُ مِمَّا يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي، ثُمَّ انْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا السَّمَاءَ السَّابِعَةَ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَفُتِحَ لَنَا، وَقَالُوا: مَرْحَبًا بِهِ، وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ: فَأَتَيْتُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا إِبْرَاهِيمُ، أَوْ أَبُوكَ إِبْرَاهِيمُ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، قَالَ: ثُمَّ رُفِعَتْ لَنَا سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، فَحَدَّثَ نَبِيُّ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ نَبَقَهَا مِثْلُ قِلالِ هَجَرٍ، وَأَنَّ وَرَقَهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ، قَالَ: وَرَأَيْتُ أَرْبَعَةَ أَنْهَارٍ يَخْرُجْنَ مِنْ أَصْلِهَا.
قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَا هَذِهِ الأَنْهَارُ؟ قَالَ: أَمَّا النَّهْرَانِ الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا النَّهْرَانِ الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ، قَالَ: وَأُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ أَحَدُهُمَا خَمْرٌ، وَالآخَرُ لَبَنٌ، فَعُرِضَا عَلَيَّ فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقِيلَ لِي: أَصَبْتَ أَصَابَ اللَّهُ بِكَ، أُمَّتُكَ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَأُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلاةً كُلَّ يَوْمٍ، أَوْ فُرِضَتْ عَلَيَّ خَمْسُونَ صَلاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ، فَأَقْبَلْتُ حَتَّى أَتَيْتُ مُوسَى، فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ؟ قِلْتِ: بِخَمْسِينَ صَلاةً، فَقَالَ: إِنِّي بَلَوْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، وَإِنَّ أُمَّتَكَ لا يُطِيقُونَ ذَلِكَ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا، فَأَقْبَلْتُ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى مُوسَى، قَالَ، بِمَا أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: بِخَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ صَلاةً كُلَّ يَوْمٍ، فَقَالَ: إِنِّي قَدْ بَلَوْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، وَإِنَّ أُمَّتَكَ لا يُطِيقُونَ ذَلِكَ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ، فَمَا زِلْتُ أَخْتَلِفُ بَيْنَ رَبِّي وَبَيْنَ مُوسَى يَحُطُّ عَنِّي خَمْسًا حَتَّى رَجَعْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَأَتَيْتُ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ؟ فَقُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: إِنِّي قَدْ بَلَوْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، وَإِنَّ أُمَّتَكَ لا يُطِيقُونَ ذَلِكَ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ، قَالَ: فَقُلْتُ: لَقَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى لَقَدِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ، وَلَكِنْ أَرْضَى وَأُسَلِّمُ، قَالَ: فَنُودِيتُ: أَنْ قَدْ أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي، وَخَفَّفْت عَنْ عِبَادِي، وَجَعَلْتُ كُلَّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، قَالَ: فَانْتَهَى حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ إِلَى هَذَا، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ هُدْبَةَ، عَنْ هَمَّامٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ كِلاهُمَا، عَنْ قَتَادَةَ(3/95)
537 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أنا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ أَيُّوبَ، نا الْمُفَضَّلُ بْنُ غَسَّانَ الْغَلابِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، نا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: " لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى أَصْبَحَ يُحَدِّثُ بِذَلِكَ النَّاسَ، فَارْتَدَّ نَاسٌ مِمَّنْ كَانَ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَ بِهِ، وَفُتِنُوا بِذَلِكَ عَنْ دِينِهِمْ، وَسَعَى رِجَالٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالُوا: هَلْ لَكَ فِي صَاحِبِكَ، يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ فَقَالَ: أَوَقَالَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ: فَقَالَ: لَئِنْ كَانَ قَدْ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ، قَالُوا: تُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى الشَّامِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنِّي لأُصَدِّقُهُ فِيمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ؛ أُصَدِّقُهُ فِي خَبَرِ السَّمَاءِ فِي غَدْوَةٍ وَرَوْحَةٍ، قَالَتْ: فَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قوله: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلا {2} ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا {3} وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا {4} فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا {5} ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا {6} إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا {7} عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا {8} } [الإسراء: 2-8] {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الإسراء: 2] ذكر الله فِي الآية الأولى إكرام محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن أسرى به، ثم ذكر أنه أكرم موسى أيضا قبله، فقال: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الإسراء: 2] يعني التوراة، {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الإسراء: 2] دللناهم به على الهدى، {أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلا} [الإسراء: 2] وقرأ أبو عمرو بالياء، لأن المعنى: هديناهم لئلا يتخذوا من دوني وكيلا، ومن قرأ بالتاء فهو على الانصراف إلى الخطاب بعد الغيبة مثل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] ، ثم قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] قال الزجاج: أي لا تتوكلوا على غيري، ولا تتخذوا من دوني ربا.
قوله: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء: 3] قال مجاهد: هذا نداء، والناس كلهم ذرية نوح، لأن من حمل مع نوح فِي السفينة كانوا أبناءه وذريته.
ثم أثنى على نوح فقال: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3] قال المفسرون: كان نوح إذا أكل طعاما، أو(3/96)
لبس ثوبا حمد الله، فسمي عبد شكورا.
قوله: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ} [الإسراء: 4] أعلمناهم وأوحينا إليهم فِي التوراة، {لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ} [الإسراء: 4] بالمعاصي وخلاف أحكام التوراة فِي الأرض، يعني أرض مصر، {مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 4] لتتعظمن على الطاعة، ولتبلغن.
{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا} [الإسراء: 5] أولى المرتين، بعثنا عليكم خلينا بينكم وبينهم، عبادا لنا يعني جالوت وجنوده، {أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء: 5] ذوي عدد وقوة فِي القتال، فجاسوا فطافوا وترددوا، خلال الديار والخلال: الانفراج بين الشيئين، قال الزجاج: طافوا خلال الديار ينظرون هل بقي أحد لم يقتلوه؟ قال: والجوس طلب الشيء باستقصاء.
{وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا} [الإسراء: 5] قال قتادة: قضاء الله على القوم كما تسمعون.
{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} [الإسراء: 6] قال ابن عباس: وقتل داود جالوت، وعاد ملكهم كما كان.
والكرة معناها الرجعة والدولة، {وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} [الإسراء: 6] وأعطيناكم، وأكثرنا أموالكم وأولادكم، {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء: 6] عددا وأنصارا منهم، قال أبو عبيدة: النفير العدد من الرجال.
قوله: إن أحسنتم أي: وقلنا لهم إن أحسنتم، أحسنتم لأنفسكم قال ابن عباس: إن أطعتم الله، عفا عنك المساوئ.
وإن أسأتم بالفساد وعصيان الأنبياء، فلها قال: يريد فعلى أنفسكم يقع الوبال.
{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ} [الإسراء: 7] وعد المرة الآخرة من إفسادكم، قال المفسرون: فأفسدوا المرة الثانية، فقتلوا يحيى بن زكريا عليهما السلام، فبعث الله عليهم بختنصر البابلي المجوسي أبغض خلقه إليه، فسبى، وقتل، وخرب بيت المقدس، وسامهم سوء العذاب.
وجواب فَإِذَا محذوف، تقديره فإذا جاء وعد الآخرة بعثناهم، {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ} [الإسراء: 7] يقال: ساءه يسوؤه، أي أحزنه، والمعنى: ليدخلوا عليكم الحزن بما يفعلون من قتلكم وسبيكم وتخريب بلادكم، وعديت(3/97)
المساءة إلى الوجوه، والمراد بها أصحابها، لما يبدوا فِيها من أثر الحزن والكآبة، وقرأ حمزة ليسوءَ على واحد، أي: ليسوء الله، أو ليسوء البعث وجوهكم، وقرأ الكسائي بالنون كقوله: بعثنا وأمددنا.
وقوله: {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء: 7] يقال: تبره أي أهلكه، قال الزجاج: كل شيء كسرته وفتنته فقد تبرته.
والمعنى: ليدمروا ويخربوا ما علو عليه.
قوله: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} [الإسراء: 8] هذا ما أخبر الله به بني إسرائيل فِي كتابهم، والمعنى: لعل ربكم أن يرحمكم ويعفو عنكم بعد انتقامه منكم يا بني إسرائيل، ثم عاد الله عليهم برحمته حتى كثروا وانتشروا، ثم قال: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء: 8] قال الحسن: وإن عدتم بالمعصية عدنا بالعقوبة.
قال إبراهيم: ثم عادوا فأعاد الله بالعرب.
{وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: 8] قال ابن عباس، وغيره: سجنا ومحبسا.
وقال مجاهد: يحصرون فِيها.
وهذا ابتداء إخبار عن الله فِي عقاب جميع الكافرين.
{إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا {9} وأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا {10} } [الإسراء: 9-10] {إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] أي: يرشد إلى الكلمة التي هي أعدل الكلمات، أي أعدلها وأصوبها، هي كلمة التوحيد.
قال الزجاج: يهدي للحال التي هي أقوم الحالات، وهي توحيد الله تعالى، والإيمان برسله عليهم الصلاة والسلام، والعمل بطاعته.
ويبشر المؤمنين بالجنة، وهو قوله: {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا {9} وأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} [الإسراء: 9-10] أي: ويبشرهم بالعذاب لأعدائهم، وذلك أن المؤمنين كانوا فِي أذى من المشركين، فعجل الله لهم البشرى فِي الدنيا بعقاب الكافرين، وهو قوله: {أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإسراء: 10] قوله: {وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولا} [الإسراء: 11] {وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ} [الإسراء: 11] هو أن الإنسان ربما يدعو فِي حال الضجر والغضب على نفسه وأهله وولده بما لا يحب أن يستجاب له، كما يدعو لنفسه بالخير، {وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولا} [الإسراء: 11] يعجل بالدعاء فِي الشر عجلته بالدعاء بالخير.
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا {12} وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا {13} اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا {14} } [الإسراء: 12-14] {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} [الإسراء: 12] علامتين تدلان على قدرة خالقهما، {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} [الإسراء: 12] أي: طمسنا نورها بما جعلنا فِيها من السواد، يروي أن الشمس والقمر كانا سواء فِي النور والضوء، فأرسل الله عز وجل(3/98)
جبريل، فأمر جناحه على وجه القمر فطمس عنه الضوء، {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12] مضيئة يبصر فِيها، {لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [الإسراء: 12] لتبصروا كيف تتصرفون فِي أعمالكم، وتطلبون رزقكم، {وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [الإسراء: 12] بمحو آية الليل، ولولا ذلك ما كان يعرف الليل من النهار، وكان لا يتبين العدد، وكل شيء مما يحتاج إليه، فصلناه تفصيلا بيناه تبيينا لا يلتبس معه بغيره.
قوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13] قال مجاهد: عمله من خير وشر.
قال السدي: ما كتب له من خير وشر.
وقال الحسن، وقتادة: سعادته وشقاوته بعمله.
وقال مجاهد فِي رواية الحكم: مكتوب فِي ورقة معلقة فِي عنقه شقي أم سعيد.
ومعنى الطائر ما طار له من خير أو شر، أي: صار له عند قسمته، من قولهم: أمرت المال وطيرته من القوم فطار له سهمه، ذكرنا ذلك عند قوله: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [الأعراف: 131] قال الأزهري: والأصل فِي هذا أن الله تعالى لما خلق آدم، علم المطيع من ذريته والعاصي، فكتب ما علم منهم أجمعين، وقضى سعادة من علمه مطيعا، وشقاوة من علمه عاصيا، فصار لكل منهم ما هو صائر إليه عند خلقه وإنشائه، فذلك قوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13] أي: ما طار له فِي علم الله بدءا، و {فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13] عبارة عن اللزوم كلزوم القلادة العنق من بين ما يلبس.
وقد روي فِي هذه الآية حديث مشروح، وهو ما:
538 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ التَّمِيمِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَلَّى، نا عَمْرُو بْنُ صُبْحٍ، عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ بْنَ أَسِيدٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " إِنَّ النُّطْفَةَ الَّتِي تُخْلَقُ مِنْهَا النَّسَمَةُ، تَصِيرُ فِي الْمَرْأَةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَلا يَبْقَى مِنْهَا شَعْرٌ وَلا بَشَرٌ وَلا عِرْقٌ وَلا عَصَبٌ إِلا دَخَلَتْ فِيهِ، حَتَّى إِنَّهَا لَتَدْخُلُ بَيْنَ الظُّفْرِ وَاللَّحْمِ، فَإِذَا مَضَى لَهَا أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً، أَهْبَطَهَا اللَّهُ إِلَى الرَّحِمِ، فَكَانَتْ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ تَكُونُ مُضْغَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَإِذَا تَمَّتْ لَهَا أَرْبَعُونَ، بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا مَلَكُ الأَرْحَامِ، فَيَخْلُقُ عَلَى يَدِهِ لَحْمَهَا وَدَمَهَا وَشَعْرَهَا وَبَشَرَهَا، ثُمَّ يَقُولُ: صَوِّرْ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، مَا(3/99)
أُصَوِّرُ؟ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ أَجَمِيلٌ أَمْ دَمِيمٌ؟ أَجَعْدٌ أَمْ سَبْطٌ؟ أَقَصِيرٌ أَمْ طَوِيلٌ؟ أَبْيَضٌ أَمْ آدَمُ؟ زَائِدٌ أَمْ نَاقِصٌ؟ أَسَوِيٌّ أَمْ غَيْرُ سَوِيٍّ؟ فَيَكْتُبُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَأْمُرُه اللَّهُ بِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَإِنْ كَانَ سَعِيدًا نَفَخَ فِيهِ بِالسَّعَادَةِ فِي آخِرِ أَجَلِهِ، وَإِنْ كَانَ شَقِيًّا نَفَخَ فِيهِ بِالشَّقَاوَةِ فِي آخِرِ أَجَلِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: اكْتُبْ أَثَرَهَا وَرِزْقَهَا وَمُصِيبَتَهَا وَعَمَلَهَا بِالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، فَسَيَكْتُبُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ، ثُمَّ يَقُولُ الْمَلَكُ: يَا رَبِّ، مَا أَصْنَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ؟ فَيَقُولُ: عَلِّقْهُ فِي عُنُقِهِ إِلَى قَضَائِي عَلَيْهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ، عَزَّ وَجَلَّ: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآيَةَ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مُجَاهِدٌ كَمَا ذَكَرْنَا عَنْهُ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُظْهِرَ لَهُ ذَلِكَ الْكِتَابُ، فَهُوَ قَوْلُهُ: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ، وَقَالَ الْحَسَنُ: يَابْنَ آدَمَ، بَسَطْتُ لَكَ صَحِيفَةً وَوُكِّلَ بِكَ مَلَكَانِ، فَهُمَا عَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ؛ فَأَمَّا الَّذِي عَنْ يَمِينِكَ فَيَحْفَظُ حَسَنَاتِكَ، وَأَمَّا الَّذِي عَنْ شِمَالِكَ فَيَحْفَظُ سَيِّئَاتِكَ، حَتَّى إِذَا مِتَّ طُوِيَتْ صَحِيفَتُكَ وَجُعِلَتْ مَعَكَ فِي قَبْرِكَ حَتَّى تَخْرُجَ لَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وهو قوله: {كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} [الإسراء: 13] كقوله: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} [التكوير: 10] وقرأ ابن عامر يلقاه من قولهم: لقيت فلانا، أي استقبلته به، قال الله تعالى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 11] .
قوله: اقرأ كتابك أي يقال له: اقرأ، والقول ههنا مضمر، قال الحسن: يقرأه أميا كان أو غير أمي.
وقال قتادة: سيقرأ يومئذ من لم يكن قارئا.
{كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14] الحسيب المحاسب كالشريك والجليس، قال الحسن: عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك.
والمعنى أن الإنسان يفوض إليه حسابه ليعلم عدل الله بين العباد، ويرى وجوب حجة الله عليه، واستحقاقه العقوبة، ثم إن كان مؤمنا دخل الجنة بفضل الله لا بعلمه، وإن كان كافرا استوجب النار بكفره.
قوله: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا {15} وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا {16} وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا {17} } [الإسراء: 15-17] {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} [الإسراء: 15] أي: ثواب اهتدائه لنفسه {وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [الإسراء: 15] على نفسه عقوبة ضلاله، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15] قال ابن عباس: إن الوليد بن المغيرة قال: اتبعوني، وأنا أحمل أوزاركم.
فقال الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15] قال الزجاج: أي أن الآثم والمذنب لا يؤاخذ بذنب غيره.
{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] قال قتادة: إن الله ليس معذبا أحدا حتى يبين له(3/100)
ما به يعذب.
وهذه الآية تدل على أن الواجبات إنما تجب بالشرع لا بالعقل، ولا يجب شيء على أحد قبل بعث الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء: 16] قال مجاهد: أكثرنا فساقها.
وهو قول عكرمة، وسعيد بن جبير.
يقال: أمر القوم إذا اكثروا، وأمرهم الله أي كثرهم.
وروى حماد بن سلمة، عن ابن كثير، آمرنا بالمد، وهي اللغة العالية، يقال: أمر القوم وأمرهم الله، أي: أكثرهم، ونحو هذا روى خارجة، عن نافع، والمترف المنعم الذي قد أبطرته النعمة وسعة العيش، والمفسرون يقولون فِي تفسير المترفين: الجبارين والمتسلطين والملوك.
وقوله: ففسقوا فيها أي تمردوا فِي كفرهم إذ الفسق فِي الكفر الخروج إلى أفحشه، فحق عليها قال ابن عباس: استوجبت العذاب.
يعني قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] .
فدمرناها تدميرا أهلكناها إهلاك الاستئصال، ثم ذكر سنته فِي إهلاك القرون الماضية، تخويفا لكفار مكة، فقال: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} [الإسراء: 17] الآية.
قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا {18} وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا {19} كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا {20} انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا {21} } [الإسراء: 18-21] {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ} [الإسراء: 18] يعني الدنيا عجلت فكانت قبل الآخرة، {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء: 18] أي: القدر الذي نشاء نعجل له فِي الدنيا، لا الذي يشاء هو، لمن نريد أن نعجل له شيئا قدرناه، وهذا ذم لمن أراد بعمله وطاعته وإسلامه الدنيا، ومنفعتها، وعروضها، وبيان أن من أرادها لا يدرك منها إلا ما قد له، إن قدر، {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا} [الإسراء: 18] ثم يدخل النار فِي الآخرة، لأنه لم يرد الله تعالى بعمله، {مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 18] مباعدا من رحمة الله.
{وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ} [الإسراء: 19] يعني الجنة، {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الإسراء: 19] عمل بفرائض الله، وهو مؤمن فإن الله لا يقبل حسنة إلا من مصدق، {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19] يضعف لهم الحسنات، ويمحو عنهم السيئات، ويرفع لهم الدرجات.
كلا نمد قال الحسن: كلا نعطي من الدنيا: البر والفاجر.
وقال الزجاج: أعلم(3/101)
الله أنه يعطي المسلم والكافر، وأنه يرزقهما جميعا.
ثم فصل الفريقين فقال: {هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20] ممنوعا، يقال: حظره يحظره حظرا، وكل من حال بينك وبين شيء فقد حظره عليك.
انظر يا محمد، {كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 21] يعني فِي الرزق، فمن مقل ومن مكثر، وموسع عليه، ومقتر عليه هذا فِي الدنيا، {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا} [الإسراء: 21] من الدنيا، قال ابن عباس: إذا دخلوا الجنان اقتسموا المنازل والدرجات على قدر أعمالهم.
وقال قتادة: للمؤمنين فِي الجنة منازل ولهم فضائل بأعمالهم.
539 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّمْجَارِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ الْمُفِيدُ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّقَطِيُّ، نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، نا شَرِيكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُحَادَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْجَنَّةُ مِائَةُ دَرَجَةٍ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مَسِيرَةُ خَمْسِ مِائَةِ عَامٍ»
{لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولا {22} وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا {23} وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا {24} رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا {25} } [الإسراء: 22-25] قوله: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الإسراء: 22] لا تعبد معه غيره، ولا تتخذ دونه إلها، والخطاب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمعنى عام لجميع المكلفين على نحو {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] ، {فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولا} [الإسراء: 22] لا ناصر لك.
قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] قال ابن عباس: يريد وأمر ربك ليس هو قضاء حكم.
وهو قول مجاهد، والحسن، وقتادة، وعامة المفسرين.
قال الفراء: العرب تقول: تركته يقضي أمور الناس، أي يأمر فِيها فينفذ أمره.
قال الزجاج: وقضى ربك معناه أمر، لأنه أمر قاطع حتم.
قوله: وبالوالدين إحسانا أي: أمر أن تحسنوا بالوالدين.
540 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَصْفَهَانِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الأَصْفَهَانِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو الْقَبَّابُ، نا(3/102)
الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، نا أَبُو مُعَاوِيَةَ النَّخَعِيُّ، نا أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ، حَدَّثَنِي صَاحِبُ هَذِهِ الدَّارِ؛ يَعْنِي: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الصَّلاةُ لِمِيقَاتِهَا، قِيلَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي "
541 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ الْمِهْرَجَانِيُّ، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بُطَّةَ، أنا الْبَغَوِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى الْمِصْرِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ زَيَّانَ بْنِ فَائِدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ بَرَّ وَالِدَيْهِ طُوبَى لَهُ، وَزَادَ اللَّهُ فِي عُمْرِهِ»
542 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ النَّصْرَابَادِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي عُثْمَانُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَسِيدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عُبَيْدٍ، مَوْلَى بَنِي سَاعِدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أَسِيدٍ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا؟ قَالَ: نَعَمْ، الصَّلاةُ عَلَيْهِمَا، وَالاسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لا تُوصَلُ إِلا بِهِمَا
وقوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ} [الإسراء: 23] يعني الكبر فِي السن إن عاشا عندك أيها الإنسان المخاطب حتى يكبرا، وقرأ حمزة يبلغان قال الفراء: ثنى لأن الوالدين قد ذكرا قبله فصار الفعل على عددهما.
ثم قال: {أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا} [الإسراء: 23] على الاستئناف، {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] قال ابن عباس: يريد بالأف الرديء من الكلام، أن تقول لهما: أماتكما الله، أراحني(3/103)
الله منكما.
وقال مجاهد: يبلغان أن يخريا أو يبولا، فلا تقل لهما أف، ولا تأذيهما كما لم يكونا يتأذيان به منك.
وقال ابن قتيبة: لا تستثقل شيئا من أمرهما، الناس يقولون لما يكرهون ويستثقلون أف له.
543 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، أنا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ، نا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُنِيبٍ، نا جَرِيرٌ، أنا سُهَيْلٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَغِمَ أَنْفُهُ، رَغِمَ أَنْفُهُ، قَالُوا: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ، أَحَدُهُمَا، أَوْ كِلاهُمَا، ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ جَرِيرٍ
وقوله: {وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] يقال: نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره.
قال ابن عباس: يريد الجواب بالغلظة.
وقال الزجاج: لا تكلمهما ضجرا صائحا فِي وجوههما.
{وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا} [الإسراء: 23] لينا لطيفا أحسن ما تجد من القول.
{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24] ألن لهما جانبك متذللا لهما من رحمتك إياهما وشفقتك عليهما، وخفض الجناح من السكون وترك التعصب والإباء عليهما، {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24] أي: مثل رحمتهما إياي فِي صغري حتى ربياني، وقال قتادة: هكذا علمتم، وبهذا أمرتم، فخذوا بتعليم الله وأدبه.
{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} [الإسراء: 25] أي: بما تضمرون من البر والعقوق، فمن بدرت منه بادرة وهو لا يضمر عقوقا، غفر الله له ذلك، وهو قوله: {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ} [الإسراء: 25] طائعين لله تعالى، {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ} [الإسراء: 25] الراجعين عن المعاصي، النادمين على الزلات، غفورا يغفر لهم ما بدر منهم.
ثم حض على صلة القرابة وبر الأقارب، فقال: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا {26} إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا {27} وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا {28} } [الإسراء: 26-28] {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء: 26] قال الحسن: هو أن تؤتيهم وإن كان يسيرا.
{وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26] قال ابن مسعود: التبذير النفقة فِي غير حق.
قال عثمان بن الأسود: كنت أطوف مع مجاهد حول الكعبة، فرفع رأسه إلى أبي قبيس، فقال: لو(3/104)
أن رجلا أنفق مثل هذا فِي طاعة الله، لم يكن من المسرفين، ولو أنفق درهما واحد فِي معصية الله كان من المسرفين.
{إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ} [الإسراء: 27] المنفقين فِي غير طاعة الله، {كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 27] لأنهم يوافقونهم فيما يدعونهم إليه، وهو كل من أجاب الشيطان إلى ما سول له، فهو من إخوان الشياطين، {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 27] قال ابن عباس: جاحدا لأنعمه.
وهذا يتضمن أن المنفق فِي السرف كفور لربه فيما أنعم عليه.
قوله: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} [الإسراء: 28] عن هؤلاء الذين أوصيناك بهم من ذوي القربى والمساكين وابن السبيل، {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ} [الإسراء: 28] انتظار رزق يأتيك من الله، والمعنى أن تعرض عن السائل إضافة وإعسارا، {فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا} [الإسراء: 28] أي: عدهم عدة حسنة، قاله الفراء، ومجاهد، والكلبي.
وقال ابن زيد: قولا جميلا، رزقك الله بارك الله فيك.
ويروى أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا سئل، وليس عنده ما يعطي، أمسك، انتظار الرزق يأتي الله به، ويكره الرد، فلما نزلت هذه الآية، كان إذا سئل ولم يكن عنده ما يعطي قال: «يرزقنا الله وإياكم من فضله» .
ومعنى الميسور اللين والسهل.
قوله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا {29} إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا {30} وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْأً كَبِيرًا {31} وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا {32} وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا {33} } [الإسراء: 29-33] {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29] الآية، روى أبو حفص، عن عبد الله بن مسعود، قال: جاء غلام إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: إن أمي تسألك كذا.
فقال: «ما عندنا اليوم شيء» .
قال: فيقول لك اكسني قميصا.
قال: فخلع قميصه ودفعه إليه وجلس فِي البيت ".
فأنزل الله هذه الآية.
والمعنى: لا تمسك يدك عن البذل كل الإمساك حتى كأنها مقبوضه إلى عنقك لا تبسط الخير، {وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] قال ابن عباس: أي فِي النفقة والعطية، كأنه نهي عن بذل جميع ما عنده حتى لا يبقى له شيء.
وقال مجاهد:(3/105)
يعني التبذير والإنفاق فيما لا يصلح.
وقوله: فتقعد ملوما قال السدي: تلوم نفسك وتلام محسورا.
قال ابن عباس: ليس عندك شيء.
يقال: حسرت الرجل بالمسألة أحسره إذا أفنيت جميع ما عنده.
{إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الإسراء: 30] يوسع على من يشاء، ويضيق على من يشاء، {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء: 30] حيث أجرى رزقهم على ما علم فِيهِ صلاحهم.
قوله {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ} [الإسراء: 31] مفسر فِي { [الأنعام إلى قوله:] إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْأً كَبِيرًا} [سورة الإسراء: 31] أي: إثما كبيرا، يقال: خطئ يخطأ خطأ، أي أثم، وقرأ ابن عامر خطأ بالفتح، وهو اسم من أخطأ، وقد جاء أخطأ بمعنى خطئ، أي أثم، وإذا كان كذلك كان خطئا بمعنى خطأ، وقرأ ابن كثير خطأ بكسر الخاء ممدودا، وهو بعيد لا وجه له.
قوله {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء: 32] الآية،
544 - سَمِعْتُ الأُسْتَاذَ أَبَا عُثْمَانَ الْحِيرِيَّ، سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ، سَمِعْتُ أَبَا عُمَرَوَ عُثْمَانَ بْنَ الْخَطَّابِ، الْمَعْرُوفَ بِأَبِي الدُّنْيَا، سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: فِي الزِّنَا سِتُّ خِصَالٍ؛ ثَلاثٌ فِي الدُّنْيَا، وَثَلاثٌ فِي الآخِرَةِ، فَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَيُذْهِبُ بِنُورِ الْوَجْهِ، وَيَقْطَعُ الرِّزْقَ، وَيُسْرِعُ الْفَنَاءَ، وَأَمَّا اللَّوَاتِي فِي الآخِرَةِ: فَغَضَبُ الرَّبِّ، وَسُوءُ الْحِسَابِ، وَالدُّخُولُ فِي النَّارِ "
قوله: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} [الإسراء: 33] قال المفسرون: حقها الذي تقتل به كفر بعد إسلام، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس مؤمنة بتعمد.
{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا} [الإسراء: 33] يعني بغير إحدى هذه الخصال، {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ} [الإسراء: 33] يعني لوارثه الذي له المطالبة بدمه، سلطانا قال مجاهد: سلطانه حجته التي جعلت له أن يقتل قاتله.
وقال الضحاك: هو أنه(3/106)
إن شاء قتل، وإن شاء عفا، وإن شاء أخذ الدية.
{فَلا يُسْرِفْ} [الإسراء: 33] الولي، {فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] قال ابن عباس: هو أن يقتل غير القاتل.
وقال مجاهد: هو أن يقتل بالواحد الاثنين والثلاثة.
والمعنى: فلا يسرف الولي فِي القتل، أي لا يتجاوز ما حد له إنه الولي، {كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33] بقتل قاتل وليه والاقتصاص منه، وقرأ حمزة فلا تسرف بالتاء على مخاطبة الولي.
وقوله: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا {34} وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا {35} } [الإسراء: 34-35] {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 34] مفسر فِي { [الأنعام، قوله: وأوفوا بالعهد قال الزجاج: كل ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد.
] إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا} [سورة الإسراء: 34] عنه.
{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ} [الإسراء: 35] أتموه ولا تبخسوا منه شيئا، {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} [الإسراء: 35] قال ابن عباس، والحسن: هو القبان.
وقال: هو بالرومية.
وقال الزجاج: هو ميزان العدل.
أيّ ميزان كان من موازين الدراهم وغيرها، وفيه لغتان: ضم القاف وكسرها، {ذَلِكَ خَيْرٌ} [الإسراء: 35] قال عطاء: أقرب إلى الله.
وقال قتادة: خير ثوابا.
{وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [الإسراء: 35] عاقبة فِي الجزاء.
{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا {36} وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا {37} كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا {38} } [الإسراء: 36-38] {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] يقال: قفا يقفو قفوا إذا اتبع الأثر.
قال الكلبي: لا تقل ما ليس لك به علم.
وقال قتادة: لا تقل سمعت ولم تسمع، ورأيت ولم تر، وعلمت ولم تعلم.
والمعنى: لا تقولن فِي شيء مما لا تعلم، {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا} [الإسراء: 36] قال الوالبي، عن ابن عباس:(3/107)
يسأل الله العباد فيم استعملوها.
فِي هذا زجر عن النظر إلى ما لا يحل، والاستماع إلى ما يحرم، وإرادة ما لا يجوز.
قوله: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} [الإسراء: 37] المرح شدة الفرح، قال ابن عباس: يريد بالكبرياء والعظمة.
وقال الزجاج: ولا تمش فِي الأرض مختالا فخورا.
{إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ} [الإسراء: 37] الخرق الشق، يقال: خرق ثوبه إذا شقه.
قال ابن عباس: لن تخرق الأرض بكبرك ومشيك عليها.
{وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا} [الإسراء: 37] بعظمتك وإنما أنت مخلوق عبد ذليل، والمعنى: أنك لا تقدر أن تثقب الأرض حتى تبلغ آخرها، ولا أن تطول الجبال، فلا تستحق الكبر والبذخ، {كُلُّ ذَلِكَ} [الإسراء: 38] إشارة إلى جميع ما تقدم ذكره مما أمر به ونهى عنه، كان سيئه قرئ بالإضافة والتنوين، قال الزجاج: والإضافة أحسن، لأن فيما تقدم من الآيات سيئا وحسنا، سيئه هو المكروه، ويقوى ذلك التذكير فِي المكروه.
ومن قرأ بالتنوين جعل كلا إحاطة بالمنهي عنه دون الحسن، المعنى: كل ما نهى الله عنه كان سيئه فكان مكروها، والمكروه على هذه القراءة بدل من السيئة، وليس بنعت.
قوله: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 39] {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ} [الإسراء: 39] يعني ما تقدم ذكره من الفرائض والسنن، من الحكمة من القرآن ومواعظه، {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الإسراء: 39] هذا خطاب لكل واحد من المؤمنين، كأنه قال: ولا تجعل أيها الإنسان.
ثم خاطب المشركين الذين زعموا أن الملائكة بنات الله منكرا عليهم، فقال: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلا عَظِيمًا {40} وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْءَانِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا نُفُورًا {41} قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلا {42} سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا {43} تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا {44} } [الإسراء: 40-44] {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ} [الإسراء: 40] يقال: أصفاه بالشيء إذا آثره به.
قال أبو عبيدة: أفأصفاكم خصكم.
وقال المفضل: أخلصكم.
وهذا توبيخ للكفار، يقال: اختار لكم ربكم البنين دونه، وجعل البنات مشتركة بينه وبينكم، فاختصكم بالأجل، وجعل لنفسه الأدون؟ إنكم لتقولون بهذا الزعم الباطل، قولا عظيما يعظم خطؤه وإثمه.
قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْءَانِ} [الإسراء: 41] أي: صرفنا ضروب القول فِيهِ من الأمثال وغيرها مما يوجب الاعتبار به، ومعنى التصريف ههنا التبيين، لأنه إنما يصرف القول ليبين، وقوله: {لِيَذَّكَّرُوا} [الإسراء: 41] ليتعظوا، ويتدبروه بعقولهم، ويتفكروا فِيهِ، وقراءة حمزة بالتخفيف بهذا المعنى كقوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} [البقرة: 63] وقوله: {وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا نُفُورًا} [الإسراء: 41] قال ابن عباس: ينفرون من الحق، ويتعبون الباطل.(3/108)
والمعنى: وما يزيدهم تصريف الآيات إلا نفورا، كقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا} [فاطر: 42] وذلك أنهم اعتقدوا أن القرآن شبه وحيل، فنفروا منها أشد النفور.
قوله: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} [الإسراء: 42] وقرأ ابن كثير بالياء على معنى كما يقول المشركون من إثبات الآلهة، {إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلا} [الإسراء: 42] إذا لابتغت الآلهة أن تزيل ملك صاحب العرش، والمعنى لابتغوا سبيلا إلى ممانعته ومضادته، وهذا قول الحسن، والكلبي، وسعيد بن جبير.
ثم نزه نفسه، فقال: سبحانه وتعالى الآية.
ثم ذكر أن كل ما خلق مسبح له، فقال: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ} [الإسراء: 44] الآية، المراد بالتسبيح ههنا الدلالة على أن الله عز وجل خالق حكيم مبرأ من الأسوأ، والمخلوقون والمخلوقات كلها تدل على أن الله خالقها، كما قال ابن عباس فِي قوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] أي: يخشع ويخضع.
قوله: {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] مخاطبة للكفار لأنهم لا يستدلون ولا يعتبرون.
قوله: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا {45} وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْءَانِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا {46} نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا {47} انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلا {48} وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا {49} قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا {50} أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا {51} يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا {52} وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا {53} رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ(3/109)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلا {54} وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا {55} } [الإسراء: 45-55] {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء: 45] نزلت فِي قوم كانوا يؤذون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قرأ القرآن، قال الكلبي: وهم أبو سفيان، والنضر بن الحارث، وأبو جهل، وأم جميل امرأة أبي لهب.
حجب الله رسوله عن أبصارهم عند قراءة القرآن، فكانوا يأتونه ويمرون به ولا يرونه.
545 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُطَّوِّعِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْحِيرِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى، نا أَبُو مُوسَى إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْهَرَوِيُّ، نا سُفْيَانُ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنِ ابْنِ تَدْرُسَ، عَنْ أَسْمَاءَ، قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ؛ جَاءَتِ الْعَوْرَاءُ أُمُّ جَمِيلٍ، وَلَهَا وَلْوَلَةٌ، وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ، وَهِيَ تَقُولُ: مُذَمَّمًا أَبَيْنَا، وَدِينَهُ قَلَيْنَا، وَأَمْرَهُ عَصَيْنَا، وَرَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَالِسٌ وَأَبُو بَكْرٍ إِلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَقَدْ أَقْبَلَتْ هَذِهِ وَأَنَا أَخَافُ أَنْ تَرَاكَ، فَقَالَ: «إِنَّهَا لَنْ تَرَانِي» ، وَقَرَأَ قُرْآنًا اعْتَصَمَ بِهِ {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} ، قَالَ: فَجَاءَتْ حَتَّى قَامَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَلَمْ تَرَ النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ، بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ هَجَانِي، قَالَ: لا، وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ، مَا هَجَاكِ، فَانْصَرَفَتْ وَهِيَ تَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي بِنْتُ سَيِّدِهَا، رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي (صَحِيحِهِ) ، عَنِ الصَّبَغِيِّ، عَنْ بِشْرِ بْنِ مُوسَى، عَنِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ
وقوله: حجابا مستورا قال الأخفش: أراد ساترا، والفاعل قد يكون فِي لفظ المفعول، كما تقول: إنه لمشئوم وميمون، وإنما هو شائم ويامن.
فقال غيره: حجابا مستورا عن الأعين لا يبصر، إنما هو قدرة من قدرة الله تعالى، حجب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أعين أعدائه حجاب لا يرونه ولا يراه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم ذكر أن الله منعهم من فهم القرآن بقوله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} [الإسراء: 46] وقد تقدم تفسيره فِي { [الأنعام، وقوله:] وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْءَانِ وَحْدَهُ} [سورة الإسراء: 46] يعني قلت لا إله إلا الله وأنت تتلو القرآن، {وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء: 46] قال ابن عباس: كارهين أن يوحدوا الله.
وقال قتادة: إن(3/110)
النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قال: لا إله إلا الله، أنكر ذلك المشركون، وكبر عليهم.
والمعنى: انصرفوا هاربين عنك كراهية لما يسمعونه من توحيد الله.
قوله: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ} [الإسراء: 47] قال المفسرون: أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يتخذ طعاما ويدعو إليه أشراف قريش من المشركين، ففعل ذلك عليٌّ، ودخل عليهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقرأ عليهم القرآن، ودعاهم إلى التوحيد، فكانوا يستمعون ويقولون فيما بينهم متناجين: هو ساحر، وهو مسحور.
فأخبر الله نبيه بذلك، وأنزل عليه {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ} [الإسراء: 47] أي يستمعونه، والباء زائدة، أخبر الله أنه عالم بتلك الحالة، وبذلك الذي كانوا يستمعونه، إذ يستمعون إلى الرسول، {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} [الإسراء: 47] قال ابن عباس: يتناجون فيما بينهم بالتكذيب والاستهزاء، {إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ} [الإسراء: 47] يعني أولئك المشركون، إن تتبعون ما تتبعون، {إِلا رَجُلا مَسْحُورًا} [الإسراء: 47] مخدوعا، والمسحور الذي قد سحر فاختلط عليه أمره، قال ابن الأعرابي: المسحور الذاهب العقل، المفسد أمره.
و {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ} [الإسراء: 48] بينوا لك الأشياء حين شبهوك بالكاهن، والساحر، والشاعر، والمعلم، والمجنون، فضلوا عن الحق {فَلا يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلا} [الإسراء: 48] مخرجا عن الضلال إلى الهدى.
ثم ذكر إنكارهم البعث بقوله: {وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا} [الإسراء: 49] قال الفراء: الرفات التراب لا واحد له، وهو مثل الرقاق، والحطام.
والرفت كسر الشيء بيدك، مثل المدر والعظم البالي، وما كسر فهو رفات، مثل الفتات، قال ابن عباس رضي الله عنه: أي إذا ذهب اللحم والعروق، وبقيت عظام قد بليت، فإذا مسكته بين أصبعيك انسحق، فهو رفات.
{أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء: 49] أي: أنبعث إذا صرنا ترابا؟ وهذا استفهام إنكار وتعجب، قال الله تعالى: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} [الإسراء: 50] قال الزجاج: إنهم كانوا يقرون أن الله خالقهم، وينكرون أنه يعيدهم.
فقيل لهم استشعروا أنكم لو خلقتم من حجارة أو حديد {أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} [الإسراء: 51] الأكثرون قالوا: يعني الموت، وليس أكبر فِي صدور بني آدم من الموت، يقول: لو كنتم الموت، لأماتكم الله، ثم أحياكم، لأن القدرة التي بها أنشأكم، بها يعيدكم، هذا معنى قوله: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: 51] وقال مجاهد: ما شئتم فكونوا حجارة، أو حديدا، أو سماء، أو أرضا، أو جبلا سيعيدكم الله كما كنتم، وقوله: فسينغضون يقال: أنغض رأسه ينغضه إنغاضا إذا حركه.
والمعنى: يحركون رءوسهم تكذيبا لهذا القول واستبعادا له، {وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ} [الإسراء: 51] أي البعث والإعادة، {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء: 51] يعني هو قريب، وعسى من الله واجب.
ثم ذكر أنه متى يكون، فقال: يوم يدعوكم أي: بالنداء الذي يسمعكم، وهو النفخة الأخيرة كما قال: {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [ق: 41] .(3/111)
{فَتَسْتَجِيبُونَ} [الإسراء: 52] تجيبون، {بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 52] قال سعيد بن جبير: يخرجون من قبورهم، ويقولون: سبحانك وبحمدك، ولا ينفعهم فِي ذلك اليوم لأنهم حمدوا حين لا ينفعهم الحمد.
{وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا} [الإسراء: 52] وتعلمون ما لبثتم فِي الدنيا إلا قليلا، قال الحسن، وقتادة: استقصروا مدة لبثهم مع ما يعلمون من طول لبثهم فِي الآخرة.
ومن المفسرين من يذهب إلى أن هذه الآية خطاب للمؤمنين، لأنهم يستجيبون الله بحمده، ويحمدونه على إحسانه إليهم، ويستقلون مدة لبثهم فِي البرزخ لأنهم كانوا غير معذبين.
وقوله: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 53] قال الكلبي: كان المشركون يؤذون أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة، فيقولون: يا رسول الله، ائذن لنا فِي قتالهم.
فيقول لهم: إني لم أومر فيهم بشيء.
فأنزل الله هذه الآية، والمعنى: قل لعبادي المؤمنين يقولوا للكافرين الكلمة التي هي أحسن، قال الحسن: يقولون له: يهديك الله.
إن الشيطان هو الذي يفسد بينهم لأنه عدو للإنسان ظاهر العداوة.
{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ} [الإسراء: 54] بالإنجاء من كفار مكة، وينصركم عليهم، {أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} [الإسراء: 54] بتسليطهم عليكم، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلا} [الإسراء: 54] حافظا وكفيلا، أي وما وكل إليهم إيمانهم، إن شاء هداهم وإن شاء خذلهم.
{وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الإسراء: 55] قال ابن عباس: لأنه خلقهم، فهدى بعضهم وأضل بعضهم على علم منه بهم، وكذلك تفضيل النبيين بعضهم على بعض، كان عن حكمة وعلم، وهو قوله: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55] قال قتادة: اتخذ الله إبراهيم خليلا، وكلم موسى تكليما، وجعل عيسى كلمته وروحه، وآتى سليمان ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، وآتى داود زبورا، وغفر لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
وقوله: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [الإسراء: 55] قال الزجاج: أي فلا تنكروا تفضيل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإعطاءه القرآن، فقد أعطى الله داود الزبور.
وقال قتادة: كنا نحدث أنه تحميد وتمجيد لله، ليس فِيهِ حلال ولا حرام، ولا فرائض ولا حدود.
{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلا {56} أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا {57} } [الإسراء: 56-57] قوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الإسراء: 56] الآية، قال المفسرون: ابتلى الله قريشا وأهل مكة بالقحط سنين، فشكوا ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله هذه الآية.
والمعنى: قل للمشركين ادعوا الذين ادعيتم كذبا أنهم آلهة، ثم أخبر عن الآلهة، فقال: {فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ} [الإسراء: 56] يعني البؤس والشدة، ولا تحويلا التحويل النقل من حال إلى حال، ومن(3/112)
مكان إلى مكان، قال ابن عباس: يريد من السقم والفقر إلى الصحة والغنى.
وفي هذا احتجاج عليهم أنهم فِي عبادتهم على الباطل، قال ابن عباس فِي رواية عطاء: ثم ذكر أولياءه، فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء: 57] قال: يتضرعون إلى الله فِي طلب الجنة، والوسيلة الدرجة العليا، وقد تكون الوسيلة القربة إلى الله تعالى وما يقربك من رحمته.
ذكرنا ذلك فِي قوله: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] قال الزجاج: المعنى يبتغي أيهم أقرب الوسيلة إلى الله، أي: يتقرب إليه بالعمل الصالح، قال ابن عباس: يتقربون إلى الله بصالح الأعمال، فيرجون رحمته، ويريدون جنته، ويخافون عذابه.
{إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57] يحذره المؤمنون المتقون، فيطيعون الله خوفا منه.
{وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا {58} وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا {59} وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْءَانِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا {60} } [الإسراء: 58-60] قوله: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا} [الإسراء: 58] قال ابن مسعود: إذا ظهر الزنا والربا فِي أهل قرية، أذن الله فِي إهلاكها.
وقال مقاتل: أما الصالحة فبالموت، وأما الطالحة فبالعذاب.
وقال الزجاج: أي ما من أهل قرية إلا وسيهلك، إما بموت أو بعذاب يستأصلهم.
{كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الإسراء: 58] قال قتادة: قضاء من الله كما تسمعون ليس منه بد.
قوله: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ} [الإسراء: 59] قال المفسرون: سأل أهل مكة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن ينحي الجبال عنهم، فيزرعوا.
فأتاه جبريل، فقال: إن شئت، كان ما سأل قومك، ولكنهم إن لم يؤمنوا لم يمهلوا، وإن شئت، استأنيت بهم.
قال: «لا، بل أستأني بهم» .
فأنزل الله هذه الآية، وتقدير الكلام: وما منعنا إرسال الآيات التي سألوها إلا تكذيب الأولين، ويعني أنهم سألوا الآيات التي استوجب بها الأولون العذاب لما كذبوا بها، والمعنى: أنا لم نرسل بالآيات لئلا يكذب بها هؤلاء كما كذب من قبلهم، فيستحقوا المعاجلة بالعقوبة، وسنة الله فِي الأمم، إذا سألوا الآيات، فأتتهم، ثم لم يؤمنوا، أن يعذبهم، ولا يمهلهم، وقوله: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 59] قال قتادة: بينة.(3/113)
والمبصرة البينة، أراد آية مبصرة، أي مضيئة.
وهذا كقوله: {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12] ، وقوله فظلموا بها أي: ظلموا أنفسهم بتكذيبها، وقد يكون الظلم الجحد كقوله: {بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 9] أي يجحدون، {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ} [الإسراء: 59] أي: العبر والدلالات، إلا تخويفا للعباد ليتعظوا ويخافوا.
قوله: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} [الإسراء: 60] أي: فهم فِي قبضته وهو محيط بهم بالعلم والقدرة، قال قتادة: يمنعك من الناس حتى تبلغ رسالة ربك.
وقال الحسن: حال بينهم وبين أن يقتلوك كما قال: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] .
وقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] يعني ما أراه الله ليلة الإسراء، وكانت رؤيا يقظة، لا رؤيا منام، وهذا قول سعيد بن جبير، وأبي مالك، والسدي، ومجاهد، وقتادة، والحسن، والضحاك، وابن زيد، وابن عباس فِي رواية عكرمة، قال: هي رؤيا عين أريها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة أسري به فِي بيت المقدس، وذلك أنه ارتد بعضهم حين أعلمهم قصة الإسراء، فأنكروا وكذبوا، وازداد المؤمنون المخلصون إيمانا، وكانت تلك الرؤيا فتنة للناس.
وقوله: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْءَانِ} [الإسراء: 60] هذا على التقديم والتأخير، والتقدير وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة فِي القرآن إلا فتنة للناس، وهي شجرة الزقوم، وكانت الفتنة فِيها ما قال قتادة: خوف الله تعالى بها عباده، ففتنوا بذلك حتى قال أبو جهل: زعم صاحبكم أن فِي النار شجرا، والنار تأكل الشجر.
وقال ابن الزبعري: ما نعلم الزقوم إلا التمر والزبد.
قال الزجاج: والعرب تقول لكل طعام مكروه وضار:(3/114)
ملعون.
يدل على هذا ما روى عكرمة، عن ابن عباس، قال: الشجرة المذمومة.
ومعنى فِي القرآن أي التي ذكرت فِي القرآن.
546 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الطَّبَرِيُّ، أنا جَدِّي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ حَمْدُوَيْهِ الْمَرْوَزِيُّ، نا مَحْمُودُ بْنُ آدَمَ، نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ} قَالَ: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ، وَالشَّجَرَةُ الْمَلْعُونَةُ هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنِ ابْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الصَّنْعَانِيِّ، عَنِ الدَّبَرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ
وقوله: ونخوفهم أي بالآيات والدلالات، فما يزيدهم التخويف، {إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء: 60] لأنهم لا يرجعون عن غيهم.
قوله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا {61} قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا {62} قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا {63} وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا {64} إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا {65} } [الإسراء: 61-65] {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ} [الإسراء: 61] الآية مفسرة فيما تقدم إلى قوله: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء: 61] قال الزجاج: المعنى لمن خلقته طينا، وهو منصوب على الحال.
والمعنى أنك أنشأته فِي حال كونه من طين، واعتقد إبليس، لعنه الله، أن النار أكرم أصلا من الطين، وأنه أكرم ممن خلق من الطين، وذهب عليه بجهله أن الجواهر كلها من جنس واحد، وأن الله عز وجل يصرفها بالإعراض كيف شاء، مع كرم جوهر الطين بكثرة ما فِيهِ من المنافع.
قال إبليس، {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} [الإسراء: 62] أي: أرأيت هذا الذي فضلته عليَّ، يعني آدم، والكاف فِي أرأيتك لا موضع لها، لأنها ذكرت فِي الخاطبة توكيدا، {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الإسراء: 62] أي: أخرت أجل موتي، {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} [الإسراء: 62] لأستأصلنهم، ولأستولين عليهم بالإغواء والإضلال، وأصله من احتناك الجراد الزرع، وهو أن تأكله وتستأصله بأحناكها وتفسده، وهذا هو الأصل، ثم يسمى الاستيلاء على الشيء وأخذ كله احتناكا، وقوله: إلا قليلا يعني المعصومين، قال ابن عباس: هم أولياء الله الذين عصمهم، وهم الذين استثنى الله فِي قوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الإسراء: 65] .
قال الله تعالى لإبليس: {اذْهَبْ} [الإسراء: 63] وهذا اللفظ يتضمن معنى إنظاره وتأخير أجله، فمن تبعك أي: أطاعك واتبع أمرك، منهم من ذرية آدم، {(3/115)
فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا} [الإسراء: 63] قال الزجاج: موفرا، يقال وفرته أفره وفرا، وهو موفور، وأنشد لزهير:
ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
واستفزز أي أزعج واستخف، من استطعت من بني آدم، يقال: أفره واستفزه، أي أزعجه واستخفه، ومعنى الأمر ههنا التهديد، كما يقال للإنسان: اجهد جهدك فسترى ما ينزل بك.
وقوله: بصوتك قال مجاهد، وعكرمة: يعني الغناء والمزامير.
وقال الوالبي، عن ابن عباس: صوته دعاء كل داع إلى معصية الله.
وقال عطاء عنه: كل متكلم فِي غير ذات الله، فهو صوت الشيطان.
وقوله: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ} [الإسراء: 64] يقال: أجلبوا وجلبوا إذا صاحوا.
يقول: صح بخيلك ورجلك، واحثثهم عليهم بالإغواء.
وقال الزجاج: يقال: أجلب على العدو إجلابا إذا جمع عليه الخيول.
والمعنى على هذا: أجمع عليهم كل ما تقدر من مكايدك، ويكون الباء في بخيلك زائدة على هذا القول، وكل راكب، أو راجل فِي معصية الله فهو من خيل إبليس وجنوده، والرجل جمع راجل، وقرأ حفص بكسر الجيم، قال أبو زيد: يقال: رجل ورجل بمعنى راجل.
وقوله: {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الإسراء: 64] وهي كل ما أصيب من حرام، وأخذ بغير حقه، وكل ولد زنا، قال قتادة: أما فِي الأموال فأمرهم أن يجعلوا بحيرة وسائبة، وأما فِي أولادهم فأنهم هودوهم ونصروهم ومجسوهم.
وقوله: وعدهم قال الفراء: أي قل لهم لا جنة ولا نار.
وقال الزجاج: وعدهم بأنهم لا يبعثون.
قال الله: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا {64} إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الإسراء: 64-65] قال ابن عباس: إن أوليائي ليس لك عليهم حجة فِي الشرك.
وقال قتادة: عبادة الذين لا سلطان له عليهم المؤمنون.
{وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا} [الإسراء: 65] لأوليائه يعصمهم من القبول من إبليس.
قوله: {(3/116)
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا {66} وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا {67} أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا {68} أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا {69} } [الإسراء: 66-69] {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي} [الإسراء: 66] أي: يسوق ويسير حالا بعد حال، {لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [الإسراء: 66] فِي طلب التجارة، {إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [الإسراء: 66] قال ابن عباس: يريد بأوليائه وأهل طاعته.
وهذا الخطاب خاص للمؤمنين.
ثم خاطب المشركين، فقال: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ} [الإسراء: 67] يعني خوف الغرق، {فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67] أي زال وبطل من تدعون من الآلهة إلا الله تعالى، قال ابن عباس: نسيتم اتخاذ الأنداد والشركاء وتركتموهم وأخلصتم لله، فلما نجاكم من الغرق والبحر، {إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} [الإسراء: 67] عن الإيمان والإخلاص وكان الإنسان يعني الكافر، كفورا لنعمة ربه.
ثم بين أنه قادر أن يهلكهم فِي البر، فقال: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} [الإسراء: 68] أي: يغيبكم ويذهبكم فِي جانب البر، وهو الأرض، يقال: خسف به الأرض، أي: غاب به فِيها، أخبر الله تعالى أنه كما قدر أن يغيبهم فِي الماء قادر أن يغيبهم فِي الأرض، وقوله: {أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الإسراء: 68] عذابا يحصبكم، أي: يرميكم بالحجارة، والحصب الرمي، ويقال للريح التي تحمل التراب والحصاء: حاصب.
{ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا} [الإسراء: 68] قال قتادة: مانعا ولا ناصرا.
{أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ} [الإسراء: 69] فِي البحر، تارة مرة أخرى، {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا} [الإسراء: 69] كاسرا، من الريح والقصف الكسر بشدة، وأراد ههنا ريحا شديدة تقصف الفلك، وهو قوله: {فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ} [الإسراء: 69] بكفركم، حيث سلمتم ونجوتم فِي المرة الأولى، ويقرأ قوله: أن يخسف وأخواته من الأفعال بالياء والنون، والمعنى واحد، وكل حسن، وتؤكد النون قوله: {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} [الإسراء: 69] قال الزجاج: لا تجدوا من يتبعنا بإنكار ما نزل بكم.
وهذا معنى قول المفسرين: لا برا ولا ناصرا، وتبع بمعنى تابع.
قوله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا {70} يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا {71} وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا {72} } [الإسراء: 70-72] {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70] قال ابن عباس: فضلنا كقوله: {هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} [الإسراء: 62] والمعنى: فضلناهم بالعقل والنطق والتمييز.
وقال عطاء: بامتداد القامة.
وروى ميمون بن مهران، عن ابن عباس، قال: ليس من دابة إلا وهي(3/117)
تأكل بفيها إلا ابن آدم، فإنه يأكل بيديه.
وروى جابر بن عبد الله، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تفسيره هذه الآية: قال: «الكرامة الأكل بالأصابع» .
{وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ} [الإسراء: 70] على الإبل والخيل والبغال والحمير، وفي البحر على السفن، {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [الإسراء: 70] يعني الثمار والحبوب والمواشي، والسمن والزبد والحلاوى، {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا} [الإسراء: 70] قال السدي: فضلوا على البهائم والدواب والوحوش، وهم الكثير.
547 - أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا الْجَوْهَرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ نُجَيْدٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ الْعَوَقِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، نا سُهَيْلٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ " مَنْ رَأَى رَجُلا بِهِ بَلاءً قَدْ عُوفِيَ مِنْهُ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلاكَ بِهِ، وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلا، فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ ذَلِكَ الْبَلاءِ "
قوله: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ} [الإسراء: 71] قال الزجاج: يعني به يوم القيامة، وهو منصوب على معنى اذكر يوم ندعو.
وقوله: {بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء: 71] قال مجاهد، وقتادة: نبيهم.
ويكون المعنى على هذا: أن ينادي يوم القيامة، فيقال: هاتوا متبعي إبراهيم، هاتوا متبعي موسى وعيسى، هاتوا متبعي محمد عليهم السلام.
فيقوم أهل الحق الذين اتبعوا الأنبياء، فيأخذون كتبهم بأيمانهم، ثم يقال: هاتوا متبعي الشيطان، هاتوا متبعي رؤساء الضلالة.
وهذا معنى قول ابن عباس فِي رواية سعيد بن جبير: إمام هدى، أو إمام ضلالة.
ونحو هذا، روى الوالبي، قال: بأئمتهم فِي الخير والشر.
وقال الضحاك، وابن زيد: يعني فِي كتابهم الذي أنزل عليهم.
والمعنى على هذا أن يقال: يا أهل القرآن، يا أهل التوراة، يا أهل الإنجيل.
548 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمُوَيْهِ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ الْجَوْهَرِيُّ، نا جَعْفَرُ بْنُ شُعَيْبٍ الشَّاشِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، نا أَبُو قُرَّةَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، نا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَجُمِعَتِ الأُمَمُ، فَيُقَالُ: مَنْ هَذِهِ الأُمَّةُ؟ وَيَتَشَرَّفُ إِلَيْهَا النَّاسُ، فَيُقَالُ: هَذَا مُحَمَّدٌ فِي أُمَّتِهِ، فَيُنَادِي الْمُنَادِي: لِيَكُنِ الآخِرُونَ هُمُ الأَوَّلِينَ، فَتَأْتِي فَتَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ حَتَّى تَكُونَ أَقْرَبَ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ مَنْزِلَةً، ثُمَّ يُدْعَى الْيَهُودُ، فَيُقَالُ: مَا أَنْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: نَحْنُ الْيَهُودُ، فَيُقَالُ: مَا كِتَابُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: التَّوْرَاةُ، فَيُقَالُ: مَنْ نَبِيُّكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: نَبِيُّنَا مُوسَى، فَيُقَالُ: مَا تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: نَعْبُدُ عُزَيْرًا، نَعْبُد اللَّهَ، فَيُقَالُ: اسْلُكُوا بِهؤُلاءِ فِي جَهَنَّمَ، وَيُدْعَى النَّصَارَى، فَيُقَالُ: مَا أَنْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: نَحْنُ النَّصَارَى، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا كِتَابُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: الإِنْجِيلُ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَنْ نَبِيُّكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: نَبِيُّنَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، فَيُقَالُ: مَا تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: نَعْبُدُ عِيسَى وَأُمَّهُ وَاللَّهَ، فَيُقَالُ: اسْلُكُوا بِهَؤُلاءِ فِي(3/118)
جَهَنَّمَ، ثُمَّ يَدْعُونَ بَشَرًا كَثِيرًا بِمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ آلِهَتِهِمْ، مِنْهَا الْحِجَارَةُ، وَمِنْهَا الشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ، فَيُقَالُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ إِلَهًا، فَلْيَتَّبِعْهُ، تَقَدَّمُهُمْ آلِهَتُهُمْ، ثُمَّ يَبْقَى الْمُسْلِمُونَ، فَيَقِفُ بِهِمْ رَبُّهُمْ، عَزَّ وَجَلَّ، فَيَقُولُ: مَا أَنْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: نَحْنُ الْمُسْلِمُونَ، فَيَقُولُ: خَيْرُ اسْمٍ، وَخَيْرُ دَاعِيَةٍ، فَيَقُولُ: مَنْ نَبِيِّكُمْ؟ قَالُوا: نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولُ: مَا كِتَابُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: الْقُرْآنُ، فَيَقُولُ: مَا تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: نَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُونَهُ إِنْ رَأَيْتُمُوهُ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَتَجَلَّى الرَّبُّ، عَزَّ وَجَلَّ، فَيَخِرُّونَ لَهُ سُجَّدًا، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، جَلَّ جَلالُكَ، ثُمَّ يَمْضِي النُّورِ بِأَهْلِهِ "
وقوله: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا} [الإسراء: 71] أي: لا ينقصون من ثوابهم بمقدار فتيل، وهو القشرة التي فِي شق النواة، ويضرب مثلا للشيء الحقير.
قوله: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ} [الإسراء: 72] يعني فِي الدنيا، أعمى عما يرى من قدرة الله تعالى فِي خلق السموات والأرض، والبحار والجبال، {فَهُوَ فِي الآخِرَةِ} [الإسراء: 72] أي: فِي أمرها مما لم يعاينه، {أَعْمَى} [الإسراء: 72] أشد عمى، وكلاهما من عمى القلب لا من عمى العين، قال قتادة: من عاين الشمس والقمر، فلم يؤمن، فهو أعمى عما يغيب عنه، أن يؤمن به هذا الذي ذكرنا قول عامة المفسرين.
وقال الحسن: من كان فِي الدنيا ضالا كافرا، فهو فِي الآخرة أعمى وأضل سبيلا، لأنه فِي الدنيا تقبل توبته، وفي الآخرة لا تقبل توبته.
اختار أبو إسحاق الزجاج هذا القول، فقال: تأويله إنه إذا عمي فِي الدنيا، وقد عرفه الله الهدى، وجعل له إلى التوبة وصلة، فعمي عن رشده، ولم يتب، فهو فِي الآخرة أعمى، أي: أشد عمى وأضل سبيلا، لأنه لا يجد طريقا إلى الهداية.
واختاره أبو علي الفارسي أيضا، فقال: معنى قوله: {فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى} [الإسراء: 72] أي: أشد عمى فِي الدنيا، كان ممكنا من الخروج عن عماه بالاستدلال، ولا سبيل له فِي الآخرة إلى الخروج من عماه، لأنه قد حصل على عمله.
وكذلك قوله: وأضل سبيلا لأن ضلاله فِي الآخرة لا سبيل له إلى الخروج منه، وقرأ أبو عمرو فِي هذه أعمِي بكسر الميم، {فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى} [الإسراء: 72] بفتح الميم، أراد أن يفرق بين ما هو اسم، وبين ما هو أفعل منه، فغاير بينهما بالإمالة، وتركها لأن معنى قوله: {فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى} [الإسراء: 72] أي: أعمى منه فِي الدنيا، ومعنى العمى فِي الآخرة أنه لا يهتدي إلى طريق الثواب.
{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا {73} وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا {74} إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا {75} وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا {76} سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلا {77} } [الإسراء: 73-77] قوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء: 73] أي: هموا وقاربوا أن يزيلوك ويصرفوك، {عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 73] يعني القرآن، والمعنى عن حكمه نزلت الآية فِي وفد ثقيف، أتوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالوا: متعنا باللات سنة، وحرم وادينا كما حرمت مكة، فإنا نحب أن تعرف العرب فضلنا عليهم، فإن كرهت ما نقول، وخشيت أن تقول العرب: أعطيتهم ما لم تعط غيرهم، فقل: الله أمرني بذلك.
فأمسك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنهم، وداخلهم الطمع، وقد هم أن يعطيهم ذلك، فأنزل الله(3/119)
هذه الآية.
وكان فِي إعطائهم ما سألوا مخالفة لحكم القرآن، لذلك قال: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} [الإسراء: 73] لتختلق علينا غير ما أوحينا إليك، وهو قولهم: قل الله أمرني بذلك.
{وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا} [الإسراء: 73] لو فعلت ما أرادوا.
{وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ} [الإسراء: 74] على الحق بعصمتنا إياك، لقد كدت هممت وقاربت، تركن إليهم أي: تميل شيئا قليلا، عبارة عن المصدر، أي: ركونا، قال ابن عباس: يريد حيث سكت عن جوابهم، والله أعلم بنيته.
ثم توعده على ذلك لو فعله {إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء: 75] أي: ضعف عذاب الحياة، وضعف عذاب الممات، يريد عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، أي: ضعف ما يعذب به غيره، قال ابن عباس: ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معصوم، ولكن هذا تخويف لأمته، لئلا يركن أحد من المؤمنين إلى أحد من المشركين فِي شيء من أحكام الله وشرائعه.
قوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ} [الإسراء: 76] قال قتادة: هم أهل مكة بإخراج نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منها، ولو فعلوا ذلك ما نوظروا، ولكن الله كفهم عن ذلك حتى أمره بالخروج.
والمعنى أنهم قاربوا أن يزعجوك من أرض مكة {لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ} [الإسراء: 76] وخلفك أي: بعدك، يعني بعد خروجك، وخلافك بمعنى خلفك، كقوله تعالى: {بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة: 81] وقوله: إلا قليلا أي: لو أخرجوك لاستأصلناهم بعد خروجك بمدة يسيرة، كسنتنا فِي من قبلهم، وهو قوله: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا} [الإسراء: 77] قال سفيان بن عيينة: يقول: لم نرسل قبلك رسولا فأخرجه قومه إلا أهلكوا.
وقال الزجاج: إن سنتنا هذه السنة فِي من أرسلنا قبلك إليهم، أنهم إذا أخرجوا نبيهم من بين أظهرهم، أو قتلوه، أن ينزل العذاب بهم.
وقوله: {وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلا} [الإسراء: 77] أي: ما أجرى الله به العادة لم يتهيأ لأحد أن يقبلها، قال ابن عباس: لا خلف لسنتي ولا لقضائي ولا لموعدي.
قوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا {78} وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا {79} وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا {80} وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا {81} وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا {82} } [الإسراء: 78-82] {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] دلوك الشمس زوالها وميلها فِي وقت الظهر، وكذلك ميلها للغروب هو دلوكها أيضا، قال المبرد: دلوك الشمس من لدن زوالها إلى غروبها عند العرب.
والمفسرون مختلفون فِيهِ، فقوم يقولون: دلوكها زوالها، وهو قول الحسن، والشعبي، وعطاء، ومجاهد، وقتادة.
وقال قوم: دلوكها غروبها، وهو قول ابن مسعود، وعلي، والسدي، وابن عباس، فِي رواية سعيد بن جبير.
قال الأزهري: معنى الدلوك(3/120)
فِي كلام العرب الزوال، ولذلك قيل للشمس إذا زالت نصف النهار: دالكة، وقيل لها إذا أفلت: دالكة، لأنها فِي الحالتين زائلة.
قال: والقول عندي: إن زوالها نصف النهار لتكون الآية جامعة للصلوات الخمس.
والمعنى: أقم الصلاة من وقت زوال الشمس إلى غسق الليل، فتدخل فِيها الأولى، والعصر، وصلاتا غسق الليل، وهما العشاءان، ثم قال: {وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] فهذه خمس صلوات، ومعنى غسق الليل سواده وظلمته، قال ابن جريج: قلت لعطاء: ما غسق الليل؟ قال: أوله حين يدخل.
وقال ابن مسعود: غسق الليل إظلامه.
قال الفراء، والزجاج: يقال: غسق الليل أغسق إذا أقبل ظلامه.
وقوله: {وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] قال ابن عباس، والمفسرون: يريد صلاة الصبح.
قال الزجاج: أي وأقم قرآن الفجر، قال: وفي هذا فائدة عظيمة تدل على أن الصلاة لا تكون بقراءة حيث سميت الصلاة قرآنا.
وقوله: {إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] كلهم قالوا: صلاة الفجر، تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار.
549 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْفَارِسِيُّ، نا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خميرَوَيْهِ، نا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخُزَاعِيُّ، نا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنِي شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَأَبُو سَلَمَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «تَفْضُلُ صَلاةُ الْجَمَاعَةِ صَلاةَ أَحَدِكُمْ وَحْدَهُ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا، وَتَجْتَمِعُ مَلائِكَةُ اللَّيْلِ، وَمَلائِكَةُ النَّهَارِ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ» ، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ، قَوْلُهُ: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فُصِلَ بِالْقُرْآنِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَلْقَمَةُ وَالأَسْوَدُ: التَّهَجُّدُ بَعْدَ النَّوْمِ، قَالَ اللَّيْثُ: تَهَجَّدَ إِذَا اسْتَيْقَظَ لِلصَّلاةِ، وَقَالَ الأَزْهَرِيُّ: الْمُتَهَجِّدُ الْقَائِمُ إِلَى الصَّلاةِ مِنَ النَّوْمِ، وَقِيلَ لَهُ: مُتَهَّجِدٌ لإِلْقَائِهِ الْهُجُودَ عَنْ نَفْسِهِ، كَمَا يُقَالُ: تَخَرَّجَ وَتَأَثَّمَ وَتَحَوَّبَ(3/121)
وقوله: {نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] معنى النافلة فِي اللغة ما كان زيادة على الأصل، وصلاة الليل كانت زيادة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة، لرفع الدرجات لا للكفارات، لأنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وليست لنا بنافلة.
وهذا قول جميع المفسرين، قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] قال ابن عباس: عسى من الله واجبة، يريد أعطاك الله يوم القيامة مقاما محمودا يحمدك فِيهِ الأولون والآخرون، تشرف على جميع الخلائق، وتسأل فتعطى، وتشفع فتشفع، وليس أحد إلا تحت لوائك.
وإجماع المفسرين على أن المقام المحمود هو مقام الشفاعة، ومعنى يبعثك ربك مقاما: يقيمك فِي ذلك المقام.
550 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَارِسِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، نا عَبْدَانُ الْجَوَالِيقِيُّ، نا أَبُو بَكْرٍ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا وَكِيعٌ، عَنْ إِدْرِيسَ الأَوْدِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} الشَّفَاعَةُ
551 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْكُوفِيُّ، أنا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ، نا الْفَضْلُ بْنُ الْخَصِيبِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الرَّازِيُّ، نا أَبُو أُسَامَةَ، نا دَاوُدُ الأَوْدِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِهِ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} ، قَالَ: هُوَ الْمَقَامُ الَّذِي أُشَفَّعُ فِيهِ لأُمَّتِي
قوله {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} [الإسراء: 80] روى قابوس بن أبي ظبيان، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة، ثم أمر بالهجرة، فنزلت عليه هذه الآية.
والمعنى: ادخلني المدينة، وأخرجني من مكة، والمدخل والمخرج بمعنى المصدر، وإضافتهما إلى الصدق مدح لهما، وكل شيء أضفته إلى الصدق فهو مدح، نحو قوله: {قَدَمَ صِدْقٍ} [يونس: 2] ، {مَقْعَدِ صِدْقٍ} [القمر: 55] ، {وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء: 80] حجة بينة تنصرني بها على جميع من خالفني.
قوله: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء: 81] قال السدي: الحق الإسلام، والباطل الشرك.
وقال قتادة: الحق القرآن، والباطل الشيطان.
ومعنى زهق: بطل واضمحل، وكل شيء هلك وبطل فقد زهق.
552 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُطَّوِّعِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْحِيرِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى، نا أَبُو خَيْثَمَةَ، نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَكَّةَ وَحَوْلَ الْبَيْتِ ثَلاتُ مِائَةٍ وَسِتُّونَ صَنَمًا، فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا، وَيَقُولُ: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ، إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ،(3/122)
عَنْ عَلِيٍّ ابْنِ الْمَدِينِيِّ، وَمُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ كِلاهُمَا، عَنْ سُفْيَانَ
وقوله: {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81] قال ابن عباس: يريد كل ما كان عن الشيطان، كان خارجا عن الحق.
وقوله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ} [الإسراء: 82] من هذا الجنس الذي هو القرآن، {مَا هُوَ شِفَاءٌ} [الإسراء: 82] فجميع القرآن شفاء للمؤمنين، قال قتادة: إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه.
وعلى هذا معنى كونه شفاء، أنه ببيانه يزيل عمى الجهل وحيرة الشك، فهو شفاء من داء الجهل، وقال ابن عباس: يريد شفاء من كل داء، وعلى هذا معناه أن يتبرك به، فيدفع الله به كثيرا من المكاره والمضار.
ويؤكد هذا ما روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «من لم يستشف بالقرآن، فلا شفاه الله» .
وقوله: ورحمة للمؤمنين قال ابن عباس: يريد ثوابا لا انقطاع له، يعني فِي تلاوته يرحمهم الله بها، ويثيبهم عليها، ولا يزيد القرآن، الظالمين المشركين، إلا خسارا لأنهم يكفرون به ولا ينتفعون بمواعظه، فالقرآن سبب لهداية المؤمنين، وزيادة لخسارة الكافرين.
553 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَبْدَانَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الضَّبِّيُّ، أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَكِيمٍ الْمَرْوَزِيُّ، نا أَبُو الْمُوَجِّهِ، أنا عَبْدَانُ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، أنا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْجَرِيرِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ الْعَبْدِيِّ، عَنْ أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ أُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ، قَالَ: لَمْ يُجَالِسْ هَذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلا قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، قَضَاءً مِنَ اللَّهِ الَّذِي قَضَى {شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا} [الإسراء: 82] .
قوله: {(3/123)
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا {83} قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلا {84} } [الإسراء: 83-84] {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ} [الإسراء: 83] قال ابن عباس: يريد الوليد بن المغيرة، أعرض عن الدعاء والابتهال الذي كان يفعله فِي حال البلوى والمحنة.
ونأى بجانبه، وتعظم، وتكبر، وبعد نفسه عن القائم بحقوق النعم، ونأى معناه بعد، ونأى بالشيء معناه أبعده، وقرأ ابن عامر وناء مثل ناع، وهذا على القلب مثل رأى وراء، وقرأ حمزة نأى بإمالة الفتحتين، أمال فتحة الهمزة لأن الألف منقلبة عن الياء التي فِي النأي، أراد أن ينحو نحوها، وأمال فتحة النون لإمالة فتحة الهمزة، وقوله: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا} [الإسراء: 83] قال ابن عباس: إذا أصابه مرض أو فقر يئس من رحمة الله.
وهذا من صفة الجاهل بالله، وذم له بأنه لا يثق بتفضل الله على عباده.
قوله: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84] قال الليث: الشاكلة من الأمور ما يوافق فاعله.
والمعنى أن كل أحد يعمل على طريقته التي تشاكل أخلاقه، فالكافر يعمل ما يشبه طريقته من الإعراض عند الإنعام واليأس عند الشدة، والمؤمن يفعل ما يشبه طريقته من الشكر عند الرخاء والصبر عند البلاء، يدل على هذا قوله: {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلا} [الإسراء: 84] أي: بالمؤمن الذي لا يعرض عند النعمة، ولا ييئس عند المحنة.
قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا {85} وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلا {86} إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا {87} } [الإسراء: 85-87] {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإسراء: 85] الآية.
554 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، نا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: إِنِّي لَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي حَرْثٍ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَسِيبٍ، فَمَرَّ نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالُوا: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا تَسْأَلُوهُ فَيَسْتَقْبِلُكُمْ بِمَا تَكْرَهُونَ، فَأَتَاهُ نَفَرٌ مِنْهُمْ، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، مَا تَقُولُ فِي الرُّوحِ؟ فَسَكَتَ، ثُمَّ قَامَ، فَأَمْسَكَ بِيَدِهِ عَلَى جَبْهَتِهِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُنَزَّلُ عَلَيْهِ، فَأُنْزِلَ عَلَيْهِ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ(3/124)
الأَعْمَشِ
وقال ابن عباس فِي رواية عطاء: قالت اليهود لقريش: سلوا محمدا عن ثلاث، فإن أخبركم باثنين وأمسك عن الثالثة فهو نبي: سلوه عن فتيه فقدوا، وسلوه عن ذي القرنين، وسلوه عن الروح.
فسألوه عنها، ففسر لهم أمر الفتية فِي { [الكهف وفسر لهم قصة ذي القرنين، وأمسك عن قصة الروح، وذلك أنه ليس فِي التوراة قصته ولا تفسيره إلا ذكر اسم الروح، وأنزل قوله:] وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [سورة الإسراء: 85] .
واختلف العلماء فِي ماهية الروح، فقال قوم: إن الروح هو الدم، ألا ترى أن من نزف دمه مات؟ والميت لا يفقد من جسمه إلا الدم.
وزعمت طائفة أن الروح هو استنشاق الهواء، ألا ترى أن المخنوق ومن منع من نسيم الهواء يموت.
وقال عامة المعتزلة، والنجارية: الروح عرض.
إلا ابن الراوندي، فإنه قال: الروح جسم لطيف أسكن البدن.
وقال بعض الحكماء: إن الله تعالى خلق الأرواح من ستة أشياء: من جوهر النور، والطيب، والبقاء، والحياة، والعلم، والعلو ألا ترى أنه ما دام فِي الجسم كان الجسد نورانيا، تبصر العينان، وتسمع الأذنان، ويكون طيبا، فإذا خرج أنتن الجسد ويكون باقيا، فإذا زايله الروح صار فانيا، ويكون حيا وبخروجه يصير ميتا، ويكون عالما فإذا خرج منه الروح لم يعلم شيئا، ويكون الجسد علويا لطيفا ما دام فِيهِ الروح، فإذا خرج صار سفليا كثيفا، والاختيار من هذه الأقوال أنه جسم لطيف توجد به الحياة، يدل على هذا قوله تعالى فِي صفة الشهداء: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ {169} فَرِحِينَ} [آل عمران: 169-170] والارتزاق والفرح من صفات الأجسام، والمراد بهذا أرواحهم، لأن أجسامهم بليت فِي التراب، وكذلك ما روي أن أرواح الشهداء تعلق من شجر الجنة، وتأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، وهذا الفعل لا يتأتى من العرض.
555 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْفَضْلِ، أنا عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ خَلَفٍ، أنا أُبَيُّ بْنُ خَلَفِ بْنِ طُفَيْلٍ، أَخْبَرَنِي أَبِي طُفَيْلُ بْنُ زَيْدٍ، نا أَبُو عُمَيْرٍ، نا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَعَّابُ، نا نُعَيْمُ بْنُ عَمْرٍو، نا سُلَيْمَانُ بْنُ رَافِعٍ الْبَصْرِيُّ، عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ الرُّوحَ إِذَا خَرَجَ مِنَ الإِنْسَانِ؛ مَاتَ الْجَسَدُ، وَصَارَ الرُّوحُ صُورَةً أُخْرَى، فَلا يُطِيقُ الْكَلامَ؛ لأَنَّ الْجَسَدَ جِرْمٌ، وَالرُّوحُ يُصَوِّتُ مِنْ جَوْفِهِ وَيَتَكَلَّمُ، فَإِذَا فَارَقَ الرُّوحُ الْجَسَدَ؛ صَارَ الْجَسَدُ صُفْرًا، وَصَارَ الرُّوحُ صُورَةً أُخْرَى، يَنْظُرُ إِلَى النَّاسِ، يَبْكُونَهُ، وَيُغَسِّلُونَهُ وَيَدْفِنُونَهُ، وَلا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَكَلَّمَ، كَمَا أَنَّ الرِّيحَ إِذَا دَخَلَ فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ سَمِعْتَ لَهُ دَوِيًّا، فَإِذَا خَرَجَ مِنْهُ لَمْ تَسْمَعْ لَهُ صَوْتًا، وَكَذَلِكَ الْمَزَامِيرُ، فَأَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ يَنْظُرُونَ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَجِدُونَ(3/125)
رِيحَهَا، وَأَرْوَاحُ الْكُفَّارِ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ، حَتَّى إِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ النَّفْخَةُ الأُولَى؛ رُفِعَ الْعَذَابُ وَكَانَتِ الأَرْوَاحُ عِنْدَ ذَلِكَ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَرْوَاحَ الْكَافِرِينَ، وَرُفِعَ الْعَذَابُ عَنِ الْكُفَّارِ فِيمَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ، تَعَالَى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} فَأَشْيَاءُ تَفْنَى وَيَبْقَى وَجْهُ اللَّهِ الْكَرِيمِ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا كُلَّهُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ ضَرْبٌ مِنَ التَّكَلُّفِ؛ لأَنَّ اللَّهَ، تَعَالَى، أَبْهَمَ عِلْمَ ذَلِكَ
قال عبد الله بن بريدة: ما يبلغ الجن والإنس والملائكة والشياطين علم الروح، ولقد مات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما يدري الروح.
وقال الفراء: الروح الذي يعيش به الإنسان لم يخبر الله به أحدا من خلقه، ولم يعط علمه أحدا من عباده.
فقال: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] أي: من علم ربي، أي أنكم لا تعلمونه، وقوله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} [الإسراء: 85] أي: بالأضافة إلى علم الله تعالى، وذلك أن اليهود تذكر كل شيء بما فِي كتبهم، فقال الله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} [الإسراء: 85] وقال الزجاج: ويجوز أن يكون الخطاب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين، وذلك حين لم يعرف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يبين الله له ذلك، قال له: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} [الإسراء: 85] يدل على هذا قوله: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 86] أي: إني أقدر أن آخذ ما أعطيتك، كأنه يقول: لم تؤت إلا قليلا من العلم، ولو شئت أن آخذ ذلك قدرت، قال الزجاج: لو شئنا لمحوناه من القلوب ومن الكتب حتى لا يوجد له أثر.
556 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أنا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَامِدٍ الْعَطَّارُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، نا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَالِحٍ الأَزْدِيُّ، نا شَرِيكٌ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ مَعْقِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَوَّلُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الأَمَانَةُ، وَآخِرُ مَا يَبْقَى مِنْهُ الصَّلاةُ، وَلَيُصَلِّيَنَّ أَقْوَامٌ لا خَلاقَ لَهُمْ، وَسَيُرْفَعُ الْقُرْآنُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ، ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}
وقوله: {ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلا} [الإسراء: 86] أي: لا تجد من تتكل عليه فِي رد شيء منه.
{إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الإسراء: 87] لكن الله رحمك، فأثبت ذلك فِي قلبك وقلوب المؤمنين، {إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} [الإسراء: 87] قال ابن عباس: يريد حيث جعلتك سيد ولد آدم، وختمت بك النبيين، وأعطيتك المقام المحمود.
ثم احتج على المشركين بإعجاز القرآن، فقال: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا {88} وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْءَانِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا {89} وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا {90} أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ(3/126)
خِلالَهَا تَفْجِيرًا {91} أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا {92} أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا {93} } [الإسراء: 88-93] {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ} [الإسراء: 88] الآية، قال المفسرون: هذا تكذيب للنضر بن الحارث، حيث قال: لو شئنا لقلنا مثل هذا.
وقال مقاتل: وإن نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحداهم أولا، فقال: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} [هود: 13] فعجزوا عن ذلك، فتحداهم، فقال: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] فعجزوا، فآيسهم الله عن معارضته بمثل ما أتى به فِي هذه الآية، والمثل الذي طلب منهم كلام له نظم كنظم القرآن فِي أعلى طبقات البلاغة، وقوله: {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] الظهير: المعين المظاهر لك.
قال ابن عباس: يريد معينا مثل ما يتعاون الشعراء على بيت شعر فيقيمونه.
قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْءَانِ} [الإسراء: 89] تقدم تفسيره فِي هذه ال { [، وقوله:] مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [سورة الإسراء: 89] أي: من الأمثال التي يجب بها الاعتبار، {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ} [الإسراء: 89] يعني أكثر أهل مكة، إلا كفورا جحودا للحق وإنكارا، وذلك أنهم أنكروا القرآن بعد قيام الحجة عليهم، واقترحوا من الآيات ما ليس لهم، وهو قوله: وقالوا يعني رؤساء مكة، {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} [الإسراء: 90] لن نصدقك، {حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا} [الإسراء: 90] وقرى تفجر بالتخفيف، يقال: فجرت الماء فجرا، وفجرته تفجيرا، والينبوع عين ينبع منها الماء، وذلك أنهم سألوا أن يجري لهم نهرا كأنهار الشام والعراق.
{أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ} [الإسراء: 91] هذا أيضا كان فيما اقترحوا عليه، {فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ} [الإسراء: 91] تفتحها وتجريها، خلالها وسط تلك الجنة.
{أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ} [الإسراء: 92] قالوا له: أسقط السماء علينا.
قال ابن عباس: يعنون العذاب.
كما زعمت أن ربك إن شاء فعل، وقوله: كسفا جمع كسفة، وهي القطعة، والكسف القطع، ويجوز أن يكون الكسف الشيء المقطوع، كقوله: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ} [الطور: 44] ومن فتح السين فهو جمع كسفة أيضا مثل قطعة وقطع، قال ابن عباس: كسفا قطعا.
ومن سكن السين، فمعناه: أسقط السماء علينا قطعة واحدة، وقوله: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا} [الإسراء: 92] قال قتادة، والضحاك: عيانا.
والمعنى: تأتي بهم حتى نراهم(3/127)
مقابلة، واختاره أبو علي الفارسي، فقال: إذا حملته على المعاينة كان القبيل مصدرا كالنذير والنكير، ويدل على صحة هذا المعنى قوله: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا} [الفرقان: 21] .
وقال عطاء، ومجاهد: فوجا فوجا.
وكل جنس من الناس قبيل، ذكرنا ذلك فِي قوله: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} [الأعراف: 27] .
وقوله: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ} [الإسراء: 93] قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي: من ذهب.
قال الزجاج: أصل الزخرف فِي اللغة الزينة، ولا شيء فِي تحسين البيت وتزيينه كالذهب، وكان فيما اقترحوا عليه أن يكون له قصور من ذهب.
وقوله: {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} [الإسراء: 93] يقال: رقيت أرقى رقيا ورقيا.
قال عبد الله بن أبي أمية: لا أومن بك يا محمد حتى تتخذ إلى السماء سلما، ثم ترقى فِيهِ، وأنا أنظر، حتى تأتيها، وتأتي بنسخة منشورة معك، ونفر من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول.
وهو قوله: {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ} [الإسراء: 93] قال ابن عباس: كتابا من عند رب العالمين إلى فلان وفلان، يصبح عند كل رجل منا يقرؤه.
قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سبحان ربي وقرئ {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي} [الإسراء: 93] على الأمر له بأن يقول سبحان ربي، قال ابن عباس: عظم وكرم.
{هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا} [الإسراء: 93] أي أن هذه الأشياء ليست فِي قوى البشر أن يأتوا بها، فلا وجه لطلبكم مني مع أني بشر.
قوله: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا {94} قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولا {95} قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا {96} وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا {97} ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا {98} أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلا لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلا كُفُورًا {99} } [الإسراء: 94-99] {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ} [الإسراء: 94] قال ابن عباس: يريد أهل مكة.
أن يؤمنوا أي: الإيمان والتصديق، {إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى} [الإسراء: 94](3/128)
البيان والرشاد من الله على لسان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو القرآن، {إِلا أَنْ قَالُوا} [الإسراء: 94] أي: إلا قولهم فِي التعجب والإنكار، {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا} [الإسراء: 94] وهو أنهم قالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا.
وفي إنكارهم كون البشر رسولا اقتضاء أن يبعث إليهم ملك.
قال الله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ} [الإسراء: 95] قال الحسن: قانطين.
وقال الكلبي: مقيمين.
وقال الزجاج: مستوطنين فِي الأرض.
ومعنى الطمأنينة السكون، والمراد ههنا المقام والاستيطان، لأنه يقال: سكن فلان بلد كذا إذا استوطن، وإن كان ماشيا متقلبا فِي حاجاته، وليس يراد السكون الذي هو ضد الحركة، وقوله: {لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولا} [الإسراء: 95] أعلمهم الله تعالى أن الأعدل والأبلغ فِي الأداء إليهم بشر مثلهم، ولو كان فِي الأرض بدل الآدميين ملائكة لنزلنا عليهم ملكا رسولا، وما بعد هذا مفسر فِي آخر { [الرعد.
قوله:] وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ} [سورة الإسراء: 97] قال ابن عباس: من يرد الله هداه، {فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ} [الإسراء: 97] قال: ومن يخذله، {فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ} [الإسراء: 97] .
يهدونهم من دون الله، {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} [الإسراء: 97]
557 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْهَيْثَمِ الأَنْبَارِيُّ، نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّائِغُ، نا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ، نا شَيْبَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَجُلا قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، كَيْفَ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: إِنَّ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى رِجْلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
رَوَاه الْبُخَارِيّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّد، وَرَوَاه مُسْلِم، عَن عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ كِلاهُمَا، عَن يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ شَيْبَانَ
وقوله: {عُمْيًا} [الإسراء: 97] قال ابن عباس فِي رواية الوالبي: لا يرون شيئا يسرهم، {وَبُكْمًا} [الإسراء: 97] لا ينطقون بحجة، {وَصُمًّا} [الإسراء: 97] لا يسمعون شيئا يسرهم.
وقال فِي رواية عطاء: يريد عميا عن النظر إلى ما جعله الله لأوليائه، وبكما عن مخاطبة الله تعالى، وصما عما مدح الله به أولياءه.
وقال مقاتل: هذا حين يقال لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] فيصيرون عميا بكما صما، لا يرون ولا يسمعون ولا ينطقون بعد ذلك.
وقوله: {كُلَّمَا خَبَتْ} [الإسراء: 97] يقال: خبت النار، تخبو خبوا إذا سكن لهيبها.
{زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء: 97] قال ابن عباس: سعر العذاب عليهم بأشد مما كان.
وما بعد هذا مفسر فِي هذه ال { [.
ثم(3/129)
أجابهم على إنكارهم البعث بقوله:] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ} [سورة الإسراء: 99] الآية، المعنى: ألم يعلموا أن من قدر على خلق السموات والأرض فِي عظمها، قادر على أن يخلق مثلهم، أي: على أن يخلقهم ثانيا، وأراد بمثلهم إياهم، وذلك أن مثل الشيء مساو له فِي حالته، فجاز أن يعبر به عن الشيء نفسه، يقال: مثلك لا يفعل هذا، أي: أنت لا تفعله، ذكرنا هذا عند قوله: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137] ونحو هذا قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] تم الكلام، ثم قال: {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلا لا رَيْبَ فِيهِ} [الإسراء: 99] قال ابن عباس: يريد أجل الموت وأجل القيامة.
فأبى الظالمون المشركون، إلا كفورا جحودا بذلك الأجل، وهو البعث والقيامة.
قوله: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا} [الإسراء: 100] {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} [الإسراء: 100] قال ابن عباس: لو أنتم، يا معشر المشركين، تملكون خزائن الرزق.
{إِذًا لأَمْسَكْتُمْ} [الإسراء: 100] لبخلتم، قال الزجاج: أعلمهم الله أنهم لو ملكوا خزائن الأرزاق لأمسكوا شحا وبخلا، وهو خشية الإنفاق.
وقال ابن عباس، وقتادة: خشية الفقر والفاقة.
وقال السدي: خشية أن تنفقوا فتفتقروا.
{وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا} [الإسراء: 100] بخيلا مسيكا، يقال: قتر يقتر، ويقتر قترا، وأقتر إقتارا، وقتر تقتيرا، إذا قصر فِي الإنفاق.
ثم ذكر إنكار فرعون آيات موسى عليه السلام، تشبيها بحال هؤلاء المشركين بحاله، وتسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا {101} قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا {102} فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا {103} وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا {104} } [الإسراء: 101-104] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء: 101] قال المفسرون: هي الطوفان والجراد والقمل، والضفادع والدم، والعصا، ويده والسنون، ونقص من الثمرات.
وقال القرظي بدل السنين والنقص: قلق البحر والطمس.
558 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ الرَّازِيُّ، أنا أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ، نا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ، أَنَّ يَهُودِيًّا قَالَ لِصَاحِبِه: تَعَالَ، حَتَّى(3/130)
نَسْأَلَ هَذَا النَّبِيَّ، قَالَ: فَأَتَيَاهُ فَسَأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} فَقَالَ: لا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ، وَلا تَزْنُوا، وَلا تَسْرِقُوا، وَلا تَأْكُلُوا الرِّبَا، وَلا تَسْحِرُوا، وَلا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إِلَى سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ، وَلا تَقْذِفُوا الْمُحْصَنَةَ، وَلا تَفِرُّوا مِنَ الزَّحْفِ، وَعَلَيْكُمْ، خَاصَّةَ يَهُودَ، أَلا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ، قَالَ: فَقَبَّلُوا يَدَهُ، فَقَالُوا: نَشْهَدُ إِنَّكَ نَبِيَّ اللَّهِ، قَالَ: فَمَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَتَّبِعُونِي؟ قَالُوا: إِنَّ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلامُ، دَعَا أَنْ لا يَزَالَ فِي ذُرِّيَّتِهِ نَبِيٌّ، وَإِنَّا نَخْشَى إِنِ اتَّبَعْنَاكَ أَنْ تَقْتُلَنَا الْيَهُودُ
قوله: {فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الإسراء: 101] قال ابن عباس: يريد المؤمنين من قريظة والنضير.
وإنما أمر بأن يسألهم ليكشف لعامة اليهود، يقول علمائهم: صدق ما أتى به، وأخبر عنه.
فيكون ذلك حجة عليهم، وقوله: {إِذْ جَاءَهُمْ} [الإسراء: 101] يعني موسى، {فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء: 101] قال أبو عبيد، والفراء: هو بمعنى الساحر، كالمشئوم والميمون.
ويجوز أن يكون مفعولا من السحر، أي: إنك قد سحرت، فعمل فيك السحر.
فقال موسى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ} [الإسراء: 102] الآيات، {إِلا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء: 102] عبرا ودلالات، وقراءة العامة بفتح التاء، وهي قراءة ابن عباس، وقرأ الكسائي بضم التاء، وهي قراءة علي رضي الله عنه، وكان يقول: والله ما علم عدو الله، ولكن موسى هو الذي علم.
فبلغ ذلك ابن عباس، فاحتج بقوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14] على أن فرعون وقومه كانوا قد عرفوا صحة أمر موسى.
قال الزجاج: الأجود فِي القراءة فتح التاء، لأن علم فرعون بأنها آيات من عند الله أوكد فِي الحجة، فموسى يحتج بما علم هو لا بما علم موسى.
وقوله: {وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ} [الإسراء: 102] أي أعلمك، مثبورا قال ابن عباس: ملعونا.
قال الفراء: المثبور الملعون المحبوس عن الخير، تقول العرب: ما ثبرك عن هذا؟ أي: ما منعك منه، وما صرفك.
وقال قتادة: مهلكا.
وقال مجاهد: هالكا.
وقال أبو عبيدة: المعروف فِي الثبور والهلاك والملعون، هالك.
قوله: فأراد يعني فرعون، أن يستفزهم يزعجهم ويخرجهم، يعني موسى وبني إسرائيل، من الأرض أرض مصر، قال الزجاج: أراد إخراجهم منها بالقتل أو بالتنحية، فأغرقه الله وقومه، وأورث بني إسرائيل مساكنهم وديارهم.
وفي هذا تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنه يفعل به وبالمشركين ما فعل بموسى وعدوه، ثم فعل ذلك، أظهر نبيه على المشركين ورده إلى مكة ظاهرا عليها.
وقوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ} [الإسراء: 104] يعني القيامة، {جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء: 104] قال مجاهد(3/131)
وقتادة، جميعا: اللفيف: الجمع العظيم من أخلاط شتى.
والمعنى: جئنا بكم من قبوركم إلى المحشر أخلاطا، يعني جميع الخلق، المسلم والكافر، والبر والفاجر.
قوله: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا {105} وَقُرْءَانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلا {106} قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا {107} وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا {108} وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا {109} } [الإسراء: 105-109] {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ} [الإسراء: 105] أنزلنا القرآن بالأمر الثابت والدين القائم، {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء: 105] ومع الحق نزل، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا} [الإسراء: 105] لمن أطاع بالجنة، {وَنَذِيرًا} [الإسراء: 105] منذرا مخوفا لمن عصى بالنار.
{وَقُرْءَانًا فَرَقْنَاهُ} [الإسراء: 106] قال الوالبي: فصلناه.
وقال السدي: قطعناه آية آية، و { [سورة، ولم ينزله جملة.
قال قتادة: كان بين أول القرآن وآخره عشرون سنة.
وهو معنى قوله:] لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} [سورة الإسراء: 106] قال مجاهد: على تؤدة وترسل.
وقال الزجاج: فرقه الله فِي التنزيل ليفهمه الناس.
{وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلا} [الإسراء: 106] نجوما بعد نجوم، وشيئا بعد شيء.
قل لأهل مكة، آمَنُوا بالقرآن، {أَوْ لا تُؤْمِنُوا} [الإسراء: 107] وهذا تهديد، أي: فقد أنذر الله، وبلغ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاختاروا ما تريدون، {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ} [الإسراء: 107] من قبل نزول القرآن، يعني طلاب الدين مثل أبي ذر، وسلمان، وورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو.
{إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [الإسراء: 107] القرآن، {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا} [الإسراء: 107] قال ابن عباس رضي الله عنه: للوجوه، يريد يسجدون بوجوههم وجباههم وأذقانهم.
واللام ههنا بمعنى على.
ويقولون فِي سجودهم: {سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا} [الإسراء: 108] بإنزال القرآن، وبعث محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {لَمَفْعُولا} [الإسراء: 108] وذلك أن هؤلاء كانوا يسمعون أن الله باعث نبيا من العرب، ومنزل عليه الكتاب، فلما سمعوا القرآن، سجدوا لله وحمدوه على إنجاز الوعد ببعث الرسول والكتاب.
{وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ} [الإسراء: 109] كرر القول، دلالة على تكرر الفعل منهم، وقال عبد الأعلى التيمي: إن من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق ألا يكون أوتي علما ينفعه، لأن الله تعالى نعت العلماء، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [الإسراء: 107] تلا إلى قوله: {يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109] أي: يزيدهم القرآن تواضعا.
قوله: {(3/132)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا {110} وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا {111} } [الإسراء: 110-111] {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء: 110] قال ابن عباس: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال وهو ساجد ذات ليلة: ياالله، يا رحمن، فسمعه أبو جهل، وهم لا يعرفون الرحمن، فقال: إن محمدا ينهانا أن نعبد إلهين، وهو يدعو إلها آخر مع الله، يقال له: الرحمن، فأنزل الله {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ} [الإسراء: 110] أي: قل يا محمد: ادعوا الله يا معشر المؤمنين، أو ادعوا الرحمن، أي: إن شئتم قولوا: يا الله، وإن شئتم قولوا: يا رحمن، قال الزجاج: أعلمهم الله أن دعاءهم الله، ودعاءهم الرحمن يرجعان إلى واحد، فقال: {أَيًّا مَا تَدْعُوا} [الإسراء: 110] .
المعنى: أيُّ أسماء الله تعالى تدعوا {فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110] وقوله: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] المخافته الإخفاء، يقال: خفت صوته يخفت خفوتا إذا ضعف، وصوت خفيف، والرجل يخافت بقراءته إذا لم يبين قراءته برفع الصوت، والجهر رفع الصوت، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا جهر بالقرآن، سب المشركون القرآن، فأمره الله ألا يعرض القرآن لسبهم، ولا يخافت مخافتة لا يسمعها من يصلي خلفه من أصحابه، فقال: {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} [الإسراء: 110] أي: اسلك طريقا بين الجهر والمخافتة.
559 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بُن إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، قَالَ: نا وَالِدِي، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، قَالا: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، نا أَبُو بِشْرٍ حَكَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} قَالَ: نَزَلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُخْتَفٍ بِمَكَّةَ، فَكَانُوا إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ؛ سَبُّوا الْقُرْآنَ، وَمَنْ أَنْزَلَهُ، وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فَقَالَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، لِنَبِيِّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} أَيْ: بِقِرَاءَتِكَ، فَيَسْمَعَ الْمُشْرِكُونَ، فَيَسُبُّوا الْقُرْآنَ {وَلا تُخَافِتْ بِهَا} ، عَنْ أَصْحَابِكَ فَلا يَسْمَعُونَ {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُسَدَّدٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرٍو النَّاقِدِ، كِلاهُمَا، عَنْ هُشَيْمٍ(3/133)
560 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّمْجَارِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي السَّرِيِّ الْبَكَّائِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ زُرَارَةَ، نا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ هَانِئِ بْنِ هَانِئٍ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ يُخَافِتُ إِذَا قَرَأَ، وَكَانَ عُمَرُ يَجْهَرُ بِقِرَاءَتِهِ، وَكَانَ عَمَّارٌ يَأْخُذُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَمِنْ هَذِهِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لأَبِي بَكْرٍ: لِمَ تُخَافِتُ؟ فَقَالَ: إِنِّي أُسْمِعُ مَنْ أُنَاجِي، وَقَالَ لِعُمَرَ: لِمَ تَجْهَرُ؟ فَقَالَ: أُفْزِعُ الشَّيْطَانَ، وَأُوقِظُ الْوَسْنَانَ، وَقَالَ لِعَمَّارٍ: لِمَ تَأْخُذُ مِنْ هَذِهِ وَهَذِهِ؟ قَالَ: تَسْمَعُنِي أَخْلِطُ بِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَكُلُّهُ طَيِّبٌ
قوله: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} [الإسراء: 111] قال قتادة: كذب الله بهذه الآية اليهود والنصارى وأهل القرى عليه.
{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء: 111] ليس له من يشاركه فِي ملكه، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} [الإسراء: 111] قال مجاهد: لم يخالف أحدا، ولم يبتغ نصر أحد.
والمعنى أنه لا يحتاج إلى موالاة أحد لذل يلحقه، فهو مستغن عن الولي والنصير، وهذا معنى قول الزجاج: لم يحتج أن ينتصر بغيره.
{وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111] عظمه عظمة تامة.(3/134)
سورة الكهف
مكية، وآياتها عشر ومائة.
561 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّقَطِيُّ، نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أنا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ، ثُمَّ أَدْرَكَ الدَّجَّالَ؛ لَمْ يَضُرَّهُ، وَمَنْ حَفِظَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْكَهْفِ؛ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
562 - أَخْبَرَنَا أَبُو حَسَّانٍ الْمُزَكِّي، أنا أَبُو الْفَضْلِ الزُّهْرِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَيُّوبَ، نا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَرْمِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُصْعَبِ بْنِ مَنْظُورِ بْنِ زَيْدِ بْنِ خَلَفٍ الْجُهَنِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ قَرَأَ الْكَهْفَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ؛ فَهُوَ مَعْصُومٌ إِلَى سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ تَكُونُ، فَإِنْ خَرَجَ الدَّجَّالُ؛ عُصِمَ مِنْهُ»
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا {1} قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا {2} مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا {3} وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا {4} مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا {5} فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا {6} إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا {7} وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا {8} } [الكهف: 1-8] بسم الله الرحمن الرحيم {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1] يعني القرآن على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف: 1] أي: لم يجعله ملتبسا لا يفهم، ومعوجا لا يستقيم، وهذا معنى قول ابن عباس فِي رواية الوالبي، قال الزجاج: لم يجعل فِيهِ اختلافا، كما قال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] .
يدل على هذا قوله: قيما قال ابن عباس: مستقيما عدلا.
وهذا من التقديم والتأخير، والتقدير: أنزل على عبده الكتاب قيما، ولم يجعل له عوجا،(3/135)
وقوله: {لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} [الكهف: 2] قال ابن عباس: لينذر عذابا شديدا.
والمعنى: لينذر الكافرين بعذاب شديد، من لدنه من عنده، ومن قبله، وروى أبو بكر، عن عاصم من لدنه بشد الدال إلى الضمة، وبكسر النون والهاء، وهو لغة الكلابيين، وروى أبو زيد، عنهم أجمعين هذا من لدنه فتحوا اللام، وضموا الدال، وكسروا النون، {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} [الكهف: 2] ثوابا عظيما، وهو الجنة.
{مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الكهف: 3] مقيمين فِي ذلك الأجر، خالدين فِيهِ.
{وَيُنْذِرَ} [الكهف: 4] بعذاب الله، {الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [الكهف: 4] قال الكلبي، والسدي: يعني اليهود والنصارى.
وقال محمد بن إسحاق: يعني قريشا فِي قولهم الملائكة بنات الله.
{مَا لَهُمْ بِهِ} [الكهف: 5] بذلك القول، من علم لأنهم قالوا جهلا وافتراء على الله، {وَلا لآبَائِهِمْ} [الكهف: 5] الذين قالوا ذلك، {كَبُرَتْ كَلِمَةً} [الكهف: 5] قال الفراء: كبرت تلك الكلمة كلمة.
وقال الزجاج: كبرت مقالتهم كلمة.
وكلمة منصوب على التمييز.
وقوله: {تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف: 5] أي أنها قول بالفم، لا صحة له، ولا دليل عليه، {إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا} [الكهف: 5] ما يقولون بذلك القول إلا كذبا.
ثم عاتبه على حزنه بفوت ما كان يرجو من إسلامهم بقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} [الكهف: 6] قال جماعة المفسرين: قاتل نفسك.
يقال: بخع الرجل نفسه إذا قتلها غيظا من شدة وجده بالشيء.
وقوله: {عَلَى آثَارِهِمْ} [الكهف: 6] أي: من بعدهم، أي: من بعد توليهم وإعراضهم عنك، {إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ} [الكهف: 6] يعني القرآن، {أَسَفًا} [الكهف: 6] قال ابن عباس: غيظا وحزنا.
وفي هذا إشارة إلى نهي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن كثرة الحرص على إيمان قومه حتى يؤدي ذلك إلى هلاك نفسه بالأسف.
قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا} [الكهف: 7] بما عليها من الماء والنبات والأشجار، والمعادن من الذهب والفضة وأنواع الجواهر، ويدخل فِي هذا كله ما على الأرض من ذي الروح والجماد، وقوله: لنبلوهم لنختبر الخلق، والمعنى: لنعاملهم معاملة المبتلى، {أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [الكهف: 7] هذا أم هذا؟ قال الحسن: أيهم أزهد فِي الدنيا، وأترك لها.
وقال مقاتل: أيهم أصلح فِيها: من أوتي من المال فأحسن العمل، أمَّن زهد فيما زين له من الدنيا.
ثم أعلم الله عز وجل أنه مبيد ومفن(3/136)
ذلك كله بقوله: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف: 8] الصعيد: المستوي من الأرض، والجزر: التي لا نبات فِيها، وقال مجاهد: بلاقع ليس فِيها نبات.
وقال عطاء: يريد يوم القيامة، يجعل الله الأرض جرزا ليس فِيها ماء ولا نبات.
وقوله: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا {9} إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا {10} فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا {11} ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا {12} } [الكهف: 9-12] أم حسبت معناه بل أحسبت، {أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ} [الكهف: 9] يعني الفتية الذين سُئِلَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قصتهم، والكهف مغارة فِي الجبل، إلا أنه واسع، فإذا صغر فهو غار وقوله: والرقيم زعم كعب، والسدي أن الرقيم اسم للقرية التي خرج منها أصحاب الكهف.
وقال سعيد بن جبير، وابن عباس فِي رواية عطاء: الرقيم الكتاب، وهو لوح كانت فِيهِ أسماؤهم.
قال الفراء: ونرى أنه إنما سمي رقيما لأن أسماءهم كانت مرقومة فِيهِ، والرقيم الكتابة.
وقوله: {كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف: 9] قال مجاهد: لم يكونوا بأعجب آياتنا.
وقال قتادة: يقول: قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك.
قال الزجاج: أعلم الله أن قصة أصحاب الكهف ليست بعجيبة من آيات الله، لأن خلق السموات والأرض وما بينهم مما شاهد أعجب من قصة أصحاب الكهف.
قوله: {إِذْ أَوَى} [الكهف: 10] أي: اذكر لقومك إذا أوى، الفتية يعني: أولئك الشبان، صاروا إلى الكهف، وجعلوه مأواهم، {فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} [الكهف: 10] أي: أعطنا من عندك مغفرة ورزقا، وهيئ لنا وأصلح لنا، من قوله: هيأت الأمر، فتهيأ، {مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف: 10] الرُّشْدُ والرَّشدُ والرَّشَادُ نقيض الضلال، أي: أرشدنا إلى ما يقرب منك، والمعنى: هيئ لنا من أمرنا ما نصيب به الرشد.
قوله: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ} [الكهف: 11] قال المفسرون: أنمناهم.
والمعنى: سددنا آذانهم بالنوم الغالب على نفوذ الأصوات إليها.
وقوله: {سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف: 11] أي: ذات عدد، يعني سنين كثيرة، {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ} [الكهف: 12] أيقظناهم بعد نومهم، لنعلم قال المفسرون: لنرى.
وذكرنا وجه علم الله فيما يستقبل فِي مواضع.
{أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى} [الكهف: 12] قال قتادة، ومجاهد: أيِ(3/137)
الحزبين من المؤمنين والكافرين من قوم أصحاب الكهف أحصى عد مدة لبثهم، وعلم ذلك.
وكأنه وقع بينهم تنازع فِي مدة لبثهم فِي الكهف بعد خروجهم من بينهم، فبعثهم الله ليتبين ذلك ويظهر.
قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى {13} وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا {14} هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا {15} وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا {16} وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا {17} وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا {18} } [الكهف: 13-18] {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ} [الكهف: 13] خبر الفتية بالحق بالصدق، إنهم فتية أحداث وشباب، {آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13] ثبتناهم على الإيمان.
{وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} [الكهف: 14] ألهمناهم الصبر، {إِذْ قَامُوا} [الكهف: 14] بين يدي ملكهم دقيانوس الجبار الذي كان يفتن أهل الإيمان عن دينهم، فربط الله على قلوبهم بالصبر واليقين حين قالوا بين يديه: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف: 14] الآية.
وذلك أنه كان يدعو الناس إلى عبادة الأصنام، والذبح للطواغيت، فثبت الله هؤلاء الفتية، وعصمهم حتى عصوا ذلك الجبار، وأقروا بربوبية الله تعالى وحده، وأنهم إن دعوا غيره وعبدوه كان ذلك شططا، وهو قوله: {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف: 14] كذبا وجورا، وأصل الشطط مجاوزة القدر.
{هَؤُلاءِ قَوْمُنَا} [الكهف: 15] هذا من قول الفتية، يعنون الذين كانوا فِي زمان دقيانوس، {اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [الكهف: 15] عبدوا الأصنام لولا هلا، {يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ} [الكهف: 15] على عبادتهم، {بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} [الكهف: 15] بحجة بينه {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف: 15] فزعم أن له شريك فِي العبادة.
قوله: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} [الكهف: 16] قال ابن عباس رضي الله عنه: هذا من قول يمليخا، وهو رئيس أصحاب الكهف.
قال لهم: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} [الكهف: 16] أي: فارقتموهم، وتنحيتم عنهم جانبا، يعني عبدة الأصنام، وما يعبدون أي: اعتزلتم ما يعبدون، إلا الله فإنكم لن تتركوا عبادته، وذلك أنهم كانوا يشركون بالله، فقال: اعتزلتم الأصنام، ولم تعتزلوا الله ولا عبادته.
{فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف: 16] صيروا إليه، واجعلوه مأواكم، {يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الكهف: 16] يبسطها عليكم، {وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا} [الكهف: 16] قال ابن عباس: يسهل عليكم ما تخافون من الملك وظلمه، ويأتكم باليسر وبالرفق واللطف.
وكل ما ارتفقت به فهو مرفق، ويقال فِيهِ أيضا: مرفق بفتح الميم وكسر الفاء، كقراءة أهل المدينة، وهما لغتان في مرفق اليد والأمر، قال الفراء: وأكثر العرب على كسر الميم من الأمر، ومن مرفق الإنسان، وقد تفتح العرب أيضا الميم فِيهمَا لغتان، وكأن الذين فتحوا الميم أرادوا أن يفرقوا بين(3/138)
المرفق، والأمر المرفق من الإنسان.
قوله: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ} [الكهف: 17] أي: لو رأيتها، لرأيت كما ذكر الله تعالى {تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ} [الكهف: 17] تنتحي وتميل عنهم، ومعنى التزاور التمايل، من الزور والأزور، وقراءة أهل الكوفة بحذف تاء التفاعل، وقرأ ابن عامر تزور، وقال الأخفش: لا يوضع الازورار فِي هذا المعنى، وإنما يقال: هذا مزرو عني، أي منقبض.
وقوله: {ذَاتَ الْيَمِينِ} [الكهف: 17] أي: ناحية اليمين، {وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ} [الكهف: 17] قال الأخفش، والزجاج، وأبو عبيدة: تعدل عنهم وتتركهم.
تقول لصاحبك: هل وردت مكان كذا؟ فيقول المجيب: إنما قرضته ذات الشمال، إذ مر به وتجاوز عنه.
قال الكلبي: يقول: إذا طلعت الشمس مالت عن كهفهم ذات اليمين، يعني يمين الكهف، وإذا غربت تمر بهم ذات الشمال، يعني شمال الكهف، لا تصيبه.
وكان كهفهم نحو بنات نعش، فِي أرض الروم، أعلم الله تعالى أنه بوأهم فِي مقناة من الكهف، مستقبلا بنات نعش، تميل عنهم الشمس طالعة وغاربة، لا تدخل عليهم فتؤذيهم بحرها، وتغير ألوانهم، ثم أخبر أنهم كانوا فِي متسع من الكهف، ينالهم فِيهِ برد الريح ونسيم الهواء، فقال: {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} [الكهف: 17] أي: من الكهف، والفجوة متسع فِي مكان، ذَلِكَ أي: ذلك التزاور والقرض، {مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} [الكهف: 17] من دلائل قدرة الله ولطفه بأصحاب الكهف، {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} [الكهف: 17] أشار إلى أن الله تعالى هو الذي تولى هداية أصحاب الكهف، ولولا ذلك لم يهتدوا، فالمهتدي من هداه الله تعالى كهؤلاء، {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا {17} } [الكهف: 17-17] كدقيانوس الكافر وأصحابه.
قوله: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا} [الكهف: 18] أي: لو رأيتهم لحسبتهم أيقاظا، جمع يقظ ويقظان، {وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف: 18] نائمون، مصدر سمي به، كما يقال: قوم ركوع وسجود.
قال الكلبي: إنما يحسبون أيقاظا لأن أعينهم مفتحة وهم نيام.
{وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف: 18] قال ابن عباس: لئلا تأكل الأرض لحومهم.
وقال قتادة: ذكر لنا أن لهم فِي كل عام تقليبتين.
وقوله: وكلبهم قال ابن عباس، وأكثر المفسرين: أنهم هربوا من ملكهم ليلا، فمروا براع معه كلب، فتبعهم على دينهم، ومعه كلبه.
قال كعب: مروا بكلب، فتبعهم، فطردوه، فعاد ففعلوا ذلك مرارا، فقال لهم الكلب: ما تريدون مني؟ لا تخشوا جانبي، أنا أحب أولياء الله، فناموا حتى أحرسكم.
وقال أبو عبيد بن عمير: كان ذلك كلب صيدهم.
وقوله: {بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} [الكهف: 18] وهو أن يلقيهما على الأرض مبسوطتين، كافتراش السبع، وقوله: {بِالْوَصِيدِ} [الكهف: 18] قال ابن عباس،(3/139)
والمفسرون: يعني فناء الكهف.
قال أبو عبيدة، وأبو عبيد: الوصيد فناء البيت.
{لَوِ اطَّلَعْتَ} [الكهف: 18] أي أشرفت، {عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا} [الكهف: 18] لأدبرت وانقلبت، {وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف: 18] فزعا وخوفا، وذلك أن الله تعالى منعهم بالرعب لئلا يدخل عليهم أحد.
563 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَافِظُ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، نا أَبُو بَكْرٍ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أنا سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ غَزَا مَعَ مُعَاوِيَةَ غَزْوَةَ الْمَضِيقِ نَحْوَ الرُّومِ، فَمَرُّوا بِالْكَهْفِ الَّذِي فِيهِ أَصْحَابُ الْكَهْفِ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ، تَعَالَى، فِي الْقُرْآنِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَوْ كُشِفَ لَنَا عَنْ هَؤُلاءِ، فَنَظَرْنَا إِلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ لَكَ ذَلِكَ وَقَدْ مَنَعَ اللَّهُ ذَلِكَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، فَقَالَ: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لا أَنْتَهِي حَتَّى أَعْلَمَ عِلْمَهُمْ، فَبَعَثَ رِجَالا، فَقَالَ: اذْهَبُوا فَادْخُلُوا الْكَهْفَ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ رِيحًا فَأَخْرَجَتْهُمْ
وفي قوله: ولملئت قراءتان: التشديد والتخفيف، والاختيار التخفيف، لأنهم يقولون: ملأني رعبا.
ولا يكادون يقولون: ملَّأني.
قوله: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا {19} إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا {20} وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا {21} } [الكهف: 19-21] وَكَذَلِكَ أي: وكما فعلنا بهم ما ذكر، بعثناهم أحييناهم من تلك النومة التي تشبه الموت، ليتساءلوا بينهم ليكون بينهم تساؤل وتنازع واختلاف فِي مدة لبثهم، {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ} [الكهف: 19] كم مر علينا منذ دخلنا هذا الكهف؟ {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف: 19] قال المفسرون: إنهم دخلوا الكهف غدوة، وبعثهم الله تعالى فِي آخر النهار.
ولذلك قالوا: يوما، فلما رأوا الشمس قالوا: {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف: 19] ، وكان قد بقي من النهار بقية، {قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} [الكهف: 19] قال ابن عباس: هو تمليخا رئيسهم، رد علم ذلك إلى الله.
{فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ} [الكهف: 19] الورق الفضة، مضروبة وغير مضروبة.
يقال: وَرِقٌ وَوَرْقٌ، وإنما قال هذه لأنه عنى بالورق الدراهم أو الفضة، قال ابن عباس: وكانت معهم دراهم عليها صورة الملك الذي كان فِي زمانهم.(3/140)
وقوله: إلى المدينة يعني دقسوس، وهي مدينتهم، ويقال: هي اليوم طرسوس، {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا} [الكهف: 19] قال عطاء، وسعيد بن جبير: أحل الذبائح، وذلك أن عامة أهل بلدهم كانوا كفارا، وفيهم قوم يخفون إيمانهم.
وقال مجاهد: قالوا لصاحبهم لا تتبع طعاما فِيهِ ظلم ولا غصب.
{فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} [الكهف: 19] بما تأكلونه، وليتلطف وليدقق النظر، وليحتل حتى لا يطلع عليه، {وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} [الكهف: 19] قال ابن عباس: لا يخبرن بكم، ولا بمكانكم أحدا من أهل المدينة.
قوله: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} [الكهف: 20] يشرفوا ويطلعوا عليكم، ويعلموا مكانكم، يرجموكم يقتلوكم بالرجم، وهو من أخبث القتل، {أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} [الكهف: 20] قال ابن عباس: يردوكم إلى دينهم، {وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف: 20] أي: إن رجعتم إلى دينهم لم تسعدوا فِي الدنيا ولا فِي الآخرة.
قوله: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} [الكهف: 21] قال المفسرون: إن الفتية لما هربوا من ملكهم، ودخلوا الكهف، أمر الملك أن يسد عليهم باب الكهف، ويدعوهم كما هم فِي الكهف ليموتوا عطشا وجوعا، وليكن كهفهم الذي اختاروا قبرا لهم، وهو يظن أنهم أيقاظ، وقد توفى الله أرواحهم وفاة النوم، ثم إن رجلين مؤمنين كتبا شأن الفتية وأنسابهم وأسماءهم وخبرهم فِي لوح من رصاص، وجعلاه فِي تابوت من نحاس، وجعلا التابوت فِي البنيان الذي بنوا على باب الكهف، وقالوا: لعل الله يظهر على هؤلاء الفتية قوما مؤمنين قبل يوم القيامة، فيعلموا خبرهم حين يقرأون هذا الكتاب.
ثم انقرض أهل ذلك الزمان، وخلفت بعدهم قرون، وملوك كثيرة، وملك أهل تلك البلاد رجل صالح، يقال له: تندوسيس.
وتحزب الناس فِي ملكه أحزابا، منهم من يؤمن بالله تعالى، ويعلم أن الساعة حق، ومنهم من يكذب، فكبر ذلك على الملك الصالح، وشكا إلى الله تعالى، وتضرع، وقال: أي رب، اختلاف هؤلاء، فابعث لهم آية تبين لهم أن البعث حق، وأن الساعة آتية {لا رَيْبَ فِيهَا} [الكهف: 21] .
فألقى الله فِي نفس الرجل من أهل ذلك البلد الذي به الكهف، أن يهدم البنيان الذي على فم الكهف، فيبني منه حظيرة لغنمه، ففعل ذلك، وبعث الله الفتية من نومهم، فأرسلوا أحدهم ليطلب لهم طعاما، فاطلع الناس على أمرهم، وبعثوا إلى الملك الصالح يعلمونه الخبر ليعجل القدوم عليهم، وينظر إلى آية من آيات الله جعلها الله فِي ملكه آية للعالمين، فتية بعثهم الله تعالى، وقد كان توفاهم منذ أكثر من ثلاث مائة سنة، فلما بلغه الخبر، حمد الله، وركب، وركب معه أهل مدينته حتى أتوا مدينة أصحاب الكهف، فذلك قوله: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} [الكهف: 21] أي: وكما أنمناهم وبعثناهم أعثرنا أطلعنا وأظهرنا، {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ} [الكهف: 21] بالبعث والثواب والعقاب، حق وأن القيامة لا شك فيها {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} [الكهف: 21] تنازع أهل ذلك الزمان فِي قدر مكثهم فِي الكهف، وفي عددهم، وفيما يفعلون بعد أن اطلعوا عليهم، فقال الله تعالى: {رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} [الكهف: 21] بشأنهم وعددهم، وقال مشركو ذلك الوقت: {ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا} [الكهف: 21] يعني: استروهم من الناس بأن تجعلوه وراء ذلك البنيان، كما يقال: بني عليه جدارا، إذا حوطه وجعله وراء الجدار.
{قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} [الكهف: 21] وهم المؤمنون الذين لم يشكوا فِي البعث، الملك وأصحابه: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف: 21] ذكر فِي القصة أن الملك جعل على باب الكهف مسجدا، وجعل عنده عيدا عظيما، وأمر أن يؤتى كل سنة، قال الزجاج: هذا يدل على أنه لما ظهر أمرهم، غلب المؤمنون بالبعث والنشور، لأن المساجد للمؤمنين.
قوله: {(3/141)
سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنْهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 22] {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] أخبر الله تعالى أنه سيقع نزاع فِي عددهم، ثم وقع ذلك لما وفد نصارى نجران إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجرى ذكر أصحاب الكهف، فقالت اليعقوبية منهم: كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم.
وقالت النسطورية: كانوا خمسة سادسهم كلبهم.
وقال المسلمون: كانوا سبعة وثامنهم كلبهم.
وقوله: {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} [الكهف: 22] الرجم: القول بالظن والحدس، وذلك أنه رمى الظن إلى ذلك الشيء، والمعنى: ظنا من غير يقين، كأنهم يرجمون القول فيهم بالغيبة عنهم، وإنما حذفت الواو من الجملتين المتقدمتين، لأن الذي فِيهمَا من الضمير يعقدهما بما قبلهما عقد الاتباع، لا سيما وقد ظهرت الواو فِي الجملة الثالثة، فدل ذلك على أنها مرادة فِي الجملتين المتقدمتين.
قال أبو على الفارسي، قوله: {رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] ، و {سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] ، جملتان استغني عن حرف العطف فِيهمَا بما تضمنتا من ذكر الجملة الأولى، وهو قوله: ثلاثة، والتقدير هم ثلاثة.
وهذا معنى قول الزجاج: دخول الواو في {وَثَامِنْهُمْ} [الكهف: 22] وإخراجها من الأول واحد.
وقوله: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ} [الكهف: 22] أي: ما يعلم عددهم إلا قليل من الناس، قال ابن عباس: أنا من ذلك القليل.
564 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمْشَاذَ، أنا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ الْمُذَكِّرُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ الأَرْغِيَانِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ شِبْلٍ الْبَاهِلِيُّ، نا يَحْيَى بْنُ أَبِي رَوْقٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ} قَالَ: أَنَا مِنْ أُولَئِكَ الْقَلِيلِ، وَهُمْ: مَكْسَلْمِينَا، وَتَمْلِيخَا، وَمَرْطُونَسَ، وَبَنْيُونَسَ، وَسَارَيُونَسَ، ودَنْوَانَسَ، وَكينشيطيونسَ، وَهُوَ الرَّاعِي، وَالْكَلْبُ اسْمُهُ قِطْمِيرٌ، كَلْبٌ أَنْمَرُ فَوْقَ الْقَلَطِيِّ وَدُونَ الْكُرْدِيِّ قَالَ(3/142)
مُحَمَّدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: الْقَلَطِيُّ كَلْبٌ زَيْتِيٌّ، وَقَالَ: مَا بَقِيَ بِنَيْسَابُورَ مُحَدِّثٌ إِلا كَتَبَ عَنِّي هَذَا الْحَدِيثَ إِلا مَنْ لَمْ يُقَدَّرْ لَهُ، قَالَ: وَكَتَبَ عَنِّي أَبُو عَمْرٍو الْحِيرِيُّ، قَالَ الشَّيْخُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَصَدَقَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ، فَقَدْ رَأَيْتُ فِي تَفْسِيرِ أَبِي عَمْرٍو الْحِيرِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ مَرْوِيًّا، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ
565 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، نا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّانَ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، نا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ، تَعَالَى، عَدَّهُمْ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى السَّبْعَةِ، وَأَنَا مِنَ الْقَلِيلِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَهُمْ، هُمْ سَبْعَةٌ؛ يَعْنِي: أَصْحَابَ الْكَهْفِ
وقوله: {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا} [الكهف: 22] المراء فِي اللغة الجدال، يقال: مارى يماري مماراة ومراء، أي جادل، والمعنى: لا تقل فِي أمرهم بغير ما أوحي إليك من أنه لا يعلم عددهم إلا القليل، {وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ} [الكهف: 22] فِي أصحاب الكهف، منهم من اليهود وأهل الكتاب، أحدا قال الفراء: هم فريقان أتوه من نجران: يعقوبي، ونسطوري، فسألهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن عددهم فنهي.
{وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا {23} إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا {24} } [الكهف: 23-24] وقوله: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا {23} إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23-24] قال المفسرون: لما سألت اليهود رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن خبر الفتية، قال: غدا.
ولم يقل: إن شاء الله.
فحبس عنه الوحي حتى شق عليه، فأنزل الله هذه الآية، يأمره بالاستثناء بمشيئة الله تعالى، يقول: إذا قلت لشيء إني فاعله غدا، فقل إن شاء الله.
قال الأخفش، والمبرد: ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن تقول: إن شاء الله.
فأضمر القول، ولما حذف، تقول نقل شاء إلى لفظ الاستقبال، وقوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] الاستثناء بمشيئة الله تعالى، فاذكره وقله إذا تذكرت.
قال سعيد بن جبير: إذا قلت لشيء إني فاعله غدا، فنسيت الاستثناء، ثم تذكرت، فقل: إن شاء الله، وإن كان بعد يوم، أو شهر، أو سنة.
وقال عمرو بن دينار: له أن يستثني متى ذكر.
{وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي} [الكهف: 24] الآية، قال الزجاج: عسى أن يعطيني ربي من الآيات والدلالات على النبوة ما يكون أقرب إلى الرشد، وأدل من قصة أصحاب الكهف.
ثم إن الله تعالى فعل به ذلك، حيث أتاه من علم غيوب المرسلين، وخبرهم ما كان أوضح فِي الحجة، وأقرب إلى الرشد من خبر أصحاب الكهف.
ثم أخبر عن قدر مدة لبثهم، فقال: {(3/143)
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا {25} قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا {26} وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا {27} } [الكهف: 25-27] {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ} [الكهف: 25] يعني من يوم دخلوا الكهف إلى أن بعثهم الله تعالى، وأطلع عليهم الخلق، {ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ} [الكهف: 25] قال الفراء، والزجاج، وأبو عبيدة، والكسائي: التقدير سنين ثلاث مائة.
وقال أبو علي الفارسي: سنين، بدل من قوله: {ثَلاثَ مِائَةٍ} [الكهف: 25] كما تقول: أعطيته ألفا دراهم، ومائة أثوابا.
وقرأ حمزة ثلاث مائة سنين مضافة غير منونة، وهذه قراءة غير جيدة.
قال الأخفش: ولا يحسن إضافة المائة إلى السنين، ولا تكاد العرب تقول: مائة سنين.
قال الفراء: ومن العرب من يضع سنين فِي موضع سنة.
وقوله: {وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف: 25] يعني تسع سنين، فاستغني عن ذكر السنين بما تقدم من ذكرها.
ثم أخبر أنه أعلم بقدر مدة لبثهم من أهل الكتاب المختلفين فِيها، فقال: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} [الكهف: 26] وقال الكلبي: قالت نصارى نجران: أما الثلاث مائة فقد عرفناها، وأما التسع فلا علم لنا بها.
فنزلت {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف: 26] أي: علم ما غاب فيهما عن العباد، {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} [الكهف: 26] هذا لفظ التعجب، كقولك: ما أبصره وأسمعه! والمعنى: ما أبصر الله بكل موجود! وأسمعه لكل مسموع! وقوله: {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ} [الكهف: 26] ليس لأهل السموات والأرض من دون الله من ناصر، ولا يشرك الله، {فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: 26] فلا يجوز أن يحكم حاكم بغير ما حكم الله به، وليس لأحد أن يحكم من ذات نفسه، فيكون شريكا لله فِي حكمه، وقرأ ابن عامر ولا تشرك على معنى ولا تشرك أنت أيها الإنسان فِي حكمه أحدا، على النهي عن الإشراك فِي حكمه.
{وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ} [الكهف: 27] معناه: اتبع القرآن، واعمل به، {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الكهف: 27] قال ابن عباس: لمواعيده.
وقال الزجاج: أي ما أخبر الله به، وما أمر به، فلا مبدل له.
وعلى هذا يكون التقدير: لا مبدل لحكم كلماته، {وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الكهف: 27] قال مجاهد، والفراء: ملجأ.
وقال الزجاج: لن تجد معدلا عن أمره ونهيه.
{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا {28} وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ(3/144)
كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا {29} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا {30} أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا {31} } [الكهف: 28-31] قوله: واصبر نفسك الآية،،:
566 - قال أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، إملاء فِي دار السنة يوم الجمعة بعد الصلاة، فِي شهور سنة ست عشرة وأربع مائةأَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ الْحِيرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبُوشَنْجِيُّ، نا الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمُسَرِّحِ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ الْقُرَشِيُّ، عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُهَنِيِّ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي مَشْجَعَةَ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، قَالَ: جَاءَتِ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَالأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَذَوُوهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ لَوْ جَلَسْتَ فِي صَدْرِ الْمَسْجِدِ، وَنَحَّيْتَ عَنَّا هَؤُلاءِ وَأَرْوَاحَ جِبَابِهِمْ؛ يَعْنُونَ: سَلْمَانَ وَأَبَا ذَرٍّ وَفُقَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَتْ عَلَيْهِمْ جِبَابُ الصُّفُوفِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ غَيْرُهَا؛ جَلَسْنَا إِلَيْكَ وَحَادَثْنَاكَ وَأَخَذْنَا عَنْكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ، تَعَالَى {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ حَتَّى بَلَغَ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا} يَتَهَدَّدُهُمْ بِالنَّارِ فَقَامَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَلْتَمِسُهُمْ، حَتَّى إِذَا أَصَابَهُمْ فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ، يَذْكُرُونَ اللَّهَ، تَعَالَى، قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُمِتْنِي حَتَّى أَمَرَنِي أَنْ أُصَبِّرَ نَفْسِي مَعَ رِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي، مَعَكُمُ الْمَحْيَا وَمَعَكُمُ الْمَمَاتُ
وهذه الآية مفسرة فِي { [الأنعام إلى قوله:] وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [سورة الكهف: 28] .
قال الوالبي، عن ابن عباس: لا تتعداهم إلى غيرهم.
وقال الفراء: لا تنصرف عيناك عنهم.
وقال الزجاج: لا تصرف بصرك إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة.
وقوله: {تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 28] يعني مجالسة أهل الشرف والغنى، وتريد ههنا فِي موضع الحال، أي مريدا، نهي أن يرفع بصره عن ضعفاء المؤمنين، مريدا مجالسة الأشراف، وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حريصا على إيمان الرؤساء، طمعا فِي إيمان أتباعهم، ولم ينسب إلى إرادة زينة الحياة الدنيا، لأنه لم يمل إلى الدنيا قط، ولا إلى أهلها، وإنما كان يلين فِي بعض الأحيان للرؤساء، طمعا فِي إيمانهم، فعوتب بهذه الآية، وأمر بأن يجعل إقباله على فقراء المسلمين، وألا يلتفت إلى غيرهم، وقوله: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف: 28] قال ابن عباس: يريد عيينة وأشباهه.
أي: لا تطعهم فِي تنحية الفقراء عنك ليجلسوا إليك، ومعنى {أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف: 28](3/145)
جعلناه غافلا عن القرآن والإسلام وكلمة التوحيد والإسلام، وروى الضحاك، عن ابن عباس فِي قوله: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ} [الكهف: 28] قال: نزلت فِي أميه بن خلف الجمحي، وذلك أنه دعا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أمر كرهه الله من طردا الفقراء عنه، وتقريب صناديد أهل مكة، فأنزل الله تعالى {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف: 28] يعني من ختمنا على قلبه عن التوحيد، واتبع هواه قال: يعني الشرك.
{وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28] قال مجاهد: ضياعا.
وقال السدي: هلاكا.
وأمر فرط: متهاون به، مضيع أصله من التفريط، وهو تقديم العجز.
قال الزجاج: ومن قدم العجر فِي أمره أضاعه الله وأهلكه.
ومعنى هذا أنه ترك الإيمان والاستدلال بآيات الله واتبع الهوى، وقال الليث: الفرط الأمر الذي يفرط فِيهِ، تقول: كان أمر فلان فرط.
ثم أمره بما يقول لهؤلاء الذين أمروه بتنحية الفقراء، وإدناء مجلسهم، ليؤمنوا به، فقال: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} [الكهف: 29] أي: هذا الحق من ربكم، قال قتادة: يعني القرآن.
وقال الزجاج: أي الذي أتيتكم به الحق من ربكم.
يعني لم آت به من قبل نفسي، وإنما أتيتكم به من عند الله، {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] قال مجاهد، والسدي: هذا وعيد من الله تعالى، وإنذار.
وقد بين بعده ما لكل فريق من مؤمن وكافر، فقال: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا} [الكهف: 29] أي: هيأنا وأعددنا لمن عبد غير الله نارا، {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29] السرادق كل ما أحاط بالشيء واشتمل عليه من ثوب أو حائط.
567 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُطَّوِّعِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمْدَانَ الْحِيرِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ، نا زُهَيْرٌ، نا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، نا ابْنُ لَهِيعَةَ، نا دَرَّاجٌ أَبُو السَّمْحِ، أَنَّ أَبَا الْهَيْثَمِ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «سُرَادِقُ النَّارِ أَرْبَعَةُ جُدُرٍ، كِثَفُ كُلِّ جِدَارٍ مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً» ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ وَرَاءَ هَذِهِ الْجُدُرِ، وَهِيَ مُحِيطَةٌ بِهِمْ {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا} مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ وَشِدَّةِ الْعَطَشِ {يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْوَالِبِيِّ وَالْعَوْفِيِّ: كَدُرْدِيِّ الزَّيْتِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فيما:
568 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ الذُّهْلِيُّ، نا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، نا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ: {بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} كَعَكَرِ الزَّيْتِ، فَإِذَا قَرَّبَهُ إِلَيْهِ؛ سَقَطَ فَرْوَةُ وَجْهِهِ فِيهِ
وروى قتادة، والحسن، عن ابن مسعود، " أنه(3/146)
سئل عن المهل، فدعا بذهب وفضة، فخلطهما، فأذيبا، حتى إذا أزبدا وانماعا، قال: هذا أشبه شيء فِي الدنيا بالمهل الذي هو شراب أهل النار ".
وهذا القول اختيار الزجاج، فقال: إنهم يغاثون بماء كالرصاص المذاب، أو الصفر، أو الفضة.
وقوله: {يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف: 29] قال ابن عباس: يشويها حتى يسقط لحمها فِيهِ.
ثم ذمه، فقال: {بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ} [الكهف: 29] النار، {مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29] أي: منزلا ومقرا ومجلسا، ومعنى المرتفق فِي اللغة ما يرتفق به، ثم يسمى الدار والمنزل مرتفقا لأنه مما يرتفق به.
ثم ذكر ما وعد المؤمنين، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا} [الكهف: 30] أي: لا نترك أعمالهم تذهب ضياعا، بل نجازيهم بالأعمال الصالحة.
قوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} [الكهف: 31] قال الزجاج: أساور جمع أ { [، وأسورة جمع سوار، هو زينة تلبس فِي الزند من اليد، وهو من زينة الملوك، يسور فِي اليد ويتوج على الرأس.
قال سعيد بن جبير: يحلى كل واحد منهم ثلاثة من الأساور، واحد من فضة، وواحد من ذهب، وواحد من لؤلؤ ويواقيت.
وروى أبو هريرة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «لو أن أدنى أهل الجنة حلية، عدلت حليته بحلية أهل الدنيا جميعا، لكان ما يحليه الله به فِي الآخرة أفضل من حلية أهل الدنيا جميعا» .
وقوله:] وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} [سورة الكهف: 31] قال المفسرون: السندس نمارق من الديباج، والإستبرق ما غلظ منه، وهو اسم أعجمي، أصله الفارسية استبر، فنقل إلى العربية، وقوله: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ} [الكهف: 31] الاتكاء التحامل على الشيء، نحو التوكؤ، ومنه قوله تعالى: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} [طه: 18] والأرائك جمع أريكة، وهو سرير فِي حجلة، قال ابن عباس، ومجاهد: الأرائك السرر فِي الحجال، وهي من ذهب مكللة بالدر والياقوت.
{نِعْمَ الثَّوَابُ} [الكهف: 31] قال ابن عباس: طاب ثوابهم وعظم.
{وَحَسُنَتْ} [الكهف: 31] الأرائك، {مُرْتَفَقًا} [الكهف: 31] موضع ارتفاق، بمعنى اتكاء.
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا {32} كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا {33} وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا {34} وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا {35} وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا {36} قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا {37} لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي(3/147)
أَحَدًا {38} وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا {39} فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا {40} أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا {41} وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا {42} وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا {43} هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا {44} } [الكهف: 32-44] قوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا رَجُلَيْنِ} [الكهف: 32] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد ابني ملك كان فِي بني إسرائيل، توفي وترك ابنين، فاتخذ أحدهما الجنان والقصور، والآخر كان زاهدا فِي الدنيا، راغبا فِي الآخرة، فكان إذا عمل أخوه شيئا من زينة الدنيا، أخذ مثل ذلك فقدمه لآخرته، وأخذ به عند الله الجنان والقصور، حتى نفذ ماله، فضربهما الله تعالى مثلا للمؤمن والكافر الذي ابطرته النعمة.
وهو قوله: {جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} [الكهف: 32] الحق الإحاطة بالشيء، ومنه قوله: {حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر: 75] .
يقال: جعلنا النخل مطيفا بهما، {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا} [الكهف: 32] بين الجنتين، {زَرْعًا} [الكهف: 32] .
ثم أخبر أنهما كانا يؤديان حملهما من نخلهما وأعنابهما، والزرع الذي كان بينهما، قال: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} [الكهف: 33] أي: آتت صاحبها أكلها، وهو ما يؤكل منها من الريع، {وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33] لم تنقص، يقال: ظلمه حقه أي نقصه، وفجرنا خلالهما أنبطنا وأخرجنا وسط الجنتين، {نَهَرًا {33} وَكَانَ لَهُ} [الكهف: 33-34] للأخ الكافر، ثمر قال الوالبي: مال.
وقال مجاهد: ذهب وفضة.
وقال قتادة: من كل المال.
وقرئ ثمر وثمر بضم الثاء وسكون الميم.
قال الليث: الثمر حمل الشجر، والثمر أنواع المال، يقال: أثمر الرجل إذا كثر ماله، وثمر الله مال فلان كثره.
والثمر تخفيف الثمر، مثل عنق وعنق، المفسرون على أن الثمر ههنا الأموال.
{فَقَالَ لِصَاحِبِهِ} [الكهف: 34] لأخيه، {وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} [الكهف: 34] يراجعه الكلام، ويجاوبه، {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف: 34] النفر والقوم والرهط معناها الجمع، لا واحد لها من لفظها، قال ابن عباس: يريد كثرة العبيد، وعزه فيهم.
وقال قتادة: وتلك والله أمنية الفاجر، كثرة المال، وعزة النفر، وهم الخدم والحشم.
وقال غيره: يعني عشيرة ورهطا.
قوله: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} [الكهف: 35] قال المفسرون: أخذ بيد أخيه المسلم، فأدخله جنته، يطوف به فِيها، ويريه إياها، ويعجبه(3/148)
منها.
{وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [الكهف: 35] بالكفر بالله، {قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} [الكهف: 35] أنكر فناء الدنيا، وفناء جنته.
وأنكر البعث، والثواب والعقاب، بقوله: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [الكهف: 36] قال الزجاج: أخبر أخاه بكفره بفناء الدنيا، وقيام الساعة، {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي} [الكهف: 36] الآية، قال ابن عباس: يريد إن كان البعث حقا.
{لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 36] أي: كما أعطاني هذه فِي الدنيا، سيعطيني فِي الآخرة أفضل منه، لكرامتي عليه، ومن قرأ منهما رد الكناية إلى الجنتين اللتين تقدم ذكرهما.
فأجابه صاحبه مكفرا له بمال قال {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ} [الكهف: 37] يعني أصل الخلقة، {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا} [الكهف: 37] أكملك وجعلك معتدل الخلق والقامة.
ثم أعلمه أنه موحد، فقال: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} [الكهف: 38] وأصله لكن أنا، فخففت الهمزة، وألقيت حركتها على النون الساكنة قبلها، فصار لكن، فأدغموا النون الأولى فِي الثانية، فصار لكن، ومن قرأ لكنا بإثبات ألف أنا، فإنه أثبت الألف فِي الوصل، كما ثبت فِي الوقف على لغة من يقول: أنا قمت، وهو غير مختار فِي القراءة.
ثم أقبل على أخيه يلومه، قال: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ} [الكهف: 39] بمعنى هلا، وتأويله التوبيخ، {قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 39] قال الفراء، والزجاج: ما فِي موضع رفع على معنى الأمر {مَا شَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 39] .
أي: هلا قلت حين دخلتها: الأمر بمشيئة الله، وما شاء الله كان، يعني إن شاء إخراب هذه الجنة وإهلاكها، كان ذلك بمشيئته، {لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ} [الكهف: 39] قال الزجاج: لا يقوى أحد على ما فِي يديه من ملك ونعمة إلا بالله تعالى، ولا يكون له إلا ما شاء الله.
ثم رجع إلى نفسه، فقال: {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا} [الكهف: 39] أَنَا عماد، وأقل مفعول ثان لترى.
{فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ} [الكهف: 40] قال ابن عباس: فِي الآخرة.
{خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ} [الكهف: 40] الحسبان المرامي يرمى بها، قال النضر بن شميل: الحسبان سهام يرمي بها الرجل فِي جوف قصبة، ينزع فِي القوس، ثم يرمي بعشرين منها دفعة.
والمعنى: يرسل عليها مرامي من عذابه، إما بردا، وإما حجارة، أو غيرهما مما يشاء من أنواع العذاب، {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف: 40] أرضا لا نبات فِيها، والزلق المكان المزلقة، والمعنى أنها تصير جرداء لا نبات فِيها.
{أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا} [الكهف: 41] يعني: النهر الذي فِي خلالها، غورا غائرا ذاهبا فِي الأرض، {فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} [الكهف: 41] لا يبقى له أثر بطلبه به.
{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف: 42] يعني أهلك، وأحيط العذاب بأشجاره ونخيله، فأصبح الكافر، {يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} [الكهف: 42] قال ابن عباس: يضرب يديه واحدة على الأخرى.
وتقليب الكفين يفعله النادم كثيرا، فصار عبارة عن الندم، {عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} [الكهف: 42] فِي جنته، {وَهِيَ خَاوِيَةٌ} [الكهف: 42] ساقطة، {عَلَى عُرُوشِهَا} [الكهف: 42] سقوفها، وما عرش بكرومها، {وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف: 42] أخبر الله أنه سلبه ما أنعم عليه فِي الدنيا، فندم حين لم تنفعه الندامة، وتمنى أنه كان موحدا غير مشرك.
قوله: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الكهف: 43] قال ابن عباس: لم ينصره النصر الذين افتخر بهم فِي قوله: {وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف: 34] .
{وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} [الكهف: 43] بأن يسترد بدل ما ذهب منه،(3/149)
وضربت هذه القصة مثلا للمؤمن والكافر، فالكافر تغره دنياه، ويتبجح بها، ويظن أنها تبقى له، والمؤمن من صبر على نوائبها، احتسابا بها جميل الآخرة، ولا يركن إليها، لما يعلم من فنائها، وسرعة انقضائها، وقبل ذكر قصة الأخوين، ذكر الله ما أعد للكافرين والمؤمنين.
ثم عاد الكلام إلى ما قبل القصة، فقال: هنالك قال الكلبي: يقول عند ذلك، وهو يوم القيامة.
{الْوَلايَةُ} [الكهف: 44] أكثر القراء على فتح الواو، والولاية نقيض العداوة، ويجوز الكسر فِيها، ذكرنا ذلك فِي { [الأنفال، وقوله: لله الحق من كسر القاف، جعله من وصف الله تعالى، ويدل على صحة هذه القراءة قوله:] وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [سورة النور: 25] وقوله: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام: 62] ومن ضم القاف، جعله من وصف الولاية، وحجته قراءة أُبَيٍّ هنالك الولاية الحق لله قال ابن قتيبة: يريد يومئذ يتولون الله تعالى ويؤمنون به، ويتبرءون مما كانوا يعبدون.
وذهب آخرون إلى أن الولاية ههنا بمعنى تولى الأمر، لا إلى معنى الموالاة، فقالوا: معنى الآية فِي ذلك الموطن الذي هو موطن الجزاء، لا يتمكن أحد من نصر أحد، بل الله تعالى يتولى ذلك، فينصر المؤمنين، ويخذل الكافرين، لا يملك ذلك أحد من العباد، فالولاية يومئذ تخلص له، كما قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] .
وقوله: {هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا} [الكهف: 44] يقول: هو أفضل ثوابا ممن يرجى ثوابه، على تقدير لو كان يثيب غيره، هو خير ثوابا، وخير عقبا أي: عاقبة طاعته خير من عاقبة طاعة غيره، فهو خير عقب طاعة وإثابة، ثم حذف المضاف إليه.
قوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا {45} الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا {46} } [الكهف: 45-46] واضرب لهم يعني قومك، {مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 45] وهذا مفسر فِي { [يونس إلى قوله:] فَأَصْبَحَ هَشِيمًا} [سورة الكهف: 45] وهو الكسير المتفتت، والهشم الكسر، والهشيم ما تكسر وتحطم من يبس النبات، {تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف: 45] الذرو: حمل الريح الشيء، ثم تنشره وتفرقه، يقال: ذرته الريح تذروه.
قال المفسرون: ترفعه وتفرقه.
{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} [الكهف: 45] من الإنشاء والإفناء، {مُقْتَدِرًا} [الكهف: 45] قادرا على إنشاء النبات ولم يكن، ثم أفناه.
قوله: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ} [الكهف: 46] الآية، هذا رد على(3/150)
الرؤساء الذين كانوا يفتخرون بالمال والغنى والأبناء، أخبر الله تعالى أن ذلك مما يتزين به فِي الحياة الدنيا، لا مما ينفع فِي الآخرة، {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} [الكهف: 46] يعني ما يأتي به سلمان، وصهيب، وفقراء المسلمين، وهي: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وهذا قول ابن عباس فِي رواية عطاء، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك.
569 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَّاجُ، أنا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُؤَمَّلِ، أنا الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَيْهَقِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، نا كَثِيرُ بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ لِجُلَسَائِهِ: خُذُوا جُنَّتَكُمْ، قَالُوا: أَحَضَرَ عَدُوٌّ؟ قَالَ: خُذُوا جُنَّتَكُمْ مِنَ النَّارِ، قُولُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلا إِلا إِلَهَ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ، فَإِنَّهُنَّ الْمُقَدِّمَاتُ وَهُنَّ الْمُنْجِيَاتُ وَهُنَّ الْمُعَقِّبَاتُ وَهُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ
570 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَبِيبٍ الْوَرَّاقُ، أنا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الشَّيْبَانِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ حَمْدُونِ بْنِ خَالِدٍ، نا الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ، نا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى، نا عِكْرِمَةُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنْ عَجَزْتُمْ عَنِ اللَّيْلِ أَنْ تُكَابِدُوهُ، وَعَنِ الْعَدُوِّ أَنْ تُجَاهِدُوهُ فَلا تَعْجَزُوا عَنْ قَوْلِ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، فَإِنَّهُنَّ مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، فَتَوَلُّوهَا، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَهُوَ قَوْلُ مَسْرُوقٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَإِبْرَاهِيمَ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ: هِيَ الأَعْمَالُ الصَّالِحَاتِ وَجَمِيعُ الْحَسَنَاتِ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، وَقَالَ: كُلُّ طَاعَةٍ لِلَّهِ فَهِيَ مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ؛ فَقَالَ: هِيَ كُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ يَبْقَى ثَوَابُهُ
وقوله: {خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا} [الكهف: 46] قال ابن عباس رضي الله عنه: يريد أفضل ثوابا، وأفضل أملا من المال والبنين.
قوله: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا {47} وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا {48} وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا {49} } [الكهف: 47-49](3/151)
ويوم أي: وأذكر يوم تسير الجبال من وجه الأرض كما يسير السحاب فِي الدنيا، ثم يكسر، فيعود فِي الأرض، كما قال: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا {5} فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا {6} } [الواقعة: 5-6] وقرئ نسير الجبال على بناء الفعل للفاعل، وهذه القراءة أشبه بما بعده من قوله: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ} [الكهف: 47] ، وقوله: {وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً} [الكهف: 47] أي: ظاهرة ليس عليها شيء من جبل أو بناء أو شجر، وحشرناهم يعني المؤمنين والكافرين، فلم نغادر لم نترك ولم نخلف، {مِنْهُمْ أَحَدًا {47} وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ} [الكهف: 47-48] يعني المحشورين، صفا مصفوفين، كل زمرة وأمة صف، لقد جئتمونا أي: فيقال لهم: لقد جئتمونا، {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الكهف: 48] قال ابن عباس: حفاة عراة.
وقال الزجاج: أي بعثناكم وأعدناكم ثانيا كما خلقناكم، لأن قوله: لقد جئتمونا معناه بعثناكم.
بل زعمتم خطاب لمنكري البعث خاص، معناه: بل زعمتم فِي الدنيا، {أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا} [الكهف: 48] للبعث والجزاء.
ووضع الكتاب يعني كتاب أعمال الخلق، والكتاب اسم الجنس فيعم، والمعنى: وضع كتاب كل امرئ فِي يمينه أو شماله، {فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ} [الكهف: 49] يريد المشركين، {مُشْفِقِينَ} [الكهف: 49] خائفين، مما فيه من الأعمال السيئة، {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا} [الكهف: 49] لوقوعهم فِي الهلكة، يدعون بالويل على أنفسهم، {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً} [الكهف: 49] قال ابن عباس فِي رواية عكرمة: الصغيرة التبسم، والكبيرة الضحك.
وقال سعيد بن جبير: الصغيرة اللحم، والكبيرة الزنا.
إلا أحصاها عدها وأثبتها وكتبها، {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا} [الكهف: 49] مكتوبا مثبتا ذكره فِي الكتاب، {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49] لا يعاقبه بغير جرم.
ثم أمر نبيه أن يذكر هؤلاء المتكبرين عن مجالسة الفقراء، قصة إبليس، وما أورثه الكبر، فقال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا {50} مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا {51} وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا {52} وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا {53} } [الكهف: 50-53] {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا} [الكهف: 50] إلى قوله: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: 50] قال ابن عباس فِي رواية عطاء: إن ملائكة السماء الدنيا يقال لهم الجن.
مثل قوله: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158] يعني حين قالوا: الملائكة بنات الله تعالى.
وقال شهر بن حوشب: قال ابن عباس: كان إبليس من الملائكة من قبيل يقال لهم الجن.
وقوله: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] خرج من طاعة ربه إلى معصيته فِي ترك السجود، قال الفراء: والعرب تقول:(3/152)
فسقت الرطبة من قشرها لخروجها منه.
{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ} [الكهف: 50] قال قتادة، والحسن: يعني أولاده، يتوالدون كما يتوالد بنو آدم.
وكان مجاهد يذكر من ذريته: زلنبور صاحب راية إبليس بكل سوق، وثبر صاحب المصائب، والأعور صاحب أبواب الزنا، ومسوط صاحب الأخبار، يأتي بها فيطرحها على أفواه الناس لا يوجد لها أصل، وداسم الذي إذا دخل الرجل بيته فلم يسم ولم يذكر الله تعالى، يضره من المتاع ما لم يرفع ولم يوضع فِي موضعه، وإذا أكل ولم يذكر اسم الله تعالى، أكل معه، فهؤلاء ذريته.
وروى ليث، عن مجاهد، قال: ذريته الشياطين.
وقوله {أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} [الكهف: 50] قال الكلبي: ليس يصلون له، ولا يصومون، ولكن من أطاع شيئا فقد عبده.
{بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا} [الكهف: 50] قال الحسن: بئس ما استبدلوا نعمة ربهم، إذا أطاعوا إبليس، فبئس ذلك بدلا لهم.
قوله: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ} [الكهف: 51] أي: ما أحضرتهم، يعني إبليس وذريته، {خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف: 51] يعني أنه لم يشاورهم فِي خلقهم، بل خلقهما وخلقهم على ما أراد وقدر من غير مشاورة لهم، وهذا إخبار عن كمال قدرته، واستغنائه عن الأنصار والأعوان، يدل على هذا قوله: {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف: 51] أي: الشياطين الذين يضلون الناس عضدا، قال قتادة: أعوانا يعضدونني عليه.
والعضد كثيرا ما يستعمل فِي معنى العون، وذلك أن العضد قوام اليد، ومنه قوله: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} [القصص: 35] أي سنعينك ونقويك به، ووحد العضد، لوفاق الفواصل.
قوله: ويوم يقول قال ابن عباس: يريد يوم القيامة، يقول الله تعالى يوم القيامة: ادعوا الذين أشركتم بي ليمنعوكم من عذابي.
وهو قوله: {نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} [الكهف: 52] فلم يجيبوهم، لأنهم كانوا جمادا، وجعلنا بينهم بين المؤمنين والكافرين، {مَوْبِقًا} [الكهف: 52] ذكر فِي التفسير أنه اسم واد عميق، فَرَّقَ الله به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة، وهو قول مجاهد، وقتادة، ونوف البكالي.
قال ابن الأعرابي: وكل حاجز بين الشيئين فهو موبق.
قال ابن عباس فِي رواية الوالبي: مهلكا.
قال الفراء: يقول: جعلنا تواصلهم فِي الدنيا موبقا، أي مهلكا لهم فِي الآخرة.
والبين على هذا القول معناه التواصل، كقوله: لقد تقطع بينكم فِي قراءة من قرأ(3/153)
بالرفع، والمعنى: أن تواصلهم وتعاونهم ومخالتهم فِي الكفر واجتماعهم على عداوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسبب هلاكهم فِي الآخرة، يقال: وبق وبقا يوبق فهو وبق، ذكره الفراء فِي المصادر، قال: وحكى الكسائي وبق يبق وبوقا فهو وابق، قال ولم أسمعها.
قوله: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ} [الكهف: 53] قال ابن عباس: يريد المشركين، رأوها وهي تتلظى حنقا عليهم.
فظنوا علموا وأيقنوا، {أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف: 53] واردوها وداخلوها، ومعنى الواقعة الملابسة للشيء بشدة، {وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} [الكهف: 53] لأنها أحاطت بهم من كل جانب فلم يقدروا على العرب، ولا على الرجوع عنها، المصرف الموضع الذي يصرف إليه.
قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْءَانِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا {54} وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا {55} وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا {56} وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا {57} وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا {58} وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا {59} } [الكهف: 54-59] {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْءَانِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الكهف: 54] مفسر فِي { [بني إسرائيل، وقوله:] وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا} [سورة الكهف: 54] قال ابن عباس: يريد النضر بن الحارث وجداله فِي القرآن.
وقال الكلبي: يعني أبي بن خلف.
وقال الزجاج: معناه كان الكافر يدل عليه قوله: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ} [الكهف: 56] .
قوله: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ} [الكهف: 55] يعني أهل مكة، أن يؤمنوا أي الإيمان، {إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى} [الكهف: 55] محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاءهم من الله تعالى بالرشاد والبيان، ويستغفروا ربهم عطف على أن يؤمنوا، {إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [الكهف: 55] وهو أنهم إذا لم يؤمنوا عذبوا، يقول: لقد قدرت على هؤلاء العذاب، فذلك الذي يمنعهم عن الإيمان، وهذه الآية فيمن قتلوا من المشركين ببدرٍ وأحدٍ، وهو قوله: {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا} [الكهف: 55] أي: عيانا مقابلة، وقرأ أهل الكوفة قبلا جمع قبيل، أي: صنفا صنفا.
وقوله: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ} [الكهف: 56] قال ابن عباس: يريد المستهزئين والمقتسمين.
وأتباعهم وجدالهم بالباطل أنهم ألزموه أن يأتي بالآيات على أهوائهم على ما كانوا يقترحون، {لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [الكهف: 56] ليبطلوا به ما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقال: دحضت(3/154)
حجته، أي بطلت، وأدحضت حجته إذا أبطلتها.
وقوله: {وَاتَّخَذُوا آيَاتِي} [الكهف: 56] يعني القرآن، {وَمَا أُنْذِرُوا} [الكهف: 56] وما خوفوا به من النار والقيامة، هزوا مهزوا به.
قوله: ومن أظلم استفهام معناه التقرير، أي: لا أحدا ظلم، {مِمَّنْ ذُكِّرَ} [الكهف: 57] وعظ، {بِآيَاتِ رَبِّهِ} [الكهف: 57] بالقرآن وما فِيهِ من الوعيد، فأعرض عنها تهاونا بها، {وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [الكهف: 57] يعني ما سلف من ذنوبه، وما بعد هذا مفسر فِي { [الأنعام،] وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى} [سورة الكهف: 57] إلى الإيمان والقرآن، {فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف: 57] قال الزجاج: أخبر الله تعالى أن هؤلاء أهل الطبع على قلوبهم.
{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ} [الكهف: 58] الغافر الساتر على عباده، {ذُو الرَّحْمَةِ} [الكهف: 58] حين لم يعاجلهم بالعقوبة، وهو قوله: {لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ} [الكهف: 58] للبعث والحساب، {لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا} [الكهف: 58] منجى وملجأ، قال: وأل يئل وألا، إذا نجا.
قوله: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ} [الكهف: 59] يعني أهلها، ولذلك قال: أهلكناهم قال ابن عباس: يريد ما أهلك بالشام واليمن.
لما ظلموا أشركوا، وكذبوا الأنبياء، {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ} [الكهف: 59] يجوز أن يكون المهلك ههنا مصدرا، ويجوز أن يكون وقتا، والمعنى: جعلنا لإهلاكهم، أو لوقت إهلاكهم، ومن قرأ لمهلكهم بفتح الميم وكسر اللام كان المعنى لوقت هلاكهم، ومن قرأ بفتحها، فهو مصدر مثل الهلاك، وقوله: موعدا أي: وقتا وأجلا.
قوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا {60} فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا {61} فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا {62} قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا {63} قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا {64} فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا {65} قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا {66} قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا {67} وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا {68} قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا {69} قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا {70} } [الكهف: 60-70] {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} [الكهف: 60] الآية.
571 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الأُمَوِيُّ، أنا الرَّبِيعُ، أنا الشَّافِعِيُّ، أنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَوْفًا الْبَكَّالِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى صَاحِبَ الْخَضِرِ لَيْسَ بِمُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ، أَخْبَرَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّ مُوسَى قَامَ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّ لِي عَبْدًا بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ، قَالَ(3/155)
مُوسَى: يَا رَبِّ، فَكَيْفَ لِي بِهِ؟ قَالَ: تَأْخُذُ مَعَكَ حُوتًا، فَتَجْعَلُهُ فِي مِكْتَلٍ، فَحَيْثُمَا فَقَدْتَ الْحُوتَ، فَهُوَ ثَمَّ، فَأَخَذَ حُوتًا، فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ ثُمَّ انْطَلَقَ، وَانْطَلَقَ مَعَهُ فَتَاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، حَتَّى إِذَا أَتَيَا الصَّخْرَةَ، وَضَعَا رُءُوسَهُمَا فَنَامَا وَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمِكْتَلِ فَخَرَجَ مِنْهُ، فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ، فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا وَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنِ الْحُوتِ جِرْيَةَ الْمَاءِ، فَصَارَ عَلَيْهِ مِثْلُ الطَّاقِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نَسِيَ صَاحِبَهُ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالْحُوتِ فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتِهِمَا، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ، قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} ، قَالَ: وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ، حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، فَقَالَ فَتَاهُ: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحَرِ عَجَبًا} ، قَالَ: فَكَانَ لِلْحُوتِ سَرِبًا، وَلِمُوسَى وَلِفَتَاهُ عَجَبًا، فَقَالَ مُوسَى: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} ، قَالَ: رَجَعَا يَقُصَّانِ آثَارَهُمَا، حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى بِثَوْبٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى، فَقَالَ الْخَضِرُ: وَأَنِّي بِأَرْضِكَ السَّلامُ؟ قَالَ: أَنَا مُوسَى، قَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا، قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا يَا مُوسَى، إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ، تَعَالَى، لا تَعْلَمُه، عَلَّمَنِيهِ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَ لا أَعْلَمُهُ، فَقَالَ مُوسَى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} ، فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} ، {فَانْطَلَقَا} يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ فَمَرَّتْ سَفِينَةٌ، فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمْ، فَعَرَفُوا الْخَضِرَ فَحَمَلُوهُ بِغَيْرِ قَوْلٍ، فَلَمَّا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ، لَمْ يُفَاجَأْ إِلا وَالْخَضِرُ قَدْ قَلَعَ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ بِالْقَدُومِ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: قَوْمٌ قَدْ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ، عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ، فَخَرَقْتَهَا {لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} ، قَالَ: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} ؟ قَالَ: {لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيت وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَكَانَتِ الأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا، قَالَ: وَجَاءَ عُصْفُورٌ، فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ فِي الْبَحْرِ نُقْرَةً، فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلا مِثْلُ مَا نَقَرَ هَذَا الْعُصْفُورِ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ، ثُمَّ خَرَجَا مِنَ السَّفِينَةِ، فَبَيْنَمَا هُمَا يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ إِذْ أَبْصَرَ الْخَضِرُ غُلامًا يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَ الْخَضِرُ رَأْسَهُ بِيَدِهِ فَاقْتَلَعَهُ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} قَالَ: وَهَذِهِ أَشَدُّ مِنَ الأُولَى، قَالَ: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ فَلا إِلَى قَوْلِهِ: يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} ، قَالَ: مَائِلا، فَقَامَ الْخَضِرُ فَأَقَامَهُ بِيَدِهِ، فَقَالَ مُوسَى: قَوْمٌ أَتَيْنَاهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونَا، وَلَمْ يُضَيِّفُونَا، {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} الآيَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَدِدْنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ صَبَرَ، حَتَّى يَقُصَّ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِمَا، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ: وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا، وَكَانَ يَقْرَأُ: وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ كَافِرًا وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنِ الْحُمَيْدِيِّ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ كِلاهُمَا، عَنْ سُفْيَانَ
وقوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} [الكهف: 60] معناه: واذكر ذلك، لما فِي تلك القصة من العبرة، قوله: لفتاه أجمعوا على أنه يوشع بن نون، قال الفراء: إنما سمي فتى موسى، لأنه كان ملازما له، يأخذ عنه العلم ويخدمه.
لا أبرح لا أزال، ومنه قوله: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ} [طه: 91] والمعنى: لا أزال أسير حتى أبلغ مجمع البحرين، قال قتادة: يعني بحر(3/156)
فارس وبحر الروم، وكان ذلك الموضع الذي وعد موسى للقاء الخضر.
وقوله: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف: 60] أي: أسير حقبا، قال الوالبي: دهرا.
والحقب عند أهل اللغة ثمانون سنة، والمعنى: لا أزال أسير، وإن احتجت إلى أن أسير حقبا، حتى أبلغ مجمع البحرين.
{فَلَمَّا بَلَغَا} [الكهف: 61] يعني موسى وصاحبه، {مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} [الكهف: 61] بين البحرين، وهو حيث وعد للقاء الخضر، وقوله: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: 61] قال المفسرين: كانا فيما تزودا حوت مملح فِي زبيل، فكانا يصيبان منه الغداء والعشاء، فلما انتهيا إلى الصخرة على ساحل البحر، وضع فتاه المكتل، فأصاب الحوت ندى البحر، فتحرك فِي المكتل، فانسرب فِي البحر، وقد كان قيل لموسى: تزود معك حوتا مالحا، فحيث تفقد الحوت ثم تجد الرجل العالم، فلما انتهيا إلى الصخرة، قال لفتاه: امكث حتى آتيك، وانطلق موسى لحاجته، فجرى الحوت حتى وقع فِي البحر، فقال قتادة: إذا جاء نبي الله حدثته، فأنساه الشيطان، فذلك قوله: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: 61] وإنما نسيه يوشع أن يذكر قصته لموسى، فأضيف النسيان إليهما توسعا، لأنهما جميعا تزودانه، فصار كما يقال: نسي القوم زادهم، وإنما نسيه أحدهم.
وقوله: {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} [الكهف: 61] قال قتادة: جعل لا يسلك طريقا إلا صار الماء جامدا.
وقال الربيع بن أنس: انجاب الماء عن مسلك الحوت، فصار كوة لم يلتئم.
والسرب معناه فِي اللغة المحفور فِي الأرض، لا نفاذ له، شبه مسلك الحوت فِي الماء، والماء منجاب عنه بالسرب، كما قال الفراء: لما وقع فِي الماء جمد مذهبه فِي البحر، فكان كالسرب.
{فَلَمَّا جَاوَزَا} [الكهف: 62] ذلك المكان الذي كانت عنده الصخرة، وذهب الحوت، انطلقا، فأصابهما ما يصيب المسافر من النصب والكلال، ولم يجد موسى النصب حتى جاوز الموضع الذي يريده، فدعا بالطعام ليأكل، وهو قوله: {آتِنَا غَدَاءَنَا} [الكهف: 62] وهو الطعام الذي يؤكل بالغداء، {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف: 62] وهو الإعياء من العناء، والفعل نصب ينصب.
فلما قال له موسى ذلك، تذكر قصة الحوت، فقال لموسى: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ} [الكهف: 63] يعني: حين نزلا هناك، {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} [الكهف: 63] أن أحدثكه، ثم اعتذر فقال: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63] وذلك أنه لو ذكر لموسى قصة الحوت عند الصخرة، ما جاوزها موسى، وما ناله النصب الذي اشتكاه، واتخذ الحوت {سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} [الكهف: 63] أي: سبيلا عجبا، وهو أن الماء انجاب عنه، وبقي كالكوة لم يلتئم، فلما قال هذا يوشع، ذكر موسى ما كان عهد إليه أنه يدلك عليه بعض زادك.
{قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} [الكهف: 64] أي: نطلب ونريد من العلامة، {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا} [الكهف: 64] رجعا وعادا عودهما على بدئهما فِي الطريق الذي جاءا منه، قصصا يقصان آثارهما قصصا، والقصص اتباع الأثر، ومنه قوله: {قُصِّيهِ} [القصص: 11] .
قوله: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا} [الكهف: 65] أي: أدركا الخضر، واسمه بليا بن ملكان، وإنما سمي الخضر(3/157)
لأنه إذا صلى فِي مكان اخضر ما حوله، {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} [الكهف: 65] يعني نبوة، {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65] قال ابن عباس رضي الله عنهما: أعطيناه علما من علم الغيب.
فقال: {لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66] أي: علما ذا رشد، والرشد والرشد لغتان كالنخل والنخل، قال قتادة: لو كان أحد مكتفيا من العلم لاكتفى نجي الله موسى، ولكنه قال: {هَلْ أَتَّبِعُكَ} [الكهف: 66] الآية.
وقال الزجاج: وفيما فعل موسى، وهو من جلة الأنبياء من طلب العلم، والرحلة فِي ذلك، ما يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يترك طلب العلم، وإن كان قد بلغ نهايته، وأن يتواضع لمن هو أعلم منه.
فقال له الخضر: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف: 67] قال ابن عباس: لن تصبر على صنيعي، لأني علمت غيب علم ربي.
ثم أعلمه العلة فِي ترك الصبر فقال: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [الكهف: 68] أي: لم تعلمه، والخبر علمك بالشيء، يقول: كيف تصبر على أمر ظاهره منكر، وأنت لا تعلم باطنه؟ قال له موسى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} [الكهف: 69] أصبر على ما أرى منك، {وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف: 69] لا أخالفك فِي شيء.
قال له الخضر: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي} [الكهف: 70] أي: صحبتني، {فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ} [الكهف: 70] مما أفعل مما تنكره، {حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف: 70] حتى أكون أنا الذي أفسره لك، لأنه قد غاب علمه عنك.
فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهم سفينة، فكلموهم أن يحملوهم، فحملوهما بغير أجرة، فذلك قوله: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا {71} قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا {72} قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا {73} } [الكهف: 71-73] {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا} [الكهف: 71] أي: شقها، قيل: إنه قلع لوحين مما يلي الماء، فحشاها موسى بثوبه، وقال منكرا عليه: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف: 71] منكرا عظيما، ويقال: أمر الأمر إذا كبر إمرا، والإمر: الاسم منه.
فقال له الخضر: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا {72} قَالَ} [الكهف: 72-73] موسى: {لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} [الكهف: 73] أي: عقلت عن التسليم لك، وترك الإنكار عليك، ونسيت ذلك.
وقال الكلبي: يقول: بما تركت من وصيتك، وعلى هذا القول النسيان بمعنى الترك لا بمعنى الغفلة.
{وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} [الكهف: 73] لا تكلفني مشقة، قال أبو زيد: أرهقته عسرا إذا كلفته ذلك.
والمعنى: عاملني باليسر لا بالعسر، ولا تضيق علي الأمر فِي صحبتي إياك.
قوله: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا {74} قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا {75} قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا {76} } [الكهف: 74-76] {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ} [الكهف: 74] روي فِي حديث أبي بن كعب، أنهما خرجا، حتى لقيا غلاما يلعب مع(3/158)
الصبيان، فقال به هكذا، كأنه اجتذب رأسه، فقلعه، وأشار عبد الرزاق حين روى هذا الحديث بأصابعه الثلاثة: السبابة، والوسطى، والإبهام وفتحها.
وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن ذلك الغلام كان من أحسن أولئك الغلمان وأصحهم.
قال موسى حين رأى ذلك: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} [الكهف: 74] قال ابن عباس، ومجاهد: لم يبلغ الحلم.
ومعنى الزكية الطاهرة من الذنوب، وذلك لأنه كان صغيرا لم يبلغ حد التكليف، وقرئ زاكية وهي البريئة من الذنوب، قال الفراء: الزاكية والزكية مثل القاسية والقسية.
وقوله: {بِغَيْرِ نَفْسٍ} [الكهف: 74] يعني: بغير قتل نفس، يعني القود، {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف: 74] فظيعا منكرا، لا يعرف فِي شرع.
فقال الخضر: {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف: 75] .
قال موسى: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ} [الكهف: 76] يعني: سؤال توبيخ وإنكار، بعدها بعد النفس المقتولة، {فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} [الكهف: 76] قال ابن عباس: يريد أنك قد أعذرت فيما بيني وبينك، وقد أخبرتني أني لا أستطيع معك صبرا، وهذا إقرار من موسى بأن الخضر قد قدم إليه ما يوجب العذر عنده فلا يلزمه ما انكره.
وروي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلا هذه الآية، فقال: «لقد استحى نبي الله موسى عندها، ولو صبر، لرأى ألفا من العجائب» .
وقراءة العامة بتشديد النون من لدن والأصل لدن، ثم يزاد مع الياء، نحو مني، وعني، ثم يدغم النون الساكنة فِي التي تزاد مع الضمير فيصير لدني مشددا، ومن خفف فإنه لم يلحق النون التي تلحق علامة الضمير فِي نحو ضربني، وقد جمع الشاعر بين اللغتين فِي قوله:
قدني من نثر الخبيبين قدني
{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا {77} قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا {78} أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا {79} وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا {80} فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا(3/159)
رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا {81} وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا {82} } [الكهف: 77-82] قوله: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} [الكهف: 77] قال ابن عباس: هي انطاكية.
وقال ابن سيرين: الأبلة.
استطعما أهلها سألاهم الطعام، {فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} [الكهف: 77] روى أبي بن كعب، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «كانوا أهل قرية لئاما» .
والتضييف والإضافة بمعنى واحد، فوجدا فيها فِي تلك القرية، {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77] الإرادة فِي صفة الجدار مجاز، ومعناه: قرب أن ينقض، وذلك على التشبيه بحال من يريد أن يفعل، قال الزجاج: والجدار لا يريد إرادة حقيقية إلا أن هيئته فِي التهيؤ للسقوط قد ظهرت كما تظهر أفعال المريدين القاصدين.
فوصف الإرادة إذ كانت الصورتان واحدة، وأنشد الراعي يصف إبلا:
فِي مهمه فلقت به هاماتها ... فلق الفئوس إذا أردن نصولا
ومعنى الانقضاض السقوط بسرعة، يقال: انقض الحائط إذا وقع، وانقض الطائر إذا هوى من طيرانه فسقط على شيء، وقوله: {فَأَقَامَهُ} [الكهف: 77] أي سواه، لأنه وجده مائلا، وفي حديث أبي بن كعب: انتهيا إلى جدار مائل، فدفعه بيده فقام، فقال موسى: {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ} [الكهف: 77] أي: على إقامته وإصلاحه، أجرا قال الفراء: لو شئت لم تقمه حتى يقرونا، فهو الأجر.
وقرأ أبو عمرو لتخذت يقال: تخذ فلان، يتخذ تخذا مثل اتخذ، ألزمت التاء الحرف كأنها أصلية، لما رأوا التاء فِي اتخذ ظنوها أصلية، فقالوا فِي الثلاثي تخذ، كما قالوا: تقي من اتقى.
قال الخضر: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78] أي: هذا الكلام والإنكاء علي بترك الأجر، هو المفرق بيننا، قال الزجاج: المعنى هذا فراق بيننا، أي هذا فراق اتصالنا، وكرر بين تأكيدا.
ولما قال الخضر هذا، أخذ موسى بطرف ثوبه، فقال: حدثني بتأويل ما صنعت.
فقال: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا {78} أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 78-79] يعني أن أصحابها كانوا مساكين، لم يكن لهم مال غير تلك السفينة، فكانوا يعملون عليها، يأخذون أجرتها، {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79] أجعلها ذات عيب، قال مجاهد: أخرقها.
{وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} [الكهف: 79] قال المفسرون: يعني أمامهم، وراء يكون(3/160)
بمعنى أمام، كقوله: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} [إبراهيم: 16] ، {وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 17] قال عباد بن صهيب: قدمت الكوفة لأسمع من إسماعيل بن أبي خالد، فمررت بشيخ جالس، فقلت: يا شيخ، كيف أمر إلى منزل إسماعيل بن أبي خالد؟ فقال لي: وراءك.
فقلت: أرجع؟ قال: أقول وراءك وترجع؟ فقلت: أليس ورائي خلفي؟ قال: لا.
ثم قال: حدثني عكرمة، عن ابن عباس {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79] قال: لو كان وراءهم لكانوا قد جاوزوه، ولكن كان بين أيديهم.
والمعنى: كل سفينة صالحة، وكذا كان يقرأ ابن عباس، وأبي، وحذفت للعلم بها، قال الخضر: إنما خرقتها، لأن الملك إذا رآها متخرقة تركها، ورقعها أهلها بقطعة خشب فانتفعوا بها.
{وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} [الكهف: 80] وابن عباس، وأبي كانا يقرآن: وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين، {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا} [الكهف: 80] أي: يرهق الغلام أبويه، {طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف: 80] لذلك قتلناه، قال المفسرون: خشينا أن يحملهما حبه على أن يتبعاه ويدينا بدينه.
572 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمُزَنِيُّ، أنا أَبُو سَهْلٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الزَّجَّاجُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، نا الْقَعْنَبِيُّ، نا الْمُعْتِمَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَقَبَةَ بْنِ مَصْقَلَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الْغُلامَ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ، طُبِعَ كَافِرًا وَلَوْ عَاشَ لأَرْهَقَ أَبَوَيْهِ طُغْيَانًا وَكُفْرًا، رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي (الصَّحِيحِ) ، عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَقَالَ قَتَادَةُ: قَالَ مُطَرِّفٌ: أَيْمُ اللَّهِ، إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّهُمَا فَرِحَا بِهِ يَوْمَ وَلَدَاهُ، وَحَزِنَا عَلَيْهِ يَوْمَ قُتِلَ، وَلَوْ عَاشَ كَانَ فِيهِ مَهْلَكَتُهُمَا، فَالْمُؤْمِنُ حَقِيقٌ أَنْ يَرْضَى بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ، فَإِنَّ قَضَاءَ اللَّهِ، تَعَالَى، لِلْمُؤْمِنِ، خَيْرٌ مِنْ قَضَائِهِ لِنَفْسِهِ، وَمَا قُضِيَ لَكَ، يَابْنَ آدَمَ، فِيمَا تَكْرَهُ خَيْرٌ مِمَّا قُضِيَ لَكَ فِيمَا تُحِبُّ، فَاسْتَخِرِ اللَّهَ، تَعَالَى، وَارْضَ بِقَضَائِهِ
وقوله: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً} [الكهف: 81] يعطيهما الله ولدا بدلا منه، خيرا منه دينا، قاله سعيد بن جبير، وقتادة: وقال الكلبي: خيرا منه صلاحا.
والزكاة الصلاح، والزاكي الصالح، {وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف: 81] الرحم والرحم العطف والرحمة، قال ابن عباس، وقتادة: وأوصل للرحم، وأبر بوالديه.
قال عطاء، عن ابن عباس: أبدلهما به جارية ولدت سبعين نبيا.
{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ} [الكهف: 82] يعني القرية المذكورة فِي قوله: {أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} [الكهف: 77] ، {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} [الكهف: 82] قال قتادة: كان ذهبا وفضة.
وهو تفسير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما:
573 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَّاجُ، أنا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ(3/161)
عَبْدُوسٍ الطَّرَائِفِيُّ، نا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، نا صَفْوَانُ بْنُ صَالِحٍ الدِّمَشْقِيُّ، نا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، نا يَزِيدُ بْنُ يُوسُفَ الصَّنْعَانِيُّ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِهِ، عَزَّ وَجَلَّ: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} ، قَالَ: كَانَ ذَهَبًا وَفِضَّةً، رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي (صَحِيحِهِ) ، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ الْفَقِيهِ، عَنْ حُسَامِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ صَفْوَانَ
وقال ابن عباس فِي رواية عطاء: كان لوحا من ذهب فِيهِ مكتوبا: عجبا لمن أيقن بالقدر! ثم ينصب عجبا لمن أيقن بالنار! ثم يضحك عجبا لمن يؤمن بالموت! كيف يفرح؟ عجبا لمن يوقن بالرزق! كيف يتعب؟ عجبا لمن يؤمن بالحساب! كيف يغفل؟ عجبا لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها! كيف يطمئن إليها؟ أنا الله لا إله إلا أنا، محمد عبدي ورسولي، وفي الشق الآخر: أنا الله لا إله إلا أنا، محمد عبدي ورسولي، وفي الشق الآخر، أنا الله لا إله إلا أنا وحدي، لا شريك لي، خلقت الخير والشر، فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه، والويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه.
وهو قول أكثر أهل التفسير.
574 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ النَّصْرُوِيُّ، أنا أَبُو الْعَلاءِ أَحْمَدُ بْنُ مَحْمُودٍ الأَهْوَازِيُّ، أنا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، نا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى الصُّوفِيُّ، نا ضِرَارُ بْنُ صُرَدَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ، نا أَبَانٌ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ قَوْلِهِ، عَزَّ وَجَلَّ: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} ، قَالَ: لَوْحٌ مِنْ ذَهَبٍ، مَكْتُوبٌ فِيهِ: عَجِبْتُ لِمَنْ يُوقِنُ بِالْمَوْتِ، ثُمَّ كَيْفَ يَفْرَحُ؟ وَعَجِبْتُ لِمَنْ يُوقِنُ بِالْقَدَرِ كَيْفَ يَحْزَنُ؟ وَعَجِبْتُ لِمَنْ يُوقِنُ بِزَوَالِ الدُّنْيَا، وَتَقَلُّبِهَا بِأَهْلِهَا، ثُمَّ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا
قال الزجاج: المعروف فِي اللغة أن الكنز إذا أفرد، فمعناه المال المدفون، فإذا لم يكن المال، قيل: عنده كنز علم، وله كنز فهم، والكنز ههنا بالمال أشبه، قال: وجائز أن يكون الكنز مالا، مكتوب فِيهِ علم على ما روي، فهو مال وعلم عظيم من توحيد الله تعالى، وإعلام أن محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبعوث.
وقوله: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82] قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر منهما(3/162)
صلاحا.
وقال جعفر بن محمد: كان بينهما وبين ذلك الأب الصالح سبعة آباء.
أخبرنا عمرو بن أحمد بن عمر الزاهد، أنا عبد الرحمن بن أحمد بن حمدويه، نا زنجويه بن محمد، نا إسحاق بن منصور المروزي، نا الحسين بن علي، عن محمد بن سوقة، عن محمد بن المنكدر، قال: إن الله عز وجل ليحفظ بصلاح العبد ولده، وولد ولده، وأهل دويرته، وأهل دويرات حوله، فما يزالون فِي حفظ الله تعالى ما دام فيهم.
وقوله: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف: 82] قال ابن عباس: أن يكبرا ويعقلا.
{وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا} [الكهف: 82] وذلك أن الخضر لو لم يقم الجدار لكان ينقض، ويؤخذ ذلك الكنز الذي تحته قبل بلوغ الغلامين الأشد، فأمر الخضر، حتى أقام الجدار، وهو قوله: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف: 82] أي: رحمهما الله بذلك رحمة، {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82] قال ابن عباس: انكشف لي من الله تعالى علم، فعلمت به.
{ذَلِكَ تَأْوِيلُ} [الكهف: 82] قال: يريد هذا تفسير {مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 82] .
قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا {83} إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا {84} فَأَتْبَعَ سَبَبًا {85} حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا {86} قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا {87} وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا {88} ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا {89} حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا {90} كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا {91} } [الكهف: 83-91] {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} [الكهف: 83] الآية، ذكرنا أن اليهود سألت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن رجل طواف، بلغ شرق الأرض وغربها، هذه الآية من جوابهم، واختلفوا فِي ذي القرنين، فقال: مجاهد: كان نبيا.
وهو قول عبد الله بن عمرو، وقال علي رضي الله عنه: كان عبدا صالحا، أحب الله، فأحبه الله تعالى، وناصح الله تعالى، فنصحه الله تعالى.
وروي ذلك مرفوعا: أنه كان غلاما من الروم، أعطي ملكا، قال الزهري: وإنما سمي ذا القرنين، لأنه بلغ قرن الشمس من مغربها، وقرنها من مطلعها.
واختار الزجاج هذا القول، فقال: يجوز على مذهب أهل اللغة أن يكون سمي ذا القرنين، لأنه بلغ قطري الأرض، مشرق الأرض ومغربها.
وقال أبو الطفيل: أمر قومه بتقوى الله تعالى، فضربوه على قرنه فمات، فبعثه الله، ثم أمرهم بتقوى الله، فضربوه على قرنه الآخر فمات، ثم بعثه الله تعالى، فسمي ذا القرنين.
وهذا القول يرويه أبو الطفيل،(3/163)
عن علي رضي الله عنه.
وقوله: {قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف: 83] أي: خبرا يتضمن ذكره.
قوله: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ} [الكهف: 84] قال علي: سخر الله له السحاب، فحمله عليها، ومد له فِي الأسباب، وبسط النور له، فكان الليل والنهار عليه سواء.
وهذا معنى تمكينه فِي الأرض، وهو أنه سهل عليه المسير فِيها، وذلل له طرقها وحزونها، حتى تمكن منها إن شاء، {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف: 84] قال قتادة، والوالبي، عن ابن عباس: علما يتسبب به إلى ما يريد.
وكل ما وصل شيئا إلى شيء فهو سبب.
وقوله: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف: 85] قال المفسرون: طريقا.
والمعنى: طريقا يؤديه إلى مغرب الشمس، وقال الزجاج: فأتبع سببا من الأسباب التي أوتي، وذلك أنه أوتي من كل شيء سببا، فأتبع سببا من الأسباب التي أوتي سببا فِي المسير إلى المغرب.
والقراءة الجيدة فاتبع وقرئ فأتبع بقطع الألف، ومعناه لحق، كقوله: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف: 175] .
قوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} [الكهف: 86] أي: ذات حمأة، وهو الطين الأسود المنتن، وهذه قراءة ابن عباس، وقراءة ابن الزبير، وابن مسعود حامية من غير همز، وهي فاعلة من حميت، فهي حامية، أي حارة.
575 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ النَّصْرَابَادِيُّ، أنا أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَامِدٍ الْعَطَّارُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، نا سُفْيَانُ، عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي سَعْدٍ، سَمِعَ ابْنَ حَاضِرٍ يَقُولُ: اخْتَلَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} ، وَقَالَ عَمْرٌو: فِي عَيْنٍ حَامِيَةٍ، فَسَأَلُوا كَعْبًا فَقَالَ: إِنِّي أَجِدُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ: تَغْرُبُ فِي طِينَةٍ سَوْدَاءَ فَقَالَ: رَجُلٌ لابْنِ عَبَّاسٍ: أَلا أُعِينُكَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: قَالَ تُبَّعٌ:
قَدْ كَانَ ذُو الْقَرْنَيْنِ عَمْرٌو مُسْلِمًا ... مَلِكًا تَدِينُ لَهُ الْمُلُوكُ وَتَسْجُدُ
بَلَغَ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ يَبْتَغِي ... أَسْبَابَ أَمْرٍ مِنْ حَكِيمٍ مُرْشِدِ(3/164)
فَرَأَى مَغِيبَ الشَّمْسِ عِنْدَ مَغِيبِهَا ... فِي عَيْنِ ذِي خُلُبٍ وَثَأْطٍ حَرْمَدِ
قوله: {وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا} [الكهف: 86] أي: عند العين، {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ} [الكهف: 86] قال ابن الأنباري: إن كان ذو القرنين نبيا، فإن الله قال له كما يقول للأنبياء إما بتكليم أو بوحي، ومن قال: لم يكن نبيا، قال: معنى قلنا ألهمنا، لأن الإلهام ينوب عن الوحي كقوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} [القصص: 7] أي ألهمناها.
وقوله: {إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ} [الكهف: 86] الآية، قال المفسرون: يريد إما أن تقتلهم إن أبوا ما تدعوهم إليه، وإما أن تأسرهم، فتعلمهم الهدي، وتبصرهم الرشاد.
قال قتادة: قضى فيهم بقضاء الله، وكان عالما بالسياسة.
فقال: {أَمَّا مَنْ ظَلَمَ} [الكهف: 87] قال ابن عباس: أشرك.
{فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} [الكهف: 87] نقتله إذا لم يرجع عن الشرك، {ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ} [الكهف: 87] بعد قتلي إياه، {فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا} [الكهف: 87] يعني فِي النار.
{وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} [الكهف: 88] قال الفراء: الحسنى الجنة.
وأضيف الجزاء إليها، وهي الجزاء، كما يقال: {حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة: 95] ، {وَلَدَارُ الآخِرَةِ} [يوسف: 109] وقرأ أهل الكوفة فله جزاء نصبا، وهو مصدر وقع موقع الحال، المعنى: فله الحسنى جزاء مجزيا بها، وقال ابن الأنباري: جزاء نصب على المصدر.
المعنى: فيجزى الحسنى جزاء، {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف: 88] قولا جميلا.
قوله: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا {92} حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا {93} قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا {94} قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا {95} آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا {96} فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا {97} قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا {98} } [الكهف: 92-98] {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف: 89] إخبار عن ذي القرنين أنه سلك طريقا يوصله إلى المشرق.
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} [الكهف: 90] قال الحسن، وقتادة: لم يكن بينهم وبين الشمس ستر، لأنهم كانوا فِي مكان لا يستقر عليه البناء.
وقال الكلبي: كانوا حفاة عراة، يفرش أحدهم أذنه، ويلبس الأخرى.
وقوله:(3/165)
كَذَلِكَ أي: وجد قوما كذلك القبيل الذين كانوا عند مغرب الشمس، وأن حكمهم حكم أولئك، {وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} [الكهف: 91] علمنا ما كان عنده من الجيوش والعدة.
{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف: 92] ثالثا مما يبلغه قطرا من أقطار الأرض.
وهو قوله: حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السّدينِ وقرئ بفتح السين، قال ابن الأعرابي: كل ما قبلك فسد ما وراءه فهو سد وسد، نحو الضعف والضعف، والفقر والفقر.
قال ابن عباس: وهما جبلان، سد ذو القرنين ما بينهما حاجزا بين يأجوج ومأجوج ومن سواهم.
{وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا} [الكهف: 93] يعني: أمام السدين، {قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا} [الكهف: 93] لا يعلمونه، لأنهم لا يعرفون غير لغتهم، وقرئ بضم الياء، والمعنى: لا يكادون يفقهون أحدا قولا، فحذف أحد المفعولين، قال ابن عباس: لا يفهمون كلام أحد، ولا يفهم الناس كلامهم.
{قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ} [الكهف: 94] أكثر أهل العلم على أن هذين اسمان أعجميان، مثل: طالوت وجالوت، وهاروت وماروت، لا ينصرفان للتعريف والعجمة، والقراءة فِيهمَا بترك الهمز وقرأ عاصم بالهمز، قال الليث: الهمز لغة رديئة.
وقال ابن الأنباري: وجه همزه، وإن لم يعرف له أصل، أن العرب قد همزت حروفا لا يعرف للهمز فِيها أصل، مثل: لبأت ورثأت، واسنشأت الريح، وإذا كان هذا معروفا فِي أبنية العرب، كان مقبولا فِي الألفاظ التي أصلها للعجم.
576 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ، نا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أنا جَعْفَرُ بْنُ الْمُسْتَفَاضِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُصَفَّى، نا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، قَالَ: يَأْجُوجُ أُمَّةٌ، وَمَأْجُوجُ أُمَّةٌ، كُلُّ أُمَّةٍ أَرْبَعُ مِائَةِ أُمَّةٍ، لا يَمُوتُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ، حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى أَلْفِ ذَكَرٍ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ صُلْبِهِ، كُلٌّ قَدْ حَمَلَ السِّلاحَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، قَالَ: هُمْ ثَلاثُ أَصْنَافٍ، صِنْفٌ مِنْهُمْ أَمْثَالُ الأَرُزِّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الأَرُزُّ؟ قَالَ: شَجَرٌ بِالشَّامِ، طُولُ الشَّجَرَةِ عِشْرُونَ وَمِائَةِ ذِرَاعٍ فِي السَّمَاءِ، وَصِنْفٌ مِنْهُمْ طُولُهُ وَعَرْضُهُ سَوَاءٌ؛ عِشْرُونَ وَمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَهَؤُلاءِ الَّذِينَ لا يَقُومُ لَهُمْ جَبَلٌ، وَلا حَدِيدٌ، وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يَفْتَرِشُ أَحَدُهُمْ أُذُنَهُ وَيَلْتَحِفُ بِالأُخْرَى، وَلا يَمُرُّونَ بِفِيلٍ وَلا وَحْشٍ وَلا جَمَلٍ وَلا خِنْزِيرٍ إِلا أَكَلُوهُ، وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ أَكَلُوهُ، مُقَدَّمِتَهُمْ بِالشَّامِ، وَسَاقَتُهُمْ بِخُرَاسَانَ، يَشْرَبُونَ أَنْهَارَ الْمَشْرِقِ، وَبُحَيرة طَبَرِيَّةَ
وروي عن علي رضي الله عنه، أنه قال: منهم من طوله شبر، ومنهم من طوله مفرط فِي الطول، ولهم مخالب فِي الأظفار من أيدينا، وأنياب كأنياب السباع، ولهم هلب من الشعر فِي أجسادهم، يواريهم من الحر والبرد.(3/166)
وقال وهب: هم من ولد يافث بن نوح أبو الترك.
وقال السدي: الترك سرية من يأجوج ومأجوج، خرجت تغير، فجاء ذو القرنين، فضرب السد فبقيت خارجه.
وقال قتادة: إن ذو القرنين بنى السد على إحدى وعشرين قبيلة، وبقيت منهم قبيلة واحدة دون السد، فهم الترك.
وقال كعب: هم نادرة فِي ولد آدم، وذلك أن آدم احتلم ذات يوم وامتزجت نطفته بالتراب، فخلق الله تعالى من ذلك الماء يأجوج ومأجوج، فهم متصلون بنا من جهة الأب دون الأم.
وقال ابن عباس رضي الله عنه فِي رواية عطاء: هم عشرة أجزاء، وولد آدم كلهم جزء.
قوله: {مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} [الكهف: 94] قال قتادة: هما حيان حياة سوء، كانا أهل بغي وظلم على من جاورهما.
وقال الكلبي: كانوا يخرجون إلى أرض هؤلاء الذين شكوهم إلى ذي القرنين أيام الربيع، فلا يدعون فِيها شيئا أخضر إلا أكلوه.
{فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا} [الكهف: 94] وقرئ خراجا قال ابن عباس: يريد جعلا.
قال الليث: الخرج والخراج واحد، وهو شيء يخرجه القوم من مالهم بقدر معلوم.
والمعنى: هل نخرج إليك من أموالنا شيئا كالجعل لك؟ {عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا {94} قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} [الكهف: 94-95] قراءة العامة بنون واحدة مشددة، فأدغموا الأولى فِي الثانية لاجتماعهما كقوله: {لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 11] وقرأ ابن كثير بنونين من غير ادغام، لأنهما من كلمتين، والنون الثانية غير لازمة، لأنك تقول: مكنتك، والمعنى أن ذا القرنين قال: ما مكني الله فِيهِ من الاتساع فِي الدنيا، خير من خرجكم الذي تبذلونه لي، قال ابن عباس: يريد ما أعطاني وملكني أفضل من عطيتكم.
وقوله: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} [الكهف: 95] قال: يريد بقوة الأبدان.
قال الزجاج: بعمل تعملونه معي.
{أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} [الكهف: 95] سدا وحاجزا، والردم سد الباب والثلمة.
{آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} [الكهف: 96] قال ابن عباس: احملوها إليّ.
وقال الفراء: معناه إيتوني بها، فلما ألقيت الياء زيدت ألف.
{زُبَرَ الْحَدِيدِ} [الكهف: 96] قطعة واحدتها زبرة، قال ابن عباس: وهي قطع على قدر الحجارة التي يبنى بها.
ومعنى الآية أنه يأمرهم أن ينقلوا إليه زبر الحديد ليعمل بها الردم فِي وجوه يأجوج ومأجوج، فأتوه بها، فبناه، {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} [الكهف: 96] سوى بينهما بأن وضع بعضها على بعض، والصدفان جانبا الجبل، قال الأزهري: يقال لجانبي الجبل صدفان إذا تحاذيا لتصادفهما، أي تلاقيهما.
وقرئ الصدفين بفتح الصاد والدال، والصُدْفين بضم الصاد وسكون الدال، وكلها لغات فِي هذه الكلمة(3/167)
فاشية، وقوله: {قَالَ انْفُخُوا} [الكهف: 96] قال ابن عباس: على زبر الحديد بالكير.
{حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا} [الكهف: 96] حتى إذا صارت النار، والحديد إذا حمي بالفحم والمنافخ، صار كالنار، {قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96] قال المفسرون: أذاب النحاس، ثم أفرغه على زبر الحديد، فاختلط، ولصق بعضه ببعض، حتى صار جبلا صلدا من حديد والنحاس.
قال قتادة: هو كالبرد الحبير: طريقة سوداء، وطريقة حمراء.
والقطر النحاس الذائب، والإفراغ الصب، ومنه قوله تعالى: {أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} [البقرة: 250] .
قوله: {فَمَا اسْطَاعُوا} [الكهف: 97] أصله استطاعوا، فلما اجتمع المتقاربان، وهما التاء والطاء، أحبوا التخفيف بالحذف، قال ابن السكيت: يقال: ما استطيع، وما أسطيع، وما استتيع، وما استيع أربع لغات.
وقرأ حمزة فما اسطاعوا مشددة الطاء، أدغم تاء الافتعال فِي الطاء، وقوله: {أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف: 97] أي: يصعدوه ويعلوه، يقال: ظهرت السطح إذا صرت فوقه.
{وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف: 97] يقال: نقبت الحائط إذا خرقت فِيهِ خرقا يخلص إلى ما وراءه.
قال الزجاج: ما قدروا أن يعلوا عليه لارتفاعه وانملاسه، وما استطاعوا أن ينقبوه من أسفله، لشدته وصلابته.
577 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَرْوَزِيُّ، فِي كِتَابِهِ، أنا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَدَّادِيُّ، أنا أَبُو زَيْدٍ الْخَالِدِيُّ، أنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ يَحْفِرُونَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ، حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ؛ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمْ: ارْجِعُوا، فَسَتَحْفِرُونَهُ غَدًا، فَيُعِيدُهُ اللَّهُ، تَعَالَى، كَمَا كَانَ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ مُدَّتُهُمْ وَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَهُمْ عَلَى النَّاسِ، حَفَرُوا حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ؛ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمْ: ارْجِعُوا، فَسَتَحْفِرُونَهُ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَاسْتَثْنَى، فَيَعُودُونَ إِلَيْهِ وَهُوَ كَهَيْئَتِهِ، حِينَ تَرَكُوهُ بِالأَمْسِ، فَيَحْفِرُونَهُ فَيَخْرُجُونَ عَلَى النَّاسِ، فَيُنَشِّفُونَ الْمِيَاهَ، وَتَتَحَصَّنُ النَّاسَ فِي حُصُونِهِمْ مِنْهُمْ فَيَرْمُونَ سِهَامَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ، فَتَرْجِعُ وَفِيهَا كَهَيْئَةِ الدِّمَاءِ، فَيَقُولُونَ: قَدْ قَهَرْنَا أَهْلَ الأَرْضِ وَعَلَوْنَا أَهْلَ السَّمَاءِ، فَيَبْعَثُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَغَفًا فِي أَقْفَائِهِمْ فَيَهْلِكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ دَوَابَّ الأَرْضِ لَتُسَمَّنُ، وَتَشْكُرُ مِنْ لُحُومِهِمْ شُكْرًا، وَلَمَّا فَرَغَ ذُو الْقَرْنَيْنِ مِنْ بِنَائِهِ {قَالَ هَذَا} أَيْ: هَذَا التَّمْكِينُ الَّذِي أَدْرَكْتُ بِهِ السَّدَّ
{رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} [الكهف: 98] قال ابن عباس:(3/168)
معونة من ربي، حيث ألهمني وقواني، {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي} [الكهف: 98] يعني: القيامة، وقال الكلبي: أجل ربي أن يخرجوا منه.
جعله دكا أي: دكه دكا، ومن قرأه دكاء كان التقدير: جعله مثل دكاء، وهي الناقة التي لا سنام لها، وتقدم الكلام فِي هذا فِي { [الأعراف،] وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [سورة الكهف: 98] يعني بالثواب والعقاب فِي القيامة، وقال الكلبي: وكان أجل ربي بخروجهم حقا كائنا.
{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا {99} وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا {100} الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا {101} أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلا {102} } [الكهف: 99-102] {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} [الكهف: 99] يقول: تركنا يأجوج ومأجوج يوم انقضاء أمر السد يموجون فِي الدنيا مختلطين لكثرتهم.
يقال: ماج الناس إذا دخل بعضهم فِي بعض حيارى كموج الماء.
ثم ذكر نفخ الصور، فقال: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [الكهف: 99] لأن خروج يأجوج ومأجوج من علامات قرب الساعة، {فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} [الكهف: 99] حشرنا الخلق كلهم.
{وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} [الكهف: 100] أظهرنا لهم جهنم، حتى شاهدوها.
{الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي} [الكهف: 101] الغطاء ما غطى الشيء وستره، وهذا كقوله: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] وصف الله الكفار بأنهم عمي عن آيات الله تعالى، وأدلة توحيده، لما سبق لهم من الشقاوة.
وقوله: {عَنْ ذِكْرِي} [الكهف: 101] قال ابن عباس: عما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من البينات والهدى.
{وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف: 101] لعداوتهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كانوا لا يقدرون أن يسمعوا ما يتلوه عليهم، كما تقول للكاره لقولك: ما تقدر أن تسمع كلامي.
قوله: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} [الكهف: 102] يقول: أفظنوا أنهم يتخذونهم أربابا من دوني؟ وعني بالعباد المسيح والملائكة، وقال ابن عباس: يعني الشياطين، تولوهم، وأطاعوهم من دون الله تعالى.
وقال مقاتل: يعني الأصنام، سماها عبادا، كما قال: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف: 194] .
وجواب هذا الاستفهام محذوف، قال ابن عباس: يريد أني لا أغضب لنفسي.
والمعنى: أفحسبوا أن تتخذوهم أولياء فلا أغضب لنفسي ولا أعاقبهم؟ ويدل على هذا المحذوف قوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلا} [الكهف: 102] قال الزجاج: يعني منزلا.
وهو معنى قول ابن عباس: يرد هي مثواهم ومصيرهم.
وقال غيره: النزل ما يهيأ للضيف إذا نزل.
والمعنى أن جهنم معدة لهم عندنا، كما يهيأ النزل للضيف.(3/169)
{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا {103} الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا {104} أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا {105} ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا {106} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا {107} خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا {108} } [الكهف: 103-108] قوله: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا} [الكهف: 103] يعني بالقوم الذين هم أخسر الخلق فيما عملوا، وهم كفار أهل الكتاب: اليهود والنصارى.
{الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ} [الكهف: 104] بطل عملهم واجتهادهم فِي الدنيا، {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104] يظنون أنهم بفعلهم محسنون.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} [الكهف: 105] جحدوا دلائل توحيده وقدرته، {وَلِقَائِهِ} [الكهف: 105] وكفروا بالبعث والثواب والعقاب، وذلك أنهم بكفرهم بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبالقرآن، صاروا كافرين بهذه الأشياء، وقوله: {فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [الكهف: 105] أي: بطل اجتهادهم، {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105] قال ابن الأعرابي فِي هذه الآية: العرب تقول: ما لفلان وزن عندنا، أي: قدر لخسته، ويوصف الجاهل بأنه لا وزن له، لخفته، وسرعة طيشه، وقلة تثبته.
والمعنى على هذا أنهم لا يعتد بهم ولا يكون لهم عند الله تعالى قدر ولا منزلة.
578 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَد بْنِ جَعْفَرٍ، أنا جَدِّي، أنا أَبُو عَمْرٍو أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَرَشِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، أنا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ، نا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ كِلاهُمَا عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ
579 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ التَّمِيمِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّانَ، نا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ الْفَارِسِيُّ، نا أَبُو زُرْعَةَ، نا أَبُو الْوَلِيدِ، أنا ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ صَالِحٍ، مَوْلَى التَّوْءَمَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الطَّوِيلِ الأَكُولِ الشَّرُوبِ فَلا يَزِنُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ اقْرَأُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105]
".
وقوله: ذَلِكَ أي: الأمر ذلك الذي ذكرت من حبوط أعمالهم، وخسة قدرهم، ثم ابتدأ فقال: {جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا} [الكهف: 106] أي: بكفرهم واتخاذهم، آيَاتِي يعني القرآن، {هُزُوًا} [الكهف: 106] مهزوا به.
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا} [الكهف: 107] أي منزلا، ويجوز أن يراد بالنزل ما يقام للنازل، ويقدر المضاف على معنى كانت لهم ثمار جنات الفردوس، أو نعيمهما نزلا، ومعنى كانت لهم قال ابن الأنباري: أي فِي علم الله تعالى قبل أن يخلقوا.
والفردوس فِي اللغة جنة ذات(3/170)
كروم، قال المبرد: الفردوس فيما سمعت من كلام العرب الشجر الملتف، والأغلب عليه العنب.
وقال مجاهد: هو البستان بالرومية.
واختاره الزجاج، فقال: هو بالرومية منقول إلى لفظ العربية.
580 - أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الزَّاهِدُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، نا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «الْجَنَّةُ مِائَةُ دَرَجَةٍ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، الْفِرْدَوْسُ أَعْلاهَا دَرَجَةً، مِنْهَا تُفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ الأَرْبَعَةُ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ، تَعَالَى، فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ»
581 - وَأَخْبَرَنَا عَمْرٌو، أنا عَبْدُ اللَّهِ، أنا مُحَمَّدٌ، أنا سَهْلُ بْنُ بَكَّارٍ، نا أَبُو قُدَامَةَ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ أَرْبَعٌ؛ اثْنَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، حُلِيُّهُمَا وَآنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَثِنْتَانِ مِنْ فِضَّةٍ، حُلِيُّهُمَا وَآنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَلَيْسَ بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةٍ عَدْنٍ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، عَنْ إِسْحَاقَ الْحَنْظَلِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ
قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا} [الكهف: 108] والحول اسم بمعنى التحويل، يقوم مقام المصدر، يقال: حولوا عنه تحويلا وحولا.
قال ذلك الليث، وابن الأعرابي، وابن قتيبة، والأزهري.
وقال أبو عبيدة: حولا تحولا.
وهو قول الفراء، وقال ابن عباس: لا يريدون أن يتحولوا عنها، كما ينتقل الرجل من دار إذا لم توافقه إلى دار أخرى، والجنة ليست هكذا.
قوله: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ} [الكهف: 109] الآية.
روى عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما نزل قوله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} [الإسراء: 85] قالت اليهود: أوتينا علما كثيرا، وأتينا التوراة، وفيها علم كل شيء.
فأنزل الله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109] .
{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} [الكهف: 109] قال ابن الأنباري: سمي المداد مدادا لإمداده الكاتب، وأصله من الزيادة ومجيء الشيء بعد الشيء، ويقال للزيت الذي يوقد به السراج مداد، وقال مجاهد: لو كان البحر مدادا للقلم، والقلم يكتب، لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي.
وقال ابن عباس: يريد أن كلماته أعظم من أن يكون لها أمد.(3/171)
وكلام القديم سبحانه وتعالى صفة من صفات ذاته، فلا يجوز أن يكون لكلامه غاية ومنتهى، كما ليس له غياية وحد، وأوصاف ذاته غير محدودة أيضا، وهذا رد على اليهود حين ادعوا أنهم أوتوا العلم الكثير، وكأنه قيل لهم: أي شيء الذي أوتيتم فِي علم الله تعالى، وكلماته التي لا تنفذ لو كتبت بماء البحر.
{وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ} [الكهف: 109] بمثل البحر فِي كثرة مائه، مددا زيادة له، والمدد كل شيء زاد فِي شيء.
قوله: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110] قال ابن عباس: عَلَّمَ اللهُ تعالى رسولَه التواضع لئلا يزهى على خلقه، فأمره بأن يقر على نفسه بأنه آدمي كغيره إلا أنه أكرم بالوحي، وهو قوله: {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: 110] لا شريك له، وقوله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف: 110] قال مجاهد: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: إني أتصدق وأصل الرحم، ولا أصنع ذلك إلا لله، فيذكر ذلك مني، وأحمد عليه، فيسرني ذلك، وأعجب به.
فسكت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يقل شيئا، فأنزل الله تعالى فيه {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف: 110] يخاف البعث والمصير إلى الله تعالى، {فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا} [الكهف: 110] خالصا لا يرائي به، {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] قال سعيد بن جبير: لا يرائي.
قال عطاء، عن ابن عباس: قال الله تعالى: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ} [الكهف: 110] ولم يقل: ولا يشرك به، لأنه أراد العمل الذي يعمل لله ويحب أن يحمد عليه.
قال: ولذلك يستحب للرجل أن يدفع صدقته إلى غيره ليقسمها كي لا يعظمه من يصله بها.
وقال الحسن: هذا فيمن أشرك بعمله يريد الله به والناس.
582 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْحَارِثُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحَافِظُ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا زِيَادٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ شَهْرٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَشَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، قَالا: سَمِعْنَا رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " مَنْ صَلَّى صَلاةً يُرَائِي بِهَا فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ صَامَ صَوْمًا يُرَائِي بِهِ فَقَدْ أَشْرَكَ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}
583 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ، نا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ، نا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، نا رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنِ الْعَلاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " قَالَ اللَّهُ، تَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، فَمَنْ عَمِلَ عَمَلا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي، فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ، وَهُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ زُهَيْرٍ، عَنْ أَبِي ذَرِّ بْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ رَوْحٍ(3/172)
584 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَنِيعِيُّ، حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ الْبُرْسَانِيُّ، نا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ زِيَادِ بْنِ مِينَا، عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ أَبِي فَضَالَةَ الأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ؛ نَادَى مُنَادٍ: مَنْ كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمَلَهُ لِلَّهِ أَحَدًا فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَ عَمَلِهِ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ، تَعَالَى، أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ(3/173)
سورة مريم
مكية وآياتها ثمان وتسعون.
585 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ الْكُوفِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَرَأَ سُورَةَ مَرْيَمَ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ بِعَدَدِ مَنْ صَدَّقَ بِزَكَرِيَّا وَكَذَّبَ بِهِ وَيَحْيَى وَعِيسَى وَمِوسَى وَهَارُونَ وَإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَإِسْمَاعِيلَ؛ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَبِعَدِدِ مَنْ دَعَا لِلَّهِ وَلَدًا، وَبِعَدَدِ مَنْ لَمْ يَدْعُ لَهُ وَلَدًا
{كهيعص {1} ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا {2} إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا {3} قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا {4} وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي(3/174)
وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا {5} يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا {6} يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا {7} } [مريم: 1-7] بسم الله الرحمن الرحيم كهيعص
586 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِ مِائَةٍ، أنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ نُصَيْرٍ الْقُرَشِيُّ، مِنْ أَصْلِهِ الْعَتِيقِ سَنَةَ سِتِّينَ وَثَلاثِ مِائَةٍ، نا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ يَحْيَى، أنا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا زُهَيْرٌ، قَالَ: سُئِلَ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ كهعيص فَحَدَّثَنَا، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حَدَّثَهُمْ أَنَّ: كَافٌ مِنْ كَرِيمٍ، وَهَاءٌ مِنْ هَادٍ، وَيَاءٌ مِنْ حَكِيمٍ، وَعَيْنٌ مِنْ عَلِيمٍ، وَصَادٌ مِنْ صَادِقٍ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ وَالْكَلْبِيِّ: مَعْنَاهُ: كَافٌّ لِخَلْقِهِ، هَادٍ لِعِبَادِهِ، يَدُهُ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، عَالِمٌ بِبَرِيَّتِهِ، صَادِقٌ فِي وَعْدِهِ، وَعَلَى هَذَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ يَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ مِن صِفَاتِ اللَّهِ
وقرئ هايا بالتفخيم والإمالة، وإمالة هذه الحروف لا تمتنع، لأنها ليست بحروف معنى وإنما هي أسماء ما يتهجى به، فلما كانت أسماء غير حروف جاز فِيهِ الإمالة، ويدلك على أنها أسماء أنك إذا أخبرت عنها أعربتها، كما أن أسماء العدد إذا أخبرت عنها أعربتها، فكما أن أسماء العدد قبل أن تعربها أسماء كذلك هذه الحروف.
قوله: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ} [مريم: 2] قال الزجاج: ذكر مرتفع بمضمر.
المعنى: هذا الذي نتلوه عليك ذكر رحمت ربك، {عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} [مريم: 2] يعني: إجابته إياه حين دعاه وسأله الولد.
{إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: 3] خافيا يخفي ذلك في نفسه لا يريد رياء، وهذا يدل على أن المستحب فِي الدعاء الإخفاء.
{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مريم: 4] وهن يهن وهنا ووهنا إذا ضعف، أراد أن عظامه فترت وذهبت قوته لكبره، وقال قتادة: شكا ذهاب أضراسه.
{وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4] انتشر فِيهِ الشيب كما ينتشر شعاع النار فِي الحطب، وهذا من أحسن الاستعارة، إذ شبه بياض الشيب وانتشاره فِي الرأس بشعاع النار فِي الحطب وانتشارها.
قال الزجاج: يقال للشيب إذا كثر جدا: قد اشتعل رأسه فلان، وأنشد لبيد:
إن ترى رأس أمس واضحا ... سلط الشيب عليه فاشتعل
{وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ} [مريم: 4] أي: بدعائي إياك، {رَبِّ شَقِيًّا} [مريم: 4] قال ابن عباس: لم تكن تخيب دعائي، يقال: شقي فلان بكذا إذا تعب بسببه، ولم يحصل مطلوبه، يقول: لم أكن أتعب بالدعاء ثم أخيب.
قوله: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} [مريم: 5] يعني: الذين يلونه فِي النسب، وهم العصبة وبنو العم وورثته،(3/175)
والمعنى أنه خاف تضييع بني عمه الدين، ونبذهم إياه، فسأل ربه وليا يرث نبوته وعلمه، لئلا يضيع الدين، وحمله على هذه المسألة ما شاهد من بني إسرائيل من تبديل الدين، وقتل الأنبياء، وهذا معنى قول عطاء، عن ابن عباس: يريد بالموالي بني إسرائيل، وكانوا يبدلون الدين، ويقتلون الأنبياء.
{وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} [مريم: 5] عقيما لا تلد، وهذا إخبار عن خوفه فيما مضى من الزمان حين كانت امرأته لا تلد، وكان هو آيسا من الولد، {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} [مريم: 5] ابنا صالحا تتولاه.
{يَرِثُنِي وَيَرِثُ} [مريم: 6] بالرفع من صفة الولي كأنه سأل وليا وارثا علمه ونبوته، والجزم على جواب الأمر، فصح الشرط بأن يقول: إن وهبت ورث.
قال ابن عباس: يريد النبوة، فيكون نبيا كما كانت آباؤه أنبياء.
وقال الكلبي: يريد مكاني وحبورتي.
وقال قتادة: يرث نبوتي وعلمي.
وقال ابن قتيبة: لم يرد يرثني مالي.
وأيّ مال كان لزكريا حتى يسأل الله أن يهب له ولدا يرثه، لقد جل هذا المال إذا وعظم قدره، ونافس عليه منافسة أبناء الدنيا، وإنما كان زكريا نجارا، وكان حبرا، وكلا هذين الأمرين يدل على أنه لا مال له.
587 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْخَشَّابُ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا عُمَرُ بْنُ مُوسَى بْنِ مُجَاشِعٍ، نا هُدْبَةُ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «كَانَ زَكَرِيَّا نَجَّارًا» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ هُدْبَةَ
{وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: 6] النبوة، فقال مجاهد: كان زكريا من ذرية يعقوب.
{وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 6] قال ابن عباس: يكون عندي مرضيا فِي الصلاح والعقاب والنبوة.
فاستجاب الله دعاءه، فقال: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} [مريم: 7] تقدم تفسيره فِي { [آل عمران.
] لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} [سورة مريم: 7] أكثر المفسرين على أن معناه لم يسم أحدا قبله يحيى، ويثبت فِي هذا له فضيلتان: أحدهما أن الله تولى تسميته، ولم يكلها إلى الأبوين، والثانية أنه سماه باسم لم يسبق إليه، يدل ذلك الاسم على فضله.
قال الزجاج: سمي يحيى لأنه حيي بالعلم والحكمة التي أوتيها.
وقال ابن عباس فِي رواية عطاء: يريد لم يكن له فِي سابق علمي نظير ولا شبيه.
وقال فِي رواية الوالبي: يقول: لم تلد العواقر مثله ولدا.
وهو قول مجاهد، قال: يعني لم يجعل له مثلا فِي الفضل.(3/176)
والمراد بالسمي: المثل والنظير، كقوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] أي: مثلا وعدلا، ولم يكن ليحيى مثل من البشر من حيث إنه لم يعص، ولم يهم بمعصية قط.
588 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ أَبِي نَصْرٍ الْجُذَامِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدُوَيْهِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ سِنَانٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، نا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْعَاصِي، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: كُلُّ بَنِي آدَمَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَهُ ذَنَبٌ إِلا مَا كَانَ مِنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، قَالَ: ثُمَّ وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَدَهُ فَأَخَذَ عُودًا صَغِيرًا، ثُمَّ قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا لِلرِّجَالِ إِلا مِثْلُ هَذَا الْعُودِ؛ لِذَلِكَ سَمَّاهُ اللَّهُ سَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ
{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا {8} قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا {9} } [مريم: 8-9] قوله: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ} [مريم: 8] مفسر فِي { [آل عمران إلى قوله:] وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} [سورة مريم: 8] يقال: عتا الشيخ يعتو عتيا إذا انتهى سنه وكبر، وشيخ عات وعاث إذا صار إلى حال اليبس والجفاف.
قال قتادة، ومجاهد: هو نحول العظم.
وسأل نافع بن الأزرق بن عباس عن قوله: عتيا فقال: المعنى اليبوس من الكبر.
وقرئ عتيا بالكسر، وكذلك صليا وبكيا وجثيا يجوز فِيها الكسر أيضا، وذكرنا هذا فِي قوله: من حليهم، وحليهم.
قال الله، كَذَلِكَ أي: الأمر كما قيل لك، هبة الولد على الكبر، {قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم: 9] قال ابن عباس: يريد أن أرد عليك قوتك حتى تقوى على الجماع، وأفتق رحم امرأتك بالولد.
{وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ} [مريم: 9] من قبل يحيى، وقرئ خلقناك لكثرة ما جاء من لفظ الخلق مضافا إلى لفظ الجمع، كقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ} [الحجر: 26] فِي(3/177)
مواضع، ولقد خلقناكم، وقوله: {وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9] يريد أنه كان عدما فأوجده بقدرته، قال الزجاج: أي يخلق الولد لك كخلقك.
{قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا {10} فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا {11} } [مريم: 10-11] {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} [مريم: 10] قال قتادة: سأل نبي الله آية على حمل امرأته بعد ما شافهته الملائكة بالبشارة.
قال ابن الأنباري: ووجه ذلك أن نفسه تاقت إلى سرعة الأمر.
فسأل الله آية يستدل على قرب ما مَنَّ به عليه، قال الله، {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ} [مريم: 10] أي: تمنع الكلام، فلا تقدر عليه ثلاث ليال، سويا صحيحا من غير بأس ولا خرس، قال مجاهد: أي لا يمنعك من الكلام مرض.
وسويا: منصوب على الحال، وقد مضى مثل هذا فِي { [آل عمران.
] فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ} [سورة مريم: 11] قال ابن زيد: من مصلاه.
فأوحى إليهم قال ابن عبا وقتادة: أومأ إليهم وأشار.
وقال مجاهد: كتب لهم فِي الأرض، أن سبحوا صلوا لله، {بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 11] والمعنى أنه كان يخرج على قومه بكرة وعشيا، فيأمرهم بالصلاة، فلما كان وقت حمل امرأته، ومنع الكلام خرج عليهم، فأمرهم بالصلاة إشارة.
{يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا {12} وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا {13} وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا {14} وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا {15} } [مريم: 12-15] قوله: يا يحيى قال الزجاج: المعنى فوهبنا له، وقلنا له يا يحيى.
{خُذِ الْكِتَابَ} [مريم: 12] يريد التوراة، بقوة قال مجاهد: بجد {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12] قال ابن عباس: آتيناه النبوة فِي صباه، وهو ابن ثلاث سنين.
وقال مجاهد: الحكم الفهم.
وهو أنه أعطي فهم الكتاب حتى حصل له عظيم الفائدة.
{وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا} [مريم: 13] الحنان: العطف والرحمة.
قال الوالبي، عن ابن عباس: يقول: رحمة من عندنا، وهو قول جماعة المفسرين.
وزكاة قال ابن عباس: يعني بالزكاة طاعة الله والإخلاص.
وقال قتادة: هي العمل الصالح.
وهو قول الضحاك، وابن جريج.
معنى الآية: وآتيناه رحمة من عندنا، وتحننا على العباد ليدعوهم إلى طاعة ربهم، وعملا صالحا فِي الإخلاص، {وَكَانَ تَقِيًّا} [مريم: 13] قال ابن عباس: جعلته يتقيني ولا يعدل بي غيري.
قال المفسرون: وكان من تقواه أنه لم يعمل خطيئة ولا هم بها.
589 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حِبَالٍ، نا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، نا أَبُو عَاصِمٍ الْعَبَّادَانِيُّ، عَنْ(3/178)
عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يَنْبَغِي لِخَلْقٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمِنْ أَيْنَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ سَيِّئَةً وَلَمْ يَهُمَّ بِهَا "
قوله: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ} [مريم: 14] البر يعني البار، كالصب والطب، فعل بمعنى فاعل، والمعنى لطيفا بهما محسنا إليهما، {وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا} [مريم: 14] قال ابن عباس: هو الذي يقتل ويضرب على الغضب، والعصي العاصي.
قال: يريد لا يرتكب لي معصية.
{وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ} [مريم: 15] الآية، قال عطاء: يريد سلام عليه مني فِي الأيام.
وقال الكلبي: سلام له منا.
وقال سفيان بن عيينة: أوحش ما يكون الخلق فِي ثلاث مواطن: يوم ولد فيرى نفسه خارجا عما كان فِيهِ، ويوم يموت فيرى أحكاما ليس له بها عهد، ويوم يبعث فيرى نفسه فِي محشر لم يره.
فخص الله يحيى بن زكريا بالكرامة والسلام فِي المواطن الثلاثة.
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا {16} فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا {17} قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنْ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا {18} قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا {19} قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي(3/179)
غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا {20} قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا {21} } [مريم: 16-21] قوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} [مريم: 16] قال: واذكر من أمر مريم لأهل مكة.
{إِذِ انْتَبَذَتْ} [مريم: 16] قال: الكلبي: تنحت من أهلها، ممن كانوا معها فِي الدار.
يقال: انتبذ فحل ناحية، أي تنحى ناحية.
وقال قتادة: انفردت.
قال ابن قتيبة: اعتزلت مكانا شرقيا.
أي: إلى مكان فِي جانب الشرق.
قال عطاء: إن مريم تمنت أن تجد خلوة، فتفلي رأسها، فخرجت فِي يوم شديد البرد، فجلست فِي مشرقة للشمس.
وقال عكرمة: أرادت الغسل من الحيض، فتحولت إلى مشرقة دارهم للغسل.
{فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ} [مريم: 17] من دون أهلها، لئلا يروها، حجابا سترا وحاجزا، {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [مريم: 17] بينما هي تغتسل من الحيض، إذ عرض لها جبريل فِي صورة شاب أجرد مضيء الوجه، وهو قوله: {فَتَمَثَّلَ لَهَا} [مريم: 17] أي: تصور لها، {بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17] معتدلا تاما.
قال ابن عباس: فلما رأت جبريل يقصد نحوها نادته من بعيد {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنْ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} [مريم: 18] أي: مخلصا مطيعا، فستنتهي بتعوذي بالله منك إن كنت تقيا.
قال جبريل: إنما أنا رسول ربك ليهب لك أي: أرسلني ليهب لك، ومن قرأ لأهب أسند الفعل إلى جبريل، والهبة من الله، ولكن أسند إلى الرسول، وقوله: غلاما زكيا قال ابن عباس: يريد نبيا.
وقال الضحاك: صالحا طاهرا من الذنوب.
قالت مريم: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [مريم: 20] ولم يقربني زوج، {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} [مريم: 20] فاجرة زانية، وإنما لم تقل بغية لأنه مصروف عن وجهه، وهو فعيل بمعنى فاعل، يقال: المرأة تبغي بغاء إذا فجرت.
قال ابن عباس: قالت مريم: ليس لي زوج، ولست بزانية، ولا يكون الولد إلا من الزوج أو من الزنا.
{قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم: 21] مفسر فِي هذه ال { [، قال ابن عباس: يريد يسير، أن أهب لك غلاما من غير محل.
] وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} [سورة مريم: 21] دلالة على قدرتنا، كون غلام ليس له أب، ورحمة منا لمن تبعه وصدقه، {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم: 21] وكان خلقه أمرا محكوما به، مفروغا عنه، سابقا فِي علم الله أن يقع.
{فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا {22} فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا {23} } [مريم: 22-23] قوله: فحملته قال ابن عباس: دنا منها جبريل، فأخذ ردئي قميصها بأصبعيه، فنفخ فِيهِ، فحملت مريم من ساعتها بعيسى عليه السلام، ووجدت حس الحمل.
فذلك قوله: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} [مريم: 22] أي: تنحت بالحمل إلى مكان بعيد، قال ابن عباس: أقصى الوادي، وهو بيت لحم، فرارا من قومها أن يعيروها بولادتها من غير زوج.
{فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} [مريم: 23] قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي: ألجأها.
يقال: جاءها وأجاءها بمعنى واحد، والمخاض وجع الولادة، واختلفوا فِي مدة حملها، فقال بعضهم: تسعة أشهر على ما جرت العادة به.
وقيل: ثمانية أشهر، ليكون أيضا آية، لأنه إذا جاء لثمانية أشهر لا يعيش.
وقيل: ثلاث ساعات.
وقيل: ساعة واحدة.
وقوله: {إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 23] قال ابن عباس: نظرت مريم إلى أكمة، فصعدت مسرعة، وإذا عليها جذع نخلة نخرة ليس لها سعف، والجذع ساق النخلة، {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} [مريم: 23] اليوم، وهذا الأمر، استحياء من الناس، وخوف الفضيحة، وكنت نِسْيًا منسيا النسي ما أغفل من شيء حقير ونسي، قال ابن عباس، وقتادة: شيئا متروكا لا يذكر.
وقال عكرمة، ومجاهد: حيضة ملقاة، والمنسي المتروك الذي لا يذكر.
تقول: يا ليتني كنت ذلك النسي الذي لا يذكر ولا يطلب.
وقرئ نسيا بالفتح، قال الفراء: هما لغتان، مثل الجسر والجسر، والوتر والوتر.
والنسي: ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها.
قال ابن عباس: فسمع جبريل كلامها، وعرف جزعها: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا {24} وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا(3/180)
جَنِيًّا {25} فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا {26} } [مريم: 24-26] {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا} [مريم: 24] وكان أسفل منها تحت الأكمة، ألا تحزني وهذا قول السدي، وقتادة، والضحاك: أن المنادي جبريل، ناداها من سفح الوادي.
ومن قرأ فناداها مَنْ تَحْتَهَا قال: هو عيسى، وهو قول مجاهد، والحسن بَيَّنَ اللهُ لها الآية فِي عيسى، فكلمها ليزول ما عندها من الوحشة والجزع، {أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ} [مريم: 24] أي: تحت قدميك، سريا وهو النهر، وكان نهرا قد انقطع الماء عنه، فأرسل الله الماء فِيهِ لمريم.
وأحيا ذلك الجذع حتى أورق، وهو قوله: {وَهُزِّي إِلَيْكِ} [مريم: 25] الهز التحريك، يقال: هزه فاهتز.
والمعنى: اجذبي إليك، {بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 25] والباء فِيهِ زائدة، قال الفراء: العرب تقول: هزه وهز به.
ومنه قوله: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ} [الحج: 15] معناه: فليمدد سببا، وقوله: تساقط عليك أي: تتساقط، فأدغمت التاء فِي السين، ومعناه: تسقط عليك النخلة، {رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم: 25] ، وقرا حمزة تساقط مخففا، حذف التاء التي أدغمها غيره، وروى حفص، عن عاصم {تُسَاقِطْ} [مريم: 25] على وزن تفاعل، وساقط بمعنى أسقط، والمساقطة والتساقط على ما ذكرنا بمعنى الإسقاط، والرطب: النضيج من البسر، والجني: بمعنى المجني، يقال: جنيت الثمرة واجتنيتها.
قوله: {فَكُلِي} [مريم: 26] أي: من الرطب، {وَاشْرَبِي} [مريم: 26] من السري، {وَقَرِّي عَيْنًا} [مريم: 26] بولدك عيسى، يقال: قررت به عينا أقر قرة، بعضهم يقول: قررت أقر، وجاء فِي التفسير: طيبي نفسا.
{فَإِمَّا تَرَيِنَّ} [مريم: 26] أصله إما ترى، ثم دخله نون التوكيد، فكسر الياء لالتقاء الساكنين، كما تقول للمرأة: أخشين زيدا.
والمعنى: فإما ترين، {مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} [مريم: 26] فسألك عن ولدك، {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26] قال ابن عباس: صمتا.
والمعنى: أوجبت على نفسي لله أن لا أتكلم.
قال قتادة: صامت من الكلام والطعام.
وقال السدي، وابن زيد: كان فِي بني إسرائيل من أراد أن يجتهد، صام عن الكلام كما يصوم عن الطعام، فلا يتكلم الصائم حتى يمسي.(3/181)
يدل على هذا قوله: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26] أي: إني صائمة فلا أكلم اليوم أحدا، وكان قد أذن لها أن تتكلم بهذا القدر، ثم تسكت ولا تتكلم بشيء آخر.
قال ابن مسعود: ووهب أمرت بالصمت لأنها لم تكن لها حجة عند الناس فِي شأن ولدها، فأمرت بالكف عن الكلام ليكفيها الكلام ولدها بما يبرئ ساحتها.
{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا {27} يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا {28} فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا {29} قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا {30} وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا {31} وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا {32} وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا {33} } [مريم: 27-33] قوله: {فَأَتَتْ بِهِ} [مريم: 27] يعني بعيسى، {قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} [مريم: 27] قال الكلبي: إنها ولدت حيث لم يشعر بها قومها، ومكثت أربعين يوما حتى طهرت من نفاسها، ثم حملت عيسى إلى قومها، فلما دخلت عليهم بكوا وخافوا، وكانوا أهل بيت صالحين، فقالوا: {يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} [مريم: 27] عظيما منكرا، لا يعرف منك ولا من أهل بيتك، والفري الأمر العظيم.
{يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم: 28] قال ابن عباس، وقتادة: هارون رجل صالح من بني إسرائيل، ينسب إليه من عرف بالصلاح، والمعنى: يا شبيهته فِي العفة، وعلى هذا يدل حديث المغيرة بن شعبة، وهو ما:
590 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمُوَيْهِ، أَخْبَرَنَا وَالِدِي، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحَمْنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ، نا أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، أنا أَبِي، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى أَهْلِ نَجْرَانَ، فَقَالُوا: أَلَسْتُمْ تَقْرَءُونَ: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا كَانَ بَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى، فَلَمْ أَدْرِ مَا أُجِيبُهُمْ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: أَلا أَخْبَرْتُهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنِ الأَشَجِّ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ هَارُونُ أَخَا مَرْيَمَ مِنْ أَبِيهَا، لَيْسَ مِنْ أُمِّهَا، وَكَانَ أَمْثَلَ رَجُلٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: عَنَوْا هَارُونَ أَخَا مُوسَى، وَنُسِبَتْ مَرْيَمُ إِلَى أَنَّهَا أُخْتُهُ؛ لأَنَّهَا مِنْ وَلَدِهِ كَمَا يُقَالُ لِلتَّمِيمِيِّ: يَا أَخَا تَمِيمٍ
وقوله: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ} [مريم: 28] قال ابن عباس: يريد زانيا.
{وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28] زانية، أي: لم يكونا زانيين، فمن أين لك هذا الولد.
{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم: 29] أي: إلى عيسى وهو يرضع بأن كلموه، فتعجبوا من ذلك، {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم: 29] فِي الحجر رضيعا، قال أبو عبيدة: كان ههنا حشو زائد.
والمعنى: كيف نكلم صبيا فِي المهد.
وبهذا قال كثير من أهل التفسير، وقال الزجاج: الأجوز أن(3/182)
يكون من فِي معنى الشرط والجزاء.
المعنى: من يكن فِي المهد صبيا، فكيف نكلمه.
واختاره ابن الأنباري، وقال: هذا كما تقول: كيف أعظ من كان لا يقبل موعظتي؟ معناه: من يكن لا يقبل، والماضي يكون بمعنى المستقبل فِي باب الجزاء.
قال السدي: فلما سمع عيسى كلامهم، لم يزد على أن ترك الرضاع، وأقبل عليهم بوجهه، و {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم: 30] قال ابن عباس: أقر بالعبودية على نفسه، وبربوبية الله أول ما تكلم.
{آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم: 30] أي: حكم لي بإيتاء الكتب، والنبوة فيما قضى، وهذا إخبار عما سبق له مما هو كائن.
قوله: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم: 31] روى أبو هريرة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قوله: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم: 31] قال: «نفاعا حيث ما توجهت» .
وقال مجاهد: معلما للخير.
وقال عطاء: لأني أدعو إلى الله، وإلى توحيده وعبادته.
{وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ} [مريم: 31] أمرني بإقامتها، والزكاة يعني: زكاة الأموال.
{وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} [مريم: 32] قال ابن عباس: لما قال: بوالدتي، ولم يقل: بوالدي، علموا أنه نبي من الله.
{وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا} [مريم: 32] متعظما يقتل ويضرب على الغضب، شقيا عاصيا لربه.
{وَالسَّلامُ عَلَيَّ} [مريم: 33] قال المفسرون: السلامة عليَّ من الله، {يَوْمَ وُلِدْتُ} [مريم: 33] حتى لم يضرني شيطان، والآية مفسرة فِي هذه ال { [، قالوا لما كلمهم عيسى بهذا، علموا براءة مريم، ثم سكت عيسى فلم يتكلم بعد ذلك حتى بلغ المدة التي يتكلم فِيها الصبيان.
] ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ {34} مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ {35} وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ {36} فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ {37} } [سورة مريم: 34-37] قوله: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} [مريم: 34] قال الزجاج: ذلك الذي قال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم: 30] عيسى ابن مريم، لا ما يقوله النصارى من أنه ابن الله، وأنه إله.
{قَوْلَ الْحَقِّ} [مريم: 34] أي: القول الحق، فأضيف القول إلى الحق، كما قيل حق اليقين، ووعد الصدق، والمعنى: هذا الكلام قول الحق، يعني: ما ذكر من صنعته وأنه ابن مريم قول الحق، من نصب قول الحق فهو نصب على المصدر، أي: قال قول الحق.
{الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} [مريم: 34] الذي من نقب عيسى، ويمترون يشكون ويختلفون، فيقول قائل: هو ابن الله.
ويقول آخر: هو الله.
ثم نفى عن نفسه اتخاذ الولد، فقال: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} [مريم: 35] قال ابن الأنباري: ما كان ينبغي لله أن يتخذ من ولد.
أي: ما يصلح له ولا يستقيم، فنابت اللام عن الفعل، وذلك أن الولد مجانس للوالد، وكذلك من اتخذ ولدا بما يتخذه من جنسه، والله تعالى ليس كمثله شيء فلا يكون له ولد، ولا يتخذ ولدا، قال الزجاج: من فِي قوله: من ولد مؤكدة تدل على نفس الواحد والجماعة، فلا يجوز أن يتخذ ولدا واحدا، ولا أكثر.
ثم نزه نفسه عن مقالتهم بقوله: سبحانه ثم بين السبب فِي كون عيسى من غير أب، فقال: {إِذَا قَضَى أَمْرًا} [مريم: 35] إذا أراد أن يحدث شيئا {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [مريم: 35] لا يتعذر عليه إيجاده على الوجه الذي أراده.
{وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ} [مريم: 36] هذا إخبار عن عيسى أنه قال ذلك المعنى: ولأن الله ربي وربكم، ويجوز أن يرجع إلى قوله: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ} [مريم: 31](3/183)
وبان الله ربي وربكم، ومن كسر جعله معطوفا على قوله: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم: 30] ، ويجوز أن يكون استنئافا من غير عطف، وقوله: {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [مريم: 36] أي: الذي أخبرتكم أن الله أمرني به هو الطريق المستقيم الذي يؤدي إلى الجنة.
قوله: {فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} [مريم: 37] يعني بينهم، ومن زائد.
قال المفسرون: كانوا أحزابا متفرقين بينهم فِي أمر عيسى، فقال بعضهم: هو الله.
وقال بعضهم: ابن الله.
وقال بعضهم: بالثلاثة.
فويل فشدة عذاب، {لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [مريم: 37] بالله، بقولهم فِي المسيح {مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [مريم: 37] من حضورهم ذلك اليوم للجزاء والحساب.
{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ {38} وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ {39} إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ {40} } [مريم: 38-40] {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مريم: 38] قال قتادة: ذلك والله يوم القيامة، سمعوا حين لم ينفعهم السمع، وأبصروا حين لم ينفعهم البصر.
وقال الحسن: لئن كانوا فِي الدنيا صما عميا عن الحق، فما أبصرهم وأسمعهم يوم القيامة.
{لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [مريم: 38] يعني: الكافرين والمشركين، ضلوا فِي الدنيا وعموا عن الحق، وآثروا الهوى على الهدى.
قوله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم: 39] خوف يا محمد كفار مكة يوم يتحسر المسيء، فلا أحسن العمل، والمحسن هلا ازداد من الإحسان، وقال أكثر المفسرين: يعني الحسرة حين يذبح الموت بين الفريقين.
فلو مات أحد فرحا لمات أهل الجنة، ولو مات أحد حزنا لمات أهل النار.
591 - أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ أَبُو سَهْلٍ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَشَّابُ شَيْخُ الصُّوفِيَّةِ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ فِي شَهْرِ شَعْبَانَ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِ مِائَةٍ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِبرِيُّ، أنا حَامِدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شُعَيْبٍ الْبَلْخِيُّ، نا عُثْمَانُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ؛ قِيلَ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، وَقِيلَ: يَا أَهْلَ النَّارِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيُجَاءُ بِالْمَوْتِ كَأَنَّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ، فَيُقَالُ لَهُمْ: تَعْرِفُونَ الْمَوْتَ، فَيَقُولُونَ: هَذَا هَذَا، وَكُلُّهُمْ قَدْ عَرَفَهُ، قَالَ: فَيَقْدَمُ فَيُذْبَحُ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، خُلُودٌ فَلا مَوْتَ، يَا أَهْلَ النَّارِ، خُلُودٌ فَلا مَوْتَ، قَالَ: وَذَلِكَ قَوْلُهُ، عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عُثْمَانَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ
وقوله: {إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ} [مريم: 39] قال مقاتل بن سليمان: قضي لهم العذاب فِي الآخرة.
وهم فِي الدنيا، {فِي غَفْلَةٍ} [مريم: 39] وقال ابن جريج، والسدي: إذ قضي الأمر إذ ذبح الموت، وهو(3/184)
فِي غفلة فِي الدنيا عما يصنع بالموت ذلك اليوم، {وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم: 39] بما يصنع بالموت فِي ذلك اليوم.
{إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ} [مريم: 40] نميت سكانها فنرثها، ومن عليها لأنا نميتهم ونهلكم، وهذا كقوله: {وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} [الحجر: 23] ، {وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم: 40] يردون بعد الموت.
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا {41} إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا {42} يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا {43} يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا {44} يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا {45} } [مريم: 41-45] قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ} [مريم: 41] اذكر لقومك قصته، {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا} [مريم: 41] كثير الصدق.
{نَبِيًّا {41} إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} [مريم: 41-42] وبخه على عبادته شيئا لا سمع له ولا بصر، {وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42] لا يدفع عنك ضرا.
{يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ} [مريم: 43] بالله والمعرفة، {مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم: 43] على ما جاءني من ربي لأرشدك إلى دين مستقيم.
{يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} [مريم: 44] لا تطعه فيما يزن لك من الكفر والمعاصي، {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم: 44] عاصيا.
{يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم: 45] أخشى أن يصيبك عذاب الله بطاعتك للشيطان، {فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم: 45] قرينا فِي النار.
فقال أبوه مجبها له: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا {46} قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا {47} وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا {48} } [مريم: 46-48] {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ} [مريم: 46] أتاركها أنت، وتارك عبادتها، {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ} [مريم: 46] عن شتمها وعيبها، لأرجمنك لارمينك بالقول القبيح، وأشتمنك، {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 46] تباعد عني مليا حينا وزمانا طويلا، والملي من الدهر حين طويل، يقال: أقام بموضع كذا مليا، أي: حينا وزمانا طويلا.
قال إبراهيم لأبيه: سلام عليك أي: سلمت مني لا أصيبك بمكروه، وذلك أنه لم يؤمر بقتاله على كفره، {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم: 47] وذلك أنه لما أعياه، أمره وعده أن يراجع الله فِي أبيه، فيسأله أن يرزقه التوحيد، ويغفر له، والمعنى: سأسأل لك التوبة تنال بها مغفرته، {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47] بارا لطيفا، يقال: حفى به حفوة إذا بره وألطفه.
وأعتزلكم أتنحى عنكم وأفارقكم، {وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [مريم: 48] وأعتزل ما تعبدون من دون(3/185)
الله يعني الأصنام، {وَأَدْعُو رَبِّي} [مريم: 48] أعبده، {عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم: 48] أرجو لا أشقى بعبادته، يعني: كما شقيتم أنتم بعبادة الأصنام لأنها لا تنفعهم ولا تجيب دعاءهم.
{فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا {49} وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا {50} } [مريم: 49-50] {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [مريم: 49] هجرهم فخرج إلى ناحية الشام، {وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [مريم: 49] آنسنا وحشته من فراقهم بأولاد كرام على الله، وكلا من هذين، {جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مريم: 49] .
{وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا} [مريم: 50] المال والولد، وهذا قول الأكثرين، قالوا: يعني ما بسط لهم فِي الدنيا من سعة الرزق.
وقال آخرون: يعني الكتاب والنبوة، {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ} [مريم: 50] ثناء حسنا فِي الناس، عليا مرتفعا سايرا فِي الناس، فكل أهل الأديان يتولون إبراهيم وذريته، ويثنون عليهم.
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا {51} وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا {52} وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا {53} } [مريم: 51-53] قوله: واذكر فِي الكتاب موسى إنه كان مُخْلِصًا أخلص العبادة والتوحيد لله، ومن قرأ {مُخْلَصًا} [مريم: 51] فهو الذي أخلصه الله من الدنس.
{وَنَادَيْنَاهُ} [مريم: 52] قال ابن عباس: يريد حين أقبل من مدين، ورأى النار فِي الشجرة، وهو قوله: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ} [القصص: 30] .
{مِنْ جَانِبِ الطُّورِ} [مريم: 52] من ناحية الجبل، وهو جبل بين مصر ومدين، واسمه زبير، {الأَيْمَنِ} [مريم: 52] يعني: الذي يلي يمين موسى، {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52] مناجيا، والنجي بمعنى المناجي، كالجليس والنديم، قال ابن عباس: قربه الله وكلمه.
ومعنى هذا التقريب أن أسمعه كلامه، قال الزجاج: قربه منه فِي المنزلة حتى سمع مناجاة الله.
{وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا} [مريم: 53] من نعمتنا، {أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم: 53] قال ابن عباس: يريد حين سألني، فقال: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي} [طه: 29] .
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا {54} وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا {55} } [مريم: 54-55] {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54] قال مجاهد: لم يعد شيئا إلا وَفَّىَ بِهِ.
وقال مقاتل:(3/186)
أقام ينتظر إنسانا لميعاد ثلاثة أيام.
وقال الكلبي: أقام حتى حال عليه الحول.
{وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا} [مريم: 54] إلى جرهم.
{وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ} [مريم: 55] قال ابن عباس: يريد قومه.
قال الزجاج: أهله جميع أمته.
قال مقاتل: نظيره {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ} [طه: 132] أي: قومك.
وقوله: بالصلاة والزكاة قال ابن عباس: يريد التي افترضها الله عليهم، وهي الحنيفية التي فرضت علينا.
{وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 55] قال: يريد قام لله بطاعته.
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا {56} وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا {57} } [مريم: 56-57] وقوله: فِي ذكر إدريس {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57] قال مجاهد: رفع إدريس ولم يمت كما رفع عيسى.
قال المفسرون: رفع إلى السماء الرابعة.
592 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْهَيْثَمِ أَبُو بَكْرٍ الأَنْبَارِيُّ، نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شَاكِرٍ، نا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ، نا سُفْيَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لَمَّا عُرِجَ بِي رَأَيْتُ إِدْرِيسَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ
{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} [مريم: 58] يعني الذين ذكرهم من الأنبياء فِي هذه ال { [، ثم بين مراتبهم فِي شرف النسب، فقال:] مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} [سورة مريم: 58] يعني: إدريس ونوحا، {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [مريم: 58] يعني: فِي السفينة، ويريد إبراهيم، لأنه من ولد سام بن نوح، {وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ} [مريم: 58] يريد إسماعيل وإسحاق ويعقوب، وقوله: وإسرائيل يعني: ومن ذريته، وهم: موسى، وهارون، وزكريا، ويحيى، وعيسى، فكان لإدريس ونوح شرف القرب من آدم، ولإبراهيم شرف القرب من نوح وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، ولما تباعدوا من آدم حصل لهم الشرف بإبراهيم، {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا} [مريم: 58] أي: هؤلاء كانوا ممن أرشدنا واصطفينا، {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] قال ابن عباس: سجدا لله متضرعين إليه.
قال الزجاج: قد بَيَّنَ اللهُ أن الأنبياء كانوا إذا أسمعوا آيات الله سجدوا وبكوا.
{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا {59} إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا {60} } [مريم: 59-60] قوله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} [مريم: 59] قال السدي: هم اليهود والنصارى.
وقال مجاهد، وقتادة: هم من هذه الأمة، عند(3/187)
قيام الساعة، وذهاب صالحي هذه الأمة، قوم يتنابزون بالزنا، ينزو بعضهم على بعض فِي الأزقة، زناة.
{أَضَاعُوا الصَّلاةَ} [مريم: 59] قال الأكثرون: أخروها عن وقتها.
قال إبراهيم: أضاعوا الوقت.
وقال عمر بن عبد العزيز: شربوا الخمر فأضاعوها.
وقال سعيد بن المسيب: هو أن لا يصلي الظهر حتى يأتي العصر، ولا العصر حتى تغرب الشمس.
{وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم: 59] المعاصي وشرب الخمر، والمعنى: آثروا شهوات أنفسهم على طاعة الله، {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59] قال ابن مسعود، ومجاهد، وعطاء، عن ابن عباس: وهو واد فِي جهنم.
593 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورِ بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرٍ الْقُرَشِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أنا عَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ، نا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} ، قَالَ: نَهْرٌ فِي جَهَنَّمَ، بَعِيدُ الْقَعْرِ، خَبِيثُ الطَّعْمِ، وَلَيْسَ مَعْنَى يَلْقَوْنَ يَرِدُونَ فَقَطْ؛ لأَنَّ اللِّقَاءَ مَعْنَاهُ الاجْتِمَاعُ وَالْمُلابَسَةُ مَعَ الرُّؤْيَةِ
{إِلا مَنْ تَابَ} [مريم: 60] من التقصير فِي الصلاة، {وَآمَنَ} [مريم: 60] من اليهود والنصارى، وعمل صالحا بطاعة الله، {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم: 60] قال ابن عباس: لا ينقصون ثوابا.
{جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا {61} لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلا سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا {62} تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا {63} } [مريم: 61-63] {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ} [مريم: 61] قال ابن عباس: يريد أنهم عابوا عما فِيها مما لا عين رأت.
والمعنى: أنهم لم يروها، فهي غيب لهم، {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} [مريم: 61] قال الفراء: لم يقل آتيا، لأن كل ما أتاك فقد أتيته.
ونحو هذا قال الزجاج.
وقال ابن جريج: وعده فِي هذه الآية موعود وهو الجنة، و {مَأْتِيًّا} [مريم: 61] يأتيه أولياؤه وأهل طاعته.
{لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} [مريم: 62] وهو الهذر وما يلغى من الكلام، إلا سلاما لكن يسمعون سلاما، وهو أن بعضهم يحيي بعضا بالسلام، ويرسل إليهم الرب الملائكة بالسلام، قال الزجاج: السلام اسم جامع للخير، لأنه متضمن السلام.
والمعنى أن أهل الجنة لا يسمعون ما يؤذيهم، وإنما يسمعون ما يسلمهم، {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] قال المفسرون: ليس فِي الجنة بكرة ولا عشية، ولكنهم يؤتون برزقهم على مقدار ما يعرفون من الغداء والعشاء.
قال قتادة: كانت العرب إذا أصاب أحدهم(3/188)
الغداء والعشاء أعجب به، فأخبر الله أن لهم فِي الجنة رزقهم بكرة وعشيا على قدر ذلك الوقت، وليس ثم دليل ولا نهار، إنما هو ضوء ونور.
وقال الحسن: كانت العرب لا تعرف شيئا من العيش أفضل من الغداء والعشاء، فذكر الله جنته، فقال: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] .
قوله: تلك الجنة يعني الجنة التي ذكرها في قوله: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} [مريم: 60] ، {الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا} [مريم: 63] .
وذلك أن الله تعالى يورث عباده المؤمنين من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار لو آمنوا، وجوز أن يكون معنى يورث تعظيم ذلك، وننزلهم إياها، وتكون كالميراث لهم من جهة أنها تمليك مستأنف، وقوله: {مَنْ كَانَ تَقِيًّا} [مريم: 63] أي: من اتقى معصية الله وعقابه بالطاعة والإيمان.
{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا {64} رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا {65} } [مريم: 64-65] قوله: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: 64]
594 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْقَفَّالُ، أنا إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الرَّسْعَنِيُّ، نا جَدِّي، نا الْمُغِيرَةُ، نا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا جِبْرِيلُ، مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورَنَا، فَنَزَلَ: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ} الآيَةَ كُلَّهَا، قَالَ: وَكَانَ هَذَا جَوَابًا لِمُحَمَّدٍ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: اسْتَبْطَأَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جِبْرِيلَ، ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ لَهُ: يَا جِبْرِيلُ، إِنِّي كُنْتُ لَمُشْتَاقًا إِلَيْكَ، قَالَ: وَأَنَا، وَاللَّهِ يَا مُحَمَّدُ، قَدْ كُنْتُ إِلَيْكَ مُشْتَاقًا، وَلَكِنِّي عَبْدٌ مَأْمُورٌ، إِذَا بُعِثْتُ نَزَلْتُ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ
وقوله: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} [مريم: 64] أي: من أمر الآخرة والثواب والعقاب، {وَمَا خَلْفَنَا} [مريم: 64] ما مضى من الدنيا، {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} [مريم: 64] ما يكون هذا الوقت إلى يوم القيامة، وهذا قول سعيد بن جبير، وقتادة، ومقاتل، واختيار الزجاج.
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] قال ابن عباس: تاركا لك منذ أبطأ عنك الوحي.
والنسي بمعنى الناسي، وهو التارك.
{رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [مريم: 65] مالكها، وما بينهما ومالك ما بينها، فاعبده وحده، لأن عبادته بالشرك كلا عبادة، {وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} [مريم: 65] أصبر على أمره ونهيه، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] قال ابن عباس فِي رواية الوالبي: هل تعلم للرب مثلا أو شبها؟ وهو قول مجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة.
وقال فِي رواية عكرمة: هل تعلم أحدا اسمه الرحمن غيره؟ وقال فِي رواية عطاء: هل تعلم أحدا يسمى الله غيره؟ وقال الزجاج: تأويله، والله أعلم، هل تعلم له سميا يستحق أن يقال له خالق وقادر وعالم بما كان وبما يكون؟ وعلى هذا لا سَمِيّ لله فِي جميع أسمائه، لأن غيره، وإن سُمِّيَ بشيء من أسمائه، فلله حقيقة ذلك الوصف.(3/189)
{وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا {66} أَوَلا يَذْكُرُ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا {67} فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا {68} ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا {69} ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا {70} } [مريم: 66-70] وقوله: {وَيَقُولُ الإِنْسَانُ} [مريم: 66] معناه: الكافر الذي لا يؤمن بالبعث، {أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} [مريم: 66] يقولُ ذلكَ استهزاء وتكذيبا منه بالبعث، قال ابن عباس فِي رواية عطاء: يعني الوليد بن المغيرة.
وقال فِي رواية الكلبي: نزلت فِي أبي بن خلف حين أخذ عظاما بالية يفتها بيده، ويقول: زعم محمد أن الله يبعثنا بعد ما نموت.
فقال الله مجيبا لذلك الكافر: {أَوَلا يَذْكُرُ الإِنْسَانُ} [مريم: 67] أولا يتذكر هذا الجاحد أول خلقه، فيستدل بالابتداء على الإعادة، وهو قوله: {أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم: 67] .
ثم أقسم أنه يحشرهم، فقال: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ} [مريم: 68] أي: لنجمعنهم فِي المعاد، والشياطين وذلك أن كل كافر يحشر مع شيطانه فِي سلسلة، {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} [مريم: 68] يعني: فِي جهنم، وذلك أن حول الشيء يجوز أن يكون داخله، يقال: جلس القوم حول البيت إذا جلسوا داخله مطيفين به، وقوله: جثيا قال مجاهد: مستوقرين على الركب، جمع جاث، من قولهم: جثا على ركبته يجثوا جثوا.
وقال ابن عباس: جثيا جماعات.
وهو قول مقاتل، وهو جمع جثوة وجثوة، وهي المجموع من التراث والحجارة.
{ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ} [مريم: 69] لنأخذن ولنخرجن، {مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} [مريم: 69] من كل فرقة وجماعة، {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم: 69] أي: الأعتى فالأعتى منهم، قال الأحوص: بدئ بالأكابر جرما.
وقال قتادة: لننزعن من كل أهل دين قادتهم ورؤسائهم فِي الشر.
والعتي ههنا مصدر كالعتو، وهو التمرد فِي العصيان، وأما رفع أيهم، فقال الزجاج: فِيهِ ثلاثة أقوال: أحدها أنه على الاستئناف ولننزعن يعمل فِي موضع {مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} [مريم: 69] .
هذا قول يونس، وقال الخليل: أنه على معنى الذين يقال لهم: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم: 69] .
وقال سيبويه: أيهم ههنا مبني على الضم، تقول: اضرب أيهم أفضل، تريد أيهم هو أفضل.
{ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا} [مريم: 70] يقال: صلى النار يصلاها صليا، أي: دخلها وقاسى حرها، يعني أن الأولى بها صليا الذين هم أشد على الرحمن عتيا على معنى الابتداء بهم دون أتباعهم، لأنهم كانوا رؤساء فِي الضلالة.
{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا {71} ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا {72} } [مريم: 71-72] قوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} [مريم: 71] وما منكم أحد إلا وارد جهنم، {كَانَ عَلَى رَبِّكَ} [مريم: 71] كان ورودكم جهنم، {حَتْمًا} [مريم: 71] الحتم: إيجاب القضاء والقطع بالأمر، يقال: كان ذلك حتما، أي موجبا، {مَقْضِيًّا} [مريم: 71] قضاه الله عليكم، وأكثر(3/190)
الناس على الحكم بظاهر الآية، وهو أن الخلق كلهم يردون النار، ثم ينجي الله المؤمنين.
595 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ حَمْدَانَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُعَيْمٍ الْحَافِظُ، أنا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَحْبُوبِيُّ، نا سَعِيدُ بْنُ مَسْعُودٍ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، أنا إِسْرَائِيلُ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيَّ، عَنْ قَوْلِهِ، تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} فَحَدَّثَنِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ حَدَّثَهُمْ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «يَرِدُ النَّاسَ النَّارَ، ثُمَّ يَصْدُرُونَ بِأَعْمَالِهِمْ، فَأَوَّلُهُمْ كَلَمْحِ الْبَرْقِ، ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثُمَّ كَحَضْرِ الْفَرَسِ، ثُمَّ كَالرَّاكِبِ، ثُمَّ كَشَدِّ الرَّجُلِ، ثُمَّ كَمَشْيِهِ» ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الآيَةِ: الْوُرُودُ الدُّخُولُ، وَأَخَذَ بِيَدِ مُجَاهِدٍ، وَقَالَ: أَمَّا أَنَا وَأَنْتَ فَسَنَدْخُلُهَا، وَخَاصَّةً نَافِعُ بْنُ الأَزْرَقِ، فَقَالَ: إِنَّ الشَّيْءَ رُبَّمَا وَرَدَ الشَّيْءَ، وَلَكِنْ لا يَدْخُلُهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَابْنَ الأَزْرَقِ، أَمَّا أَنَا وَأَنْتَ فَسَنَدْخُلُهَا، فَانْظُرْ هَلْ يُنْجِينَا اللَّهُ مِنْهَا أَمْ لا؟ وَكَانَ أَبُو مَيْسَرَةَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ؛ قَالَ: لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي، ثُمَّ يَبْكِي، قَالَ: أُخْبِرْنَا أَنَّا وَارِدُوهَا، وَلَمْ نُخْبَر أَنَّا صَادِرُونَ عَنْهَا، وَبَكَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَقَالَ: آيَةٌ نَزَلَتْ يُنَبِّئُنِي فِيهَا رَبِّي أَنِّي وَارِدٌ النَّارَ وَلَمْ يُنَبِّئْنِي أَنِّي صَادِرٌ عَنْهَا، فَذَلِكَ الَّذِي أَبْكَانِي، وَقَالَ الْحَسَنُ: كَيْفَ لا يَحْزَنُ الْمُؤْمِنُ؟ وَقَدْ حَدَّثَ عَنِ اللَّهِ أَنَّهُ وَارِدٌ جَهَنَّمَ، وَلَمْ يَأْتِهِ أَنَّهُ صَادِرٌ مِنْهَا، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ، تَعَالَى، قَادِرٌ بِلُطْفِهِ أَنْ يُسَلِّمَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهَا إِذَا وَرَدُوهَا حَتَّى يَعْبُرُوا بِهَا وَيَخْرُجُوا مِنْهَا سَالِمِينَ
596 - فَقَدْ أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أنا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، نا صَالِحُ بْنُ غَالِبِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي سُمَيَّةَ قَالَ: اخْتَلَفْنَا فِي الْوُرُودِ؛ فَقَالَ قَوْمٌ: لا يَدْخُلُهَا مُؤْمِنٌ، وَقَالَ آخَرُونَ: يَدْخُلُونَهَا جَمِيعًا، ثُمَّ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا، فَلَقِيتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَسَأَلْتُهُ، فَأَهْوَى بِأُصْبُعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ، وَقَالَ: صُمَّتَا إِنْ لَمْ أَكُنْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: الْوُرُودُ: الدُّخُولُ لا يَبْقَى بَرٌّ وَلا فَاجِرٌ إِلا دَخَلَهَا فَتَكُونُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بَرْدًا وَسَلامًا كَمَا كَانَتْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ حَتَّى إِنَّ لِلنَّارِ، أَوْ قَالَ: لِجَهَنَّمَ، ضَجِيجًا مِنْ بَرْدِهَا، ثُمَّ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَيَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا
أخبرنا أبو بكر الحارثي، أنا عبد الله بن محمد بن جعفر، نا عبد الرحمن بن محمد الرازي، نا سهل بن عثمان، عن ثور، عن خالد بن معدان، قال: إذا(3/191)
دخل أهل الجنة الجنة قالوا: ألم يعدنا ربنا أن نرد النار.
فيقال لهم: بلى، ولكن مررتهم بها وهي خامدة.
597 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ النَّصْرَابَاذِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَحَامِلِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبُوشَنْجِيُّ، نا سُلَيْمُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ عَمَّارٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي بَشِيرُ بْنُ طَلْحَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ الدُّرَيْكِ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " تَقُولُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: جُزْ يَا مُؤْمِنُ، فَقَدْ أَطْفَأَ نُورُكَ لَهَبِي "
وروى عثمان بن الأسود، عن مجاهد، قال: الحمى حظ كل مؤمن من النار.
ثم قرأ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} [مريم: 71] وعلى هذا من حم من المسلمين فقد وردها، لأن الحمى من فيح جهنم، وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الحمى كير من جهنم، فما أصاب المؤمن منها كان حظه من النار» .
ويدل على صحة هذا التأويل ما:
598 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورِ بْنُ طَاهِرٍ، أنا أَبُو سَعِيدٍ الْخَلالِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قُتَيْبَةَ، نا عُبَيْدَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، نا أَبُو أُسَامَةَ حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ، نا عَبْدُ الرَّحَمْنِ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَّهُ عَادَ مَرِيضًا مِنْ وَعَكٍ كَانَ بِهِ، فَقَالَ: أَبْشِرْ، إِنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، يَقُولُ: هِيَ نَارِي أُسَلِّطُهَا عَلَى عَبْدِي الْمُؤْمِنِ فِي الدُّنْيَا لِتَكُونَ حَظَّهُ مِنَ النَّارِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وُرُودُ الْمُسْلِمِينَ النَّارَ: الْعُبُورُ عَلَى الْجِسْرِ، وَوَرُودُ الْكَافِرِينَ: أَنْ يَدْخُلُوهَا
قال الله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم: 72] قال ابن عباس: اتقوا الشرك وصدقوا.
{وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ} [مريم: 72] قال: المشركين والكفار.
{فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 72] قالوا: على الركب.
وقالوا: جميعا كما فسرنا فيما قبل.
قوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا {73} وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا {74} } [مريم: 73-74] {(3/192)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ} [مريم: 73] يعني: على المشركين، آياتنا بينات يريد القرآن، قال الذين كفروا مشركو قريش للذين آمنوا لفقراء المؤمنين، {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ} [مريم: 73] أنحن أم أنتم، {خَيْرٌ مَقَامًا} [مريم: 73] وقرئ مقاما بضم الميم، وهما المنزل والمسكن، {وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم: 73] الندي والنادي: مجلس القوم ومجتمعهم، ومنه قوله: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [العنكبوت: 29] والمعنى: إن المشركين قالوا للفقراء المؤمنين: أنحن أم أنتم أعظم شأنا وأعز مجلسا؟ افتخروا عليهم بمساكنهم ومجالسهم.
فقال الله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} [مريم: 74] الأثاث المال، أجمع الإبل والغنم والعبيد والمتاع، قال ابن عباس، والسدي: الأثاث المال.
وقال قتادة: {أَحْسَنُ أَثَاثًا} [مريم: 74] أكثر أموالا.
الحسن: الأثاث اللباس.
والرئي: المنظر، فعل من رأيت، والمصدر الرأي والرؤية، كالطحن والرعي، والمفسرون يقولون: الرأي: المنظر.
وقال الحسن: الصور.
وقرئ ريا بغير همز.
قال الزجاج: وله تفسيران: أحدهما أن الأول بطرح الهمز، الثاني أنه من الري الذي هو ضد العطن.
والمراد به أن منظرهم مرتو من النعمة، كأن النعيم بين فيهم، لأن الري يتبعه الطراوة كما أن العطش يتبعه الذبول، والمعنى: إن الله قد أهلك قبلهم أقواما كانوا أكثر متاعا وأحسن منظرا فأهلك أموالهم، وأفسد عليهم جوهم، فليخافوا نقمة الله بالإهلاك كسنة من قبلهم من الكفار.
{قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا {75} وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا {76} } [مريم: 75-76] قوله: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ} [مريم: 75] قال ابن عباس: قل لهم يا محمد: من كان فِي العماية عن التوحيد ودين الله، {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم: 75] هذا لفظ الأمر ومعناه الخبر، أي: مده الرحمن مدا، وكذا فسره ابن عباس، فقال: يريد فإن الله يمد له فِيها حتى يستدرجه.
وقال الزجاج: تأويله أن الله جعل جزاء ضلالته أن يتركه ويمده فِيها، لأن لفظ الأمر يؤكد معنى الخبر، كأن المتكلم يقول: أفعل ذلك وآمر به نفسي، ومعنى مده الله فِي ضلالته: أمهله وطول عمره فِيها، {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ} [مريم: 75] يعني: الذين مدهم الله فِي الضلالة، وأخبر عن الجماعة لأن لفظ مَنْ يصلح للجماعة، ثم ذكر ما يوعدون فقال: {إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ} [مريم: 75] يعني القتل والأسر، أو القيامة والخلود فِي النار، فسيعلمون حينئذ، {مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا} [مريم: 75] أهم أم المؤمنون، لأن مكانهم جهنم، ومكان المؤمنين الجنة، وأضعف جندا وهذا رد عليهم فِي قولهم: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم: 73] .
قوله: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا} [مريم: 76] قال الربيع بن أنس: يريد أنه يزيد الذين اهتدوا بكتابه.
هدى بما ينزل عليهم من الآيات فيصدقون بها، وقال الزجاج: المعنى أن الله يجعل جزاء المؤمنين أن يزيدهم يقينا كما جعل جزاء الكافر أن يمده فِي ضلالته.
{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} [مريم: 76] الأذكار والأعمال الحسنة من الطاعات التي تبقى لصاحبها ولا تحبط، {خَيْرٌ(3/193)
عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا} [مريم: 76] جزاء فِي الآخرة مما يفتخر به الكفار من مالهم وحسن معاشهم، {وَخَيْرٌ مَرَدًّا} [مريم: 76] المرد ههنا مصدر، مثل الرد، والمعنى: وخير رد للثواب على عامليها ليس كأعمال الكفار التي خسروها فبطلت، ويقال: هذا الأمر رد عليك، أي: أنفع لك، والمعنى: أنه يرد عليك ما تريد.
{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا {77} أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا {78} كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا {79} وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا {80} } [مريم: 77-80] وقوله: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا} [مريم: 77] قال جماعة أهل التفسير: نزلت فِي العاص بن وائل، وذلك أن خباب بن الأرت كان له عليه دين، فأتاه يتقاضاه، فقال: لا أقضيك حتى تكفر بإله محمد.
فقال خباب: والله لا أكفر بإله محمد حيا ولا ميتا ولا حين أبعث.
قال: فدع مالك قبلي، فإذا بعثت، أعطيت مالا وولدا، وقضيتك مما أعطى.
يقول ذلك مستهزءا، فأنزل الله {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا} [مريم: 77] يعني العاص، كفر بالقرآن، {وَقَالَ لأُوتَيَنَّ} [مريم: 77] لأعطين، {مَالا وَوَلَدًا} [مريم: 77] يعني فِي الجنة بعد البعث، وقرئ وولدا بضم الواو، وهما واحد، مثل العرب والعرب، والعجم والعجم.
599 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحَمْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بَطَّةَ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نا أَبُو خَيْثَمَةَ، نا وَكِيعٌ، نا الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ خَبَّابٍ، قَالَ: كُنْتُ رَجُلا قَيْنًا وَكَانَ لِي عَلَى الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ دَيْنٌ فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ لِي: لا أَقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، فَقُلْتُ: لَنْ أَكْفُرَ بِهِ حَتَّى تَمُوتَ وَتُبْعَثَ، فَقَالَ: فَإِنِّي لَمَبْعُوثٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَسَوْفَ أَفِيكَ إِذَا رَجَعْتُ إِلَى مَالِي وَوَلَدِي، قَالَ: فَنَزَلَتْ فِيهِ {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا} ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنِ الأَشَجِّ، عَنْ وَكِيعٍ وَكِلاهُمَا، عَنِ الأَعْمَشِ
قال الله تعالى تكذيبا له ومنكرا عليه: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} [مريم: 78] قال ابن عباس، ومجاهد: أعلم ما غاب عنه حتى يعلم أفي الجنة أم لا؟ وقال الكلبي: أنظر فِي اللوح المحفوظ؟ {أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 78] قال ابن عباس: أم قال لا إله إلا الله، فأرحمه بها؟ وقال قتادة: يعني أقدم عملا صالحا يرجوه؟ كلا ليس الأمر على ما قال من أنه يؤتى المال والولد، ويجوز أن معنى كلا أي أنه لم يطلع على الغيب، ولم يتخذ عند الله عهدا، {سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} [مريم: 79] سنأمر الحفظة بإثباته عليه لنجازيه به(3/194)
فِي الآخرة، {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} [مريم: 79] نزيده عذابا فوق العذاب.
{وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} [مريم: 80] أي: ما عنده من المال والولد، بإهلاكنا إياه، وإبطال ملكه، وهذا قول ابن عباس وقتادة، {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم: 80] يأتي الآخرة بلا مال ولا ولد.
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا {81} كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا {82} أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا {83} فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا {84} } [مريم: 81-84] {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً} [مريم: 81] يعني: أهل مكة، عبدوا الأصنام من دون الله، {لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} [مريم: 81] قال الفراء: ليكونوا لهم شفعاء فِي الآخرة.
وهذا معنى قول ابن عباس: ليمنعوهم مني.
وذلك أنهم رجوا منها الشفاعة والنصرة والمنع من عذاب الله.
قال الله تعالى: كلا قال ابن عباس: يريد لا يمنعهم مني شيء.
{سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} [مريم: 82] تجحد الآلهة عبادة المشركين لها، كما قال: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص: 63] وذلك أنها كانت جمادا لا تعلم العبادة، {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 82] يصيرون أعوانا عليهم، يكذبونهم، ويلعنونهم، ويتبرءون منهم، وقال ابن قتيبة: أي أعداء يوم القيامة، وكانوا فِي الدنيا أولياءهم.
قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ} [مريم: 83] ذكر الزجاج فِي هذا وجهين: أحدهما أنَّا خلينا بين الشياطين وبين الكافرين فلم نعصمهم منهم ونعذهم، بخلاف المؤمنين الذين قيل فيهم: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] ، الوجه الثاني، وهو المختار، أنهم أرسلوا عليهم وقيضوا لهم بكفرهم، كما قال: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} [الزخرف: 36] فمعنى الإرسال ههنا التسليط.
وقوله: {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم: 83] الأز التحريك والتهييج، قال ابن عباس فِي رواية الوالبي: تغريهم إغراء.
وقال فِي رواية عطاء: نزعجهم إلى المعاصي إزعاجا.
وهو قول قتادة، وقال السدي: نستعجلهم استعجالا.
{فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ} [مريم: 84] أي: يطلب العذاب لهم {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم: 84] قال ابن عباس: يعني أنفاسهم التي يتنفسون فِي الدنيا، فهي معدودة إلى الأجل الذي أجلت لعذابهم.
وهذا من أبلغ الوعيد، والمعنى: أنا أجلناهم إلى أجل يبلغونه تعد أنفسهم إلى تمام ذلك الأجل.
قوله: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا {85} وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا {86} لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا {87} } [مريم: 85-87] {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ} [مريم: 85] أي: اذكر لهم يا محمد اليوم الذي يجمع فِيهِ من اتقى الله فِي الدنيا بطاعته واجتناب معاصيه، {إِلَى الرَّحْمَنِ} [مريم: 85] إلى جنته ومحل كرامته، {وَفْدًا} [مريم: 85] جمع وافد، كما يقال: راكب وركب، وصاحب وصحب.
فقال: وفد الوافد يفد وفدا ووفادة إذا خرج إلى ملك فِي فتح أو أمر، قاله ابن عباس.
600 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ الْبَصْرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَالِكٍ الْقَطِيعِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، أنا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ(3/195)
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، نا النُّعْمَانُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} قَالَ: لا، وَاللَّهِ مَا عَلَى أَرْجُلِهِمْ يُحْشَرُونَ، وَلَكِنْ يُؤْتَوْنَ بِنُوقٍ لَمْ تَرَ الْخَلائِقُ مِثْلَهَا، عَلَيْهَا رِحَالٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَيَرْكَبُونَ عَلَيْهَا حَتَّى يَضْرِبُوا أَبْوَابَ الْجَنَّةِ
{وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ} [مريم: 86] الكافرين، {إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم: 86] عطاشا مشاة، قال قتادة: سيقوا إليها وهم ظماء.
والورد الجماعة التي ترد الماء، ولا يرد أحد الماء إلا بعد العطش.
{لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ} [مريم: 87] لا يشفعون ولا يشفع أهل الإيمان بعضهم لبعض، وهو قوله: {إِلا مَنِ اتَّخَذَ} [مريم: 87] على معنى لكن من اتخذ، {عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 87] فإنه يملك الشفاعة، قال ابن عباس: العهد شهادة أن لا إله إلا الله، ويتبرأ إليه من الحول والقوة، ولا يرجو إلا الله.
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا {88} لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا {89} تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا {90} أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا {91} وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا {92} إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا {93} لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا {94} وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا {95} } [مريم: 88-95] قوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} [مريم: 88] يعني: اليهود والنصارى ومن زعم من المشركين أن الملائكة بنات الله.
قال الله مخاطبا لهم: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} [مريم: 89] عظيما فِي قول الجميع، ومعنى الآية: قلتم قولا عظيما، كما قال: {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلا عَظِيمًا} [الإسراء: 40] .
{تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ} [مريم: 90] أي: تدنو من الانشقاق، وقرئ ينفطرن منه وكلاهما واحد، يقال: انفطر الشيء وتفطر إذ تشقق.
{وَتَخِرُّ الْجِبَالُ} [مريم: 90] تسقط، هدا الهد: الكسر الشديد، يقال: هدني هذا الأمر وهد ركني.
والمعنى: تسقط الجبال وتكسر كسرا، قال المفسرون: لما قالوا اتخذ الله ولدا، اقشعرت الأرض، وشاك الشجر، وغضبت الملائكة، واستعرت جهنم، وفزعت السموات والأرض والجبال.
أن دعوا قال الفراء: من أن دعوا، ولأن دعوا.
{لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا {91} وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا {92} } [مريم: 91-92] ولا يليق به اتخاذ الولد، لأن اتخاذ الولد يقتضي(3/196)
مجانسة، وكل من اتخذ ولدا اتخذه من جنسه، والله تعالى منزه من أن يجانس شيئا، أو يجانسه شيء، فمحال فِي وصفه اتخاذ الولد.
إن كل ما كل، {مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [مريم: 93] من الملائكة والمخلوقين، {إِلا آتِي الرَّحْمَنِ} [مريم: 93] إلا يأتيه يوم القيامة، عبدا ذليلا خاضعا، يعني أن الخلق عبيده، وأن عيسى وعزيرا من جملة العبيد.
لقد أحصاهم عرف عددهم، وعدهم عدا ولا يخفى عليه مبلغ جميعهم، ولا واحد منهم، مع كثرتهم.
{وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 95] بلا مال ولا نصير يمنعه.
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا {96} فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا {97} وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا {98} } [مريم: 96-98] قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96] قال ابن عباس، ومجاهد: يحبهم ويحببهم إلى المؤمنين.
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن هذه الآية {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96] ما هو؟ قال: «المحبة فِي صدور المؤمنين، إن الله أعطى المؤمنين المقة والألفة والمحبة فِي صدور الصالحين» .
وقال هرم بن حيان: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله، إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم.
601 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ، نا أَبُو الأَزْهَرِ أَحْمَدُ بْنُ الأَزْهَرِ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَجِيدِ الْحَنَفِيُّ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ، تَعَالَى، إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبَّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبَّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الأَرْضِ "
قوله: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} [مريم: 97] أي: هوناه وأنزلناه بلغتك ليسهل عليك الإبلاغ، لتبشر به المتقين بالقرآن من(3/197)
أطاعك، {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم: 97] جمع ألد، وهو الخصم، قال قتادة: جدلا بالباطل، يعني قريشا.
ثم أنذرهم وخوفهم بقوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ} [مريم: 98] قبل هؤلاء، من قرن بتكذيب الرسل، {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ} [مريم: 98] هل ترى من الذين أهلكناهم، {مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم: 98] أي: صوتا، والركز الصوت الخفي، قال الحسن: ذهب القوم فلا تسمع لهم صوت.
وقال قتادة: هل ترى من عين، أو هل تسمع من صوت.(3/198)
سورة طة
مكية وآياتها خمس وثلاثون ومائة.
602 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَارِسِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا خُشْنَامُ بْنُ بِشْرِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُهَاجِرِ بْنِ مِسْمَارٍ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ ذَكْوَانَ، عَنْ مَوْلَى الْحُرَقَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ قَرَأَ طه وَيس قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ بِأَلْفَيْ عَامٍ، فَلَمَّا سَمِعَتِ الْمَلائِكَةُ الْقُرْآنَ؛ قَالُوا: طُوبَى لأُمَّةٍ يَنْزِلُ هَذَا عَلَيْهَا، وَطُوبَى لأَجْوَافٍ تَحْمِلُ هَذَا، وَطُوبَى لأَلْسُنٍ تَتَكَلَّمُ بِهَذَا "
{طه {1} مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى {2} إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى {3} تَنْزِيلا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلَى {4} الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى {6} وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى {7} اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى {8} } [طه: 1-8] بسم الله الرحمن الرحيم طه أكثر المفسرين على أن معناه: يا رجل، يريد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو قول الحسن، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وقتادة، والضحاك، ومجاهد، وابن عباس فِي رواية عطاء، والكلبي غير أن بعضهم يقول: هي بلسان الحبشة، وبالنبطية، والسريانية.
ويقول الكلبي: هي بلغة عك.
قال ابن الأنباري: ولغة قريش وافقت تلك اللغة فِي هذا المعنى، لأن الله تعالى لم يخاطب نبيه بلسان غير قريش.
{مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى} [طه: 2] لتتعب وتبلغ من الجهد ما بلغت، وذلك أنه لما أنزل عليه الوحي بمكة اجتهد فِي العبادة حتى أنه كان يصلي على إحدى رجليه، يراوح بين قدميه لطول قيامه، فيشتد ذلك عليه، فأمره الله تعالى أن يخفف على نفسه، وذكر أنه ما أنزل عليه الوحي ليتعب كل ذلك التعب.
{إِلا تَذْكِرَةً} [طه: 3] قال(3/199)
المبرد: لكن تذكرة.
أي: لكن أنزلناه، أي: لتذكر به من يخشى الله، والتذكرة مصدر كالتذكير.
تنزيلا أي: نزلناه، {تَنْزِيلا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلَى} [طه: 4] قال ابن عباس: أخبر بعظمته.
الرحمن مرفوع على خبر ابتداء مضمر، لأنه لما قال: ممن خلق بينه، فكأنه قال: هو الرحمن.
{عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] أي: أقبل على خلقه، وقصد إلى ذلك.
أخبرنا أبو الفضل أحمد بن محمد العروضي، أنا أبو منصور الأزهري، أنا أبو الفضل المنذري، قال: سئل أبو العباس أحمد بن يحيى عن قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] فقال: الاستواء الإقبال على الشيء.
ونحو هذا قال الفراء، والزجاج في قوله عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29] ولا يصح الاستواء فِي صفة الله تعالى إلا من هذا الوجه، وما سواه فهو باطل فاسد.(3/200)
قوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [طه: 6] أي أنه مالك كل شيء ومدبره، وما بينهما يعني الهواء، {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه: 6] هو التراب الندي، قال الضحاك: يعني ما وارى الثرى من شيء.
والمفسرون يقولون: أراد الذي تحت الصخرة التي عليها الثور الذي تحت الأرض، ولا يعلم ما تحت الثرى إلا الله عز وجل.
{وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ} [طه: 7] أي: ترجع صوتك به، {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7] أي: فلا تجهد نفسك برفع الصوت، فإنك وإن لم تجهر، علم الله السر وأخفى، قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: السر ما أسررت فِي نفسك وأخفى، ما لم تحدث به نفسك مما يكون فِي غد علم الله فِيهمَا سواء.
والتقدير وأخفى منه، إلا أنه حذف للعلم به، وهذا كقولك: فلان كالفيل، أو أعظم منه.
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} [طه: 8] أي: لا معبود يستحق العبادة غيره، {لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 8] يعني: التسعة والتسعين التي ورد بها الخبر، والحسنى تأنيث الأحسن.
{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى {9} إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى {10} } [طه: 9-10] قوله: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} [طه: 9] هذا استفهام تقرير بمعنى الخبر، أي: وقد أتاك، ونحو هذا قال ابن عباس: يريد وقد أتاك حديث موسى.
{إِذْ رَأَى نَارًا} [طه: 10] قال ابن عباس: كان موسى رجلا غيورا، لا يحب الرفقة لئلا ترى امرأته، فأخطأ الطريق فِي ليلة مظلمة، فرأى نارا من بعيد.
فقال لأهله يريد امرأته، امكثوا أقيموا مكانكم، {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [طه: 10] رأيتها وأبصرتها، {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ} [طه: 10] القبس: شعلة من نار يقبسها من معظم النار، {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه: 10] قال ابن عباس: من يدل على الطريق.
وقال مجاهد: هاديا يهدي إلى الطريق.
قال الفراء: أراد هاديا فذكره(3/201)
بلفظ المصدر.
قال السدي: لأن النار لا تخلو من أهل لها وناس عندها.
{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى {11} إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى {12} وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى {13} إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي {14} إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى {15} فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى {16} } [طه: 11-16] {فَلَمَّا أَتَاهَا} [طه: 11] قال ابن عباس: لما توجه نحو النار، فإذا النار فِي شجرة عناب، فوقف متعجبا من حسن ضوء تلك النار، وشدة خضرة تلك الشجرة، فسمع النداء من الشجرة: يا موسى، وهو قوله: {نُودِيَ يَا مُوسَى {11} إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [طه: 11-12] وقرئ بفتح الألف على معنى نودي بأني، ومن كسر فالمعنى: نودي فقيل {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [طه: 12] قال وهب: نودي من الشجرة، فقيل: يا موسى.
فأجاب سريعا، ما يدري من دعاه، فقال: إني أسمع صوتك ولا أرى مكانك، فأين أنت؟ قال: أنا فوقك ومعك، وأمامك وخلفك، وأقرب إليك من نفسك.
فعلم أن ذلك لا ينبغي إلا لربه عز وجل، فأيقن به، وقوله: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه: 12] روى ابن مسعود، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «كانت نعلا موسى من جلد حمار ميت» .
وهذا قول أكثر المفسرين، قيل لموسى: لا تدخل الوادي وهما عليك.
وقال الحسن: كانتا من جلد بقرة ذكية، ولكن أمر بخلعهما ليباشر تراب الأرض المقدسة، فتناله بركتها.
وهذا قول سعيد بن جبير، وقتادة، ومجاهد، قال: يقول: أفض بقدميك إلى بركة هذا الوادي.
وهو قوله: {إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه: 12] أي المطهر، وقال الوالبي: المقدس المبارك، وذكرنا هذا عند قوله: {الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} [المائدة: 21] وطوى اسم الوادي فِي قول جميع المفسرين.
قوله: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} [طه: 13] قال الكلبي: اخترتك برسالتي لكي تقوم بأمري.
{فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه: 13] إليك مني أمره بعبادته.
وأخبره بالتوحيد، فقال: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] أي: أقم الصلاة متى ذكرت أن عليك صلاة، كنت فِي وقتها أو لم تكن.
هذا قول عامة المفسرين، وروي ذلك مرفوعا.
603 - أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ(3/202)
عُمَرَ الْمَاوَرْدِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ الرَّازِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أنا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، نا هَمَّامٌ، نا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ نَسِيَ صَلاةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، لا كَفَّارَةَ لَهَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَرَأَ {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} » ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ هُدْبَةَ
قال الحسن: أقم الصلاة لأن تذكرني لأن الصلاة لا تكون إلا بذكر الله.
وهذا قول مجاهد، قال: إذا صلى العبد، ذكر الله.
ثم أخبره بمجيء الساعة، فقال: {إِنَّ السَّاعَةَ} [طه: 15] يعني القيامة، {آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 15] قال أكثر المفسرين: أخفيها من نفسي.
وهو قول سعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة.
قال قطرب، والمبرد: هذا على عادة مخاطبة العرب، يقولون إذا بالغوا فِي كتمان الشيء: كتمته حتى من نفسي، أي: لم أطلع عليه أحدا.
ومعنى الآية أن الله بالغ فِي إخفاء الساعة، فذكره بأبلغ ما تعرفه العرب.
قال قتادة: هي فِي بعض القراءة أكاد أخفيها من نفسي ولعمري لقد أخفاها الله من الملائكة المقربين، والأنبياء المرسلين.
قال ابن الأنباري: والمعنى فِي إخفائها التهويل والتخويف، لأن الناس إذا لم يعلموا متى تقوم الساعة كانوا على حذر منها كل وقت.
وقوله: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه: 15] أي: بما تعمل من خير وشر، واللام فِي لتجزى متعلقة بقوله: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ} [طه: 15] .
{فَلا يَصُدَّنَّكَ} [طه: 16] لا يمنعنك ولا يصرفنك، عنها عن الإيمان، {مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا} [طه: 16] بأنها آتية، {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [طه: 16] مراده وخالف أمر الله، {فَتَرْدَى} [طه: 16] فتهلك.
{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى {17} قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى {18} قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى {19} فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى {20} قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى {21} } [طه: 17-21] {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17] قال الزجاج: ما التي بيمينك؟ ومعنى سؤال موسى عما فِي يده من العصا، التنبيه له عليها ليقع المعجز بها بعد التثبيت فِيها، والتأمل لها.
قال موسى: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} [طه: 18] أعتمد عليها إذا مشيت، والتوكؤ التحامل على العصا فِي المشي، {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} [طه: 18] قال الفراء: أضرب بها الشجر اليابس ليسقط ورقها فترعاه الغنم.
فقال: هش يهش هشا إذا خبط الشجر.
{وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: 18] المآرب الحوائج، واحدتها مأربة، ومنه المثل: مأربة لا حفاوة.
وأراد بالمآرب ما يستعمل فِيهِ العصا من السفر.
قال الله: {أَلْقِهَا يَا مُوسَى} [طه: 19](3/203)
أخبرنا أبو بكر التميمي، أنا أبو الشيخ الأصفهاني، نا أحمد بن محمد بن سريح، نا محمد بن رافع، نا إسماعيل بن عبد الكريم، حدثني عبد الصمد بن معقل، قال: سمعت وهبا يقول: قال له الرب: {أَلْقِهَا يَا مُوسَى} [طه: 19] .
فظن موسى أنه يقول: ارفضها، فألقاها على وجه الرفض، ثم حانت منه لفتة، فإذا بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون، يمر بالصخرة مثل الخلفة من الإبل، فيلقمها، ويطعن بنابه فِي أصل الشجر العظيمة فيحتها، عيناه توقدان نارا، وقد عاد المحجن عنقا فِيهِ شعر مثل النيازك، فلما عاين ذلك موسى {وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} [النمل: 10] ثم ذكر ربه، فوقف استحياء منه، ثم نودي ارجع حيث كنت، فرجع وهو شديد الخوف.
{قَالَ خُذْهَا} [طه: 21] بيمينك، {وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} [طه: 21] وعلى موسى حينئذ مدرعة من صوف قد خلها بخلال من عيدان، فلما أمره بأخذها، أوكى طرف الدرعة على يده، فقال ملك: يا موسى، أرأيت لو أذن الله بما تحاذر، أكانت المدرعة تغني عنك شيئا.
قال: لا، ولكني ضعيف، ومن ضعف خلقت وكشف عن يده.
ثم وضعها فِي فم الحية فإذا يده فِي الموضع الذي كان يضعها إذا توكأ بين الشعبتين.
قال المفسرون: أراد الله تعالى أن يري موسى ما أعطاه من الآية التي لا يقدر عليها مخلوق لئلا يفزع منها إذا ألقاها عند فرعون، ولا يولي مدبرا.
قوله: {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} [طه: 21] قال السدي: نردها عصا كما كانت.
والسيرة الهيئة والحالة، يقال لمن كان على شيء فتركه ثم عاد إليه: عاد إلى سيرته.
قال الزجاج: المعنى سنعيدها إلى سيرتها، فلما حذفت إلى، وصل إليها الفعل فنصبها.
{وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى {22} لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى {23} اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى {24} قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي {25} وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي {26} وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي {27} يَفْقَهُوا قَوْلِي {28} وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي {29} هَارُونَ أَخِي {30} اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي {31} وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي {32} كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا {33} وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا {34} إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا {35} } [طه: 22-35] قوله: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} [طه: 22] قال الفراء، والزجاج: جناح الإنسان عضده إلى أصل إبطه.
وهذا قول مجاهد، قال: كفك تحت عضدك.
وقوله: تخرج بيضاء قال ابن عباس: كان ليده نور ساطع، يضيء بالليل والنهار كضوء الشمس والقمر، وأشد ضوءا.
فذلك قوله: {بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [طه: 22] أي: من غير برص فِي قول الجميع، قال الليث: ويكنى بالسوء عن البرص.
وقوله: {آيَةً أُخْرَى} [طه: 22] أي: دلالة على صدقك سوى العصا.
{لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا(3/204)
الْكُبْرَى} [طه: 23] أراد الآية الكبرى، قال ابن عباس: كانت يد موسى أكبر آياته.
{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه: 24] جاوز القدر فِي العصيان، وذلك أنه خرج فِي معصيته إليّ فتجاوز به معاصي الناس.
{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه: 25] قال ابن عباس: يريد حتى لا أخاف غيرك.
وذلك أنه كان يضيق صدرا بما كلف من مقاومة فرعون وجنده وحده، فسأل الله أن يوسع قلبه للحق حتى يعلم أن أحد لا يقدر على مضرته إلا بإذن الله، وإذا علم ذلك لم يخفف فرعون، وإن اشتدت شوكته وكثر جنوده.
{وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه: 26] سهل علي ما بعثتني له.
{وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طه: 27] قال ابن عباس: يريد أطلق عن لساني العقدة التي فِيهِ حتى يفهموا كلامي.
وهو قوله: {يَفْقَهُوا قَوْلِي {28} وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي {29} } [طه: 28-29] عونا وظهيرا من أهل بيتي، قال الزجاج: اشتقاقه فِي اللغة من الوزر، وهو الجبل الذي يعتصم به لينجي من التهلكة، والوزير الذي يعتمد الملك على رأيه فِي الأمور ويلتجئ.
وقوله: {هَارُونَ أَخِي} [طه: 30] مفعول الجعل على تقدير اجعل هارون أخي وزيري.
{اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} [طه: 31] قو ظهري وأعني به، والأزر الظهر.
{وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه: 32] اجمع بيني وبينه فِي النبوة، وقرأ ابن عامر أشدد به أزري وأشركه فِي أمري على الجواب والمجازاة، والوجه الدعاء على ما قرأت به العامة، لأنه معطوف على ما تقدمه من قوله: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي {25} وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي {26} } [طه: 25-26] فكما أن ذلك كله دعاء، فكذلك ما عطف عليه قوله: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا} [طه: 33] قال الكلبي: يقول: نصلي لك كثيرا.
{وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} [طه: 34] بحمدك والثناء عليك، بما أوليتنا من نعمك، ومنيت به علينا من تحميل رسالتك.
{إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} [طه: 35] عالما إذ خصصتنا بهذه النعمة.
فاستجاب الله دعاءه: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى {36} وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى {37} إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى {38} أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي {39} إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى {40} وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي {41} اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي {42} اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى {43} فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى {44} } [طه: 36-44] {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه: 36] أعطيت ما سألت، وسؤال الإنسان: أمنيته التي يطلبها، فلين الله له صدره، وحل العقدة من لسانه، وبعث معه أخاه هارون.
ثم أخبر بمنته عليه قبل هذا، فقال: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} [طه: 37] أي: أحسنا إليك، وأنعمنا عليك قبل هذه المرة.
ثم فسره بقوله: {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى} [طه: 38] أي: ألهمناها حين عييت بأمرك ما كان فِيهِ سبب نجاتك من القتل، ومعنى ما يوحى: ما يلهم.
ثم فسر ذلك الإيحاء، فقال: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ} [طه: 39] أي: اجعليه فِيهِ بأن ترميه فِيهِ، {فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} [طه: 39] قال ابن عباس: يريد النيل.
واليم البحر، والنهر الكبير، {فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ(3/205)
بِالسَّاحِلِ} [طه: 39] وهو شط البحر والوادي، {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} [طه: 39] يعني فرعون، {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: 39] قال عطاء، عن ابن عباس: لا يلقاك أحد إلا أحبك، لا مؤمن ولا كافر.
وقال عكرمة: حسن وملاحة، فحيث أبصرت وجهه آسية قالت لفرعون: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} [القصص: 9] وقال قتادة: ملاحة كانت فِي عين موسى، ما رآه أحد إلا عشقه.
وقال عبيدة: يقول: جعلت لك محبة عند غيري، أحبك فرعون، فسلمت من شره، وأحبتك امرأته آسية، فتبنتك.
{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] ولتربى وتغذى بمرأى مني، يقال: صنع الرجل جاريته إذا رباها، وصنع فرسه إذا داوم على علفه، والقيام عليه.
وتفسير قوله: على عيني بمرأى مني صحيح، ولكن لا يكون لموسى فِي هذا تخصيص، فإن جميع الأشياء بمرأى من الله، والصحيح فِي هذا قول قتادة: لتغذى على محبتي وإرادتي.
وهذا القول اختيار أبي عبيدة، وابن الأنباري.
قال أبو عبيدة: لتغذى على محبتي، وما أريد.
والعرب تقول: اتخذ شيئا على عيني، أي: على محبتي.
وقال ابن الأنباري: العين فِي هذه الآية يقصد بها قصد الإرادة والاختيار، من قول العرب: غذي على عيني، أي على المحبة مني.
والمعنى: ولتصنع على عيني، قدرنا مشي أختك وقولها هل أدلك على من يكفله، لأن هذا كان من أسباب تربية موسى على ما أراد الله.
وهو قوله: {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ} [طه: 40] يعني حين قالت لها أم موسى: قصيه.
فاتبعت موسى على أثر الماء، وقوله: {فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ} [طه: 40] يعني: حين أبى موسى المراضع، فقالت: هل أدلكم {عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ} [طه: 40] أي: يرضعه ويضمه إليه، فقيل لها: ومن هي؟ قالت أمي.
قالوا: أمك لها لبن.
قالت: لبن أخي هارون.
فأرسلوها، فجاءت بالأم، فقبل ثديها، فذلك قوله: {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ} [طه: 40] أي: رددناك إليها، {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} [طه: 40] بك وبرؤيتك، وقتلت نفسا يعني: القبطي الذي وكزه موسى فقضى عليه، {فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} [طه: 40] من غم مخافة أن تقتل به، خلصناك منه حين هربت إلى مدين، {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40] قال ابن عباس فِي رواية سعيد بن جبير، ومجاهد فِي رواية ابن أبي نجيح: الفتون وقوعه فِي محنة بعد محنة، خلصه الله منها، أولها: أن أمه حملته فِي السنة التي كان فرعون يذبح فِيها الأطفال، ثم إلقاؤه فِي البحر، ثم منعه الرضاع إلا من ثدي أمه، ثم جره لحية فرعون حتى هم بقتله، ثم تناوله الجمرة بدل الدرة، ثم قتله القبطي، ثم خروجه إلى مدين خائفا يترقب، وكان ابن عباس يقص القصة على سعيد بن جبير، ويقول عند كل بلية: وهذا من الفتون يا ابن جبير.
وعلى هذا معنى فتناك خلصناك من تلك المحن(3/206)
كما يفتن الذهب بالنار فيخلص من كل خبث وشائب، والفتون مصدر، وقوله: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} [طه: 40] تقدير الكلام وفتناك فتونا فخرجت إلى أهل مدين فلبثت سنين، ومثل هذا الحذف فِي التنزيل كثير، قال الفراء: وهو من كلام العرب، أن تجتزئ بحذف كثير من الكلام إذا كان المعنى معروفا.
ومدين بلد شعيب، وكان على ثمان مراحل من مصر، هرب إليها موسى فأقام بها عشر سنين.
قوله: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه: 40] يعني: على رأس أربعين سنة، وهو القدر الذي يوحى فِيهِ إلى الأنبياء، هذا قول المفسرين، والمعنى: على الوعد الذي وعده الله وقدره فِي علمه أن يوحى إليه بالرسالة، وهو أربعون سنة، وهذا معنى قول محمد بن كعب: ثم جئت على القدر الذي قدرت أن تجيء.
قوله: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: 41] الاصطناع: اتخاذ الصنيعة، وهو الخير تسديه إلى إنسان، قال ابن عباس: يريد اصطنعتك لوحيي ورسالتي.
والمعنى: لتتصرف على إرادتي ومحبتي، وذلك أن تبلغة الوحي، وقيامه بأداء الرسالة تصرف على إرادة الله ومحبته.
وقال الزجاج: تأويله اخترتك لإقامة حجتي، وجعلتك بيني وبين خلقي، حتى صرت فِي التبليغ عني بالمنزلة التي أكون أنا بها لو خاطبتهم واحتججت عليهم.
{اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي} [طه: 42] قال ابن عباس: يعني الآيات التسع التي بعث بها موسى.
{وَلا تَنِيَا} [طه: 42] لا تضعفا، ولا تفترا، يقال: ونى يني إذا ضعف.
{فِي ذِكْرِي} [طه: 42] قال الفراء: فِي ذكري وعن ذكري سواء.
والمعنى: لا تقصرا فِي ذكري بالإحسان إليكما والإنعام عليكما، وذكر النعمة شكرها.
{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ} [طه: 43] تكرير الأمر بالذهاب للتأكيد، {إِنَّهُ طَغَى} [طه: 43] مر تفسيره.
{فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا} [طه: 44] قال ابن عباس، والسدي: كنياه.
واختلفوا فِي كنيته، فقيل: أبو العباس، وأبو الوليد، وأبو مرة.
وقال مقاتل: يعني بالقول اللين: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى {18} وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى {19} } [النازعات: 18-19] أخبرنا أبو عمرو محمد بن عبد العزيز المروزي، فِي كتابه، أنا محمد بن الحسن الحدادي، أنا محمد بن يحيى، أنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، أنا أبو عمرو، عن أسباط، عن السدي، قال: القول اللين أن موسى أتاه فقال له: تسلم وتؤمن بما جئت به، وتعبد رب العالمين على أن لك شبابك فلا تهرم، وتكون ملكا لا ينزع منك حتى تموت، ولا ينزع منك لذة الطعام والشراب والجماع حتى تموت، فإذا مت دخلت الجنة، وكان لا يقطع أمرا دون هامان، وكان غائبا، فقال فرعون: إن لي ذا أمر وهو غائب حتى يقدم.
فلم يلبث أن قدم(3/207)
هامان، فقال له فرعون: أعلمت أن موسى قد دعاني إلى أمر أعجبني، وأخبره بالذي دعاه إليه، وأردت أن أقبله منه، فقال له هامان: قد كنت أرى أن لك رأيا بينا، أنت رب فتريد أن تكون مربوبا، وبينا أنت تُعْبَدُ فتريد أن تَعْبُدُ.
فقلبه عن رأيه ذلك فأنبى، قال الشيخ سمعت إسماعيل بن أبي القاسم النصراباذي، سمعت والدي، سمعت أحمد بن محمد الأزرقي، سمعت محمد بن إبراهيم يقول: حضرت مجلس يحيى بن معاذ، وقرأ رجل هذه الآية {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا} [طه: 44] فبكى يحيى، ثم قال: إلهي، هذا رفقك بمن يقول أنا إله، فكيف رفقك بمن يقول: أنت إلهي، إن قول إلا إله إلا الله يهدم كفر خمسين سنة، فما تصنع بذنوب خمسين سنة.
وقوله: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] أي: ادعواه على الرجاء والطمع، لا على اليأس من فلاحه، فوقع التعبد لهما على هذا الوجه، لأنه أبلغ لهما فِي دعائه إلى الحق، وقد كشف الزجاج عن هذا المعنى، فقال: المعنى فِي هذا عند سيبويه: اذهبا على رجائكما وطمعكما، والعلم من الله قد أتي من وراء ما يكون، وإنما تبعث الرسل وهم يرجون ويطمعون أن يقبل منهم.
وقال ابن الأنباري: مذهب الفراء فِي هذا: كي يتذكى أو يخشى فِي تقديركما، وما تمضيان عليه.
{قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى {45} قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى {46} فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى {47} إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى {48} } [طه: 45-48] {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا} [طه: 45] أن يبادر ويعجل بعقوبتنا، يقال: فرط فلان إذا عجل بمكروه، وفرط منه أمر، أي بدر وسبق.
وقوله: {أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه: 45] أي: يتجاوز الحد فِي الإساءة بنا.
604 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحَمْنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، أنا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ جَعْفَرٍ الرُّصَافِيُّ، أنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ، أنا سَالِمُ بْنُ جُنْدَةَ، نا أَبِي، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ عَلَى سُلْطَانٍ يَخَافُ تَغَطْرُسَهُ؛ فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ فُلانٍ وَأَحْزَابِهِ؛ أَنْ يُفَرِّطَ عَلَيَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ، أَوْ أَنْ يَطْغَى، عَزَّ جَارُكَ، وَجَلَّ ثَنَاؤُكَ، وَلا إِلَهَ غَيْرُكَ
{قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا} [طه: 46] بالنصرة والعون، {أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] قال ابن عباس: أسمع دعاءكما فأجيبه، وأرى ما يراد بكما فأمنعه.
والمعنى: لست بغافل عنكما فلا تهتما.
{فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} [طه: 47] أرسلنا إليك، {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [طه: 47] أي: خل عنهم، {وَلا تُعَذِّبْهُمْ} [طه: 47] وكان فرعون يستعملهم فِي الأعمال الشاقة، {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ(3/208)
مِنْ رَبِّكَ} [طه: 47] يعني العصا، وقيل اليد، {وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 47] قال الزجاج: ليس يراد به التحية، وإنما معناه أن من اتبع الهدى سلم من عذاب الله.
يدل على هذا المعنى قوله: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه: 48] أي: إنما يعذب من كذب بما جئنا به وأعرض عنه، فأما من اتبعه، فإنه يسلم من العذاب، فأتيا فرعون وبلغاه الرسالة.
{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى {49} قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى {50} قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى {51} قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى {52} } [طه: 49-52] قال فرعون: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه: 49] من إلهكما الذي أرسلكما؟ {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} [طه: 50] أي: صورته، خلق كل جنس من الحيوان على صورة أخرى، فلم يجعل خلق الإنسان كخلق البهائم، ولا خلق البهائم كخلق الإنسان.
{ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] والمعنى: ثم هداه لما يصلحه من مطعمه ومشربه ومنكحه إلى غير ذلك، والاحتجاج على فرعون من هذا الجواب، أنه قد ثبت خلق وهداية للخلائق، ولا بد لها من خالق وهاد، وذلك الخالق والهادي هو الرب لا رب غيره.
فلما دعاه إلى دين الله واتباع الهدى، قال له فرعون: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه: 51] معنى البال: الحال والشأن، والمعنى: ما حالها، فإنها لم تقر بالله، وبما تدعوا إليه، ولكنها عبدت الأوثان.
ويعني بالقرون الأولى: الأمم المتقدمة، مثل قوم نوح، وعاد، وثمود.
قال موسى: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} [طه: 52] قال الزجاج: أي أعمالهم محفوظة عند الله، يجازي بها.
والتقدير علم أعمالها عند ربي، {فِي كِتَابٍ} [طه: 52] قال الكلبي: يعني اللوح المحفوظ.
والمعنى أن أعمالهم مكتوبة مثبتة عليهم، أي أنهم يجازون بما عملوا، وأنت تجازى بما تعمل.
وقوله: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه: 52] تأكيد وتحقيق للجزاء بالأعمال، أي: لا يخطئ ربي ولا يتسرع ما كان من أمرهم حتى يجازيهم بأعمالهم.
قال السدي: لا يغفل ولا يترك شيئا.
وأصل الضلال فِي اللغة الغيبوبة، يقال: ضل الماء فِي اللبن، وضل الكافر عن المحجة، وضل الناس إذا غاب عنه حفظه، ومعنى {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه: 52] عن شيء، ولا يغيب عنه شيء.
ثم زاد فِي الأخبار عن الله، وبيان وصفه، فقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى {53} كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُولِي النُّهَى {54} مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى {55} } [طه: 53-55] الذي جعل لكم الأرض مهادا وقرئ مهدا وهو مصدر كالفراش، والمهاد مثل الفراش والبساط، وهما اسم ما يفرش ويبسط، {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا} [طه: 53] والسلك إدخال الشيء فِي الشيء، والمعنى: أدخل فِي الأرض لأجلكم طرفا تسلكونها، كما قال ابن عباس: سهل لكم فِيها طرقا.
{وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ} [طه: 53](3/209)
يعني المطر، وتم الإخبار عن موسى، ثم أخبر الله تعالى عن نفسه متصلا بالكلام الأول بقوله: فأخرجنا به بذلك الماء، {أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} [طه: 53] قال ابن عباس: أصنافا من النبات مختلفة: أبيض، وأحمر، وأخضر، وأصفر، وكل لون منها زوج.
ولا واحد لشتى من لفظه.
كلوا أي: مما أخرجنا بالمطر من النبات والثمار، {وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} [طه: 54] يقال: رعت الماشية الكلأ رعيا، ورعاها صاحبها رعاية إذا أسرحها فِي المراعي.
والمعنى: أسيموا مواشيكم فيما انبتناه بالمطر، ومعنى هذا الأمر التذكير بالنعمة، {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [طه: 54] مما ذكر، {لآيَاتٍ لأُولِي النُّهَى} [طه: 54] لذوي العقول الذين يتناهون بعقولهم عن معاصي الله، وإنما خص أولي النهي لأنهم أهل التفكر والاعتبار.
قوله: منها أي: من الأرض، وجرى ذكرها في قوله: {جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ} [طه: 53] ، {خَلَقْنَاكُمْ} [طه: 55] يعني: آدم خلق من الأرض، والبشر كلهم منه، {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} [طه: 55] بعد الموت، {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55] عند البعث، كما أخرجكم أولا عند خلق آدم من الأرض.
{وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى {56} قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى {57} فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى {58} قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى {59} } [طه: 56-59] {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ} [طه: 56] يعني فرعون، {آيَاتِنَا كُلَّهَا} [طه: 56] يعني: الآيات التسع، {فَكَذَّبَ} [طه: 56] نسب جميعها إلى الكذب، وأبى أن يقبل التوحيد، ونسب إلى موسى السحر.
وهو قوله: {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا} [طه: 57] يعني مصر، {بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى} [طه: 57] تريد أن تغلب على ديارنا بسحرك فتملكها وتخرجنا منها.
{فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ} [طه: 58] فلنقابلن ما جئتنا به من السحر بسحر مثله، {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا} [طه: 58] مكانا لا يقع منا خلاف فِي حضوره، تعد لحضورنا ذلك المكان، {لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ} [طه: 58] ثم بين ذلك، فقال: مكانا سوى وقرئ {سُوًى} [طه: 58] بضم السين، والمعنى: مكانا تستوي مسافته على الفريقين، فتكون مسافة كل فريق إليه كمسافة الفريق الآخر، وهذا معنى قول المفسرين، قال قتادة: نصفا.
وقال مقاتل: عدلا بيننا وبينك.
وقال مجاهد: منصفا.
فواعده موسى يوما معلوما، ويوما ووقتا معلوما، وهو قوله: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} [طه: 59] قال مجاهد، وقتادة، والسدي: كان ذلك يوم عيد لهم يتزينون فِيهِ.
وقال سعيد بن جبير: كان ذلك يوم عاشورا.
{وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه: 59] يعني: ضحى ذلك اليوم، ويريد بالناس أهل مصر، يقول: يحشرون إلى ضحى العيد ضحى، فينظرون إلى أمري وأمرك.
قال الفراء: يقول: إذا رأيت الناس يحشرون من كل ناحية ضحى فذلك الموعد.
قال: وجرت عادتهم بحشر الناس فِي ذلك اليوم.
{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى {60} قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى {61} فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى {62} قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ(3/210)
أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى {63} فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى {64} } [طه: 60-64] فتولى فرعون قال مقاتل: أعرض عن الحق، وعما يلزمه من الطاعة.
فجمع كيده مكره وحيلته، وذلك جمعه السحرة، ثم أتى حضر الموعد.
{قَالَ لَهُمْ مُوسَى} [طه: 61] أي: للسحرة الذين جمعهم فرعون، ويلكم ألزمكم الله الويل، {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [طه: 61] قال ابن عباس: لا تشركوا بالله أحدا، {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} [طه: 61] ويقرأ بضم الياء يقال: سحته الله، وأسحته إذا استأصله وأهلكه.
قال ابن عباس، ومجاهد: فيهلككم.
وقال قتادة: فيستأصلكم.
{وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه: 61] قال ابن عباس: خسر من ادعى مع الله إلها آخر.
وقال قتادة: خسر من كذب على الله ونسب إليه باطلا.
قوله: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} [طه: 62] تناظروا فِي أمر موسى وتشاوروا، يعني السحرة، سرا من فرعون، فقالوا: إن غلبنا موسى اتبعناه.
وهذا القول اختيار الفراء، والزجاج.
وقال محمد بن إسحاق: لما قال لهم موسى: {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [طه: 61] قال بعضهم لبعض: ما هذا بقول ساحر.
ثم قالوا وأسر بعضهم إلى بعض يتناجون: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه: 63] يعنون موسى وهارون، قال ابن عباس فِي رواية عطاء: هي لغة بلحرث بن كعب، يعني قوله: {إِنْ هَذَانِ} [طه: 63] .
وإجماع النحويين إن هذا لغة حارثية، وذلك أن بلحرث بن كعب، وخثعم، وزبيرا، وقبائل من اليمن يجعلون ألف الاثنين فِي الرفع والنصب والخفض على لفظ واحد، يقولون: أتاني الزيدان، ومررت بالزيدان، وذلك أنهم يقلبون كل ياء ساكنة انفتح ما قبلها ألفا، فعاملوا ياء التثنية أيضا هذه المعاملة، كما قال قائلهم:
أيُّ قلوص راكب تراها ... طاروا علاهن فطر علاها
وهذه ليست ياء التثنية، ولكن لما كانت اللام فِي عليها مفتوحة، قلبوها ألفا، وحكى هذه اللغة جميع النحويين، وقرأ أبو عمرو إن هذين بالياء، بخلاف المصحف، واحتجاجه فِي ذلك بما روي أنه غلط من الكاتب، وأن فِي الكتاب غلط ستقيمه العرب بألسنتها.
وقال الزجاج: لا أجيز هذه القراءة لأنها خلاف المصحف، ولا أجيز مخالفته لأن اتباعه سنة.
وقرأ ابن كثير {إِنْ هَذَانِ} [طه: 63] بتخفيف إن على معنى: ما هذان إلا ساحران، وإن إذا خففت كان الوجه أن يرفع الاسم بعدها،(3/211)
واستحسن الزجاج هذه القراءة، قال: وكان الخليل يقرأ بهذه القراءة.
والإجماع أنه لم يكن أحد أعلم بالنحو من الخليل،(3/212)
وقوله: {يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا} [طه: 63] تقدم تفسيره، {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه: 63] قال الفراء: العرب تقول هؤلاء طرقة قومهم وطرائق قومهم لا طراقهم.
والمثلى: تأنيث الأمثل، وهو الأفضل، يقال: فلان أمثل قومه، أي أفضلهم، وهم الأماثل.
روي الشعبي، عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فِي هذه الآية، قال: يصرفا وجوه الناس إليهما.
والمعنى أن يغلبا بسحرهما فيميل إليهما السادة والأشراف منكم، وقال قتادة: طريقتكم المثلى يومئذ بنو إسرائيل كانوا أكثر القوم عدة وأموال، فقالوا: إنما يريدون أن يذهبا بهما لأنفسهما.
وهذا قول أكثر المفسرين، وقال ابن زيد: ويذهبا بالطريقة التي أنتم عليها فِي السيرة.
واختاره أبو عبيدة، فقال: {بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه: 63] بسنتكم ودينكم وما أنتم عليه.
ثم تواصوا فيما بينهم، فقالوا: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ} [طه: 64] قال الفراء: الإجماع الإحكام، والعزيمة على الشيء، تقول: أجمعت الخروج، وعلى الخروج، مثل أزمعته.
وقرأ أبو عمرو فاجمعوا موصولا من الجمع، وحجته قوله: {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} [طه: 60] والمعنى: لا تدعوا من كيدكم شيئا إلا جئتم به، استظهارا للمبالغة فِي سحرهم.
{ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} [طه: 64] أي: مصطفين مجتمعين ليكون أنظم لأموركم، وأشد لهيبتكم، وهذا معنى قول ابن عباس والمفسرين.
وقال أبو عبيدة: الصف موضع المجمع، ويسمى المصلى الصف.
وقال الزجاج: وعلى هذا معناه: ثم ائتوا الموضع الذي تجتمعون فِيهِ لعيدكم وصلاتكم، يقال: أتيت الصف، بمعنى أتيت المصلى، {وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} [طه: 64] قال ابن عباس: قد سعد اليوم من غلب، ومعنى استعلى: علا بالغلبة.
{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى {65} قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى {66} فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى {67} قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى {68} وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى {69} فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى {70} } [طه: 65-70] {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} [طه: 65] أي: اختر أحد هذين، والمراد بالإلقاء إلقاء العصي على الأرض، وكانت السحرة معهم عصا، وكان موسى قد ألقى عصاه يوم دخل على فرعون، فلما أراد السحرة معارضته قالوا له هذا القول.
قال موسى: {بَلْ أَلْقُوا} [طه: 66] أمرهم بالإلقاء أولا، لتكون معجزته أظهر إذا ألقوا هم ما معهم، ثم يلقي هو عصاه، فتبتلع ذلك، وقوله: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ} [طه: 66] قال عطاء: كان عدد السحرة سبعين ألف رجل، مع(3/213)
كل رجل عصا وحبل غليظ مثل حبال السفر.
وقال عكرمة: كانوا تسع مائة.
وقال محمد بن إسحاق كانوا خمسة عشر ألف.
{يُخَيَّلُ إِلَيْهِ} [طه: 66] إلى موسى، {مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66] قال الكلبي: خيل إلى موسى أنها حيات كلها، وأنها تسعى على بطنها.
يقال: خيل إليه إذا شبهه له، أدخل عليه التهمة والشبهة.
{فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه: 67] أي: أحس ووجد خوفا، لأن سحرهم كان من جنس ما أراهم فِي العصا، فخاف أن يلتبس الناس على أمره ولا يؤمنوا به.
فقال الله: {قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} [طه: 68] عليهم بالظفر والغلبة.
{وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} [طه: 69] يعني العصى، {تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} [طه: 69] قال الزجاج: القراءة بالجزم جواب الأمر، ويجوز الرفع على معنى الحال، كأنه قال: ألقها متلقفة.
{إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} [طه: 69] أي: إن الذي صنعوه كيد ساحر.
وقرئ كيد سحر والمعنى: كيدا من سحر، كما قالوا: قميص حرير، وجوبة خز.
{وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69] قال ابن عباس: ولا يسعد الساحر حيث ما كان.
وروى جندب بن عبد الله البجلي، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا رأيتم الساحر فاقتلوه، ثم قرأ: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69] قال: لا يأمن حيث وجد ".
{قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى {71} قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا {72} إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى {73} } [طه: 71-73] وما بعد هذا مفسر فِي { [الأعراف إلى قوله:] إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} [سورة طه: 71] قال ابن عباس: يريد معلمكم.
قال الكسائي: الصبي بالحجاز، إذا جاء من عند معلمه، قال: جئت من عند كبيري.
وقال محمد بن إسحاق: إنه لعظيم السحار، والكبير فِي اللغة الرئيس، ولهذا يقال للمعلم الكبير.
وقوله: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] فِي بمعنى على، كقوله: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} [الطور: 38] أي عليه.
ولتعلمن أيها السحرة، {أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا} [طه: 71] لكم، وأبقى وأدوم، أنا على إيمانكم، أو رب موسى على ترككم الإيمان به.
{قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ} [طه: 72] لن نفضلك ولن نختارك، {عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} [طه: 72] قال مقاتل: يعني اليد والعصا.
وقال عكرمة، والقاسم بن أبي بزة: هو أنهم ما رفعوا رءوسهم حيث خروا(3/214)
سجدا، حتى رأوا الجنة والنار، ورأوا منازلهم فِي الجنة التي إليها يصيرون، وقوله: {وَالَّذِي فَطَرَنَا} [طه: 72] ذكر الفراء، والزجاج فِيهِ وجهين: أحدهما لن نؤثرك على الله الذي خلقنا، والثاني أنه قسم.
{فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه: 72] فاصنع ما أنت صانع، {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه: 72] قال ابن عباس: إنما سلطانك وملكك فِي هذه الدنيا، فأما الآخرة فليس لك فِيها حظ ولا سلطان.
{إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا} [طه: 73] قال ابن عباس: يريد الشرك الذي كنا فِيهِ.
{وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه: 73] قال ابن عباس: إن فرعون كان يكره الناس على تعلم السحر.
وذكر فِي التفسير أنه أكره السحرة على معارضة موسى بالسحر.
{وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 73] قال محمد بن إسحاق: خير منك ثوابا وأبقى عقابا.
وقال محمد بن كعب: خير منك ثوابا إن أطيع، وأبقى عذابا منك إن عصي.
وهذا جواب قوله: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه: 71] وههنا انتهى الإخبار عن السحرة.
{إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى {74} وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى {75} جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى {76} } [طه: 74-76] قول الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا} [طه: 74] قال ابن عباس فِي رواية الضحاك: المجرم الكافر.
وقال فِي رواية عطاء: يريد الذي أجرم وفعل مثل ما فعل فرعون.
{فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} [طه: 74] أي: لا يموت فيستريح، ولا يحيا حياة تنفعه.
قال المبرد: لا يموت ميتة مريحة ولا يحيا حياة تنفعه، فهو يألم كما يألم الحي، ويبلغ به حالة الموت فِي المكروه إلا أنه لا يبطل فيها عن إحساس الألم، والعرب تقول: فلان لا حي ولا ميت إذا كان غير منتفع بحياته، وأنشد ابن الأنباري فِي مثل هذا المعنى:
ألا ما لنفس لا تموت فينقضي ... شقاها ولا تحيا حياة لها طعم
{وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا} [طه: 75] مصدقا بما جاء من عند الله، {قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ} [طه: 75] قال ابن عباس: قد أدى الفرائض.
{فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} [طه: 75] يعني: درجات الجنة، وبعضها أعلى من بعض، والعلى جمع العليا، وهو تأنيث الأعلى.
605 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْفَارِسِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْقُرَشِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، نا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، نا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، نا عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى لَيَرَاهُمْ مَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْهُمْ كَأَضْوَإِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْهُمْ»
قوله: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى {77}(3/215)
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ {78} وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى {79} } [طه: 77-79] {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} [طه: 77] أي: سر بهم ليلا من أرض مصر، {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ} [طه: 77] اجعل لهم طريقا فِي البحر بالضرب بالعصا، يبسا لا نداوة فِيهِ ولا بلل يابسا، وذلك أن الله تعالى أيبس لهم ذلك الطريق حتى لم يكن فِيها ماء وطين، {لا تَخَافُ دَرَكًا} [طه: 77] أي: لا تخاف أن يدركك فرعون من خلفك، ولا تخشى من البحر غرقا، وقرأ حمزة لا تخف جزما على النهي له من الخوف، معناه: لا تخف أن يدركك فرعون، واستأنف قوله: ولا تخشى على معنى: وأنت لا تخشى، كقوله: {يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [آل عمران: 111] .
{فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ} [طه: 78] أتبع ههنا مطاوع متعد من تبع، والباء في بجنوده زيادة، والمعنى: أمرهم أن يتبعوا موسى وقومه، وكان هو أيضا فِي جنوده، فغشيهم علاهم وسترهم، {مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78] قال ابن الأنباري: يعني: البعض الذي غشيهم.
لأنه لم يغشهم كل مائة، بل الذي غشيهم بعضه، فقال الله تعالى: الذي غشيهم، ليدل على أن الذي غرقهم بعض الماء.
قوله: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ} [طه: 79] يعني: حين دعاهم إلى عبادته، وما هدى وما أرشدهم حين أوردهم مواقع الهلكة، وهذا تكذيب له فِي قوله: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29] .
ثم ذكر الله منته على بني إسرائيل، فقال: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى {80} كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى {81} وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى {82} } [طه: 80-82] {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ} [طه: 80] يعني فرعون، غرقه بمرأى منهم، {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ} [طه: 80] وهو أن الله تعالى وعد موسى بعد أن أغرق فرعون ليأتي جانب الطور الأيمن فيؤتيه التوراة فِيها بيان ما يحتاجون إليه، {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [طه: 80] يعني فِي التيه، وهذا مخاطبته لمن كان فِي عصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اليهود.
قوله: كلوا أي: وقلنا لهم كلوا، {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ} [طه: 81] أي: لا تنظروا فيما أنعمت عليكم فتتظالموا، وقال الكلبي: لا تجحدوا نعمة الله فتكونوا طاغين.
{فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} [طه: 81] تجب لكم عقوبتي، وقرئ فيحل، {وَمَنْ يَحْلِلْ} [طه: 81] بالكسر والضم، قال الفراء: الكسر أحب إلي من الضم، لأنه من الحلول بمعنى الوقوع، ويحل الكسر يجب، وجاءني التفسير بالوجوب لا بالوقوع.
هذا كلامه، أو يحل بالكسر، من قولهم: حل الشيء يحل حلا وحلالا إذا انحلت عنه عقدة التحريم، وزال عنه الحظر، وذلك أنهم ما لم يطغوا كان العذاب ممنوعا محظورا عنهم، فإذا طغوا ارتفع ذلك الحظر، فحل لهم العذاب، وقوله: فقد هوى أي: هلك وسقط فِي النار، يقال: هوى يهوي هويا إذا وقع فِي مهواه.(3/216)
قوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} [طه: 82] قال ابن عباس: تاب من الشرك.
{وَآمَنَ} [طه: 82] وحد الله وصدقه، {وَعَمِلَ صَالِحًا} [طه: 82] أدى فرائض الله، {ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82] قال عطاء، عن ابن عباس: علم أن ذلك توفيق من الله له.
قال فِي رواية أبي صالح: علم أن لهذا ثوابا.
وهو قول الثوري، والشعبي، ومقاتل، وقال قتادة: ثم لزم الإسلام حتى يموت عليه.
وهذا اختيار الزجاج، لأنه يقول: ثم أقام إيمانه.
أخبرنا أبو نصر الجوزقي، أنا بشر بن أحمد المهرجاني، أنا أحمد بن علي، نا أبو سعيد الأشج، نا عبد الله بن خراش، عن العوام بن حوشب، عن سعيد بن جبير ثم اهتدى، قال: لزم السنة والجماعة.
{وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى {83} قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى {84} قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ {85} فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي {86} قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ {87} فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ {88} أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا {89} } [طه: 83-89] قوله: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى} [طه: 83] قال المفسرون: كانت المواعدة أن يوافي موسى وجماعة من وجوه قومه، فسار موسى بهم، ثم عجل من فيهم شوقا إلى ربه، وخلف السبعين ليلحقوا به، فقال الله: ما الذي حملك على العجلة حتى خلفت قومك وخرجت من بينهم.
{قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي} [طه: 84] هم بالقرب مني، يأتون بعدي، {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84] قال الكلبي: ليزداد رضا.
قال الله تعالى: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ} [طه: 85] قال الزجاج: ألقيناهم فِي فتنة ومحبة.
وقال ابن الأنباري: صيرناهم مفتونين أشقياء بعبادة العجل، لما سبق لهم فِي حكمتنا، {مِنْ بَعْدِكَ} [طه: 85] من بعد انطلاقك من بينهم، {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} [طه: 85] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد أن الضلالة كانت على يد السامري.
يعني أنه كان سبب إضلالهم، وقال الكلبي: صرفهم السامري إلى عبادة العجل.
قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: كان السامري من أهل باجربي، وقع بأرض مصر، فدخل فِي بني إسرائيل، وكان من قوم يعبدون البقر، وكان حب عبادة البقر فِي نفسه.
وقوله: {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [طه: 86] حزينا بما فعلوا، تقدم تفسيره فِي { [الأعراف،] قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} [سورة طه: 86] صدقا لإثبات الكتاب، {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} [طه: 86] مدة مفارقتي إياكم، {أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ} [طه: 86] يجب، {عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [طه: 86] بعبادتكم العجل، والمعنى: أم أردتم أن تصنعوا صنيعا يكون سبب غضب ربكم، {فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} [طه: 86] ما وعدتموه لي من حسن الخلافة بعدي، بيان هذا قوله: {بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي} [الأعراف: 150] .
فقال الذين لم يعبدوا العجل: {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} [طه: 87] أي: ونحن نملك من أمرنا شيئا، أي: لم نطق رد عبدة العجل من عظيم ما ارتكبوا، لكثرتهم وقلتنا، وجاء فِي الرواية أن الذين لم يعبدوا العجل كانوا اثني عشر ألفا، وافتتن الباقون بالعجل، وكانوا(3/217)
جميعا ست مائة ألف، وأكثر القراءة بالكسر فِي بمِلكنا والمعنى: بملكنا أمرنا، ومن قرأ {بِمَلْكِنَا} [طه: 87] بفتح الميم، فهو المصدر الحقيقي، يقال: ملكت الشيء أملكه ملكا، والملك ما ملك، ومن قرأ بضم الميم فمعناه بقدرتنا وسلطاننا، أي: لم نقدر على ردهم، ثم ذكروا قصة اتخاذ العجل، فقالوا: ولكنا حَمَلْنَا أوزارًا من زينة القوم أي: أثقالا وأحمالا، قال قتادة: كانت حليا تعوروها من آل فرعون، فساروا وهي معهم.
وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، والسدي: أن الأوزار هي الأحمال، وزينة القوم حلي آل فرعون، استعاره بنو إسرائيل قبل خروجهم من مصر فبقي فِي أيديهم، وكان موسى أمرهم بذلك.
وقرئ {حُمِّلْنَا} [طه: 87] بالتشديد وضم الحاء، والمعنى: جعلونا نحملها، قال أبو عبيدة: الوجه القراءة الأولى، لأن التفسير قد جاء أنهم حملوا معهم ما كان فِي أيديهم من حلي آل فرعون.
وقوله: {فَقَذَفْنَاهَا} [طه: 87] قال السدي: قال هارون لهم الحلي غنيمة، ولا تحل لكم الغنيمة، فاحفروا لها حفرة، فاطرحوها فِيها حتى يرجع موسى فيقضي فِيها.
فذلك قوله: {فَقَذَفْنَاهَا} [طه: 87] أي: طرحناها فِي الحفيرة، وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أوقد لهم هارون نارا وقال: اقذفوا ما كان معكم فِيها.
فجعلوا يأتون معهم من الحلي فيقذفونه فِيها حتى انسكبت الحلي فِيها، ثم ألقى السامري ما كان معه من تربة حافر فرس جبريل، قال قتادة: وقد كان فِي طرف عمامته قبضة من أثر فرس جبريل يوم جاوز ببني إسرائيل فقدفها فيه.
وهو قوله: {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} [طه: 87] يعني: ما كان معه من التراب.
{فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا} [طه: 88] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد لحما ودما له خوار كما يخور الحي من العجول.
وقال قتادة: جعل يخور خوار البقرة.
وقال الحسن: صور بقرة صاغها من الحلي التي كان معهم، ثم ألقي على فرس جبريل فانقلب حيوانا يخور.
{فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} [طه: 88] يعني: قال السامري ذلك ومن تابعه ممن افتتن بالعجل، قال سعيد بن جبير: عكفوا عليه وأحبوه حبا لم يحبوه شيئا قط.
وقوله: {فَنَسِيَ} [طه: 88] قال السدي: يقول: ترك موسى إلهه ههنا وذهب يطلبه.
وقال قتادة: يقول: إن موسى إنما طلب هذا ولكنه نسيه وخالفه فِي طريق آخر.
فعيرهم الله تعالى بصنيعهم، وقال موبخا: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا(3/218)
يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا} [طه: 89] أنه لا يرجع إليهم قولا، أي: لا يرد لهم جوابا، كما قال: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} [الأعراف: 148] .
{وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} [طه: 89] توبيخ لهم، إذ عبدوا من لا يملك ضر من ترك عبادته، ولا نفع عنده.
{وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي {90} قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى {91} } [طه: 90-91] {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ} [طه: 90] أي: من قبل أن يأتي موسى لما رأى ما وقعوا فيه، {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ} [طه: 90] ابتليتم به، {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ} [طه: 90] لا العجل، فاتبعوني فِي عبادته، {وَأَطِيعُوا أَمْرِي} [طه: 90] لا أمر السامري.
فعصوه و {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ} [طه: 91] لن نزال مقيمين على عبادة العجل، {حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه: 91] .
فلما رجع موسى: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا {92} أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي {93} قَالَ يَابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي {94} } [طه: 92-94] {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا} [طه: 92] بعبادة العجل.
ألا تتبعن لا زائدة، أي: ما منعك من اتباعي واللحوق بي، أفعصيت أمري إذ أقمت فيما بينهم وقد كفروا.
ثم أخذ برأس أخيه ولحيته غضبا منه عليه {قَالَ يَابْنَ أُمَّ} [طه: 94] قرئ بالفتح والكسر، ومعنى الكلام فيه فِي { [الأعراف،] لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [سورة طه: 94] أي: بشعر رأسي، إني خشيت إن فارقتهم واتبعتك، {أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [طه: 94] فرقت جماعتهم، وذلك أنه لو لحق بموسى لصاروا أحزابا، حزب يسيرون معه، وحزب يتخلفون عنه من الإيمان والإنكار على عبدة العجل، وحزب مع السامري، فلا يؤمن أن يصيروا فِي الخلاف إلى التسافك، فاعتذر بهذا، وقوله: {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه: 94] أي: ولم تحفظ وصيتي حين قلت لك اخلفني فِي قومي.
فلما اعتذر هارون بهذا العذر.
{قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ {95} قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي {96} قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ(3/219)
وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا {97} إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا {98} } [طه: 95-98] قال موسى للسامري: {فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} [طه: 95] أي: ما شأنك الذي دعاك إلى ما صنعت.
{قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} [طه: 96] أي: علمت ما لم تعلموا، وعرفت ما لم تعرفوا، فقال له موسى: وما الذي أبصرت دون بني إسرائيل.
قال: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} [طه: 96] يريد أثر فرس جبريل، وذلك أنه قبض قبضة من تراب حافر فرسه، وألقي فِي نفسي أن أقبض من أثرها، فما ألقيته على شيء إلا صار له روح ودم، فحين رأيت قومك طلبوا منك أن تجعل لهم إلها، حدثتني نفسي بذلك، {فَنَبَذْتُهَا} [طه: 96] فألقيتها فِي صورة العجل، وَكَذَلِكَ وكما حدثتك يا موسى، {سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} [طه: 96] زينت لي نفسي من أخذ القبضة، وإلقائها فِي صورة العجل.
قال له موسى: {فَاذْهَبْ} [طه: 97] أي: من بيننا، {فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ} [طه: 97] ما دمت حيا، {أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ} [طه: 97] قال ابن عباس: لك ولولدك.
والمساس فقال: من المماسة.
ومعنى لا مساس: لا يمس بعضنا بعضا، فصار السامري يهيم فِي البرية مع الوحش والسباع، لا يمس أحدا ولا يمسه أحد، عاقبه الله بذلك، فكان إذا لقي أحدا يقول: لا مساس.
أي لا تقربني ولا تمسني، وصار ذلك عقوبة له ولولده، حتى إن بقاياهم إلى اليوم يقولون ذلك.
وذكر أنه إن مس واحدٌ من غيرهم واحدًا منهم حم كلاهما فِي الوقت.
وقوله: {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ} [طه: 97] أي: وعدا لعذابك، يعني يوم القيامة، لن تخلف ذلك الموعد، ولن يتأخر عنك.
قال الزجاج: أي يكافئك الله على ما فعلت فِي القيامة، والله لا يخلف الميعاد.
ومن قرأ بكسر اللام كان المعنى: لا تخلف ذلك الموعد، أي ستأتيه ولا مذهب لك عنه.
{وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} [طه: 97] قال ابن عباس: يريد الذي تعبده وظللت عليه مقيما، يعني العجل، وظللت هو الأصل، ولكن اللام الأولى حذفت لثقل التضعيف والكسر، والعرب تفعل ذلك كثيرا، تقول: مست لي ومسست.
وقوله: {لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} [طه: 97] قال ابن عباس: حرقه بالنار ثم ذراه فِي اليم.
وهو النسف، ومعناه: نقص الشيء لتذهب به الريح، وهو التذرية، وذكر فِي التفسير أن موسى أخذ العجل فذبحه، فسألت منه دم، لأنه كان قد صار لحما ودما، ثم أحرقه بالنار، ثم ذراه فِي البحر.
ثم أخبرهم موسى عن إلههم، فقال: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ} [طه: 98] أي: هو الذي يستحق العبادة، لا العجل، {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه: 98] علمه علما تاما ولم يقصر عنه علمه.
{كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا {99} مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا {100} خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا {101} } [طه: 99-101] كَذَلِكَ أي: كما قصصنا عليك يا محمد نبأ موسى وقومه، {نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ} [طه: 99] من أخبار من(3/220)
مضى وتقدم، {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} [طه: 99] يعني القرآن.
ثم أوعد على الإعراض عنه، وترك الإيمان به، فقال: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا} [طه: 100] حملا ثقيلا من الإثم.
خالدين فيه أي: فِي عذاب ذلك الوزر، {وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا} [طه: 101] قال الكلبي: بئس ما حملوا على أنفسهم من المآثم كفرا بالقرآن.
وقوله: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا {102} يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا {103} نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا {104} } [طه: 102-104] {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} [طه: 102] وقرأ أبو عمرو ننفخ على معنى إضافة الأمر بالنفخ إلى الله، ويقوي ذلك ما عطف عليه من قوله: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ} [طه: 102] والوجه قراءة العامة، لقوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [الكهف: 99] وقوله: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} [طه: 102] فِي سورتين، قال ابن عباس: يريد بالمجرمين الذين اتخذوا مع الله إلها.
وقوله: زرقا قال: يريد زرق العيون، سود الوجوه.
ومعنى الزرقة الخضرة فِي سواد العين كعين السنور، والمعنى فِي هذا تشويه الخلق بسواد الوجوه، وزرقة العيون.
يتخافتون يتسارون فيما بينهم، فيقولون: إن لبثتم أي: ما لبثتم، أي من النفخة الأولى إلى الثانية، إلا عشرا إلا عشر ليالي، وذلك أنه يكف عنهم العذاب فيما بين النفختين، وهو أربعون سنة، استقصروا مدة لبثهم لهول ما عينوا.
قال الله تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} [طه: 104] أي: بما يتسارون بينهم، {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} [طه: 104] أعقلهم وأعدلهم قولا، {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا} [طه: 104] نسوا مقدار لبثهم لشدة ما دهمهم.
قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا {105} فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا {106} لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا {107} يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا {108} } [طه: 105-108] {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} [طه: 105] قال ابن عباس: سأل رجل من ثقيف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: كيف تكون الجبال يوم القيامة؟ فأنزل الله هذه الآية.
وقوله: {يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه: 105] قال المفسرون: يصيرها الله رمالا تسيل، ثم يصيرها كالصوف المنفوش يطيرها الرياح.
{فَيَذَرُهَا} [طه: 106] أي: يدع أماكنها من الأرض إذا نسفها، قاعا قال الفراء: القاع ما انبسط من الأرض، ويكون فيه السراب نصف النهار، وجمعه قيعة، ومنه قوله: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور: 39] .
{صَفْصَفًا} [طه: 106] والصفصف الأملس الذي لا نبات فيه، ونحو هذا قال المفسرون.
{لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه: 107] قال عكرمة، عن ابن عباس: ليس(3/221)
فيه منخفض ولا مرتفع.
وقال مجاهد: انخفاضا وارتفاعا.
وقال قتادة: لا ترى فِيها صدعا ولا أكمة.
وقال الحسن: العوج ما انخفض من الأرض، والأمت ما نشز من الروابي.
وتقول العرب: ملأ سقاءه حتى ليس فيه أمت، إذا لم ينثن لتمام الامتلاء.
قوله: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ} [طه: 108] قال الفراء: يعني صوت الداعي للحشر.
قال المفسرون: يتبعون صوت داعي الله الذي يدعوهم إلى موقف القيامة.
{لا عِوَجَ لَهُ} [طه: 108] لا عوج لهم عن الداعي، فلا يقدرون إلا أن يتبعوه، قال ابن عباس: كلهم تبع الصوت لا يتعوج عنه، {وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} [طه: 108] سكتت وذلت وخضعت، {فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا} [طه: 108] قال أكثر المفسرين: يعني صوت نقل الأقدام إلى المحشر، والهمس الصوت الخفي كصوت أخفاف الإبل فِي المشي، وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: يعني تحريك الشفاه بغير منطق.
وهو قول مجاهد: الكلام الخفي.
والمعنى على هذا التفسير: سكتت الأصوات، فلا يجهر أحد بكلام إلا كالسر من الإشارة بالشفة، وتحريك الفم من غير صوت.
{يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا {109} يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا {110} وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا {111} وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا {112} } [طه: 109-112] {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} [طه: 109] أي: لا تنفع الشفاعة أحد من الناس إلا من أذن الله أن يشفع له، فذلك الذي ينفعه الشفاعة، {وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا} [طه: 109] قال ابن عباس: يعني قال: لا إله إلا الله، وهذا يدل على أنه لا يشفع لغير المؤمن.
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [طه: 110] الكناية راجعة إلى الذين كفروا في قوله: {يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ} [طه: 108] قال ابن عباس: يريد ما قدموا وما خلفوا.
وقال الكلبي: ما بين أيديهم من أمر الآخرة.
وما خلفهم من أمر الدنيا، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] الكناية تعود إلى ما في قوله: {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [طه: 110] أي: هو يعلم ذلك وهم لا يعلمونه، ويجوز أن تعود الكناية إلى الله، لأن عباده لا يحيطون به علما.
قوله: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه: 111] قال ابن عباس فِي رواية الوالبي: ذلت.
وهو قول قتادة، وقال فِي رواية عطاء: خضعت.
وقال طلق بن حبيب: هو السجود على الجبهة.
قال الزجاج: معنى عنت فِي اللغة: خضعت، وسمي الاسير عانيا لخضوعه فِي يد من أسره، يقال: عنا يعنو عنوا إذا خضع.
{وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه: 111] قال ابن عباس: خسر من أشرك بالله.
{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} [طه: 112] مَنْ للجنس، والمعنى: من يعمل الصالحات، وهو مؤمن، لأن غير المؤمن لا يقبل عمله، ولا يكون صالحا، {فَلا يَخَافُ ظُلْمًا} [طه: 112] أي: فهو لا يخاف، وقرأ ابن كثير: فلا يخف على(3/222)
النهي، فهو حسن، لأن المعنى: ومن يعمل من الصالحات، وهو مؤمن فليأمن، لأنه لم يفرط فيما وجب عليه، ونهيه عن الخوف أمر بالأمن، وقوله: {ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه: 112] الهضم: النقص، يقال: يهضمني فلان حقي، أي ينقصني.
قال الوالبي، عن ابن عباس: لا يخاف أن يظلم فيزاد عليه فِي سيئاته، ولا أن يهضم من حسناته.
وقال الضحاك: لا يؤخذ بذنب لم يعمله، ولا تبطل حسنة عملها.
{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا {113} فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا {114} } [طه: 113-114] وَكَذَلِكَ كما بينا فِي هذه ال { [، أنزلناه أنزلنا هذا الكتاب،] قُرْءَانًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ} [سورة طه: 113] بينا فيه ضروب الوعيد، قال قتادة: يعني وقائعه فِي الأمم المكذبة.
لعلهم يتقون ليكون سببا لاتقائهم الشرك بالاتعاظ بمن قبلهم، {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه: 113] يجدد لهم القرآن اعتبارا، فيتذكروا به عقاب الله للأمم، فيعتبروا.
وقوله: {فَتَعَالَى اللَّهُ} [طه: 114] أي: جل عن إلحاد الملحدين، وعما يقول المشركون فِي صفته، الملك الذي بيده الثواب والعقاب، فهو يملكها، الحق معناه ذو الحق، وقد تقدم الكلام فيه {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ} [طه: 114] قال ابن عباس، والمفسرون: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبادر جبريل، فيقرأ قبل أن يفرغ من الوحي، حرصا منه على ما كان ينزل عليه، وشفقة على القرآن، مخافة الانفلات والنسيان، فنهاه الله عن ذلك، يقول: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ} [طه: 114] أي: بقراءته، {مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 114] من قبل أن يفرغ جبريل من تلاوته عليك، وهذا كقوله: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16] .
{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] أي: بالقرآن ومعانيه، وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية، قال: اللهم زدني علما وإيمانا ويقينا.
{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا {115} وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى {116} فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى {117} إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى {118} وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى {119} فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى {120} فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى {121} ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى {122} } [طه: 115-122] قوله: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ} [طه: 115] أي: أمرناه وأوصينا إليه أن لا يأكل من الشجرة، من قبل هؤلاء الذين نقضوا عهدي، وتركوا الإيمان بي، وهم الذين ذكر فِي قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [طه: 113] والمعنى أنهم إن نقضوا العهد، فإن آدم أيضا عهدنا إليه،(3/223)
فنسي قال ابن عباس، ومجاهد، والسدي: ترك عهدي وما أمر به.
{وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] معنى العزم فِي اللغة: توطين النفس على الفعل، قال عطية العوفي: لم نجد له حفظا لما أمر به.
وقال الحسن: صبرا عما نهي عنه.
وقال ابن قتيبة: رأيا معزوما عليه.
حيث أطاع عدوه إبليس الذي حسده، وأبى أن يسجد له، وقال الحسن:، فقال الله: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] .
606 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ الْمَخْلَدِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَازِمٍ، نا كَامِلُ بْنُ مُكْرَمٍ، نا جِبْرِيلُ بْنُ مجاعٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ، نا وَكِيعٌ، عَنْ أَبِي فَضَالَةَ، عَنْ لُقْمَانَ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، قَالَ: لَوْ أَنَّ أَحْلامَ بَنِي آدَمَ وُضِعَتْ فِي كِفَّةٍ وَوُضِعَ حُلْمُ آدَمَ لَرَجَحَ حُلْمُهُ حُلْمَهُمْ، ثُمَّ قَرَأَ {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}
وما بعد هذا تقدم تفسيره إلى قوله: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه: 117] قال عطاء: يريد شقاء الدنيا ونصبها.
وقال الحسن: عنى به شقاء الدنيا لا ترى ابن آدم إلا ناصبا شقيا.
وقال السدي: يعني الحرث والزرع، والعجن والخبز، ولم يقل فتشقيا، لأن أول الآية خطاب لآدم.
إن لك يا آدم، ألا تجوع في الجنة، ولا تعرى وعده الله في الجنة الشبع والاكتساء، وألا يصيبه فيها عطش ولا حر.
وهو قوله: {وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} [طه: 119] ومن قرأ وإنك بالكسر فعلى الاستئناف وعطف جملة كلام على جملة، والظمأ مصدر قولك: ظمأ يظمأ إذا عطش، ويقال: ضحى الرجل يضحى ضحا وضحيا إذا أبرز الشمس فأصابه حرها، قال الضحاك، عن ابن عباس: يقول: لا تعطش فيها كما يعطش أهل الدنيا، ولا يصيبك فيها حر كما يصيب أهل الدنيا.
والمعنى: لا تبرز للشمس فيؤذيك حرها، لأنه ليس في الجنة شمس، إنما هو ظل ممدود.
{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} [طه: 120] كقوله: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} [الأعراف: 20] وقد تقدم، {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} [طه: 120] على شجرة من أكل منها لم يمت، {وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه: 120] جديد ولا يفنى، وهذا كقوله: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ} [الأعراف: 20] الآية، وما بعد هذا مفسر في { [الأعراف إلى قوله:] وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ} [سورة طه: 121] أي: بأكل الشجرة التي نهي عنها، فغوى أي: فعل ما لم يكن له فعله، وقيل: ضل، حيث طلب الخلد والملك بأكل ما نهي عن أكله، هذان قولان حكاهما المفسرون، وقال ابن الأعرابي: الغي الفساد.
ومعنى {فَغَوَى} [طه: 121] ههنا: فسد عليه عيشه، قال ابن قتيبة: أكل آدم من الشجرة التي نهي عنها باستزلال إبليس وخدايعه، والقسم له بالله أنه لمن الناصحين، حتى دلاه بغروره، ولم يكن ذنبه عن اعتقاد متقدم، ونية صحيحة، فنحن نقول عصى آدم وغوى كما قال الله، ولا نقول آدم عاصٍ وغاوٍ كما تقول لرجل قطع ثوبه وخاطه: قد قطعه وخاطه ولا، نقول: هو خياط، حتى يكون معاودا لذلك الفعل، معروفا به.
607 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْهَيْثَمِ الأَنْبَارِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْعَوَّامِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الرَّمْلِيُّ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ حِبَّانَ الأَحْمَرُ، نا ابْنُ أَبِي ذُبَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ(3/224)
أَبِي سَعِيدٍ، وَيَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقِيَ مُوسَى آدَمَ، فَقَالَ: أَنْتَ آدَمُ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْكَنَكَ الْجَنَّةَ، وَأَمَرَ الْمَلائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، فَأَخْرَجْتَ النَّاسَ مِنَ الْجَنَّةِ بِذَنْبِكَ وَخَطِيئَتِكَ، فَقَالَ لَهُ آدَمُ: وَأَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ التَّوْرَاةَ، فِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ فِيكُمْ، وَجَدْتَ اللَّهَ كَتَبَ التَّوْرَاةَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي، قَالَ: بِأَرْبَعِينَ سَنَةً، قَالَ: فَوَجَدْتَ فِيهَا: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَفَتَلُومُنِي أَنْ أَعْمَلَ عَمَلا قَدْ كَتَبَهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مُوسَى الأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذُبَابٍ
قوله: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ} [طه: 122] قال ابن عباس: اصطفاه.
فتاب عليه فعاد عليه بالعفو، وهدى هداه للتوبة حتى قال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23] الآية، وما بعد هذا مفسر في { [البقرة إلى قوله:] قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنْي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى {123} وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى {124} قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا {125} قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى {126} } [سورة طه: 123-126] {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه: 123]
608 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، أنا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَاتَّبَعَ مَا فِيهِ هَدَاهُ اللَّهُ مِنَ الضَّلالَةِ، وَوَقَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْحِسَابِ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: أَجَارَ اللَّهُ تَابِعَ الْقُرْآنِ مِنْ أَنْ يَضِلَّ فِي الدُّنْيَا وَيَشْقَى فِي الآخِرَةِ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ
قوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} [طه: 124] قال عطاء: عن موعظتي.
وقال الكلبي.
عن القرآن، فلم يؤمن ولم يتبعه.
{فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124] الضنك الضيق والشدة، وكل ما ضاق فهو ضنك، يقال: منزل ضنك، وعيش ضنك، وضنك عيشه يضنك ضناكة وضنكا، وأكثر ما جاء في تفسير المعيشة الضنك: عذاب القبر، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعن أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري.
609 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أنا بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَحْمُودٍ، أنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسْتَفَاضِ، نا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أنا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ أَبَا السَّمْحِ حَدَّثَهُ، عَنْ ابْنِ حُجَيْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ(3/225)
لِلْمُؤْمِنِ فِي قَبْرِهِ رَوْضَةً خَضْرَاءَ وَيُرَحَّبُ لَهُ قَبْرُهُ سَبْعِينَ ذِرَاعًا، وَيُنَوَّرُ لَهُ قَبْرُهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، أَتَدْرُونَ فِيمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} أَتَدْرُونَ مَا الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: عَذَابُ الْكَافِرِ فِي قَبْرِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُ لَيُسَلَّطُ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ تِنِّينًا، يَنْفُخُونَ فِي جِسْمِهِ وَيَلْسَعُونَهُ وَيَخْدِشُونَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ "
610 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ الْمَخْلَدِيُّ، أنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، أنا أَبُو مُسْلِمٍ الْكَجِّيُّ، نا أَبُو عَمْرٍو الضَّرِيرُ، أنا حَمَّادٌ، أنا أَبُو حَازِمٍ الْمَدَنِيُّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ الزُّرَقِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي قَوْلِهِ، عَزَّ وَجَلَّ، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} قَالَ: الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ عَذَابُ الْقَبْرِ، يَلْتَئِمُ عَلَى صَاحِبِهِ، فَلا يَزَالُ يُعَذَّبُ حَتَّى يُبْعَثَ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ، قَالَ: يُرِيدُ ضَغْطَةَ الْقَبْرِ حَتَّى يَخْتَلِفَ أَضْلاعُهُ
وقوله: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124] قيل في التفسير: أعمى البصر.
وقيل: أعمى عن الحجة.
يعني أنه لا حجة له يهتدي إليها، والأعمى إذا أطلق كان الظاهر عمى البصر.
يدل على هذا قوله: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} [طه: 125] قال الفراء: يقال إنه يخرج من قبره بصيرا، فيعمى في حشره.
قال الله مجيبا لهذا الكافر: كذلك أي: الأمر كما ترى، {أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} [طه: 126] فتركتها ولم تؤمن بها، {وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 126] وكما تركتها في الدنيا نتركك اليوم في النار.
{وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 127] وكذلك وكما ذكرنا، {نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ} [طه: 127] أشرك، {وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 127] أفظع وأعظم مما ذكر من عذاب القبر.
{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُولِي النُّهَى {128} وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى {129} فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى {130} } [طه: 128-130] {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} [طه: 128] يبين لهم إذا انظروا، يعني كفار مكة، {كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ} [طه: 128] يقول: أفلم يبين لهم طريق الاعتبار كثرة إهلاكنا القرون قبلهم بتكذيب الرسل، فيعتبروا ويؤمنوا.
وقوله: {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} [طه: 128] يعني أهل مكة، كانوا يتجرون ويسيرون في مساكن عاد وثمود، فيها علامات الإهلاك، أفلا يخافون أن يقع بهم مثل ما وقع بالذين رأوا مسأكنهم، وهو قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُولِي النُّهَى {128} وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} [طه: 128-129] في تأخير العذاب عن هؤلاء الكفار إلى يوم القيامة، وهو قوله: وأجل مسمى، {لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} [طه: 129] لكان العذاب لازما لهم، واللزام مصدر وصف به العذاب.(3/226)
قوله: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [طه: 130] أمر الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصبر على ما يسمع من أذاهم إلى أن يحكم الله فيهم، ثم حكم بالقتل، فنسخ الصبر، {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [طه: 130] صل لله بالحمد له والثناء عليه، {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} [طه: 130] يريد الفجر، وقبل غروبها يعني العصر، {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ} [طه: 130] ساعاته، واحدها إنْيٌ، قال ابن عباس: يريد أول الليل، المغرب والعشاء.
{فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} [طه: 130] يريد الظهر، وسمي وقت صلاة الظهر أطراف النهار لأن وقته عند الزوال، وهو طرف النصف الأول، وطرف النصف الثاني.
611 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ، أنا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، نا عَبْدَانُ بْنُ أَحْمَدَ، نا عُثْمَانُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا جَرِيرٌ، وَوَكِيعٌ، وَأَبُو أُسَامَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَظَر إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؛ لَيْلَةَ أَرْبَعَةَ عَشْرَةَ، فَقَالَ: " إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ، عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا تَرَوْنَ هَذَا لا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لا تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا، وَقَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ جَرِيرٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، وَوَكِيعٍ
وقوله: لعلك ترضى قال ابن عباس: ترضى الثواب والمعاد.
ومن ضم التاء، فمعنا: ترضى بما تعطاه من الدرجة الرفيعة، واختار أبو عبيدة هذه القراءة واضعًا لها معنين: ترضا تعطى الرضا، والآخر يرضاك الله وتصديقها قوله: {وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 55] قال: وليس في الآخرة إلا وجه واحد.
قوله: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى {131} وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى {132} } [طه: 131-132] {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} [طه: 131] الآية قال أبو رافع: نزل برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضيف، فبعثني إلى يهودي، فقال: " قل له: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول، يعني كذا وكذا من الدقيق، وأسلفني إلى هلال رجب ".
فأتيته فقلت له ذلك، فقال: والله لا أبيعه ولا أسلفه إلا برهن.
فأتيت رسول الله، فأخبرته، فقال: «والله لو باعني أو أسلفني لقضيته، وإني لأمين في السماء أمين في الأرض، اذهب بدرعي الحديد إليه» .
فنزلت هذه الآية تعزية له عن الدنيا، وقد فسرنا هذه الآية في { [الحجر، قال أبي بن كعب في هذه ال:: فمن لم يتعز بعزاء الله تقطعت نفسه حسرات على الدنيا، ومن يتبع بصره فيما في أيدي الناس يطل حزنه ولا يشفي غيظه، ومن لم ير لله نعمة إلا في مطعمه ومشربه نقص علمه ودنا عذابه.
وقوله:] زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [طه: 131] يعني بهجتها ونضارتها وما يروق الناظر عند الرؤية، قال ابن عباس، والسدي: زينة الدنيا.
وقوله: لنفتنهم فيه لنجعل ذلك فتنة وضلالة بأن أزيد(3/227)
لهم النعمة فيزيدوا كفرا وطغيانا، ورزق ربك في المعاد، يعني الجنة، خير وأبقى أكثر وأدوم.
قوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ} [طه: 132] قال سعيد بن جبير: قومك يعني من كان على دينه، كقوله: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ} [مريم: 55] وقد تقدم:
612 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عُمَرَ النَّيْسَابُورِيُّ، أَخْبَرَنَا حَمْزَةُ بْنُ شَبِيبٍ الْمَعْمَرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، أنا أَبُو النُّعْمَانِ، نا ابْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ إِذَا نَزَلَ بِأَهْلِهِ ضِيقٌ أَمَرَهُمْ بِالصَّلاةِ، وَتَلا هَذِهِ الآيَةَ: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ
وقوله: واصطبر عليها أي: اصبر على الصلاة، فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر،} لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا { [طه: 132] لخلقنا ولا لنفسك،} نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ { [طه: 132] قال ابن عباس، والسدي: يعني الجنة.
للتقوى قال الأخفش: لأهل التقوى.
قال ابن عباس: يريد الذين صدقوك واتبعوك واتقوني.
قوله:} وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى {133} وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى {134} قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى {135} { [طه: 133-135] وقالوا يعني المشركين،} لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ { [طه: 133] هلا يأتينا محمد بآية من ربه كما أتي بها الأنبياء، نحو الناقة والعصا،} أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى { [طه: 133] بيان ما في الكتب من أنباء الأمم التي أهلكناهم لما كفروا، ثم كفروا بها فماذا يؤمنهم أن يكون حالهم في سؤالهم الآيات كحال أولئك، وهذا البيان إنما قص عليهم في القرآن.
} وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ { [طه: 134] يعني مشركي مكة،} بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ { [طه: 134] القبل: بعث محمد ونزول القرآن، لقالوا يوم القيامة:} رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا { [طه: 134] هلا أرسلت إلينا رسولا يدعونا إلى طاعتك، فنتبع آياتك نعمل بما فيها} مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ { [طه: 134] بالعذاب، ونخزى في جهنم.
قل لهم يا محمد: كل منا ومنكم، متربص نحن نتربص بكم وعدا لنا فيكم، وأنتم تتربصون بنا الدوائر، فانتظروا، فستعلمون إذا جاء الأمر، وقامت القيامة،} مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ [طه: 135] الدين المستقيم ومن اهتدى من الضلالة، أنحن أم أنتم؟(3/228)
سورة الأنبياء
مكية وآياتها اثنتا عشرة ومائة.
613 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ حَاسَبَهُ اللَّهُ حِسَابًا يَسِيرًا، وَصَافَحَهُ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِ كُلُّ نَبِيٍّ ذُكِرَ اسْمَهُ فِي الْقُرْآنِ»
{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ {1} مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ {2} لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ {3} قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {4} بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ {5} } [الأنبياء: 1-5] بسم الله الرحمن الرحيم اقترب افتعل من القرب، يقال: قرب الشيء واقترب.
للناس يعني: أهل مكة، حسابهم محاسبة الله إياهم على أعمالهم، قال الزجاج: المعنى اقترب للناس وقت حسابهم.
يعني يوم القيامة كما قال: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1] واقتراب حسابهم على أن ما هو آت قريب، {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} [الأنبياء: 1] عما يفعل الله بهم ذلك اليوم، معرضون عن التأهب له بالإيمان بمحمد.
{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ} [الأنبياء: 2] من وعظ بالقرآن على لسان محمد، محدث بالإنزال، لأن القرآن أنزل آية بعد آية، و { [بعد سورة، فالإحداث يعود إلى الإنزال، وقوله:] إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [سورة الأنبياء: 2] قال ابن عباس: يستمعون القرآن مستهزئين.
لاهية قلوبهم غافلة عما يراد بهم، وأسروا النجوى تناجوا فيما بينهم، يعني المشركين، ثم بين من هم، فقال: الذين ظلموا أشركوا بالله، والذين في محل رفع على البدل من الضمير في {وَأَسَرُّوا} [الأنبياء: 3] قال المبرد: وهذا كقولك في الكلام: إن الذين إلى الدار انطلقوا بنو عبد الله، على البدل مما في انطلقوا.
ثم بين سرهم الذي تناجوا به، فقال: {هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الأنبياء: 3] أي أنه آدمي لحم ودم مثلكم، ليس مثل الملائكة، {(3/229)
أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [الأنبياء: 3] قال السدي: يقولون: إن متابعة محمد متابعة السحر.
والمعنى: أتقبلون السحر وأنتم تعلمون أنه سحر.
قل لهم يا محمد: {رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأنبياء: 4] أي: لا يخفى عليه شيء مما يقال في السماء والأرض، وقرأ أهل الكوفة قال ربي على معنى قال محمد ربي.
يعلم القول وكذا هو في مصاحفهم، وهو السميع لما تكلموا به، العليم بما قالوا.
قوله: بل قالوا معنى بل ههنا انتقال إلى خبر آخر عنهم، على أن الأول مفروغ عنه، وليس معنى بل من الله على الترك للأول بإبطال له، والمشركون مما دخلتهم من الحيرة في أمر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يدرون ما قصته، فمرة قالوا للقرآن: إنه سحر.
ومرة قالوا: أضغاث أحلام قال قتادة: تخاليط أحلام رآها في النوم.
ومرة قالوا: إنه مفتر، وهو قوله: بل افتراه أي: اختلقه من نفسه، {بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ} [الأنبياء: 5] قال ابن عباس: بآية مثل الناقة والعصا.
قال الزجاج: اقترحوا الآيات التي لا يقع معها إمهال.
فقال الله مجيبا لهم: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ} [الأنبياء: 6] قبل مشركي مكة، من قرية يعني أهلها، أهلكناها وصف للقرية، والمعنى: ما آمنت قرية مهلكة بالآيات المرسلة، أفهم يؤمنون يعني أن الأمم التي أهلكناها بتكذيب الآيات لم يؤمنوا بالآيات لما أتتهم، فكيف يؤمن هؤلاء؟ يعني أن مجيء الآيات لو كان سببا للإيمان من غير إرادة الله لهم ذلك، لكان سببا لإيمان أولئك، فلما أبطل أن يكون سببا لإيمان أولئك، بطل أن يكون سببا لإيمان هؤلاء.
{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ {7} وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ {8} ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ {9} } [الأنبياء: 7-9] قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [الأنبياء: 7] لقولهم: هل هذا إلا بشر مثلك؟ يقول الله: لم نرسل قبل محمد إلا رجالا من بني آدم، لا ملائكة.
{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [الأنبياء: 7] يعني: أهل الكتابين في قول أكثر المفسرين.(3/230)
{إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] أن الرسل بشر، وذلك أن اليهود والنصارى لا ينكرون أن الرسل كانوا بشرا، وإن أنكروا نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا الأمر بالسؤال للمشركين لأنهم إلى تصديق من لم يؤمن بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقرب منهم إلى تصديق من آمن.
وما جعلناهم يعني الرسل، جسدا قال الزجاج: هو واحد ينبئ عن جماعة.
أي: وما جعلناهم ذوي أجساد، {لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} [الأنبياء: 8] وذلك أنهم قالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام؟ فأعلموا أن الرسل جميعا كانوا يأكلون الطعام، {وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} [الأنبياء: 8] يعني: يموتون كسائر البشر.
{ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ} [الأنبياء: 9] أي: أنجزنا وعدهم الذي وعدناهم بإنجائهم وإهلاك من كذبهم، وهو قوله: فأنجيناهم أي: من العذاب، ومن نشاء قال ابن عباس: يعني الذين صدقوهم، وأهلكنا المسرفين قال: يريد المشركين، وهذا تخويف لكفار مكة.
ثم ذكر منته عليهم بالقرآن، فقال: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ {10} وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ {11} فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ {12} لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ {13} قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ {14} فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ {15} } [الأنبياء: 10-15] {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ} [الأنبياء: 10] يا معشر قريش، {كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء: 10] قال: يريد فيه شرفكم، كقوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] وذلك أنه كتاب عربي بلغة قريش.
وقال الحسن: فيه ذكركم، أي ما تحتاجون إليه من أمر دينكم.
أفلا تعقلون ما فضلتكم به على غيركم، أنزلتكم حرمي، وبعثت فيكم نبيي.
ثم خوفهم فقال: وكم قصمنا القصم: كسر الشيء ودقه.
قال مجاهد، والسدي: أهلكنا.
وقال الكلبي: عذبنا.
{مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} [الأنبياء: 11] أي: كافرة، يعني أهلها، وأنشأنا وأحدثنا وأوجدنا بعد إهلاك أهلها، {قَوْمًا آخَرِينَ {11} فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا} [الأنبياء: 11-12] رأوا عذابنا بحاسة البصر، ويجوز أن يكون المعنى: لما ذاقوا عذابنا، قال المفسرون: هؤلاء كانوا قوما كذبوا نبيهم، وقتلوه، فسلط الله عليهم بخت نصر حتى قتلهم، وسباهم، ونكل فيهم.
وعلى ما قالوا الآية مخصوصة، وإن وردت عامة، وقوله: {إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} [الأنبياء: 12] أي: يفرون وينهزمون ويهربون، وأصله من ركض الرجل مركل الدابة برجليه، يقال: ركض الفرس إذ كده بساقيه.
لا تركضوا أي: قيل لهم: لا تركضوا، وذلك أنهم لما أخذتهم السيوف انهزموا مسرعين، فقالت لهم الملائكة بحيث سمعوا النداء: لا تركضوا {وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ} [الأنبياء: 13] أي: خولتم ونعمتم، وقال ابن قتيبة: إلى نعمكم التي أترفتم.
وقد بينا هذا عند قوله: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء: 16] ، وقوله: لعلكم تسألون أي: شيئا من دنياكم، والمعنى أن الملائكة استهزأت بهم،(3/231)
فقالوا لهم: ارجعوا إلى مساكنكم لعلكم تسئلون شيئا من دنياكم، فإنكم أهل ثروة ونعمة، يقولون ذلك استهزاء بهم، وهذا قول قتادة في هذه الآية، وهو الصحيح.
ف قالوا عند ذلك: {يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء: 14] لأنفسنا حيث كذبنا رسل ربنا، والمعنى أنهم اعترفوا بالذنب حين عاينوا العذاب، وقالوا هذا على سبيل الندم حين لم ينفعهم الندم، قال الله تعالى: {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} [الأنبياء: 15] ما زالت تلك الكلمة، التي هي قولهم: يا ويلنا، دعاءهم يدعون بها ويرددونها، {حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا} [الأنبياء: 15] بالسيوف كما يحصد الزرع بالمنجل، خامدين يعني ميتين كخمود النار إذا طفئت.
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ {16} لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ {17} بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ {18} وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ {19} يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ {20} } [الأنبياء: 16-20] قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الأنبياء: 16] يريد لم نخلقهما عبثا ولا باطلا، بل خلقناهم لأمر، وهو ما ذكر ابن عباس، فقال: لأجازي أوليائي، وأعذب أعدائي.
وقال غيره: خلقناها دلالة على قدرتنا ووحدانيتنا، ليعتبروا بخلقها، ويتفكروا فيها، فيعلموا أن العبادة لا تصلح إلا لخالقها.
قوله: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا} [الأنبياء: 17] قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد النساء.
وهو قول الحسن، وقتادة، قالا: اللهو بلغة اليمن المرأة.
وقال في رواية الكلبي: يعني الولد.
وهو قول السدي.
وقوله: {لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} [الأنبياء: 17] قال المفسرون: من الحور العين.
وهذا إنكار على من أضاف الصاحبة والولد إلى الله، واحتجاج عليهم بأنه لو كان جائزا في صفته لم يتخذه بحيث يظهر لهم، ولستر ذلك حتى لا يطلعوا عليه.
وقال الزجاج: المرأة لهو الدنيا، وكذلك الولد.
والمعنى على ذي اللهو، أي الذي يلهى به، ومعنى اللهو طلب الترويح عن النفس، يقول: لو أردنا أن نتخذ ولدا ذا لهو، أو امرأة ذات لهو، لأتخذناه من لدنا.
وقد أحسن ابن قتيبة في شرح الآية كل الإحسان، فقال: التفسير أن المرأة والولد في اللهو متقاربان، لأن امرأة الرجل لهوه، وولده لهوه، ولذلك يقال: امرأة الرجل وولده ريحانتاه، وأصل اللهو الجماع، كني عنه باللهو كما كني عنه بالسر، ثم قيل للمرأة لهو لأنها تجامع، قال امرؤ القيس:
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت ... وأن لا يحسن اللهو أمثالي
أي النكاح، وتاويل الآية أن النصارى لما قالت في المسيح وأمه ما قالت، قال الله عز وجل: لو أردنا أن نتخذ، أي صاحبة وولدا كما يقولون، لاتخذنا ذلك من لدنا، أي: من عندنا ولم نتخذه من عندكم، لأنكم تعلمون أن ولد الرجل(3/232)
وزوجه يكونون عنده لا عند غيره.
وقوله: {إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 17] المفسرون يقولون: ما كنا فاعلين.
قال الفراء، والمبرد، والزجاج: يجوز أن تكون إن للنفي، كما ذكر المفسرون نحو قوله: {إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ} [فاطر: 23] ، {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ} [الملك: 20] ويكون المعنى تحقيقا لكذبهم، أي ما فعلنا ذلك ولم نتخذ صاحبة ولا ولد، قالوا: ويجوز أن تكون أن للشرط، أي: إن كنا ممن يفعل ذلك لاتخذناه من لدنا، قال الفراء: وهذا أشبه الوجهين بمذهب العربية.
قوله: بل أي: دع ذاك الذي قالوا، فإنه كذب وباطل، {نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} [الأنبياء: 18] نسلط الحق على باطلهم ونلقيه عليه حتى يذهبه، وعنى بالحق القرآن، وبالباطل كذبهم، فيدمغه فيهلكه ويكسره، وقال الزجاج: يذهبه ذهاب الصغار والإذلال.
وذلك أن أصله إصابة الدماغ بالضرب، وهو مقتل، {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18] زائل ذاهب من قوله: {وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء: 81] والمعنى: أنَّا نبطل كذبهم بما تبين من الحق حتى يضمحل ويذهب، ثم أوعدهم على كذبهم، فقال: {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18] لكم يا معشر الكفار الويل من كذبكم ووصفكم الله بما لا يجوز.
ثم بين أن جميع المؤمنين عبيده، فقال: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنبياء: 19] عبيدا وملكا، ومن عنده يعني الملائكة، {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأنبياء: 19] قال الزجاج: أي هؤلاء الذين ذكرتم أنهم أولاد الله، عباد الله لا يأنفون من عبادته، ولا يتعظمون عنا، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأعراف: 206] ، ولا يستحسرون يقال: حسر واستحسر إذا تعب وأعيا.
قال قتادة، ومقاتل: لا يعيون.
وقال السدي: لا ينقطعون عن العبادة.
{يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [الأنبياء: 20] ينزهون الله دائما بقولهم: سبحان الله.
لا يفترون لا يضعفون ولا يملون، قال الزجاج: مجرى التسبيح منهم كمجرى النفس منا، لا يشغلنا عن النفس شيء، فكذلك تسبيحهم دائم.
أخبرنا أحمد بن محمد بن أحمد بن الحارث، أنا عبد الله بن محمد بن حبان، نا أبو يحيى الرازي، نا سهل بن عثمان، نا أبو معاوية، عن الشيباني، عن حسان بن المخارق، عن عبد الله بن الحارث، قال: قلت لكعب: أرأيت قول الله: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20] أما يشغلهم شأن؟ أما تشغلهم حاجة؟ قال: يابن أخي، جعل لهم التسبيح كما جعل لكم النفس، ألست تأكل وتشرب، وتقوم وتجلس، وتجيء وتذهب، وتتكلم وأنت تتنفس؟ وكذلك جعل لهم التسبيح.
ثم عاد إلى توبيخ المشركين، فقال: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ {21} لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ {22} لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ {23} } [الأنبياء: 21-23] {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً} [الأنبياء: 21] هذا استفهام معناه الجحد، أي لم يتخذوا آلهة، من الأرض وأصنامهم كانت من الأرض، من أيِّ جنس كان، من خشب، أو حجارة، أو ذهب، أو فضة.
هم ينشرون يحيون، يقال: أنشر الله الميت فنشر.
وهذا توبيخ لهم على عبادتهم جمادا من الأرض، لا يقدر على شيء.
ثم ذكر الدلالة على توحيده، وأنه لا يجوز أن يكون معه إله سواه، فقال: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا} [الأنبياء: 22] أي: في السماء والأرض، آلهة معبودون يستحقون العبادة، إلا الله معناه: غير الله، وهو صفة للآلهة، على معنى آلهة هم غير الله، كما يزعم المشركون، وهذا قول جميع النحويين: الأخفش، والزجاج، وأبي علي الفسوي،(3/233)
كلهم قالوا: إلا ليس باستثناء ههنا، ولكنه مع ما بعده صفة للآلهة في معنى غير.
قال الزجاج: وكذلك ارتفع ما بعدها على لفظ الذي قبلها، وأنشد:
وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان
قال: المعنى وكل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه.
وقوله: لفسدتا أي: لخربتا وبطلتا وهلكتا، وهلك من فيهما لوجود التماني بين الآلهة، فلا يجري أمر العالم على النظام، لأن كل أمر صدر عن اثنين فأكثر لم يجر على النظام.
ثم نزه نفسه عما يصفه به الكافرون عن الشريك والولد بقوله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ {22} لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ {23} } [الأنبياء: 22-23] أي: لا يسأل الله عما يفعله ويقضيه في خلقه، والناس يسألون عن أعمالهم، والمعنى أنه لا يسأل عما يحكم في عباده من إعزاز وإذلال، وهدى وإضلال، وإسعاد وإشقاء، لأنه الرب مالك الأعيان، والخلق يسألون سؤال توبيخ، يقال لهم يوم القيامة: لم فعلتم كذا؟ لأنهم عبيد يجب عليهم امتثال أمر مولاهم، والله تعالى ليس فوقه أحد يقول له لشيء فعلته: لم فعلته؟
614 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَاصِمٍ، نا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ، نا أَبُو عَاصِمٍ، نا عُرْوَةُ بْنُ ثَابِتٍ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُقَيْلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ الدِّيلِيِّ، قَالَ: قَالَ لِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ: أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسَ وَيَكْدَحُونَ فِيهِ، أَلَيْسَ قَدْ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ، أَوْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُونَ فِيمَا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ وَأُخِذَتْ عَلَيْهِمْ بِهِ الْحُجَّةُ؟ قُلْتُ: بَلْ هُوَ شَيْءٌ قَدْ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ، قَالَ: فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ ظُلْمًا؟ قُلْتُ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَيْءٍ إِلا وَهُوَ خَلْقُ اللَّهِ وَمِلْكُ يَدِهِ، وَلا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، فَقَالَ: ثَبَّتَكَ اللَّهُ، إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَحْرِزَ عَقْلَكَ، قَالَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ جُهَيْنَةَ، أَوْ مُزَيْنَةَ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ فِيهِ وَيَكْدَحُونَ، أَلَيْسَ قَدْ قُضِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ، أَوْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُونَ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ وَأُخِذَتْ عَلَيْهِمْ بِهِ الْحُجَّةُ؟ فَقَالَ: بَلْ شَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى، قَالَ: فَفِيمَ الْعَمَلُ، أَوْ فِيمَ نَعْمَلُ؟ قَالَ: مَنْ خَلَقَهُ اللَّهُ لإِحْدَى الْمَنْزِلَتَيْنِ أَلْهَمَهُ وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} وَلَمَّا أَبْطَلَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ إِلَهٌ سِوَاهُ مِنْ حَيْثُ الْعَقْلِ بِقَوْلِهِ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} أَبْطَلَ جَوَازَ اتِّخَاذِ إِلَهٍ سِوَاهُ مِنْ حَيْثُ الأَمْرِ
فقال: {(3/234)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ {24} وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ {25} } [الأنبياء: 24-25] {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [الأنبياء: 24] وهذا استفهام إنكار وتوبيخ، {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [الأنبياء: 24] بينتكم على ما تقولون من جواز اتخاذ إله سواه، {هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ} [الأنبياء: 24] يعني القرآن، يقول فيه خبر من معي على ديني ممن يتبعني إلى يوم القيامة بمالهم من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية، {وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} [الأنبياء: 24] قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد التوراة والإنجيل وما أنزل الله من الكتب.
والمعنى: هذا القرآن وهذه الكتب التي أنزلت قبلي، فانظروا هل في واحد من الكتب أن الله أمر باتخاذ إله سواه، فبطل بهذا البيان جواز اتخاذ معبود سواه من حيث الأمر به.
قال الزجاج: قل لهم هاتوا برهانكم بأن رسولا من الرسل أنبأ أمته بأن لهم إلها غير الله، فهل في ذكر من قبلي إلا توحيد الله.
يدل على صحة هذا المعنى قوله بعد هذا: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] فلما توجهت الحجة عليهم، ذمهم على جهلهم بمواضع الحق، فقال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 24] عن التأمل والفكر، وما يجب عليهم من الإيمان.
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ {26} لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ {27} يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ {28} وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ {29} } [الأنبياء: 26-29] {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} [الأنبياء: 26] قال ابن عباس: يريد من الملائكة.
سبحانه نزه نفسه عما يقولون، بل عباد بل هم عباد، يعني الملائكة، مكرمون أكرمتهم واصطفيتهم.
{لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} [الأنبياء: 27] لا يتكلمون إلا بما يأمرهم به ربهم، وقال ابن قتيبة: لا يقولون حتى يقول، ويأمر وينهى، ثم يقولون عنه كما لا يعلمون حتى يأمرهم.
وهو قوله: {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ {27} يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [الأنبياء: 27-28] ما قدموا من أعمالهم، وما خلفهم وما أخروا منها، أي: ما عملوا، وما هم عاملون، {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] قال ابن عباس: لمن قال لا إله إلا الله.
وقال مجاهد: لمن رضي عنه.
{وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ} [الأنبياء: 28] أي: من خشيتهم منه، فأضيف المصدر إلى المفعول، مشفقون خائفون لا يأمنون مكره.
{وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ} [الأنبياء: 29] من الملائكة، {إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ} [الأنبياء: 29] من دون الله، {فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 29] قال المفسرون: يعني إبليس، لأنه أمر بطاعة نفسه، ودعا إلى عبادته، كذلك كما جزيناه جهنم، نجزي الظالمين يعني المشركين.
{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ {30} وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ {31}(3/235)
وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ {32} وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ {33} } [الأنبياء: 30-33] قوله: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء: 30] أو لم يعلموا، {أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا} [الأنبياء: 30] الرتق: السد، يقال: رتقت الشيء فارتتق.
ففتقناهما قال ابن عباس: فتق الله السماء بالمطر، والأرض بالنبات، كانت السموات لا تنزل مطرا، والأرض لا تنبت نباتا.
{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] أي: وأحيينا بالماء الذي تنزله من السماء كل شيء حي من الحيوان، ويدخل فيه النبات والشجر، يعني أنه سبب لحياة كل شيء، والمفسرون يقولون: يعني أن كل شيء فهو مخلوق من الماء، كقوله: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور: 45] قال أبو العالية: يعني النطفة، وعلى هذا لا يتعلق هذا بما قبله، وهو احتجاج على المشركين بقدرة الله.
أفلا يؤمنون أفلا يصدقون بعد هذا البيان؟ {وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء: 31] مفسر في { [النحل، وجعلنا فيها في الرواسي، فجاجا قال أبو عبيدة: هي المسالك.
وقال الزجاج: كل مخترق بين جبلين هو فج.
قال ابن عباس: جعلنا بين الجبال طرقا حتى يهتدوا إلى مقاصدهم في الأسفار.
وقوله: سبلا تفسير للفجاج، وبيان أن تلك الفجاج نافذة مسلوكة، فقد يكون الفج غير نافذ.
] وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا} [سورة الأنبياء: 32] السقف من أسماء السماء، قال الله تعالى: {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} [الطور: 5] والسماء للأرض كالسقف للبيت، وقوله: محفوظا قال ابن عباس: من الشياطين بالنجوم، دليله قوله: {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [الحجر: 17] .
وذكر الزجاج وجها آخر، قال: حفظه من الوقوع على الرض إلا بإذنه، دليله قوله: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ} [الحج: 65] .
وهم يعني المشركين، عن آياتها شمسها وقمرها ونجومها، معرضون لا يتدبرونها ولا يتفكرون فيها، فيعلموا أن خالقها لا شريك له.
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ} [الأنبياء: 33] يعني الطوالع، في فلك الفلك في كلام العرض: كل شيء مستدير، وجمعه أفلاك، ومنه فلكة المغزل، وتفلك ثدي الجارية، قال السدي: في مجرى واستدارة.
وقال الكلبي: الفلك استدارة السماء، وكل شيء استدار فهو فلك.
وهذا قول أكثر المفسرين، قالوا: الفلك مدار النجوم الذي يضمها.
قال الحسن: الفلك طاحونة كهيئة فلك المغزل، يريد أن الذي تجري فيه النجوم مستدير كاستدارة الطاحونة.
وقوله: يسبحون أي: يجرون بسرعة كالسابح في الماء، وقد قال في موضع آخر: {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا} [النازعات: 3] يعني النجوم، والسبح لا يختص بالجري في الماء، فقد يقال للفرس الذي يمد يديه في الجري: سابح.
قوله: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ {34} كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ {35} } [الأنبياء: 34-35] {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء: 34] الخلد: اسم من الخلود، وهو البقاء الدائم، يقول: ما خلدنا قبلك أحدا من(3/236)
بني آدم.
يعني أن سبيله سبيل من مضى قبله من الرسل، ومن بني آدم في الموت، {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34] يعني: مشركي مكة حين قالوا: نتربص بمحمد ريب المنون.
فقيل لهم: إن مات محمد فأنتم أيضا تموتون، لأن كل نفس ذائقة الموت، قالت عائشة رضي الله عنها: استأذن أبو بكر على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد مات وسجي عليه الثوب، فكشف عن وجهه، ووضع فمه بين عينيه، ووضع يديه على صدغيه، وقال: وانبياه، واخليلاه، واصفياه، صدق الله ورسوله {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ {34} كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء: 34-35] ثم خرج إلى الناس فخطب.
وقوله: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] قال الوالبي عن ابن عباس: نبتليكم بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، وكلها بلاء.
وقال ابن زيد: نبلوكم بما تحبون وبما تكرهون، لننظر كيف شكركم، وكيف صبركم.
وإلينا ترجعون تردون للجزاء بالأعمال، حسنها وسيئها.
قوله: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ {36} خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ {37} } [الأنبياء: 36-37] {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء: 36] قال ابن عباس: يعني المستهزئين.
{إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا} [الأنبياء: 36] أي: ما يتخذونك إلا مهزوءا به، قال السدي: نزلت في أبي جهل، مر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فضحك، وقال: هذا نبي بني عبد مناف.
وقوله: أهذا الذي فيه إضمار القول، ومعنى يذكر آلهتكم قال ابن عباس: يعيب أصنامكم، قال الزجاج: يقال فلان يذكر الناس، أي يغتابهم ويذكرهم بالعيوب، وفلان يذكر الله، أي بصفة بالتعظيم ويثني عليه، وإنما يحذف مع الذكر ما عقل معناه، وعلى ما قل لا يكون الذكر في كلام العرب العيب، وحيث يراد به العيب حذف منه السوء.
وقوله: {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} [الأنبياء: 36] وذلك أنهم قالوا: ما نعرف الرحمن فكفروا بالرحمن.
قوله: {خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] قال قتادة: خلق الإنسان عجولا.
والإنسان اسم الجنس، قال الفراء: كأنه يقول بنيته وخلقته من العجلة وعلى العجلة.
وقال الزجاج: خوطبت العرب بما تفعل، والعرب تقول للذي يكثر منه الشيء: خلقت منه، كما تقول: أنت من لعب، وخلقت من لعب، يريد المبالغة في وصفه بذلك، ويدل على هذا المعنى قوله: {وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولا} [الإسراء: 11] .
وقال عكرمة: لما خلق آدم ونفخ فيه الروح، صار في رأسه، فذهب لينهض قبل أن يبلغ الروح إلى رجليه، فوقع، فقيل: {خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] وهذا قول سعيد بن جبير، والسدي، والكلبي، وعلى هذا المراد بالإنسان آدم، وإذا كان آدم خلق من عجل على معنى أنه خلق عجولا، وجد ذلك في أولاده، وأورث أولاده العجلة حتى استعجلوا في كل شيء، والآية نازلة في أهل مكة حين استعجلوا العذاب، قال ابن عباس في رواية عطاء: {خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] يريد النضر بن الحارث، وهو الذي قال: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الأنفال: 32] الآية.
يدل على هذا قوله: سأريكم آياتي قال: يريد القتل ببدر.
فلا تستعجلون أي أنه نازل.(3/237)
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {38} لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ {39} بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ {40} } [الأنبياء: 38-40] ويقولون يعني المشركين، {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [الأنبياء: 38] الذي تعدنا، يريدون وعد يوم القيامة، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنبياء: 38] في هذا الوعد.
قال الله تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء: 39] أي: لو عرفوا ذلك الوقت، وهو قوله: {حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ} [الأنبياء: 39] قال ابن عباس: يريد ساعة يدخلون النار، لا يدفعون {عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ} [الأنبياء: 39] لإحاطتها بهم، {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [الأنبياء: 39] يمنعون مما نزل بهم، وجواب لو محذوف على تقدير لو علموا ذلك ما استعجلوا ولا قالوا متى هذا الوعد؟ بل تأتيهم يعني الساعة، بغتة فجأة، فتبهتهم تحيرهم، يقال: بهته يبهته إذا واجهه بشيء يحيره، ذكرنا ذلك عند قوله: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258] .
{فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} [الأنبياء: 40] صرفها عنهم، {وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} [الأنبياء: 40] يمهلون لتوبة أو معذرة.
ثم عزى نبيه فقال: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونْ {41} قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ {42} أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ {43} } [الأنبياء: 41-43] {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} [الأنبياء: 41] أي: كما استهزأ قومك بك، فحاق نزل وأحاط، {بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ} [الأنبياء: 41] من الرسل، {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونْ} [الأنبياء: 41] يعني: العذاب الذي استهزأوا به.
قوله: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء: 42] قال ابن عباس: من يمنعكم من عذاب الرحمن.
قال الزجاج: معناه من يحفظكم من بأس الرحمن.
كما قال: {فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ} [هود: 63] أي من عذاب الله، ونحو هذا قال الفراء، والمعنى: من يحفظكم مما يريد الرحمن إنزاله بكم من عقوبات الدنيا والآخرة؟ وهو استفهام إنكاري، أي: لا أحد يفعل ذلك، يقال: كلأه الله، كلأه أي حفظه وحرسه، وقوله: {بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 42] أي: عن القرآن وعن مواعظ الله، لا يتفكرون ولا يعتبرون.
{أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا} [الأنبياء: 43] تقديم وتأخير تقديره أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم، وتم الكلام، ثم وصف آلهتهم بالضعف، فقال: {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ} [الأنبياء: 43] أي: فكيف تنصرهم وتمنعهم إذا لم تقدر على منع أنفسها عما يراد بها؟ وقوله: ولا هم يعني الكفار، منا يصحبون قال الكلبي: يقول لا يجارون من عذابنا.
وقال ابن قتيبة: أي لا يجيرهم منا أحد، لأن المجير صاحب الجار.
والعرب تقول: صحبك الله، أي حفظك الله وأجارك.
ثم ذكر أن هؤلاء اغتروا بطول الإمهال إذا لم يعاجلوا بالعقوبة، فقال: {(3/238)
بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ {44} قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ {45} وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ {46} وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ {47} } [الأنبياء: 44-47] {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ} [الأنبياء: 44] يعني أهل مكة، متعهم الله بما أنعم عليهم، {حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} [الأنبياء: 44] فاغتروا بذلك، فقال الله: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الأنبياء: 44] قال الضحاك: ألم ير المشركون الذين يحاربون رسول الله ويقاتلون، إنا ننقصهم له، فنأخذ ما حولهم من قراهم وأراضيهم، أولا يرون أنهم المنقوصون والمغلوبون.
وقال الحسن: ننقصها من أطرافها: ظهور النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على من قاتله، أرضا فأرضا، قوما فقوما.
أفهم الغالبون أي: ليسوا بغالبين، ولكنهم المغلوبون، ورسول الله هو الغالب، تفسير هذا تقدم في آخر { [الرعد.
قوله:] قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [سورة الأنبياء: 45] أي: أخوفكم بالقرآن، والمعنى: إنما أنذركم بالوحي الذي يوحيه الله إلي، لا من قبل نفسي، وذلك أن الله أمره بإنذارهم، كقوله: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ} [الأنعام: 51] ، وقوله: {وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ} [الأنبياء: 45] تمثيل للكفار بالصم الذين لا يسمعون النداء إذا أنذروا شيئا، كذلك هؤلاء في تركهم الانتفاع بما سمعوا، كالصم الذين لا يسمعون، وقرأ ابن عامر: ولا تسمع الصم على إسناد الفعل إلى المخاطب، والمعنى أنهم معاندون، فإذا أسمعتهم لم يعملوا بما يسمعوه كما لا يسمع الصم، قال أبو علي الفارسي: ولو كان كما قال ابن عامر، فكان إذا تنذرهم ليحسن نظم الكلام، فأما ما ينذرون فحسن أن تتبع قراءة العامة.
قوله: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء: 46] قال المبرد: النفحة الدفعة من الشيء التي دون معظمه.
يقال: نفحه نفحة بالسيف للضربة الخفيفة.
وهذا موافق لقول ابن عباس في تفسير نفحة، قال: طرف.
وقال ابن كيسان: قليل.
وقال ابن جريج: نصيب من قولهم نفحه من ماله إذا أعطاه.
ومعنى الآية: لئن أصابهم طرف من العذاب لأيقنوا بالهلاك، ودعوا على أنفسهم بالويل، مع الإقرار بأنهم ظلموا أنفسهم بالشرك، وتكذيب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47] وقال الزجاج: القسط مصدر يوصف به، تقول: ميزان قسط وموازين قسط والمعنى: ذات قسط، وذكرنا الكلام في الموازين عند قوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف: 8] .
615 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ هَاشِمٍ الْبَعْلَبَكِّيُّ، نا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، نا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاتِكَةِ، عَنْ(3/239)
عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " يَا بَنِي هَاشِمٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاسْعَوْا فِي فِكَاكِ رِقَابِكِمْ وَلا تَغُرَّنَّكُمْ قَرَابَتُكُمْ مِنِّي، فَإِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، فَبَكَتْ عَائِشَةُ، وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَنَكُونُ يَوْمَ لا تُغْنِي عَنَّا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، فَقَالَ: نَعَمْ، فِي ثَلاثَةِ مَوَاطِنَ، يَقُولُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا}
{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {8} وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف: 8-9] الآية، وعند النور والظلمة، وعلى الصراط من شاء الله سلمه وأجاره، ومن شاء كبكبه في النار ".
ومعنى قوله: {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء: 47] لا ينقص من إحسان محسن، ولا يزيد في إساءة مسيء، {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ} [الأنبياء: 47] قال الزجاج: وإن كان العمل مثقال حبة.
وقال أبو علي الفارسي: وإن كان الظلامة مثقال حبة.
وقال: وهذا حسن لتقدم قوله: {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء: 47] .
وعلى ما قال أبو علي يكون تأويل قوله: {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء: 47] لأن المظلومين يستوفون حقوقهم من الظالمين حتى لا يبقى لأحد عند أحد ظلامة، ولو مثقال حبة، من خردل وقوله: أتينا بها قال الزجاج: جئنا بها.
يعني: أحضرناها للمجازاة بها، وعلى ما قال أبو علي: أتينا بها للمحاسبة عليها، يدل على صحة هذا قوله: {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47] قال السدي: محصين، والحسب معناه العد.
وقال ابن عباس: عالمين حافظين، وذلك أن من حسب شيئا علمه وحفظه.
616 - أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَرْوَزِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَدَّادِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، أنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي الْمُخْتَارِ، عَنْ بِلالٍ، رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَبْسٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ لَهُ رَبُّهُ: زِنْ بَيْنَهُمْ وَرِدْ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلا ذَهَبَ يَوْمَئِذٍ وَلا فِضَّةَ، فَيُرَدُّ الْمَظْلُومُ مِنَ الظَّالِمِ مَا وَجَدَ لَهُ مِنْ حَسَنَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمَظْلُومِ فَيُرَدَّ عَلَى الظَّالِمِ فَيَرْجِعُ وَعَلَيْهِ مِثْلُ الْجَبَلِ(3/240)
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ {48} الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ {49} وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ {50} } [الأنبياء: 48-50] قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} [الأنبياء: 48] قال مجاهد، وقتادة: يعني التوراة التي تفرق بين الحلال والحرام.
وضياء من صفة التوراة، مثل قوله: {فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [المائدة: 44] والمعنى أنهم استضاءوا بها حتى اهتدوا في دينهم، ومعنى وذكرا للمتقين أنهم يذكرونه ويعلمون بما فيه، ويتعظون بمواعظه.
{الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} [الأنبياء: 49] أي: في الدنيا، غائبين عن الآخرة وأحكامها، {وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ} [الأنبياء: 49] أي: من أهوالها وعذابها، مشفقون خائفون.
ثم عاد إلى ذكر القرآن، فقال: وهذا ذكر قال الزجاج: المعنى هذا القرآن ذكر لمن تذكر به، وعظة لمن اتعظ.
مبارك أنزلناه كثير خير أفأنتم يا أهل مكة، له منكرون إياه جاحدون؟ وهذا استفهام توبيخ وتعيير.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ {51} إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ {52} قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ {53} قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ {54} قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ {55} قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ {56} } [الأنبياء: 51-56] وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} [الأنبياء: 51] أي هداه، من قبل أي: من قبل بلوغه، والمعنى: آتيناه هذا صغيرا حين كان في السرب حتى عرف الحق من الباطل، {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 51] علمنا أنه موضع لإيتاء الرشد، وأنه يصلح للنبوة.
ثم بين متى أتاه، فقال: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ} [الأنبياء: 52] أي: في ذلك الوقت الذي قال لهم وهم يعبدون الصنم، {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي} [الأنبياء: 52] يعني الأصنام، والتمثال اسم للشيء المصنوع مشبها بخلق من خلق الله، وأصله من مثلت الشيء بالشيء إذا شبهته به، واسم ذلك الممثل ثمثال، وجمعه تماثيل، وقوله: {أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52] أي: على عبادتها مقيمون، فأجابوه بأنهم وجدوا آباءهم يعبدونها، فاقتدوا بهم على طريق التقليد في عبادتها، فأجابهم إبراهيم بأنهم فيما فعلوه وآباؤهم كانوا في ضلال مبين بعبادة الأصنام، وهذا الذي ذكرنا معنى قوله: {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا} [الأنبياء: 53] إلى قوله: {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} [الأنبياء: 55] يعنون أجاد أنت فيما تقول حق أم لاعب مازح؟ وهذا جهل منهم، تخيلوا المحق لاعبا، فأجابهم إبراهيم بما يزيل تخيلهم ويدلهم على أن المستحق للعبادة هو الله، لا الصنم.
وهو قوله: {قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ} [الأنبياء: 56] أي: على أنه رب السموات والأرض، من الشاهدين {(3/241)
وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ {57} فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ {58} قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ {59} قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ {60} قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ {61} قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ {62} قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ {63} } [الأنبياء: 57-63] {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57] معنى الكيد: ضر الشيء بتدبير عليه، {بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء: 57] ينطلقوا ذاهبين، قال المفسرون: كان لهم في كل سنة مجمع وعيد، قالوا لإبراهيم: لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا.
فقال إبراهيم سرا منهم: وتالله لأكيدن الآية.
ولم يسمع هذا القول من إبراهيم إلا رجل واحد، وهو الذي أفشاه عليه.
قوله: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا} [الأنبياء: 58] الجذ: القطع والكسر، والجذاذ: قطع ما كسر، الواحد جذاذة، وهو مثل الحطام والرفات والدقاق، وقرأ الكسائي بكسر الجيم على أنه جمع جذيذ، مثل ثقال وثقيل، وخفيف وخفاف، والجذيذ بمعنى المجذوذ وهو المكسور.
قال المفسرون: لما انطلقوا إلى عيدهم، رجع إبراهيم إلى بيت الأصنام، وجعل يكسرهن بفأس في يده، حتى إذا لم يبق إلا الصنم الأكبر علق الفأس في عنقه، ثم خرج.
فذلك قوله: {إِلا كَبِيرًا لَهُمْ} [الأنبياء: 58] قال الزجاج: أي: كسر الأصنام إلا أكبرها، {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 58] أي: إلى دينه وإلى ما يدعوهم إليه بوجوب الحجة عليهم في عبادة ما لا يدفع عن نفسه، وتنبهوا إلى جهلهم وعظيم خطاهم، ولما رجعوا من عيدهم، ونظروا إلى آلهتهم، وهم جذاذ.
{قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا} [الأنبياء: 59] استفهموا عمن صنع ذلك؟ وأنكروا عليه فعله بقولهم: {إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 59] أي: فعل ما لم يكن له أن يفعله.
فقال من سمع من إبراهيم قوله: {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57] ، {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} [الأنبياء: 60] أي بالغيب، {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60] وشاعت القصة حتى بلغت نمروذ.
وأشرف قومه {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ} [الأنبياء: 61] أي: بالذي يقال له إبراهيم، {عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} [الأنبياء: 61] أي: ظاهرا بمرأى من الناس حتى يروه، لعلهم يشهدون عليه بما قاله، فيكون ذلك حجة عليه بما فعل، هذا قول الحسن، وقتادة، والسدي، قالوا: كرهوا أن يأخذوه بغير بينة.
وقال محمد بن إسحاق: لعلهم يشهدون عقابه وما يصنع به.
أي يحضرون.
فلما أتوا به {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ {62} قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 62-63] أسند فعله إلى كبير الأصنام، إقامة للحجة عليهم، قال: غضب من أن يعبدوا معه الصغار فكسرهن.
617 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُطَّوِّعِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْمُقْرِي، أنا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ النَّسَوِيُّ، أنا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، نا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلا ثَلاثَ كَذِبَاتٍ؛ قَوْلُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} ، وَقَوْلُهُ لِسَارَّةَ: إِنَّهَا أُخْتِي، وَقَوْلُهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ}
قال المفسرون: وجاز أن يكون الله قد أذن له في ذلك ليوبخ قومه، ويعرفهم خطأهم، كما أذن(3/242)
ليوسف حتى أمر مناديه، فقال لإخوته: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] ولم يكونوا سرقوا شيئا.
وقوله: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63] إلزام للحجة عليهم بأنهم جماد لا يقدرون على النطق.
{فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ {64} ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ {65} قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ {66} أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ {67} } [الأنبياء: 64-67] {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ} [الأنبياء: 64] أي: تفكروا بقلوبهم، ورجعوا إلى عقولهم، فقال بعضهم لبعض: {إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء: 64] هذا الرجل في مسألتكم إياه، وهذه آلهتكم حاضرة، فسئلوها، وقال عطاء، عن ابن عباس: إنكم أنتم الظالمون، حيث عبدتم من لا يتكلم.
وكان هذا إقرار منهم على أنفسهم بالكفر، ثم أدركتهم الشقاوة، فعادوا إلى كفرهم، وهو قوله: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} [الأنبياء: 65] النكس: رد الشيء وقلبه على آخره، يقال: نكست فلانا في ذلك الأمر، أي رددته فيه بعدما خرج منه.
والمعنى: ردوا إلى الكفر بعد أن أقروا على أنفسهم بالظلم.
ف قالوا لإبراهيم: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 65] قال ابن عباس: لقد علمت أن هذه الأصنام لا تتكلم.
وهذا اعتراف منهم بعجز ما يعبدونه عن النطق.
فلما اتجهت الحجة عليهم بإقرارهم وبخهم إبراهيم، ف {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا} [الأنبياء: 66] لا يرزقكم ولا يعطيكم شيئا إذ عبدتوها، ولا يضركم إذا لم تعبدوها، وفي هذا حث على عبادة من يملك النفع والضر، وهو الله تعالى.
ثم حقرهم وحقر معبودهم، فقال: أف لكم أي: نتنًا لك، {وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 67] أليس لكم عقل فتعلموا أن هذا الأصنام لا تستحق العبادة، فلما لزمتهم الحجة، وعجزوا عن الجواب، غضبوا.
{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ {68} قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ {69} وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ {70} } [الأنبياء: 68-70] {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء: 68] أي: بتحريق إبراهيم، لأنه يعيبها ويطعن عليها، فإذا أحرقتموه كان ذلك نصر منكم إياها، {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 68] أي: إن كنتم ناصريها، والمعنى: لا تنصروها منه بالتحريق بالنار، قال السدي: جمعوا الحطب حتى إن الرجل ليمرض فيوصي بكذا وكذا من ماله، فيشتري به حطبا، فيلقى في النار، وحتى إن المرأة لتغزل، فتشتري به حطبا، فتلقيه في النار، حتى بلغوا من ذلك ما أرادوا، فلما أرادوا أن يلقوا إبراهيم، ولم يدروا كيف يلقونه، فجاء إبليس فدلهم على المنجنيق.
وهو أول منجنيق صنع، فوضعوه فيه، ثم رموه، فبلغنا أن السموات والأرض والجبال والملائكة، قالوا: ربنا عبدك إبراهيم يحرق فيك.
فقيل لهم: إن استغاث بكم فأغيثوه.
فقال إبراهيم: حسبي الله ونعم الوكيل.
فنزل جبريل معه، فضرب النار، فقال: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] فلم يبق(3/243)
يومئذ نار إلا طفئت، ظنت أنها عنيت، والمعنى: كوني بردا وسلامة، قال ابن عباس: لو لم يتبع بردها سلاما لمات إبراهيم من بردها.
618 - أَخَبْرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَامِدٍ الْعَدْلُ، أنا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَحْمَدَ السَّرْخَسِيُّ، أنا أَبُو لُبَابَةَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَهْدِيِّ، نا عُمَارَةُ، نا شُجَاعُ بْنُ أَبِي نَصْرٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَّ نُمْرُوذَ الْجَبَّارَ لَمَّا أَلْقَى إِبْرَاهِيمَ فِي النَّارِ نَزَلَ جِبْرِيلُ بِقَمِيصٍ مِنَ الْجَنَّةِ وَطُنْفُسَةٍ مِنَ الْجَنَّةِ، فَأَلْبَسَهُ الْقَمِيصَ وَأَقْعَدَهُ عَلَى الطُّنْفُسَةِ، وَقَعَد مَعَهُ يُحَدِّثُهُ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى النَّارِ: أَنْ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَلَوْلا أَنَّهُ قَالَ: وَسلامًا لأَذَاهُ الْبَرْدُ وَقَتَلَهُ الْبَرْدُ، فَرَأَى أَبُو إِبْرَاهِيمَ بَعْد سَبْعَةِ أَيَّامٍ فِي الْمَنَامِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَرَجَ مِنَ الْحَائِطِ الَّذِي أُوقِدَ عَلَيْهِ فِيهِ، فَطَلَبَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ فَأَتَى نُمْرُوذَ فَقَالَ: ائْذَنْ لِي لأُخْرِجَ عِظَامَ إِبْرَاهِيمَ مِنَ الْحَائِطِ فَأَدْفِنُهَا فَانْطَلَقَ نُمْرُوذُ إِلَى الْحَائِطِ وَمَعَهُ النَّاسُ فَأَمَرَ بِالْحَائِطِ فَنُقِبَ، فَإِذَا إِبْرَاهِيمُ فِي رَوْضَةٍ تَزْهَرُ وَثِيَابُهُ تَفَدَّى عَلَى طُنْفُسَةٍ مِنْ طَنَافِسِ الْجَنَّةِ، عَلَيْهِ قَمِيصٌ مِنْ قُمُصِ الْجَنَّةِ
وقال كعب الأحبار: ما أحرقت النار من إبراهيم غير وثاقه.
فذلك قوله: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} [الأنبياء: 70] يعني التحريق بالنار، فجعلناهم الأخسرين قال ابن عباس: هو أن الله سلط البعوض على نمروذ وخيله حتى أخذت لحومهم وشربت دمائهم، ووقعت واحدة في دماغه حتى أهلكته، والمعنى أنهم كادوه بسوء فانقلب عليهم ذلك.
{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ {71} وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ {72} وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ {73} وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ {74} وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ {75} } [الأنبياء: 71-75] ونجيناه أي: من نمروذ وكيده، ولوطا وهو ابن أخي إبراهيم، وهو لوط بن هاران بن تارخ، وكان قد آمن به وهاجر من أرض العراق إلى أرض الشام، وهو قوله: {إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71] أي: بالخصب وكثرة الأشجار، والثمار، والأنهار، ومنها بعث أكثر الأنبياء.
ووهبنا له لإبراهيم، إسحاق حين سأل الولد، فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100](3/244)
فاستجاب الله دعاءه، ووهب له إسحاق، ويعقوب نافلة النافلة: الزيادة على الأصل، وهو ولد الولد، قال ابن عباس: نفله يعقوب.
أي زاده ولدا من إسحاق، كأنه سأل واحدا فأعطاه الله يعقوب زيادة على ما سأل، قال الفراء: النافلة يعقوب.
خاصة لأنه ولد الولد، وقوله: وكلا يعني: إبراهيم وإسحاق ويعقوب، جعلنا صالحين أنبياء صالحين بطاعة الله.
وجعلناهم أئمة رؤساء يقتدى بهم في الخير، يهدون بأمرنا يهدون الناس إلى ديننا بأمرنا إياهم بذلك، {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء: 73] قال ابن عباس: شرائع النبوة.
{وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا} [الأنبياء: 74] يعني: النبوة، {وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} [الأنبياء: 74] يعني إتيانهم الذكور، وما كانوا يأتونه من المنكرات، وأراد بالقرية أهلها، ثم ذمهم، فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ {74} وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا} [الأنبياء: 74-75] بانجائنا إياه من القوم السوء، {إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء: 75] يعني: من الأنبياء.
{وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ {76} وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ {77} } [الأنبياء: 76-77] {وَنُوحًا إِذْ نَادَى} [الأنبياء: 76] دعا ربه من قبل، من قبل إبراهيم ولوط، لأنه كان قبلهما دعا على قومه بالهلاك، فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ} [نوح: 26] الآية.
{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} [الأنبياء: 76] يعني: من كان معه في سفينته، {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الأنبياء: 76] قال ابن عباس: يريد الغرق وتكذيب قومه له.
{وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ} [الأنبياء: 77] أي: منعناه من أن يصلوا إليه بسوء.
{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ {78} فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ {79} وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ {80} وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ {81} وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ {82} } [الأنبياء: 78-82] قوله: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء: 78] أكثر المفسرين على أن الحرث كان كرما قد تدلت عناقيده.
وقال قتادة: كان زرعا.
{إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء: 78] رعت ليلا في قول الجميع، قال ابن السكيت: النفش أن تنتشر الغنم بالليل ترعى بلا راع.
قال المفسرون: دخل رجلان على داود وعنده ابنه سليمان، أحدهما صاحب حرث، والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الحرث: إن هذا تفلتت غنمه ليلا فوقعت في حرثي فلم يبقى منه شيئا.
فقال: لك رقال الغنم، فقال سليمان: أو غير ذلك؟ ينطلق أصحاب الكرم بالغنم فيصيبوا من ألبانها ومنافعها، ويقوم أصحاب الغنم على الكرم، حتى إذا(3/245)
كان كليلة نفشت فيه، دفع هؤلاء إلى هؤلاء غنمهم، ودفع هؤلاء إلى هؤلاء كرمهم.
فقال داود: القضاء ما قضيت.
وحكم بذلك، فهو قوله: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] قال ابن عباس: لم يغب عني من أمرهم شيء.
قال الفراء: جمع أقلين، فقال: {لِحُكْمِهِمْ} [الأنبياء: 78] وهو يريد داود وسليمان، لأن الاثنين جمع، وهو مثل قوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء: 11] وهو يريد أخوين، والحكم الذي حكما به بعضه موافق بشرعنا، وبعضه مخالف، أما الموافق: فهو الحكم بالضمان على صاحب الماشية إذا أفسدت بالليل حرثا، وكذا هو في شرعنا: وهو ما
619 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَنْصُورِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، نا أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ، نا أَبُو الأَزْهَرِ، وَأَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ، قَالا:، نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، نا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَرَامِ بْنِ مُحَيِّصَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ وَقَعَتْ فِي حَائِطِ قَوْمٍ فَأُفْسِدَ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى أَهْلِ الأَمْوَالِ حِفْظَ الأَمْوِالِ بِالنَّهَارِ، وَعَلَى أَهْلِ الْمَاشِيَةِ حِفْظَهَا بِاللَّيْلِ، أَمَّا الْمُخَالِفُ لِشَرْعِنَا فَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَنَا ضَمَانُ مَا أَفْسَدَتِ الْمَاشِيَةُ بِالْقِيمَةِ، أَوْ بِالْمِثْلِ، لا تَسْلِيمُ الْمَاشِيَةِ وَلا تَسْلِيمُ مَنَافِعِهَا
وقوله: ففهمناها سليمان أي: القضية والحكومة، كنى عنها لأنه ما يدل عليها من ذكر الحكم، وكلا منهما، آتينا حكما نبوة، وعلما بأمور الدين.
{وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ} [الأنبياء: 79] وهو أنه كان إذا وجد فترة أمر الجبال فسبحت حتى يشتاق هو فيسبح، وقال وهب: كانت الجبال تجاوبه بالتسبيح، وكذلك الطير.
وهو قوله: {وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 79] يعني: ما ذكر من التفهيم وإيتاء الحكم والتسخير.
{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} [الأنبياء: 80] اللبوس الدرع، لأنها تلبس، قال قتادة: أول من صنع الدروع داود، وإنما كانت صفائح، فهو أول من سردها وحلقها، فجمعت الخفة والتحصين.
وهو قوله: ليحصنكم أي: ليحرزكم ويمنعكم، يعني اللبوس، ومن قرأ بالتاء فلتقدم قوله: وعلمناه ومن قرأ بالياء حمله على المعنى، لأن معنى اللبوس الدرع، وقوله: من بأسكم أي: من حربكم، وقال السدي: من وقع السلاح فيكم.
فهل أنتم يا معشر أهل مكة، شاكرون نعمي بطاعة الرسول وتصديقه.
وقوله: ولسليمان الريح المعنى: وسخرنا لسليمان الريح، عاصفة شديدة الهبوب، قال ابن عباس: إن أمر(3/246)
الريح أن تعصف عصفت، وإذا أراد أن ترخي أرخت، وذلك قوله: {رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص: 36] ، {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأنبياء: 81] وهي أرض الشام، وقد مر في هذه ال { [، قال الفراء: كانت تجري بسليمان إلى موضع، ثم تعود به من يوم إلى منزله.
] وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ} [سورة الأنبياء: 81] علمناه، عالمين بصحة هذا التدبير فيه، علمنا أنه ما يعطى سليمان من تسخير الريح وغيره يدعوه إلى الخضوع لربه.
{وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ} [الأنبياء: 82] الغوص: الدخول تحت الماء، كانوا يستخرجون له الجواهر من البحر، {وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ} [الأنبياء: 82] سوى الغوص من البناء وغيره من الأعمال، {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} [الأنبياء: 82] من أن يفسدوا ما عملوا، قاله الفراء، والزجاج.
قوله: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ {83} فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ {84} } [الأنبياء: 83-84] {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} [الأنبياء: 83] دعا ربه، {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء: 83] أصابني الجهد، {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83] أكثرهم رحمة، وهذا تعريض منه بمسألة الرحمة، إذ أثنى عليه بأنه الأرحم وسكت، وقال رجل لأبي عبد الله الناجي: يا أبا عبد الله، الراضي يسأل ربه.
قال يعرض، قال: مثل أيش، قال: مثل قول أيوب: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83] وقال العلماء: لم يكن جزعا من أيوب مع ما وصفه الله به من الصبر، إذ يقول: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص: 44] وكان هذا دعاء منه.
ألا ترى أن الله قال: فاستجبنا له على أن الجزع إنما هو في الشكوى إلى الخلق، فأما من اشتكى إلى الله فليس بجازع، وقوله يعقوب عليه السلام: {أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] لا يحمل على الجزع، قال سفيان بن عينية: وكذلك من شكا إلى الناس، وهو في شكواه راض بقضاء الله، لم يكن ذلك جزعا، ألم تسمع إلى قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرضه: «أجدني مغموما، وأجدني مكروبا» .
وقال عليه السلام: «بل أنا واراساه» .
قوله: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} [الأنبياء: 84] قال ابن عباس: يريد الأوجاع.
{وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [الأنبياء: 84] قال ابن مسعود، وقتادة، والحسن: أحيا الله له أولاده الذين هلكوا في بلائه، وأوتي مثلهم في الدنيا.
620 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا أَبُو مَالِكٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ: سَأَلْتُ نَبِيَّ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ قَوْلِهِ: وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ {، فَقَالَ: يَابْنَ عَبَّاسٍ، رَدَّ اللَّهُ امْرَأَتَهُ إِلَيْهِ، وَزَادَ فِي شَبَابِهَا حَتَّى وَلَدَتْ لَهُ سِتَّةً وَعِشْرِينَ ذَكَرًا، وَأَهْبَطَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا، فَقَالَ: يَا أَيُّوبُ، إِنَّ اللَّهَ يُقْرِئُكَ السَّلامَ بِصَبْرِكَ عَلَى الْبَلاءِ، فَاخْرُجْ إِلَى أَنْدَرِكَ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ سَحَابَةً حَمْرَاءَ فَهَبَطَتْ عَلَيْهِ بِجَرَادِ الذَّهَبِ، وَالْمَلَكُ قَائِمٌ مَعَهُ، فَكَانَتِ الْجَرَادُ تَذْهَبُ فَيَتْبَعُهَا حَتَّى يَرُدَّهَا فِي أَنْدَرِهِ، فَقَالَ الْمَلَكُ: يَا(3/247)
أَيُّوبُ، أَمَا تَشْبَعُ مِنَ الدَّاخِلِ حَتَّى تَتْبَعَ الْخَارِجَ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ بَرَكَةٌ مِنْ بَرَكَاتِ رَبِّي، وَلَسْتُ أَشْبَعُ مِنْهَا
} رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا { [الأنبياء: 84] أي: فعلنا ذلك به رحمة من عندنا،} وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ { [الأنبياء: 84] قال ابن عباس: موعظة للمطيعين.
} وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ {85} وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ {86} { [الأنبياء: 85-86] قوله: وذا الكفل قال عطاء: إن نبيا من أنبياء بني إسرائيل أوحى الله إليه أني أريد قبض روحك، فاعرض ملكك على بني إسرائيل، فمن يكفل لك أنه يصلي بالليل لا يفتر، ويصوم النهار ولا يفطر، ويقضي بين الناس فلا يغضب، فادفع إليه ملكك ففعل ذلك، فقام شاب فقال: أنا أتكفل لك بهذا فتكفل بذلك، ووفى به فشكر الله له ونبأه ولذلك سمي ذا الكفل، وقوله:} كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ { [الأنبياء: 85] أي: على طاعة وعن معاصي الله،} وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ { [الأنبياء: 86] يعني: ما أنعم الله به عليهم من النبوة، وما صيرهم إليه في الجنة من الثواب.
} وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ {87} فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ {88} { [الأنبياء: 87-88] وذا النون يعنى: يونس بن متى عليه السلام، حبسه الله في بطن النون، وهو الحوت،} إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا { [الأنبياء: 87] قال الضحاك: مغاضبا لقومه.
وهو قول ابن عباس في رواية العوفي، قال: إن شعياء النبي، والملك الذي كان في وقته، وذلك أن القوم أرادوا أن يبعثوه إلى ملك قد غزا بني إسرائيل، وسبي الكثير منهم ليكلمه حتى يرسل معه بني إسرائيل، فقال يونس لشعياء: هل أمرك الله بإخراجي؟ قال: لا.
قال: فهل سماني لك قال: لا.
قال: فههنا غيري أنبياء، فألحوا عليه فخرج مغاضبا للنبي وللملك ولقومه، فأتى بحر الروم، فكان من قصته ما كان، وإنما حبس في بطن الحوت بتركه ما أمره به شعياء وقومه لأن الله تعالى، قال فيه:} فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ { [الصافات: 142] والمليم: الذي أتى ما يلام عليه، وقال جماعة من المفسرين: إن يونس لما أخبر قومه عن الله أنه منزل العذاب بهم لأجل معلوم ثم بلغه بعد ما مضى الأجل أنه لم يأتهم ما وعدهم خشي أن ينسب إلى الكذب ويعير به سيما ولم تكن قرية آمنت عند حضور العذاب فنفعها إيمانها غير قومه(3/248)
وكان مشتهيا أن ينزل بأس الله بهم لطول ما قاس من تكذيبهم وهزئهم وأذاهم فذهب} مُغَاضِبًا { [الأنبياء: 87] لربه أي لأمر ربه وهو رفعه العذاب، عن قومه كره ذلك وغضب منه ومضى على جهة مضي الآبق الناد، يقول الله تعالى} إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ { [الصافات: 140] وكان غضبه أنفة من ظهور خلف وعده، وقال: والله لا أرجع إلى قومي كذابا أبدا وعدتهم العذاب في يوم فلم يأت، وروي في الحديث: أنه كان ضيق الصدر، قليل الصبر على ما صبر على مثله أولو العزم من الرسل.
وقوله:} فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ { [الأنبياء: 87] أي: لن نقضي عليه من العقوبة ما قضيناه، وهذا قول مجاهد، وقتادة، والضحاك، وعطية، يقال: قدر الله الشيء وقدره، أي قضاه، وهذا القول اختيار الفراء، والزجاج.
وقال آخرون: لن نقدر عليه، لن نضيق عليه الحبس، من قوله عز وجل:} وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ { [الطلاق: 7] أي: من ضيق عليه، وقد ضيق الله على يونس تضييقه على معذب في الدنيا، وهذا معنى قول عطاء، والحسن: ظن أن لن نعاقبه.
وقال:} فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ { [الأنبياء: 87] أكثر المفسرين قالوا: يعني ظلمة الليل، وظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر.
وقال سالم بن أبي الجعد: حوت في حوت في ظلمة.
وقوله:} أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ { [الأنبياء: 87] قال الحسن، وقتادة: هذا القول من يونس اعتراف بذنبه وتوبة من خطيئته، تاب إلى ربه في بطن الحوت، وراجع نفسه، فقال: إني كنت من الظالمين حين ذهبت مغاضبا، ولم أعبد غيرك.
وهذا معنى قوله:} لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ [الأنبياء: 87] الآية.
621 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ، أنا الْقَاسِمُ بْنُ غَانِمِ بْنِ حَمُّوَيْهِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبُوشَنْجِيُّ، نا عَمْرُو بْنُ الْحُصَيْنِ، نا مُعْتَمِرٌ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لا يَقُولُهَا مَكْرُوبٌ إِلا فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ، كَلِمَةَ أَخِي يُونُسَ {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}
قوله: فاستجبنا له أي: أجبنا دعاءه، {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} [الأنبياء: 88] من تلك الظلمات، {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 88] إذا دعوني كما أنجينا ذا النون، وروي عن عاصم أنه قرأ نجى المؤمنين مشددة الجيم، وجميع النحويين حكموا على هذه القراءة بالغلط، وأنها لحن، ثم ذكر الفراء وجها، فقال: أضمر المصدر في ننجي فنوى به الرفع ونصب المؤمنين، كقولك: ضرب الضرب زيدا.
ثم يقول زيدا على إضمار المصدر.(3/249)
ولو ولدت فقيرة جرو كلب ... لسب بذلك الجرو الكلابا
قال أبو علي الفارسي: هذا إنما يجوز في ضرورة الشعر.
وراوي هذه القراءة عن عاصم غالط في الرواية، فإنه قرأ ننجي بنونين، كما روى حفص عنه، ولكن النون الثانية من ننجي تخفى مع الجيم، ولا يجوز تبيينها، فالتبس على السامع الإخفاء بالإدغام، فظن أنه إدغام، ويدل على هذا إسكانه الياء من ننجي ونصب قوله: المؤمنين ولو كان على ما لم يسم فاعله ما سكن الياء، ولوجب أن يرفع المؤمنين.
{وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ {89} فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ {90} } [الأنبياء: 89-90] وقوله: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا} [الأنبياء: 89] قال ابن عباس: وحيد بلا ولد.
وهذا كقوله: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا {5} يَرِثُنِي} [مريم: 5-6] .
وقوله: {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء: 89] ثناء على الله بأنه الباقي بعد فناء خلقه، وأنه أفضل من يبقى حيا بعد ميت، وأن الخلق كلهم يموتون، ويبقى هو، وقوله: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90] قال قتادة: كانت عاقرا فجعلها الله ولودا.
وقال الكلبي: كانت عقيما فأصلحت له بالولد، فولدت وهي بنت تسع وتسعين سنة.
وهذا قول أكثرهم: إن إصلاح زوجه إزالة عقرها.
وقوله: إنهم يعني: زكريا وامرأته ويحيى، وبعض المفسرين يذهب إلى أن الكفاية تعود إلى الأنبياء الذين ذكرهم الله في هذه ال { [.
ومعنى] يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [سورة الأنبياء: 90] يبادرون في طاعة الله وأداء فرائضه، {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90] أي: للرغبة والرهبة، رغبة في الجنة، وخوفا من النار، {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] قال قتادة: ذللا لأمر الله.
{وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 91] والتي يعني: مريم، أحصنت فرجها حفظت فرجها، ومنعته عما لا يحل، وقال الفراء: ذكر المفسرون أنه جيب درعها.
وهذا محتمل لأن الفرج في اللغة: كل فرجة بين شيئين، وموضع جيب درع المرأة مشقوق، وهو فرج، وهذا أبلغ في الثناء عليها، لأنها إذا منعت جيب درعها فهي لنفسها أمنع، فنفخنا فيها أمرنا جبريل حتى نفخ في درعها، فأجرينا فيها روح المسيح كما تجري الريح بالمنفخ، وذلك أن الله تعالى أجرى فيها روح المسيح بنفخ جبريل، وأحدث بذلك النفخ عيسى في رحمها، وقوله: من روحنا أضاف الروح إليه إضافة الملك، للتشريف(3/250)
والتخصيص، وهو يريد روح عيسى، {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 91] يعني: ما ظهر فيها من الأعجوبة التي دلت على قدرة الله، ووحد الآية بعد ذكرهما جميعا، لأن الآية فيهما واحدة، وهي ولادة من غير فحل.
قوله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ {92} وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ {93} فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ {94} } [الأنبياء: 92-94] {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ} [الأنبياء: 92] قال ابن عباس: يريد دينكم.
وهو قول الحسن، ومجاهد، والجميع، قال ابن قتيبة: والأمة الدين.
ومنه قوله: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22] أي على دين، والأصل أنه يقال للقوم يجتمعون على دين واحد، أمة، فتقام مقام الدين، وقوله: أمة واحدة قال ابن عباس: دينا واحدا.
والمعنى أن هذه الشريعة التي نبينها لكم في كتابكم دينا واحدا، إبطالا لما سواها من الأديان، وهي نصب على الحال، {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92] أي: لا دين سوى ديني، ولا رب غيري.
ثم ذكر اليهود والنصارى وذمهم بالاختلاف، فقال: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} [الأنبياء: 93] أي: اختلفوا في الدين فصاروا فيه فرقا وأحزابا، يعني: طوائف اليهود والنصارى.
قال الكلبي: فرقوا دينهم فيما بينهم، يلعن بعضهم بعضا، وتبرأ بعضهم من بعض.
والتقطع في هذه الآية بمنزلة التقطيع، ثم أخبر أن مرجع جميع أهل الأديان إليه، وأنه مجاز جميعهم، فقال: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ {93} فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} [الأنبياء: 93-94] أي: شيئا منها من أداء الفرائض، وصلة الرحم، ونصرة المظلوم، وغيرها من أعمال البر، وهو مؤمن مصدق بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبما جاء به، {فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} [الأنبياء: 94] لا جحود لعمله، يعني أنه يقبل ويشكر بالثواب عليه، {وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء: 94] نأمر الحفظة أن يكتبوا لذلك العامل ما عمل ليجازى به.
وقوله: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ {95} حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ {96} وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ {97} } [الأنبياء: 95-97] {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ} [الأنبياء: 95] قال قتادة: واجب عليها أنها إذا أهلكت لا ترجع إلى دنياها.
ونحو هذا قال عكرمة، عن ابن عباس، وعطاء، والكلبي، قال عطاء: يريد حتما مني.
وقال الكلبي: يقول وجب على أهل قرية.
أهلكناها يريد عذبناها {أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 95] إلى الدنيا، والمعنى أن الله كتب على من أهلك أن يبقى في البرزخ إلى يوم القيامة، وأن لا يرجع إلى الدنيا قضاء منه حتما، وفي هذا تخويف لكفار مكة أنهم إن عذبوا وأهلكوا لم يرجعوا إلى الدنيا كغيرهم من الأمم المهلكة، وذهب ابن جريج، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، وجماعة إلى أن لا في قوله: لا يرجعون زيادة وقالوا المعنى: حرام على قرية مهلكة ترجعوهم إلى الدنيا، كما قال: {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً(3/251)
وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس: 50] ومن قرأ وحرم فهو بمعنى حرام، كما قيل: حل وحلال وقوله: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} [الأنبياء: 96] معنى فتحهما إخراجهما عن السد الذي جعلا وراءه، وكأنهما قيدا بذلك السد، فإذا ارتفع السد انفتحا، وقوله: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} [الأنبياء: 96] الحدب كل أكمة مرتفعة من الأرض، وينسلون من النسلان، وهو كمشية الذئب إذا أسرع، والمعنى: وهم من كل شيء من الأرض يسرعون، يعني أنهم يتفرقون في الأرض فلا ترى أكمة إلا وقوم منهم يهبطون منها مسرعين.
622 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحِزَامِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ، نا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، نا الْحَسَنُ بْنُ مُكْرَمٍ، نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، نا الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ، عَنْ جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ، عَنْ مُؤْثِرِ بْنِ عَفَازَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ؛ لَقِيَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى، فَتَذَاكَرُوا السَّاعَةَ، فَبَدَءُوا بِإِبْرَاهِيمَ فَسَأَلُوهُ عَنْهَا، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْهَا عِلْمٌ، ثُمَّ مُوسَى فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْهَا عِلْمٌ، فَرَجَعُوا إِلَى عِيسَى فَقَالَ: عَهِدَ اللَّهُ إِلَيَّ فِيمَا دُونَ وَجْبَتِهَا، فَأَمَّا وَجْبَتُهَا فَلا يَعْلَمُهَا إِلا اللَّهُ، فَذَكَرَ خُرُوجَ الدَّجَّالَ، قَالَ: فَأَهْبِطُ فَأَقْتُلُهُ وَيَرْجِعُ النَّاسَ إِلَى بِلادِهِمْ فَيَسْتَقْبِلُهُمْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ فَلا يَمُرُّونَ بِمَاءٍ إِلا شَرِبُوهُ وَلا يَمُرُّونَ بِشَيْءٍ إِلا أَفْسَدُوهَ فَيَجْأَرُونَ إِلَيَّ فَأَدْعُو اللَّهَ فَيُمِيتُهُمْ فَتَجْوَى الأَرْضُ مِنْ رِيحِهِمْ وَيَجْأَرُونَ إِلَيَّ فَأَدْعُو اللَّهَ فَيُرْسِلُ السَّمَاءَ بِالْمَاءِ فَيَحْمِلُ أَجْسَادَهُمْ فَيَقْذِفُهَا فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ تُنْسَفُ الْجِبَالُ وَتُمَدُّ الأَرْضُ مَدَّ الأَدِيمِ، فَعَهِدَ اللَّهُ إِلَيَّ إِذَا كَانَ ذَلِكَ أَنَّ السَّاعَةَ مِنَ النَّاسِ كَالْحَامِلِ الْمُتِمِّ لا يَدْرِي أَهْلُهَا مَتَّى تَفْجَأُهُمْ بِوِلادَتِهَا لَيْلا أَمْ نَهَارًا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَوَجَدْتُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ}
{وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [الأنبياء: 97] قال ابن عباس: يريد القيامة، فإذا هي فإذا القصة، {شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء: 97] أي: القصة أن أبصارهم تشخص في ذلك اليوم، قال الكلبي: شخصت أبصار الكفار فلا تكاد تطرف من شدة ذلك اليوم.
وهو قوله وقالوا: {يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا} [الأنبياء: 97] في الدنيا، {فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [الأنبياء: 97] اليوم {بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء: 97] أنفسنا بتكذيب الرسل.
ثم خاطب أهل مكة، فقال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ {98} لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ {99} لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ {100} إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ {101} لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ {102} لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ {103} } [الأنبياء: 98-103] {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء: 98] يعني: الأوثان، حصب جهنم الحصب: ما رميت به في النار، قال ابن عباس:(3/252)
يريد وقودها.
وقال مجاهد، وقتادة، وعكرمة: حطبها.
وقال الضحاك: يرمون بهم في النار كما يرمى بالحصباء.
{أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98] فيها داخلون.
{لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ} [الأنبياء: 99] يعني: الأصنام، آلهة كما يزعم الكفار، ما وردوها يعني: العابدين والمعبودين، لقوله: {وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ {99} لَهُمْ فِيهَا} [الأنبياء: 99-100] في جهنم، {زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} [الأنبياء: 100] قال ابن مسعود: إذا بقي في النار من يخلد فيها، جعلوا في توابيت من نار، ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت أخرى، فلا يسمعون شيئا، ولا يرى أحد منهم أن في النار أحدا يعذب غيره.
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101] قال أكثر المفسرين: لما نزل {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] أتى ابن الزبعرى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا محمد، ألست تزعم أن عزيرا رجل صالح، وأن عيسى رجل صالح، وأن مريم امرأة صالحة؟ قال: بلى.
قال: فإن الملائكة وعيسى ومريم وعزيرا يعبدون من دون الله، فهؤلاء في النار.
فأنزل الله {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101] يعني: هؤلاء الذين ذكرهم سبقت لهم من الله السعادة.
أولئك عنها عن جهنم، {مُبْعَدُونَ {101} لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء: 101-102] أي: حسها وحركة تلهبها، والحس والحسيس الصوت تسمعه من الشيء يمر منك قريبا، {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ} [الأنبياء: 102] من النعيم، {خَالِدُونَ {102} لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} [الأنبياء: 102-103] قال أكثرهم: يعني إطباق جهنم على أهلها.
وقال الحسن: هو أن يؤمر بالعبد إلى النار.
وقال ابن جريج: هو ذبح الموت بين الفريقين.
623 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ السَّرَّاجُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، نا عَبَّادُ بْنُ أَحْمَدَ الْعَرْزَمِيُّ، نا عَمِّي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " ثَلاثَةٌ عَلَى كُثْبَانٍ مِنْ مِسْكٍ لا يُحْزِنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَلا يَكْتَرِثُونَ لِلْحِسَابِ؛ رَجُلٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ مُحْتَسِبًا ثُمَّ أَمَّ بِهِ قَوْمًا مُحْتَسِبًا، وَرَجُلٌ أَذَّنَ مُحْتَسِبًا، وَمَمْلُوكٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَحَقَّ مَوَالِيهِ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ وَتَسْتَقْبِلُهُمْ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْقُبُورِ، وَيَقُولُونَ لَهُمْ: هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ فِي الدُّنْيَا "
{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104] {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء: 104] قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد ملكا يقال له سجل، هو الذي يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه.
وهذا قول السدي، قال: السجل ملك موكل بالصحف، فإذا مات الإنسان، دفع إليه كتابه فطواه.
ونحو هذا روي عن ابن عمر، أنه قال: السجل ملك، والمراد بالكتاب والكتب على اختلاف القراءتين الصحائف،(3/253)
كما تقول: كطي زيد الكتب وتكون اللام زائدة، كقوله: {رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72] .
وقال مجاهد: السجل الصحيفة فيها الكتب.
وهو قول قتادة، والكلبي، واختيار الفراء، وابن قتيبة، وعلى هذا القول، الكتب يراد بها المكتوب، ولما كان المكتوب ينطوي بانطواء الصحيفة جعل السجل كأنه يطوي الكتاب، وقوله: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104] كما بدأناهم في بطون أمهاتهم حفاة عراة غرلا، كذلك نعيدهم يوم أول.
624 - أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْصٍ الْمَاوَرْدِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الصُّوفِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أنا سُفْيَانُ، حَدَّثَنِي الْمُغِيرَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلا، ثُمَّ قَرَأَ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} أَلا إِنَّ أَوَّلَ مِنْ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ "، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ
وقال الزجاج: المعنى نبعث الخلق كما ابتدأناه، أي: قدرتنا على الإعادة كقدرتنا على الابتداء، والخلق ههنا مصدر لا يعني المخلوق، وقوله: وعدا علينا أي: وعدناكم ذلك وعدا علينا {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104] ما وعدناكم من ذلك.
{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ {105} إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ {106} وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ {107} } [الأنبياء: 105-107] وقوله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ} [الأنبياء: 105] يعني: جميع الكتب المنزلة من السماء، {مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء: 105] يعني: أم الكتاب الذي عند الله، هذا قول سعيد بن جبير، ومجاهد، وابن زيد، واختيار الزجاج، قال: الزبور جميع الكتب التوراة والإنجيل، والقرآن زبور لأن الزبور والكتاب في معنى واحد، يقال: زبرت الشيء وكتبت.
وقوله: أن الأرض يريد أرض الجنة كقوله: {وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ} [الزمر: 74] ، {يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] يعني: المؤمنين العاملين بطاعة الله، ويرثونها كقوله: {يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} [المؤمنون: 11] .
{إِنَّ فِي هَذَا} [الأنبياء: 106] يعني القرآن، لبلاغا لكفاية، يقال في هذا الشيء: بلاغ وبلغة وتبلغ أي كفاية، والمعنى أن من اتبع القرآن وعمل به كان القرآن بلاغه إلى الجنة، وقوله: لقوم عابدين قال كعب: هم أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين يصلون الصلوات الخمس، ويصومون شهر رمضان، سماهم عابدين.
ونحو هذا روي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
625 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أنا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْوَلِيدِ الْعَدَنِيُّ، بِمَكَّةَ، نا الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الشَّعْبِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عُثْمَانَ، نا عَبْدُ الرَّحِيمِ الْعَمِّيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،(3/254)
قَرَأَ إِنَّ هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ ثُمَّ قَالَ: هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فِي الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] قال ابن عباس: يريد للبر والفاجر، لأن كل نبي غير محمد إذا كذب أهلك الله من كذبه وأخر من كذبه إلى موت أو قيامة، والذي صدقه عجلنا له الرحمة في الدنيا والآخرة.
وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا أيها الناس، إنما أنا رحمة مهداة» .
626 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ الصُّوفِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدُوسٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، نا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً»
{قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ {108} فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ {109} إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ {110} وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ {111} قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ {112} } [الأنبياء: 108-112] {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [الأنبياء: 108] منقادون إلى ما يوحى إلي من إخلاص الإلهية والتوحيد لله، والمراد بهذا الاستفهام الأمر، كقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] .
فإن تولوا أعرضوا ولم يسلموا، فقل آذنتكم أعلمتكم للحرب، على سواء أي: إيذانا على سواء، إعلاما يستوي في علمه الجميع، ولم نبدأ به دونكم لتتأهبوا لما يراد منكم.
وإن أدري ما أدري، {أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 109] يعني: أجل القيامة لا يدري به أحد إلا الله.
{إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ} [الأنبياء: 110] ما تعلنون، {وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} [الأنبياء: 110] سركم لا يغيب عن علمه شيء منكم.
{وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ} [الأنبياء: 111] قال الزجاج: ما أدري لعل ما آذنتكم به فتنة لكم.
أي اختبار، يعني: ما أخبركم به من أنه لا يدري وقت عذابهم، وهو القيامة، فكأنه قال: لعل تأخير العذاب عنكم اختبار لكم، ليرى كيف صنيعكم.
وقوله: {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأنبياء: 111] أي: تستمتعون إلى انقضاء آجالكم.
قوله: قل رب احكم بالحق أي: بعذاب كفار قومي الذي هو حق نازل بهم، ويدل على هذا ما روي أنه كان إذا شهد قتالا، قال: «رب احكم بالحق» .
قال الكلبي: فحكم عليهم بالقتل يوم بدر،(3/255)
ويوم أحد، ويوم الأحزاب، ويوم حنين، ويوم الخندق.
والمعنى على هذا: افصل بيني وبين المشركين بما يظهر به الحق للجميع.
وقرأ حفص {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء: 112] يعني: قال الرسول ذلك، وقوله: {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 112] من كذبهم وباطلكم في قولكم: {هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الأنبياء: 3] ، وقولكم: {اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} [الأنبياء: 26] .
والوصف بمعنى الكذب، ذكر في مواضع من التنزيل كقوله: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} [الأنعام: 139] ، وقوله: {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18] .(3/256)
سورة الحج
مدنية وآياتها ثمان وسبعون.
627 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحِيرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِيرِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ الْمَدَائِنِيُّ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْحَجِّ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ كَحَجَّةٍ اعْتَمَرَهَا، بِعَدَدِ مَنْ حَجَّ وَاعْتَمَرَ فِيمَا مَضَى وَفِيمَا بَقِيَ»
بسم الله الرحمن الرحيم {يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ {1} يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ {2} } [الحج: 1-2] {يَأَيُّهَا النَّاسُ} [الحج: 1] قال ابن عباس: يريد أهل مكة.
اتقوا ربكم اتقوا عقابه بطاعته، {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ} [الحج: 1] الزلزلة: شدة الحركة على الحال الهائلة.
قال علقمة، والشعبي: هي من أشراط الساعة، وهي في الدنيا قبل يوم القيامة.
وقال الحسن، والسدي: وهذه الزلزلة تكون يوم القيامة.
وروي عن ابن عباس، أنه قال: زلزلة الساعة قيام الساعة.
يعني أنها تقارن قيام الساعة، وتكون معها، وقوله: شيء عظيم يعني أنه لا يوصف لعظمه.
يوم ترونها ترون تلك الزلزلة، تذهل في هذا اليوم، {كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} [الحج: 2] تنسى وتترك كل والدة ولدها، يقال: وهل عن كذا يذهل ذهولا؟ إذا تركه أو شغله عنه شاغل.
قال الحسن: تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام، وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام.
وهو قوله: {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} [الحج: 2] يعني: من هول ذلك اليوم، وهذا يدل على أن هذه الزلزلة تكون في الدنيا، لأن بعد البعث لا يكون حبلى، وعند شدة الفزع تلقي المرأة جنينها، {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} [الحج: 2] من شدة الخوف، {وَمَا هُمْ(3/257)
بِسُكَارَى} [الحج: 2] من الشراب، هذا قول جميع المفسرين، والمعنى: ترى الناس كأنهم سكارى من ذهول عقولهم لشدة ما يمر بهم، يضطربون اضطراب السكران من الشراب، يدل على صحة هذا قراءة من قرأ وترى الناس بضم التاء، أي تظنهم، قال الفراء: ولهذه القراءة وجه جيد.
وسكارى وقرئ سكرى قال الفراء: ولهذه القراءة وجه جيد في العربية، لأنه بمنزلة الهلكى والجرحى والمرضى والزمنى، والعرب تجعل فعلى علامة لجمع كل ذي زمانة وضرر وهلاك، ولا يبالون أكان واحده فاعلا أو كان فعيلا أو فعلان.
وقوله: {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 2] دليل على أن سكرهم من خوف العذاب.
628 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ الزَّاهِدُ، أنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَبْسِيُّ، أنا وَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَقُولُ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا آدَمُ قُمْ فَابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ فَيَقُولُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُ مِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، قَالَ: فَحِينَئِذٍ يَشِيبُ الْوَلِيدُ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، وَلَكِنْ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ، فَيَقُولُونَ: وَمَنْ ذَلِكَ الْوَاحِدُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تِسْعُ مِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَمِنْكُم وَاحِدٌ، فَقَالَ النَّاسُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاللَّهِ، إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَاللَّهِ، إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، قَالَ: يُكَبِّرُ النَّاسَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ فِي النَّاسِ إِلا كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الأَسْوَدِ أَوْ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي الثَّوْرِ الأَبْيَضِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، كِلاهُمَا، عَنِ الأَعْمَشِ
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ {3} كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ {4} } [الحج: 3-4] قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الحج: 3] قال المفسرون: نزلت في النضر بن الحارث، كان كثير الجدال، وكان ينكر أن الله قادر على إحياء من بلي.
وقال عطاء، عن ابن عباس: يريد الوليد وعتبه بن ربيعة.
والمعنى أنه(3/258)
يخاصم في قدرة الله، ويزعم أنه غير قادر على البعث بغير علم في ذلك، إنما يقوله باغواء الشيطان وطاعته إياه، وهو قوله: {وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [الحج: 3] قال ابن عباس: المريد المتمرد على الله.
{كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج: 4] قال ابن عباس: قضى الله أن من أطاع إبليس أضله ولم يرشده وجره إلى عذاب السعير.
{يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ {5} ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {6} وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ {7} } [الحج: 5-7] {يَأَيُّهَا النَّاسُ} [الحج: 5] يعني: أهل مكة، {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} [الحج: 5] قال ابن عباس: في شك من القيامة.
{فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج: 5] قال الزجاج: أي تدبروا أمر خلقكم وابتدائكم فإنكم لا تجدون في القدرة فرقا بين ابتداء الخلق وبين إعادته.
وهو قوله: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج: 5] يعني: خلق آدم، {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} [الحج: 5] يعني: خلق ولده، {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} [الحج: 5] وهي الدم الجامد قبل أن يبيض، وذلك أن النطفة المخلوق منها الولد تصير دما غليظا، ثم تصير لحما، وهو قوله: {ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} [الحج: 5] والمضغة: قطعة لحم، وقوله: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج: 5] قال ابن الأعرابي: مخلقة قد برأ خلقه، وغير مخلقة لم تصور.
قال السدي: هذا في السقط، والمرأة تسقط النطفة بيضاء، والعلقة تسقط قد صور بعضه، وتسقط وقد صور كله.
فعلى هذا القول المخلقة وغير المخلقة في السقط، وذهب الأكثرون إلى أن المخلقة: ما أكمل خلقه فينفخ الروح فيه، وهو الذي يولد لتمام حيا، وما سقط كان غير مخلقة، أي غير حي بإكمال خلقه بالروح، وهذا معنى قول ابن عباس رواية عطاء، وعكرمة، والكلبي.
ويدل على صحة التفسير: ما
629 - مَا أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ حَيَّانَ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا الْعَسْكَرِيُّ، نا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: إِنَّ النُّطْفَةَ إِذَا اسْتَقَرَّتْ فِي الرَّحِمِ أَخَذَهَا مَلَكٌ بِكَفِّهِ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، مُخَلَّقَةٌ أَمْ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ؟ فَإِنْ قِيلَ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ؛ قَذَفَتْهَا الأَرْحَامُ دَمًا وَلَمْ تَكُنْ نَسَمَةً وَإِنْ قِيلَ مُخَلَّقَةٌ؛ قَالَ: رَبِّ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٍ؟ مَا الأَجَلُ؟ مَا الأَثَرُ؟ مَا الرِّزْقُ؟ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ؟ فَيُقَالُ: اذْهَبْ إِلَى أُمِّ الْكِتَابِ، فَإِنَّكَ تَجِدُ فِيهَا قِصَّةَ هَذِهِ النُّطْفَةِ فَيَذْهَبُ فَيَجِدُهَا فِي أُمِّ الْكِتَابِ فَتُخْلَقُ فَتَعِيشُ مِنْ أَجَلِهَا وَتَأْكُلُ رِزْقَهَا وَتَطَأُ أَثَرَهَا حَتَّى إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا مَاتَتْ فَدُفِنَتْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي ثَبَتَ لَهَا، ثُمَّ تَلا عَامِرٌ: {يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ
وقوله: لنبين لكم قال ابن عباس: لنبين لكم ما تأتون وما تذرون.
يعني أن الله خلق بني آدم ليبين لهم ما يحتاجون إليه في العبادة، وقال صاحب النظم: ليبين لكم أن البعث حق، لأن الآية نزلت دلالة على البعث.
ونقر ونثبت،} فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ { [الحج: 5] فلا يكون سقطا،} إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى { [الحج: 5] إلى(3/259)
أجل الولادة،} ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا { [الحج: 5] قال الزجاج: طفلا في معنى أطفال.
ودل عليه ذكر الجماعة،} ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ { [الحج: 5] فيه إضمار تقدريره ثم نعمركم لتبلغوا أشدكم، يعني الكمال والقوة، وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين،} وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ { [غافر: 67] بلوغ الأشد،} وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ { [الحج: 5] أي: أخسه وأدونه، وهو الخرف،} لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا { [الحج: 5] قال ابن عباس: يبلغ السن من بعد ما يتغير عقله حتى لا يعلم شيئا.
قال عكرمة: من قرأ القرآن لم يصير بهذه الحالة.
واضح بقوله:} ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ {5} إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ { [التين: 5-6] .
قال: إلا الذين قرأوا القرآن.
ثم دلهم على إحيائه الموتى بإحيائه الأرض، فقال:} وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً { [الحج: 5] قال ابن عباس: هي التي تلبدت وذهب عنها الندى.
وقال مجاهد: هالكة.
يعني جافة يابسة، وقال ابن قتيبة: ميتة يابسة كالنار إذا طفئت فذهبت.
} فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ { [الحج: 5] تحركت بالنبات، وذلك أن الأرض ترتفع عن النبات، فذلك تحركها، وهو معنى قوله: وربت أي: ارتفعت وزادت، وقال المبرد: أراد واهتز وربى نباتها.
فحذف المضاف، والاهتزاز في النبات أظهر، يقال: اهتز النبات إذا طال.
} وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ { [الحج: 5] قال ابن عباس: من كل صنف حسن.
والبهجة: حسن الشيء ونضارته، والبهيج: الحسن وقد بهج، ومنه قوله:} حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ { [النمل: 60] أي: تبهج الناظر وتمتعه برؤيتها.
قوله:} ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ { [الحج: 6] أي: فعل الله ذلك، يعني: ما ذكر من ابتداء الخلق وإحياء الأرض بأنه هو الحق أي: ذو الحق، يعني أن جميع ما يأمر به ويفعله هو الحق لا الباطل، كما يأمر به الشيطان من الباطل،} وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى { [الحج: 6] أي: وبأنه يحيى الموتى، والمعنى: فعل ما فعل بقدرته على إحياء الموتى، وبأنه قادر على ذلك، وقادر على ما أراد، وهو قوله:} وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {6} وَأَنَّ السَّاعَةَ { [الحج: 6-7] أي: ولتعلموا أن الساعة، آتية والمعنى: بدء الخلق وإحياء الأرض بالماء دلالة لكم لتعلموا بها أن القيامة آتية، وأن البعث حق، وهو قوله:} وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ { [الحج: 7] .
} وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ {8} ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ {9} ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ {10} { [الحج: 8-10] وقوله:} وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ { [الحج: 8] تقدم تفسيره، وقوله:} وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ { [الحج: 8] قال ابن عباس: ليس معه من ربه رشاد ولا بيان ولا كتاب له نور.
} ثَانِيَ عِطْفِهِ { [الحج: 9] يقال: ثنيت الشيء إذا عطفته، ومنه قوله:} يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ { [هود: 5] .
والعطف الجانب، وعطفا الرجل جانباه، عن يمين وشمال، وهو الموضع الذي يعطفه الإنسان، أي يلويه ويميله عند الإعراض عن الشيء، قال ابن عباس: مستكبرا في نفسه.
وقال مجاهد، وقتادة: لاوي عنقه.
وقال ابن زيد: معرضا عما يدعى إليه كبرا.
وقال الزجاج: وهذا لا يوصف به المتكبر.
والمعنى: ومن الناس من يجادل في الله منكرا، وقوله:} لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ { [الحج: 9] ليذهب عن طاعة الله، والمعنى أنه يجادل ليضل عن سبيل الله، لا أن له على ما(3/260)
يجادل فيه حجة،} لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ { [الحج: 9] يعني: ما أصابه يوم بدر، وهو أبو جهل قتل بدر، وأوعد بعذاب الآخرة، وهو قوله:} وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ {9} ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ {10} { [الحج: 9-10] والآية مفسرة في} [الأنفال.
] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ {11} يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ {12} يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ {13} { [سورة الحج: 11-13] قوله:} وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ { [الحج: 11] أكثر المفسرين قالوا: على شك وضلالة.
وأصله من حرف الشيء، وهو طرفه، نحو حرف الجبل والدكان والحائط الذي عليه القائم غير مستقر، فالذي يعبد الله على حرف قلق في دينه على غير ثبات وطمأنينة، كالذي هو على حرف الجبل ونحوه يضرب اضطرابا ويضعف قيامه، فهو يعرض أن يقع في أحد جانبي الطرف، فقيل للشاك في دينه: إنه يعبد الله على حرف، لأنه ليس على يقين في وعده ووعيده، بخلاف المؤمن لأنه لو عبده على يقين وبصيرة، ولم يكن على حرف يسقط عنه بأدنى شيء يصيبه، وهذا المعنى ظاهر في قوله:} فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ { [الحج: 11] أي: أصابه رخاء وعافية وخصب، وكثر ماله اطمأن على عبادة الله بذلك الخير،} وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ { [الحج: 11] اختبار بجدب وقلة ماله،} انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ { [الحج: 11] رجع عن دينه إلى الكفر وعبادة الأوثان، والمعنى: انصرف إلى وجهه الذي توجه منه، وهو الكفر، نزلت في أعراب كانوا يقدمون على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة مهاجرين من باديتهم، فكان أحدهم إذا صح جسمه، ونتجت فرسه مهرا حسنا، وكثر ماله، رضي واطمأن، وقال: ما أصبت منذ دخلت في هذا الدين إلا خيرا، وإن أصابه وجع المدينة، وولدت امرأته جارية، وأجهضت رماكه، وذهب ماله، أتاه الشيطان، فقال: ما أصبت في هذا الدين إلا شرا فينقلب عن الدين.
وقوله:} خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ { [الحج: 11] يعني: هذا الشاك خسر دنياه، حيث لم يظفر بما طلب من المال، وخسر آخرته بارتداده عن الدين.
ذلك الذي فعل،} هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ { [الحج: 11] الضرر الظاهر.
} يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ { [الحج: 12] أي: هذا المرتد يعبد سوى الله،} مَا لا يَضُرُّهُ { [الحج: 12] إن لم يعبده، ولا ينفعه إن أطاعه، ذلك الذي فعل} هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ { [الحج: 12] عن الحق والرشد.
} يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ { [الحج: 13] قال السدي: ضره في الآخرة بعبادته إياه أقرب من النفع، وإن كان لا نفع عنده، ولكن العرب تقول: لما لا يكون هذا بعيد، ونفع الصنم بعيد لأنه لا يكون، فلما كان نفعه بعيدا، قيل لضره: إنه أقرب من نفعه، على معنى أنه كائن.
وقوله: لبئس المولى أي الناصر، ولبئس العشير أي:(3/261)
الصاحب والمخالط، يعني الصنم، يخالطه العابد ويصاحبه.
ولما ذكر الشاك في الدين بالخسران ذكر ثواب المؤمنين، فقال:} إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ {14} مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ {15} وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ {16} { [الحج: 14-16] } إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ { [الحج: 14] وقوله:} إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ { [الحج: 14] أي: بأوليائه وأهل طاعته من الكرامة، وبأهل معصيته من الهوان.
قوله:} مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ { [الحج: 15] أي: لن ينصر الله محمدا حتى يظهره على الدين كله فليمت غيظا، وهو تفسير قوله:} فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ { [الحج: 15] فليشدد حبلا في سقفه، ثم ليقطع أي: ليمد الحبل حتى ينقطع فيموت مختنقا، والمعنى: فليختنق غيظا حتى يموت، فإن الله مظهره ولا ينفعه غيظه، وهو قوله:} فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ { [الحج: 15] أي: صنيعه وحيلته، ما يغيظ ما بمعنى المصدر، أي: هل يذهبن كيده وغيظه؟ وكذلك ومثل ذلك، يعني ما تقدم من آيات القرآن، أنزلناه يعني القرآن، آيات بينات وقال ابن عباس: يريد لأهل التوحيد.
} وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي { [الحج: 16] أي: وأنزلنا إليك أن الله يهدي، من يريد قال ابن عباس: يريد أهل التوحيد.
} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ { [الحج: 17] } إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا { [الحج: 17] ظاهر متقدم إلى قوله:} إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ { [الحج: 17] يقضي بينهم، يوم القيامة بإدخال المؤمنين الجنة والآخرين النار،} إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ { [الحج: 17] من أعمال هؤلاء، شهيد عالم بما شاهده.
} أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ { [الحج: 18] ألم تر ألم تعلم،} أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ { [الحج: 18] يعني: أهل السموات، إلى قوله: والدواب وصف الله تعالى هذه الأشياء بالسجود له، وهو خضوعها وذلتها وانقيادها لخالقها فيما يريد منها، ومعنى السجود في اللغة الخضوع، وقوله:} وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ { [الحج: 18] يعني: المؤمنين الذين يسجدون لله تعالى، وانقطع ذكر الساجدين، ثم ابتدأ، فقال:} وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ { [الحج: 18] أي ممن لا يوحده وأبى السجود، قال الفراء: قوله:} حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ { [الحج: 18] يدل على أن المعنى: وكثير أبى السجود(3/262)
لأنه لا يحق عليه العذاب إلا بتركه السجود،} وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ { [الحج: 18] من يشقه الله فما له من مسعد،} إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ { [الحج: 18] في خلقه من الإهانة والكرامة، والشقاوة والسعادة.
} هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ {19} يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ {20} وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ {21} كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ {22} { [الحج: 19-22] قوله:} هَذَانِ خَصْمَانِ { [الحج: 19] الفرق الخمسة الكافرة خصم، والمؤمنون خصم، وقد ذكروا جميعا في قوله:} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا { [الحج: 17] والخصم يقع على الواحد والجميع، ولهذا قال:} اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ { [الحج: 19] لأنهم جمعان وليسا برجلين، ومثله:} وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات: 9] والمعنى: اختصموا في دين ربهم، فقالت اليهود والنصارى للمسلمين: نحن أولى بالله منكم، لأن نبينا قبل نبيكم، وديننا قبل دينكم، وكتابنا قبل كتابكم.
فقال المسلمون: بل نحن أحق بالله منكم، آمنا بكتابنا وكتابكم، ونبينا ونبيكم، وكفرتم أنتم بنبينا حسدا.
فكان هذا خصومتهم في ربهم، وهذا قول جماعة المفسرين، وكان أبو ذر يقسم أن هذه الآية نزلت في الذين بارزوا يوم بدر من الفريقين.
630 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أنا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ يُوسُفَ السَّقَطِيُّ، نا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الْقَاضِي، نا عَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ، نا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ، يَقُولُ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} فِي هَؤُلاءِ السِّتَّةِ: حَمْزَةَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مِنْهَالٍ، عَنْ هُشَيْمٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ كِلاهُمَا، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ وَهُوَ مَا عَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْمُفَسِّرِينَ، ثُمَّ بَيَانُ حَالِ الْفَرِيقَيْنِ، فَقَالَ: {الَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} قَالَ الأَزْهَرِيُّ: أَيْ: سُوِّيَتْ وَجُعِلَتْ لَبُوسًا لَهُمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حِينَ صَارُوا إِلَى جَهَنَّمَ أُلْبِسُوا مُقَطَّعَاتِ النِّيرَانِ
وقوله: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحج: 19] روى أبي هريرة أنه قرأ هذه الآية، ثم قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إن الحميم ليصب على رءوسهم، فينفذ الجمجمة، حتى يخلص إلى جوف الكافر، فيسلت ما في جوفه حتى يحرق قدميه، وهو الصهر، ثم يعاد كما كان» .
وهذا معنى قوله تعالى: يصهر به أي: بذلك الحميم، {مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج: 20] وفسر الصهر بالإذابة والإحراق(3/263)
والإنضاج، وهو قول المفسرين، قال ابن عباس في رواية عطاء: ينضج.
وقال قتادة، ومجاهد: تذاب.
والمعنى أن أمعاءهم وشحومهم تذاب وتحرق بهذا الحميم وتشوى جلودهم فيتساقط من حره.
قوله: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج: 21] قال الليث: المقمعة شبه الجزر من الحديد، يضرب بها الرأس، وجمعها المقامع.
من قولهم: قمعت رأسه إذا ضربته ضربا عنيفا.
631 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ، نا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، نا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِهِمْ: « {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} لَوْ وُضِعَ مَقْمَعٌ مِنْ حَدِيدٍ فِي الأَرْضِ ثُمَّ اجْتَمَعَ الثَّقَلانِ مَا أَقَلُّوهُ مِنَ الأَرْضِ»
قال الحسن: إن النار ترميهم بلهبها، حتى إذا كانوا في أعلاها، ضربوا بمقامع، فهووا فيها سبعين خريفا، فإذا انتهوا إلى أسفلها، ضربهم زفير لهبها فلا يستقرون ساعة.
فذلك قوله: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ} [الحج: 22] يعني: كلما حاولوا الخروج من النار لما يلحقهم من الغم والكرب الذي يأخذ بأنفاسهم حتى ليس لهم مخرج، ردوا إليها بالمقامع، قال المفسرون: إن جهنم لتجيش بهم، فتلقيهم إلى أعلاها، فيريدون الخروج منها، فيردهم الخزان فيها، ويقولون لهم: {ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران: 181] والحريق اسم من الاحتراق.
وقال الزجاج: وهذا لأحد الخصمين، وقال في الخصم الآخر، الذين هم المؤمنون: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ {23} وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ {24} } [الحج: 23-24] {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 23] الآية، وهي مفسرة في { [الكهف إلى قوله: ولؤلؤ وهو ما يستخرج من البحر، والمعنى: إنهم يحلون أساور من ذهب ومن لؤلؤ، أي منها، بأن يرصع اللؤلؤ في الذهب، وقرئ ولؤلؤا بالنصب على ويحلون لؤلؤا، وقوله:] وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [سورة الحج: 23] يعني أنهم يلبسون في الجنة ثياب الإبريسم، وهو الذي حرم لبسه في الدنيا على الرجال، قال أبو سعيد الخدري: من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة كلهم غيره، قال الله عز وجل: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23] .
632 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أنا بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بِشْرٍ، نا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ الْبُحْتُرِيُّ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، نا أَبِي، نا شُعْبَةُ، حَدَّثَنِي خَلِيفَةُ بْنُ كَعْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: لا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآخِرَةِ، وَمَنْ لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآخِرَةِ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ؛ لأَنَّ اللَّهَ، تَعَالَى، يَقُولُ {لِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ}
{وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} [الحج: 24] قال ابن عباس: يرد لا إله(3/264)
إلا الله، والحمد لله.
وزاد ابن زيد: والله أكبر.
وقال السدي: إلى القرآن.
{وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج: 24] أرشدوا إلى الإسلام، وهو دين الله وطريقه والحميد في أفعاله.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج: 25] عطف المضارع على لفظ الماضي، لأن المراد بالمضارع أيضا الماضي، ويقوي هذا قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد: 1] ويجوز أن يكون المعنى: إن الذين كفروا فيما مضى وهم الآن يصدون مع ما تقدم من كفرهم، والمعنى: يمنعون الناس عن طاعة الله، {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً} [الحج: 25] أي: مستقرا ومنسكا وتعبدا، كما قال: {وُضِعَ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 96] قال المفسرون: جعلناه للناس خلقناه وبنيناه للناس كلهم، لم نخص به منهم بعضا دون بعض.
قال الزجاج: جعلناه للناس وقف التمام.
ثم قال: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25] وسواء رفع على أنه خبر ابتداء مقدم، المعنى: العاكف والبادي فيه سواء، ومن نصب فقال: سواء، كان التقدير مستويا فيه العاكف والباد، فرفع العاكف بسواء كما يرفع بمستوى العاكف المقيم فيه والبادي الذي ينتابه من غير أهله في قول الجميع، ومعنى البادي النازع إليه من غربة، من قولهم: بدا القوم إذا خرجوا من الحضر إلى الصحراء، وإنما يستويان في سكنى مكة والنزول بها، فليس أحدهما بأحق بالمنزل يكون فيه من الآخر، غير أن لا يخرج أحد من بيته، وهذا قول قتادة، وسعيد بن جبير، وابن عباس، ومن مذهب هؤلاء أن كراء دور مكة وبيعها حرام بالمسجد الحرام على قولهم الحرم كله، كقوله: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1] .
وقال آخرون: المراد بالمسجد الحرام عين المسجد الذي يصلى فيه، وظاهر القرآن يدل على هذا، والمراد باستواء العاكف والبادي فيه استواؤهما في تفضيله، وتعظيم حرمته، وإقامة المناسك به، وهذا مذهب مجاهد، والحسن، وقول من أجاز بيع دور مكة، وكان المشركون يمنعون المسلمين عن الصلاة في المسجد الحرام والطواف به، ويدعون أنهم أربابه وولاته.
وقوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج: 25] اتفقوا على أن الباء في بإلحاد زيادة، والمعنى: ومن يرد فيه إلحادا بظلم، ومعنى الإلحاد في اللغة العدول عن القصد، واختلفوا في معناه ههنا: فقال مجاهد، وقتادة: هو الشرك وعبادة غير الله.
وقال آخرون: هو كل شيء كان منهيا(3/265)
عنه، وحتى شتم الخادم.
وقال عطاء: هو دخول مكة بغير إحرام، وأذى حمام مكة، وأشياء كثيرة لا يجوز للمحرم أن يفعلها.
وعلى هذا القول الإلحاد بالظلم هو استحلال محظورات الاحرام وركوبها، وقال الضحاك: إن الرجل ليهم بالخطيئة بمكة، وهو بأرض أخرى، فتكتب عليه ولم يعملها.
ونحو هذا قال ابن مسعود فيما:
633 - أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْحِيرِيُّ، أنا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، نا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} ، قَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلا هَمَّ بِخَطِيئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَعْمَلْهَا، وَلَوْ أَنَّ رَجُلا هَمَّ بِقَتْلِ رَجُلٍ عِنْدَ الْبَيْتِ وَهُوَ بِعَدَنِ أَبْيَنَ أَذَاقَهُ اللَّهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، قَالَ السُّدِّيُّ: إِلا أَنْ يَتُوبَ
{وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ {26} وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ {27} لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ {28} ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ {29} } [الحج: 26-29] قوله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج: 26] قال الزجاج: جعلنا مكان البيت مبوأ لإبراهيم، ومعنى بوأنا ههنا بيتا مكان البيت، قال السدي: إن الله تعالى لما أمره ببناء البيت لم يدر أين يبني، فبعث الله ريحا خجوجا، فكنست له ما حول الكعبة عن الأساس الأول الذي كان البيت عليه قبل أن يرفع أيام الطوفان، وقال الكلبي: بعث الله سحابة على قدر البيت فيها رأس يتكلم، فقامت بحيان البيت، وقالت: يا إبراهيم، ابن على قدري.
وقوله: {أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} [الحج: 26] أي: وأوحينا إليه ألا تعبد معي غيري، قال المبرد: كأنه قيل له: وحدني في هذا البيت.
لأن معنى {لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} [الحج: 26] وحد الله وطهر بيتي من الشرك وعبادة الأوثان، والآية مفسرة في { [البقرة.
قوله:] وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [سورة الحج: 27] قال جماعة المفسرين: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت جاءه جبريل فأمره أن يؤذن في الناس بالحج، فقال إبراهيم: يا رب، وما يبلغ صوتي.
قال الله: أذن وعليَّ البلاغ.
فعلا على المقام، فأشرف به حتى صار كأطول الجبال، فأدخل إصبعيه في أذنيه، وأقبل بوجهه يمينا وشمالا وغربا، وقال: يا أيها الناس، كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فأجيبوا ربكم.
فأجابه من كان في أصلاب الرجال،(3/266)
وأرحام النساء: لبيك اللهم لبيك.
634 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ، أنا الْقَاسِمُ بْنُ غَانِمِ بْنِ حَمُّوَيْهِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ، نا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، نا أَبُو خَلَفٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى الْخَزَّازُ، نا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ السَّلامُ، أَنْ يُنَادِيَ فِي النَّاسِ صَعِدَ أَبَا قُبَيْسٍ وَوَضَعَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ، وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَجِيبُوا رَبَّكُمْ، فَأَجَابُوهُ بِالتَّلْبِيَةِ فِي أَصْلابِ الرِّجَالِ، وَأَوَّلُ مَنْ أَجَابَهُ أَهْلُ الْيَمَنِ، فَلَيْسَ أَحَدٌ يَحُجُّ الْبَيْتَ إِلا أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ إِلا مَنْ أَجَابَ إِبْرَاهِيمَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يَأْتُوكَ رِجَالا} فَمَنْ أَتَى الْكَعْبَةَ حَاجًّا فَكَأَنَّهُ قَدْ أَتَى إِبْرَاهِيمَ؛ لأَنَّهُ مُجِيبُ نِدَاءٍ، وَرِجَالٌ جَمْعُ رَاجِلٍ؛ مِثْلُ قَائِمٍ وَقِيَامٍ، {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} أَيْ: رُكْبَانًا، وَالضُّمُورُ: الْهُزَالُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الإِبِلَ وَلا يَدْخُلُ بَعِيرٌ وَلا غَيْرُهُ الْحَرَمَ إِلا وَقَدْ ضَمَرَ، وَالْمَعْنَى: يَأْتُوكَ مُشَاةً وَرُكْبَانًا
635 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمُزَكِّي، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ نُجَيْدٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، نا أَحْمَدُ بْنُ حَاتِمٍ، نا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِبَنِيهِ: يَا بَنِيَّ، حُجُّوا مِنْ مَكَّةَ مُشَاةً حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَيْهَا مُشَاةً، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " لِلْحَاجِّ الرَّاكِبِ بِكُلِّ خَطْوَةٍ تَخْطُوهَا رَاحِلَتُهُ سَبْعُونَ حَسَنَةً، وَلِلْحَاجِّ الْمَاشِي بِكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا سَبْعُ مِائَةِ حَسَنَةٍ مِنْ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ، قَالَ: قِيلَ: وَمَا حَسَنَاتُ الْحَرَمِ؟ قَالَ: الْحَسَنَةُ بِمِائَةِ أَلْفٍ "
وقوله: {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27] أي: طريق بعيد، وذكرنا الفج عند قوله: {فِجَاجًا سُبُلا} [الأنبياء: 31] .
636 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحَمْنِ الْفَقِيهِ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سِنَانٍ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْمَوْصِلِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، نا صَالِحٌ الْمُرِّيُّ، عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ يُبَاهِي بِأَهْلِ عَرَفَاتٍ الْمَلائِكَةَ، يَقُولُ: يَا مَلائِكَتِي، انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا أَقْبَلُوا يَضْرِبُونَ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَجَبْتُ دُعَاءَهُمْ، وَشَفَّعْتُ رَغْبَتَهُمْ، وَوَهَبْتُ مُسِيئَهُمْ لِمُحْسِنِهِمْ، وَأَعْطَيْتُ لِمُحْسِنِهِمْ جَمِيعَ مَا سَأَلُونِي غَيْرَ التَّبِعَاتِ الَّتِي بَيْنَهُمْ، فَإِذَا أَفَاضَ الْقَوْلُ إِلَى جَمْعٍ وَوَقَفُوا، عَادُوا فِي الرَّغْبَةِ وَالطَّلَبِ إِلَى اللَّهِ، يَقُولُ: مَلائِكَتِي، عِبَادِي وَقَفُوا فَعَادُوا فِي الرَّغْبَةِ وَالطَّلَبِ فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَجَبْتُ دُعَاءَهُمْ، وَشَفَّعْتُ رَغْبَتَهُمْ، وَوَهَبْتُ مُسِيئَهُمْ لِمُحْسِنِهِمْ، وَأَعْطَيْتُ مُحْسِنَهُمْ جَمِيعَ مَا سَأَلَنِي وَكَفَّلْتُ عَنْهُمْ بِالتَّبِعَاتِ الَّتِي بَيْنَهُمْ
قوله تعالى: ليشهدوا ليحضروا: يعني الذين يأتون، منافع لهم أكثر المفسرين: جعلوها منافع الدنيا، وقالوا: يعني التجارة والأسواق.
وهو قول سعيد بن جبير، والسدي، وابن عباس في رواية أبي رزين.
ومنهم من خصها بمنافع الآخرة، وهو قول سعيد بن المسيب، والعوفي، واختيار الزجاج، قال: ليشهدوا ما(3/267)
ندبهم الله إليه مما فيه النفع لهم في آخرتهم.
ومنهم من جعلها شائعة في الأجر والتجارة، وهو قول مجاهد.
ورواية عطاء، عن ابن عباس، قال: منافع لهم في الدنيا والأخرة.
أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم الواعظ، أنا المغيرة بن عمرو بن الوليد العدني، بمكة، نا المفضل بن محمد بن إبراهيم الشعبي، نا محمد بن يوسف، نا أبو فرة، قال: ذكر أبو الحكم، عن عبد الله بن المبارك، عن عبد الله بن لهيعة، عن كثير بن الحارث، عن عمر بن عبد العزيز، أنه كان يقول إذا وقف بعرفة: اللهم إنك دعوت إلى حج بيتك، ووكدت المنفعة على شهود مناسكك، وقد جئتك، فاجعل منفعة ما تنفعني به أن تؤتيني في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وأن تقيني عذاب النار.
وقوله: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] قال الحسن، ومجاهد: يعني أيام العشر، قيل لها معلومات للحرص على علمها بحسابها من أجل وقت الحج في آخرها.
وقال ابن عباس في رواية عطاء: يريد أيام الحج، وهي يوم عرفة، والنحر، وأيام التشريق.
واختاره الزجاج، قال: لأن الذكر ههنا يدل على التسمية على ما ينحر.
لقوله: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 28] أي: على ذبح ما رزقهم من البدن من الإبل والبقر والضأن والمعز، هذه الأيام تختص بذبح الأضاحي، قال قتادة: كان يقول: إذا ذبحت نسيكتك فقل: بسم الله والله أكبر اللهم منك ولك عن فلان.
وأول وقت الذبح إذا مضى صدر يوم النحر إلى أن تغرب الشمس من آخر أيام التشريق.
وقوله: فكلوا منها يعني: من الأنعام التي تنحر، وهذا أمر إباحة، إن شاء أكل، وإن شاء لم يأكل، وكان أهل الجاهلية لا يستحلون أكل ذبائحهم، فأعلم الله أن ذلك جائز، هذا قول جماعتهم، غير أن هذا في هدي كان صاحبه متطوعا به، فأما إذا كان في كفارة، أو جبرانا لنقصان، فلا يحل لصاحبه الأكل منه، وقوله: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] البؤس هو شدة الفقر.
قوله: {ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] التفث الوسخ والقذارة من طول الشعر والأظفار والشعث، وقضاؤه نقضه وإذهابه، والحاج مغير شعث لم يدهن ولم يستحد، فإذا قضى نسكه، وخرج من إحرامه بالقلم والحلق وقص الشارب ولبس الثياب ونتف الإبط وحلق العانة، فهو قضاء التفث.
قال الزجاج: كأنه الخروج من الإحرام إلى الإحلال.
قوله: وليوفوا نذورهم قال ابن عباس: هو نحر ما نذروا من البدن.
وقال آخرون: يعني ما نذروا من أعمال البر في أيام الحج.
وربما ينذر الرجل أن يتصدق إن رزقه الله لقاء الكعبة، وإن كان على الرجل نذور مطلقة فالأفضل أن يتصدق ويهديها إلى أهل مكة، ولذلك قال: وليوفوا نذورهم أي: وليوفوها بقضائها، ولم يقل بنذورهم، لأن المراد بالإيفاء الإتمام، وقوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] يعني: الطواف الواجب، ويسمى طواف الإفاضة، لأنه يكون بعد الإفاضة.
637 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ إِمْلاءً، نا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ يَعْقُوبَ الْمَعْقِلِيُّ، نا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ، نا أَبُو صَالِحٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ مُحَمَّدِ(3/268)
بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّمَا سُمِّيَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ؛ لأَنَّ اللَّهَ أَعْتَقَهُ مِنَ الْجَبَابِرَةِ، فَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ جَبَّارٌ قَطُّ» وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، قَالُوا: لَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ جَبَّارٌ أَرَادَ دُخُولَهُ وَلَكِنْ يَذِلُّ لَهُ وَيَتَوَاضَعُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: الْبَيْتُ الْعَتِيقُ الْقَدِيمُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ
يدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 96] وهو ما:
638 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، نا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، نا أَبِي، عَنْ زَمْعَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ وَهْرَامَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: حَجَّ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَتَى وَادِيَ عُسْفَانَ؛ قَالَ: " لَقَدْ مَرَّ بِهَذَا الْوَادِي نُوحٌ وَهُودٌ وَإِبْرَاهِيمُ عَلَى بَكِرَاتٍ حُمْرٍ خُطُمُهُنَّ اللِّيفُ وَأُزُرُهُمُ الْعَبَاءُ وَأَرْدِيَتُهُمُ النِّمَارُ يَحُجُّونَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ
{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ {30} حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ {31} } [الحج: 30-31] قوله: ذلك أن الأمر ذلك، يعني: ما ذكر من أعمال الحج {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} [الحج: 30] قال الليث: الحرمة ما لا يحل انتهاكه.
وقال الزجاج: الحرمة ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه.
وهي في هذه الآية ما نهي عنها، ومنع من الوقوع فيها، وتعظيمها: ترك ملابستها، وكثير من الناس اختاروا في معنى الحرمات ههنا إنها المناسك، لدلالة ما يتصل بها من الآيات، وقال ابن زيد: المراد بالحرمات ههنا البيت الحرم، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمسجد الحرام، والإحرام.
ويدل على هذا قوله: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: 194] .
وقوله: فهو أي: التعظيم، {خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30] يعني: في الآخرة، {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ} [الحج: 30] الإبل والبقر {إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [الحج: 30] تحريمه في { [المائدة من الميتة والمنخنقة،] فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [سورة الحج: 30] أي: كونوا على جانب منها، فإنها رجس، أي سبب رجس، وهو العذاب أو المأثم.
قال الزجاج: من ههنا تخليص جنس(3/269)
من أجناس.
والمعنى: فاجتنبوا الرجس الذي هو وثن.
{وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] يعني: الشرك بالله، وكان أهل الجاهلية يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك، ويريدون الصنم.
وقال الزجاج: المراد بقوله: {الزُّورِ} [الحج: 30] ههنا تحليلهم بعض الأنعام وتحريم بعضها من البحيرة، والسائبة، وقولهم: هذا حلال وهذا حرام ليفتروا على الله الكذب.
وقال ابن مسعود: يعني شهادة الزور.
639 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمِهْرَجَانِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أنا أَبُو الْقَاسِمِ الْمَنِيعِيُّ، نا جَدِّي، نا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ زِيَادٍ الأَسَدِيِّ، عَنْ فَاتِكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنْ أَيْمَنَ بْنِ خُزَيْمٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ، عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ بِالشِّرْكِ بِاللَّهِ، ثُمَّ قَرَأَ {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} يُرِيدُ: أَنَّهُ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ عِبَادَةِ الْوَثَنِ وَشَهَادَةِ الزُّورِ
قوله: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج: 31] ذكر معنى الحنيف فيما تقدم، قال قتادة، وعبد الله بن القاسم: كانت حنيفية في الشرك، كانوا يحجون البيت، ويحرمون في شركهم الأمهات والبنات والأخوات، وكانوا يسمون حنفاء، فنزلت في حق المؤمنين {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج: 31] أي: حجاجا لله وهم مسلمون موحدون، ثم ضرب لمن أشرك مثلا فقال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} [الحج: 31] أي: سقط من السماء، فتخطفه الطير أي: تأخذه بسرعة، من قولهم: خطف يخطف خطفا إذا سلبه، ومنه قوله: {يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة: 20] قال ابن عباس: يريد تخطف لحمه.
{أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ} [الحج: 31] أي تسقطه، {فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31] بعيد، يقال: سحق سحقا فهو سحيق.
قال الزجاج: أعلم الله أن بعد من أشرك به من الحق كبعد من خر من السماء في أنه لا يملك لنفسه حيلة حتى يقع حيث تسقطه الريح، فهو هالك لا محالة، إما باستلاب الطير لحمه، وإما بسقوطه في المكان السحيق.
قوله: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ {32} لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ {33} } [الحج: 32-33] ذلك أي: الأمر ذلك الذي ذكرناه، {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} [الحج: 32] قال مجاهد: يريد استعظام البدن، واستسمانها، واستحسانها.
وهو قول ابن عباس في رواية مقسم، والشعائر جمع الشعيرة، وهي البدن إذا أشعرت، أي أعلم عليها بأن يجرح سنامها من الجانب الأيمن ليعلم أنها هدي، والذي يهدي مندوب إلى طلب الأسمن(3/270)
والأعظم، {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] أي: فبان تعظيمها، ثم حذف المضاف لدلالة يعظم على التعظيم، وأضاف التقوى إلى القلوب، لأن حقيقة التقوى تقوى القلوب.
قوله: لكم فيها في الشعائر، منافع بركوبها وشرب لبنها إن احتاج إليه، {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الحج: 33] إلى أن ينحر، فهذا قول عطاء بن أبي رباح، ومذهب الشافعي، وعنده أن المهدي لو ركب هدية ركوبا غير فادح فلا بأس، والأكثرون من المفسرين يذهبون إلى أن المنافع من رسلها ونسلها وركوب ظهرها وأصوافها وأدبارها، إنما يكون قبل أن يسميها هديا، فإذا سماها هديا انقطعت المنافع بعد ذلك.
وهو قوله: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الحج: 33] وبعد أن سميت هديا لا ينتفع بها غير أهل الله، والقول هو الأول لقوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} [الحج: 33] أي: في الشعائر، وقبل إيجابها لا تسمى شعائر، ولما روى أبو هريرة، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى رجلا يسوق بدنة، فقال: «اركبها» .
فقال: إنها بدنة.
فقال: «اركبها ويحك» ، أو «ويلك» .
وقوله: ثم محلها أي: حيث يحل نحرها، {إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] يعني: عند البيت، وهو الحرم كله.
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ {34} الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ {35} } [الحج: 34-35] قوله: ولكل أمة أي: جماعة مؤمنة، يعني: من الذين سلفوا، جعلنا منسكا المنسك ههنا مصدر من نسك ينسك إذا ذبح القربان، قال مجاهد: يريد إراقة الدماء.
وقال عكرمة، ومقاتل: يعني ذبح.
وقرأ حمزة بكسر السين، والفتح أولى، لأن المصدر من هذا الباب بفتح العين، والمعنى: جعلنا لكل أمة أن يتقرب إلى الله بأن تذبح الذبائح، {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ} [الحج: 34] أي: على نحر ما رزقهم، {مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 34] وبهيمة غير الأنعام لا يحل ذبحها، ولا التقرب بها، والآية دالة على أن الذبائح ليست من خصائص هذه الأمة، وأن التسمية على الذبائح كانت مشروعة قبلنا، وقوله: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الحج: 34] أي: لا ينبغي أن تذكروا على ذبائحكم إلا الله وحده، فله أسلموا انقادوا وأطيعوا، وبشر المخبتين المتواضعين المطمئنين إلى الله.
{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 35] إذا خوفوا بالله خافوا، {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ} [الحج: 35] من البلاء والمصائب في طاعة الله، والمقيمين الصلاة في أوقاتها، يؤدونها كما استحفظهم الله، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج: 35] قال ابن عباس: يتصدقون من الواجب وغيره.
قوله: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج: 36](3/271)
والبدن جمع بدنة، ويجوز بضم الدال مثل ثمرة وثمر وثمر، وهي الناقة والبقرة مما يجوز في الهدي والأضاحي، {جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: 36] أي: من أعلام دينه، والمعنى: جعلنا لكم فيها عبادة لله من سوقها إلى البيت، وتقليدها، وإشعارها، ونحرها، والإطعام منها، {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج: 36] يعني: النفع في الدنيا والأجر في الآخرة، {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} [الحج: 36] على نحرها، صواف قال ابن عباس، وابن عمر: قياما مقيدة سنة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال مجاهد: إذا عقلت إحدى يديها وقامت على ثلاث تنحر، كذلك ويسوى بين أوظفتها لئلا يتقدم بعضها على بعض.
{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] سقطت إلى الأرض، وذلك عند خروج الروح منها، وهو وقت الأكل، وهو قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] قال ابن عباس في رواية عطاء: القانع الذي لا يسأل، والمعتر الذي يأتيك بالسلام ويريك وجهه ولا يسأل.
وهذا قول زيد بن أسلم، وابنه، وسعيد بن جبير، والحسن.
وقال الوالبي، وعكرمة، وقتادة، ومجاهد: القانع الذي يقنع ويجلس في بيته، والمعتر الذي يعتريك ويسألك.
وروى العوفي، عن ابن عباس: أن كليهما الذي لا يسأل.
قال: القانع الذي يرضى بما عنده ولا يسأل، والمعتر الذي يتعرض لك ولا يسألك.
ويقال: قنع قنوعا إذا سأل، وقنع يقنع قناعة إذا رضي بما قسمه له وترك المسألة والتعرض.
قال أبو زيد: سأل القانع السائل.
قال: بعضهم المتعفف، وكل يصلح.
والمعتر من قولهم: عره واعتره وعره واعتراه إذا أتاه يطلب معروفة، إما سؤالا، أو تعرضا.
وقوله: كذلك أي: مثل ما وصفنا من نحرها قياما سخرناها لكم نعمة منا عليكم لتتمكنوا من نحرها على الوجه المسنون، لعلكم تشكرون لكي تشكروا إنعام الله عليكم، قال ابن عباس: شكر الله طاعة له، واعترف بإنعامه.
قوله: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج: 37] {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا} [الحج: 37] قال الكلبي: كان أهل الجاهلية إذا نحروا البدن نضحوا دماءها حول البيت، قربة إلى الله، وأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك، فأنزل الله هذه الآية.
قال مقاتل: لن ترفع إلى الله لحومها ولا دماؤها، ولكن يرفع إلى الله الأعمال الصالحة والتقوى، وهو ما أريد به وجه الله تعالى.
قال الزجاج: أعلم الله أن الذي يصل إليه تقواه وطاعته فيما يأمر به.
وحقيقته معنى هذا الكلام يعود إلى القبول، وذلك أن ما يقبله الإنسان يقال: قد ناله ووصل إليه، فخاطب الله الخلق كعادتهم في تخاطبهم، والمعنى: لن يقبل الله اللحوم ولا دماء إذا كانت من غير تقوى الله، وإنما يتقبل منكم ما تتقونه به، وفي هذا دليل على أن شيئا من العبادات لا يصلح إلا بالنية، وهو أن ينوي بها التقرب إلى الله واتقاء عقابه، وقوله: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ} [الحج: 37] تقدم تفسيره، {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [الحج: 37] على ما بين لكم وأرشدكم لمعالم دينه ومناسك حجه، وهو أن يقول: الله أكبر على ما هدانا.
وبشر المحسنين قال ابن عباس: يريد الموحدين.
{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38] {(3/272)
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38] غائلة المشركين بمنعهم منهم ونصرهم عليهم، وقرئ يدافع وهو بمعنى يدفع، وإن كان من المفاعلة {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38] قال ابن عباس: يريد الذين خانوا الله، وجعلوا معه شريكا، وكفروا نعمه، وقال الزجاج: من ذكر اسم الله وتقرب إلى الأصنام بذبيحة، فهو خوان كفور.
قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ {39} الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ {40} } [الحج: 39-40] {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ} [الحج: 39] الآية، قال المفسرون: كان مشركوا أهل مكة يؤذون أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا يزالون يجيئون من بين مضروب ومشجون ويشكون ذلك، فيقول لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اصبروا فإني لم أومر بالقتال» .
حتى هاجروا، فأنزل الله هذه الآية بالمدينة، وهي أول آية أنزلت في القتال.
وقرئ أذن بفتح الألف على إسناد الفعل إلى الله تعالى لتقدم ذكره، قوله: بأنهم ظلموا أي: بسبب ما ظلموا واعتدوا عليهم بإيذائهم، وإخراجهم عن ديارهم، وقصدهم بالضرب والإهانة، وقرئ يقاتلون بفتح التاء، أي الذين يقاتلهم المشركون المؤمنون، ويقوي هذه القراءة أن الفعل الذي بعده مسند إلى المفعول به، وهو قوله: ظلموا وفي الآية محذوف تقديره: أذن لهم أن يقاتلوا، أو بالقتال، ثم وعدهم النصر فقال: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39] يعني: المؤمنين.
ثم وصفهم، فقال: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 40] قال سيبويه: هذا من الاستثناء المنقطع، المعنى: لكن بأن يقولوا ربنا الله.
أخرجوهم بتوحيدهم {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الحج: 40] وقرئ ولولا دفاع الله وتقدم الكلام في هذا، وقوله: لهدمت يقال: هدمت البناء إذا قضضته فانهدم.
وقرى بالتشديد والتخفيف، يكون للكثير والقليل، والتشديد يختص به الكثير، وقوله: صوامع قال مجاهد، والضحاك: يعني صوامع الرهبان.
وقال قتادة: الصوامع للصابئين، وهي متعبداتهم.
وبيع جمع بيعة وهي كنيسة النصارى، وصلوات وهي كنايس اليهود، وهي بالعبرانية صلوتا، {وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج: 40] بمعنى: مساجد المسلمين من أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومعنى الآية يقول: لولا دفع الله الناس عن القتال ببعض الناس، لهدم في شريعة كل نبي(3/273)
المكان الذي يصلي فيه، فكان لولا الدفع، لهدم في زمن موسى الكنايس، وفي زمن عيسى الصوامع، وفي زمن محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المساجد.
وقوله: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40] أي: ينصر دينه وشريعته، {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ} [الحج: 40] على خلقه، عزيز منيع في سلطانه وقدرته، وقال مقاتل: عزيز في انتقامه من عدوه.
{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 41] {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ} [الحج: 41] قال الزجاج: هذا من صفة ناصريه.
يعني: إن هذا صفة من قوله: {مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40] ومعنى {مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ} [الحج: 41] نصرناهم على عدوهم حتى يتمكنوا من البلاد.
قال قتادة ومقاتل: هم أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال الحسن، وعكرمة: هم هذه الأمة، أهل الصلوات الخمس.
وهذا يدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ قرنا بالصلاة والزكاة، {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [لقمان: 22] ، كقوله: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [الحج: 76] والمعنى: إنه يبطل كل ملك سوى ملكه، فتصير الأمور إليه بلا منازع ومدع.
ثم عزى نبيه عليه السلام عن تكذيبهم إياه وخوف مخالقيه بذكر من كذب نبيه فأهلك بقوله: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ {42} وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ {43} وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ {44} فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ {45} أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ {46} } [الحج: 42-46] وإن يكذبوك إلى قوله: فأمليت للكافرين أي: أخرت عقوبتهم وأمهلتهم، يقال: أملى الله لفلان في العمر إذا أخر عنه أجله، وقوله: ثم أخذتهم أي بالعذاب، {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج: 44] استفهام معناه التقرير، تقول: كيف أنكرت عليهم ما فعلوا من التكذيب، أبدلتهم بالنعمة نقمة، وبالحياة هلاكا، وبالعمارة خرابا، والنكير اسم من الإنكار.
قال الزجاج: أي أخذتهم فأنكرت أبلغ إنكار.
ثم ذكر كيف عذب أهل القرى المكذبة، فقال: وكأين من قرية أهلكتها وقرئ أهلكناها كقوله: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} [الأنبياء: 11] وكم من قرية أهلكناها، والاختيار التاء لقوله: فأمليت وقوله: وهي ظالمة أي: وأهلها ظالمون بالتكذيب والكفر، {فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [الحج: 45] تقدم تفسيره في { [البقرة، وبئر معطلة عطف على قوله: من قرية لأن المعنى:(3/274)
وكم من بئر معطلة، وقصر مشيد تركوا بعد إهلاكهم، والمعطلة: المتروكة من العمل والاستقاء، ومعنى التعطيل: الترك من العمل، والمشيد: المطول المرفوع، من قولهم: شاد بناء إذا رفعه، ذكرنا ذلك في قوله:] بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [سورة النساء: 78] .
ثم حث على الاعتبار بحال من مضى من الأمم المكذبة، فقال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} [الحج: 46] قال ابن عباس: أفلم يسر قومك في أرض اليمن والشام.
{فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46] يعلمون بها ما يرون من العبر، والمعنى: فيعقلون بقلوبهم ما نزل بمن كذب قبلهم، {أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج: 46] أخبار الأمم المكذبة، قال ابن قتيبة: وهل شيء أبلغ في العظة والعبر من الآية؟ لأن الله أراد أفلم يسيروا في الأرض فينظروا إلى آثار قوم أهلكهم الله بالعتو فيروا بيوتا خاوية قد سقطت على عروشها، وبئرا يشرب أهلها قد عطلت، وقصرا بناه ملكها بالشيد قد خلا من السكن وتداعى من الخراب، فيتعظوا بذلك، ويخافوا من عقوبة الله مثل الذين نزل بهم ذكر الله تعالى أن أبصارهم الظاهرة لم تعم عن النظر، وإنما عميت قلوبهم، فقال: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] ذكر الفراء، والزجاج أن قوله: {الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] من التوكيد الذي تريده العرب في الكلام، كقوله: {عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] وقوله: ويقولون بأفواههم وقوله: يطير بجناحيه.
قوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ {47} وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ {48} } [الحج: 47-48] ويستعجلونك بالعذاب أي: يسألونك أن تأتي بعذابهم عاجلا، {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الحج: 47] في إنزال العذاب بهم في الدنيا، قال ابن عباس: يعني يوم بدر.
{وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47] قال مجاهد، وعكرمة، وابن زيد: هو من أيام الآخرة.
ويدل على هذا ما روي أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم خمس مائة عام.
والمعنى على هذا أنهم يستعجلون بالعذاب، وإن يوما من أيام عذابهم في الآخرة ألف سنة.
قال الفراء: وفي هذه الآية وعيد لهم بالعذاب في الدنيا والآخرة.
وذكر الزجاج وجها آخر، فقال: أعلم الله أنه لا يفوته شيء، وإن يوما عنده وألف سنة في قدرته واحد، ولا فرق بين وقوع ما يستعجلون به من العذاب وتأخره في القدرة إلا أن الله تفضل بالإمهال.
وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء، قال: المعنى إن يوما عنده في الإمهال وألف سنة سواء، لأنه قادر عليهم متى شاء أخذهم.
وقرئ يعدون بالياء والتاء، فمن قرأ بالياء فلقوله يستعجلونك، ومن قرأ بالتاء فلأنه أعم من خطاب المستعجلين والمؤمنين.
ثم أعلم أنه قد أخذ قوما بعد الإملاء والتأخير، فقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا} [الحج: 48] الآية، وما بعدها ظاهر إلى قوله: {(3/275)
قُلْ يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ {49} فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ {50} وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ {51} } [الحج: 49-51] {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا} [الحج: 51] أي: عملوا في إبطالها، معاجزين ظانين ومقدرين أن يعجزونا ويفوتونا، لأنهم ظنوا أن لا بعث ولا نشور، ولا جنة ولا نار، وهذا معنى قول قتادة: ظنوا أنهم يعجزون الله فلا يقدر عليهم.
وهذا كقوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا} [العنكبوت: 4] ومن قرأ معجزين فالمعنى أنهم كانوا يعجزون من اتبع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي: ينسبونهم إلى العجز، ثم أخبر عن هؤلاء أنهم أصحاب النار بقوله: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [الحج: 51] .
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {52} لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ {53} وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {54} } [الحج: 52-54] قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} [الحج: 52] الرسول: الذي أرسل إلى الخلق بإرسال جبريل إليه عيانا، ومحاورته إياه شفاها.
والنبي: الذي تكون نبوته إلهاما أو مناما، فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسول.
وقوله: {إِلا إِذَا تَمَنَّى} [الحج: 52] قال ابن عباس: إلا إذا قرأ.
وقال المفسرون: تلا.
وذكرنا التمني بمعنى القراءة في قوله: {إِلا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78] .
قوله: {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] أي تلاوته، قال جماعة من المفسرين: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان حريصا على إيمان قومه، فجلس يوما ما في مجلس لهم، وقرأ عليهم { [النجم، فلما أتى إلى قوله:] أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى {19} وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى {20} } [سورة النجم: 19-20] ألقى الشيطان في أمنيته حتى وصل: «تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى» ، ففرح المشركون بذلك، وقالوا: قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر، فأتاه جبريل، وأخبره بما جرى من الغلط على لسانه، فاشتد ذلك على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله هذه الآية، وهذا قول ابن عباس، والسدي، ومجاهد، وقتادة، وسعيد بن جبير وغيرهم.
قال عطاء، عن ابن عباس: إن شيطانا يقال له الأبيض أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فألقى في قراءته: «وإنها الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى» .(3/276)
وقال السدي، عن أصحابه: لما وقع من هذا ما وقع، أنزل الله هذه الآية يطيب نفس محمد، ويخبره أن الأنبياء قبله قد كانوا مثله، ولم يبعث نبي إلا تمنى أن يؤمن قومه، ولم يتمنى ذلك نبي إلا ألقى الشيطان عليه ما يرضي قومه.
{فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج: 52] وعلى هذا معنى قوله: {إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] إذا أحب شيئا ألقى الشيطان في محبته، وهذا دليل على جواز الخطأ والنسيان على الرسل، ثم لا يقارون على ذلك، وعلى ما قال ابن عباس، إنما قاله الشيطان على لسان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يكن له من ذلك إحساس قبل، كانت فتنة من الله لعباده المؤمنين والمشركين.
وهو قوله: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً} [الحج: 53] أي محنة، ولله أن يمتحن بما يشاء، واللام في قوله: ليجعل متعلقة بقوله: ألقى، أي: ليجعل الله ما يلقي فتنة، {لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الحج: 53] شك ونفاق، وذلك أنهم افتتنوا لما سمعوا ذلك، ثم نسخ ورفع، فازدادوا عتوا، وظنوا أن محمد يقول الشيء من عند نفسه ثم يندم فيبطله، وكذلك المشركون ازدادوا شرا وضلالة وتكذيبا، وهو قوله: والقاسية قلوبهم قال ابن عباس: يريد المشركين، وهم الذين لا تلين قلوبهم لتوحيد الله.
وإن الظالمين يعني: أهل مكة، {لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [الحج: 53] لفي خلاف شديد.
ثم وصف حال المؤمنين في هذه الفتنة، فقال: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [الحج: 54] التوحيد والقرآن، وقال السدي: والتصديق بنسخ الله.
وهو قوله: {أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [الحج: 54] أن نسخ ذلك وإبطاله حق من الله، فيؤمنوا به فيصدقوا بالنسخ، {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 54] ترق قلوبهم للقرآن فينقادوا لأحكامه، بخلاف المشركين الذين قيل فيهم: والقاسية قلوبهم، ثم بين أن هذا الإيمان والإخبات إنما هو بلطف الله وهدايته إياهم، فقال: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 54] .
{وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ {55} الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ {56} وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ {57} } [الحج: 55-57] {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحج: 55] يعني المشركون، {فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} [الحج: 55] في شك مما ألقى الشيطان على لسان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقولون: ما باله ذكرها بخبر ثم ارتد عنها.
{حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} [الحج: 55] يعني: ساعة موتهم، أي: حتى يموتوا أو يقتلوا، وهو قوله: {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج: 55] يعني: يوم بدر في قول ابن عباس، وقتادة، ومجاهد، والسدي.
وسمى الله ذلك اليوم عقيما لأنه لم تكن فيه للكفار بركة ولا خير، فهو كالريح العقيم التي لا تأتي بخير، قاله الضحاك، واختاره الزجاج.
قوله: الملك يومئذ يعني: يوم القيامة، لله من غير منازع ولا مدع، فلا مالك ولا ملك يؤمئذ إلا لله وحده، يحكم بينهم مما ذكر من قوله: فالذين آمنوا إلى قوله: عذاب مهين.
ثم ذكر فضل المهاجرين، فقال: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ {58} لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ {59} ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ {60} } [الحج: 58-60] {(3/277)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج: 58] من مكة إلى المدينة، {ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الحج: 58] قال السدي: هو رزق الجنة.
{لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ} [الحج: 59] لأن لهم فيه ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، والمدخل يجوز أن يكون بمعنى المصدر وبمعنى المكان، فإذا كان بمعنى المصدر فالمراد به إدخالا يكرمون به فيرضونه، وقرئ مدخلا بفتح الميم على تقدير فيدخلون مدخلا يرضونه، {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ} [الحج: 59] بنياتهم، حليم عن عقابهم.
ذلك أي: الأمر ذلك الذي قصصنا عليك، ثم قال: {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} [الحج: 60] من جازى الظالم بمثل ما ظلمه، قال الحسن: بمعنى قاتل المشركين كما قاتلوه.
{ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ} [الحج: 60] أي: ظالم بإخراجه من منزله، يعني: ما أتاه المشركون من البغي على المسلمين حين أحوجوهم إلى مفارقة أوطانهم، نزلت في قوم قاتلوا المشركين دفعا لهم عن أنفسهم، ثم خرجوا من ديارهم، فوعدهم الله النصر بقوله: لينصرنه الله يعني: المظلوم الذي بغي عليه، {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج: 60] قال ابن عباس: عفا عن مساوئ المؤمنين وغفر لهم ذنوبهم.
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ {61} ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ {62} } [الحج: 61-62] ذلك أي: ذلك النصر، بأنه القادر على ما يشاء، فمن قدرته أنه {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} [الحج: 61] لدعاء المؤمنين، بصير بهم حيث جعل فيهم البر والتقوى والإيمان.
ذلك الذي فعل من نصر المؤمنين، {بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [الحج: 62] ذو الحق في قوله وفعله، فدينه حق، وعبادته حق، {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ} [الحج: 62] يعني المشركين، {مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج: 62] الذي ليس عنده ضر ولا نفع، {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ} [الحج: 62] العالي على كل شيء بقدرته، الكبير الذي يصغر كل شيء سواه.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ {63} لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ {64} أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ {65} وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ {66} } [الحج: 63-66] قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [الحج: 63] يعني المطر، {فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً} [الحج: 63] بالنبات، {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ} [الحج: 63] بأرزاق عباده واستخراج النبات من الأرض، خبير بما في قلوب العباد عند تأخر المطر.
{لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [الحج: 64] عبيدا وملكا، {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ} [الحج: 64] عن عباده، الحميد إلى أوليائه(3/278)
وأهل طاعته.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ} [الحج: 65] قال ابن عباس: يريد البهائم التي تركب.
{وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} [الحج: 65] وسخر لكم الفلك في حال جريها، {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحج: 65] فيما سخر لهم، وفيما حبس عنهم من السماء حتى لا تقع عليهم فيهلكوا.
{وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ} [الحج: 66] بعد أن كنتم نطفا ميتة، ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم، ثم يحييكم للبعث والحساب، إن الإنسان يعني المشرك، لكفور لنعم الله حين ترك توحيده.
{لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ {67} وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ {68} اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ {69} } [الحج: 67-69] قوله: لكل أمة لكل قرن مضى، {جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج: 67] قال ابن عباس: يريد شريعة هم عاملون بها.
{فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ} [الحج: 67] يعني في الذبائح، وذلك أن كفار قريش وخزاعة خاصموا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمر الذبيحة وقالوا: ما قتل الله أحق أن تأكلوه مما قتلتم.
قال الزجاج: ومعنى القول: فلا ينازعنك أي: لا تنازعهم أنت، كما تقول: لا يخاصمنك فلان في هذا، أي لا تخاصمه، وهذا جائز فيما يكون بين اثنين، ولا يجوز: لا يضربنك فلان وأنت تريد لا تضربه، وذلك أن المخاصمة لا تتم إلا باثنين، فإذا ترك أحدهما فلا مخاصمة هنالك.
{وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} [الحج: 67] إلى الإيمان به والعمل بما شرعه، {إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى} [الحج: 67] دين، {مُسْتَقِيمٍ {67} وَإِنْ جَادَلُوكَ} [الحج: 67-68] خاصموك في أمر الذبيحة، {فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحج: 68] من التكذيب، فهو يجازيكم به، وهذا قبل الأمر بالقتال.
{اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الحج: 69] تذهبون فيه إلى خلاف ما نذهب.
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70] {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الحج: 70] قال ابن عباس: يريد قد علمت وأيقنت ذلك، وهذا استفهام يراد به التقرير.
{إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} [الحج: 70] يعني: ما يجري في السماء والأرض، كل ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ، إن ذلك إن علمه بجميع ذلك، {عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70] سهل لا يتعذر عليه العلم به.
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ {71} وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ(3/279)
يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ {72} } [الحج: 71-72] {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الحج: 71] يعني: أهل مكة، {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [الحج: 71] حجة، {وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} [الحج: 71] أنها آلهة، {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج: 71] وما للمشركين من مانع من العذاب.
قوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} [الحج: 72] يعني القرآن، {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ} [الحج: 72] قال مقاتل: ينكرون القرآن أن يكون من الله.
والمنكر بمعنى الإنكار، والتأويل أثر الإنكار من الكراهية والعبوس، يكادون يسطون يقعون بمحمد وأصحابه من شدة الغيظ، {بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [الحج: 72] أي: يكادون يبسطون إليهم أيديهم بالسوء، يقال: سطا عليه وسطا به إذ تناوله بالبطش والعنف والشدة.
قل لهم يا محمد: {أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ} [الحج: 72] بشر لكم وأكره إليكم من هذا القرآن الذي تسمعون، ثم ذكر ذلك، فقال: النار أي: هو النار، {وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحج: 72] أي: يصيرهم إليها، وبئس المصير هي.
وقوله: {يَأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ {73} مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ {74} } [الحج: 73-74] {يَأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ} [الحج: 73] قال الأخفش: إن قيل: فأين المثل الذي ذكره الله في قوله: ضرب مثل؟ قيل: ليس ههنا مثل، والمعنى: إن الله قال: ضرب لي مثل، أي شبه بي الآوثان، ثم قال: فاستمعوا له لهذا المثل الذي جعلوه مثلا وتأويلا للآية، جعل المشركون الأصنام شركائي، فعبدوها معي، فاستمعوا حالها، ثم بين ذلك، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الحج: 73] يعني الأصنام، وكانت ثلات مائة وستين حول الكعبة، {لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا} [الحج: 73] في صغره ومكثه، {وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا} [الحج: 73] مما عليهم، قال ابن عباس: كانوا يطلون الأصنام بالزعفران فيجف، فيأتي الذباب فيختلسه، فلا يقدرون أن يستردوه من الذباب ويستنقذوه منه، فذلك قوله: {لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج: 73] وقال السدي: كانوا يجعلون للأصنام طعاما، فيقع عليه الذباب، فيأكل منه، فلا يستطيع أن يسنقذه منه.
وقوله: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73] قال ابن عباس في رواية عطاء، والكلبي: الطالب الصنم، والمطلوب الذباب.
وروي عنه على العكس من هذا، وهو أن الطالب: الذي يطلب ما يسلب من الطيب على الصنم، والمطلوب: الصنم يطلب الذباب منع السلب.
وقال السدي: الطالب الذي يطلب إلى هذا الصنم بالتقرب إليه والصنم المطلوب إليه.
وهذا معنى قول الضحاك: العابد والمعبود.
{مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الحج: 74] ما عظموه حق عظمته، حيث جعلوا هؤلاء الأصنام شركاء له، {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ} [الحج: 74] على خلقه، عزيز في ملكه.
{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ {75} يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ {76} } [الحج: 75-76] {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا} [الحج: 75] يعني: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت.
ومن الناس يريد النبيين، أخبر الله أن الاختيار إليه، يختار من يشاء من خلقه فيجعلهم رسله وأنبياءه، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} [الحج: 75] لمقالتهم، بصير بمن(3/280)
يتخذه رسولا.
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [الحج: 76] قال ابن عباس: ما قدموا.
وما خلفهم ما خلفوا، وقال الحسن: ما بين أيديهم ما عملوه، وما خلفهم، وما هم غافلون عنه مما لم يعلموا بعد.
قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] قال المفسرون: يعني صلوا، لأن الصلاة لا تكون إلا بالركوع والسجود.
640 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، نا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: قَرَأَ عَلِيُّ بْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ مِشْرَحِ بْنِ عَاهَانَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي سُورَةِ الْحَجِّ سَجْدَتَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا فَلا يَقْرَأْهُمَا
وقوله: واعبدوا ربكم قال مقاتل: يقول: وحدوا ربكم، يعني أن من أشرك بعبادته غيره لم يوحده.
وافعلوا الخير قال ابن عباس: يريد صلة الرحم، ومكارم الأخلاق.
لعلكم تفلحون كي تسعدوا وتبقوا في الجنة.
وقوله: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78] {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] أكثر المفسرين حملوا الجهاد ههنا على جميع أعمال الطاعة، وقالوا: حق الجهاد أن يكون بنية صادقة خالصة لله تعالى.
وقال السدي: هو أن يطاع فلا يعصى.
وقال مقاتل بن حيان: هو أن يجتهدوا في العمل.
وقال مقاتل بن سليمان: نسختها الآية التي في التغابن {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] .
وحمله الضحاك على مجاهدة الكفار، فقال: جاهدوا بالسيف من كفر بالله وإن كانوا الآباء والأبناء.
وروى عبد الله بن المبارك، أنه حمله على مجاهدة الهوى والنفس.
هو اجتباكم اختاركم واصطفاكم لدينه، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ضيق، فالمعنى: ما جعل من التوبة والكفارات جعلها الله مخرجا من الذنوب، فمن أذنب ذنبا لم يبق في ضيق ذلك الذنب، وله منه مخرج، إما بالتوبة، أو القصاص، أو بنوع كفارة، أو(3/281)
برد مظلمة، فلم يبتل المؤمنين بشيء من الذنوب إلا جعل له منه مخرج.
وقال مقاتل: يعني الرخص عند الضرورات، كالقصر والتيمم وأكل الميتة والإفطار عند المرض والسفر.
وهو قول الكلبي، واخيار الزجاج.
وروي عن ابن عباس، أنه قال: الحرج ما كان على بني إسرائيل من الإصر والشدائد التي كانت عليهم، وضعها الله تعالى على هذه الأمة.
وقوله: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] قال الأخفش، والمبرد، والفراء، والزجاج: أي: عليكم ملة أبيكم.
والمعنى: اتبعوها واحفظوها، والخطاب إن كان للعرب خاصة، فإبراهيم أبو العرب قاطبة، وإن كان خطابا عاما، فهو أبو المسلمين كلهم، لأن حقه عليهم كحق الوالد، وأمرنا باتباع ملته جملة لأنها داخلة في ملة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقوله: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78] أي: الله تعالى سماكم بهذا الاسم قبل إنزال القرآن في الكتب التي أنزلت قبله.
وفي هذا يعني القرآن، وقال مقاتل: من قبل.
يعني: في أم الكتاب.
ليكون الرسول أي: اجتباكم الله وسماكم المسلمين ليكون الرسول محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهيدا عليكم يوم القيامة بالتبليغ، وتكونوا أنتم، {شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78] أن الرسل بلغتهم، وهذا كقوله: {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] الآية.
وقوله: {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [الحج: 78] قال مقاتل: فريضتان واجبتان افترضهما الله عليكم فأدوهما إلى الله.
641 - حَدَّثَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، نا جَدِّي الإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الإِسْمَاعِيلِيُّ، أنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُسْتَفَاضُ الْفِرْيَابِيُّ، نا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى الْبَلْخِيُّ، نا عُمَرُ بْنُ هَارُونَ، نا عُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تُقْبَلُ الصَّلاةُ إِلا بِالزَّكَاةِ»
وقوله: واعتصموا بالله قال ابن عباس: سلوا ربكم أن يعصمكم من كل ما يسخط ويكره.
وقال الحسن: تمسكوا بدين الله.
وقال مقاتل: ثقوا بالله.
هو مولاكم ناصركم والذي يتولى أموركم، فنعم المولى هو لكم، ونعم النصير.(3/282)
سورة المؤمنون
مكية وآياتها ثماني عشرة ومائة.
642 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو السِّجِسْتَانِيُّ، أنا أَبُو الْفَضْلِ الأَسَدِيُّ، أنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْيَرْبُوعِيُّ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْمُؤْمِنِينَ بَشَّرَتْهُ الْمَلائِكَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالرَّوْحِ وَالرَّيْحَانِ وَمَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُهُ عِنْدَ نُزُولِ مَلَكِ الْمَوْتِ»
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ {1} الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ {2} وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ {3} وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ {4} وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ {5} إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ {6} فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ {7} وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ {8} وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ {9} أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ {10} الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {11} } [المؤمنون: 1-11] بسم الله الرحمن الرحيم
643 - حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، إِمْلاءً، أنا أَبُو مُحَمَّدٍ حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ الأَبِيوَرْدِيُّ، نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، نا يُونُسُ بْنُ سُلَيْمٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ الْقَارِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، يَقُولُ: كَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْوَحْيُ يُسْمَعُ عِنْدَ وَجْهِهِ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، فَمَكَثْنَا سَاعَةً فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلا تُنْقِصْنَا، وَأَكْرِمْنَا وَلا تُهِنَّا، وَأَعْطِنَا وَلا تَحْرِمْنَا، وَآثِرْنَا وَلا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا، وَارْضَ عَنَّا، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْنَا عَشْرُ آيَاتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ، ثُمَّ قَرَأَ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ إِلَى عَشْرِ آيَاتٍ "، رَوَاهُ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي (صَحِيحِهِ) ، عَنِ الْقَطِيعِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، عَنْ أَبِيهِ،(3/283)
عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، فَكَأَنِّي سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنَ الْقَطِيعِيِّ
قال الفراء: قد ههنا يجوز أن تكون تأكيدا لفلاح المؤمنين، ويجوز أن تكون تقريبا للماضي من الحال، قد يقرب الماضي من الحال حتى تلحقه بحكمه، ألا ترى أنهم يقولون: قد قامت الصلاة، قبل حال قيامها.
ويكون المعنى في الآية أن الفلاح قد حصل لهم وأنهم عليه في الحال.
قال ابن عباس: قد سعد المصدقون وبقوا في الجنة.
{الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] ساكتون متواضعون، قال ابن عباس: خشع من خوف الله، فلا يعرف من على يمينه ولا من على يساره.
وقال أبو هريرة: " كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا صلى، رفع بصره إلى السماء، فنزلت {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] فطأطأ رأسه ".
{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3] قال عطاء، عن ابن عباس: عن الشرك بالله.
وهو قول الضحاك، وقال الحسن: عن المعاصي.
قال الزجاج: هو كل باطل ولهو، وهزل ومعصية، وما لا يحمد من القول والفعل.
{وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 4] أي: مؤدون، فعبر عن التأدية بالفعل لأنه فعل.
قال ابن عباس: للصدقة الواجبة مؤدون.
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] قال الليث: الفرج اسم يجمع سوءات الرجال والنساء، فالقبلات وما حواليهما كله فرج.
والمراد بالفروج ههنا فروج الرجال خاصة، قال الكلبي: يعني يعفون عما لا يحل لهم.
{إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} [المؤمنون: 6] على ههنا بمعنى من في قول الفراء.
وقال الزجاج: المعنى أنهم يلامون في إطلاق ما حظر عليهم وأمروا بحفظه إلا على أزواجهم.
ودل على المحذوف ذكر اللوم في آخر الآية، قال مجاهد: يحفظ فرجه إلا من امرأته أو من أمته، فإنه لا يلام على ذلك.
{فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} [المؤمنون: 7] أي: طلب سوى الأزواج والإماء المملوكة، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] الظالمون المتجاوزون إلى ما لا يحل.
{وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ} [المؤمنون: 8] وقرأ ابن كثير لأمانتهم واحدة، وذلك أنه مصدر واسم جنس فيقع على الكثير، وإن كان مفردا في اللفظ، والأمانة تختلف نحو الأمانة التي بين العبيد في حقوقهم كالودائع والبضائع، وما تكون اليد فيه يد أمانة، وتكون الأمانة التي بين الله وبين عباده كالصيام والاغتسال والصلاة، ويجب على المؤمن الوفاء بجميع ضروب الأمانات، وقوله: {وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8] قال ابن عباس: إذا عاهد رجلا وفي له.
ومعنى راعون: حافظون.
{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ} [المؤمنون: 9] وقرئ صلاتهم ومن أفراد فلأن الصلاة في الأصل مصدر، ومن جمع فلأنه قد صار اسما شرعيا لانضمام ما لم يكن في أصل اللغة إليها، ومعنى الآية: والذين هم يحافظون على الصلوات المكتوبة، فيقيمونها في أوقاتها.(3/284)
أولئك يعني: الموصوفين بهذه الصفات، هم الوارثون يرثون منازل أهل النار من الجنة.
644 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ، حَدَّثَنِي أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ مَاهَانَ الْبشترِيُّ، بِهَا، أنا أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ نَصْرٍ الْفَرَائِضِيُّ، نا أَبُو هَمَّامٍ الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ، نا أَبُو مُعَاوِيَةَ، نا الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا لَهُ مَنْزِلانِ؛ مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْزِلٌ فِي النَّارِ، فَإِنْ مَاتَ وَدَخَلَ النَّارَ وَرِثَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنْزِلَهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ، عَزَّ وَجَلَّ: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} ثُمَّ ذَكَرَ مَا يُورَثُونَ
فقال: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 11] قال ابن عباس: يريد خير الجنان.
وقال مجاهد: من حفظ عمل العشرة من سورة المؤمنين ورث الفردوس.
645 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّانَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ أَيُّوبَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَعْشَرٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَخِيهِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خَلَقَ اللَّهُ ثَلاثَةَ أَشْيَاءَ بِيَدِهِ؛ خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ، وَكَتَبَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، وَغَرَسَ الْفِرْدَوْسَ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَعِزَّتِي وَجَلالِي، لا يَدْخُلُهَا مُدْمِنُ خَمْرٍ وَلا دَيُّوثٌ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَرَفْنَا مُدْمِنَ الْخَمْرِ، فَمَا الدَّيُّوثُ؟ قَالَ: الَّذِي يُقِرُّ السُّوءَ لأَهْلِهِ
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ {12} ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ {13} ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ {14} ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ {15} ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ {16} } [المؤمنون: 12-16] قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12] السلالة ما يسل من الشيء، أي ينزع ويستخرج، يقال للنطفة سلالة، وللولد سليل، قال ابن عباس في رواية ابن يحيى الأعرج: السلالة صفو الماء.
وقال مجاهد: مني بني آدم.
وقال عكرمة: هو الماء يسل من الظهر سلا.
والمراد بالإنسان ولد آدم، وهو اسم الجنس يقع على الجميع، وقوله: {مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12] يعني طين آدم، والسلالة إنما تولدت من طين خلق آدم، كما قال الكلبي: يقول من نطفة سلت سلا، النطفة من طين، والطين آدم.
ثم جعلناه يعني: ابن آدم الذي هو الإنسان، {نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون: 13] يعني: الرحم، مكن فيه الماء بأن هيئ لاستقراره فيه إلى بلوغ أمده الذي جعل له.
{ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} [المؤمنون: 14] مفسر في { [الحج إلى قوله:] فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} [سورة المؤمنون: 14] وقرئ كلاهما عظما على الواحد، قال الزجاج: التوحيد والجمع جائزان، والواحد يدل على الجمع كما قال الشاعر:
في خلقكم عظم وقد شجينا(3/285)
يريد في خلوقهم عظام.
وقوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14] قال ابن عباس: يعني الروح فيه.
وذلك أنه كان عظما ولحما مواتا، فلما جعل فيه الروح صار خلقا آخر، وهو قول السدي، ومجاهد، والشعبي، وعكرمة، والأكثرين.
وعن مجاهد أيضا، قال: هو أن يستوي شبابه.
وهو قول الضحاك، وقال قتادة: يعني نبات الشعر والأسنان.
وقال الحسن: يعني ذكر وأنثى.
وقوله: فتبارك الله أي: استحق التعظيم والثناء بأنه لم يزل ولا يزال أحسن الخالقين المصورين والمقدرين، والخلق في اللغة: التقدير، يقال: خلقت الأديم إذا قسته لتصنع منه شيئا.
وقال حذيفة في هذه الآية: يصنعون ويصنع، والله خير الصانعين.
يقال: رجل خالق، أي صانع.
{ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ} [المؤمنون: 15] بعد ما ذكر من تمام الخلق، لميتون عند آجالكم، {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 16] للجزاء والحساب.
قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} [المؤمنون: 17] {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} [المؤمنون: 17] قالوا كلهم: يعني سبع سموات كل سماء طريقة، سميت لتطارقها، وهو أن بعضها فوق بعض.
{وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} [المؤمنون: 17] إذ بنينا فوقهم سماء أطلعنا فيها الشمس والقمر والكواكب، وأنزلنا منها عليهم الماء.
وهو قوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ(3/286)
فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ {18} فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ {19} وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ {20} وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ {21} وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ {22} } [المؤمنون: 18-22] {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} [المؤمنون: 18] أي: بقدر يعلمه الله، وقال مقاتل: بقدر ما يكفيهم للمعيشة.
{فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ} [المؤمنون: 18] يريد ما يبقى في الغدران والمسنقعات والدحلان، أقر الله الماء فيها لينتفع به الناس في الصيف عند انقطاع المطر.
646 - أَخْبَرَنَا الشَّرِيفُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ النَّقِيبُ، أنا جَدِّي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْبَزَّارُ، نا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، نا سَعِيدُ بْنُ سَابِقٍ الإِسْكَنْدَرَانِيُّ، نا مَسْلَمَةُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ الْجَنَّةِ خَمْسَةَ أَنْهَارٍ؛ سِيحُونُ وَهُوَ نَهْرُ الْهِنْدِ، وَجِيحُونُ وَهُوَ نَهْرُ بَلْخٍ، وَدِجْلَةُ، وَالْفُرَاتُ وَهُمَا نَهْرَا الْعِرَاقِ، وَالنِّيلُ وَهُوَ نَهْرُ مِصْرَ، أَنْزَلَهَا اللَّهُ مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ مِنْ عُيُونِ الْجَنَّةِ مِنْ أَسْفَلِ دَرَجَةٍ مِنْ دَرَجَاتِهَا عَلَى جَنَاحَيْ جِبْرِيلَ، اسْتَوْدَعَهَا الْجِبَالَ، وَأَجْرَاهَا فِي الأَرْضِ، وَجَعَلَ فِيهَا مَنَافِعَ لِلنَّاسِ فِي أَصْنَافِ مَعَايِشِهِمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ، عَزَّ وَجَلَّ {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ} ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ؛ أَرْسَلَ اللَّهُ جِبْرِيلَ فَرَفَعَ مِنَ الأَرْضِ الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ كُلَّهُ وَالْحَجَرَ الأَسْوَدَ مِنْ رُكْنِ الْبَيْتِ وَمَقَامَ إِبْرَاهِيمَ وَتَابُوتَ مُوسَى بِمَا فِيهِ وَهَذِهِ الأَنْهَارَ الْخَمْسَةَ، وَيَرْفَعُ كُلَّ ذَلِكَ إِلَى السَّمَاءِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} فَإِذَا رُفِعَتْ هَذِهِ الأَشْيَاءُ مِنَ الأَرْضِ فَقَدَ أَهْلُهَا خَيْرَ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الإِمَامُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ، بِالإِجَازَةِ، أنا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْعَدْلُ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ قَالَ: وَجَدْتُ فِيمَا أَجَازَ لِي عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، أنا سَعِيدُ بْنُ سَابِقٍ الإِسْكَنْدَرَانِيُّ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهَ، تَعَالَى، مَا أَنْبَتَ مِنَ السَّمَاءِ، فَقَالَ: {فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ {19} وَشَجَرَةً} عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: جَنَّاتٍ وَالْمُفَسِّرُونَ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ؛ يَعْنِي: شَجَرَةَ الزَّيْتُونِ، وَخُصَّتْ بِالذِّكْرِ؛ لأَنَّهُ لا يَتَعَاهَدُهَا أَحَدٌ بِالسَّقْيِ وَهِيَ تُخْرِجُ الثَّمَرَةَ الَّتِي يَكُونُ مِنْهَا الدُّهْنُ الَّذِي تَعْظُمُ بِهِ الْمَنْفَعَةُ فَذُكِرَتِ النِّعْمَةُ فِيهَا
وقوله: {تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} [المؤمنون: 20] قرئ بفتح السين وكسرها، وهي نبطية في قول الضحاك، وحبشية في قول عكرمة، وهي اسم المكان الذي به هذا الجبل في أصح الأقوال، وسيناء في قول مجاهد: اسم حجارة بعينها، أضيف الجبل إليها لوجودها عنده.
وقال الكلبي: طور سيناء الجبل المشجر.
وقال عطاء: يريد الجبل الحسن.
وقوله: تنبت بالدهن أي: تنبته لأنه يعصر من الزيتون الزيت، والباء في بالدهن للتعدي، يقال: أنبته ونبت به.
ومن قرأ تنبت بضم التاء، فإن جعلت أنبت بمعنى كقول زهير:
حتى إذا أنبت البقل
فهذه القراءة كالأول سواء , وإن جعلت تنبت من الإنبات الذي هو مضارع أنبت , فالباء في بالدهن زيادة كزيادتها(3/287)
في قوله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195] .
وقوله: وصبغ للآكلين الصبغ والصباغ ما يصطبغ به من الأدم , وذلك أن الخبز يلون بالصبغ إذا غمس فيه , والاصطباغ بالزيت المغمس فيه للأئتدام به , والمراد بالصبغ بالزيت في قول ابن عباس: فإنه يدهن به ويؤتدم.
وقال مقاتل: جعل الله في هذه الشجرة أدما ودهنا , فالأدم الزيتون , والدهن الزيت.
قوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} [المؤمنون: 21] مفسرة في { [النحل إلى قوله:] وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ} [سورة المؤمنون: 21] يعني: في ظهورها وألبانها وأولادها وأصوافها وأشعارها.
{وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [المؤمنون: 21] من لحومها وأولادها والكسب عليها.
{وَعَلَيْهَا} [المؤمنون: 22] يريد الإبل خاصة , {وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمنون: 22] قال الكلبي: ما في البحر فالسفن , وما في البر فالإبل.
وهذا كقوله: {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الإسراء: 70] .
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ {23} فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ {24} إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ {25} } [المؤمنون: 23-25] قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [المؤمنون: 23] قال ابن عباس: يعزي نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن غير أمته قد كذبوا الأنبياء وجحدوا البعث.
{فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [المؤمنون: 23] أطيعوه ووحدوه , {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون: 23] ما غيره رب , {أَفَلا تَتَّقُونَ} [المؤمنون: 23] أفلا تتقونه بالطاعة والتوحيد.
{فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} [المؤمنون: 24] يعني: الأشراف , والرؤساء , وذوي الأمر منهم , {مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [المؤمنون: 24] أي أنه آدمي لا فضل له عليكم , {يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} [المؤمنون: 24] يتشرف بأن يكون له الفضل عليكم فيصير متبوعا وأنتم له تبع , {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} [المؤمنون: 24] أن لا يعبد شيء سواه , {لأَنْزَلَ مَلائِكَةً} [المؤمنون: 24] ولم يرسل بشرا آدميا , {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا} [المؤمنون: 24] الذي يدعونا إليه نوح من التوحيد , {فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 24] في الأمم الماضية.
{إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} [المؤمنون: 25] حالة جنون , {فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون: 25] انتظروا موته فتستريحوا منه.
{قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ {26} فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ {27} فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {28} وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ {29} إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ {30} } [المؤمنون: 26-30] {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} [المؤمنون: 26] بتكذيبهم , والمعنى: انصرني بإهلاكهم جزاء لهم بتكذيبهم.
فأوحينا إليه مفسر في { [هود إلى قوله:] فَاسْلُكْ فِيهَا} [سورة المؤمنون: 27] أي: أدخل في سفينتك.
{وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلا} [المؤمنون: 29] يجوز أن يكون المنزل بمعنى الإنزال، والمعنى إنزالا , {مُبَارَكًا} [المؤمنون: 29] قال مقاتل: يعني بالبركة أنهم توالدوا وكثروا.
ويجوز أن يكون المنزل موضعا للإنزال , كأنه قيل: أنزلني مكانا أو موضعا، وهو قول الكلبي: منزلا(3/288)
مباركا بالماء والشجر.
وقرأ عاصم منزلا بفتح الميم وكسر الزاي , يعني: موضع نزول , قال المفسرون: إنه أمر أن يقول عند استوائه على الفلك: الحمد لله , وعند نزوله: أنزلني منزلا مباركا.
{وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} [المؤمنون: 29] قل ابن عباس: يريد من السفينة.
ولذلك قيل له: {اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ} [هود: 48] وهذا جواب دعائه {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [المؤمنون: 30] يعني: في أمر نوح والسفينة وهلاك أعداء الله , {لآيَاتٍ} [المؤمنون: 30] لدلالات على قدرة الله ووحدانيته , {وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} [المؤمنون: 30] وما كنا إلا مختبرين إياهم بإرسال نوح , ووعظه وتذكيره.
وقوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ {31} فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ {32} وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ {33} وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ {34} أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ {35} هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ {36} إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ {37} إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ {38} قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ {39} قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ {40} فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {41} ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ {42} مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ {43} } [المؤمنون: 31-43] {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [المؤمنون: 31] يعني: عادا قوم هود , {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ} [المؤمنون: 32] هودا , وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: {أَيَعِدُكُمْ} [المؤمنون: 35] ، {أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} [المؤمنون: 35] قال الزجاج: أنكم موضعها نصب على معنى أيعدكم أنكم مخرجون إذا متم , فلما طال الكلام أعيد ذكرانه , كما قال عز وجل: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [التوبة: 63] المعنى: فله نار جهنم.
{هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} [المؤمنون: 36] بعد الأمر جدا حتى امتنع , وهو اسم سمي به الفعل , وهو بعد كما قالوا: صه بمعنى اسكت , ومه بمعنى لا تفعل وليس له اشتقاق , وفيه ضمير يقع عائد إلى قوله: إنكم مخرجون الذي هو بمعنى الإخراج، والتقدير هيهات هو , أي الإخراج، والمعنى: بعد إخراجكم للوعد الذي توعدون وهو بعد الموت , استبعد أعداء الله إخراجهم ونشرهم لما كانت العدة به بعد الموت إغفالا منهم للتفكير في قوله: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] قال ابن عباس في هذه الآية: ينفون أن ذلك لا يكون.
وقال الكلبي: يقولون: بعيد بعيد ما وعدكم ليوم البعث.
قال أبو عمرو بن العلاء: إذا وقفت فقل هيهاه.
يدل على هذا ما(3/289)
روي عن سيبويه , أنه قال: هي بمنزلة علقاه.
يعني في التأنيث , وإذا كان كذلك كان الوقف بالهاء , قال الفراء: كان الكسائي يختار الوقف بالهاء , وأنا أختار التاء وعنده أن هذه التاء ليست بتاء التأنيث.
قوله: {إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [المؤمنون: 37] قالوا: ما الحياة إلا ما نحن فيه , لا الحياة الآخرة التي تعدنا بعد البعث , {نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [المؤمنون: 37] نهلك نحن ويبقى أبناؤنا , ويهلك أبناؤنا ويبقى أبناؤهم.
{إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [المؤمنون: 38] ما هو إلا مفتر كاذب على الله في ذكر البعث و {وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} [المؤمنون: 38] بمصدقين فيما يقول.
{قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} [المؤمنون: 39] تقدم تفسيره , قَالَ الله: {عَمَّا قَلِيلٍ} [المؤمنون: 40] من الزمان والوقت , يعني: عند الموت , أو عند نزول العذاب بهم , {لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} [المؤمنون: 40] على الكفر والتكذيب.
{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} [المؤمنون: 41] صاح بهم جبريل صيحة واحدة ماتوا عن آخرهم بتصدع قلوبهم , وقوله: بِالْحَقِّ أي: باستحقاقهم العذاب بكفرهم , {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً} [المؤمنون: 41] وهو ما جاء به السيل من نبات قد يبس وكل ما تحمله السيل على رأس الماء من قصب وحشيش وعيدان شجر فهو غثاء، والمعنى: صيرناهم هلكى فيبسوا كما يبس الغثاء من نبات الأرض فهمدوا , {فَبُعْدًا} [المؤمنون: 41] أي: ألزمهم الله بعدا من الرحمة , {لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون: 41] المكذبين المشركين , وما بعد هذا ظاهر التفسير إلى قوله: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 44] {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا} [المؤمنون: 44] أي: بعضها في إثر بعض غير متصلين , لأن بين كل نبيين دهرا طويلا , وهي فعلى من المواترة، قال الأصمعي: يقال: واترت الخبر , أتبعت بعضه بعضا , وبين الخبرين هنيهة , وهي كالدعوى والتقوى , وأكثر العرب على ترك تنوينها.
وقرأ ابن كثير تترا منونة , وتترا على هذه القراءة فعلا والألف فيها كالألف في رأيت زيدا وعمرا , فإذا وقفت كانت الألف بدلا من التنوين وحقها أن تفخم ولا تمال، قال المبرد: من قرأ {تَتْرَا} [المؤمنون: 44] فهو مثل شكوى , ومن قرأ تترى مثل شكوت شكوى , وعلى القراءتين جميعا التاء الأولى بدل من الواو , وتترا مصدرا، واسم قام مقام الحال لأن المعنى متواترة، وقوله: {كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا} [المؤمنون: 44] أهلكنا الأمم بعضهم في أثر بعض، {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} [المؤمنون: 44] لمن بعدهم من الناس، يتحدثون بأمرهم وشأنهم.
{ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ {45} إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ {46} فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ {47} فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ {48} وَلَقَدْ(3/290)
آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ {49} } [المؤمنون: 45-49] وقوله: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا} [المؤمنون: 45] يعني: الدلائل التي كانت لهما، {وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [المؤمنون: 45] وحجة بينة، يعني اليد والعصا.
{إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا} [المؤمنون: 46] قال ابن عباس: عن عبادة الله تعالى.
وقال مقاتل: تكبروا عن الإيمان بالله.
{وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ} [المؤمنون: 46] قاهرين للناس بالبغي والتطاول عليهم، وهو معنى قول ابن عباس: علوا على بني إسرائيل علوا كبيرا.
وقال مقاتل: يعني متكبرين عن توحيد الله.
يدل عليه قوله تعالى: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} [المؤمنون: 47] أنصدق إنسانين من لحم ودم ليس لهما علينا فضل؟ {وَقَوْمُهُمَا} [المؤمنون: 47] يعني: بني إسرائيل، {لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون: 47] قال ابن عباس: مطيعون.
قال أبو عبيدة: العرب تسمي كل من دان لملك عابد له.
وقال المبرد: العابد المطيع الخاضع.
{فَكَذَّبُوهُمَا} [المؤمنون: 48] يعني: موسى وهارون، {فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} [المؤمنون: 48] بتكذيبهما.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [المؤمنون: 49] التوراة جملة واحدة، {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [المؤمنون: 49] لكي يهتدوا به من الضلالة، قال مقاتل: يعني بني إسرائيل، لأن التوراة أنزلت بعد هلاك فرعون وقومه.
قوله: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50] {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50] هذا كقوله: {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 91] وقد تقدم، وقوله: {وَآوَيْنَاهُمَا} [المؤمنون: 50] أي: وجعلناهما يأويان ويرجعان، {إِلَى رَبْوَةٍ} [المؤمنون: 50] وهي المكان المرتفع من الأرض، قال ابن عباس: يريد دمشق.
وهو قول سعيد بن المسيب، ومقاتل، ورواية عكرمة، عن ابن عباس.
وقال عطاء، عن ابن عباس: يريد بيت المقدس.
وهو قول قتادة، وكعب، قال: وهو أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا.
وقال السدي: إنها أرض فلسطين.
وهو قول أبي هريرة، وقوله: {ذَاتِ قَرَارٍ} [المؤمنون: 50] أي: مستوية يستقر عليها ساكنوها، والمعنى: ذات موضع قرار، {وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50] يعني: الماء الجاري الظاهر الذي تراه العيون.
{يَأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ {51} وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ {52} فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ {53} فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ {54} أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ {55} نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ {56} } [المؤمنون: 51-56] قوله: {يَأَيُّهَا الرُّسُلُ} [المؤمنون: 51] قال الحسن، ومجاهد، وقتادة، والسدي، والكلبي، ومقاتل: يعني محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده، على مذهب العرب في مخاطبة الواحد مخاطبة الجمع، ويتضمن هذا أن الرسل جميعا كذي أمروا.
قوله: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51] قال ابن عباس: من الحلال.
وقال الضحاك: أمرهم ألا يأكلوا إلا حلالا طيبا.
وقال الحسن: أما والله ما عنى به أصفركم ولا(3/291)
أحمركم، ولا حلوكم ولا حامضكم، ولكنه قال انتهوا إلى الحلال منه.
{وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51] أي: بما أمركم الله به، وأطيعوه في أمره ونهيه، {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] لا يخفى علي شيء من أعمالكم.
{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ} [المؤمنون: 52] إن في قراءة من قرأ بفتح الألف معطوفة على الجار في قول الخليل وسيبويه: التقدير ولأن هذه أمتكم.
{أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52] أي: اتقون لهذا، ومن قرأ بالتخفيف فإن هي المخففة من المشددة، كقوله: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10] ومن كسر مع التشديد فهو على الاستئناف، ومعنى الآية قال مقاتل: يقول: هذه التي أنتم عليها ملة الإسلام، ملة واحدة عليها الأنبياء والمؤمنون الذين نجوا من العذاب.
والمعنى: أنتم أهل ملة واحدة ودعوة واحدة، فلا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا.
وهو قوله: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} [المؤمنون: 53] والكلام في الاثنين قد تقدم، وقوله: {زُبُرًا} [المؤمنون: 53] قال المبرد: فرقا وقطعا مختلفة.
واحدها زبور، هو الفرقة والطائفة، ومثله الزبرة وجمعها زبر.
قال الكلبي: يعني مشركي العرب واليهود والنصارى، تفرقوا أحزابا.
{كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] بما عندهم من الدين راضون، يرون أنهم على الحق، {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} [المؤمنون: 54] في حيرتهم وغفلتهم، وضلالتهم وجهالتهم، قال مقاتل: يعني كفار مكة.
وقوله: {حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون: 54] قال ابن عباس: يريد نزول العذاب بالسيف أو بالموت.
{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} [المؤمنون: 55] أي: أيحسبون أن ما يعطيهم الله في هذه الدنيا من الأموال والبنين، إنما يعطيهم ثوابا ومجازاة لهم، لا بل هو استدراج لهم من الله، وهو معنى قوله: {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ} [المؤمنون: 56] ومعنى نسارع نسرع، أي أيحسبون: أنا نتعجل في تقديم ثواب أعمالهم لرضانا عنهم حين بسطنا لهم الرزق وأكثرنا أولادهم، {بَلْ لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 56] لا يعلمون أن ذلك شر لهم.
ثم ذكر المؤمنين فقال: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ {57} وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ {58} وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ {59} وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ {60} أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ {61} } [المؤمنون: 57-61] {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المؤمنون: 57] الإشفاق الخوف، تقول: أنا مشفق من هذا الأمر، أي خائف.
والمعنى أنهم لما هم عليه من خشية الله خائفون من عذابه.
{وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 58] قال ابن عباس: يصدقون بالقرآن أنه من(3/292)
عند الله.
{وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 59] لا يعبدون معه غيره.
{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا} [المؤمنون: 60] أي: يتصدقون ويعملون الأعمال الصالحة، {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60] خائفة أن لا يقبل منهم، قال مجاهد: المؤمن ينفق ماله وقلبه وجل.
وقال الحسن: المؤمن جمع إحسانا وشفقة، والمنافق جمع إساءة وأمنا.
وإيتاء المال في هذه الآية عبارة عن الأعمال الصالحة، إذ هو الأفضل والأشق على النفس.
647 - أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الزَّاهِدُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الصُّوفِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، نا جَرِيرٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ. . . . .} الآيَةَ، فَقَالَ: يَا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ، الَّذِينَ يَصُومُونَ وَهُمْ يَفْرَقُونَ أَنْ لا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، وَيُصَلُّونَ وَهُمْ يَفْرَقُونَ أَنْ لا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَفْرَقُونَ أَنْ لا يُقْبَلَ مِنْهُمْ
أخبرنا أبو عبد الله بن أبي إسحاق، أنا أبو بكر القطيعي، نا إدريس بن عبد الكريم المقري، نا عاصم بن علي، نا أبو الأشهب العطاري، عن الحسن في قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا} [المؤمنون: 60] قال: كان ما عملوا من أعمال البر يرون أن ذلك لا ينجيهم من عذاب الله.
قال الزجاج: قلوبهم خائفة لأنهم إلى ربهم راجعون.
قال صاحب النظم: فالوجل واقع على مضمر.
وقوله: {أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ} [المؤمنون: 60] سبب له، على تأويل وقلوبهم وجلة لا يقبل منهم لعلمهم أنهم إلى ربهم، {رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60] أي: لأنهم يوقنون بأنهم يرجعون إلى الله، يخافون أن لا يقبل منهم.
قوله: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [المؤمنون: 61] يبادرون في الأعمال الصالحة، {وَهُمْ لَهَا} [المؤمنون: 61] أي إليها، {سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61] قاله الفراء، والزجاج.
وقال ابن عباس: ينافسون فيه أمثالهم من أهل البر والتقوى.
وقال الكلبي: سبقوا الأمم إلى الخيرات.
{وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ {62} بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ {63} حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ {64} لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ {65} قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ {66} مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ {67} } [المؤمنون: 62-67] قوله: {وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [المؤمنون: 62] أي: إلا طاقتها من العمل، فمن لم يستطع أن يصلي قائما فيصلي جالسا، وقد سبق هذا في آخر { [البقرة، ولدينا كتاب يريد اللوح المحفوظ، وفيه مكتوب كل شيء سبق في علم الله، ينطق بالحق يبين بالصدق، ومعنى ال:: لا نكلف نفسا إلا ما أطاقت من العمل، وتعلم أين تعمل، لأنا قد اثبتنا عمله في اللوح المحفوظ، فهو ينطق به ويبينه،] وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [المؤمنون: 62] أي: لا ينقصون من ثواب أعمالهم.
ثم عاد إلى ذكر الكفار، فقال: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ} [المؤمنون: 63] في غفلة وجهالة، {مِنْ هَذَا} [المؤمنون: 63] القرآن، {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ} [المؤمنون: 63] خبيثة، {مِنْ دُونِ ذَلِكَ} [المؤمنون: 63](3/293)
أعمال المؤمنين التي ذكرها الله، {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون: 63] إجماع المفسرين، وأصحاب المعاني على أن هذا إخبار عما سيعملونه من أعمالهم الخبيثة التي كتبت عليهم، لابد لهم أن يعملوها، {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ} [المؤمنون: 64] أغنياءهم ورؤساهم، {بِالْعَذَابِ} [المؤمنون: 64] بالسيوف يوم بدر، {إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} [المؤمنون: 64] يصيحون إلى الله، ويصيحون ويقال لهم: {لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ} [المؤمنون: 65] لا تمنعون منا، نزلت في الذين قتلوا ببدر، ثم ذكر أن إعراضهم عن القرآن أوجب أخذهم بالعذاب بقوله: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المؤمنون: 66] يعني القرآن، {فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ} [المؤمنون: 66] تتأخرون عن الإيمان به، {مُسْتَكْبِرِينَ} [المؤمنون: 67] الكناية تعود إلى البيت، أو الحرم، أو البلد مكة في قول الجميع، وهو كناية عن غير مذكور، والمعنى: مستكبرين بالبيت والحرم لأمنكم فيه مع خوف سائر الناس في مواطنهم، تقولون: نحن أهل الحرم فلا نخاف.
وقوله: {سَامِرًا} [المؤمنون: 67] السامر الجماعة يسمرون بالليل، أي يتحدثون، {تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 67] يجوز أن يكون من الهجران، وهو قول الحسن، ومقاتل، واختيار المفضل، والمعنى: تهجرون القرآن وترفضونه فلا تلتفتون إليه ولا تنقادون له، كما قال: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون: 105] ويجوز أن يكون من الهجر، وهو قول القبيح، يقال: هجر يهجر هجرا إذا قال غير الحق.
وهو قول السدي، والكلبي، ومجاهد، وقتادة.
وكانوا إذا خلوا حول البيت، سبوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقرآن، وقالوا فيهما السوء، ويقال في هذا المعنى أيضا: أهجر إهجارا إذا أفحش في منطقه، وهو قراءة ابن عباس، ومجاهد.
قال الله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ {68} أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ {69} أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ {70} وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ {71} أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ {72} وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {73} وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ {74} وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ {75} } [المؤمنون: 68-75] {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68] أفلم يتدبروا القرآن فيعرفوا ما فيه من العبر والدلالات على صدق محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 68] قال ابن عباس: يريد أليس قد أرسلنا نوحا وإبراهيم والنبيين إلى قومهم، فكذلك بعثنا محمدا إلى قومه.
{أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} [المؤمنون: 69] قال ابن عباس: أليس هو محمد بن عبد الله، يعرفونه صغيرا وكبيرا، صادق اللسان، يفي بالعهد؟ وفي هذا توبيخ لهم بالإعراض عنه بعدما عرفوا صدقه وأمانته.
{أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} [المؤمنون: 70] قال ابن عباس: يريدون به جنون ترونه به.
{بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ} [المؤمنون: 70] بالتنزيل الذي هو الحق، يعني القرآن.
{وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ {70} وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ(3/294)
أَهْوَاءَهُمْ} [المؤمنون: 70-71] قال أبو صالح، وابن جريج، ومقاتل، والسدي: الحق هو الله.
والمعنى: لو جعل مع نفسه كما يحبون شريكا {لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [المؤمنون: 71] أي: ومن فيهن، وقال الزجاج، والفراء: ويجوز أن يكون المراد بالحق القرآن.
أي: لو نزل بما تحبون من جعل شريك، وإثبات آلهة لفسدت السموات والأرض ومن فيهن كقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] .
{بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} [المؤمنون: 71] أي: بما فيه فخرجهم وشرفهم، قال ابن عباس: هو كقوله: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء: 10] .
{فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 71] قال: يريد تولوا عما جاء به من شرف الدنيا والآخرة.
{أَمْ تَسْأَلُهُمْ} [المؤمنون: 72] على ما جئتهم به من الإيمان والقرآن، {خَرْجًا} [المؤمنون: 72] أجرا ومالا يعطونك، {فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} [المؤمنون: 72] فما يعطيك الله من أجره وثوابه ورزقه خير لك، {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [المؤمنون: 72] أفضل من أعطى وآجر.
{وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المؤمنون: 73] وهو دين الإسلام.
{وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} [المؤمنون: 74] بالبعث والثواب والعقاب، {عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} [المؤمنون: 74] عن الدين مائلون عادلون، يقال: نكب فلان عن الطريق تنكب نكوبا إذا عدل عنه.
{وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ} [المؤمنون: 75] يعني: الجوع الذي أصابهم بمكة سبع سنين، {لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [المؤمنون: 75] لتمادوا في ضلالتهم يترددون.
{وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ {76} حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ {77} وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ {78} وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ {79} وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ {80} بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ {81} قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ {82} لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ {83} } [المؤمنون: 76-83] {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} [المؤمنون: 76] يعني الجوع، {فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ} [المؤمنون: 76] ما توضعوا ولا انقادوا، {وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76] وما يرغبون إلى الله في الدعاء.
{حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ} [المؤمنون: 77] قال ابن عباس في رواية الوالبي: يعني يوم بدر.
وهو قول مجاهد، واختيار الزجاج.
وقال في رواية عطاء: يريد الموت.
{إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [المؤمنون: 77] آيسون من كل خير.(3/295)
{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ} [المؤمنون: 78] خلق لكم، {السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون: 78] قال مقاتل: يعني أنهم لا يشكرون رب هذه النعم ويوحدونه.
{وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [المؤمنون: 80] يحيي الولد في الرحم فيولد حيا، ثم يميته، {وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [المؤمنون: 80] قال الفراء: هو الذي جعلهما مختلفين، يتعاقبان ويختلفان في السواد والبياض.
{أَفَلا تَعْقِلُونَ} [المؤمنون: 80] ما ترون من صنعه فتعتبرون.
{بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ} [المؤمنون: 81] قال الكلبي: كذبت قريش بالبعث مثل ما كذب الأولون.
وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ {84} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ {85} قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ {86} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ {87} قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ {88} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ {89} بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ {90} } [المؤمنون: 84-90] {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا} [المؤمنون: 84] من الخلق، {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 84] خالقها ومالكها.
سيقولون الله أي: يقرون بأنها مخلوقة له، {قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون: 85] تتفكرون أن من قدر على خلق الأرض ومن فيها قادر على إحياء الموتى.
قوله: قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون الله وقرئ لله وكذلك ما بعده، فمن قرأ الله فعلى ما يقتضيه اللفظ من جواب السائل، لأنك إذا قلت: من رب السموات؟ فالجواب: الله، ومن قرأ لله فعلى المعنى، لأن معنى من رب السموات، لمن السموات؟ فيقال: لله.
كما يقال: من مالك هذه الدار؟ فيقال: لزيد.
لأن معناه: لمن هذه الدار، فإذا قالوا ذلك، و {قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [المؤمنون: 87] عبادة غيره.
قُلْ لهم يا محمد: {مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [المؤمنون: 88] الملكوت الملك، والتاء زيادة للمبالغة، نحو جبروت ورهبوت، {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 88] يقال: أجرت فلانا إذا استغاث بك فحميته، وأجرت عليه إذا حميت عنه.
والمعنى أنه يمنع من السوء من يشاء، ولا يمنع منه من أراد بسوء، وقوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 89] قال الفراء، والزجاج: تصرفون عن الحق، وتخدعون.
والمعنى: يخيل لهم الحق باطلا، والصحيح فاسدا.
{بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ} [المؤمنون: 90] بالتوحيد والقرآن، {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [المؤمنون: 90] فيما يضيفون إلى الله عن الولد والشريك.
ثم نفاهما عن نفسه، فقال: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ {91} عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ {92} } [المؤمنون: 91-92] {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون: 91] لاعتزل وانفرد بخلقه، فلا يرضى أن يضاف خلقه وإنعامه إلى غيره ولمنع الإله الآخر عن الاستيلاء على ما خلق، {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون: 91] طلب(3/296)
بعضهم مغالبة بعض، وهذا معنى قول المفسرين: لقاتل بعضهم بعضا كما يفعل الملوك في الدنيا.
ثم نزه نفسه عما وصفوه به، فقال سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ {91} عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [المؤمنون: 91-92] بالجر من نعت الله، والرفع على خبر ابتداء محذوف، يعني: هو عالم.
{قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ {93} رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {94} وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ {95} ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ {96} وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ {97} وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ {98} } [المؤمنون: 93-98] {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ} [المؤمنون: 93] إن أريتني ما يوعدون من العذاب والنقمة، يعني القتل ببدر.
{رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون: 94] أي: مع القوم الظالمين، قال الكلبي: مع الفئة الباغية.
قال الزجاج: أي إن أنزلت بهم النقمة، يا رب، فاجعلني خارجا عنهم.
ثم أخبر أنه قادر على ذلك بقوله: {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 95] .
ثم أمره بالصبر إلى أن ينقضي الأجل المضروب للعذاب، فقال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} [المؤمنون: 96] يعني بالأحسن، الإعراض والصفح، والسيئة أذى المشركين إياه، وهذا قبل الأمر بالقتال، {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 96] بما يكذبون ويقولون من الشرك، أي: إنا نجازيهم بما يستحقون.
ثم أمره أن يتعوذ من الشيطان ليسلم في دينه، فقال: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ} [المؤمنون: 97] أمتنع وأعتصم بك، {مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} [المؤمنون: 97] معنى الهمز في اللغة: الدفع، وهمزات الشياطين: دفعهم بالإغواء إلى المعاصي، وهو معنى قول المفسرين: نزعاتهم ووساوسهم، وذلك أن الشيطان إنما يدفع الناس إلى المعاصي بما يوسوس إليهم.
{وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 98] في أموري، أي أن يصيبوني بالسوء لأن الشيطان لا يحضر ابن آدم إلا بسوء.
ثم أخبر الله تعالى أن هؤلاء الكفار الذين ينكرون البعث يسألون الرجعة إلى الدنيا عند معاينة الموت، فقال: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ {99} لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ {100} } [المؤمنون: 99-100] {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون: 99] أي: إلى الدنيا ردوني إليها، وإنما قال: ارجعوني، كما يقال للجماعة، لأن الله عز وجل يخبر عن نفسه بما يخبر به عن الجماعة في نحو قوله: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ} [ق: 43] وأمثاله، فكذلك جاء الخطاب في ارجعون في مقابلته، قوله: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا(3/297)
تَرَكْتُ} [المؤمنون: 100] قال ابن عباس: أشهد أن لا إله إلا الله.
وقال قتادة: أما والله ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا إلى عشيرة، ولكنه تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله، فانظروا أمنية الكافر فاعملوا فيها، وقوله: {فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون: 100] قال ابن عباس: فيما مضى من عمري.
قال الله: كلا لا يرجع إلى الدنيا، إِنَّهَا إن مسألة الرجعة، {كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: 100] كلام يقوله ولا فائدة له في ذلك، وقوله: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ} [المؤمنون: 100] يعني أمامهم وبين أيديهم، والبرزخ الحاجز بين الشيئين، وهو ههنا ما بين الموت والبعث، قال مجاهد: حاجز حجاب بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا وهم فيه، {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 100] .
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ {101} فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {102} وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ {103} تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ {104} } [المؤمنون: 101-104] {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ} [المؤمنون: 101] قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير: هي النفخة الأولى.
وقال في رواية عطاء: هي النفخة الثانية.
{فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ} [المؤمنون: 101] قال: يريد لا تفاخر بينهم كما كانوا يتفاخرون في الدنيا.
ولا يتساءلون كما يتساءل العرب في الدنيا: من أي قبيلة أنت؟ ولا بد من تقدير محذوف في الآية على تأويل فلا أنساب بينهم يؤمئذ يتفاخرون بها، أو يتعاطفون بها، لأن الأنساب لا تنقطع يومئذ، إنما يرتفع التواصل والتفاخر والتساؤل، وهذه الآية لا تنافي قوله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 27] لأن للقيامة أحوال ومواطن منها ما يشغلهم عظم الأمر عن المسألة، ومنها حال يفيقون فيها، فيتساءلون، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية المنهال، عن عمرو: ولما سئل عن الاثنين فقال: هذه ثارات يوم القيامة.
قوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [المؤمنون: 102] وهذه الآية والتي بعدها تقدم تفسيره.
قوله: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [المؤمنون: 104] اللفح: الإحراق، يقال: لفحته النار والسموم إذا أحرقته، {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون: 104] الكلوح: بدو الأسنان عند العبوس، وقال الزجاج: الكالح الذي قد تشمرت شفتاه عن أسنانه، نحو ما ترى رءوس الغنم إذا برزت الأسنان وتشمرت الشفاه.
قال ابن مسعود: ككلوح الرأس النضيج.
648 - أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الزَّاهِدُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ نظيرٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أنا يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي السَّمْحِ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} ، قَالَ: تَشْوِيهِ النَّارُ فَتَقَلَّصُ شَفَتُهُ الْعُلْيَا حَتَّى تَبْلُغَ وَسَطَ رَأْسِهِ وَتَسْتَرْخِي شَفَتُهُ السُّفْلَى حَتَّى تَبْلُغَ سُرَّتَهُ "، رَوَاهُ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي (صَحِيحِهِ) ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي الْمُوَجِّهِ، عَنْ عَبْدَانَ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ
ويقال: {(3/298)
أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ {105} قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ {106} رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ {107} } [المؤمنون: 105-107] {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي} [المؤمنون: 105] يعني القرآن، {تُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المؤمنون: 105] تخوفون بها، {فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون: 105] في الدنيا.
{قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون: 106] وقرئ شقاوتنا ومعناهما واحد وهما مصدران، قال مجاهد، ومقاتل: غلبت علينا شقاوتنا التي كتبت علينا في الدنيا فلم نهتد.
وهو قوله: {وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ {106} رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا} [المؤمنون: 106-107] من النار، قال ابن عباس: سألوا الرجعة.
{فَإِنْ عُدْنَا} [المؤمنون: 107] إلى الكفر والتكذيب، {فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون: 107] .
قال: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ {108} إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ {109} فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ {110} إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ {111} } [المؤمنون: 108-111] {اخْسَئُوا فِيهَا} [المؤمنون: 108] قال المبرد: الخسأ: إبعاد بمكروه.
وقال الزجاج: تباعدوا تباعد سخط، وأبعدوا بعد الكلب.
{وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] في رفع العذاب عنكم.
649 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُقْرِئُ، أنا شُعَيْبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَيْهَقِيُّ، أنا مَكِّيُّ بْنُ عَبْدَانَ، نا أَبُو بَكْرٍ الأَزْهَرِيُّ، نا رَوْحٌ، نا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ أَهْلَ جَهَنَّمَ يَدْعُونَ مَالِكًا أَرْبَعِينَ عَامًا فَلا يُجِيبُهُمْ، ثُمَّ يَقُولُ: إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ، ثُمَّ يُنَادُونَ رَبَّهُمْ: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} ، فَيَدُعُهُمْ مِثْلَ عُمْرِ الدُّنْيَا، ثُمَّ يَرِدُ عَلَيْهِمْ {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} فِيمَا يُمْسِي الْقَوْمُ بَعْدَ ذَلِكَ بِكَلِمَةٍ إِنْ كَانَ إِلا الزَّفِيرُ وَالشَّهِيقُ، وَقَالَ الْقُرَظِيُّ: إِذَا قِيلَ لَهُمْ: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} انْقَطَعَ رَجَاؤُهُمْ وَدُعَاؤُهُمْ، وَأَقْبَل بَعْضُهُمْ يَنْبَحُ فِي وَجْهِ بَعْضٍ، وَأُطْبِقَتْ عَلَيْهِمْ
{إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي} [المؤمنون: 109] قال ابن عباس: يريد المهاجرين.
{فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} [المؤمنون: 110] وقرئ بكسر السين ههنا وفي { [ص واتفقوا على الضم في سورة الزخرف يقال: سخر منه وسخر به سخرية وسخريا إذا هزئ، ومن السخرة التي هي بمعنى العبودية، يقال: اتخذت فلانا سخريا بالضم لا غيره، ومن اتفقوا على الضم في الأخرى لأنه من السخرة.
قال أبو عبيدة: سخريا يسخرون منهم، وسخريا يسخرونهم.
وقال يونس: سخريا من السخرة مضموم، ومن الهزء سخري(3/299)
وسخري.
وعلى القراءتين جميعا هو مصدر وصف به، ولذلك أفرد ابن عباس: يريد تستهزئون بهم.
وقال مقاتل: إن كفار قريش كانوا يستهزئون من عمار وبلال وخباب وصهيب وسلمان وسالم.
وقوله:] حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي} [سورة المؤمنون: 110] أي: نسيتم ذكري لاشتغالكم بالسخرية منهم وبالضحك منهم، فنسب الإنساء إلى عباده المؤمنين وإن لم يفعلوه لما كانوا السبب، كقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 36] لما كانت سببا في الإضلال، نسب الإضلال إليها معنى قول المفسرين ترككم الاستهزاء لا تؤمنون بالقرآن.
{إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا} [المؤمنون: 111] على أذاكم واستهزائكم، {أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون: 111] في موضع المفعول الثاني لجزيت، والمعنى: جزيتهم اليوم بصبرهم الفوز، ومن كسر استأنف وأخبر، فقال: {أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون: 111] أي: الذين قالوا ما أرادوا.
قوله: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ {112} قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ {113} قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ {114} أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ {115} فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ {116} } [المؤمنون: 112-116] {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ} [المؤمنون: 112] قال الله تعالى للكفار يوم البعث: كم لبثتم في الأرض.
يعني الدنيا وفي القبور، {عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون: 112] وقرئ قل أي: قل أيها الكافر المسئول عن قدر لبثه كم لبثتم.
{قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [المؤمنون: 113] قال ابن عباس: أنساهم الله قدر لبثهم، فيرون أنهم لم يلبثوا إلا يوما أو بعض يوم، لعظيم ما هم بصدده من العذاب، بسوء ذلك، قوله: {فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون: 113] يعني الملائكة.
{قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ} [المؤمنون: 114] أي: قال الله تعالى: ما لبثتم في الأرض إلا قليلا، لأن مكثهم في القبور، وإن طال، فإنه متناه قليل عند طول مكثهم في عذاب جهنم، لأنه خلود ولا يتناهى.
وقوله: {لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 114] أي: قدر لبثكم في الدنيا.
قوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون: 115] العبث في اللغة اللعب، يقال: عبث عبثا فهو عابث، لاعب بما لا يعنيه، ومعناه للعبث.
قال ابن عباس: يريد كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب عليها.
مثل قوله: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36] أن يهمل كما تهمل البهائم، والمعنى: أفحسبتم أنكم خلقتم للعبث فتعبثوا ولا تعملوا بطاعة الله، {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] في الآخرة للجزاء.
{فَتَعَالَى اللَّهُ} [المؤمنون: 116] عما يصفه به الجهال من الشريك والولد، {الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون: 116](3/300)
لأنه ملك غير مملك، وكل ملك غيره فملكه مستعار، لأنه يملك ما ملكه الله، ثم وحد نفسه، فقال: {لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 116] السرير الحسن، والكريم في صفة الجماد بمعنى الحسن.
ثم أوعد من أشرك به، فقال: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ {117} وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ {118} } [المؤمنون: 117-118] {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون: 117] أي: إلها لم ينزل بعبادته كتاب، ولا بعث بها رسول، {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [المؤمنون: 117] أي أن حساب عمله عند الله، فهو يجازيه بما يستحق، كما قال: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 26] .
{إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117] لا يسعد من كذب وجحد.
ثم أمر رسوله أن يستغفر للمؤمنين، فقال: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون: 118] أي: أفضل رحمة من الذين يرحمون.(3/301)
سورة النور
مدنية وآياتها أربع وستون.
650 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْخَفَّافُ مُلازِمُ الْجَامِعِ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْمُؤَذِّنُ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ مُسْلِمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ النُّورِ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، بِعَدَدِ كُلِّ مُؤْمِنٍ فِيمَا مَضَى وَفِيمَا بَقِيَ»
651 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ السَّرَّاجُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ الْحَضْرَمِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشَّامِيُّ، نا شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ الدِّمَشْقِيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تُنْزِلُوهُنَّ الْغُرُفَ، وَلا تُعَلِّمُوهُنَّ الْكِتَابَةَ، وَعَلِّمُوهُنَّ الْغَزْلَ وَسُورَةَ النُّورِ؛ يَعْنِي النِّسَاءَ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي (صَحِيحِهِ) ، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْحَافِظِ، عَنِ الْبَاغَنْدِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ الضَّحَّاكِ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَرَوَاهُ الأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعَالِبِيُّ فِي (تَفْسِيرِهِ) ، عَنِ ابْنِ فَنْجُوَيْهِ الدِّينَوَرِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ مُحَمَدِّ بْنِ أَحْمَدَ الْكَرَابِيسِيِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ تَوْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدٍ الشَّامِيِّ، فَكَأَنِّي سَمِعْتُهُ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْهُ شَيْخُهُ
{سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {1} الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {2} } [النور: 1-2] بسم الله الرحمن الرحيم {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} [النور: 1] قال الزجاج: هذه { [أنزلناها، ورفعها بالابتداء قبيح لأنها نكرة، وأنزلناها صفة لها.
] وَفَرَضْنَاهَا} [سورة النور: 1] أي: فرضنا فرائضها، أي: الفرائض المذكورة فيها، فحذف المضاف، وحجة التخفيف قوله: {إِنَّ الَّذِي(3/302)
فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ} [القصص: 85] .
والتشديد في فرضناها لكثرة ما فيها من الفرائض المذكورة في القرآن، وقال مجاهد: يعني الأمر بالحلال والنهي عن الحرام.
وهذا يعود إلى معنى أوحيناها.
قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] معنى الجلد ضرب، الجلد يقال: جلده إذا ضرب جلده، مثل رأسه وبطنه إذا ضرب رأسه وبطنه، ومعنى الآية: الزانية والزاني إذا كانا حرين بالغين بكرين فاجلدوهما مائة جلدة هذا يجب بنص الكتاب، ويجب بالسنة تغريب.
652 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، نا مُوسَى بْنُ هَارُونَ، نا قُتَيْبَةُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُمَا قَالا: أَنَّ رَجُلا مِنَ الأَعْرَابِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْشُدُكَ اللَهَ إِلا قَضَيْتَ لِي بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَ الْخَصْمُ الآخَرُ وَهُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ: نَعَمْ، فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قُلْ، قَالَ: إِنَّ ابْنِي عَسِيفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَا بِامْرَأَتِهِ، وَإِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ فَسَأَلْتُ رَجُلا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي مِائَةَ جَلْدَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ رَدٌّ عَلَيْكَ وَعَلَى ابْنِكَ مِائَةُ جَلْدَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَاغْدِ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَارْجُمْهَا إِنِ اعْتَرَفَتْ، قَالَ: فَغَدَا إِلَيْهَا فَاعْتَرَفَتْ فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرُجِمَتْ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ كِلاهُمَا، عَنْ قُتَيْبَةَ
وقوله: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} [النور: 2] يقال: رأف رأفة ورآفة، مثل النشأة والنشاءة.
وقرأ ابن كثير بفتح الهمزة، ولعلها لغة، والمعنى: لا تأخذكم الرأفة بهما فتعطلوا الحدود، ولا تقيموها رحمة عليهما وشفقة بهما، وهذا قول عطاء، ومجاهد.
وقال الحسن، وسعيد بن المسيب، وإبراهيم، قالوا: يوجع الزاني ضربا ولا يخفف رأفة.
وقوله: {فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] قال ابن عباس: في حكم الله، كقوله: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف: 76] أي في حكمه.
{إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [النور: 2] وبالبعث، {وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النور: 2] قال مقاتل: إن كنتم تصدقون بتوحيد الله وبالبعث الذي فيه جزاء الأعمال، فلا تعطلوا الحدود.
وهذا يقوي القول الأول، لأن هذا كالوعيد في ترك الحدود، {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا} [النور: 2] وليحضر ضربهما، {طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] نفر من المسلمين، يكون ذلك نكالا لهما، وقال الحسن: أمر أن يعلن ذلك.(3/303)
{الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3] قوله: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3] قال أكثر المفسرين: كانت بالمدينة نساء بغايا لهن علامات كعلامات البياطرة، وكن مخاصيب الرجال، فلما قدم المهاجرون المدينة لم يكن لهن مساكن ولا عشائر، فأرادوا أن يتزوجوا بهن لينفقن عليهم، فنهوا عن ذلك، ونزلت هذه الآية {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3] أن يتزوجوا تلك البغايا المعلنات، وذكر أن من فعل ذلك وتزوج بواحدة منهن فهو زان، فالتحريم كان خاصة على أولئك دون الناس، ومذهب سعيد بن جبير أن هذه الآية منسوخة نسخها قوله: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] قال أبو عبيد: مذهب مجاهد أن التحريم لم يكن إلا على أولئك خاصة.
ومذهب سعيد أن التحريم كان عاما ثم نسخته الرخصة، فإن تزوج امرأة تبين منها الفجور، لم يكن ذلك تحريما بينهما ولا طلاقا، ولكنه يؤمر بطلاقها، ويخاف عليها الإثم في إمساكها، لأن الله تعالى إنما اشترط على المؤمنين نكاح المحصنات، فقال: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} [المائدة: 5] فأما حديث الاستمتاع الذي قال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن امرأته لا تمنع يد لامس، فأمره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالاستمتاع بها وإمساكها، فهذ خلاف الكتاب والسنة، لأن الله تعالى إنما أذن في نكاح المحصنات خاصة ثم أنزل في القاذف لامرأته آيه اللعان، وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التفريق بينهما، فلا يجتمعان أبدًا فكيف يأمر بالإقامة على عاهرة لا تمتنع ممن أرادها، وفي حكمه أن يلاعن بينهما ولا يقر قاذفا على حاله، والحديث ليس يثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنما عبرته هارون بن رياب، عن عبد الله بن عيد، وعبرته عبد الكريم الجزري، عن ابن الزبير، وكلاهما يرسله، فإن ثبت، فإن تأويله أن الرجل وصف امرأته بالخرف، وضعف الرأي، وتضييع ماله، فهي تمنعه من طالب ولا تحفظه من سارق، وهذا أشبه بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأجرى بحديثه هذا كله كلام أبي عبيد.
وقوله: {(3/304)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ {4} إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {5} } [النور: 4-5] {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] أي: يرمونهن بالزنا، والإحصان المشروط في المقذوفة حتى يجب الحد على القاذف خمسة أوصاف: البلوغ، والعقل، والإسلام، والحرية، والعفة عن الزنا.
وقوله: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا} [النور: 4] أي: على ما رموهن به من الزنا، {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] عدول يشهدون أنهم رأوهن يفعلن ذلك، {فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4] يعني: الذين يرمون بالزنا، {ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] المحدود في القذف لا تقبل شهادته، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] العاصون في مقالتهم.
ثم استثنى، فقال: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [النور: 5] يذهب كثير من العلماء إلى أن هذا الاستثناء يعود إلى الفسق فقط، وأما الشهادة فلا تقبل أبدا، وهذا قول شريح، وإبراهيم، وإسحاق، وقتادة، واختيار أهل العراق، وقالوا: قضاء من الله أن لا تقبل شهادته أبدا، وإنما نسخت توبة الفسق وحده.
وقد رأى آخرون أنها نسخت الفسق وإسقاط الشهادة معا، وهو قول الزهري، والقاسم بن محمد، وعطاء، وطاوس، والشعبي، وعكرمة، ومجاهد، وقول أهل الحجاز جميعا، واختيار الشافعي، وقول ابن عباس في رواية الوالبي، قال: فمن تاب وأصلح فشهادته في كتاب الله تقبل.
قال أبو عبيدة: وكلا الفريقين تأول هذه الآية.
فالذي لا يقبلها يذهب إلى أن الكلام انقطع عند قوله أبدا.
ثم استأنف، فقال: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ {4} إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 4-5] فأوقع التوبة على الفسق خاصة دون الشهادة، وأما الآخرون فذهبوا إلى أن الكلام معطوف بعضه على بعض، ثم أوقعوا الاستثناء في التوبة على كل كلام، والذي نختار هذا القول لأن المتكلم بالفاحشة لا يكون أعظم جرما من راكبها، ولا خلاف في العاهر أنه مقبول الشهادة إذا تاب، فالرامي أيسر جرما إذا نزع، وليس القاذف بأشد جرما من الكافر، إذا أسلم وأصلح قبلت شهادته، فالقاذف حقه أيضا إذا تاب وأصلح أن تقبل شهادته، وهذا معنى قول الشافعي: إذا قبلتم توبة الكافر والقاتل عمدا فكيف لا تقبلون شهادة القاذف وهو أقل ذنبا.
وقد قال الشعبي: يقبل الله توبته ولا تقبلون شهادته، وهذا إجماع الصحابة.
653 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْمَعْقِلِيُّ، نا الرَّبِيعُ، أنا الشَّافِعِيُّ، أنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ، قَالَ: زَعَمَ أَهْلُ الْعِرَاقِ أَنَّ شَهَادَةَ الْقَاذِفِ لا تَجُوزُ، فَأَشْهَدُ لأَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لأَبِي بَكْرَةَ: تَقْبَلُ شَهَادَتَكَ، أَوْ إِنْ تُبْتَ قَبِلْتُ شَهَادَتَكَ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: أَبَدًا؛ قِيلَ: أَبَدُ كُلِّ إِنْسَانٍ مِقْدَارُ مُدَّتِهِ فِيمَا يَتَّصِلُ بِقَضِيَّتِهِ، تَقُولُ: الْكَافِرُ لا تُقْبَلُ مِنْهُ شَيْئًا أَبَدًا، مَعْنَاهُ: مَا دَامَ كَافِرًا، كَذَلِكَ الْقَاذِفُ لا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَبَدًا مَا دَامَ قَاذِفًا، فَإِذَا زَالَ عَنْهُ الْكُفْرُ زَالَ أَبَدًا، وَإِذَا زَالَ عَنْهُ الْفِسْقُ زَالَ أَبَدًا، لا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ
قوله: {وَأَصْلَحُوا} [النور: 5] قال ابن عباس: يريد إظهار التوبة.
وقال مقاتل: وأصلحوا العمل.
{فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} [النور: 5] لقذفهم، {رَحِيمٌ} [النور: 5] بهم حيث تابوا.
654 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، نا أَبُو مَالِكٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ(3/305)
الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الآيَةَ، قَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ وَجَدْتُ عَلَى بَطْنِ امْرَأَتِي رَجُلا، فَقُلْتُ لَهَا: يَا زَانِيَةُ، أَتَجْلِدُنِي بِمِائَتَيْ جَلْدَةٍ إِلَى أَنْ آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، قَدْ قَضَى الرَّجُلُ مِنْهَا حَاجَتَهُ، ثُمَّ مَضَى؟ ! قَالَ: كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ يَا عَاصِمُ بْنَ عَدِيٍّ، فَخَرَج سَامِعًا مُطِيعًا، فَلَمْ يَصِلْ إِلَى مَنْزِلِهِ حَتَّى اسْتَقْبَلَهُ هِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ يَسْتَرْجِعُ، فَقَالَ: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: شَرٌّ، وَجَدْتُ شَرِيكَ بْنَ سَحْمَاءَ عَلَى بَطْنِ امْرَأَتِي خَوْلَةَ يَزْنِي بِهَا، وَخَوْلَةُ بِنْتُ عَاصِمٍ، فَقَالَ: هَذَا وَاللَّهِ سُؤَالِي النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، آنِفًا، فَرَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ هِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ بِالَّذِي كَانَ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: مَا يَقُولُ زَوْجُكِ؟ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنَ السَّحْمَاءِ كَانَ يَأْتِينَا فِي مَنْزِلِنَا فَيَتَعَلَّمُ الشَّيْءَ مِنَ الْقُرْآنِ فَرُبَّمَا تَرَكَهُ عِنْدِي وَخَرَج زَوْجِي وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيَّ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ وَلا نَهَارٍ فَلا أَدْرِي أَدْرَكَتْهُ الْغَيْرَةُ، أَوْ قَلَّ عَلَيْهِ بِالطَّعَامِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ، تَعَالَى، آيَةَ اللِّعَانِ
: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ {6} وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ {7} وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ {8} وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ {9} وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ {10} } [النور: 6-10] {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] الآيات، فأقامه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد العصر عن يمين النجم فقال: يا هلال، أنت الشاهد أنك رأيتها تزني.
فقال: أشهد بالله لقد رأيته على بطنها يزني بها وإني لمن الصادقين، أشهد بالله ما برئت منه ولا برئ منها وإني لمن الصادقين، أشهد بالله ما قربتها منذ أربعة أشهر وإن حملها هذا الذي في بطنها من شريك بن سحماء وإني من الصادقين، {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 7] .
فقال القوم: آمين.
فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا خولة، ويحك إن كنت ألممت بذنب فأقري به، فإن الرجم بالحجارة في الدنيا أيسر عليك من غضب الله في الآخرة، وإن غضبه عذاب.
فقالت: يا رسول الله، كذب.
فأقامها مقامه، فقالت: أشهد بالله ما أنا بزانية وإنه لمن الكاذبين، ما رآه على بطني يزني بي وإنه لمن الكاذبين، أشهد بالله لقد برئت من الزنا وبرئ شريك بن سحماء مني وإنه لمن الكاذبين، أشهد بالله لقد قربني منذ أربعة أشهر، وإن ما في بطني من هلال بن أمية وإنه لمن الكاذبين، {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 9] .
ثم فرق بينهما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: لا يجتمعان أبدا إلى أن تقوم الساعة.
فمعنى قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ} [النور: 6] أي الزنا، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ} [النور: 6] يشهدون على صحة ما قالوا، {إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} [النور: 6] ويقرأ أربع بالنصب، فقال الزجاج: من قرأ بالرفع فعلى خبر الابتداء، المعنى: فشهادة أحدهم التي تدرأ حد القاذف أربع، والدليل على هذا قوله: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ} [النور: 8] ومن نصب فالمعنى: فعليهم أن يشهد أحدهم أربع(3/306)
شهادات.
قوله: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 7] قال ابن عباس: وذلك أن الرجل يذكر أنه رأى مع امرأته رجلا أربع مرات، ثم يقول في الخامسة: اللهم العنه إن كان كذب عليها.
وقرأ نافع أن مخففة لعنة بالرفع، قال سيبويه: لا تخفف في الكلام وبعدها الأسماء إلا وأنت تريد الثقيلة.
وقال الأخفش: لا أعلم الثقيلة إلا أجود في العربية، لأنك إذا خففت فالأصل الثقيلة، فتخفف وتضمر الشأن، فأن تجيء بالأصل ولا تحذف شيئا ولا تضمر أجود.
{وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: 8] أي: ويدفع عنها الحد {أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 8] تقول المرأة أربع مرات: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما قذفني به، وتقول في الخامسة: عليّ غضب الله إن كان من الصادقين.
فذلك قوله: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 9] وقرأ حفص {وَالْخَامِسَةَ} [النور: 9] نصبا على المعنى، كأنه قال: وتشهد الخامسة.
{وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} [النور: 10] أي: ستره ونعمته، لولا ههنا محذوف الجواب، قال الزجاج: المعنى لولا فضل الله لنال الكاذب منها عذاب عظيم، أي: لبين الكاذب من الزوجين فيقام عليه الحد، {وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ} [النور: 10] يعود على من رجع عن معاصي الله إلى ما يجب بالرحمة، {حَكِيمٌ} [النور: 10] فيما فرض من الحدود.
{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11] قوله: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ} [النور: 11] يعني: بالكذب على عائشة رضي الله عنها، والإفك: أسوأ الكذب، وهو مأخوذ من أفك الشيء إذا قلبه عن وجهه، والإفك هو الحديث المقلوب عن وجهه، ومعنى القلب في هذا الحديث أن عائشة كانت تستحق الثناء بما كانت عليه من الحصانة وشرف الحسب والنسب لا القذف الذي رموها به، فالذين رموها بالسوء قلبوا الأمر عن وجهه، فهو إفك قبيح، وكذب ظاهر، وكانت قصة الإفك على ما:
655 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّمْجَارِيُّ، أنا الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّحْوِيُّ بِعَسْكَرِ مُكَرَّمٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَالِحٍ النُّمَارِيُّ، نا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، نا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمَدَنِيُّ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا، فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ،(3/307)
قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَكُلُّهُمْ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ حَدِيثِهَا، وَبَعْضُهُمْ كَانَ أَوْعَى لِحَدِيثِهَا مِنْ بَعْضٍ، وَأَثْبَتَ امْتِصَاصًا، وَوَعَيْتُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْحَدِيثَ الَّذِي حَدَّثَنِي، وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا، رَوَوْا: أَنَّ عَائِشَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا، فَخَرَج فِيهَا سَهْمِي، فَخَرْجُت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَلِكَ بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ، فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي، وَأُنْزَلُ فِيهِ مَسِيرَنَا، حَتَّى فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ غَزْوَةٍ وَقَفَلَ، وَدَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ، أَذِنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ، فَقُمْتُ حِينَ أَذِنُوا بِالرَّحِيلِ، فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ، فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي؛ أَقْبَلْتُ إِلَى الرَّحْلِ فَلَمْسُت صَدْرِي، فَإِذَا عِقْدٌ مِنْ جَزْعِ ظَفَارٍ قَدِ انْقَطَعَ، فَرَجَعْتُ فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي، فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ، وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يَرْحَلُونَنِي، فَحَمَلُوا هَوْدَجِي عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنِّي فِيهِ، وَكَانَتِ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا، لَمْ يُهَبِّلْنَ وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ، إِنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ مِنَ الطَّعَامِ، فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ الْقَوْمُ ثِقَلَ الْهَوْدَجِ حِينَ رَحَلُوهُ وَرَفَعُوهُ وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ، فَبَعَثُوا الْجَمَلَ وَسَارُوا، وَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ، فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلا مُجِيبٌ، فَتَيَمَّمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، وَظَنَنْتُ أَنَّ الْقَوْمَ سَيَفْقِدُونَنِي فَيَرِجُعوا إِلَيَّ، وَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي عَيْنَايَ فَنِمْتُ، وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطِّلِ السُّلَمِيُّ، ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ، قَدْ عَرَّسَ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ، فَأَدْلَجَ فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي، فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ، فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي، وَقَدْ كَانَ يَرَانِي قَبْل أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْنَا الْحِجَابِ، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي، فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي، وَاللَّهِ مَا كَلَّمَنِي بِكَلِمَةٍ وَلا سَمِعْتُ مِنْهُ غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطِئَ عَلَى يَدِهَا، فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَ مَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ فِيَّ، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ابْنَ سَلُولَ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَاشْتَكَيْتُ حِينَ قَدِمْتُهَا شَهْرًا وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْلِ أَهْلِ الإِفْكِ، وَلا أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ يُرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لا أَعْرِفُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي، إِنَّمَا كَانَ يَدْخُلُ فَيُسَلِّمُ، ثُمَّ يَقُولُ: كَيْفَ تِيكُمْ؟ فَذَلِكَ يُحْزِنُنِي، وَلا أَشْعُر بِالسِّرِّ حَتَّى خَرَجْتُ بَعْدَ مَا نَقِهْتُ وَخَرَجَتْ مَعِي أُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ، وَهُوَ مُتَبَرَّزُنَا، وَلا نَخْرُجُ إِلا لَيْلا إِلَى اللَّيْلِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُتَخَّذَ الْكُنُفُ، وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَبِ الأُوَلِ فِي التَّنَزُّهِ، وَكُنَّا نَتَأَذَّى بِالْكُنُفِ أَنْ نَتَّخِذَهَا عِنْدَ بُيُوتِنَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ، وَهِيَ بِنْتُ أَبِي رُهْمٍ، وَأُمُّهَا بِنْتُ صَخْرِ بْنِ عَامِرٍ خَالَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَأَقْبَلُت أَنَا وَابْنَةُ أَبِي رُهْمٍ قِبَلَ بَيْتِي حِينَ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا، فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا، فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ، فَقُلْتُ لَهَا: بِئْسَ مَا قُلْتِ، أَتَسُبِّيَن رَجُلا قَدْ شَهِدَ بَدْرًا؟ فَقالَتْ: أَيْ هَنْتَاهُ، أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ؟ قُلْتُ: وَمَاذَا قَالَ؟ فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الإِفْكِ، فَازْدَدْتُ مَرَضًا إِلَى مَرَضِي، فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ تِيكُمْ؟ قُلْتُ: تَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ؟ قَالَتْ: وَأَنَا أُرِيدُ حِينَئِذٍ(3/308)
أَنْ أَتَيَقَّنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا، فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللَّهِ، فَجِئْتُ أَبَوَيَّ، فَقُلْتُ: يَا أُمَّهْ، مَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ؟ قَالَتْ: أَيْ بُنَيَّةُ، هَوِّنِي عَلَيْكِ، فَوَاللَّهِ لَقَلَّ مَا كَانَتِ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا، وَلَهَا ضَرَائِرُ، إِلا كَثَّرْنَ عَلَيْهَا، قَالَ: فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، أَوَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا؟ فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، وَلا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، ثُمَّ أَصْبَحْتُ أَبْكِي، وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ يَسْتَشِيرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ، فَأَمَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ؛ فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِالَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ، وَبِالَّذِي يَعْلَمُ فِي نَفْسِهِ لَهُمْ مِنَ الْوُدِّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُمْ أَهْلُكَ وَمَا تَعْلَمُ إِلا خَيْرًا، وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ؛ فَقَالَ: لَمْ يُضَيِّقِ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ، وَإِنْ تَسْأَلِ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَرِيرَةَ، فَقَالَ: يَا بَرِيرَةُ، هَلْ رَأَيْتِ شَيْئًا يُرِيبُكِ مِنْ عَائِشَةَ؟ قَالَتْ بَرِيرَةُ: وَالَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ، إِنْ رَأَيْتُ أَمْرًا أَغْمِصُهُ قَطُّ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ، تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا فَيَأْتِي الدَّاجِنُ فَيَأْكُلُهُ، قَالَتْ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ، فَقَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلا خَيْرًا، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلا مَعِي، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا أَعْذِرُكَ مِنْهُ، إِنْ كَانَ مِنَ الأَوْسِ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ، قَالَتْ: فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ وَكَانَ رَجُلا صَالِحًا وَلَكِنْ حَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ، فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ: كَذَبْتَ، لَعَمْرُ اللَّهِ لا تَقْتُلَنَّهُ وَلا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ، فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: كَذَبْتَ، لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ، فَثَارَ الْحَيَّانِ الأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا وَرَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ، قَالَتْ: وَبَكَيْتُ يَوْمِي ذَلِكَ، لا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، وَلا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، وَأَبَوَايَ يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي، فَبَيْنَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي اسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَأَذِنْتُ لَهَا، فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي، فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ، قَالَتْ: وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ مَا قِيلَ، وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لا يُوحَى إِلَيْهِ شَيْءٌ فِي شَأْنِي، قَالَتْ: فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، قَالَتْ: فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَلامَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً، فَقُلْتُ لأَبِي: أَجِبْ عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ فِيمَا قَالَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ، فَقُلْتُ لأُمِّي: أَجِيبِي رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ، فَقُلْتُ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لا أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنَ الْقُرْآنِ: وَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّكُمْ قَدْ(3/309)
سَمِعْتُمْ هَذَا حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، وَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ أَنِّي بَرِيئَةٌ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ، لا تُصَدِّقُونَنِي، وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي مِنْهُ بَرِيئَةٌ، لَتُصَدِّقُونَنِي، وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلا إِلا مَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} قَالَتْ: ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي وَأَنَا وَاللَّهِ حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ يَنْزِلَ فِي شَأْنِي وَحْيٌ يُتْلَى، وَلَشَأْنِي أَحْقَرُ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِوَحْيٍ يُتْلَى، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا، قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَجْلِسَهُ وَلا خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَحَدٌ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ عِنْدَ الْوَحْيِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنَ الْعَرَقِ فِي الْيَوْمِ الشَّاتِيِّ مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سُرِّيَ عَنْهُ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَكَانَ أَوَّلُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ: أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ، أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ بَرَّأَكِ، فَقَالَتْ لِي أُمِّي: قُومِي إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لا أَقُومُ إِلَيْهِ وَلا أَحْمَدُ إِلا اللَّهَ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ بَرَاءَتِي، قَالَتْ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكَ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} الْعَشْرَ آيَاتٍ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَاتِ فِي بَرَاءَتِي؛ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ وَفَقْرِهِ: وَاللَّهِ لا أُنْفِقُ عَلَيْهِ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ بِالنَّفَقَةِ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: لا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا، قَالَتْ عَائِشَةُ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَألَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ زَوْجِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ أَمْرِي: مَا عَلِمْتِ وَمَا رَأَيْتِ؟ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي، وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِلا خَيْرًا، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ، وَطَفِقَتْ حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ تُحَارِبُ لَهَا فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، كِلاهُمَا عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيِّ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} أَيْ: جَمَاعَةٌ مِنْكُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، ذَكَرَتْهُمْ عَائِشَةُ
656 - فِيمَا أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْصٍ الْمَاوَرْدِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أنا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، أنا حَمَّادُ بْنُ سَلْمَى، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} أَرْبَعَةٌ: حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ، وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ
قوله: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ} [النور: 11] لا تحسبوا الإفك شرا لكم، قال مقاتل: لأنكم تؤجرون على ما قيل لكم من الأذى.
{بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور: 11] لأن الله يأجركم ويظهر براءتكم، والخطاب لعائشة وصفوان فيما ذكر أهل التفسير، وقال الزجاج: يعني عائشة وصفوان ومن بسببهما سب من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر، ويكون الخطاب لكل من رمى بسب، وذلك أن من سب عائشة فقد سب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسب أبا بكر، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء، قال: يريد خيرا لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبراءة لسيدة النساء أم المؤمنين، وخيرا(3/310)
لأبي بكر وأم عائشة، ولصفوان بن المعطل.
وقوله: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ} [النور: 11] يعني: من العصبة الكاذبة، {مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ} [النور: 11] جزاء ما اجترح من الذنب على قدر ما خاض فيه، {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} [النور: 11] استبد بمعظمه وانفرد به، قال الضحاك: قام بإشاعة الحديث.
وكبر الشيء: معظمه بالكسر، وهو عبد الله بن أبي في قول مجاهد، ومقاتل، والسدي، وعطاء، عن ابن عباس.
وقوله: مِنْهُم يعني: من العصبة الكاذبة، {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11] قال ابن عباس: يريد في الدنيا الجلد، جلده رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثمانين جلدة، وفي الآخرة يصيره الله إلى النار.
ثم أنكر على الذين خاضوا في الإفك، فقال: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ {12} لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ {13} } [النور: 12-13] {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} [النور: 12] هلا إذ سمعتم أيها العصبة الكاذبة قذف عائشة بصفوان، {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ} [النور: 12] من العصبة الكاذبة، يعني: حمنة بنت جحش، وحسان، ومسطحا، {بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور: 12] قال الحسن: بأهل دينهم، لأن المؤمنين كنفس واحدة، ألا ترى إلى قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] .
قال الزجاج: ولذلك يقال للقوم الذين يقتل بعضهم بعضا: إنهم يقتلون أنفسهم.
وقال المبرد: ومثله قوله: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] .
{وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور: 12] هذا القذف كذب بين.
{لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] هلا جاء العصبة الكاذبة على قذفهم عائشة بأربعة شهداء يشهدون بأنهم عاينوا منها ما رموها به، {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ} [النور: 13] في حكمه، {هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] .
ثم ذكر الذين قذفوا عائشة، فقال: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ {14} إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ {15} } [النور: 14-15] {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور: 14] ولولا ما مَنَّ الله به عليكم، {لَمَسَّكُمْ} [النور: 14] لأصابكم، {فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ} [النور: 14] فيما أخذتم وخضتم فيه من الكذب والقذف، {عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 14] في الدنيا والآخرة، قال ابن عباس: عذاب لا انقطاع له.
ثم ذكر الوقت الذي كان يصيبهم العذاب لولا فضله، فقال: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} [النور: 15] قال مجاهد، ومقاتل: بعضكم عن بعض.
وقال الكلبي: وذلك أن الرجل منهم كان يلقى الرجل، فيقول: بلغني كذا وكذا، يتلقونه تلقيا.
قال الزجاج: معناه يلقيه بعضكم إلى بعض.
{وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [النور: 15] من غير أن تعلموا أن الذي قلتم حق، {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا} [النور: 15] تظنون أن ذلك القذف سهل لا إثم فيه، {وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15] في الوزر.
ثم زاد في الإنكار عليهم، فقال: {(3/311)
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ {16} يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {17} وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {18} } [النور: 16-18] {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا} [النور: 16] ما يحل وما ينبغي لنا، {أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} [النور: 16] ، سبحانك ههنا معناه كقول الأعمش:
أقول لما جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر
{هَذَا بُهْتَانٌ} [النور: 16] افتراء وكذب، عَظِيم يتحير من عظمه.
ثم وعظ الذين خاضوا في الإفك، فقال: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ} [النور: 17] قال ابن عباس: يحرم الله عليكم.
وقال مجاهد: ينهاكم الله.
{أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} [النور: 17] لمثل هذا القذف، {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور: 17] يعني أن من شرط الإيمان ترك قذف المحصنة.
{وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ} [النور: 18] في الأمر والنهي، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} [النور: 18] بأمر عائشة، حَكِيم حكم ببراءتها.
ثم هدد القاذفين، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور: 19] {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} [النور: 19] أن يفشو ويظهر الزنا، {فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [النور: 19] بأن ينسبوها إليهم ويقذفوهم بها، {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا} [النور: 19] يعني الجلد، {وَالآخِرَةِ} [النور: 19] يعني عذاب النار، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} [النور: 19] سر ما خضتم فيه وما فيه من سخط الله، {وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور: 19] ذلك.
ثم ذكر فضله ومنته عليهم بتأخير العقوبة، فقال: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ {20} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {21} } [النور: 20-21] {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} [النور: 20] لعاقبكم فيما قلتم لعائشة، وهذا جواب لولا، وهو محذوف، {وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النور: 20] رءوف بكم، ورحمكم فلم يعاقبكم في أمر عائشة، قال ابن عباس: يريد مسطحا وحمنة وحسان.
قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور: 21] قال مقاتل: يعني تزيين الشيطان في قذف عائشة.
{وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور: 21] قال ابن عباس: بعصيان الله وكل ما يكره الله مما لا يعرف في شريعة ولا سنة.
{وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ} [النور: 21] قال مقاتل: ما صلح.
والزكاة تكون بمعنى الصلاح، يقال: زكى يزكو زكاة.
وقال ابن قتيبة: ما ظهر.
والآية على العموم عند بعض المفسرين، قالوا: أخبر الله أنه لولا فضله ورحمته بالعصمة ما صلح أحد.
وآخرون يقولون: هذا الخطاب للذين خاضوا في(3/312)
الإفك.
والمعنى: ما ظهر من هذا الذنب ولا صلح أمره بعد الذي فعل، وهو قول ابن عباس في رواية عطاء، قال: ما قبل توبة أحد منكم، {أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور: 21] قال: فقد شئت أن أتوب عليكم لأن الله يطهر من يشاء من الإثم بالرحمة والمغفرة فيوفقه للتوبة.
{وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21] علم ما في نفوسكم من الندامة والتوبة.
قوله: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22] {وَلا يَأْتَلِ} [النور: 22] قال جماعة المفسرين: لا يحلف.
يقال: ألى يؤلي إيلاء، ويألى يتألى تأليا، وائتلى ائتلاء، إذا حلف.
وقوله: {أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور: 22] يعني: أولو الغنى والسعة في المال، وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، حلف أن لا ينفق على مسطح، وكان ابن خالته، ولا يصله بشيء أبدا، وذلك قوله: {أَنْ يُؤْتُوا} [النور: 22] قال الزجاج: أن لا يؤتوا فحذف لا.
{أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النور: 22] يعني مسطحًا، وكان من المهاجرين، قال ابن عباس: قال الله لأبي بكر: قد جعلت فيك يا أبا بكر الفضل والمعرفة بالله وصلة الرحم، وعندك السعة، فتعطف على مسطح، فله قرابة، وله هجرة، وله مسكنة.
وقوله: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22] قال مقاتل: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي بكر: أما تحب أن يغفر الله لك.
قال: بلى.
قال: فاعف واصفح.
قال: قد عفوت وصفحت، لا أمنعه معروفي أبدا بعد اليوم، وقد جعلت له مثلي ما كان قبل اليوم.
وقالت عائشة لما نزلت هذه الآية: فقال أبو بكر الصديق: بلى والله إني لأطلب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح بالنفقة التي كان ينفق عليه.
وقال: والله لا أنزعها منه أبدا.
{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {23} يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {24} يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ {25} } [النور: 23-25] قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 23] العفائف، {الْغَافِلاتِ} [النور: 23] عن الفواحش كغفلة عائشة عما قيل فيها، {الْمُؤْمِنَاتِ} [النور: 23] المصدقات بتوحيد الله وبرسوله، {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا} [النور: 23] عذبوا بالجلد ثمانين جلدة، ويعذبون بالنار في، {وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23] قال مقاتل: هذه الآية خاصة في عبد الله بن أبي المنافق ورميه عائشة.
وقال سعيد بن جبير: هذا الحكم خاصة فيمن يقذف عائشة، فمن قذفها كان من أهل هذه الآية.
وقال الضحاك، والكلبي: هذه الآية في(3/313)
عائشة وأزواج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة، ليس فيها توبة، ومن قذف امرأة مؤمنة فقد جعل الله له توبة، ثم قرأ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] إلى قوله: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] قال: فجعل لهؤلاء توبة، ولم يجعل لأولئك توبة.
أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم، أنا شعيب بن محمد، أنا مكي بن عبدان، نا أبو الأزهر، نا روح، نا الثوري، نا حصيف، قال: قلت لسعيد بن جبير: من قذف محصنة لعنه الله.
قال: لا، إنها في عائشة خاصة.
قوله: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ} [النور: 24] قال الكلبي: تشهد عليهم يوم القيامة ألسنتهم بما تكلموا به من الفرية في قذف عائشة.
{وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 24] قال ابن عباس: تتكلم الجوارح وتنطق بما عملت في الدنيا.
{يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} [النور: 25] يجازيهم الله جزاءهم الواجب، {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور: 25] قال ابن عباس: وذلك أن عبد الله بن أبي كان يشك في الدين، فيعلم يوم القيامة أن الله هو الحق المبين حيث لا ينفعه.
قوله: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور: 26] {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [النور: 26] أي: الخبيثات من الكلام والقول للخبيثين من الناس، {وَالْخَبِيثُونَ} [النور: 26] من الناس {لِلْخَبِيثَاتِ} [النور: 26] من الكلام، والمعنى أن الخبيث من القول لا يليق إلا بالخبيث من الناس، وكل كلام إنما يحسن في أهله، فيضاف شيء القول إلى من يليق به ذلك، وكذلك الطيب من القول، وعائشة لا يليق بها الخبيثات من الكلام، فلا يصدق فيها لأنها طيبة، فيضاف إليها طيبات الكلام من الثناء الحسن وما يليق بها.
وقال الزجاج: معناه لا يتكلم بالخبيثات إلا الخبيث من الرجال والنساء، ولا يتكلم بالطيبات إلا الطيب من الرجال والنساء، وهذا ذم للذين قذفوا عائشة بالخبيث، ومدح للذين برأوها بالطهارة.
وقال ابن زيد: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، أمثال عبد الله بن أبي والشاكين في الدين.
{وَالطَّيِّبَاتُ} [النور: 26] من النساء، {لِلطَّيِّبِينَ} [النور: 26] من الرجال، {وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور: 26] يريد عائشة طيبها الله لرسوله، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء.
وقوله: {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ} [النور: 26] يعني: الطيبات والطيبين مبرءون، {مِمَّا يَقُولُونَ} [النور: 26] أي: الخبيثات والخبيثون، {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور: 26] في الجنة.
657 - أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ أَبُو مَعْمَرٍ الْمُفَضَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الإِسْمَاعِيلِيُّ، أنا الإِمَامُ جَدِّي أَبُو بَكْرٍ الإِسْمَاعِيلِيُّ، نا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ سَهْلٍ الأُشْنَانِيُّ، نا بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ الْكِنْدِيُّ، أنا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ جَدَّتِهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: لَقَدْ أُعْطِيتُ تِسْعًا مَا أُعْطِيَتْهَا امْرَأَةٌ: نَزَلَ جِبْرِيلُ بِصُورَتِي فِي رَاحَتِهِ حِينَ أَمَرَ النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ يَتَزَوَّجَنِي، وَلَقْد تَزَوَّجَنِي بِكْرًا وَمَا تَزَوَّجَ بِكْرًا غَيْرِي، وَلَقَدْ قُبِضَ وَإِنَّ رَأْسَهُ فِي حِجْرِي، وَلَقَدْ قُبِرَ فِي بَيْتِي وَلَقَدْ حَفَّتِ الْمَلائِكَةُ بِبَيْتِي، وَإِنْ كَانَ الْوَحْيُ لَيَنْزِلُ عَلَيْهِ فِي أَهْلِهِ فَيَتَفَرَّقُونَ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ لَيَنْزِلُ عَلَيْهِ وَإِنِّي لَمَعَهُ(3/314)
فِي لِحَافِهِ، وَإِنِّي لابْنَةِ خَلِيفَتِهِ وَصَدِيقِهِ، وَلَقَدْ نَزَلَ عِنْدِي مِنَ السَّمَاءِ، وَلَقَدْ خُلِقْتُ طَيِّبَةً وَعِنْدَ طَيِّبٍ، وَلَقَدْ وُعِدْتُّ مَغْفِرَةً وَرِزْقًا كَرِيمًا
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {27} فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ {28} لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ {29} } [النور: 27-29] وقوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} [النور: 27] أي: بيوتا ليست لكم، {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27] قال جماعة المفسرين: حتى تستأذنوا.
وقال ابن عباس: أخطأ الكاتب حتى تستأنسوا، إنما هي حتى تستأذنوا.
وقال أهل المعاني: الاستئناس الاستعلام، يقال: أنست منه كذا، أي علمت، والمعنى: حتى تستعلموا وتنظروا وتتعرفوا.
{وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] هو أن يقول السلام عليكم أدخل، ولا يجوز دخول بيت غيرك إلا باستئذان لهذه الآية، {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور: 27] أي: أفضل من أن تدخلوا بغير إذن، {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور: 27] أن الاستئذان خير فتأخذون به، قال عطاء: قلت لابن عباس: أستأذن على أمي وأختي ونحن في بيت واحد؟ قال: أيسرك أن ترى منهم عورة.
قلت: لا.
قال: فاستأذن.
{فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا} [النور: 28] أي: في البيوت أحدا، {فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} [النور: 28] وإن وجدوها خالية لم يجز لها إذن أيضا، وإن أمر بالانصراف انصرف ولم يقم على باب البيت، وهو قوله: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور: 28] أي: خير وأفضل من القعود على الأبواب، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [النور: 28] من الدخول بإذن وغير إذن، عَلِيمٌ فلما نزلت آية الاستئذان، قالوا: فكيف بالبيوت التي بين مكة والمدينة والشام على الطريق، ليس فيها ساكن.
فأنزل الله {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} [النور: 29] قال المفسرون: يعني بيوتا ليس فيها ساكن، فالبيوت التي ينزلها المسافرون لا جناح أن يدخلها بغير استئذان.
وقوله: {فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور: 29] أي: منافع من اتقاء البرد والحر والاستمتاع بها.
{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور: 30] قوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] عما لا يحل وعن الفواحش، هذا قول عامة المفسرين، وقال أبو العالية: المراد بحفظ الفرج في هذه الآية حفظه عن الرؤية ووقوع البصر عليه.
ذَلِكَ أي: غض البصر وحفظ الفرج، {أَزْكَى لَهُمْ} [النور: 30] خير لهم وأفضل عند الله، {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور: 30] في الفروج والأبصار.
ثم أمر النساء بمثل ما أمر به الرجال من غض البصر وحفظ الفرج، فقال: {(3/315)
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] يعني: الوجه والكفين، وهو قول سعيد بن جبير، والضحاك.
وقال مجاهد، عن ابن عباس: يعني الكحل والخاتم، والقلب والخضاب.
وقوله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] الخمر جمع الخمار، وهي ما تغطي به المرأة رأسها، والمعنى: وليلقين مقانعهن على جيوبهن ليسترن بذلك شعورهن وقرطتهن وأعناقهن، كما قال ابن عباس: تغطي شعرها وصدرها وترائبها وسوالفها.
{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31] يعني: الزينة الباطنة التي لا يجوز كشفها في الصلاة، قال ابن عباس، ومقاتل: لا يضعن الجلباب والخمار إلا لأزواجهن.
وهو قوله: {إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31] وقد جمع الله تعالى في هذه الآية بين الأزواج والمحارم وبين الفريقين وفرق، وهو أن الزوج يحل له النظر إلى جميع بدن امرأته سوى الفرج، وليس للمحارم أن ينظروا إلى ما بين السرة والركبة من المرأة، ومعنى {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31] : يعني المؤمنات، فلا يجوز لامرأة مؤمنة أن تتجرد بين يدي امرأة مشركة إلا أن تكون أمة لها، وقوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31] يعني: المماليك والعبيد، ويجوز للمرأة أن تظهر لمملوكيها إذا كانوا عفيفين ما تظهر لمحارمها، وقوله: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} [النور: 31] أكثر القراء على خفض غير بالصفة للتابعين، ومن نصب كان استثناءا، والمعنى: يبدين زينتهن للتابعين إلا(3/316)
ذا الإربة منهم، فإنهن لا يبدين زينتهن لمن كان منهم ذا إربة، والإرب الحاجة، ومعنى {التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ} [النور: 31] هم الذين لا حاجة لهم من النساء، ولا يحملهم إربهم على أن يراودوا النساء، وهذا قول مجاهد، وعكرمة، والشعبي.
وقال قتادة: هو الذي يتبعك فيصيب من طعامك ولا همة له في النساء.
وقال مقاتل: يعني الشيخ الهرم، والعنين، والخصي، والمجبوب ونحوه.
وقال الحسن: هم قوم طبعوا على التخفيف، وكل الرجال منهم يتبع الرجل يخدمه بطعامه، ولا يستطيع غشيان النساء ولا يشتهيهن.
658 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، أنا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، نا أَصْبَغُ، أنا ابْنُ وَهْبٍ، أنا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ هِيثًا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانُوا لا يَعُدُّونَهُ مِنْ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ
وقوله: {أَوِ الطِّفْلِ} [النور: 31] يعني به الجماعة من الأطفال، {الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31] لم يقودا عليها، ومنه قوله: {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14] يعني: الغلمان الذين لم يبلغوا الحلم.
{وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31] قال قتادة: كانت المرأة تضرب برجليها ليسمع قعقعة الخلخال فيها، فنهيت عن ذلك.
وقال عطاء، عن ابن عباس: ولا تضرب المرأة برجلها إذا مشت ليسمع صوت خلخالها، أو يتبين لها خلخال.
{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا} [النور: 31] عما كنتم تعلمون في الجاهلية، والمعنى: راجعوا طاعته فيما أمركم به ونهاكم عنه.
659 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أنا أَبُو خَلِيفَةَ، نا أَبُو الْوَلِيدِ، نا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، سَمِعْتُ أَبَا بُرْدَةَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَجُلا مِنْ جُهَيْنَةَ، يُقَالُ لَهُ: الأَغَرُّ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُحَدِّثُ ابْنَ عُمَرَ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، تُوبُوا إِلَى رَبِّكُمْ، فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ
وقوله: {أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور: 31] وقرأ ابن عامر بضم الهاء، ومثله: {يَأَيُّهَا السَّاحِرُ} [الزخرف: 49] ، {أَيُّهَا الثَّقَلانِ} [الرحمن: 31] قال أبو علي الفارسي: وهذا لا يتجه، لأن آخر الاسم هو الياء الثانية من أي، فينبغي أن يكون المضموم آخر الاسم، ولو جاز أن يضم الميم في اللهم لأنه آخر الكلمة، وينبغي أن لا يقرأ بهذا ولا يؤخذ به.
{وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {32} وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ(3/317)
أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ {33} وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ {34} } [النور: 32-34] قوله: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] يقال: فلانة أيم إذا لم يكن لها زوج، بكرا كانت أو ثيبا، والجمع أيامى، والأصل أيائم فقلبت، ورجل أيم لا زوج له، قال السدي: من لم يكن له زوج من امرأة أو رجل فهو أيم.
وهذا قول جماعة المفسرين، والمعنى: زوجوا أيها المؤمنون من لا زوج له من أحرار رجالكم ونسائكم، وهذا الأمر ندب واستحباب.
660 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ الْفَضْلِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ، أنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ فِطْرَتِي فَلْيَسْتَنَّ بِسُنَّتِي، وَمِنْ سُنَّتِي النِّكَاحُ»
661 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ الْبُوشَنْجِيُّ، نا سَعِيدُ بْنُ وَاقِدٍ، نا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ»
662 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أنا أَبُو سَعِيدٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ الْجُرْجَانِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدَانَ الْبَجَلِيُّ، نا أَبُو كُرَيْبٍ، نا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: لَقِيَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ فِي حَجَّةٍ حَجَّهَا، فَقَالَ: تَزَوَّجْتَ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَتَزَوَّجْ، قَالَ: وَلَقِيَنِي فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَقَالَ: هَلْ تَزَوَّجْتَ؟ فَقُلْتُ: لا، فَقَالَ: اذْهَبْ فَتَزَوَّجْ، فَإِنَّ خَيْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ كَانَ أَكْثَرَهَا نِسَاءً؛ يَعْنِي: النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
{وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] قال مقاتل: يقول: زوجوا المؤمنين من عبادكم وإمائكم، فإنه أغض للبصر وأحفظ للفرج، فمعنى الصلاح ههنا الإيمان، ثم رجع إلى الأحرار، فقال: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ} [النور: 32] لا سعة لهم للتزوج، {يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32] وعدهم أن يوسع عليهم عند التزوج، قال الزجاج: حث الله على النكاح، وأعلم أنه سبب لنفي الفقر.
وقال قتادة: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب كان يقول: ما رأيت مثل رجل لم يلتمس الغنى في الباءة، والله يقول: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32] .
{وَاللَّهُ وَاسِعٌ} [النور: 32] لخلقه، {عَلِيمٌ} [النور: 32] بهم.
قوله: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا} [النور: 33] أي: وليطلب العفة عن الزنا والحرام من لا يجد ما ينكح به من صداق ونفقة، {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33] يوسع عليهم من رزقه، {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} [النور: 33] يطلبون المكاتبة، {مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور: 33] من العبيد والإماء، يقال: كاتب الرجل عبده وأمته مكاتبة وكتابا فهو مكاتب، والعبد مكاتب،(3/318)
وهو أن يقول: كاتبت على أن تعطيني كذا وكذا في نجوم معلومة، فإذا أدى ذلك فالعبد حر، ولا بد من التنجيم، وأقله نجمان وصاعدا، ولا يصح جمعه، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه يصح والآية عليه، لأن أصل الكتاب من الكتب وهو الضم والجمع، وأقل ما يقع عليه الضم والجمع نجمان، وهو أن العبد يجمع نجوم المال إلى مولاه، ولا يجوز أن يكاتب عبدا غير بالغ ولا عاقل لقوله: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} [النور: 33] ولا يصح الطلب من الأطفال والمجانين، وعند أبي حنيفة: إذا كان العبد مراهقا يجوز أن يكاتب، والآية حجة عليه.
وقوله: {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33] أمر ندب واستحباب في قول الجمهور، وقال قوم: إنه أمر إيجاب.
وهو قول عمرو بن دينار، وعطاء، ورواية عطية عن ابن عباس.
وقوله: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] أكثر المفسرين قالوا: يعني المال.
وهو قول مجاهد، وعطاء، والضحاك، وطاوس، والمقاتلين.
وقال الحسن: إن كان عنده مال وكاتبه، وإلا فلا تعلق عليه صحيفة يغدو بها على الناس ويروح فيسألهم.
وقال عبد لسلمان: كاتبني.
فقال: مال؟ قال: لا.
قال: أفتطعمني أوساخ الناس: فأبى عليه، وكان قتادة يكره أن يكاتب العبد لا يكاتبه إلا ليسأل الناس.
وقال ابن عباس في رواية عطاء في قوله: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] قوة على الكسب، وأداء المال.
هو قول ابن عمرو، وابن زيد، واختيار مالك والشافعي والفراء والزجاج.
قال الفراء: يقول إن رجوتم عندهم وفاء وتأدية للمال.
وقال الزجاج: إن علمتم أنهم يكسبون ما يؤدونه.
وهذا القول أصح لأنه لو أريد بالخير المال لقيل: إن علمتم لهم خيرا، فلما قال عليهم كان الأظهر الاكتساب والوفاء وأداء الأمانة.
وقوله: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] يقول: حطوا عنهم من نجوم الكتابة شيئا.
قال مجاهد: ربع المال.
وقال الآخرون: لا يتقدر بشيء يحط عنه ما أحب، أو يرد عليه شيئا مما يأتيه به، أو يعطيه مما في يده شيئا يستعين به على أداء المال.
وقال عطاء، عن ابن عباس: يريد سهم الرقاب يعطى منه المكاتبون.
وقوله: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} [النور: 33] يعني: إماءكم وولائدكم على الزنا، نزلت في عبد الله بن أبي كان يكره جواري له على الكسب بالزنا، وقوله: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33] قال ابن عباس: تعففا وتزويجا، وإنما شرط إرادة التحسن لأن الإكراه لا يكون إلا عند إرادة التحصن، فإن لم ترد بغت بالطبع.
وقوله: {لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النور: 33] أي: من كسبهن وبيع أولادهن {وَمَنْ يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 33] يعني للمكرهات.
{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} [النور: 34] يعني: ما ذكر في هذه ال { [من الحلال والحرام،] وَمَثَلا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} [سورة النور: 34] أي: شبها من حالهم بحالكم أيها المكذبون، وهذا تخويف لهم أن يلحقهم ما لحق من قبلهم من المكذبين، {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [النور: 34] نهيا للذين يتقون الشرك والكبائر.
{اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ(3/319)
دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35] قوله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور: 35] معنى النور في اللغة الضياء، وهو الذي يبين الأشياء ويري الأبصار حقيقة ما تراه، وورد النور في صفة الله تعالى لأنه هو الذي يهدي المؤمنين ويبين لهم ما يهتدون به من الضلالة، قال ابن قتيبة: أي بنوره يهتدي من في السموات والأرض.
وهذا معنى قول ابن عباس، والمفسرين: هادي أهل السموات والأرض.
وقوله: {مَثَلُ نُورِهِ} [النور: 35] قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: مثل نوره الذي أعطى المؤمن.
وقال السدي: مثل نوره في قلب المؤمن.
وكذا هو في قراءة ابن مسعود، وكان أبي يقرأ مثل نور المؤمن قال: وهو عبد قد جعل الإيمان والقرآن في صدره.
{كَمِشْكَاةٍ} [النور: 35] وهي كوة غير نافذة في قول الجميع، {فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35] يعني السراج، {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} [النور: 35] يعني القنديل، قال الزجاج: النور في الزجاج وضوء النار أبين منه في كل شيء يزيد في الزجاج.
ثم وصف الزجاجة، فقال: {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النور: 35] منسوب إلى أنه كالدر في صفائه وحسنه، وقرأ أبو عمرو مك { [الدال مهموزة، وهو فعيل من الدرء بمعنى الدفع، والكوكب إذا دفع ورمي من السماء لرجم الشيطان يضاعف ضوءه، قال أبو عمرو لم أسمع أعرابيا يقول إلا: كأنه كوكب دريء بكسر الدال، أخذوه من درأت النجوم تدرأ إذا اندفعت.
وقرأ حمزة بضم الدال مهموزا، وأنكره الفراء والزجاج وأبو العباس، قالوا: هو غلط لأنه ليس في الكلام فعيل.
قال الزجاج، والنحويون أجمعون: لا يعرفون الوجه في هذا لأنه ليس في كلام العرب شيء على هذا الوزن.
قوله: توقد مفتوحة التاء والدال قراءة أبي عمرو وهي البينة، لأن المصباح هو الذي توقد، وقرئ] يُوقَدُ} [سورة النور: 35] بضم الياء والدال أي المصباح، وقرئ توقد أي الزجاج، والمعنى: على مصباح الزجاجة، ثم حذف المضاف.
وقوله: {مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} [النور: 35] أي: من زيت شجرة مباركة بحذف المضاف، يدلك على ذلك قوله: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} [النور: 35] وأراد بالشجرة المباركة شجرة الزيتون، وهي كثيرة البركة، وفيها أنواع المنافع لأن الزيت يسرج به، وهو إدام ودهان ودباغ، ويوقد بحطب الزيتون، وتفله ورماده يغسل به الإبريسم، ولا يحتاج في استخراج دهنه إلى عصار.
663 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا الشَّيْبَانِيِّ، أنا بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَحْمُودٍ، أنا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْحُلْوَانِيُّ، نا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أنا عَبْدُ(3/320)
الرَّزَّاقِ، أنا مَعْمَرٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «ائْتَدِمُوا بِالزَّيْتِ، وَادَّهِنُوا بِهِ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ» ثُمَّ فَسَّرَهَا؛ فَقَالَ {زَيْتُونَةٍ} وَخَصَّهَا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الأَشْجَارِ؛ لأَنَّ دُهْنَهَا أَصْفَى وَأَضْوَأُ
وقوله: {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [النور: 35] أي: لا يفيء عليها ظل شرق ولا غرب، هي ضاحية للشمس لا يظلها جبل ولا شجر ولا كهف، وزيتها يكون أصفى، وهذا قول ابن عباس في رواية عكرمة، والكلبي.
ونحوه قال قتادة، والسدي، والأكثرون.
واختيار الفراء والزجاج، قال الفراء: الشرقية التي تأخذها الشمس إذا أشرقت ولا تصيبها إذا غربت لأن لها سترا، والغربية التي تصيبها الشمس بالعشي ولا تصيبها بالغداة.
وقوله: {يَكَادُ زَيْتُهَا} [النور: 35] زيت الزيتون، يعني: دهنها يكاد يضيء المكان من صفائه من غير أن يصيبه النار بأن يوقد به، وهو قوله: {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور: 35] قال المفسرون: هذا مثل للمؤمن، فالمشكاة قلبه، والمصباح هو الإيمان والقرآن، والزجاج صدره.
ومعنى قوله: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور: 35] : يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم ازداد هدى على هدى، قوله: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور: 35] قال مجاهد: النار على الزيت.
وقال الكلبي: المصباح نور والزجاجة نور وهو مثل لإيمان المؤمن وعمله.
وقال السدي: نور الإيمان ونور القرآن.
وقوله: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور: 35] قال ابن عباس: لدينه الإسلام، وإن شئت قلت للقرآن.
{وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} [النور: 35] يبين الله الأشياء للناس تقريبا إلى الأفهام وتسهيلا لسبل الإدراك، {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35] عالم.
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ {36} رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ {37} لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ {38} } [النور: 36-38] قوله: {فِي بُيُوتٍ} [النور: 36] يعني المساجد، {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36] أمر الله أن تبنى، والمراد برفعها بناؤها، كقوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} [البقرة: 127] وقال الحسن: ترفع تعظم.
والمعنى: لا يتكلم فيها بالخنا.
{وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] قال مقاتل، وابن عباس: يوحد الله فيها.
{يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا} [النور: 36] يصلي لله في قلب البيوت، يعني: الصلوات المفروضة.
{بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور: 36] بالبكر والعشايا، وقرأ ابن عامر يسبح بفتح الباء، أي: يصلى لله فيها.
ثم فسر من يصلي، فقال: {رِجَالٌ} [النور: 37] وكأنه قيل: من يسبح؟ فقيل: رجال.
{لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ} [النور: 37] لا تشغلهم تجارة، {وَلا بَيْعٌ} [النور: 37] قال الفراء: التجارة لأهل الجلب، والبيع ما باعه الرجل على يديه.
وخص قوم التجارة ههنا بالشراء لذكر البيع بعدها.
{عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37] عن حضور المساجد لإقامة الصلوات، قال الثوري: كانوا يشترون ويبيعون ولا يدعون الصلوات في الجماعات في المساجد.
{وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور: 37] أدائها لوقتها واتمامها، وإنما ذكر إقامة الصلاة بعد قوله: {عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37] والمراد به الصلاة(3/321)
المفروضة بيانا أنهم يؤدونها في وقتها، لأن من أخر الصلاة عن وقتها لم يكن من مقيمي الصلاة.
وقوله: {وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور: 37] قال ابن عباس: إذا حضر وقت الزكاة لم يحبسوها عن وقتها.
{يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ} [النور: 37] بين الطمع في النجاة والخوف من الهلاك، {وَالأَبْصَارُ} [النور: 37] تتقلب من أين يؤتون كتبهم؟ أمن قبل الأيمان أم من قبل الشمائل؟ قوله: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ} [النور: 38] أي: يسبحون الله ليجزيهم، {أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [النور: 38] أي: ليجزيهم بحسناتهم، ولهم مساوئ من الأعمال لا يجزيهم بها، {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 38] ما لم يستحقوه بأعمالهم، {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور: 38] مفسر فيما تقدم.
ثم ذكر الكفار وضرب المثل لأعمالهم، فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ {39} أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ {40} } [النور: 39-40] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور: 39] السراب الذي يجري على وجه الأرض كأنه الماء ويكون نصف النهار، والقيعة جمع قاع نحو جار وجيرة، وهو ما انبسط من الأرض ويكون فيه السراب، وقوله: {الظَّمْآنُ مَاءً} [النور: 39] يعني: الشديد العطش، يقال: ظمأ يظمأ ظمأ فهو ظمآن.
{حَتَّى إِذَا جَاءَهُ} [النور: 39] جاء إلى الشراب وإلى موضعه رأى أرضا لا ماء فيها، وهو قوله: {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور: 39] أي: شيئا مما حسب وقدر، قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أعمال الكفار إذا احتاجوا إليها مثل الشراب إذا رآه الرجل وقد احتاج إلى الماء، فأتاه فلم يجده شيئا، فذلك مثل عمل الكافر، يرى أن له ثوابا وليس له ثواب.
قال ابن قتيبة: الكافر يحسب ما قدم من عمله نافعه كما يحسب العطشان الشراب من البعد ماء يرويه، حتى إذا جاءه، أي مات، لم يجد عمله شيئا لأن الله قد أبطله بالكفر ومحقه.
وقوله: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} [النور: 39] قال الفراء: وجد الله عند عمله، يعني قدم على الله.
{فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور: 39] جازاه بعمله، وهذا في الظاهر خبر عن الظمآن، والمراد به الخبر عن الكفار، ولكن لما ضرب مثلا للكفار جعل الخبر عنه كالخبر عنهم، وقوله: {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39] مفسر في { [البقرة.
قوله:] أَوْ كَظُلُمَاتٍ} [سورة النور: 40] قال الزجاج: أعلم الله أن أعمال الكافر إن مثلت بما يوجد فمثلها مثل الشراب، وإن مثلت بما يرى فهي كهذه الظلمات التي وصف، وهذا قول عامة المفسرين أن التمثيل بالظلمات وقع لأعمال الكافر.
وقوله: {فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} [النور: 40] اللجي العظيم اللجة، ومعناه كثرة الماء، وقال ابن عباس، والمفسرون: هو العميق الذي يبعد عمقه.
{يَغْشَاهُ مَوْجٌ} [النور: 40] أي: يعلو ذلك البحر اللجي موج، {مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ} [النور: 40] يعني: موجا من فوق الموج، {مِنْ فَوْقِهِ} [النور: 40] من فوق الموج، {سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} [النور: 40] يعني: ظلمة البحر، وظلمة الموج، وظلمة الموج، وفوق الموج ظلمة السحاب، ومن قرأ {ظُلُمَاتٌ} [النور: 40] بالكسر والتنوين جعلها بدلا من الظلمات الأولى، ومن أضاف السحاب إلى الظلمات فارتفعت وقت تراكمها، كما تقول: سحاب رحمة، وسحاب مطر إذا ارتفع وظهر في الوقت الذي يكون فيه المطر والرحمة.
والمعنى أن الكافر يعمل في حيرة لا يهتدي لرشده، فهو في جهله وحيرته كمن هو في(3/322)
هذه الظلمات، لأنه من عمله وكلامه مقلب في ظلمات وجهالة.
وقوله: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] تأكيد لشدة هذه الظلمات، قال الحسن: لم يرها ولم يقارب الرؤية.
قال الفراء: لأن أقل من الظلمات التي وصفها لا يرى فيه الناظر كفه.
ومعنى {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] : نفي المقاربة من الرؤية.
وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40] قال ابن عباس، والسدي، ومقاتل: من لم يجعل له دينا وإيمانا وهدى فما له من دين.
قال الزجاج: من لم يهده الله للإسلام لم يهتد.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ {41} وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ {42} } [النور: 41-42] وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور: 41] تقدم تفسيره، {وَالطَّيْرُ} [النور: 41] أي: ويسبح له الطير، {صَافَّاتٍ} [النور: 41] باسطات أجنحتها في الهواء، وخص الطير بالذكر من جملة الحيوان لأنها تكون بين السماء والأرض، فهي خارجة عن جملة من في السموات والأرض.
وقوله: كل أي: من الجملة التي ذكرها، {قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41] قال مجاهد: الصلاة للإنسان والتسبيح لما سوى ذلك من خلقه.
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور: 41] لا يخفى عليه طاعتهم وصلاتهم وتسبيحهم.
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور: 42] قال الكلبي: يعني خزائن المطر والرزق والنبات لا يملكها أحد غيره.
{وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [النور: 42] مرجع العباد بعد الموت.
قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ(3/323)
بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ {43} يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ {44} } [النور: 43-44] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا} [النور: 43] يسوقه سوقا رقيقا، {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} [النور: 43] يضم بعضه إلى بعض، أي: يجعل القطع المتفرقة منه قطعة واحدة، {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} [النور: 43] يجعل بعضه يركب بعضا، {فَتَرَى الْوَدْقَ} [النور: 43] القطر والمطر، قال الليث: الودق المطر كله شديده وهينه.
{يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [النور: 43] جمع خلل وهو مخارج القطر، وقوله: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} [النور: 43] أي: من جبال في السماء، وتلك الجبال من برد، قال ابن عباس: أخبر الله أن في السماء جبالا من برد.
ومفعول الإنزال محذوف، والتقدير وينزل من السماء من جبال من برد فيها بردا، فاستغنى عن ذكر المفعول للدلالة عليه، ومن الأولى لابتداء الغاية، لأن ابتداء الإنزال من السماء، والثانية للتبعيض، لأن ما ينزله الله بعض تلك الجبال التي في السماء، والثالثة لتبيين الجنس، لأن جنس تلك الجبال التي في السماء جنس البرد، {فَيُصِيبُ بِهِ} [النور: 43] بالبرد، {مَنْ يَشَاءُ} [النور: 43] فيضره في زرعه وثمرته، {وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} [النور: 43] فلا يضره في زرعه وثمرته، {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} [النور: 43] يقرب ضوء برق السحاب من أن يذهب بالبصر ويخطفه لشدة لمعانه كما قال: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة: 20] والسنا: الضوء، مثل سنا النار، وسنا البدر، وسنا البرق.
وقال السدي: يكاد ضوء البرق يلتمع البصر فيذهب به.
قوله: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [النور: 44] يعني: يأتي بالليل ويذهب بالنهار ويأتي بالنهار ويذهب بالليل.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} [النور: 44] التقليب، {لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ} [النور: 44] لدلالة لأهل العقول والبصائر على قدرة الله وتوحيده.
664 - أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو الْمُزَكِّي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مَكِّيٍّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، نا الحُمَيْدِيُّ، سُفْيَانُ الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ اللَّهُ: «يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ؛ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِيَ الأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ»
{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {45} لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {46} } [النور: 45-46] قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ} [النور: 45] يعني: كل حيوان يشاهد في الدنيا ولا يدخل الجن والملائكة، لأنا لا نشاهدهم.
وقوله: {مِنْ مَاءٍ} [النور: 45] أي: من نطفة، {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} [النور: 45] كالحيات والهوام والحيتان، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ} [النور: 45] كالإنسان والطير، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} [النور: 45] كالبهائم والأنعام، قال المبرد: قوله: كل دابة للناس وغيرهم، إذا اختلط النوعان حمل الكلام على الأغلب، لذلك قال: من لغير ما يعقل.
ثم ذكر قدرته على خلق ما يريد، فقال: {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {45} لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} [النور: 45-46] يعني، القرآن، أي هو المبين للهدى والأحكام، {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النور: 46] يعني: الإسلام الذي هو دين الله وطريقه إلى رضاه وجنته.
ثم ذكر أهل النفاق وشكهم في الدين، فقال: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ {47} وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ {48} وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ {49} أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {50} إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ(3/324)
الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {51} وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ {52} } [النور: 47-52] {وَيَقُولُونَ} [النور: 47] يعني المنافقين، {آمَنَّا بِاللَّهِ} [النور: 47] صدقنا بتوحيد الله، {وَبِالرَّسُولِ} [النور: 47] محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَأَطَعْنَا} [النور: 47] هما فيما حكما، {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ} [النور: 47] يعرض عن طاعتهما طائفة، {مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [النور: 47] من بعد قولهم آمنا، {وَمَا أُولَئِكَ} [النور: 47] الذين يعرضون عن حكم الله ورسوله، {بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور: 47] .
{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ} [النور: 48] إلى كتاب الله، {وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} [النور: 48] الرسول فيما اختصموا فيه، {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور: 48] عما يدعوا إليه.
{وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور: 49] مسرعين طائعين، قال الزجاج: الإذعان الإسراع مع الطاعة.
يقال: أذعن لي بحق، أي: طاوعني فيما كنت ألتمس منه وصار يسرع إليه.
أخبر الله أن المنافقين يعرضون عن حكم الرسول لعلمهم بأنه يحكم بالحق، فإذا كان لهم على غيرهم أسرعوا إلى حكمه لثقتهم بأنه كما يحكم عليهم بالحق يحكم لهم أيضا.
ثم أخبر بما في قلوبهم من الشك، فقال: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا} [النور: 50] شكوا في القرآن، وهذا استفهام ذم وتوبيخ، {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور: 50] الحيف الميل في الحكم، فيقال: حاف في قضيته، أي جار فيما حكم.
{بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور: 50] أي: لا يظلم الله ورسوله في الحكم بل هم الذين يظلمون أنفسهم بالكفر والإعراض عن حكم الرسول.
ثم تعب الصادقين من إيمانهم، فقال: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51] قال مقاتل، وابن عباس: يقولون سمعنا قول النبي، وأطعنا أمره، وإن كان ذلك فيما يكرهونه ويضر بهم.
ثم أثنى على من أطاعهما، فقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [النور: 52] قال ابن عباس: يريد فيما ساءه وسره.
{وَيَخْشَ اللَّهَ} [النور: 52] في ذنوبه التي عملها، {وَيَتَّقْهِ} [النور: 52] فيما بعد لم يعصه، وقراءة العامة يتقيه موصولة بياء هو الوجه، لأن ما قبل الهاء متحرك وحكمها إذا تحرك ما قبلها أن يتبعها الياء في الوصل، وروى قالون بكسر الهاء ولا يبلغ بها الياء لأن حركة ما قبل الهاء ليست تلزم ألا ترى أن الفعل إذا رفع. . . اختير حذف الياء بعد الهاء مثل عليه، وقرأ أبو عمرو {وَيَتَّقْهِ} [النور: 52] جزما، وذلك أن ما يلحق هذه الهاء من الواو والياء زائدا، فرد إلى الأصل وحذف الزيادة، وقرأ حفص ساكنة القاف مك { [الهاء، قال ابن الأنباري: وهو على لغة من يقول: لم أزيدا ولم أشتر طعاما ما. . . يسقطون الياء للجزم، ثم يسكنون الحرف الذي قبلها، ومنه قول الشاعر:
قال سليمى اشتر لنا دقيقا(3/325)
وقوله:] فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [سورة النور: 52] يعني: المطيعين لله ورسوله، الخائفين المتقين الذين قالوا ما طالبوا من رضا الله، وقيل جنته، ولما بين الله كراهتهم لحكمه، قالوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: والله لو أمرتنا بالجهاد والخروج من ديارنا وأموالنا لخرجنا.
فقال الله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ {53} قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ {54} } [النور: 53-54] {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} [النور: 53] إلى الجهاد، {قُلْ لا تُقْسِمُوا} [النور: 53] لا تحلفوا، وتم الكلام، ثم قال: {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} [النور: 53] أي: طاعة حسنة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنيه خالصة، قال مقاتل بن سليمان: معناه ليكن منكم طاعة.
وقال الزجاج: تأويله طاعة معروفة أحسن من قسمكم بما لا تصدقون فيه، فحذف خبر الابتداء للعلم به.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [النور: 53] أي: من طاعتكم بالقول ومخالفتكم بالفعل.
ثم أمرهم بالطاعة، فقال: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النور: 54] ثم خاطبهم، فقال: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} [النور: 54] أي تتولوا، فحذف إحدى التائين، أي قال: تعرضوا عن طاعتهما.
{فَإِنَّمَا عَلَيْهِ} [النور: 54] على الرسول، {مَا حُمِّلَ} [النور: 54] من التبليغ وأداء الرسالة، {وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} [النور: 54] من الطاعة، {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54] تصيبوا الحق، {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54] ليس عليه إلا أن يبلغ ويبين لكم.
وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55] {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور: 55] قال أبي بن كعب: لما قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه المدينة آوتهم الأنصار ومنهم العرب عن قوس واحده، وكانوا لا يبيتون إلا مع السلاح، ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا: أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله، فنزلت هذه الآية.
وقوله: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} [النور: 55] أي: ليجعلنهم يخلفون من قبلهم، والمعنى: ليورثنهم أرض الكفار من العرب والعجم فيجعلهم ملوكها وساستها وسكانها.
وقوله: {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 55] قال مقاتل: يعني بني إسرائيل إذا أهلت الجبابرة بمصر(3/326)
وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم.
وروى أبو بكر بن عياش استخلف بضم التاء وكسر اللام، ووجهه أنه أريد به ما أريد باستخلف، وإذا كان المعنى كذلك، فالوجه قراءة العامة.
قوله: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور: 55] قال ابن عباس: يوسع لهم في البلاد حتى يملكوها، ويظهر دينهم على جميع الأديان.
{وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: 55] قال مقاتل: يفعل بهم ذلك وبمن كان بعدهم من هذه الأمة مكن لهم الأرض، وأبدلهم أمنا من بعد خوف، وبسط لهم في الأرض، فقد أنجز الله موعده لهم، وقوله: {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55] استئناف كلام في الثناء عليهم، {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ} [النور: 55] يعني بهذه النعم، وليس يعني الكفر بالله، والمعنى: من جحد حق هذه النعم {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55] قال ابن عباس: العاصون لله.
قال المفسرون: وأول من كفر بهذه النعم وجحد حقها الذين قتلوا عثمان رضي الله عنه، فلما قتلوه غير الله ما بهم، وأدخل عليهم الخوف الذي رفعه عنهم حتى صاروا يقتتلون بعد أن كانوا إخوانا متحابين.
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ {56} لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ {57} } [النور: 56-57] قوله: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النور: 57] يعني: أهل مكة، {مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} [النور: 57] يعجزوننا ويفوتونا هربا، أي أن قدرة الله محيطة بهم، ومن قرأ بالياء ففاعل الحسبان على هذه القراءة الذين كفروا، وكأنه قيل: وتحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين.
ثم أوعدهم، فقال: {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [النور: 57] .
قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {58} وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {59} وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {60} } [النور: 58-60] {(3/327)
يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ} [النور: 58] أي: في الدخول عليكم، {الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور: 58] يعني: العبيد والإماء، قال عطاء: ذلك على كل كبير وصغير.
{وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} [النور: 58] من أحراركم من الرجال والنساء، {ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور: 58] يعني: ثلاثة أوقات، ثم فسرها، فقال: {مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ} [النور: 58] وذلك أن الإنسان ربما يبيت عريانا، أو على حال لا يحب أن يراه غيره في تلك الحال، {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ} [النور: 58] يريد المقيل، {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} [النور: 58] حين يأوي الرجل إلى امرأته ويخلو بها، أمر الله بالاستئذان في الأوقات التي يتخلى فيها الناس ويتكشفون.
وفصلها ثم أجملها بعد التفصيل، فقال: {ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} [النور: 58] أي: هذه الأوقات ثلاث عورات لكم، وسمى هذه الأوقات عورات لأن الإنسان يضع فيها ثيابه فتبدوا عوراته.
ومن قرأ ثلاث عورات بالنصب جعله بدلا من قوله: {ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور: 58] ، قال السدي: كان أناس من الصحابة يعجبهم أن يوافقوا نساءهم في هذه الساعات ليغتسلوا، ثم يخرجون إلى الصلاة، فأخبرهم الله أن يأمروا الغلمان والمملوكين أن يستأذنوا في هذه الساعات الثلاثة.
قال موسى بن أبي عائشة: قلت للشعبي في هذه الآية: أمنسوخة هي؟ قال: لا.
قلت: قد تركها الناس؟ قال: الله المستعان.
وقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ} [النور: 58] يعني: المؤمنين الأحرار، {وَلا عَلَيْهِمْ} [النور: 58] يعني: الخدم والغلمان، جُنَاح حرج، {بَعْدَهُنَّ} [النور: 58] بعد مضي هذه الأوقات لا حرج في أن لا تستأذنوا في غير هذه الأوقات، {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} [النور: 58] يريد أنهم خدمكم، فلا بأس أن يدخلوا في غير هذه الأوقات بغير إذن، قال مقاتل: ينقلبون فيكم ليلا ونهارا.
{بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النور: 58] أن يطوف بعضكم، وهو المماليك، على بعض، وهم الموالي.
قوله: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} [النور: 59] يعني: من الأحرار، {فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59] أي: في جميع الأوقات في الدخول عليكم، فالبالغ يستأذن في كل الأوقات، والطفل والمملوك يستأذنان في الثلاث عورات، وقوله: {كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 59] يعني: الأحرار الكبار الذين أمروا بالاستئذان على كل حال، قال سعيد بن المسيب: ليستأذن الرجل على أمه، فإنما أنزلت هذه الآية في ذلك.
قوله: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} [النور: 60] يعني اللاتي قعدن عن الحيض والولد من الكبر، قال الزجاج: القاعدة التي قعدت عن التزوج، وهذا معنى قوله: {اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا} [النور: 60] قال السدي: هن اللاتي تركن الأزواج وكبرن.
{فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} [النور: 60] يعني: الجلباب والرداء والقناع الذي فوق الخمار، والمراد بالثياب ههنا ما ذكر لا كل الثياب، وقوله: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور: 60] التبرج أن تظهر المرأة محاسنها من وجهها وجسدها من غير أن يدن بوضع الجلباب أن ترى زينتهن.
قال مقاتل: لها أن تضع الجلباب، ترى بذلك أن تظهر قلائدها وقرطها وما عليها من الزينة.
ثم قال: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ} [النور: 60] فلا يضعن الجلباب، {خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ} [النور: 60] لقولكم، عَلِيمٌ بما في قلوبهم.(3/328)
{لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [النور: 61] قوله: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61] قال سعيد بن المسيب: إن المسلمين كانوا إذا غزوا وخلفوا زمناهم، وكانوا يدفعون إليهم مفاتيحهم أبوابهم، ويقولون: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا.
وكانوا يتحرجون من ذلك، وقالوا: لا ندخلها وهم غيب.
فنزلت هذه الآية رخصة لهم، ومعنى الآية: نفي الحرج عن الزمنى في أكلهم من بيت أقاربهم، أو بيت من يدفع إليهم المفتاح إذا خرج للغزو، وقوله: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور: 61] أي: ليس عليكم حرج أن تأكلوا من أموال عيالكم وأزواجكم، وبيت المرأة كبيت الرجل، وقال ابن قتيبة: أراد أن تأكلوا من بيوت أولادكم، فنسب بيوت الأولاد إلى الآباء، لأن الأولاد كسبهم وأموالهم كأموالهم.
ثم ذكر بيوت القرابات بعد الأولاد، فقال: {أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ} [النور: 61] وهذه الرخصة في أكل مال القرابات، وهم لا يعلمون ذلك كرخصة لمن دخل حائطا وهو جائع أن يصيب من ثمره، أو مر في سفره بغنم وهو عطشان أن يشرب من رسلها توسعة منه ولطفا بعباده ورغبة عن دناءة الأخلاق وضيق النظر.
وقوله: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} [النور: 61] يعني بيوت عبيدكم ومما يملكون، وذلك أن السيد يملك منزل عبده، والمفتاح معناها الخزائن، كقوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} [الأنعام: 59] ويجوز(3/329)
أن تكون التي يفتح بها، وهذا قول عطاء، عن ابن عباس.
وقال آخرون: أمضى.
قوله: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} [النور: 61] ما خزنتموه لغيركم، قل ابن عباس: يعني بذلك وكيل الرجل وقيمه في ضيقته لا بأس عليه أن يأكل من ثمر حائطه، ويشرب من لبن ماشيته.
قال عكرمة: إذا ملك الرجل المفتاح فهو خازن، فلا بأس أن يطعم الشيء اليسير.
وقال السدي: الرجل يولى طعام غيره يقوم عليه فلا بأس أن يأكل منه.
وقوله: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61] قال المقاتلان: انطلق رجل غازيا يدعى الحارث بن عمرو، واستخلف مالك بن زيد في أهله وخزانته، فلم يأكل من ماله شيئا حتى صار مجهودا، فأنزل الله {أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61] يعني: الحارث بن عمرو، وكان الحسن وقتادة يريد دخول الرجل بيت صديقه، والتحريم بطعامه من غير استئذان منه في الأكل بهذه الآية، والمعنى: ليس عليكم جناح أن تأكلوا من منازل هؤلاء إذا دخلتموها وإن لم يحضروا من غير أن تتزودوا وتعملوا.
وقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} [النور: 61] قال أكثر المفسرين: نزلت في بني ليث بن بكر، وهم من كنانة، كان الرجل منهم لا يأكل، فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئا، وربما كانت معه الإبل فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه، فأعلم الله أن الرجل منهم إن أكل وحده فلا إثم عليه، ومعنى أشتاتا: متفرقين جمع شتت.
وقوله: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61] هذا في دخول الرجل بيت نفسه، والسلام على أهله ومن في بيته، قال قتادة: إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك فهم أحق من سلمت عليه، وإذا دخلت بيتا لا أحد فيه فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
حدثنا أن الملائكة ترد عليه، قال ابن عباس: هو المسجد إذا دخلته فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
665 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُؤَمَّلِ، أنا الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أنا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتَكُمْ فَسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا، وَإِذَا طَعِمَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا مَا فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا سَلَّمَ أَحَدُكُمْ لَمْ يَدْخُلْ بَيْتَهُ، وَإِذَا ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَى طَعَامِهِ؛ قَالَ: لا مَبِيتَ لَكُمْ وَلا عَشَاءَ، وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ حِينَ يَدْخُلُ بَيْتَهُ، وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَى طَعَامِهِ؛ قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْعَشَاءَ وَالْمَبِيتَ
وقوله: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النور: 61] قال ابن عباس: أي: هذه تحية حياكم الله بها.
وقال الفراء: أي أن الله يأمركم بما تفعلونه طاعة له.
وقوله: {مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61] قال ابن عباس: حسنة جميلة.
وقال الزجاج: أعلم الله(3/330)
أن السلام مباركا طيب لما فيه من الأجر والثواب.
وقوله: {كَذَلِكَ} [النور: 61] أي: كبيانه في هذه الآية، {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ} [النور: 61] يفصل الله لكم معالم دينكم، {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [النور: 61] لكي تفهموا عن الله أمره ونهيه.
وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 62] {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} [النور: 62] أي: على أمر طاعة يجتمعون عليها، نحو الجمعة، والفطر، والجهاد، وأشباه ذلك.
{لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62] قال المفسرون: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا صعد المنبر يوم الجمعة وأراد الرجل أن يخرج من المسجد لحاجة أو عذر لم يخرج حتى يقوم بحيال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث يراه، فيعرف أنه إنما قام ليستأذن، فيأذن لمن شاء منهم، قال مجاهد: وإذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيده.
وقال الزجاج: أعلم الله أن المؤمنين إذا كانوا مع نبيه فيما يحتاج فيه إلى الجماعة لم يذهبوا حتى يستأذنوه، وكذلك ينبغي أن يكونوا مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه في جمع من جموعهم إلا بإذنه، وللإمام أن يأذنه وله أن لا يأذن على ما ترى، لقوله عز وجل: {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ} [النور: 62] .
أي: واستغفر لهم لخروجهم عن الجماعة إن رأيت لهم عذرا.
{لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] قوله: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] علمهم الله فضل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سائر البرية في المخاطبة، وأمرهم أن يفخموه ويشرفوه ولا يقولوا له عند دعائه: يا محمد، يا ابن عبد الله، كما يدعو بعضهم بعضا، قولوا: يا رسول الله، يا نبي الله، في لين وتواضع وخفض صوت، وقوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} [النور: 63] التسلل الخروج في خفية، يقال: تسلل فلان من بين أصحابه إذا خرج من جملتهم، واللواذ أن يستتر بشيء، قال ابن عباس: هو أن يلوذ بغيره فيهرب، وذلك أن المنافقين كان يثقل عليهم خطبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الجمعة، فيلوذون ببعض أصحابه فيخرجون من المسجد من غير استئذان.
ومعنى {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ} [النور: 63] التهديد بالمجازاة، ثم حذرهم بالفتنة والعذاب، فقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] أي يعرضون عن أمره، ودخلت عن لتضمن المخالفة معنى الإعراض، {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور: 63] قال(3/331)
ابن عباس: ضلالة.
يعني الكفر، وقال مجاهد: بلاء في الدنيا.
{أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] في الآخرة.
ثم عظم نفسه، فقال: {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 64] {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور: 64] عبيدا وملكا وخلقا، {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} [النور: 64] من الإيمان والنفاق، {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ} [النور: 64] يعني: يوم البعث يعلمه الله متى هو، {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} [النور: 64] من الخير والشر، {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ} [النور: 64] من أعمالهم وغيرها، {عَلِيمٌ} [النور: 64] .(3/332)
سورة الفرقان
مكية وآياتها سبع وسبعون.
666 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْخَفَّافِ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ الأَسَدِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامٌ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْفُرْقَانِ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وَدَخَلَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ»
{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا {1} الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا {2} } [الفرقان: 1-2] بسم الله الرحمن الرحيم {تَبَارَكَ} [الفرقان: 1] قال ابن عباس: تعالى عما يقول القائلون فيه بسوء.
وقد تقدم تفسيره، {الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} [الفرقان: 1] يعني القرآن الذي فرق الله به بين الحق والباطل، {عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1] محمد، {لِيَكُونَ} [الفرقان: 1] محمد بالقرآن، {لِلْعَالَمِينَ} [الفرقان: 1] يعني الجن والإنس، {نَذِيرًا} [الفرقان: 1] مخوفا من عذاب الله.
ثم عظم نفسه، فقال: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} [الفرقان: 2] كما زعمت اليهود والنصارى والمشركون، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الفرقان: 2] يشاركه فيما خلق، {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [الفرقان: 2] مما يطلق في صفته المخلوقة، {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2] هيأه لما يصلح له وسواه، قال المفسرون: قدر له تقديرا من الأجل والرزق، فجرت المقادير على ما خلق.
ثم ذكر ما صنع المشركون، فقال: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا} [الفرقان: 3] {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [الفرقان: 3] يعني: الأصنام اتخذها أهل مكة، {لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الفرقان: 3] أي: وهي مخلوقة، {وَلا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا} [الفرقان: 3] فيدفعونه عن أنفسهم، {وَلا نَفْعًا} [الفرقان: 3] فيجرونه إلى أنفسهم، والمعنى: لا يملكون لأنفسهم دفع ضر ولا جر نفع، لأنها جماد لا قدرة لها.
{وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا} [الفرقان: 3] أن تميت أحدا، {وَلا حَيَاةً} [الفرقان: 3] أن تحيي أحدا، {وَلا(3/333)
نُشُورًا} [الفرقان: 3] ولا بعثا للأموات، أي: فكيف يعبدون من لا يقدر على أن يفعل شيئا من هذا، ويتركون عبادة ربهم الذي يملك ذلك كله.
ثم أخبر عن تكذيبهم بالقرآن، فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا {4} وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا {5} قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا {6} } [الفرقان: 4-6] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا} [الفرقان: 4] ما هذا، {إِلا إِفْكٌ} [الفرقان: 4] كذب، {افْتَرَاهُ} [الفرقان: 4] محمد واختلقه من تلقاء نفسه، {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان: 4] قالوا: أعان محمدا على هذا القرآن عداس مولى حويطب بن عبد العزى، ويسار غلام ابن الحضرمي، وجبر مولى عامر، وكانوا من أهل الكتاب.
قال الله تعالى: {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} [الفرقان: 4] أي: فقد جاءوا شركا وكذبا حين زعموا أن القرآن ليس من الله.
{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الفرقان: 5] أي: ما سطره الأولون من أحاديث المتقدمين، وذلك أن النصر بن الحارث، قال: هذا القرآن أحاديث الأولين مثل حديث أسفنديار ورستم.
{اكْتَتَبَهَا} [الفرقان: 5] انتسخها محمد من عداس وجبر ويسار، ومعنى اكتتب: أمر أن يكتب له، {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ} [الفرقان: 5] تقرأ عليه ليحفظها لا ليكتبها، لأنه لم يك كاتبا، {بُكْرَةً وَأَصِيلا} [الفرقان: 5] غدوة وعشيا، قالوا: هؤلاء الثلاثة يعلمون محمدا طرفي النهار.
قال الله تعالى: {قُلْ} [الفرقان: 6] لهم يا محمد: {أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ} [الفرقان: 6] أنزل القرآن الذي لا يخفى عليه شيء، {فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا} [الفرقان: 6] لأوليائه، {رَحِيمًا} [الفرقان: 6] بهم.
{وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا {7} أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا {8} انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا {9} تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا {10} بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا {11} إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا {12} وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا {13} لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا {14} } [الفرقان: 7-14] {وَقَالُوا} [الفرقان: 5] يعني المشركين، {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7] أنكروا أن يكون(3/334)
الرسول بشر يأكل الطعام ويمشي في الطريق كما يمشي سائر الناس، يطلب المعيشة، والمعنى أنه ليس يملك ولا ملك، وذلك أن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون، والملوك لا يتسوقون ولا يتبدلون، فعجبوا من ذلك أن يكون مثلهم في الحال لا يمتاز من بينهم بعلو المحل والجلال، والله أعلم حيث يجعل رسالته.
وقوله: {لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} [الفرقان: 7] وذلك أنهم قالوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سل ربك أن ينزل معك ملكا يصدقك بما تقول حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا، ويجعل لك جنانا وكنوزا يغنيك بها عن طلب المعاش.
وهو قوله: {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ} [الفرقان: 8] قال ابن عباس، ومقاتل: أو ينزل إليه مال من السماء.
{أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ} [الفرقان: 8] بستان، {يَأْكُلُ مِنْهَا} [الفرقان: 8] من ثمارها، من قرأ بالنون أراد أنه يكون له بذلك مزية علينا في الفضل بأن نأكل من جنته، {وَقَالَ الظَّالِمُونَ} [الفرقان: 8] المشركون للمؤمنين، {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا} [الفرقان: 8] ما تتبعون إلا مخدوعا مغلوبا على عقله.
{انْظُرْ} [الفرقان: 9] يا محمد، {كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ} [الفرقان: 9] يعني: حين مثلوه بالمسحور وبالمحتاج المتروك والناقص عن القيام بالأمور، {فَضَلُّوا} [الفرقان: 9] بهذا يعني الهدى، {فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا} [الفرقان: 9] لا يجدون إلى الحق طريقا، وقال مقاتل: لا يجدون مخرجا مما قالوا.
يعني أنهم كذبوا فيما زعموا فلزمهم ذلك الكذب، ولم يجدوا منه مخرجا، حجة أو برهان.
ثم أخبر الله تعالى أنه لو شاء لأعطى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الدنيا خيرا مما قالوا، فقال تبارك وتعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} [الفرقان: 10] الذي قالوا أو أفضل من الكنز والبستان الذي ذكروا، وهو قوله: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [الفرقان: 10] يعني: في الدنيا، لأنه قد شاء أن يعطيه إياها في الآخرة، وقوله: {وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} [الفرقان: 10] من قرأ بالجزم كان المعنى: إن شاء يجعل لك قصورا، قال الزجاج: أي سيعطيك الله في الآخرة أكثر مما قالوا.
ثم أخبر عن تكذيبهم بالبعث، وأوعدهم على ذلك بالنار، فقال: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} [الفرقان: 11] نارا تتلظى.
ثم وصف ذلك السعير، فقال: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [الفرقان: 12] قال الكلبي، والسدي، ومقاتل: من مسيرة مائة عام.
{سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا} [الفرقان: 12] أي: صوت تغيظ كالغضبان إذا غلا صدره من الغيظ، وهو الغضب {وَزَفِيرًا} [الفرقان: 12] قال عبيد بن عمير: إن جهنم لتذفر زفرة لا يبقى نبي ولا ملك مقرب إلا خر لوجهه.
{وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا} [الفرقان: 13] من جهنم، {مَكَانًا ضَيِّقًا} [الفرقان: 13] قال المفسرون: يضيق عليهم كما يضيق الزج في الرمح.
وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الآية: «والذي نفسي بيده إنهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط» .
{مُقَرَّنِينَ} [الفرقان: 13] قال مقاتل: موثقين في الحديد، قرنوا مع الشياطين، {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} [الفرقان: 13] دعوا بالويل على أنفسهم والهلاك، كما يقول القائل:(3/335)
واهلاكاه.
667 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَالْعَدْلُ، أنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبُوشَنْجِيُّ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَبْسِيُّ، أنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَوَّلُ مَنْ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْلِيسُ حُلَّةً مِنَ النَّارِ، يَضَعُهَا عَلَى حَاجِبَيْهِ، فَيَسْحَبُهَا مِنْ خَلْفِهِ، وَذُرِّيَّتُهُ مِنْ خَلْفِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: وَاثُبُورَاهُ، وَهُمْ يُنَادُونَ: يَا ثُبُورَهُمْ، حَتَّى يَقِفُوا عَلَى النَّارِ، فَيُنَادِي: يَا ثُبُورَاهُ، وَيُنَادُونَ: يَا ثُبُورَهُمْ، فَيَقُولُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا، وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا "
قال الزجاج: أي هلاككم أكثر من أن تدعوا مرة واحدة.
ثم ذكر ما وعد المؤمنين، فقال: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا {15} لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا {16} } [الفرقان: 15-16] {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ} [الفرقان: 15] يعني: السعير خير، {أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [الفرقان: 15] وهذا على التنبيه على تفاوت ما بين المنزلتين لا على أن في السعير خير، وقوله: {كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا} [الفرقان: 15] أي: ثوابا ومرجعا.
{لَهُمْ فِيهَا} [الفرقان: 16] أي أن في جنة الخلد، {مَا يَشَاءُونَ} [الفرقان: 16] أي: القدر الذي يشاءون، {خَالِدِينَ} [الفرقان: 16] كان ذلك الخلود والدخول، {عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا} [الفرقان: 16] وذلك أن الله وعد المؤمنين الجنة على لسان الرسل، فسألوه ذلك الوعد في الدنيا، فقالوا: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} [آل عمران: 194] وقال القرظي: إن الملائكة تسأل لهم ذلك.
وهو قوله: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ} [غافر: 8] الآية.
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ {17} قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا {18} فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا {19} } [الفرقان: 17-19] {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} [الفرقان: 17] يجمعهم يعني: كفار مكة والمشركين، ومن كان يعبد غير الله، {وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الفرقان: 17] قال مجاهد: يعني عيسى وعزيرا والملائكة.
وقال عكرمة، والضحاك، والكلبي: يعني الأصنام.
ثم يأذن لها في الكلام ويخاطبها، {فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ} [الفرقان: 17] أنتم أمرتموهم بعبادتكم؟ {أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} [الفرقان: 17] أم هم أخطأوا الطريق؟ {قَالُوا سُبْحَانَكَ} [الفرقان: 18] نزهوا الله من أن يكون معه إله، {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [الفرقان: 18] ما كان ينبغي لنا أن نعبد غيرك ونتخذ غيرك وليا ومعبودا، أي: فكيف ندعو إلى عبادتنا إذا كنا نحن لا نعبد غيرك، فذكر(3/336)
من جواب المعبودين ما دل على أنهم لم يأمروهم بعبادتهم.
ثم ذكر سبب تركهم الإيمان بالله بقولهم: {وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ} [الفرقان: 18] قال ابن عباس: أطلت لهم العمر، وأفضلت عليهم، ووسعت لهم في الرزق.
{حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ} [الفرقان: 18] تركوا الموعظة والإيمان بالقرآن، {وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} [الفرقان: 18] فاسدين هالكين، قد غلب عليهم الشقاء والخذلان، يقال: رجل بائر وقوم بور، وهو الفاسد الذي لا خير فيه.
فيقال للكفار حينئذ: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} [الفرقان: 19] أن كذبكم المعبودون بقولهم لكم أنهم آلهة شركاء لله، ومن قرأ بالياء كان المعنى: كذبوهم بقولهم {سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا} [الفرقان: 18] الآية، وقوله: فما يستطيعون صرفا أي: ما يستطيع المعبود صرف العذاب عنكم، ومن قرأ بالتاء فالمعنى: ما تستطيعون أيها المتخذون الشركاء صرفا {وَلا نَصْرًا} [الفرقان: 19] من العذاب لأنفسكم ولا أن تنصروا أنفسكم بمنعها من العذاب، وعلى قراءة العامة: وإلا أن ينصروكم من عذاب الله وبدفعه عنكم، {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ} [الفرقان: 19] يشرك بالله، {نُذِقْهُ} [الفرقان: 19] في الآخرة، {عَذَابًا كَبِيرًا} [الفرقان: 19] شديدا.
ثم رجع إلى مخاطبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعزيه، فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20] {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} [الفرقان: 20] كما تأكل أنت، {وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان: 20] قال الزجاج: هذا احتجاج عليهم في قولهم: ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ فقيل لهم: كذلك كان من خلا من الرسل، فكيف يكون محمد بدعا منهم.
وقوله: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} [الفرقان: 20] بلية أبتلي الشريف بالوضيع والعربي بالمولى، فإذا أراد الشريف أن يسلم ورأى الوضيع قد أسلم قبله، أنف وقال: أسلم بعده فيكون له عليّ السابقة والفضل، فيقيم على كفره، ويمتنع من الإسلام، فذلك افتتان بعضهم ببعض، وهذا قول الكلبي، واخيار الفراء، والزجاج.
وقال مقاتل: هذا في ابتلاء فقراء المؤمنين بالمستهزئين من قريش، كانوا يقولون: انظروا إلى هؤلاء الذين اتبعوا محمدا من موالينا ورذالينا، فقال الله لهؤلاء الفقراء: {أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان: 20] على الأذى والاستهزاء.
{وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20] أن صبرتم فصبروا، فأنزل الله فيهم {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا} [المؤمنون: 111] ، {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20] عمن يجزع وعمن يصبر.
{وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا {21} يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا {22} وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا {23} أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا {24} } [الفرقان: 21-24](3/337)
قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [الفرقان: 21] يخافون البعث، {لَوْلا} [الفرقان: 21] هلا، {أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ} [الفرقان: 21] فكانوا رسلا إلينا، {أَوْ نَرَى رَبَّنَا} [الفرقان: 21] فيخبرنا أنك رسول، قال الله: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} [الفرقان: 21] تكبروا حيث سألوا من الآيات ما لم تسأله آية، {وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان: 21] غلوا في القول غلوا شديدا حين قالوا: نرى ربنا.
وإنما وصفوا بالعتو عند طلب الرؤية لأنهم طلبوها في الدنيا عنادا للحق وإباء على الله ورسوله في طاعتهما، والعتو مجاوزة القدر في الظلم.
ثم أعلم الله أن الموقف الذي يرون فيه الملائكة هو يوم القيامة، وأن الله حرمهم البشرى في ذلك اليوم، فقال: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ} [الفرقان: 22] يعني: يوم القيامة، {لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} [الفرقان: 22] لا بشارة لهم في الجنة والثواب، قال الزجاج: والجرمون في هذا الموضع الذين اجترموا الكفر بالله.
{وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 22] قال عطاء، عن ابن عباس: تقول الملائكة: حراما محرما أن يدخل الجنة إلا من قال لا إله إلا الله.
وقال مقاتل: إذا خرج الكفار من قبورهم قالت لهم الملائكة: حراما محرما عليكم أيها المجرمون أن تكون لكم البشرى كما يبشر المؤمنون.
قوله: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ} [الفرقان: 23] أي: قصدنا وعمدنا، قال ابن عباس: لم يكن الله غائبا عن أعمالهم، ولكن يريد وعمدنا إلى أعمالهم التي عملوها في الدنيا، {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23] قال ابن شميل: الهباء التراب الذي تطيره الريح كأنه دخان.
وقال الزجاج: هو ما يدخل من الكوة مع ضوء الشمس، شبيه بالغبار.
وهذا قول المفسرين، والمنثور المفرق، والمعنى: إن الله أحبط أعمالهم حتى صارت بمنزلة الهباء المنثور.
ثم ذكر فضل أهل الجنة على أهل النار فقال: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ} [الفرقان: 24] يعني: يوم القيامة، {خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} [الفرقان: 24] أفضل منزلا في الجنة، {وَأَحْسَنُ مَقِيلا} [الفرقان: 24] موضع قائلة، قال الأزهري: القيلولة عند العرب الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر، وإن لم يكن مع ذلك نوم، والدليل على ذلك أن الجنة لا نوم فيها.
قال ابن مسعود، وابن عباس: لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار.
{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلا {25} الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا {26} وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا {27} يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا {28} لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولا {29} } [الفرقان: 25-29] قوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ} [الفرقان: 25] عطف على قوله: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ} [الفرقان: 22] وفي تشقق قراءتان: بتشديد الشين، وتخفيفها، فمن شدد أدغم التاء في الشين، والأصل تتشقق، ومن خفف حذف ولم يدغم.
وقوله: {السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} [الفرقان: 25] قال أبو علي الفارسي: تشقق السماء وعليها غمام، كما تقول: ركب الأمير بسلاحه، وخرج بثيابه، أي وعليه سلاحه، وإنما تتشقق سماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس، ثم تشقق السماء الثانية فينزل أهلها وهم أكثر ممن في السماء الدنيا ومن الجن والإنس، ثم كذلك حتى تشقق السماء السابعة، وأهل كل سماء يزيدون على أهل السماء(3/338)
التي قبلها.
{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان: 26] أي: الملك الذي هو الملك حقا ملك الرحمن يوم القيامة، قال ابن عباس: يريدون أن يوم القيامة لا ملك يقضي غيره.
{وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان: 26] عسر عليهم ذلك اليوم لشدته ومشقته، ويهون على المؤمنين كأدنى صلاة صلوها في دار الدنيا، وفي الآية تبشير للمؤمنين حيث خص الكافرين بشدة ذلك اليوم.
قوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} [الفرقان: 27] قال مجاهد: إن عقبة بن أبي معيط دعا مجلسا فيهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لطعام، فأبى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يأكل، وقال: لا آكل حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله.
فشهد بذلك عقبة، فبلغ ذلك أبي بن خلف، وكان خليلا له، فقال: صبوت يا عقبة.
فقال: لا والله ما صبوت، وإن أخاك على ما تعلم، ولكني صنعت طعاما فأبى أن يأكل حتى قلت ذلك، وليس من نفسي.
فأنزل الله {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ} [الفرقان: 27] يعني: عقبة على يديه تحسرا وندما، قال عطاء: يأكل يديه حتى تذهبا إلى المرفقين، ثم تنبتان، لا يزال هكذا كلما نبتت يده أكلها ندامة على ما فعل.
{يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا} [الفرقان: 27] ليتني اتبعت محمدا واتخذت معه سبيلا إلى الهدى.
{يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا} [الفرقان: 28] يعني أبيا.
{لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} [الفرقان: 29] صرفني وردني عن القرآن والإيمان بعد إذ جاءني مع الرسول، وتم الكلام ههنا، ثم قال الله تعالى: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولا} [الفرقان: 29] يعني: الكافر يتبرأ منه يوم القيامة.
قوله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْءَانَ مَهْجُورًا {30} وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا {31} } [الفرقان: 30-31] {وَقَالَ الرَّسُولُ} [الفرقان: 30] يعني: محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشكو قومه إلى الله، {يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْءَانَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30] قال ابن عباس: هجروا القرآن وهجروني وكذبوني.
وقال مقاتل: تركوا الإيمان بالقرآن وجانبوه.
والمعنى: جعلوه مهجورا متروكا لا يستمعونه ولا يتفهمونه.
فعزاه الله عز وجل، فقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان: 31] أي: وكما جعلنا لك يا محمد أعداء من مشركي قومك، كذلك جعلنا لكل نبي عدوا من كفار قومه، قال مقاتل: يقول لا يكبرن عليك فإن الأنبياء قبلك قد لقيت هذا التكذيب من قومهم.
{وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان: 31] هاديا لك وناصرا لك على أعدائك.
قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا {32} وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا {33} الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلا {34} } [الفرقان: 32-34] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32] قال الكفار لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هلا أتيتنا بقرآن(3/339)
جملة واحدة كما أنزلت التوراة والإنجيل والزبور.
والمعنى: هلا نزل عليه القرآن في وقت واحد، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ} [الفرقان: 32] أي: أنزلناه متفرقا، {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: 32] لنقوي به قلبك فيزداد بصيرة، وذلك أنه إذا كان يأتيه الوحي متجددا في كل أمر وحادثة كان ذلك أزيد في بصيرته وأقوى لقلبه، {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا} [الفرقان: 32] قال ابن عباس: بيناه تبيينا.
وقال السدي: فصلناه تفصيلا.
وقال مجاهد: بعضه في إثر بعض.
قال ابن الأعرابي: ما أعلم الترتيل إلا التحقيق والتبيين.
قوله: {وَلا يَأْتُونَكَ} [الفرقان: 33] يعني المشركين، {بِمَثَلٍ} [الفرقان: 33] يضربونه لك في إبطال أمرك ومخاصمتك، {إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} [الفرقان: 33] بالذي هو الحق لترد به خصومتهم وتبطل به كيدهم، {وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33] مما أتوا به من المثل، أي بيانا وكشفا، والتفسير: تفصيل من الفسر، وهو كشف ما غطي.
قوله: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} [الفرقان: 34] قال مقاتل: هم كفار مكة، وذلك أنهم قالوا لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأصحابه: هم شر خلق الله.
فقال الله: {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا} [الفرقان: 34] منزلا ومصيرا، {وَأَضَلُّ سَبِيلا} [الفرقان: 34] دينا وطريقا من المؤمنين.
668 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّصْرَابَاذِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَحَامِلِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبُوشَنْجِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، نا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا شَيْبَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَجُلا قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، كَيْفَ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: إِنَّ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى رِجْلَيْهِ فِي الدُّنْيَا قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا {35} فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا {36} وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا {37} وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا {38} وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا {39} وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا {40} } [الفرقان: 35-40] قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا} [الفرقان: 35] قال مقاتل، والكلبي: معينا على الرسالة.
{فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الفرقان: 36] يعني: فرعون وقومه، وذلك أنهم كانوا مكذبين أنبياء الله وكتبه، {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} [الفرقان: 36] أهلكناهم بالعذاب إهلاكا.
{وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ} [الفرقان: 37] قال الزجاج: من كذب نبيا فقد كذب جميع الأنبياء.
{أَغْرَقْنَاهُمْ} [الفرقان: 37] بالطوفان، {وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ} [الفرقان: 37] من بعدهم، {آيَةً} [الفرقان: 37] عبرة ودلالة على قدرتنا، قال ابن عباس: وهذا تعزية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتخويف للمشركين.
{وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفرقان: 37] سوى ما حل بهم في الدنيا.
وقوله: {وَعَادًا وَثَمُودَ} [الفرقان: 38] تقدم تفسيره، {وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} [الفرقان: 38] قال السدي: هو بئر بأنطاكية، قتلوا فيها حبيبا النجار، فنسبوا إليها.
وهذا قول ابن عباس في رواية عكرمة، قال: سألته عن أصحاب الرس.
فقال: هم الذين قتلوا صاحب ياسين الذي قال: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس: 20] ورسوه(3/340)
في بئر لهم يقال له الرس، أي دسوه فيها.
وقال قتادة: حدثنا أن أصحاب الرس كانوا أهل فلج باليمامة، وآبار كانوا عليها.
وقال وهب: كانوا أهل بئر نزولا عليها، وأصحاب مواشي، فكذبوا شعيبا، فانهارت البئر بهم وبمنازلهم، فهلكوا جميعا.
وقوله: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} [الفرقان: 38] أي: وأهلكنا قرونا بين عاد إلى أصحاب الرس.
{وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ} [الفرقان: 39] قال مقاتل: وكلا بينا لهم أن العذاب نازل بهم إن لم يؤمنوا.
{وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} [الفرقان: 39] أهلكنا بالعذاب إهلاكا، قال الزجاج: وكل شيء كسرته وفتته فقد تبرته.
{وَلَقَدْ أَتَوْا} [الفرقان: 40] يعني: كفار مكة، {عَلَى الْقَرْيَةِ} [الفرقان: 40] يعني: قرية لوط، {الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} [الفرقان: 40] يعني: الحجارة، {أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا} [الفرقان: 40] في أسفارهم إذا مروا بها فيخافوا ويعتبروا، ثم أخبر أن الذي جرأهم على التكذيب أنهم لا يصدقون بالبعث، فقال: {بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا} [الفرقان: 40] لا يخافون بعثا ولا يصدقون به.
قوله: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا {41} إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا {42} أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا {43} أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا {44} } [الفرقان: 41-44] {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا} [الفرقان: 41] وما يتخذونك إلا مهزوءا به، ثم ذكر ما يقولون من الاستهزاء، فقال: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا} [الفرقان: 41] أي: إذا رأوك قالوا: أهذا الذي بعثه الله إلينا رسولا؟ {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا} [الفرقان: 42] قال ابن عباس: لقد كاد أن يصرفنا عن عبادة آلهتنا.
{لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} [الفرقان: 42] أي: على عبادتها، قال الله: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} [الفرقان: 42] في الآخرة عيانا، {مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا} [الفرقان: 42] من أخطأ طريقا عن الهدى، أهم أم المؤمنون؟ ثم عجب نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نهاية جهلهم حين عبدوا ما دعاهم إليه الهوى، فقال: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان: 43] قال عطاء، عن ابن عباس: أرأيت من ترك عبادة إلهه وخالفه، ثم هوى حجرا فعبده، ما حاله عندي؟ قال مقاتل: وذلك إن الحارث بن قيس السهمي هوي حجرا فعبده.
وقال سعيد بن جبير: كان أهل الجاهلية ليعبدون الحجر، فإذا رأوا أحسن منه أخذوه وتركوا الأول.
وقال الحسن: يقول: لا يهوى شيئا إلا اتبعه.
وقال ابن قتيبة: يقول: يتبع هواه ويدع الحق فهو كالإله له.
والمعنى أنه أطاع هواه وركبه فلم يبال عاقبة ذلك، وقوله: {أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا} [الفرقان: 43] أي: أفأنت عليه كفيل حافظ يحفظه عليه من أتباع هواه وعبادة ما يهوى من دون الله، أي: ليست كذلك، قال الكلبي: نسختها آية القتال.
{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا} [الفرقان: 44] .(3/341)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا {45} ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا {46} وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا {47} } [الفرقان: 45-47] قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [الفرقان: 45] قال مقاتل: ألم تر إلى فعل ربك، ثم حذف المضاف.
وقال الزجاج: ألم تر ألم تعلم، وهذا من رؤية القلب.
وذكر أن هذا على القلب بتقدير ألم تر إلى الظل كيف مده ربك، يعني: الظل من وقت الإسفار إلى طلوع الشمس، وهو ظل لا شمس معه، فهو ظل ممدود.
{وَلَوْ شَاءَ} [الفرقان: 45] الله، {لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} [الفرقان: 45] دائما لا يزول ولا تنسخه الشمس، ومعنى ساكنا: مقيما، كما يقال فلان: يسكن بلد كذا إذا قام به.
وقوله: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا} [الفرقان: 45] قال ابن عباس: تدل الشمس على الظل، يعني أنه لولا الشمس لما عرف الظل، ولولا النور لما عرفت الظلمة، فكل الأشياء تعرف بأضدادها.
وقوله: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} [الفرقان: 46] قال الكلبي: إذا طلعت الشمس قبض الله الظل قبضا خفيا.
والمعنى: ثم جمعنا أجزاء الظل المنبسط بتسليط الشمس عليه حتى تنسخه شيئا فشيئا.
قوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا} [الفرقان: 47] يعني أن ظلمته تلبس كل شخص وتغشاه كاللباس الذي يشتمل على لابسه، والله تعالى ألبسنا الليل وغشاناه لنسكن فيه، كما قال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [يونس: 67] وقوله: {وَالنَّوْمَ سُبَاتًا} [الفرقان: 47] قال الزجاج: السبات أن تنقطع عن الحركة والروح في يديه.
أي: جعلنا نومكم راحة لكم.
{وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان: 47] قال ابن عباس، ومقاتل: ينتشرون فيه لابتغاء الرزق.
والنشور ههنا معناه التفرق والانبساط في التصرف.
{وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا {48} لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا {49} وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا {50} } [الفرقان: 48-50] {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الفرقان: 48] سبق الكلام فيه في { [الأعراف وقوله:] وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [سورة الفرقان: 48] قال الأزهري: الطهور في اللغة الطاهر المطهر، والطهور ما يتطهر به، كالوضوء الذي يتوضأ به، والفطور ما يفطر عليه، ومنه الحديث: «هو الطهور ماؤه» .
قال ابن عباس: يريد المطر.
وقال مقاتل: طهورا للمؤمنين.
{لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} [الفرقان: 49] لنحيي بالمطر بلدة ليس فيها نبت، قال ابن عباس: لنخرج به النبات والثمار، وإنما قال ميتا لأنه أريد بالبلدة المكان.
{وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا} [الفرقان: 49] أي: ونسقي من ذلك الماء أنعاما وبشرا كثيرا، وهو قوله: {وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [الفرقان: 49] واحدها إنس.
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} [الفرقان: 50] أي: صرفنا الماء المنزل من السماء مرة لبلدة ومرة لبلدة أخرى.
قال ابن عباس: ما عام بأمطر من عام، ولكن الله يصرفه في الأرض.
ثم قرأ هذه الآية، وهذا كما روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «ما من سنة بأمطر من أخرى ولكن إذا عمل قوم(3/342)
بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم، فإذا عصوا جميعا صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار» .
وقوله: {لِيَذَّكَّرُوا} [الفرقان: 50] أي: ليتفكروا في قدرة الله وموضع النعمة منه بما أحيا بلادهم به من الغيث، ويحمدوه على ذلك.
ومن قرأ بالتخفيف فمعناه: ليذكروا موضع النعمة به فيشكروه، {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا} [الفرقان: 50] إلا كفرا بالله وبنعمته، وهم الذين يقولون: مطرنا بنوء كذا.
وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا {51} فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا {52} وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا {53} وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا {54} } [الفرقان: 51-54] {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا} [الفرقان: 51] ينذرهم، ولكن بعثناك إلى القرى كلها رسولا لعظم كرامتك لدينا.
{فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} [الفرقان: 52] وذلك حين دعي إلى دين آبائه، {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} [الفرقان: 52] بالقرآن، {جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52] تاما شديدا.
{وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [الفرقان: 53] أرسلهما في مجاريهما، أو خلاهما كما ترسل الخيل في المرج، وهما يلتقيان فلا يختلط الملح بالعذب ولا العذب بالملح، وهو قوله: {هَذَا} [الفرقان: 53] يعني: أحد البحرين، {عَذْبٌ} [الفرقان: 53] طيب، يقال: عذب عذوبة فهو عذب.
{فُرَاتٌ} [الفرقان: 53] الفرات أعذب المياه، يقال: فرت الماء يفرت فروتة إذا عذب، فهو فرات.
{وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [الفرقان: 53] شديد الملوحة، {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} [الفرقان: 53] حاجزا من قدرة الله، {وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 53] حراما أن يفسد الملح العذب.
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا} [الفرقان: 54] خلق من النطفة إنسانا، {فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54] الصهر حرمة الختونة، والمعنى: فجعله ذا نسب وصهر، قال المفسرون: النسب سبعة أصناف من القرابة، يجمعها قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلى قوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] ومن هنا إلى قوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] تحريم الصهر، وهو الخلطة التي تشبه القرابة، وهو السبب المحرم للنكاح كالنسب المحرم، حرم الله سبعة أصناف من النسب، وسبعة من جهة الصهر، ستة في الآية التي ذكر فيها المحرمات، والسابقة في قوله: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] .
{وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الفرقان: 54] على ما أراد.
قوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا {55} وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا {56} قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا {57} وَتَوَكَّلْ عَلَى(3/343)
الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا {58} الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا {59} وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا {60} } [الفرقان: 55-60] {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ} [الفرقان: 55] أن عبدوه، {وَلا يَضُرُّهُمْ} [الفرقان: 55] إن لم يعبدوه، {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان: 55] الظهير: العون المعين، قال الحسن: عونا للشيطان على ربه بالمعاصي.
وقال الزجاج: لأنه يتابع الشيطان ويعاونه على معصية الله، لأن عبادتهم الأصنام معاونة للشيطان.
قال المفسرون: عنى بالكافر أبا جهل.
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا} [الفرقان: 56] بالجنة، {وَنَذِيرًا} [الفرقان: 56] من النار.
{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} [الفرقان: 57] على القرآن وتبليغ الوحي، {مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان: 57] وفي هذه تأكيد لصدقه، لأنه لو طلب على دعائهم إلى الله شيئا من أموالهم لقالوا: إنما تطلب أموالنا.
وقوله: {إِلا مَنْ شَاءَ} [الفرقان: 57] معناه لكن من شاء، {أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا} [الفرقان: 57] بإنفاق ما له فعل ذلك، والمعنى: لا أسئلكم لنفسي أجرا، ولكن لا أمنع من إنفاق المال في طلب مرضاة الله واتخاذ السبيل إلى مرضاة الله.
قوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 58] تفسير هذه الآية ظاهر.
وقوله: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ} [الفرقان: 59] مفسر في { [الأعراف إلى قوله:] فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [سورة الفرقان: 59] قال الكلبي: يقول: فاسأل الخبير بذلك.
يعني بها: ذكر من خلق السموات والأرض والاستواء على العرش، وهذا الخطاب ظاهرة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمراد به غيره، كقوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} [يونس: 94] الآية.
قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ} [الفرقان: 60] لكفار مكة، {اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 60] قال المفسرون: إنهم قالوا ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة.
قال الزجاج: الرحمن اسم من أسماء الله مذكور في الكتب الأولى، ولكنهم لم يكونوا يعرفونه من أسماء الله، فلما سمعوه أنكروه.
ف {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} [الفرقان: 60] استفهام إنكاري، أي: لا نسجد للرحمن الذي تأمرنا بالسجود له.
ومن قرأ بالياء بالمعنى: أنسجد لما يأمرنا، محمد بالسجود له.
{وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60] قال مقاتل: زادهم ذكر الرحمن تباعدا من الإيمان.
قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا {61} وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا {62} } [الفرقان: 61-62] {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} [الفرقان: 61] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد بروج النجوم، يعني منازلها الاثني عشر.
وقال الحسن، ومجاهد: هي النجوم الكبار.
وهو قول قتادة، سميت بروجا لظهورها.
{وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان: 61] يعني الشمس، كقوله: {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نوح: 16] وقرأ حمزة سرجا قال الزجاج: أراد بالشمس(3/344)
والكواكب معها، ومن حجة هذه القراءة قوله: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك: 5] .
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} [الفرقان: 62] قال أبو عبيدة: الخلفة كل شيء بعد شيء، الليل خلفة للنهار، والنهار خلفة لليل، لأن أحدهما يخلف الآخر ويأتي بعده.
قال الفراء: يقول: يذهب هذا ويجيء هذا.
وقال ابن زيد: يخلف أحدهما صاحبه، إذا ذهب أحدهما جاء الآخر، فهما يتعاقبان.
وقال قتادة: إن المؤمن قد ينسى بالليل ويتذكر بالنهار، وينسى بالنهار ويذكر بالليل.
وقال الحسن: جعل أحدهما خلفا للآخر، فإن فات رجلا من النهار شيء أدركه بالليل، وإن فاته شيء بالليل أدركه بالنهار.
وهو قوله: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} [الفرقان: 62] وقرأ حمزة مخففا على معنى أنه يذكر الله بتسبيحه فيهما، قال الفراء: ويذكر ويتذكر يأتيان بمعنى واحد، قال الله تعالى: {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} [البقرة: 63] وفي حرف عبد الله وتذكروا ما فيه.
وفي جعل الله تعالى الليل والنهار متعاقبين يخلف أحدهما صاحبه اعتبار واستدلال على قدرته، ومتسع لذكره وطاعته أيضا.
وقوله: {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62] يقال: شكر يشكر شكورا وشكرا، ومنه قوله: {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان: 9] قال ابن عباس: يريد لمن أراد أن يتعظ ويطيعني.
وقال مجاهد: شكر نعمة ربه عليه فيهما.
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا {63} وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا {64} وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا {65} إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا {66} وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا {67} } [الفرقان: 63-67] قوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] الهون: مصدر الهين في السكينة والوقار، يقال: هو يمشي هونا.
قال الحسن، وعطاء، والضحاك، ومقاتل: حلماء متواضعين يمشون في اقتصاد.
وقال قتادة: تواضعا لله لعظمته.
{وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ} [الفرقان: 63] يعني السفهاء، {قَالُوا سَلامًا} [الفرقان: 63] قال ابن عباس: لا يجهلون مع من يجهل.
وقال الحسن: يقول: إن جهل عليهم جاهل حلموا ولم يجهلوا.
وقال قتادة: كانوا لا يتجاهلون أهل الجهل.
وقال مقاتل بن حيان: قالوا سلاما.
أي: قولا يسلمون فيه من الإثم.
قال الحسن: هذا صفة نهارهم إذا انتشروا في الناس، وليلهم خير ليل إذا خلوا فيما بينهم وبين ربهم، يراوحون بين أطرافهم.
وهو قوله: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان: 64] قال الزجاج: كل من أدركه الليل فقد بات، يبيت نام أو لم ينم، يقال: بات فلانا قلقا، والمعنى: يبيتون لربهم بالليل في الصلاة سجدا وقياما.
وذكر الكلبي، عن ابن عباس، قال: من صلى ركعتين أو أكثر بعد العشاء فقد بات لله ساجدا وقائما.
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان: 65] الغرام: العذاب اللازم أو الشر اللازم.
قال مقاتل: إن عذابها لازم كلزوم الغريم للغريم.
وقال الزجاج: الغرام أشد العذاب.
{إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 66] إن جهنم بئس موضع قرار(3/345)
وإقامة هي.
{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: 67] يقال: قتر الرجل على عياله يقتر، وقتر قترا، وأقتر اقتارا، إذا ضيق ولم ينفق إلا قدر ما يمسك الرمق.
قال أبو عبيدة: وهي ثلاث لغات معناها لم يضيقوا في الإنفاق.
{وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] أي: كان إنفاقهم بين الإسراف والإقتار لا إسرافا يدخل في حد التبذير، ولا تطبيقا يصبر به في حد المانع لما يجب، وهذا هو المحمود من النفقة.
وعد عمر رضي الله عنه من الإسراف أن لا يشتهي الرجل شيئا إلا أكله، وقال: كفى بالمرء سرفا أن يأكل كلما يشتهي.
وقال قتادة: الإسراف النفقة في معصية الله، والإقتار الإمساك عن حق الله، والقوام من العيش ما أقامك وأغناك.
قوله: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا {68} يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا {69} إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا {70} وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا {71} } [الفرقان: 68-71] {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] روى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن ناسا من أهل الشرك قتلوا وزنوا وأكثروا، ثم أتوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالوا: إن الذي تدعوا إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة.
فنزلت هذه الآية.
669 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، نا وَالِدِي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ، نا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، نا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورِ عّنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: " أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَهَا: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ "، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، عَنْ عُثْمَانَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ
وقوله:} وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ { [الفرقان: 68] قال مقاتل: هذه الخصال جميعا.
} يَلْقَ أَثَامًا { [الفرقان: 68] أي: عقوبة وجزاء لما فعل.
قال الفراء: آثمه الله إثما وأثاما، أي جازاه جزاء الإثم.
وقال المفسرون: أثام واد في جهنم من دم وقيح.
ثم ذكر ما يجازى به، وفسر لقي الآثام بقوله:} يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا { [الفرقان: 69] ومن رفع} يُضَاعَفْ { [الفرقان: 69] ،} وَيَخْلُدْ { [الفرقان: 69] استأنف وقطعه مما قبله.
قوله:} إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا [الفرقان: 70] قال ابن عباس: نزلت هذه الآية بمكة، وكان المشركون قالوا: ما يغني عنا الإسلام وقد عدلنا بالله، وقتلنا النفس التي حرم الله، وآتينا الفواحش، فنزلت هذه الآية.
670 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّاسٍ(3/346)
الشَّافِعِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَرَأْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَنَتَيْنِ {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} . . . . الآيَةَ، ثُمَّ نَزَلَتْ: {إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا} ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرِحَ بِشَيْءٍ فَرَحَهُ بِهَا، وَبِـ: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا، قَالَ قَتَادَةُ: إِلا مَنْ تَابَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَآمَنَ بِرَبِّهِ، وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ
{فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 70] قال: التبديل في الدنيا طاعة الله بعد عصيانه، وذكر الله بعد نسيانه، والخير يعمله بعد الشر.
وقال الحسن: أبدلهم بالعمل السيئ العمل الصالح، وبالشرك إخلاصا وإسلاما، وبالفجور إحصانا.
وقال ابن عباس، ومجاهد، والسدي: يبدل الله سيآتهم يبدلهم الله بقبائح أعمالهم في الشرك محاسن الأعمال في الإسلام بالشرك إيمانا، وبقتل النفس التي حرم الله قتل المشركين، وبالزنا عفة وإحصانا.
وذهب قوم إلى أن الله تعالى يمحو السيئة عن العبد ويثبت له بدلها الحسنة، وهو قول سعيد بن المسيب، ومكحول، وعمرو بن ميمون، واحتجوا بالحديث الصحيح الذي
671 - أَخْبَرَنَاهُ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ طَاهِرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا أَبُو عُمَرَ بْنُ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ الذُّهْلِيُّ، نا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، نا وَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ: اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ، وَيُخَبَّأُ عَنْهُ كِبَارُهَا، فَيُقَالُ: عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا، وَهُوَ مُقِرٌّ لا يُنْكِرُ، وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنَ الْكِبَارِ، فَيُقَالُ: أَعْطُوهُ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ عَمِلَهَا حَسَنَةً، فَيَقُولُ: إِنَّ لِي كِبَارَ ذُنُوبٍ مَا أَرَاهَا هَهُنَا، قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَضْحَكُ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِدَهُ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الأَعْمَشِ
672 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمِهْرَجَانِيُّ، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بُطَّةَ، نا أَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ بِنْتِ مَنِيعٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الْجدِّيُّ، نا أَبُو الْمُغِيرَةِ الْحِمْصِيُّ، نا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرٍ، أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، طَوِيلٌ شَطْبٌ مَمْدُودٌ، فَقَالَ: " أَرَأَيْتَ رَجُلا عَمِلَ الذُّنُوبَ كُلَّهَا فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهَا وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَمْ يَتْرُكْ حَاجَةً وَلا دَاجَةً إِلا اقْتَطَعَهَا بِيَمِينِهِ، فَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: هَلْ أَسْلَمْتَ؟ قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: نَعَمْ، تَفْعَلُ الْخَيْرَاتِ، وَتَتْرُكُ الشَّرَّاتِ يَجْعَلُهُنَّ اللَّهُ لَكَ خَيْرَاتٍ، قَالَ: وَغَدَرَاتِي وَفَجَرَاتِي؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، فَمَا زَالَ يُكَبِّرُ حَتَّى تَوَارَى "
قوله: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [الفرقان: 71] قال ابن عباس في رواية عطاء: ومن آمن.
يعني: ممن لم يقتل، ولم يزن وعمل(3/347)
صالحا، يريد الفرائض، فإنه يتوب إلى الله متابا.
قال: يريد أني فضلتهم وقدمتهم على من قاتل نبيي، واستحل محارمي.
وعلى هذا معنى الآية: ومن تاب من الشرك وعمل صالحا، ولم يكن من القبيل الذين زنوا وقتلوا، فإنه يتوب إلى الله، أي يعود إليه بعد الموت، متابا حسنا، يفضل على غيره ممن قتل وزنا، فالتوبة الأولى رجوع عن الشرك، والثانية رجوع إلى الله للجزاء والمكافأة.
{وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا {72} وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا {73} وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا {74} } [الفرقان: 72-74] وقوله: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72] أكثر المفسرين على أن الزور ههنا بمعنى الشرك، قال الزجاج: الزور في اللغة الكذب، ولا كذب فوق الشرك بالله.
وقال قتادة: لا يشهدون الزور، لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم.
وقال محمد ابن الحنفية: لا يشهدون الزور، اللهو والغناء.
وقال علي بن أبي طلحة: يعني شهادة الزور.
وقوله: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ} [الفرقان: 72] يعني: بالمعاصي كلها، قاله الحسن، والكلبي.
{مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72] مروا مرّ الكرماء الذين لا يرضون باللغو، لأنهم يجلون عن الدخول فيه، والاختلاط بأهله، يقال: تكرم فلان عما يشينه إذا تنزه وأكرم نفسه عنه.
والمعنى: مروا منزهين أنفسهم، معرضين عنه، ويكون التقدير وإذا مروا بأهل اللغو وذوي اللغو مروا كراما، فلم يجاوروهم فيه، ولم يخوضوا معهم فيه.
{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} [الفرقان: 73] قال مقاتل: إذا وعظوا بالقرآن.
{لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان: 73] يقول: لم يقعوا عليها صما لم يسمعوها، وعميا لم يبصروها، ولكنهم سمعوا وأبصروا وانتفعوا بها.
وقال ابن قتيبة: لم يتغافلوا عنها كأنهم صم لم يسمعوها، وعمي لم يروها.
وقال الحسن: كم من قارئ يقرأها يخر عليها أصم أعمى.
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا} [الفرقان: 74] الذرية تكون واحدا وجمعا، فكونها للواحد قوله: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران: 38] ، وكونها للجمع قوله: {ذُرِّيَّةً ضِعَافًا} [النساء: 9] فمن أفرد في هذه الآية استغنى عن جمعها لما كانت للجمع، ومن جمع فلأن الأسماء التي للجمع قد تجمع، نحو: قوم وأقوام، ورهط وأرهاط.
وقوله: {قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74] القرة مصدر، يقال:(3/348)
قرت عينه قرة.
قال ابن عباس: يريد أبرارا أتقياء.
وقال مقاتل: يقولون: اجعلهم صالحين فتقر أعيننا بذلك.
وقال القرظي: ليس شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده مطيعين لله.
وقوله: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74] أي: يقتدى بنا في الخير، قال مكحول: أئمة في التقوى يقتدي بنا المتقون.
وقال قتادة: قادة في الخير.
قال الفراء: إنما قال إماما ولم يقل أئمة، كما قال: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16] للاثنين، يعني أنه من الواحد الذي أريد به الجمع.
قال مقاتل: أخبر الله تعالى عن أعمالهم، ثم أخبر عن ثوابهم، فقال: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا {75} خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا {76} قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا {77} } [الفرقان: 75-77] {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} [الفرقان: 75] وهي كل بناء عال مرتفع، قال مقاتل: يعني غرف الجنة.
وقال عطاء: يريد غرف الزبرجد والدر والياقوت.
{بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان: 75] أي: على دينهم، وعلى أذى المشركين، وقال مقاتل: على أمر الله.
{وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا} [الفرقان: 75] وقرئ بالتخفيف، فمن شدد فحجته قوله: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً} [الإنسان: 11] ، ومن خفف فحجته قوله: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59] .
وقوله: {تَحِيَّةً وَسَلامًا} [الفرقان: 75] يحيي بعضهم بعضا بالسلام، ويرسل إليهم الرب تعالى بالسلام.
قوله: {خَالِدِينَ} [الفرقان: 76] مقيمين، {فِيهَا} [الفرقان: 76] من غير موت ولا زوال، {حَسُنَتْ} [الفرقان: 76] الغرف، {مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 76] .
قوله: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي} [الفرقان: 77] العبوء قلة المبالاة، يقال: عبأ عبئا ومعابأة.
قال أبو عبيدة: يقال: ما عبأت به شيئا، أي: لم أعره اهتماما، فوجوده وعدمه عندي سواء.
وقال الزجاج: تأويل {مَا يَعْبَأُ بِكُمْ} [الفرقان: 77] أي: وزن يكون لكم عنده.
وقال مجاهد: ما يفعل بكم ربي.
وقال ابن عباس: ما يصنع بكم ربي.
{لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77] لولا دعاؤه إياكم إلى الإسلام، ومعنى الآية: أي مقدار ووزن لكم عند الله، لولا أنه خلقكم لتعبدوه وتطيعوه.
وهذا معنى قول ابن عباس، أي: إنما أريد منكم أن توحدوني.
وقال مقاتل، والكلبي، والزجاج: لولا عبادتكم وتوحيدكم إياه.
وفيه دليل على أن من لا يعبد الله، ولا يوحده، ولا يطيعه، لا وزن له عند الله.
وقوله: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} [الفرقان: 77] الخطاب لأهل مكة، أن الله دعاكم بالرسول إلى توحيده وعبادته، فقد كذبتم الرسول ولم تجيبوا دعوته، {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان: 77] تهديد لهم، قال الزجاج: تأويله فسوف يكون تكذيبهم لزاما يلزمكم، فلا تعطون التوبة.
والمفسرون يقولون في تفسير اللزام أنه يوم بدر، والمعنى أنهم قتلوا يوم بدر، واتصل به عذاب الآخرة لازما لهم فلحقهم الوعيد الذي ذكر الله ببدر.(3/349)
سورة الشعراء
مكية وآياتها سبع وعشرون ومائتان.
673 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الزَّعْفَرَانِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الشُّعَرَاءِ كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، بِعَدَدِ مَنْ صَدَّقَ بِنُوحٍ وَكَذَّبَ بِهِ، وَهُودٍ وَشُعَيْبٍ وَصَالِحٍ وَإِبْرَاهِيمَ، وَبِعَدَدِ مَنْ كَذَّبَ بِعِيسَى، وَصَدَّقَ بِمُحَمَّدٍ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَجْمَعِينَ»
{طسم {1} تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ {2} لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ {3} إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ {4} وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ {5} فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ {6} أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ {7} إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ {8} وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ {9} } [الشعراء: 1-9] بسم الله الرحمن الرحيم {طسم} [الشعراء: 1] قال الوالبي، عن ابن عباس: {طسم} [الشعراء: 1] قسم، وهو من أسماء الله عز وجل.
وقال مجاهد: هو اسم لل { [.
وقال قتادة: هو اسم من أسماء القرآن.
وقال القرظي: قسم الله بطوله وسنائه وملكه.
وباقي ال: وقد تقدم تفسيره.
] لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} [الشعراء: 3] فسرناه في { [الكهف.
قال المفسرون: لما كذبت قريش رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شق ذلك عليه، وكان يحرص على إيمانهم، فأنزل الله هذه ال:، وهي كالإنكار عليه، وذلك أنه كان يعلم أن الله إن لم يهدهم لم يهتدوا، فما يغني عنهم حرصه، ومعنى الآية: لعلك قاتل نفسك لتركهم الإيمان.
ثم أعلم أنه لو أراد أن ينزل ما يضطرهم إلى الطاعة لقدر على ذلك، فقال:] إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4] قال ابن جريج: لو شاء لأراهم أمرا من أمره لا يعمل أحد منهم بعده معصية.
وقال قتادة: لو شاء الله لأنزل عليهم آية يذلون بها، فلا يلوي أحد منهم عنقه إلى معصية الله.
وذلك قوله: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4] جعل الفعل أولا للأعناق، ثم جعل خاضعين للرجال، وذلك أن الأعناق إذا خضعت فأصحابها خاضعون.
قال الأخفش: يجعل الخضوع مردودا على المضمر الذي أضيفت الأعناق إليه.
وقال جماعة من المفسرين: المراد بالأعناق الجماعات، يقال: جاء القوم عنقا عنقا، أي: جماعات جماعات.
قوله: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الشعراء: 5] أي: وعظ وتذكير من الله، يعني القرآن، {(3/350)
مُحْدَثٍ} [الشعراء: 5] في الوحي والتنزيل، قال الكلبي: كلما نزل شيء من القرآن بعد شيء، فهو أحدث من الأول.
وقوله: {فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} [الشعراء: 6] الآية مفسرة في { [الأنعام.
ثم ذكر ما يدلهم على قدرته، فقال:] أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ} [سورة الشعراء: 7] يعني المكذبين، {كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا} [الشعراء: 7] بعد أن كانت ميتة لا نبات فيها، {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 7] من كل صنف وضرب حسن في المنظر مما يأكل الناس والأنعام، قال الزجاج: معنى زوج نوع، وكريم محمود فيما يحتاج إليه، والمعنى: من كل زوج نافع لا يقدر على إنباته إلا رب العالمين.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} [الشعراء: 8] يعني: ما ذكر من الإنبات في الأرض، {لآيَةً} [الشعراء: 8] تدل على أن الله قادر لا يعجزه شيء، {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 8] في علم الله، يقول: قد سبق في علمي أن أكثرهم لا يؤمنون.
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} [الشعراء: 9] المنتقم من أعدائه، {الرَّحِيمُ} [الشعراء: 9] بأوليائه.
{وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {10} قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ {11} قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ {12} وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ {13} وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ {14} قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ {15} فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ {16} أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ {17} قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ {18} وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ {19} قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ {20} فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ {21} وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ {22} } [الشعراء: 10-22] {وَإِذْ نَادَى} [الشعراء: 10] واتل على قومك إذ نادى الله، {مُوسَى} [الشعراء: 10] حين رأى الشجرة والنار، بأن قال له: يا موسى {أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الشعراء: 10] يعني: الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية، وظلموا بني إسرائيل بأن ساموهم سوء العذاب.
ثم أخبر عنهم، فقال: {قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ} [الشعراء: 11] ألا يصرفون عن أنفسهم عقوبة الله بطاعته.
{قَالَ} [الشعراء: 12] موسى: {رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [الشعراء: 12] بالرسالة، ويقولون: لست من عند الله.
{وَيَضِيقُ صَدْرِي} [الشعراء: 13] بتكذيبهم إياي، {وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي} [الشعراء: 13] لا ينبعث بالكلام للعلة التي كانت بلسانه، {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} [الشعراء: 13] جبريل ليكون معي معينا.
{وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ} [الشعراء: 14] قتلت منهم قتيلا، يعني الرجل الذي وكزه فقضى عليه، والمعنى: ولهم عليّ دعوى ذنب، {فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [الشعراء: 14] .
{قَالَ} [الشعراء: 15] الله: {كَلَّا} [الشعراء: 15] لن يقتلوك به لأني لا أسلطهم عليك، {فَاذْهَبَا} [الشعراء: 15] أنت وأخوك، {بِآيَاتِنَا} [الشعراء: 15] أي: ما أعطاهما من المعجزة، {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء: 15] قال ابن عباس: يريد نفسه.
وهذا كما قال: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] وإنما قال معكم لأنه أجراهم مجرى الجماعة، والمعنى: نسمع ما تقولونه وما يجيبونكما به.
{فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16] الرسول واحد في موضع التثنية ههنا، كما قال: {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف: 50] .
{أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 17] أي بأن أرسلهم وأطلقهم من الاستبعاد، وحل عنهم، فأتياه وبلغاه الرسالة.
فقال: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} [الشعراء: 18] صبيا صغيرا، وذلك أنه ولد فيهم، ثم كان فيما بينهم حتى صار رجلا، وهو قوله: {وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء: 18] قال ابن عباس: ثمانية عشر سنة.
وقال(3/351)
مقاتل: ثلاثين سنة.
وقال الكلبي: أربعين سنة.
{وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} [الشعراء: 19] يعني قتل القبطي.
{وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء: 19] قال الحسن، والسدي: أي بإلهك، كنت معنا على ديننا الذي تصيب.
وقال الفراء: وأنت من الكافرين لنعمتي ولتربيتي.
وهذا قول مقاتل، وعطاء، وعطية.
{قَالَ} [الشعراء: 20] موسى: {فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 20] أي: فعلت تلك الفعلة وأنا من الجاهلين، لم يأتني من الله شيء.
{فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ} [الشعراء: 21] ذهبت من بيتكم حذرا على نفسي إلى مدين، {لَمَّا خِفْتُكُمْ} [الشعراء: 21] أن تقتلوني بمن قتلته، {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا} [الشعراء: 21] نبوة، وقال مقاتل: يعني العلم والفهم.
{وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ {21} وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ {22} } [الشعراء: 21-22] يقال: استعبدت فلانا وأعبدته وتعبدته وعبدته أخذته عبدا.
قال الزجاج: المفسرون أخرجوا هذا على جهة الإنكار، أن يكون ما ذكر فرعون نعمة على موسى، واللفظ لفظ خبر، وفيه تبكيت للمخاطب على معنى: إنك لو كنت لا تقتل أبناء بني إسرائيل لكانت أمي مستغنية عن قذفي في اليم، فكيف تمن عليّ بما كان بلاؤك سببا له.
وزاد الأزهري هذا بيانا، فقال: إن فرعون لما قال لموسى: ألم نربك فينا وليدا، فاعتد عليه بأن رباه وليدا منذ ولد إلى أن كبر، فكان من جواب موسى له: وتلك نعمة تعتد بها عليّ لأنك عبدت بني إسرائيل، ولو لم تتعبدهم لكفلني أهلي ولم يلقوني في اليم، أي: فإنما صارت لك نعمة عليّ لما أقدمت عليه من ما حظره الله عليك.
قال المبرد: يقول: التربية كانت بالسبب الذي ذكر من التعبد، أي: تربيتك إياي كانت لأجل التملك والقهر لقومي.
{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ {23} قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ {24} قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ {25} قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ {26} قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ {27} قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ {28} } [الشعراء: 23-28] {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] قال محمد بن إسحاق: يستوصفه إلهه الذي أرسله إليه، أي: ما إلهك هذا؟ فأجابه موسى بما يدل عليه من خلقه ما يعجز المخلوقون على أن يأتوا بمثله.
{قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء: 24] أنه خلق ذلك، فلما قال موسى ذلك تحير فرعون ولم يرد جوابا ينقض به هذا القول.
ف {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء: 25] قال ابن عباس: يريد ألا تستمعون مقالة موسى.
فزاد موسى في البيان، ف {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء: 26] أي: الذي خلق آباءكم الأولين وخلقكم من آبائكم، فلم يجبه فرعون أيضا بما ينقض قوله، وإنما قال: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27] أي: ما هذا بكلام صحيح، إذ يزعم أن له إلها غيري، فلم يشتغل موسى بالجواب عما نسبه إليه من الجنون، ولكنه اشتغل بتأكيد الحجة والزيادة في الإبانة.
ف {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء: 28] توحيد الله، وقال أهل المعاني: إن كنتم ذوي عقول لم يخف عليكم ما أقول، فلم يجبه فرعون في هذه الأشياء بنقض لحجته بل.
{قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ {29} قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ {30} قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ {31} فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ {32} وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ {33} قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ {34} يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ {35} قَالُوا(3/352)
أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ {36} يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ {37} } [الشعراء: 29-37] {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29] أي: أحسبنك مع من حبسته في السجن.
ف {قَالَ} [الشعراء: 30] موسى حين توعده بالسجن: {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} [الشعراء: 30] يعني: أتسجنني ولو جئتك بأمر ظاهر تعرف فيه صدقي وكذبك، وبعد هذا مفسر في { [الأعراف إلى قوله:] فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ {38} وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ {39} لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ {40} فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ {41} قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ {42} قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ {43} فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ {44} فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ {45} فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ {46} قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ {47} رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ {48} } [سورة الشعراء: 38-48] {فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 38] وهو يوم عيدهم، يوم الزينة.
{وَقِيلَ لِلنَّاسِ} [الشعراء: 39] لأهل مصر: {هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ} [الشعراء: 39] لتنظروا ما يفعل الفريقان.
{لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ} [الشعراء: 40] على أمرهم، {إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء: 40] لموسى وأخيه.
وما بعد هذا مفسر إلى قوله: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ {49} قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ {50} إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ {51} } [الشعراء: 49-51] {لا ضَيْرَ} [الشعراء: 50] أي: لا ضرر علينا فيما ينالنا في الدنيا مع أملنا بالمغفرة، {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 50] راجعون في الآخرة.
{إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا} [الشعراء: 51] مفسر في { [طه،] أَنْ كُنَّا} [سورة الشعراء: 51] لأن كنا، {أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 51] بآيات موسى من جملة السحرة وغيرهم، وفي هذا الحال.
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ {52} فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ {53} إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ {54} وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ {55} وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ {56} فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ {57} وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ {58} كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ {59} } [الشعراء: 52-59] {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} [الشعراء: 52] مفسر في { [طه،] إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [سورة الشعراء: 52] يتبعكم فرعون وقومه ليحولوا بينكم وبين الخروج من أرض مصر.
{فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الشعراء: 53] يحشرون الناس ويجمعون له الجيش.
وقال فرعون: {إِنَّ هَؤُلاءِ} [الشعراء: 54] يعني: بني إسرائيل، {لَشِرْذِمَةٌ} [الشعراء: 54] عصابة، قال المبرد: الشرذمة القطعة من الناس غير الكثير، وجمعها الشراذم.
وقوله: {قَلِيلُونَ} [الشعراء: 54] قال الفراء: يقال عصبة قليلة وقليلون، وكثيرة وكثيرون.(3/353)
قال المفسرون: وكان الشرذمة الذين ملكهم فرعون ست مائة ألف، ولا يحصى عدد أصحاب فرعون.
قوله: {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} [الشعراء: 55] يقال: غاظه وأغاظه وغيظه إذا أغضبه، والغيظ الغضب، ومنه قوله تعالى: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك: 8] .
قال مقاتل: وإنهم لنا لغائظون بقتلهم أبكارنا، ثم هربهم منا.
وقال غيره: أي بما أخذوه من العواري التي اتخذوها في الحلي، وخروجهم من أرضنا على مخالفة لنا.
وإنا لجميع حذرون وقرئ حاذرون قال الفراء: الحاذر الذي يحذرك الآن، والحذر المخلوق كذلك لا تلقاه إلا حذرا.
وقال الزجاج: الحاذر المستعد، والحذر المتيقظ.
وقال أبو عبيدة: رجل حذر وحذر وحاذر.
وأهل التفسير يقولون في تفسير حاذرون مؤدون مقوون، أي: ذوو أداء وقوة مستعدون شاكرون.
ومعنى حذرون: خائفون شرهم.
{فَأَخْرَجْنَاهُمْ} [الشعراء: 57] يعني: فرعون وقومه، {مِنْ جَنَّاتٍ} [الشعراء: 57] قال مقاتل: يعني البساتين.
{وَعُيُونٍ} [الشعراء: 57] أنهار جارية.
{وَكُنُوزٍ} [الشعراء: 58] يعني: الأموال الظاهرة من الذهب والفضة، سمي كنزا لأنه لم يعط حق الله منها، وما لم يعط حق الله منه فهو كنز، وإن كان ظاهرا.
{وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 58] قال المفسرون: هو المجلس الحسن من مجالس الأمراء والرؤساء التي كان يحف بها الأتباع.
{كَذَلِكَ} [الشعراء: 59] كما وصفنا، {وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 59] وكذلك إن الله رد بني إسرائيل إلى مصر بعدما أغرق فرعون وقومه، فأعطاهم جميع ما كان لقوم فرعون من الأموال والعقار والمساكن.
وقوله: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ {60} فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ {61} قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ {62} فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ {63} وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ {64} وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ {65} ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ {66} إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ {67} وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ {68} } [الشعراء: 60-68] {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء: 60] يعني: قوم فرعون أدركوا موسى وأصحابه حين شرقت الشمس.
وذلك قوله: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} [الشعراء: 61] أي: تقابلا بحيث يرى كل فريق منهم صاحبه، قال مقاتل: عاين بعضهم بعضا.
{قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] أي: سيدركنا جمع فرعون ولا طاقة لنا بهم.
{قَالَ} [الشعراء: 62] موسى ثقة بنصر الله: {كَلَّا} [الشعراء: 62] لن يدركونا، {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي} [الشعراء: 62] ينصرني، {سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] سيدلني على طريق النجاة.
{فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء: 63] أي: فضرب، فانفلق، فانشق الماء اثني عشر طريقا، وقام الماء عن يمين الطريق، وعن يساره كالجبل العظيم، فذلك قوله: {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ} [الشعراء: 63] أي: كل قطعة من البحر، {كَالطَّوْدِ} [الشعراء: 63] كالجبل.
{الْعَظِيمِ {63} وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ {64} } [الشعراء: 63-64] قربنا إلى البحر فرعون وقومه حتى أغرقناهم، قال مقاتل: قربنا فرعون وجنوده في مسلك بني إسرائيل إلى الغرق.
وذلك أنه لما تتابع آخر جنود فرعون في البحر وخرج آخر بني إسرائيل من البحر، أمر البحر فانطبق عليهم.
فذلك قوله: {وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ {65} ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ {66} إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} [الشعراء: 65-67] إن في إهلاك فرعون وقومه عبرة لمن بعدهم، {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 67] لم يكن أكثر أهل مصر مصدقين(3/354)
بتوحيد الله، ولم يكن آمن من أهل مصر غير آسية امرأة فرعون، وخربيل المؤمن، ومريم بنت موشا التي دلت على عظام يوسف.
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} [الشعراء: 68] في انتقامه من أعدائه حين انتقم منهم، {الرَّحِيمُ} [الشعراء: 68] بالمؤمنين حين أنجاهم من العذاب.
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ {69} إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ {70} قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ {71} قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ {72} أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ {73} قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ {74} قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ {75} أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ {76} فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ {77} الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ {78} وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ {79} وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ {80} وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ {81} وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ {82} } [الشعراء: 69-82] قوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} [الشعراء: 69] حدث قومك حديثه وأخبرهم خبره.
{إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ {70} قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ {71} } [الشعراء: 70-71] فنقيم عليها عابدين مقيمين على عبادتها.
{قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ} [الشعراء: 72] أي: يسمعون دعاءكم، {إِذْ تَدْعُونَ {72} أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ {73} } [الشعراء: 72-73] قال ابن عباس: يريد هل يرزقوكم، أو يكشفون عنكم الضر، أو يملكون لكم ضرا، والمعنى: هل ينفعونكم بشيء إن عبدتموهم، أو يضرونكم إن لم تعبدوهم.
{قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ} [الشعراء: 74] كما نفعله، {يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 74] وهذا إخبار عن تقليدهم آباءهم في عبادة الأصنام وترك الاستدلال.
قَالَ لهم إبراهيم مبتدئا: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ {75} أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ {76} } [الشعراء: 75-76] يعني: الماضين الأولين.
{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} [الشعراء: 77] أي: أعاديهم وأتبرأ منهم، {إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 77] لكن رب العالمين أعبده ولا أتبرأ منه.
ثم ذكر نعمة الله عليه، فقال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78] إلى الدين والرشد لا ما تعبدون، أخبر أن الذي يهدي هو الله الذي خلق.
{وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء: 79] أي: هو رازقي، فمن عنده طعامي وشرابي.
{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] وذلك أنهم كانوا يقولون: المرض من الزمان ومن الأغذية، والشفاء من الأطباء والأدوية.
فأعلم إبراهيم أن الذي أمرض فهو الذي يشفي، وهو الله عز وجل، ولم يقل وإذا أمرضني، لأنه يقال مرضت، وإن كان المرض بخلق الله وقضائه، ولا يقال: أمرضني الله.
{وَالَّذِي يُمِيتُنِي} [الشعراء: 81] في الدنيا، {ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء: 81] للبعث، قال صاحب النظم: كانوا لا يدفعون الموت إلا أنهم يجعلون له سببا سوى الله ويكفرون بالبعث، فأعلم إبراهيم أنه هو الذي يميت ويحيي.
{وَالَّذِي أَطْمَعُ} [الشعراء: 82] قال مقاتل: أرجو، وهذا تلطف من إبراهيم في حسن الاستدعاء، وخضوع لله تعالى.
وقوله: {أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي} [الشعراء: 82] المفسرون يقولون: يعني الكذبات الثلاثة، قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] ، وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء: 63] ، وقوله لسارة: هي أختي.
وزاد الكلبي والحسن، قوله للكواكب: هذا ربي.
وقال الزجاج: إن الأنبياء بشر، ويجوز أن تقع عليهم الخطيئة إلا أنهم لا يكون منهم الكبيرة، لأنهم معصومون.
وقوله: {يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82] يريد يوم الجزاء(3/355)
والحساب.
674 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّصْرَابَاذِيُّ، أنا بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بِشْرٍ، أنا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، نا أَبُو بَكْرٍ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا حَفْصُ بْنُ غِيَاثِ عّنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنَ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ وَيُطْعِمُ، فَهَلْ ذَلِكَ نَافِعُهُ؟ قَالَ: لا، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ
قوله: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ {83} وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ {84} وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ {85} وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ {86} وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ {87} يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ {88} إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ {89} } [الشعراء: 83-89] {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا} [الشعراء: 83] قال ابن عباس: معرفة بالله وحدود أحكامه.
وقال مقاتل: يعني الفهم والعلم.
{وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء: 83] يعني: المتقين.
قوله: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ} [الشعراء: 84] يعني: ثناء حسنا، {فِي الآخِرِينَ} [الشعراء: 84] في الذين يأتون بعدي إلى يوم القيامة.
{وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} [الشعراء: 85] من الذين يرثون الفردوس.
{وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 86] المشركين، وهذا إنما قاله قبل أن يتبرأ منه، ذكرنا ذلك في آخر { [براءة.
] وَلا تُخْزِنِي} [سورة الشعراء: 87] قال مقاتل، والكلبي: لا تعذبني.
{يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء: 87] يوم يبعث الخلق، ثم فسر ذلك اليوم، فقال: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} [الشعراء: 88] يعني: لا ينفع المال والأولاد أحد.
{إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89] سلم من الشرك والنفاق، قال سعيد بن المسيب: القلب السليم هو الصحيح، وهو قلب المؤمن، وقلب الكافر والمنافق مريض.
وقوله: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ {90} وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ {91} وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ {92} مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ {93} فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ {94} وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ {95} قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ {96} تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ {97} إِذْ(3/356)
نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ {98} وَمَا أَضَلَّنَا إِلا الْمُجْرِمُونَ {99} فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ {100} وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ {101} فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {102} إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ {103} وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ {104} } [الشعراء: 90-104] {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الشعراء: 90] قربت الجنة لأولياء الله حتى نظروا إليها.
{وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ} [الشعراء: 91] أي: أظهرت وكشف الغطاء عنها، {لِلْغَاوِينَ} [الشعراء: 91] الضالين عن الهدى.
{وَقِيلَ لَهُمْ} [الشعراء: 92] في ذلك اليوم على وجه التوبيخ: {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ {92} مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ} [الشعراء: 92-93] يمنعونكم من العذاب، {أَوْ يَنْتَصِرُونَ} [الشعراء: 93] يمتنعون منه.
ثم يؤمر بهم فيلقون في النار، فذلك قوله: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا} [الشعراء: 94] قال الزجاج: طرح بعضهم على بعض.
وقال ابن قتيبة: ألقوا على رءوسهم.
وقال مقاتل: قذفوا فيها {هُمْ وَالْغَاوُونَ} [الشعراء: 94] قال السدي: يعني الألهة والمشركين.
وقال عطاء: هم وما يعبدون من دون الله.
{وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} [الشعراء: 95] يعني: ذرية إبليس كلهم.
قَالُوا يعني الغاوين، {وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} [الشعراء: 96] مع معبوديهم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ {97} إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ {98} } [الشعراء: 97-98] والله ما كنا إلا في ضلال حيث سويناكم بالله فأعظمناكم وعدلناكم به.
{وَمَا أَضَلَّنَا} [الشعراء: 99] عن الهدى {إِلا الْمُجْرِمُونَ} [الشعراء: 99] قال مقاتل: الشياطين.
وقال الكلبي: إلا أولونا الذين اقتدينا بهم.
{فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} [الشعراء: 100] من يشفع لنا من الملائكة والنبيين والمؤمنين، حيث يشفعون لأهل التوحيد.
{وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 101] ذي قرابة يهمه أمرنا، والحميم القريب الذي توده ويودك، قال ابن عباس: إن المؤمن يشفع يوم القيامة للمؤمن المذنب.
675 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أنا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الثَّقَفِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْيَقْطِينِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ يَزِيدَ الْعُقَيْلِيُّ، نا صَفْوَانُ بْنُ صَالِحٍ، نا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، نا مَنْ، سَمِعَ أَبَا الزُّبَيْرِ يَقُولُ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " إِنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ فِي الْجَنَّةِ: مَا فَعَلَ صَدِيقِي فُلانٌ، وَصَدِيقُهُ الْحَمِيمُ، فَيَقُولُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: أَخْرِجُوا لَهُ صَدِيقَهُ إِلَى الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: مَنْ بَقِيَ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ
ثم قالوا: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} [الشعراء: 102] أي: رجعة إلى الدنيا، {فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 102] المصدقين بالتوحيد، أي: لتحل لنا الشفاعة كما حلت لأهل التوحيد.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} [الشعراء: 103] فيما أخبر من قصة إبراهيم، {لآيَةً} [الشعراء: 103] لعبرة لمن بعدهم، والباقي قد تقدم تفسيره إلى قوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ {105} إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ {106} إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ {107} فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ {108} وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ {109} فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ {110} } [الشعراء: 105-110] {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105] قال الزجاج: دخلت التاء وقوم مذكرون، لأن المراد بالقوم الجماعة.
أي: كذبت جماعة قوم نوح المرسلين، لأن من كذب رسولا واحدا من رسل الله فقد كذب الجماعة، لأن كل رسول يأمر بتصديق جميع الرسل.
{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ} [الشعراء: 106] ابن أبيهم، والأخوة كانت من جهة النسب لا من جهة الدين، {أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء: 106] عذاب الله بتوحيده وطاعته.
{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء: 107] على الرسالة فيما بيني وبين ربكم.
{فَاتَّقُوا اللَّهَ} [الشعراء: 108] بطاعته وعبادته، {وَأَطِيعُونِ} [الشعراء: 108] فيما آمركم به من الإيمان والتوحيد.
{وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} [الشعراء: 109] على الدعاء إلى التوحيد، {مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ} [الشعراء: 109] ما أجري وثوابي، {إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 109] والرسل إذا لم يسألوا أجرا كانوا أقرب إلى التصديق، وأبعد عن التهمة.
{قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ {111} قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {112} إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ {113} وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ {114} إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ {115} } [الشعراء: 111-115] {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ} [الشعراء: 111] أنصدق لقولك، {وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111] قال عطاء: المساكين الذين ليس لهم مال ولا عز.
وقال الضحاك، وعكرمة: يعنون الحاكة والإساكفة.
قال الزجاج: والصناعات لا تضر في باب الديانات.
قَالَ نوح: {وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الشعراء: 112] أي: ما أعلم أعمالهم وصنائعهم ولم أكلف ذلك، وإنما كلفت أن أدعوهم.
{إِنْ حِسَابُهُمْ} [الشعراء: 113] ما حسابهم فيما يعملون، {إِلا عَلَى(3/357)
رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} [الشعراء: 113] لو تعلمون ما عبتموهم بصنائعهم.
{وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 114] ما أنا بالذي لا يقبل الإيمان من الذين تزعمون أنهم الأرذلون عندكم.
{إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الشعراء: 115] أنذركم النار، وأبين لكم ما يقربكم من الله.
{قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ {116} قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ {117} فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {118} فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ {119} ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ {120} إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ {121} وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ {122} } [الشعراء: 116-122] {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ} [الشعراء: 116] عما تقول، {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء: 116] قال مقاتل، والكلبي: من المقتولين بالرجم.
وقال الضحاك: من المشتومين.
وقال قتادة من المضروبين بالحجارة.
قَالَ نوح: {رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ {117} فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا} [الشعراء: 117-118] فاقض بينهم قضاء، يعني العذاب، لأنه قال: {وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 118] أي: من ذلك العذاب.
{فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الشعراء: 119] قال ابن عباس، ومقاتل: الذي قد ملئ من الناس والطير والحيوان كلها.
{ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ} [الشعراء: 120] بعد نجاة نوح ومن معه، {الْبَاقِينَ} [الشعراء: 120] .
قوله: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ {123} إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ {124} إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ {125} فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ {126} وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ {127} أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ {128} وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ {129} وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ {130} فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ {131} وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ {132} أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ {133} وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ {134} إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ {135} } [الشعراء: 123-135] {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 123] القبيلة، لأنه أريد بعاد قبيلة عاد، والباقي مفسر إلى قوله: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً} [الشعراء: 128] وهو المكان المرتفع، قال أبو عبيدة: الريع الارتفاع، جمع ريعة.
قال الوالبي، عن ابن عباس: يعني بكل شرف.
وقال مقاتل، والكلبي، والضحاك: بكل طريق.
آيَة بنيانا وعلما، {تَعْبَثُونَ} [الشعراء: 128] بمن يمر بالطريق، والمعنى أنهم كانوا يبنون بالمواضع المرتفعة ليشرفوا على المارة والسابلة، فيسخرون منهم، ويعبثون بهم.
وروي عن سعيد بن جبير، ومجاهد، أنهما قالا هذا في بنيان بروج الحمام، أنكر هود عليهم اتخاذهم بروجا للحمام عبثا.
وقال عطاء، عن ابن عباس: يريد ما لا يسكنون.
وعلى هذا القول جعل هو بناءهم ما يستغنون عنه ولا يسكنونه عبثا منهم.
676 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُطَّوِّعِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْمُقْرِئُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُثَنَّى، نا أَبُو بَكْرٍ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، عَنْ زُهَيْرٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ(3/358)
إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَاطِبٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَرَجَ فَرَأَى قُبَّةً مُشْرِفَةً، فَقَالَ: مَا هَذِهِ؟ قَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: هَذَا لِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَمَكَثَ وَحَمَلَهَا فِي نَفْسِهِ حَتَّى إِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّاسِ؛ أَعْرَضَ عَنْهُ، وَصَنَعَ بِهِ ذَلِكَ مِرَارًا حَتَّى عَرَفَ الرَّجُلُ الْغَضَبَ فِيهِ وَالإِعْرَاضَ عَنْهُ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لأُنْكِرُ نَظَرَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا أَدْرِي مَا حَدَثَ فِيَّ وَمَا صَنَعْتُ، قَالُوا: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَأَى قُبَّتَكَ، فَقَالَ: «لِمَنْ هَذِهِ؟» فَأَخْبَرْنَاهُ فَرَجَعَ إِلَى قُبَّتِهِ، فَسَوَّاهَا بِالأَرْضِ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَاتَ يَوْمٍ فَلَمْ يَرَ الْقُبَّةَ، فَقَالَ: «مَا فَعَلَتِ الْقُبَّةُ الَّتِي كَانَتْ هَهُنَا؟» قَالُوا: شَكَا إِلَيْنَا صَاحِبُهَا إِعْرَاضَكَ عَنْهُ فَأَخْبَرْنَاهُ فَهَدَمَهَا، قَالَ: إِنَّ كُلَّ بِنَاءٍ يُبْنَى وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلا مَا لا بُدَّ مِنْهُ
قوله: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ} [الشعراء: 129] المصانع التي يتخذها الناس من الأبنية والآبار، قال أبو عبيدة: كل قباء مصنعة.
قال ابن عباس: هي الأبنية.
وقال مجاهد، وقتادة، والكلبي: هي القصور والحصون.
{لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: 129] أي: كأنكم تخلدون، قاله أكثر المفسرين، والمعنى أنهم كانوا يستوثقون المصانع كأنهم يخلدون فيها ولا يموتون، ولعل يأتي في الكلام بمعنى كان، قال يونس في قوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} [الشعراء: 3] معناه: كأنك فاعل ذلك إن لم يؤمنوا.
{وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 130] قال ابن عباس: يريد الضرب بالسياط ضرب الجبارين، والقتل بالسيف بغير حق.
والمعنى: إذا ضربتم ضربتم بالسياط ضرب الجبارين، وإذا عاقبتم قتلتم، ومعنى الجبار ههنا القتال على الغضب بغير حق، وقال الزجاج: وإنما أنكر عليهم ذلك لأنه ظلم، فأما في الحق فالبطش بالسيف والسوط جائز.
وقوله: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} [الشعراء: 132] أي: أعطاكم ما تعلمون من الخير.
ثم أخبرنا بالذي أعطاهم، فقال: {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ {133} وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ {134} إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} [الشعراء: 133-135] قال ابن عباس: يريد إن عصيتموني.
{عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 135] في الدنيا والآخرة، يريد الذي أهلكوا به.
{قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ {136} إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأَوَّلِينَ {137} وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ {138} فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ {139} وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ {140} كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ {141} إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ {142} إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ {143} فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ {144} وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ {145} } [الشعراء: 136-145] {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} [الشعراء: 136] قال الكلبي: نهيتنا أو لم تكن من الناهين لنا.
{إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء: 137] قال مقاتل: قالوا: ما هذا العذاب الذي تقول يا هود إلا كذب الأولين.
وهو قول ابن مسعود، ومجاهد.
والخلق والاختلاف: الكذب، ومنه قوله: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت: 17] وقرئ خلق الأولين بضم الخاء واللام، أي: عادة الأولين، والمعنى: ما هذا الذي نحن فيه إلا عادة الأولين من قبلنا، يعيشون ما عاشوا ثم يموتون، ولا بعث ولا حساب.
{وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الشعراء: 138] على ما نفعل، فكذبوه بالعذاب في الدنيا، فأهلكناهم بالريح، وما بعد هذا مفسر في ال { [إلى قوله:](3/359)
أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَهُنَا آمِنْينَ {146} فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ {147} وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ {148} وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ {149} فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ {150} وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ {151} الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ {152} } [سورة الشعراء: 146-152] {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَهُنَا} [الشعراء: 146] قال مقاتل: يعني فيما أعطاهم الله من الخير.
{آمِنْينَ} [الشعراء: 146] من الموت والعذاب.
ثم أخبر عن ذلك، فقال: {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ {147} وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ {148} } [الشعراء: 147-148] يعني: ما يطلع منها من الثمر، والهضيم: النضيج الرخص اللين اللطيف اليانع، كل هذا من ألفاظهم.
{وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} [الشعراء: 149] حاذقين بنحتها، وهو من قولهم: فره الرجل فراهة فهو فاره.
وقرئ فرهين قال أبو عبيدة: أشرين بطرين.
والهاء من فرهين بدل من الحاء، والفرح في كلام العرب بالحاء الأشر البطر، ومنه قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76] .
قوله: {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} [الشعراء: 151] قال ابن عباس: المشركين.
وقال مقاتل: هم التسعة الذين عقروا الناقة.
وهم {الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} [الشعراء: 152] بالمعاصي، {وَلا يُصْلِحُونَ} [الشعراء: 152] لا يطيعون الله فيما أمرهم به.
{قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ {153} مَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ {154} قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ {155} وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ {156} فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ {157} فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ {158} وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ {159} كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ {160} إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ {161} إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ {162} فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ {163} وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ {164} } [الشعراء: 153-164] قالوا لصالح: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} [الشعراء: 153] أي: ممن سحروا مرة بعد مرة.
وقال ابن عباس: من المخلوقين المعللين بالطعام والشراب.
والمعنى: لست بملك إنما أنت بشر مثلنا.
قال مقاتل: قالوا إنما أنت بشر مثلنا لا تفضلنا في شيء، لست بملك ولا رسول.
{فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء: 154] إنك رسول الله إلينا، قال ابن عباس: إنهم قالوا: إن كنت صادقا فادع الله يخرج لنا من هذا الجبل ناقة حمراء عشراء فتضع ونحن ننظر، وترد هذا الماء فتشرب، وتغدو علينا بمثله لبنا.
فخرج بهم إلى هضبة من الأرض، فإذا هي تخض كما يخض الحامل، فانشقت عن الناقة.
قال: {هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ} [الشعراء: 155] حظ ونصيب من الماء، {وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155] قال قتادة: إذ كان يوم شربها شربت مائهم كله أول النهار وتسقيهم اللبن آخر النهار، وإذا كان يوم شربهم كان لأنفسهم ومواشيهم.
وما بعد هذا مفسر فيما مضى إلى قوله: {(3/360)
أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ {165} وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ {166} قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ {167} قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ {168} رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ {169} فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ {170} إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ {171} ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ {172} وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ {173} إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ {174} وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ {175} } [الشعراء: 165-175] {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ} [الشعراء: 165] وهو جمع الذكر ضد الأنثى، قال مقاتل: يعني نكاح الرجال.
{مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 165] من بني آدم.
{وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الشعراء: 166] يعني: فروج نسائهم، قال مجاهد: تركتم أقبال النساء إلى أدبار الرجال.
{بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء: 166] ظالمون معتدون الحلال إلى الحرام، والطاعة إلى المعصية.
{قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ} [الشعراء: 167] لئن لم تسكت، {يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} [الشعراء: 167] من بلدتنا.
{قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ} [الشعراء: 168] يعني إتيان الرجال، {مِنَ الْقَالِينَ} [الشعراء: 168] المبغضين، يقال: قليته أقليه قلى.
ثم دعا، فقال: {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} [الشعراء: 169] أي: من عذاب ما يعملون.
قال المفسرون: عقوبة صنيعهم.
{فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} [الشعراء: 170] قال ابن عباس: يعني بناته.
{إِلا عَجُوزًا} [الشعراء: 171] يعني امرأته، {فِي الْغَابِرِينَ} [الشعراء: 171] الباقين في العذاب.
{ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ} [الشعراء: 172] أهلكناهم بالخسف والحصب، وهو أن الله خسف بقراهم وأرسل الحجارة على من كان خارجا من القرية.
وهو قوله: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ} [الشعراء: 173] فبئس مطر الذين أنذروا بالعذاب.
{كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ {176} إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ {177} إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ {178} فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ {179} وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ {180} } [الشعراء: 176-180] قوله: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 176] قال ابن عباس: يريد شعيبا وحده، والأيك شجر الدوم، وهو المقل، وكان أكثر شجرهم الدوم.
وقال مجاهد: الأيكة الغيضة من الشجر الملتف.
وقرأ الحجازيون أصحاب ليكة ههنا وفي ق بغير همز، والهاء مفتوحة، قال أبو علي الفارسي: الأيكة تعريف أيكة، فإذا خففت الهمزة حذفتها وألقيت حركتها على اللام، فقلت: ليكة، كما قالوا: لحمر.
وقول من قال: أصحاب ليكة مشكل لأنه فتح التاء مع إلحاق الألف واللام الكلمة، وهذا في الامتناع كقول من قال: مررت بلحمر، فتح الآخر مع إلحاق لم المعرفة.
وقوله: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ {181} وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ {182} وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ {183} وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ {184} قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ {185} وَمَا(3/361)
أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ {186} فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ {187} قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ {188} فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ {189} إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ {190} وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ {191} } [الشعراء: 181-191] {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} [الشعراء: 181] أي: من الناقصين للكيل والوزن، يقال: أخسرت الكيل والوزن، أي أنقصته، ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 3] .
وقوله: {وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ} [الشعراء: 184] الجبلة الخليقة، يعني الأمم المتقدمين قبلهم، لما أمرهم بإتمام الكيل والوزن وتقوى الله، كذبوه وسألوه العذاب إن كان صادقا.
وهو قوله: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء: 187] ومضى تفسير هذا.
قَالَ شعيب: {رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الشعراء: 188] أي: من نقصان الكيل والوزن، والمعنى: إنه أعلم به، فهو مجازيكم ومعذبكم إن شاء، وليس عندي العذاب.
{فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} [الشعراء: 189] قال المفسرون: بعث الله عليهم حرا شديدا أخذ أنفاسهم، فدخلوا أجواف البيوت، فدخل عليهم الحر فأخذ بأنفاسهم، فخرجوا من البيوت هربا إلى البرية، فبعث الله عليهم سحابا أظلتهم من الشمس، فوجدوا لها بردا، ونادى بعضهم بعضا حتى إذا اجتمعوا تحتها أرسل الله عليهم نارا فكان من أعظم يوم في الدنيا عذابا.
فذلك قوله: {إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 189] ومعنى الظلة ههنا السحاب التي قد أظلتهم.
{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ {192} نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ {193} عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ {194} بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ {195} } [الشعراء: 192-195] قوله: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 192] يعني القرآن.
{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء: 193] نَزَّلَ اللهُ بالقرآن جبريل، وهو أمين الله فيما بين الله وبين أنبيائه، فيما استودعه الله من الرسالة إليهم.
وقوله: {عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء: 194] أي: تلاه عليك حتى وعيته بقلبك، {لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء: 194] ممن أنذر بآيات الله المكذبين.
{بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195] قال ابن عباس: بلسان قريش لتفهموا ما فيه، فلا يقولوا لأنفسهم ما يقول محمد.
{وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ {196} أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ {197} وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ {198} فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ {199} } [الشعراء: 196-199] وَإِنَّهُ وإن ذكر القرآن وخبره، {لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196] لفي كتبهم، يعني أن الله أخبر في كتبهم عن القرآن، وأنزله على النبي المبعوث في آخر الزمان، قال مقاتل: وإن أمر محمد ونعته وذكره لفي كتب الأولين.
وهذا كقوله: {يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157] .
قوله: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ(3/362)
بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 197] قال الزجاج: أن يعلمه اسم كان وآية خبره، والمعنى: أو لم يكن لهم علم علماء بني إسرائيل، أن محمدا نبي حق، علامة ودلالة على نبوته، لأن العلماء الذين آمنوا من بني إسرائيل كانوا يخبرون بوجود ذكره في كتبهم.
قال عطية: وكانوا خمسة: عبد الله بن سلام، وابن يامين، وثعلبة، وأسد، وأسيد.
وقرأ ابن عامر تكن بالتاء رفعا، قال الفراء، والزجاج: جعل آية هي الاسم، وأن يعلمه خبر تكن.
{وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ} [الشعراء: 198] يقول: لو نزلنا القرآن على رجل ليس بعربي اللسان.
{فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ} [الشعراء: 199] بغير لغة العرب ما آمنوا به، وقالوا: ما نفقة هذا.
فذلك قوله: {مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 199] .
ثم ذكر سبب تركهم الإيمان، فقال: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ {200} لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ {201} فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ {202} فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ {203} أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ {204} أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ {205} ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ {206} مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ {207} وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنْذِرُونَ {208} ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ {209} } [الشعراء: 200-209] {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} [الشعراء: 200] قال ابن عباس، والحسن، وغيرها: سلك الشرك والتكذيب في قلوب المجرمين.
قال مقاتل: يعني مشركي مكة، أخبر الله أنه أدخل الشرك وجعله في قلوبهم، فلم يؤمنوا إلا عند نزول العذاب حين لم ينفعهم.
وهو قوله: {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [الشعراء: 201] يعني عند الموت.
{فَيَأْتِيَهُمْ} [الشعراء: 202] يعني العذاب، {بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الشعراء: 202] به في الدنيا، فيتمنى الرجعة والنظرة.
وهو قوله: {فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ} [الشعراء: 203] أي: لنؤمن ولنصدق، قال مقاتل: فلما أوعدهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعذاب، قالوا: فمتى العذاب؟ تكذيبا به.
فقال الله تعالى: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ {204} أَفَرَأَيْتَ} [الشعراء: 204-205] يا محمد، {إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ} [الشعراء: 205] يعني: كفار مكة {سِنِينَ} [الشعراء: 205] قال عطاء: يريد منذ أن خلق الله الدنيا إلى أن تنقضي.
وقال الكلبي: يعني مدة أعمارهم.
{ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ} [الشعراء: 206] من العذاب.
{مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء: 207] به في تلك السنين، المعنى أنهم، وإن طال تمتعهم بنعيم الدنيا، فإذا أتاهم العذاب، لم يغن طول التمتع عنهما شيئا، ويكونوا كأنهم لم يكونوا في نعيم قط.
{وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} [الشعراء: 208] بالعذاب في الدنيا، {إِلا لَهَا مُنْذِرُونَ} [الشعراء: 208] يعني: ولا ينذرونهم بالعذاب أنه نازل بهم.
{ذِكْرَى} [الشعراء: 209] موعظة وتذكيرا، {وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الشعراء: 209] فنعذب على غير ذنب، ونعاقب من غير تذكير وإنذار.
{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ {210} وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ {211} إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ {212} } [الشعراء: 210-212] {(3/363)
وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ} [الشعراء: 210] أي القرآن، {الشَّيَاطِينُ} [الشعراء: 210] قال مقاتل: قالت قريش: إنما تجيء بالقرآن الشياطين فتلقيه على لسان محمد، فأنزل الله {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ} [الشعراء: 210] أي: بالقرآن، {الشَّيَاطِينُ {210} وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ} [الشعراء: 210-211] أن ينزلوا به، {وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء: 211] وما يقدرون أن يأتوا بالقرآن من السماء، قد حيل بينه وبين السمع بالملائكة والشهب، وهو قوله: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 212] قال عطاء: عن استماع القرآن لمحجوبون، لأنهم يرجمون بالنجوم.
{فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ {213} وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ {214} وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {215} فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ {216} وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ {217} الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ {218} وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ {219} إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {220} } [الشعراء: 213-220] {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الشعراء: 213] وذلك حين دعي إلى دين آبائه، فقال الله: لا تعبد معه إلها آخر {فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [الشعراء: 213] قال ابن عباس: يحذر به غيره، يقول: أنت أكرم الخلق عليّ، ولو اتخذت من دوني إلها لعذبتك.
قوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] أي: رهطك الأدنين، وهم بنو هاشم، وبنو المطلب خاصة.
677 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْفَارِسِيُّ، نا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْهَرَوِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخُزَاعِيُّ، نا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنِي شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَ، أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ، لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّادُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا صَفِّيَةُ عَمَّةُ رَسُولِ اللَّهِ، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِي مَا شِئْتِ، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ حَرْمَلَةَ، عَنْ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ
678 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أنا أَبُو سَعِيدٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلالِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدَانَ بْنِ يَزِيدَ الْبَجَلِيُّ، نا أَبُو كُرَيْبٍ، نا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} ؛ صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى الصَّفَا، فَقَالَ: يَا صَبَاحَاهُ، فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ، فَقَالُوا: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ مُصَبِّحُكُمْ، أَوْ مُمَسِّيكُمْ، مَا كُنتُمْ تُصَدِّقُونِّي؟ قَالُوا: بَلَى،(3/364)
قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ، أَلِهَذَا دَعَوْتَنَا جَمِيعًا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ إِلَى آخِرِهَا، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الأَعْمَشِ
قوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ} [الشعراء: 215] ألن جانبك، {لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215] قال ابن عباس: يريد أكرم من أتبعك من المصدقين بتوحيد الله، وألزمهم القول، أظهر لهم المحبة والكرامة.
{فَإِنْ عَصَوْكَ} [الشعراء: 216] يعني عشيرتك، {فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء: 216] من الكفر وعبادة غير الله.
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [الشعراء: 217] فوض إليه جميع أمرك، وثق بالله العزيز في نقمته، الرحيم بهم حين لم يعجل عليهم بالعقوبة.
{الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} [الشعراء: 218] إلى الصلاة في قول ابن عباس، ومقاتل.
وقال مجاهد: يراك حين تقوم أينما كنت.
{وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 219] أي: ويرى ركوعك وسجودك وقيامك مع المصلين في الجماعة.
والمعنى: يراك إذا صليت وحدك، ويراك إذا صليت في الجماعة راكعا وساجدا وقائما، هذا قول أكثر المفسرين.
وقال ابن عباس في رواية عطاء، وعكرمة: يريد في أصلاب الموحدين، من نبي إلى نبي حتى أخرجك في هذه الأمة، وما زال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتقلب في أصلاب الأنبياء حتى ولدته أمه.
{إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} [الشعراء: 220] لقولك، {الْعَلِيمُ} [الشعراء: 220] بما في قلبك من الإيمان.
ثم قال لكفار مكة: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ {221} تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ {222} يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ {223} وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ {224} أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ {225} وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ {226} إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ {227} } [الشعراء: 221-227] {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} [الشعراء: 221] .
ثم أخبر، فقال: {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 222] على كل كذاب فاجر، قال قتادة: هم الكهنة، تسترق الجن السمع، ثم يأتون إلى أوليائهم من الإنس.
وهو قوله: {يُلْقُونَ السَّمْعَ} [الشعراء: 223] أي: يلقون ما سمعوه إلى الكهنة، {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء: 223] لأنهم يخلطون به كذبا كثيرا، وهذا كان قبل أن يوحى إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبعد ذلك فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا.
قوله: {وَالشُّعَرَاءُ} [الشعراء: 224] قال ابن عباس: يريد شعراء المشركين.
وذكر مقاتل أسماءهم، فقال: منهم عبد الله بن الزبعري السهمي، وأبو سفيان بن الحارث بن المطلب، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، ومسافع بن عبد مناف الجمحي، وأبو عزة عمرو بن عبد الله، كلهم من قريش، وأمية بن أبي الصلب الثقفي، تكلموا بالكذب والباطل، وقالوا: نحن نقول مثل ما قال محمد.
وقالوا الشعر، واجتمع إليهم غواة من قومهم يستمعون أشعارهم ويرددون عنهم حين يهجون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه.
فذلك قوله: {يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224] يعني: الذين يرددون هجاء المسلمين،(3/365)
وسب الصحابة، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال قتادة ومجاهد: الغاوون الشياطين.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء: 225] يقال: هام يهيم هيمانا وهيما إذا ذهب على وجهه.
قال ابن عباس: في كل فن من الكذب يتكلمون، وفي كل لغو يخوضون.
وقال قتادة: يمدحون بباطل، ويشتمون بباطل، قالوا ذي يمثل الفنون من الكلام.
وهيمانهم فيه قولهم على الجهل بما يقولون من لغو باطل، وغلو في مدح أو ذم.
{وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 226] قال مقاتل: يقولون فعلنا وفعلنا وهم كذبة.
ثم استثنى شعراء المسلمين، فقال: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء: 227] قال الكلبي، ومقاتل: هم عبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت، وسائر شعراء المسلمين الذين مدحوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وردوا هجاء من هجاه.
679 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ شَاذَانَ الصَّيْدَلانِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الأُمَوِيُّ، نا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ مَزْيَدٍ، نا أَبِي، نا الأَوْزَاعِيُّ، نا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَاذَا تَقُولُ فِي الشِّعْرِ؟ فَقَالَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُجَاهِدُ بِسَيْفِهِ وَلِسَانِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَكَأَنَّمَا تَنْضَحُونَهُمْ بِالنَّبْلِ»
680 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ الْجَوْزَقِيُّ، أنا بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بِشْرٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَاجِيَةَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، نا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، نا الْبَرَاءُ، سَمِعْتُ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اهْجُهُمْ، أَوْ هَاجِهِمْ، وَرُوحُ الْقُدُسِ مَعَكَ» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَمْرٍو، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ أَبِيهِ، كِلاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ
681 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو سَهْلٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ الْقَطَّانُ، نا إِسْحَاقُ بْنُ خَالَوَيْهِ، نا عَلِيُّ بْنُ يَحْيَى الْقَطَّانُ، نا هِشَامٌ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّ النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً»
682 - أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، أنا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، أنا أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ، نا أَبِي، عَنْ يُونُسَ، قَالَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: الشِّعْرُ كَلامٌ، فَمِنْهُ حَسَنٌ، وَمِنْهُ قَبِيحٌ، فَخُذِ الْحَسَنَ، وَدَعِ الْقَبِيحَ، وَلَقَدْ رُوِيَتْ أَشْعَارًا مِنْهَا الْقَصِيدَةُ أَرْبَعُونَ وَدُونَ ذَلِكَ
أخبرنا أبو بكر بن الحارث، أنا أبو الشيخ الحافظ، نا محمد بن أحمد بن معدان، نا علي بن مسلم الطوسي، نا هشيم، أنا عمر بن أبي زائدة، عن الشعبي، قال: كان أبو بكر(3/366)
رضي الله عنه يقول الشعر، وكان عمر رضي الله عنه يقول الشعر، وكان علي رضي الله عنه أشعر الثلاثة.
وقوله: {وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الشعراء: 227] أي: لم يشغلهم الشعر عن ذكر الله، ولم يجعلوا الشعر همهم، {وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء: 227] قال مقاتل: انتصروا من المشركين لأنهم بدأوا بالهجاء.
ثم أوعد شعراء المشركين، فقال: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الشعراء: 227] أي: أشركوا وهجوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين، {أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] قال ابن عباس: يعني أنهم ينقلبون إلى نار جهنم يخلدون فيها.(3/367)
سورة النمل
مكية وآياتها ثلاث وتسعون.
683 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ أَبِي الْفَضْلِ الشُّرُوطِيُّ، أنا أَبُو إِسْحَاقَ الأَسَدِيُّ، نا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْيَرْبُوعِيُّ، نا سَلامٌ الْمَدَائِنِيُّ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَمَنْ قَرَأَ طس سُلَيْمَانَ كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، بِعَدَدِ مَنْ صَدَّقَ سُلَيْمَانَ وَكَذَّبَهُ، وَهُودًا، أَوْ شُعَيْبًا، وَصَالِحًا، وَإِبْرَاهِيمَ، وَيَخْرُجُ مِنْ قَبْرِهِ وَهُوَ يُنَادِي: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ "
{طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْءَانِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ {1} هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ {2} الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ {3} إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ {4} أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ {5} وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْءَانَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ {6} } [النمل: 1-6] بسم الله الرحمن الرحيم قوله: {طس} [النمل: 1] قال ابن عباس: هو اسم من أسماء الله تعالى، أقسم الله به.
وقال قتادة: إنه اسم من أسماء القرآن.
وقال مجاهد: هو من الحروف المقطعة التي هي فواتح يفتح الله بها القرآن، وليست من أسمائه.
{تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْءَانِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل: 1] تقدم تفسيره.
{هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [النمل: 2] بيان من الضلالة لمن عمل به، وبشرى بما فيه من الثواب للمصدقين به أنه من عند الله.
ثم نعتهم، فقال: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [النمل: 3] .
{إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} [النمل: 4] لا يصدقون بالبعث، {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} [النمل: 4] قال ابن عباس، ومقاتل: يعني ضلالتهم حتى رأوها حسنة.
فهم يعمهون يترددون فيها متحيرين.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ} [النمل: 5] أشده، {وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ} [النمل: 5] لأنهم خسروا أنفسهم وأهليهم وصاروا إلى النار.
{وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْءَانَ} [النمل: 6] قال السدي: يلقى عليك القرآن وحيا من عند الله الحكيم.
أي: أنزله عليك بعلمه وحكمته.
{إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ {7} فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {8} يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {9} وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ {10} إِلا مَنْ(3/368)
ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ {11} وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ {12} فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ {13} وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ {14} } [النمل: 7-14] قوله: {إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ} [النمل: 7] قال الزجاج: موضع إذ نصب، والمعنى: اذكر إذ قال موسى.
أي: اذكر قصته إذ قال لأهله لامرأته: {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [النمل: 7] أبصرتها، {سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} [النمل: 7] عن الطريق، وكان قد تحير وترك الطريق، فإن لم أجد أحدا يخبرني عن الطريق آتيكم بشعلة نار، وهو قوله: {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ} [النمل: 7] والشهاب أصل خشبة فيها نار ساطع، وتفسير القبس قد سبق، وقرئ بشهاب قبس بالتنوين والإضافة، قال الزجاج: من نون جعل قبس من صفة الشهاب.
ومن أضاف، فقال الفراء: هو مما يضاف إلى نفسه إذا اختلفت الأسماء، كقوله: والدار الآخرة.
وقوله: لعلكم تصطلون لكي تصطلوا من البرد، وكان ذلك في شدة الشتاء، يقال: صلي بالناء واصطلى بها إذا استدفأ.
{فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} [النمل: 8] أي: بورك على من في النار، أو فيمن في النار، قال الفراء: العرب تقول: باركه الله، وبارك عليه، وبارك فيه، بمعنى واحد، والتقدير من في طلب النار، وهو موسى، فحذف المضاف، وهذا تحية من الله عز وجل لموسى بالبركة، كما حيا إبراهيم بالبركة على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه فقالوا: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود: 73] ومذهب المفسرين أن المراد بالنار هو النور، وذلك أن موسى رأى نورا عظيما فظنه نارا، لذلك ذكر بلفظ النار، ومن في النار هم الملائكة، وذلك أن النور الذي رأى موسى كان فيه ملائكة لهم زجل بالتسبيح والتقديس.
ومن حولها هو موسى، لأنه كان بالقرب منها، ولم يكن فيها، والله تعالى نادى موسى لما توجه إلى النار بأنه قد بارك فيه وفي الملائكة الذين كانوا في ذلك النور الذي رآه.
ثم نزه نفسه، فقال: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 8] .
ثم أخبر الله موسى عن نفسه، وتعرف إليه بصفاته وذاته، فقال: {إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النمل: 9] والكناية في إنه للشأن والأمر، أي: إن الشأن والأمر أن المعبود أنا.
وقال الفراء: هذه الهاء عماد، وهو اسم لا يظهر.
ثم أراه على قدرته ليشاهد من قدرة الله ما لم يشاهده قبل، وهو قوله: {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ} [النمل: 10] وفي الآية محذوف تقديره فألقاها فصارت حية، فلما رءاها تهتز كأنها جان قال الزجاج: صارت العصا تتحرك كما يتحرك الجان، وهو الحية الأبيض، وإنما شبهها بالجان في خفة حركتها، وشبهها في موضع آخر بالثعبان لعظمها، وقوله: ولى مدبرا أي: من الخوف من الحية، ولم يعقب يرجع، يقال: عقب فلان إذا رجع، وكل راجع معقب.
وأهل التفسير يقولون: لم يقف ولم يلتفت.
فقال الله: {يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 10] قال ابن عباس: لا يخاف عندي من أرسلته برسالتي، والمعنى: لا يخيف الله الأنبياء، أي: إذا أمنهم لا يخافونه، فكيف تخاف الحية، نهي عن الخوف من الحية، ونبه على أمن المرسلين عند الله، ليعلم أن من آمنه الله من عذابه بالنبوة لا يستحق أن يخاف الحية.
ثم قال: {إِلا مَنْ ظَلَمَ} [النمل: 11] يعني أذنب وظلم نفسه(3/369)
بالمعصية، {ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا} [النمل: 11] أي: توبة وندما، بعد سوء عمله، وفي هذا إشارة إلى أن موسى، وإن ظلم نفسه بقتل القبطي وخاف من ذلك، فإن الله يغفر له لأنه ندم على ذنب وتاب عنه حين قال: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} [القصص: 16] وهذا من الاستثناء المنقطع، والمعنى: لكن من ظلم ثم تاب {فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النمل: 11] إني لا يخاف لدي الأنبياء والتائبون، وقوم يقولون: إلا ههنا بمعنى ولا كأنه، قال: ولا يخاف لدي المرسلون، ولا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء.
ثم أراه آية أخرى، فقال: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} [النمل: 12] الجيب: حيث جيب من القميص، أي قطع من الجيب، قال ابن عباس: كانت عليه جبة زربقانية من صوف، كماها إلى مرفقيه، ولم يكن لها أزرار، وأدخل يده في جيبها فأخرجها وإذا هي تبرق مثل البرق.
فذلك قوله: {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [النمل: 12] من غير برص.
{فِي تِسْعِ آيَاتٍ} [النمل: 12] وقد فسرناها في { [بني إسرائيل،] إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} [سورة النمل: 12] أي: مبعوثا إليهم أو مرسلا، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [النمل: 12] خارجين عن طاعة الله.
{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} [النمل: 13] بينة واضحة، كقوله: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 59] وقد مر.
قالوا هذا أي: هذا الذي نراه عيانا، {سِحْرٌ مُبِينٌ {13} وَجَحَدُوا بِهَا} [النمل: 13-14] أنكروها ولم يقروا بأنها من عند الله، واستيقنتها أنفسهم أنها من عند الله، وأنها ليست بسحر، ظلما وعلوا قال الزجاج: التقدير وجحدوا بها ظلما وعلوا.
أي شركا وتكبرا عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى، وهم يعلمون أنها من عند الله، فانظر يا محمد، {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14] في الأرض بالمعاصي.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ {15} وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ {16} وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ {17} حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ {18} فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ {19} } [النمل: 15-19] قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} [النمل: 15] قال ابن عباس: علما بالقضاء وبكلام الطير والدواب وتسبيح الجبال.
{وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا} [النمل: 15] بالنبوة والكتاب، وإلانة الحديد، وتسخير الشياطين والجن والإنس، {عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ {15} وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} [النمل: 15-16] نبوته وعلمه وملكه، قال قتادة: كان لدواد تسعة عشر ذكرا، فورث سليمان ملكه من بينهم ونبوته.
684 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الطَّبَرِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ بِجُرْجَانَ، أنا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الآبَنْدُونِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الْجُورَبَذِيُّ، نا دَاوُدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْبَيْهَقِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ السَّمَرْقَنْدِيُّ، نا إِسْحَاقُ بْنُ الصَّلْتِ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَرَادَةَ الشَّيْبَانِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي(3/370)
هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: نَزَلَ كِتَابٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى دَاوُدَ مَخْتُومٌ فِيهِ عَشْرُ مَسَائِلَ: أَنْ سَلِ ابْنَكَ سُلَيْمَانَ، فَإِنْ هُوَ أَخْرَجَهُنَّ فَهُوَ الْخَلِيفَةُ مِنْ بَعْدِكَ، قَالَ: فَدَعَا دَاوُدُ سَبْعِينَ قَسًّا وَسَبْعِينَ حَبْرًا، وَأَجْلَسَ سُلَيْمَانَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَقَالَ: يَا بُنَيَّ، نَزَلَ كِتَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ عَشْرُ مَسَائِلَ، أُمِرْتُ أَنْ أَسْأَلَكَهُنَّ، فَإِنْ أَنْتَ أَخْرَجْتَهُنَّ فَأَنْتَ الْخَلِيفَةُ مِنْ بَعْدِي، قَالَ سُلَيْمَانُ: لِيَسْأَلْ نَبِيُّ اللَّهِ عَمَّا بَدَا لَهُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ، قَالَ: أَخْبِرْنِي، يَا بُنَيَّ، مَا أَبْعَدُ الأَشْيَاءِ، وَمَا أَقْرَبُ الأَشْيَاءِ؟ وَمَا آنَسُ الأَشْيَاءِ، وَمَا أَوْحَشُ الأَشْيَاءِ؟ وَمَا أَحْسَنُهَا، وَمَا أَقْبَحُهَا؟ وَمَا أَقَلُّهَا، وَمَا أَكْثَرُهَا؟ وَمَا السَّاعِيَانِ؟ وَالْمُشْتَرِكَانِ؟ وَمَا الْقَائِمَانِ؟ وَمَا الْمُخْتَلِفَانِ؟ وَمَا الْمُتَبَاغِضَانِ؟ وَمَا الأَمْرُ إِذَا رَكِبَهُ الرَّجُلُ حُمِدَ آخِرُهُ، وَمَا الأَمْرُ إِذَا رَكِبَهُ الرَّجُلُ ذُمَّ آخِرُهُ؟ فَقَالَ سُلَيْمَانُ: أَمَّا أَقْرَبُ الأَشْيَاءِ فَالآخِرَةُ، وَأَمَّا أَبْعَدُ الأَشْيَاءِ فَمَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا، وَأَمَّا آنَسُ الأَشْيَاءِ فَجَسَدٌ فِيهِ رُوحٌ، وَأَمَّا أَوْحَشُ الأَشْيَاءِ فَجَسَدٌ لا رُوحَ فِيهِ، وَأَمَّا الْقَائِمَانُ فَالسَّمَاءُ وَالأَرْضُ، وَأَمَّا السَّاعِيَانِ فَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَالْمُشْتَرِكَانِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَأَمَّا الْمُخْتَلِفَانِ فَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَأَمَّا الْمُتَبَاغِضَانِ فَالْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ كُلُّ وَاحِدٍ يُبْغِضُ صَاحِبَهُ، وَأَمَّا الأَمْرُ إِذَا رَكِبَهُ الرَّجُلُ حُمِدَ آخِرُهُ فَالْحِلْمُ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَأَمَّا الَّذِي إِذَا رَكِبَهُ الرَّجُلُ ذُمَّ آخِرُهُ فالعدة عَلَى الْغَضَبِ، قَالَ: فَفَكَّ الْخَاتَمَ فَإِذَا هَذِهِ الْمَسَائِلُ سَوَاءٌ عَلَى مَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، فَقَالَ الْقِسِّيسُونَ وَالأَحْبَارُ: لَنْ نَرْضَى حَتَّى نَسْأَلَهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَإِنْ هُوَ أَخْرَجَهَا فَهُوَ الْخَلِيفَةُ مِنْ بَعْدِكَ، فَقَالَ: سَلُوهُ، قَالَ سُلَيْمَانُ: سَلُونُي وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ، قَالُوا: مَا الشَّيْءُ إِذَا صَلُحَ صَلُحَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ، وَإِذَا فَسَدَ فَسَدَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ؟ قَالَ سُلَيْمَانُ: هُوَ الْقَلْبُ، إِذَا صَلُحَ صَلُحَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ، وَإِذَا فَسَدَ فَسَدَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ، فَقَالُوا: صَدَقْتَ، أَنْتَ الْخَلِيفَةُ بَعْدَهُ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ دَاوُدُ، عَلَيْهِ السَّلامُ، قَضِيبَ الْمُلْكِ، وَمَاتَ مِنَ الْغَدِ
أخبرنا أبو الحسن المؤمن بن محمد السوادي، أنا محمد بن عبد الله بن نعيم، أنا أبو سعيد الأحمشي، نا الحسن بن حميد، نا الحسين بن علي السلمي، نا محمد بن حسان، عن محمد بن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: اعطي سليمان بن داود عليه السلام ملك مشارق الأرض ومغاربها، فملك سبع مائة سنة وستة أشهر، ملك أهل الدنيا كلهم من الجن والإنس والشياطين والدواب والطير والسباع، واعطي علم كل شيء وملك كل شيء، وفي زمانه صنعت الصنائع المعجبة التي سمع بها الناس، وذلك قوله: {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 16] .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْحَافِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، بِالْكُوفَةِ، نا حَامِدُ بْنُ بِلالِ بْنِ الْحَسَنِ الْبُخَارِيُّ، نا دَاوُدُ بْنُ طَلْحَةَ، نا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ الْخَلِيلُ، نا مُوسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، نا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الدِّيكُ الأَبْيَضُ صَدِيقِي وَصَدِيقُ صَدِيقِي وَعَدُوُّ عَدُوِّي، قَالُوا: فَمَا يَقُولُ الدِّيكُ إِذَا صَاحَ؟ قَالَ: يَقُولُ: اذْكُرُوا اللَّهَ يَا غَافِلِينَ "
686 - أنا أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَكَرِيَّا الشَّيْبَانِيُّ، أنا أَبُو سَهْلِ بْنُ بِشْرٍ، نا سمانَةُ بِنْتُ حَمْدَانَ بْنِ مُوسَى الأَنْبَارِيَّةُ، بِالأَنْبَارِ، قَالَتْ: نا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى ابْنُ الْعَسْكَرِيِّ، نا(3/371)
أَحْمَدُ بْنُ كَثِيرٍ الْوَاسِطِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَهْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَامَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَقَالُوا: أَنْتَ ابْنُ عَبَّاسٍ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالُوا: أَنْتَ ابْنُ عَمِّ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَالسَّفِيرُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ جِبْرِيلُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، قَالُوا: فَإِنَّا قَوْمٌ قَدْ قَرَأْنَا الْكُتُبَ وَعَرَفْنَا مَا فِيهَا، وَنَحْنُ سَائِلُونَ عَنْ سَبْعَةِ أَشْيَاءَ، فَإِنْ أَنْتَ أَخْبَرْتَنَا بِهَا آمَنَّا وَصَدَّقْنَا، قَالَ: سَلُونِي تَفَقُّهًا، وَلا تَسْأَلُونِي تَفَنُّنًا، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَعَا لِي فَقَالَ: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ» فَعَلِمْتُ أَنَّ دَعْوَةَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَلْحَقُنِي، سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ، قَالُوا: أَخْبِرْنَا مَا يَقُولُ4، وَالزُّرْزُورِ، وَالدُّرَّاجُ، وَالدِّيكُ فِي صَقِيعِهِ، وَالْحِمَارُ فِي نَهِيقِهِ، وَالضِّفْدِعُ فِي نَقِيقِهِ، وَالْفَرَسُ فِي صَهِيلِهِ، قَالَ: نَعَمْ، أُخْبِرُكُمْ؛ أَمَّا الْقُنْبُرُ فَإِنَّهُ يَقُولُ فِي صَفِيرِهِ: اللَّهُمَّ الْعَنْ مُبْغِضِي مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَأَمَّا الزُّرْزُورُ فَإِنَّهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ قُوتَ يَوْمٍ بِيَوْمٍ يَا رَازِقُ، وَأَمَّا الدُّرَّاجُ فَيَقُولُ: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، وَأَمَّا الدِّيكُ فَإِنَّهُ يَقُولُ: اذْكُرُوا اللَّهَ يَا غَافِلِينَ، وَأَمَّا الضِّفْدِعُ فَإِنَّهُ يَقُولُ فِي نَقِيقِهِ: سُبْحَانَ الْمَعْبُودِ فِي لُجَجِ الْبِحَارِ، وَأَمَّا الْحِمَارُ فَإِنَّهُ يَقُولُ فِي نَهِيقِهِ: اللَّهُمَّ الْعَنِ الْعَشَّارَ، وَأَمَّا الْفَرَسُ فَإِنَّهُ يَقُولُ فِي صَهِيلِهِ إِذَا الْتَقَتِ الْفِئَتَانِ وَمَشَى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ: سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلائِكَةِ وَالرُّوحِ، قَالُوا: يَابْنَ عَبَّاسٍ، نَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَسْلَمُوا وَحَسُنَ إِسْلامُهُمْ، قَالَ الْفَرَّاءُ: مَنْطِقُ الطَّيْرِ كَلامُ الطَّيْرِ، فَجَعَلَهُ كَمَنْطِقِ الرَّجُلِ إِذَا فَهِمَ
وأنشد قول حميد بن ثور:
عجبت أنى يكون عناؤها فصيحا ... ولم يقر بمنطقها فما
ومعنى الآية: فهمنا ما تقول الطير، {وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 16] قال ابن عباس: يريد من أمر الدنيا والآخرة.
وقال مقاتل: يعني الملك والنبوة والكتاب، وتسخير الرياح، وسخرة الجن والشياطين، ونطق الطير.
إن هذا الذي أعطينا، {لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} [النمل: 16] الزيادة الظاهرة على ما أعطي غيرنا.
قوله: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ} [النمل: 17] أي: جمع له جموعه وكل صنف من الخلق جند على حدة، يدل عليه قوله: {مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ} [النمل: 17] قال المفسرون: كان سليمان إذا أراد سفرا أمر فجمع طوائف من هولاء الجنود على بساط واحد، ثم يأمر الريح فتحملهم بين السماء والأرض.
والمعنى: وجمع لسليمان جنوده في مسير له، قال محمد بن كعب: بلغنا أن سليمان بن داود عسكره مائة فرسخ: خمسة وعشرون منها للإنس، وخمسة وعشرون منها للجن، وخمسة وعشرون للوحش، وخمسة وعشرون للطير، وكان له ألف بيت من قوابر على الخشب فيها ثلاث مائة كتيبة وسبع مائة سرية، فيأمر الريح العاصفة فترفعه، ويأمر الرخاء فتسير به، فأوحى الله إليه وهو(3/372)
يسير بين السماء والأرض إني قد زدت في ملكك أنه لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء إلا جاءت به الريح فأخبرتك به، وقوله: فهم يوزعون قال قتادة: على صنف من جنوده وزعة ترد أولاهم على أخراهم، يعني: ليجتمعوا ويتلاحقوا وهو من الوزع الذي هو الكف، يقال: وزعته أزعه وزعا، والشيب وازع، أي مانع، قال الليث: والوازع في الحرب الموكل بالصفوف، يزع ما تقدم منهم.
{حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ} [النمل: 18] أي أشرفوا عليه، قال كعب: هو بالطائف.
وقال قتادة، ومقاتل: هو بالشام.
قالت نملة أي: صاحت بصوت خلقه الله لها، ولما كان ذلك الصوت مفهوما لسليمان عبر عنه بالقول.
قال أهل المعاني: ومعرفة النملة معجزة له، ألهمها الله معرفته حتى عرفته وحذرت النمل حطمه، وهو قولها: {يَأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} [النمل: 18] والنمل تعرف كثيرا من منافعها من ذلك، إنها تكسر الحبة بقطعتين لئلا تنبت إلا الكزبرة فإنها تكسر بأربع قطع لأنها تنبت إذا كسرت بقطعتين، فالذي هداها إلى هذا هو الذي ألهمها معرفة سليمان، ومعنى لا يحطمنكم لا يكسرنكم، والحطم الكسر، والحطام ما تحطم، وقوله: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل: 18] أي: بحطمكم ووطئكم.
قال مقاتل: قد علمت النملة إنه ملك لا بقي فيه، وإنه إن علم بها قبل أن يغشاها لم يتوطأها، لذلك قالت: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل: 18] وهذا يدل على أن سليمان وجنوده كانوا ركبانا ومشاة على الأرض، ولم تحملهم الريح، لأن الريح لو حملتهم بين السماء والأرض ما خافت النمل أن يتواطأها بأرجلهم، ولعل هذه القصة كانت قبل تسخير الله الريح لسليمان، قال المفسرون: طارت الريح بكلام النملة فادخلته أذن سليمان، فلما سمع كلامها تبسم، وذلك قوله: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} [النمل: 19] قال الزجاج: أكثر ضحك الأنبياء عليهم السلام التبسم، وضاحكا حال، ومعناه متبسما، وليس المراد بلفظ الضحك أكثر من التبسم، وسبب ضحك سليمان عليه السلام من قول النملة التعجب، وذلك أن الإنسان إذا رأى ما لا عهد له به تعجب وضحك.
وقال مقاتل: ثم حمد ربه حين علمه منطق كل شيء وسمع كلام النملة.
{وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} [النمل: 19] أي ألهمني، {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [النمل: 19] يقال: فلان موزع بكذا، أي مولع به، وقوله: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19] أي: أدخلني في جملتهم، وأثبت اسمي مع أسمائهم، واحشرني في زمرتهم، قال ابن عباس: يريد مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ومن بعدهم من النبيين.
قوله: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ {20} لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ {21} } [النمل: 20-21] وتفقد الطير التفقد: طلب ما غاب عنك، والطير اسم جامع للجنس، وكانت الطير تصحب سليمان في سفره، تظله بأجنحتها، والمعنى أنه طلب ما فقد من الطير، {فَقَالَ مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل: 20] أي: ما للهدهد لا أراه، يقول العرب: ما لي أراك كئيبا؟ معناه ما لك، ولكنه من القلب الذي يوضحه المعنى، والهدهد طائر معروف.
قال مجاهد: سئل ابن عباس: كيف تفقد سليمان الهدهد من بين الطير؟ فقال: إن سليمان نزل منزلا ولم يدر ما بعد الماء، وكان الهدهد يدله على الماء إذا أراد أن ينزل، فلما فقده سأل عنه، وذلك أن الهدهد يرى الماء في الأرض كما يرى الماء في الزجاجة.
687 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّانَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، نا سَالِمُ بْنُ نُوحٍ، نا أَبُو الْمُعَلَّى(3/373)
الْعَطَّارُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ ذَكَرَ الْهُدْهَدَ، فَقَالَ: إِنَّ سُلَيْمَانَ طَلَبَهُ؛ لأَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ مِسْقَاةَ الْمَاءِ، وَإِنَّ الصَّبِيَّ يَضَعُ لَهُ الْفَخَّ، فَيُغَطِّي عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنَ التُّرَابِ فَيَجِيءُ فَيَقَعُ فِيهِ، فَيُقَالُ: وَيْحَكَ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْقَدَرَ يَحُولُ دُونَ الْبَصَرِ
688 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ، أنا عَبْدُ اللَّهِ، أنا أَبُو الْحُرَيْشِ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى الْكِلابِيُّ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ فُلَيْحٍ الْمَكِّيُّ، نا الْيَسَعُ بْنُ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِذَا نَزَلَ الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ ذَهَبَ اللُّبُّ وَعَمِيَ الْبَصَرُ
وقوله: {أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل: 20] قال الزجاج: معناه بل كان من الغائبين.
وقال المبرد: لما تفقد سليمان الطير ولم ير الهدهد فقال: {مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل: 20] على تقدير أنه مع جنوده، وهو لا يراه، ثم أدركه الشك، فشك في غيبته عن ذلك الجمع حيث لم يره، فقال: {أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل: 20] أي: بل أكان من الغائبين، كأنه ترك الكلام الأول واستفهم عن حال غيبته.
ثم أوعده، فقال: {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا} [النمل: 21] قال المفسرون: تعذيبه إياه أن ينتف ريشه، ثم يلقيه في الشمس، فلا يمتنع من نملة ولا من شيء من هوام الأرض.
أو لأذبحنه لأقطعن حلقه، {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل: 21] بحجة بينة في غيبته، أصله ليأتينني بنونين كما يقرأ ابن كثير، ولكن حذفت النون التي قبل ياء المتكلم لاجتماع النونات.
{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ {22} إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ {23} وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ {24} أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ {25} اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ {26} } [النمل: 22-26] {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل: 22] أي: لم يلبث إلا يسيرا حتى جاء الهدهد، {فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل: 22] أي: علمت شيئا من جميع جهاته، ما لم تعلم.
قال ابن عباس: فأتاه الهدهد بحجة، فقال: اطلعت على ما لم تطلع عليه.
وقال مقاتل: قال الهدهد: علمت ما لم تعلم، وجئتك بأمر لم تعلم، وجئتك بأمر لم تخبرك به الجن، ولم تعلمك به الإنس، وبلغت ما لم تبلغه أنت ولا جنودك.
وهو قوله: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ} [النمل: 22] وقرئ من سبأ بالتنوين، قال الزجاج: من لم يصرف فلأنه اسم مدينة تعرف بمأرب من اليمن، بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام، من صرف ثلاثة اسم البلد فيكون منكرا سمي به مذكر، وروي في الحديث أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل(3/374)
عن سبأ، فقال: «كان رجلا له عشر من البنين» .
وقد تكلمت العرب فيه الأجواد وغير الأجواد، وقال جرير:
الواردون وتيم في ذرى سبأ
وقال آخر:
من سبأ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما
وقوله: بنبأ يقين قال ابن عباس: الخبر الصادق، فقال سليمان: وما ذاك؟ فقال الهدهد: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} [النمل: 23] يعني: بلقيس ملكة سبأ، قال مجاهد: كان تحت يدها اثنا عشر ألف قيل، والقيل بلغتهم الملك، تحت يدي كل قيل ألف مقاتل.
{وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] قال عطاء: من زينة الدنيا من المال، والجنود، والعلم.
{وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23] قال: يريد سريرا من ذهب، طوله ثمانون ذراعا، وعرضه أربعون ذراعا، وارتفاعه في السماء ثلاثون ذراعا، مضروب بالذهب، مكلل بالدر والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر، قوائمه من زبرجد أخضر.
أخبر الهدهد أنها وقومها على غير دين الله، وهو قوله تعالى: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النمل: 24] الآية، إلى قوله: ألا يسجدوا ومن قرأ بالتشديد كان المعنى فقدهم عن السبيل لئلا يسجدوا، ثم حذفت، قاله الزجاج، وقال الفراء: زين لهم الشيطان أعمالهم لئلا يسجدوا، ثم حذفت اللام.
ومن قرأ بالتخفيف كان المعنى: ألا يا قوم، أو يا مسلمون اسجدوا لله الذي خلق السموات والأرض خلافا عليهم، وحمدا لله لمكان ما هداكم لتوحيده، فلم تكونوا مثلهم في الطغيان والكفر، وعلى هذه القراءة هذا كلام معترض من غير القصة، إما من الهدهد وإما من سليمان.
وقال أبو عبيدة: هذا أمر من الله مستأنف.
يعني: ألا يا أيها الناس: اسجدوا لله.
قرأه العامة لئلا تنقطع القصة بما ليس فيها.
وقوله: {يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النمل: 25] يقال: خبأت الشيء أخبأه خبأ، والخبء ما خبأته لوقت.
قال الزجاج: جاء في التفسير أن الخبأ ههنا من السماء، والنبات من الأرض، وعلى هذا في تكون بمعنى من، وكذا هو في قراءة عبد الله، ويجوز أن يكون يعني الخبأ الغيب، فيكون المعنى: يعلم الغيب في السموات والأرض، وهذا قول قتادة، ويعلم ما تخفون في قلوبهم، وما(3/375)
يعلنون بألسنتهم، وقرأ الكسائي بالتاء لأن أول الآية خطاب على قراءته بتخفيف الآيات اسجدوا كذلك آخر الآية.
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 26] أي: هو الذي يستحق العبادة لا غيره، وهو رب العرش العظيم، لا ملكة سبأ، لأن عرشها، وإن كان عظيما، لا يبلغ عرش الله في العظمة، فلما فرغ الهدهد من كلامه.
{قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ {27} اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ {28} قَالَتْ يَأَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ {29} إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {30} أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ {31} } [النمل: 27-31] قال سليمان للهدهد: سننظر فيما حدثتنا من هذا القصة، أصدقت فيما قلت، {أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل: 27] .
ثم كتب سليمان كتابا، وختمه بخاتمه، ودفعه إلى الهدهد، فذلك قوله تعالى فيما قلت: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} [النمل: 28] يعني: إلى أهل سبأ، {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} [النمل: 28] قال مقاتل: يغرب عنهم.
وهذا على التقديم والتأخير، والتقدير فانظر ماذا يرجعون، ثم تول عنهم لأن التولي عنهم بعد الجواب، ومعنى {فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل: 28] ماذا يردون من الجواب.
فمضى الهدهد بالكتاب، فألقاه إليهم، فقالت: {يَأَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29] قال قتادة: أتاها الهدهد وهي نائمة مستلقية على قفاها، فألقى الكتاب على نحرها، فقرأت الكتاب، وأخبرت قومها، وقالت: ألقي إلي كتاب كريم.
قال عطاء، والضحاك: سمته كريما لأن كان مختوما.
وهو قول ابن عباس في رواية سعيد بن جبير يدل على صحة هذا التفسير.
689 - مَا أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدَانَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ السَّلِيطِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ طَلْحَةَ الْيَرْبُوعِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ السُّدِّيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِكْرَامُ الْكِتَابِ خَتْمُهُ
وقال قتادة، ومقاتل: كتاب كريم: حسن.
وهو اختيار الزجاج، قال: حسن ما فيه.
ثم بينت ممن الكتاب، فقالت: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} [النمل: 30] أي أن الكتاب من عنده، وإنما وإن المكتوب فيه: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {30} أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ} [النمل: 30-31] قال ابن عباس: لا تتكبروا علي.
والمعنى: لا تترفعوا عليّ وأتوني مسلمين منقادين طائعين، قال قتادة: وكذلك كانت الأنبياء تكتب جملا لا تطيل، يعني أن هذا القدر الذي ذكره الله كان كتاب سليمان.
ثم أرسلت إلى قومها فاجتمعوا إليها فاستشارتهم.
{قَالَتْ يَأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ {32} قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ {33} قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً(3/376)
وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ {34} وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ {35} } [النمل: 32-35] و {قَالَتْ يَأَيُّهَا الْمَلأُ} [النمل: 32] تعني: الأشراف، وكانوا ثلاث مائة عشر قائدا، وهم أهل مشورتها، {أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} [النمل: 32] أشيروا عليّ وبينوا لي ما أعمل، {مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا} [النمل: 32] فاعلته وقاضيته، حتى تشهدون تحضروني، أي: إلا بحضوركم ومشورتكم.
قالوا مجيبين: {نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ} [النمل: 33] أي: في الأبدان، في معنى قول ابن عباس، وفي قول مقاتل: أرادوا كثرة العدد.
{وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} [النمل: 33] يعني: الشجاعة في الحرب، ذكروا لها قوتهم وشجاعتهم وهذا تعريض منهم بالقتال إن أمرتهم بذلك، ثم قالوا: والأمر إليك أي: في القتال وتركه، فانظري من الرأي، ماذا تأمرين ماذا تشيرين علينا.
قالت مجيبة لهم عن التعريض بالقتال {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} [النمل: 34] قال الزجاج: أي إذا دخلوها عنوة عن قتال وغلبة أفسدوها، أي: أهلكوها وخربوها.
{وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} [النمل: 34] أهانوا أشرافها وكبراءها كي يستقيم لهم الأمر، ومعنى الآية أنها حذرتهم مسير سليمان إليهم ودخوله بلادهم، وانتهى الخبر عنها، وصدقها الله فيما قالت، فقال: وكذلك يفعلون أي: وكما قالت هي يفعلون.
ثم قالت: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} [النمل: 35] قال السدي: تختبر بذلك سليمان لتعرف أملك هو أم نبي؟ فبعثت إليه بغلمان وجوار في قول أكثر المفسرين، قال ابن عباس: مائة وصيف ومائة وصيفة.
وقال مقاتل، ومجاهد: مائتي غلام ومائتي جارية.
وقال قتادة، وسعيد بن جبير: أرسلت بلبنة من ذهب في حرير وديباج.
{فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 35] بقبول أم رد.
{فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ {36} ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ {37} } [النمل: 36-37] {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ} [النمل: 36] أي: جاء الرسول سليمان، {قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} [النمل: 36] أي: أتزيدونني مالا؟ وهذا استفهام إنكار، يعني أنه لا يحتاج إلى مالهم لأن الله أعطاه ما هو خير من ذلك، وهو قوله: {فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ} [النمل: 36] أي: من الإسلام والنبوة والملك، {خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ} [النمل: 36] من المال، {بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النمل: 36] يعني: إذا أهدى بعضكم إلى بعض، وأما أنا فلا أفرح بها.
ثم قال سليمان للرسول: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} [النمل: 37] أي: لا طاقة لهم بها، ولنخرجنهم منها من سبأ وهي قريتهم، {أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل: 37] .
فلما رجع إليها الرسول قالت: قد عرفت ما هذا بملك، ومالنا به من طاقة.
فتجهزت للمسير إليه، وأخبر جبريل سليمان أنها خرجت من اليمن مقبلة إليه.
{قَالَ يَأَيُّهَا الْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ {38} قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ {39} قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ {40} } [النمل: 38-40](3/377)
قال سليمان: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل: 38] وإنما قال هذا سليمان بعد أن قربت منه، وكانت على مسيرة فرسخ من سليمان، وأحب أن يأخذ عرشها قبل أن تسلم، فلا يحل له أخذ ما لها، وذلك قوله: {قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 38] منقادين طائعين.
{قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ} [النمل: 39] وهو المارد القوي الغليظ الشديد، {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} [النمل: 39] يعني: من مجلسك الذي تقضي فيه، وكان سليمان يجلس في مجلسه للقضاء غدوة إلى نصف النهار، قال مقاتل: قال العفريت: أنا أضع قدمي عند منتهى بصري، فليس شيء أسرع مني.
وإني عليه أي: على حمله، لقوي أمين على ما فيه من الذهب والجواهر.
فقال سليمان: أريد أسرع من ذلك {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} [النمل: 40] وهو آصف بن برخيا، وكان صديقا يعلم الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب، وهذا قول أكثر المفسرين في الذي عنده علم من الكتاب، {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 40] قال سعيد بن جبير: قال لسليمان انظر إلى السماء، فما طرف حتى جاء به، فوضعه بين يديه.
والمعنى: حتى يعود إليك طرفك بعد مدة إلى السماء، وقال مجاهد: معنى ارتداد الطرف إدامة النظر حتى يرتد إليه طرفه خاسئا، وعلى هذا معنى الآية أن سليمان يمد بصره إلى أقصاه، وهو يديم النظر، فقبل أن ينقلب إليه بصره حسيرا يكون قد أتي بالعرش.
قال محمد بن إسحاق: انخرق مكان العرش حيث هو هناك ثم نبع بين يدي سليمان.
ونحو هذا روى عكرمة، عن ابن عباس، قال: جرى تحت الأرض حتى نبع بين يدي سليمان.
وقال الكلبي: خر آصف ساجدا ودعا باسم الله الأعظم، فغار عرشها تحت الأرض حتى نبع عند كرسي سليمان.
وقال أهل المعاني: لا ينكر من قدرة الله أن يعدمه من حيث كان، ثم يوجده حيث كان سليمان بلا فصل بدعاء الذي عنده علم من الكتاب، ويكون كرامة للولي، ومعجزة للنبي.
واختلفوا في ذلك الذي دعا به آصف: فقال مقاتل، ومجاهد هذا: يا ذا الجلال والإكرام.
وقال الكلبي: يا حي يا قيوم.
أخبرنا محمد بن موسى بن الفضل، أنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار، نا ابن أبي الدنيا، أنا عبيد الله بن عمير الخيثمي، عن المنهال بن عيسى، عن غالب القطان، عن بكر بن عبد الله، قال: قال سليمان بن داود لصاحب العرش: قد رأيتك تراجع شفتيك، فما قلت؟ قال: قلت: إلهي وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت، ائت به.
وقوله: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ} [النمل: 40] في الآية محذوف تقديره فدعا الله فأتى به، فلما رآه مستقرا عنده ثابتا بين يديه، {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} [النمل: 40] أي: هذا التمكين من حصول المراد من فضل الله وعطائه، قال قتادة: والله ما جعله فخرا ولا بطرا، ولكنه جعله منة لله وفضلا منه.
ليبلوني ليختبرني، أأشكر الله فيما أعطاني من نعمة، {أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ} [النمل: 40] ربه، {فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [النمل: 40] لأجل لنفسه، يفعل ذلك لأن ثواب شكره يعود إليه، {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ} [النمل: 40] عن شكره، كريم بالإفضال على من يكفر نعمه، قال المفسرون: خافت الشياطين أن يتزوج سليمان بلقيس فتفشي إليه أسرار الجن، وذلك أن أمها كانت جنية، ولا ينفكون من تسخير سليمان وذريته بعده لو تزوجها، فأساءوا الثناء عليها ليزهدوا فيها، وقالوا: إن في عقلها شيئا، وإن رجلها كحافر الحمار.
فأراد سليمان أن يختبر عقلها بتنكير عرشها.
فذلك قوله: {(3/378)
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ {41} فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ {42} وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ {43} قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {44} } [النمل: 41-44] {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} [النمل: 41] التنكير التغيير، يقول: غيروا سريرها إلى حال تنكره إذا رأته.
قال قتادة، ومقاتل: هو أن يزاد فيه أو ينقص.
ننظر أتهتدي لمعرفته، {أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ} [النمل: 41] أي: من القوم الذين لا يهتدون ولا يعرفون.
فلما جاءت المرأة، {قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ} [النمل: 42] قال مجاهد: جعلت تعرف وتنكر، وعجبت من حضورها عرشها عند سليمان.
ف {قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} [النمل: 42] وقال مقاتل: عرفته، ولكنها شبهت عليهم كما شبهوا عليها، ولو قيل لها: أهذا عرشك؟ لقالت: نعم.
قال عكرمة: كانت حكمية، قالت: لئن قلت هو هو خشيت أن أكذب، وإن قلت لا خشيت أن أكذب.
فقالت: كأنه هو.
شبهته به.
قيل لها: فإنه عرشك، فما أغني عنك إغلاق الأبواب.
وكانت قد خلفته وراء سبعة أبواب لما خرجت، فقال: وأوتينا العلم لصحة النبوة، من قبلها من قبل الآية في العرش، وكنا مسلمين طائعين منقادين لأمر سليمان.
{وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النمل: 43] أي: منعها من التوحيد الذي كانت تعبد من دون الله، وهو الشمس، قال الفراء: معنى الكلام وصدها من أن تعبد الله ما كانت تعبد.
{إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل: 43] استئناف خبر الله تعالى أنها كانت من قوم يعبدون الشمس، فنشأت فيما بينهم ولم تعرف إلا عبادة الشمس.
وأراد سليمان أن ينظر إلى قدمها من غير أن يسألها كشفها، إذ قيل له: إن رجلها كحافر الحمار.
فأمر أن يهيأ لها بيت من قوارير فوق الماء، ووضع سرير سليمان في صدر البيت، و {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ} [النمل: 44] قال ابن قتيبة: الصرح بلاط اتخذ لها من قوارير، وجعل تحته ماء وسمك.
ونحو هذا قال الزجاج في الصرح: إنه الصحن، يقال: هذه مساحة الدار، وصرحة الدار.
{فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً} [النمل: 44] وهي معظم الماء، {وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} [النمل: 44] لدخول الماء، قال ابن عباس: لما كشفت عن ساقيها رأى سليمان قدما لطيفا، وساقا حسنا خدلجا أزب، فقال لناصحه من الشياطين: كيف لي أن أقلع هذا الشعر من غير مضرة للجسد؟ فعلمه عمل النورة.
فكانت النورة والحمامات من يومئذ، فلما رأى ساقها وقدمها ناداها سليمان، ف {قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} [النمل: 44] أي: من الزجاج وليس بماء، قال مقاتل: لما رأت السرير والصرح علمت أن ملك سليمان من الله.
ف {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} [النمل: 44] بعبادة غيرك، {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44] أخلصت له التوحيد، قال عون بن عبد الله: جاء رجل إلى عبد الله بن عتيبة، فسأله: هل تزوجها سليمان؟ قال: عهدي بها أن قالت: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44] يعني أنه لا يعلم ذلك، وأن آخر ما سمع من حديثها {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} [النمل: 44] .(3/379)
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ {45} قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ {46} قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ {47} } [النمل: 45-47] قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل: 45] أي: مؤمنون وكافرون، كل فريق يقول الحق معي.
فقال صالح للفريق المكذب: {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} [النمل: 46] أي: بالعذاب قبل الرحمة، أي: لم قلتم إن كان ما تأتينا به حقا فأتنا بالعذاب، لولا هلا، {تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ} [النمل: 46] من الشرك، {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل: 46] فلا تعذبون في الدنيا.
{قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} [النمل: 47] تشاءمنا بك وبمن على دينك، وذلك أنهم قحط المطر عنهم، وجاعوا، فقالوا: أصابنا هذا الشر من شؤمك وشؤم أصحابك.
فقال لهم صالح: {طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [النمل: 47] قال ابن عباس: الشؤم أتاكم من عند الله بكفركم.
وهذا كقوله: {يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [الأعراف: 131] .
وقوله: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} [النمل: 47] تختبرون بالخير والشر.
{وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ {48} قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ {49} وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ {50} فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ {51} فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ {52} وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ {53} } [النمل: 48-53] {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ} [النمل: 48] يعني: التي بها صالح، وهي الحجر، تسعة رهط وهم غواة قوم صالح، {يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} [النمل: 48] يعملون فيها بالمعاصي، ولا يصلحون ولا يطيعون الله.
قالوا فيما بينهم: تقاسموا بالله احلفوا بالله لنبيتنه لنقتلن صالحا، وأهله بياتا، ومن قرأ بالنون كأنهم قالوا: أقسموا بالله لنفعلن كذا، والأمر بالقسم في القراءتين دخل في الفعل معهم، {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ} [النمل: 49] أي: لذي رحم صالح، إن سألنا عنه: {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} [النمل: 49] ما قتلناه، وما ندري من قتله وأهله، والمهلك يجوز أن يكون مصدرا بمعنى الإهلاك، ويجوز أن يكون الموضع، وروى عاصم بفتح الميم واللام، يريد الهلاك، يقال: هلك هلاكا يهلك مهلكا، وروى(3/380)
حفص عنه بفتح الميم وكسر اللام، وهو اسم المكان على معنى: ما شهدنا موضع هلاكهم ومكانه.
قال الزجاج: وكان هؤلاء النفر تحالفوا أن يبيتوا صالحا وأهله، ثم ينكروا عند أوليائه أنهم فعلوا ذلك، أو رأوه وكان هذا مكر عزموا عليه.
قال الله عز وجل: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا} [النمل: 50] جازيتهم جزاء مكرهم بتعجيل عقوبتهم، {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل: 50] بمكر الله بهم.
فانظر كيف كان عاقبة مكرهم إنا دمرناهم وقرئ أنا بالفتح، قال الزجاج، والفراء: من كسر استأنف، فهو يفسر به ما كان قبله مثل قوله: فلينظر الإنسان إلى طعامه إنا صببنا ومن فتح رده على إعراب ما قبله جعله تابعا للعاقبة، كأنه قال: العاقبة أنا دمرناهم.
قال ابن عباس: أرسل الله الملائكة تلك الليلة إلى دار صالح يحرسونه فأتى التسعة دار صالح شاهرين سيوفهم، فرمتهم الملائكة بالحجارة من حيث يرون الحجارة ولا يرون الملائكة، فقتلتهم.
وقال مقاتل: نزلوا في سفح جبل ينتظر بعضهم بعضا ليأتوا دار صالح، فجثم عليهم الجبل فأهلكهم.
وقوله: {وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل: 51] يعني بصيحة جبريل.
{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} [النمل: 52] قال الزجاج: نصب خاوية على الحال، والمعنى: فانظر إلى بيوتهم خاوية.
{بِمَا ظَلَمُوا} [النمل: 52] بظلمهم وشركهم بالله أهلكناهم حتى صارت منازلهم خاوية خالية ساقطة على عروشها، {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [النمل: 52] في هلاكهم، {لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [النمل: 52] لعبرة لمن علم توحيد الله وقدرته.
{وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا} [النمل: 53] صدقوا صالحا من العذاب وكانوا يتقون الشرك.
{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ {54} أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ {55} فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ {56} فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ {57} وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ {58} } [النمل: 54-58] ولوطا واذكر لوطا، {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} [النمل: 54] الذين أرسل إليهم أتأتون الفاحشة يعني: اللواط في قول الجميع، وأنتم تبصرون وأنتم تعلمون أنها فاحشة، وهو من البصر الذي هو العلم، وهذه الآيات التي في هذه القصة مفسرة في { [الأعراف.
وقوله:] بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [سورة النمل: 55] قال ابن عباس: تجهلون القيامة وعاقبة العصيان.
وقوله: {قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} [النمل: 57] جعلناها بتقديرنا وقضائنا عليها أنها من الباقين في العذاب، وما بعد هذا مفسر في { [الشعراء.
قوله:] قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىءَاللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ {59} أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ {60} } [سورة النمل: 59-60] {(3/381)
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [النمل: 59] هذا خطاب لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أمر أن يحمد الله على هلاك كفار الأمم الخالية، {وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] قال مقاتل: هم الأنبياء الذين اختارهم الله لرسالته.
وقال ابن عباس في رواية أبي مالك: هم أصحاب محمد بن عبد الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال في رواية عطاء: هم الذين وحدوه، وآمنوا به.
وقال في رواية الكلبي: هم أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اصطفاهم الله لمعرفته وطاعته.
ومعنى السلام عليهم: أنهم سلموا مما عذب به الكفار.
ثم قال مخاطبا المشركين: {ءَاللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59] يا أهل مكة، أي: الله خير لمن عبده أم الأصنام لعابديها، إلزام للحجة على المشركين، قيل لهم بعدما ذكر هلاك الكفار: الله خير أم الأصنام.
والمعنى أن الله نجى من عبده من الهلاك، والأصنام لم تغن عن عابديها عند نزول العذاب، وكان المشركين يتوهمون في الأصنام وفي عبادتها خيرا، فقيل لهم احتجاجا: الله خير أما تشركون.
قوله: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [النمل: 60] تقدير الكلام أما تشركون خير من خلق السموات والأرض، {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [النمل: 60] يعني المطر {فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ} [النمل: 60] جمع حديقة، وهي كل روضة وحائط وبستان عليه حائط، وما لم يكن عليه حائط لا يقال حديقة ذات بهجة ذات منظر حسن، والبهجة الحسن، يبتهج به من رآه، {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل: 60] أي: ما ينبغي لكم ذلك، لأنكم لا تقدرون عليها.
ثم قال مستفهما منكرا عليهم: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل: 60] أي: هل معه معبود سواه أعانه على صنعه، بل ليس معه إله هم قوم يعني: كفار مكة، يعدلون يشركون بالله غيره.
{أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النمل: 61] {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا} [النمل: 61] مستقرا لا يميد بأهلها، وجعل خلالها فيما بينها، أنهارا كقوله: {وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا} [الكهف: 33] .
{وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} [النمل: 61] جبالا ثوابت أثبت بها الأرض {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا} [النمل: 61] مانعا من قدرته بين العذب والملح، فلا يختلط أحدهما بالآخر، {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النمل: 61] توحيد ربهم وسلطانه وقدرته.
{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62] {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ} [النمل: 62] المكروب المجهود، إذا دعاه فيكشف ضره، وهو قوله: {وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل: 62] يخلف كل قرن منكم القرن الذي قبله، والمعنى: يهلك قرنا فينشئ آخرين.
{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62] قال ابن عباس: قليلا ما تتعظون.
ومن قرأ بالياء، فالمعنى: قليلا تذكر هؤلاء المشركين.
{أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 63] أمن يهديكم يرشدكم إلى مقاصدكم {فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [النمل: 63] وهذا كقوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 97] .(3/382)
{أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 64] {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ} [النمل: 64] في الأرحام من نطفة، ثم يعيده بعد الموت، {وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ} [النمل: 64] المطر، ومن الأرض النبات، {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [النمل: 64] حجتكم، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 64] أن لي شريكا صنع من هذه الأشياء.
{قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ {65} بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ {66} وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ {67} } [النمل: 65-67] {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ} [النمل: 65] يعني الملائكة، والأرض يعني الناس، الغيب ما غاب عن العباد، إلا الله وحده، {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل: 65] ولا يعلمون متى يكون البعث، والمعنى أن الله هو الذي يعلم الغيب ويعلم متى البعث لا غيره.
{بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ} [النمل: 66] ادارك معناه تدارك، أي: تتابع وتلاحق، ومنه قوله: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا} [الأعراف: 38] .
وقرأ ابن كثير بل أدرك أي: بلغ ولحق، كما تقول: أدركه علمي، أي بلغه ولحقه.
قال ابن عباس: يريد ما جهلوه في الدنيا وسقط علمه عنهم علموه في الآخرة.
وقال السدي: اجتمع علمهم يوم القيامة، فلم يشكوا ولم يختلفوا.
وقال مقاتل: يقول: بل علموا في الآخرة حين عاينوا ما شكوا فيه وعموا عنه في الدنيا.
وهو قوله: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا} [النمل: 66] بل هم اليوم في الدنيا في شك من الساعة، {بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل: 66] جمع عَمٍ، وهو الأعمى القلب.
قال الكلبي: يقول: هم جهلة بها.
وما بعد هذا مفسر في { [المؤمنين إلى قوله:] لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ {68} قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ {69} وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ {70} } [سورة النمل: 68-70] {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [النمل: 69] والآية ظاهرة.
{وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [النمل: 70] على كفار مكة، والمعنى: على تكذيبهم إياك وإعراضهم عنك، {وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ} [النمل: 70] وقرئ في ضيق بكسر الضاد، وهما لغتان، قال ابن السكيت: يقال في صدر فلان ضيق أو ضيق، وهو ما يضيق عنه الصدر.
وهذه الآية مفسرة في آخر { [النحل.
] وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {71} قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ {72}(3/383)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ {73} وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ {74} وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ {75} } [سورة النمل: 71-75] {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [النمل: 71] الذي تعدنا يا محمد من العذاب، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 71] بأنه يكون.
{قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72] يقال: ردفت الرجل وأردفته إذا ركبت خلفه، قال ابن عباس: {رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72] قرب لكم.
وقال السدي: أقرب لكم.
وقال قتادة: أزف لكم.
والمعنى أن الله أمر نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول للذين يستعجلون العذاب قدرنا، {لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} [النمل: 72] من العذاب، فكان بعض الذي نالهم ببدر وسائر العذاب لهم فيما بعد الموت.
ثم ذكر فضله في تأخير العذاب، فقال: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [النمل: 73] قال مقاتل: على أهل مكة حين لا يعجل عليهم بالعذاب، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ} [النمل: 73] ذلك.
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} [النمل: 74] تخفي وتستر صدورهم، وما يعلنون بألسنتهم من عداوتك والخلاف عليك، أي: إنه يعلم ذلك فيجازيهم به.
قوله: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ} [النمل: 75] أي: جملة غائبة، {فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [النمل: 75] قال المفسرون: ما من شيء غائب وأمر يغيب عن الخلق، {فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل: 75] إلا هو بين اللوح المحفوظ، قال مقاتل: يريد علم ما تستعجلون من العذاب، هو مبين عند الله، ولئن غاب عن الخلق.
{إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ {76} وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ {77} إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ {78} فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ {79} إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ {80} وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ {81} } [النمل: 76-81] {إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل: 76] قال الكلبي: إن أهل الكتاب اختلفوا فيما بينهم فصاروا أحزابا وشيعا، يطعن بعضهم على بعض، ويتبرأ بعضهم من دين بعض، فنزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه إن أخذوا به وأسلموا.
وإنه وإن القرآن، لهدى من الضلالة، ورحمة من العذاب لمن آمن به.
{إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ} [النمل: 78] قال مقاتل، والكلبي: بين أهل الكتاب يقضي بينهم يوم القيامة.
{بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ} [النمل: 78] الغالب فلا يمكن رد قضائه، العليم بما يحكم، فهو يقضي بين المختلفين بما لا يمكن أن يرد.
{فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [النمل: 79] ثق به، {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 79] على الدين البين، أي: إن العاقبة لك بالنصر.
ثم ضرب للكفار مثلا، فقال: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80] شبه كفار مكة بالأموات، يقول: كما لا يسمع الميت النداء كذلك لا يسمع الكافر النداء.
{وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل: 80] قال قتادة: لو أن أصم وَلَّى مدبرا، ثم ناديته لم يسمع، كذلك الكافر لا يسمع ما يدعى إليه من الإيمان.
ومعنى الآية أنهم لفرط إعراضهم عما يدعون إليه من التوحيد، كالميت الذي لا سبيل إلى إسماعه، والصم الذين لا يسمعون.
ثم ضرب العمى مثلا لهم أيضا، فقال: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ} [النمل: 81] أي: ما أنت بمرشد من أعماه الله عن الهدى وأعمى قلبه عن الإيمان، وقرأ حمزة تهدي العمي على(3/384)
الفعل، وحجته قوله: {أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ} [يونس: 43] والمعنى أنك لا تهديهم، عن ضلالتهم لشدة عنادهم، إن تسمع ما تسمع سماع إفهام، {إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} [النمل: 81] قال مقاتل: إلا من صدق بالقرآن أنه من الله.
فهم مسلمون مخلصون بتوحيد الله.
قوله: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل: 82] {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} [النمل: 82] قال ابن عباس: حق العذاب عليهم.
وقال قتادة: إذا غضب الله عليهم.
والمعنى: حق، ووجب أن ينزل بهم ما قال الله، وحكم به من عذابه، وسخطه عليهم، أي: على الكفار الذين تخرج الدابة عليهم، وهو قوله: {أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ} [النمل: 82] وذلك حين لا يؤمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، وقال مخلد بن الحسين: لا تخرج الدابة حتى لا يبقى أحد يريد أن يؤمن.
قالوا: وتخرج الدابة من صدر الصفا.
690 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحَمْنِ بْنُ الْحَسَنِ التَّاجِرُ، نا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْخُتَّلِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، نا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، نا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ رَبَاحِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بِئْسَ الشِّعْبُ جِيَادٌ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلاثًا، قَالُوا: وَلِمَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «تَخْرُجُ مِنْهُ الدَّابَّةُ فَتَصْرُخُ ثَلاثَةَ صَرَخَاتٍ يَسْمَعُهَا مَنْ بَيْنِ الْخَافِقَيْنِ»
691 - أَخْبَرَنِي أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فِي كِتَابِهِ، أنا أَبُو الْفَضْلِ الْحَدَّادِيُّ، أنا أَبُو يَزِيدَ الْخَالِدِيُّ، أنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا عُمَرُ بْنُ هَارُونَ، نا سَوَادَةُ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مَكَّةَ، وَهُوَ عَلَى الصَّفَا إِذْ قَرَعَ الصَّفَا بِعَصَاهُ، وَهُوَ مُحْرِمٌ قَدْ عَصَبَ رَأْسَهُ بِشِرَاكٍ، وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ الدَّابَّةَ لَتَسْمَعُ قَرْعَ عَصَايَ هَذِهِ
692 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أنا أَبُو الْفَضْلِ، أنا أَبُو يَزِيدَ، أنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، نا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: هِيَ دَابَّةٌ ذَاتُ زَغَبٍ وَرِيشٍ، لَهَا أَرْبَعُ قَوَائِمَ
693 - وَبِهَذَا الإِسْنَادِ، عَنْ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، نا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، نا أَوْسُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: تَخْرُجُ الدَّابَّةُ وَمَعَهَا عَصَا مُوسَى وَخَاتَمُ سُلَيْمَانَ، فَتَجْلُو وَجْهَ الْمُؤْمِنِ بِالْعَصَا، وَتَخْتِمُ وَجْهَ الْكَافِرِ بِالْخَاتَمِ، حَتَّى إِنَّ أَهْلَ الْخِوَانِ يَجْتَمِعُونَ، يَقُولُ هَذَا: يَا مُؤْمِنُ، وَيَقُولُ هَذَا: يَا كَافِرُ
وقوله: تكلمهم قال مقاتل:(3/385)
تكلمهم بالعربية، فتقول: {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل: 82] تخبر الناس أن أهل مكة لم يؤمنوا بالقرآن، والبعث، والثواب والعقاب، وقرئ أن الناس بفتح الهمزة وكسرها، فمن فتح أراد تكلمهم الدابة بأن الناس، ومن كسر فلأن معنى تكلمهم تقول لهم إن الناس، والكلام قول.
{وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ {83} حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {84} وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ {85} أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {86} } [النمل: 83-86] قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا} [النمل: 83] الفوج الجماعة من الناس كالزمرة، وإنما يريد الرؤساء والمتبوعين في الكفر حشروا وجمعوا لإقامة الحجة عليهم، وقوله: فهم يوزعون مفسر في هذه ال { [.
] حَتَّى إِذَا جَاءُوا} [سورة النمل: 84] إلى موقف الحشر، قال الله لهم: أكذبتم بآياتي هذا استفهام معناه الإنكار عليهم، والوعيد لهم.
قال ابن عباس: كذبتم أنبيائي، وجحدتم فرائضي وحدودي.
{وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا} [النمل: 84] قال ابن عباس: ولم تختبروا حتى تفقهوا وتسمعوا.
وقال مقاتل: ولم يحيطوا علما أنها باطل.
ومعنى هذا: أكذبتم غير عالمين بها، يعني: ولم تتفكروا فيها.
ووقع القول وجب العذاب، {عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا} [النمل: 85] بما أشركوا، {فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ} [النمل: 85] بحجة عن أنفسهم.
ثم احتج عليهم بقوله: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [النمل: 86] يبصر فيه، أي: ليبغى فيه الرزق، {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [النمل: 86] فيما جعلنا، {لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النمل: 86] .
{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ {87} وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ {88} مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ {89} وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {90} } [النمل: 87-90] {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} [النمل: 87] قال ابن عباس: يريد النفخة الأولى.
{فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [النمل: 87] أي: ماتوا لشدة الخوف، كقوله: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الزمر: 68] والمعنى: يبلغ منهم الفزع إلى أن يموتوا، وقوله: {إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل: 87] قال ابن عباس: يريد الشهادة، وهم أحياء عند ربهم يرزقون.
وقال الكلبي، ومقاتل: يعني جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت.
وقوله: وكل أي: من الأحياء الذي ماتوا، ثم أحيوا.
أتوه(3/386)
يأتون الله يوم القيامة، وقرأ حمزة أتوه على الفعل، داخرين صاغرين، وقد تقدم.
{وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} [النمل: 88] واقفة في مكانها لا تسير، {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: 88] حتى تعلق على الأرض فتستوي بها، صنع الله أي: صنع الله ذلك، {الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88] أبرم خلق وأحكمه، ومعنى الإتقان في اللغة الإحكام للأشياء، إنه خبير بما يفعلون بما يفعل أعداؤه من المعصية والكفر، وبما يفعل أولياؤه من الطاعة، ومن قرأ بالتاء فهو خطاب للكافة.
وقوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} [النمل: 89] بكلمة الإخلاص شهادة أن لا إله إلا الله، والمعنى: من وافى يوم القيامة بالإيمان، {فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} [النمل: 89] قال ابن عباس: فمنها يصل الخير إليه.
والمعنى: له من تلك الحسنة خير يوم القيامة، وهو الثواب والنجاة من العذاب، وخير منها هنا اسم من غير تفضيل، {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل: 89] قرئ بالتنوين والإضافة، قال أبو علي الفارسي: إذا نون يجوز أن يعني به فزع واحد، ويجوز أن يعني به الكثرة، لأنه مصدر، والمصادر تدل على الكثرة، وإن كانت مفردة الألفاظ كقوله: {إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19] وكذلك إذا أضيفت يجوز أن يعني به مفرد، ويجوز أن يعني به كثرة.
وعلى هذا القراءتان سواء لا فضل بينهما، فإن أريد به الكثرة فهو شامل لكل فزع، وإن أريد به واحد فتفسيره ما ذكرنا في قوله: {الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} [الأنبياء: 103] .
وقال الكلبي: إذا أطبقت النار على أهلها، فزعوا فزعة لم يفزعوا مثلها، وأهل الجنة آمنون من ذلك الفزع.
{وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} [النمل: 90] يعني بالشرك، {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} [النمل: 90] يقال: كببت الرجل إذا ألقيته لوجهه فانكب وأكب.
وتقول لهم الخزنة: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا} [النمل: 90] جزاء، {مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 90] في الدنيا من الشرك.
694 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَامِدٍ الْعَدْلُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الْعَتَكِيُّ، نا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْمُسْلِمِيُّ، نا حَفْصُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ الْمُرَادِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَاءَ الإِيمَانُ وَالشِّرْكُ يَجْتَمِعَانِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ، عَزَّ وَجَلَّ، فَيَقُولُ اللَّهِ لِلإِيمَانِ: انْطَلِقْ أَنْتَ وَأَهْلُكَ إِلَى الْجَنَّةِ، وَيَقُولُ لِلشِّرْكِ: انْطَلِقْ أَنْتَ وَأَهْلُكَ إِلَى النَّارِ، قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} يَعْنِي: قَوْلَهُ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} يَعْنِي: الشِّرْكَ، {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} "
قوله: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ {91} وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْءَانَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ {92} وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ {93} } [النمل: 91-93] {(3/387)
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} [النمل: 91] وهي مكة، جعلها الله حرما آمنا من القتل فيها والسبي والظلم، فلا يصاد صيدها، ولا يختلى خلاها، {وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} [النمل: 91] لأنه خالقه ومالكه، {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [النمل: 91] المخلصين لله بالتوحيد.
{وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْءَانَ} [النمل: 92] عليكم يا أهل مكة، يريد تلاوة الدعوة إلى الإيمان، {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} [النمل: 92] له ثواب اهتدائه، ومن ضل عن الإيمان بالقرآن، وأخطأ طريق الهدى، {فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [النمل: 92] من المخوفين، فليس عليّ إلا البلاغ، وكان هذا قبل أن يؤمر بالقتال.
{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [النمل: 93] على نعمه، سيريكم آياته قال مقاتل: يعني العذاب في الدنيا والقتل ببدر.
فتعرفونها حين تشاهدونها على نعمة النبوة، ثم أراهم ذلك، وضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم، وعجلهم الله إلى النار، {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [النمل: 93] وعيد لهم بالجزاء على أعمالهم.(3/388)
سورة القصص
مكية وآياتها ثمان وثمانون.
695 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْخَفَّافُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ مُسْلِمٍ الْمَدَائِنِيِّ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ طسم الْقَصَصَ لَمْ يَبْقَ مَلَكٌ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّهُ كَانَ صَادِقًا أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»
{طسم {1} تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ {2} نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {3} إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ {4} وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ {5} وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ {6} } [القصص: 1-6] بسم الله الرحمن الرحيم {طسم {1} تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ {2} } [الشعراء: 1-2] تقدم تفسيره، قال قتادة: مبين والله بركته وهداه ورشده، فهذا من بان بمعنى ظهر، وقال الزجاج: مبين الحق من الباطل، والحلال من الحرام، وهذا من آيات بمعنى أظهر.
{نَتْلُوا عَلَيْكَ} [القصص: 3] قال ابن عباس: نوحي إليك.
{مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ} [القصص: 3] من خبرهما وحديثهما، بالحق بالصدق الذي لا ريب فيه، لقوم يؤمنون يصدقون بالقرآن.
{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ} [القصص: 4] قال المفسرون: استكبر وتجبر، وبغى وتعاظم في أرض مصر.
قال الليث: العلو العظمة والتجبر، يقال: علا الملك علوا إذا تجبر، ومنه قوله: {لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ} [القصص: 83] .
{وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} [القصص: 4] فرقا وأحزابا في الخدمة والتسخير، {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} [القصص: 4] يعني: بني إسرائيل، ثم فسر ذلك، فقال: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص: 4] بترك البنات، فلا يقتلهن، ويقتل الأبناء، وذلك لأن بعض الكهنة قال له: إن(3/389)
مولودا يولد في بني إسرائيل يكون سبب في ذهاب ملكك.
قال الزجاج: والعجب من حمق فرعون إن كان هذا الكاهن عنده صادقا فما ينفع القتل، وإن كان كاذبا فما معنى القتل.
وقوله: {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4] بالقتل والعمل بالمعاصي.
{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ} [القصص: 5] أي: ننعم عليهم، وهم بنو إسرائيل، {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} [القصص: 5] يقتدى بهم في الخير، وقال قتادة: ولاة وملوكا.
قال مجاهد: دعاة إلى الخير.
{وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5] لملك فرعون، يخلفونه بعده في مساكنه.
{وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} [القصص: 6] قال ابن عباس: نملكهم ما كان يملك فرعون وقومه {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 6] أي: ما كانوا يخافونه من المولود الذي يذهب ملكهم على يده.
وقرأ حمزة ويرى بالياء فرعون وما بعده رفعا، والاختيار قراءة العامة، ليكون الكلام من وجه واحد.
قوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ {7} فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ {8} وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ {9} } [القصص: 7-9] {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7] قال قتادة: قذفنا في قلبها وليس بوحي إرسال.
وقال مقاتل: أتاها جبريل بذلك.
696 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ أَبِي نَصْرٍ السَّوَادِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ نُعَيْمٍ، أنا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الإِسْفَرَايِينِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْبَرَاءِ، أنا عَبْدُ الْمُنْعِمِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: لَمَّا حَمَلَتْ أُمُّ مُوسَى بِمُوسَى، عَلَيْهِ السَّلامُ، كَتَمَتْ أَمْرَهَا مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ، فَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَى حَبَلِهَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، وَذَلِكَ شَيْءٌ سَتَرَهُ اللَّهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَمُنَّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا كَانَتِ السَّنَةُ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا مُوسَى بَعَثَ فِرْعَوْنُ الْقَوَابِلَ وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِنَّ فَفَتَّشَ النِّسَاءَ تَفْتِيشًا لَمْ يُفَتِّشْهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَحَمَلَتْ أُمُّ مُوسَى بِمُوسَى فَلَمْ يَنْمُ بَطْنُهَا، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهَا، وَلَمْ يَظْهَرْ لَبَنُهَا، وَكَانَتِ الْقَوَابِلُ لا تَعْرَضُ لَهَا، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا مُوسَى وَلَدْتُهُ أُمُّهُ وَلا رَقِيبَ عَلَيْهَا وَلا قَابِلَةَ، وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا أَحَدٌ إِلا أُخْتُهُ مَرْيَمُ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهَا: {أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} قَالَ: فَكَتَمَتْهُ أُمُّهُ ثَلاثَةَ أَشْهُرٍ تُرْضِعُهُ فِي حِجْرِهَا لا يَبْكِي وَلا يَتَحَرَّكُ، فَلَمَّا خَافَتْ عَلَيْهِ عَمِلَتْ لَهُ تَابُوتًا مُطْبَقًا، وَمَهَّدَتْ لَهُ فِيهِ، ثُمَّ أَلْقَتْهُ فِي الْبَحْرِ لَيْلا كَمَا أَمَرَهَا اللَّهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ فِرْعَوْنُ جَلَسَ فِي مَجْلِسِهِ عَلَى شَاطِئِ النِّيلِ فَبَصَرَ بِالتَّابُوتِ، فَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ مِنْ خَدَمِهِ: ايتُونِي بِهَذَا التَّابُوتِ، فَأَتَوْهُ بِهِ، فَلَمَّا وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَتَحُوهُ فَوَجَدَ فِيهِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلامُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ فِرْعَوْنُ؛ قَالَ: عَبْرَانِيٌّ مِنَ الأَعْدَاءِ، فَغَاظَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: أَخْطَأَ هَذَا(3/390)
الْغُلامَ الذَّبْحُ؟ وَكَانَ فِرْعَوْنُ قَدِ اسْتَنْكَحَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، يُقَالُ لَهَا: آسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ، وَكَانَتْ مِنْ خِيَارِ النِّسَاءِ وَمِنْ بَنَاتِ الأَنْبِيَاءِ، وَكَانَتْ أُمًّا لِلْمُسْلِمِينَ تَرْحَمُهُمْ وَتَتَصَدَّقُ عَلَيْهِمْ وَتُعْطِيهِمْ وَيَدْخُلُونَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ لِفِرْعَوْنَ وَهِيَ قَاعِدَةٌ إِلَى جَنْبِهِ: هَذَا الْوَلِيدُ أَكْبَرُ مِنَ ابْنِ سَنَةٍ، وَإِنَّمَا أَمَرْتَ أَنْ يُذْبَحَ الْوِلْدَانُ لِهَذِهِ السَّنَةِ، فَدَعْهُ يَكُونُ قُرَّةَ عَيْنٍ لِي وَلَكَ، {لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أَنَّ هَلاكَهُمْ عَلَى يَدَيْهِ، فَاسْتَحْبَاهُ فِرْعَوْنُ وَوَمَقَهُ وَأَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِ مَحَبَّتَهُ وَرَأْفَتَهُ، وَقَالَ لامْرَأَتِهِ: عَسَى أَنْ يَنْفَعَكِ، فَأَمَّا أَنَا فَلا أُرِيدُ نَفْعَهُ، قَالَ وَهْبٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ أَنَّ عَدُوَّ اللَّهِ قَالَ فِي مُوسَى كَمَا قَالَتِ امْرَأَتُهُ آسِيَةُ {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} لَنَفَعَهُ اللَّهُ بِهِ، وَلَكِنَّهُ أَبَى لِلشَّقَاءِ الَّذِي كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَحَرَّمَ اللَّهُ مُوسَى الْمَرَاضِعَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ، كُلَّمَا أَتَى بِمُرْضَعَةٍ لَمْ يَقْبَلْ ثَدْيُهَا، فَرَقَّ لَهُ فِرْعَوْنُ وَرَحِمَهُ وَطَلَبَ لَهُ الْمَرَاضِعَ، وَذَكَرَ وَهْبٌ حُزْنَ أُمِّ مُوسَى وَبُكَاءَهَا عَلَيْهِ حَتَّى كَادَتْ أَنْ تُبْدِيَ بِهِ، ثُمَّ تَدَارَكَهَا اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، وَرَبَطَ عَلَى قَلْبِهَا، وَقَالَتْ لأُخْتِهِ: تَنَكَّرِي وَاذْهَبِي مَعَ النَّاسِ، فَانْظُرِي مَاذَا يَفْعَلُونَ بِهِ، فَدَخَلَتْ أُخْتُهُ مَعَ الْقَوَابِلِ عَلَى آسِيَةَ بِنْتِ مُزَاحِمٍ، فَلَمَّا رَأَتْ وَجْدَهُمْ بِمُوسَى وَحُبَّهُمْ لَهُ وَرِقَّتَهُمْ عَلَيْهِ؛ قَالَتْ: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} إِلَى أَنْ رُدَّ إِلَى أُمِّهِ، فَمَكَثَ مُوسَى عِنْدَ أُمِّهِ إِلَى أَنْ فَطَمَتْهُ، ثُمَّ رَدَّتْهُ فَنَشَأَ مُوسَى فِي حِجْرِ فِرْعَوْنَ وَامْرَأَتِهِ يُرَبِّيَانِهِ، وَاتَّخَذَهُ وَلَدًا، فَبَيْنَا هُوَ يَلْعَبُ يَوْمًا بَيْنَ يَدَيْ فِرْعَوْنَ وَبِيَدِهِ قَضِيبٌ بِهِ إِذْ رَفَعَ الْقَضِيبَ فَضَرَبَ بِهِ رَأْسَ فِرْعَوْنَ فَغَضِبَ فِرْعَوْنُ وَتَطَيَّرَ مِنْ ضَرْبِهِ حَتَّى هَمَّ بِقَتْلِهِ، فَقَالَتْ آسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ: لا تَغْضَبْ وَلا يَشُقَّنَّ عَلَيْكَ، فَإِنَّهُ صَبِيٌّ صَغِيرٌ لا يَعْقِلُ، جَرِّبْهُ إِنْ شِئْتَ، اجْعَلْ فِي هَذَا الطَّشْتِ جَمْرًا وَذَهَبًا، فَانْظُرْ عَلَى أَيِّهِمَا يَقْبِضُ، فَأَمَرَ فِرْعَوْنُ بِذَلِكَ، فَلَمَّا مَدَّ مُوسَى يَدَهُ لِيَقْبِضَ عَلَى الذَّهَبِ قَبَضَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ عَلَى يَدِهِ، فَرَدَّهَا إِلَى الْجَمْرَةِ، فَقَبَضَ عَلَيْهَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا فِي فِيهِ، ثُمَّ قَذَفَهَا حِينَ وَجَدَ حَرَارَتَهَا، فَقَالَتْ آسِيَةُ لِفِرْعَوْنَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّهُ لا يَعْقِلُ شَيْئًا، فَكَفَّ عَنْهُ فِرْعَوْنُ وَصَدَّقَهَا، وَكَانَ أَمَرَ بِقَتْلِهِ، وَيُقَالُ: إِنَّ الْعُقْدَةَ الَّتِي كَانَتْ فِي لِسَانِ مُوسَى أَنَّهُ أَثَرُ تِلْكَ الَّتِي الْتَقَمَهَا
وقوله: {وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي} [القصص: 7] قال مقاتل: قالت المرأة: رب إني قد علمت أنك قادر على ما تشاء، ولكن كيف لي أن ينجو صبي صغير من عمق البحر وبطون الحيتان.
فأوحى الله إليها: لا تخافي عليه الضيعة، فإني أوكل به ملكا يحفظه في اليم، ولا تحزني لفراقه، {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} [القصص: 7] لتمام رضاعه لتكوني أنت ترضعينه، {وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7] إلى أهل مصر.
{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} [القصص: 8] الالتقاط إصابة الشيء من غير طلب، والمراد بآل فرعون الذين أخذوا تابوت موسى من البحر، {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] وقرئ وحزنا وهما لغتان، مثل: السقم والسقم وبابه، ومعنى ليكون: ليصير الأمر إلى ذلك، لا أنهم أخذوه لهذا، كما تقول للذي كسب مالا فأداه ذلك إلى الهلاك: إنما كسب فلان لحتفه، وهو لم يطلب المال طلبا للحتف.
{وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ} [القصص: 9] مضى تفسيره إلى قوله: {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [القصص: 9] قال المفسرون: كانت لا(3/391)
تلد فاتخذت موسى ولدا لها.
وقوله: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص: 9] أخبر الله أن هلاكهم بسببه وهم لا يشعرون بذلك.
{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {10} وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ {11} وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ {12} فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ {13} } [القصص: 10-13] {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} [القصص: 10] أي: خاليا من الصبر والحزن لشدة الوجد به والخوف عليه، والمفسرون يقولون: فارغا من كل شيء إلا من أمر موسى، كأنها لم تهتم لشيء مما يهتم به الحي إلا لأمر ولدها.
{إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} [القصص: 10] كادت تخبر أن هذا الذي وجدتموه في التابوت هو ابني، وقال سعيد بن جبير: كادت تقول: واإبناه، من شدة الجزع.
وقال مقاتل: كادت تصيح شفقة عليه من الفرق.
والمعنى أنها همت أن تشعر أهل مصر بأن موسى ولدها.
{لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} [القصص: 10] بالصبر واليقين، قال الزجاج: ومعنى الربط على القلب إلهام الصبر وتقويته.
ذكرنا ذلك عند قوله: {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} [الأنفال: 11] .
{لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 10] المصدقين بوعد الله حين قال لها: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} [القصص: 7] .
وقالت لأخته لأخت موسى: قصيه اتبعي أثره وانظري أين وقع وإلى من صار، واعلمي علمه، يقال: قصصت الشيء إذا تتبعت أثره متعرفا حاله قصا وقصصا.
فبصرت به أبصرته، عن جنب عن بعد تبصره ولا تتوهم أنها تراه، قال الفراء: كانت على شاطئ البحر حين رأت آل فرعون قد التقطوه وهم لا يعلمون أنها أخته، وأنها ترقبه.
قال ابن عباس: إن امرأة فرعون كان همها من الدنيا أن تجد له مرضعة تأخذه منها، فكلما أتوه بمرضعة لم يأخذ ثديها، فذلك قوله: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [القصص: 12] وهي جمع مرضعة.
قال سعيد بن جبير: لا يؤتى بمرضع فيقبلها.
وقوله: من قبل أي: من قبل أن يرده إلى أمه، ومن قبل أن تأتيه أمه، وذلك أن الله تعالى أراد أن يرده إلى أمه، فمنعه من قبول ثدي المراضع، فلما تعذر عليهم رضاعته فقالت أخته: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} [القصص: 12] أي: يضمنون لكم القيام به ورضاعه، {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص: 12] يشفقون عليه وينصحونه، قالوا لها: من؟ قالت: أمي.
قالوا: ولأمك لبن؟ قالت نعم، لبن هارون.
وكان هارون ولد في سنة لا يقتل فيها صبي، فقالوا: صدقت.
فدلتهم على أم موسى، فدفع إليها تربيه، فلما وجد الصبي ريح أمه قبل ثديها، وأتم الله لها ما وعدها، وهو قوله: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} [القصص: 13] بولدها، ولا تحزن لفراقه، {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ} [القصص: 13] برد ولدها إليها، حق علم وعيان ومشاهدة، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص: 13] أن الله وعدها رده إليها.
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ {14} وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ {15} قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي(3/392)
فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {16} قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ {17} } [القصص: 14-17] {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} [القصص: 14] قال مجاهد: ثلاثا وثلاثين سنة.
واستوى استواؤه أربعون سنة، وهو قول ابن عباس، وقتادة.
{آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [القصص: 14] يعني: الفقه والعقل والعلم في دينه ودين آبائه، فعلم موسى وحكم قبل أن يبعث نبيا، وهذه الآية مفسرة في { [يوسف.
] وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ {14} وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ} [سورة القصص: 14-15] قال السدي: ركب فرعون وموسى غير شاهد، فلما جاء موسى قيل له إن فرعون قد ركب مركب في أثره، فأدركه المقيل بأرض يقال لها منف.
وهو قوله: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} [القصص: 15] قال ابن عباس: في الظهيرة عند المقيل، وقد خلت الطريق.
{فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15] أحدهما إسرائيلي، والآخر قبطي يسخر الإسرائيلي ليحمل حطبا إلى مطبخ فرعون، {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15] فاستنصر الإسرائيلي موسى على القبطي، فوكزه موسى الوكز: الضرب بجميع الكف.
{فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص: 15] أي: قتله وكل شيء فرغت منه وأتممته فقد قضيت عليه وقضيته، وكان موسى شديد البطش، وكز القبطي وكزة قتله منها، وهو لا يريد قتله، {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص: 15] أي: هيج غضبي حتى ضربت هذا إنه عدو لابن آدم، مضل له، مبين عداوته، وكان ذلك قتل خطأ، لأنه لم يقصد القتل، وندم على ما فعل لأنه لم يؤمر به.
ثم استغفر، ف {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {16} قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [القصص: 16-17] بالمغفرة، {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص: 17] قال ابن عباس: عونا للكافرين.
وهذا يدل على أن الإسرائيلي الذي أعانه موسى كان كافرا، وهو قول مقاتل.
وقال قتادة: لن أعين بعدها على فجرة.
{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ {18} فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ {19} } [القصص: 18-19] {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ} [القصص: 18] يعني: تلك المدينة التي فعل فيها ما فعل من قتل القبطي، {خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص: 18] ينتظر سوءا يناله منهم، والترقب: انتظار المكروه، وقال الكلبي: ينتظر متى يؤخذ به.
{فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} [القصص: 18] فإذا صاحبه الإسرائيلي الذي استنقذه بالأمس يقاتل فرعونيا يريد أن يسخره وهو يستغيث بموسى عليه السلام، والاستصراخ: الاستغاثه، ف {قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} [القصص: 18] قال ابن عباس، ومقاتل: لمضل بين قتلت أمس بسببك رجلا وتدعوني اليوم على آخر.
وعلى هذا الغوي فعيل بمعنى المغوي، كالوجيع والأليم، ويجوز أن يكون بمعنى الغاوي، أي: إنك غاو في قتالك من لا تطيق دفع شره عنك.
ثم أقبل موسى(3/393)
إليهما، وهم أن يبطش الثانية بالقبطي، وهو قوله: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا} [القصص: 19] أي: بالقبطي الذي هو عدو لموسى الإسرائيلي، ظن الإسرائيلي أن موسى يريد أن يبطش به لقوله: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} [القصص: 18] ، ف {قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ} [القصص: 19] ولم يكن علم أحد من قوم فرعون أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس حتى أفشى عليه الإسرائيلي وسمع القبطي ذلك، فأتى فرعون فأخبره، وقوله: {إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ} [القصص: 19] أي: تريد إلا أن تكون قتالا بالظلم.
قال الزجاج: الجبار في اللغة الذي لا يتواضع لأمر الله، والقاتل بغير حق جبار.
لما علم فرعون أن موسى قتل القبطي أمر بقتل موسى عليه السلام، وعلم بذلك رجل من شيعة موسى، فأتاه فأخذه، وهو قوله: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ {20} فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {21} وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ {22} وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ {23} فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ {24} } [القصص: 20-24] {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} [القصص: 20] أي: من آخرها وأبعدها، يسعى على رجليه، قال ابن عباس: هو خربيل مؤمن آل فرعون.
{قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ} [القصص: 20] قال أبو عبيدة: يتشاورون فيك ليقتلوك.
يعني: أشراف قوم فرعون، وقال الزجاج: يأمر بعضهم بعضا بقتلك.
فاخرج من القرية، {إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص: 20] في أمري إياك بالخروج.
{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص: 21] مر تفسيره.
{قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 21] يعني: المشركين أهل مصر.
{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} [القصص: 22] أي: قصدها ونحوها، قال الزجاج: أي سلك سبيلا في الطريق الذي يلقى مدين فيها وكان قد خرج بغير زاد ولا حذاء ولا ظهر، وهو على مسيرة ثمانية أيام من مصر، ولم يكن له بالطريق علم.
ف {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص: 22] أي: يرشدني قصد الطريق إلى مدين.
{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} [القصص: 23] قال ابن عباس: ورده وإنه ليتراءى خضرة البقل في بطنه من الهزال.
وجد عليه على ذلك الماء، أمة جماعة، من الناس وهم الرعاة، يسقون مواشيهم، {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ} [القصص: 23] من سوى الأمة، امرأتين وهما ابنتي شعيب تذودان تحبسان أغنامهما عن الماء حتى يفرغ الناس ويخلوا لهما البئر، هذا قول المفسرين، ومعنى الذود في اللغة: الدفع(3/394)
والطرد والكف، ومعنى تذودان: تدفعان وتكفان.
قال موسى، ما خطبكما ما شأنكما، ألا تسقيان؟ {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} [القصص: 23] أي: حتى يصدر مواشيهم من ورادهم فيخلوا لنا الموضع، وقرئ يصدر من صدر وهو ضد ورد، والمعنى: حتى يرجعوا من سقيهم، والرعاء جمع راع، قال ابن عباس: قالتا نحن امرأتان لا نستطيع أن نزاحم الرجال.
{وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص: 23] لا يقدر أن يسقي ماشيته من الكبر، فلذلك احتجنا ونحن نساء أن نسقي الغنم.
فقال لهما موسى: أين الماء؟ فانطلقتا به إلى الماء، فإذا هو بحجر على رأس البئر لا يزيله إلا عصابة من الناس، فرفعه موسى بيده وحده، ثم أخذ الدلو فأدلى دلوا واحدا فأفرغه في الجومن، ثم دعا بالبركة فسقى الغنم، فرويت فذلك.
قوله: {فَسَقَى لَهُمَا} [القصص: 24] أي: سقى أغنامهما لأجلهما، {ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} [القصص: 24] ثم انصرف إلى ظل شجرة فجلس تحتها من شدة الحر وهو جائع، {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] قال ابن عباس: سأل نبي الله فلق خبز يقيم صلبه.
وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: لقد قال موسى رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير، وهو أكرم خلقه عليه، ولقد افتقر إلى شق تمرة، ولقد أصابه الجوع.
وقال مجاهد: ما سأله إلا الخبز.
واللام في قوله: لما أنزلت إلي معناها إلى، قال الأخفش: يقال هو فقير له وإليه.
قال محمد بن إسحاق: فرجعتا إلى أبيهما في ساعة كانتا لا ترجعان فيها، فأنكر شأنهما وسألهما، فأخذتا الخبز، فقال لإحداهما: عليّ به.
فرجعت الكبرى إلى موسى عليه السلام لتدعوه، فذلك قوله: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {25} قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ {26} قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ {27} قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ {28} } [القصص: 25-28] {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص: 25](3/395)
697 - أَخْبَرَنِي أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، كِتَابَةً، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَدَّادِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، أنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنَظْلِيُّ، أنا النَّضْرُ بْنُ سُهَيْلٍ، أنا إِسْرَائِيلُ، أنا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} قَالَ: لَيْسَتْ بِسَلْفَعٍ مِنَ النِّسَاءِ، خَرَّاجَةً، وَلاجَةٌ، جَاءَتْهُ عَلَى اسْتِحْيَاءٍ، قَائِلَةً بِثَوْبِهَا عَلَى وَجْهِهَا؛ أَيْ: مُسْتَتِرَةً بِكُمِّ دِرْعِهَا
وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُ} [القصص: 25] أي: جاء موسى شعيبا عليهما السلام، {وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} [القصص: 25] يعني: أمره أجمع من قتله القبطي، وأنهم يطلبونه ليقتلوه، قال له شعيب: {لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 25] أي: لا سلطان له بأرضنا ولسنا مملكته.
قالت إحداهما وهي الكبرى: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} [القصص: 26] اتخذه أجيرا، {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26] إن خير من استعملته من قوي على العمل وأداء الأمانة، قال عمر رضي الله عنه بالإسناد الذي ذكرنا: لما قالت المرأة هذا قال شعيب: وما علمك بأمانته وقوته؟ قالت: أما قوته فإنه رفع الحجر الذي لا يرفعه كذا كذا، وأما أمانته فإنه قال لي امشي خلفي فإني أكره أن تصيب الريح ثيابك فتصف لي جسدك.
وقال مجاهد: القوي في نزعه الحجر عن فم البئر، وكان لا يستطيعه إلا النفر، الأمين في غض طرفه عنها حين سقى لهما فصدرتا، وقد عرفتا قوته وأمانته.
فلما ذكرت المرأة من حاله ما ذكرت زاده ذلك رغبة فيه.
ف {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} [القصص: 27] أي: أزوجكها، {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] على أن تكون أجيرا لي ثماني سنين، قال الفراء: يقول أن تجعل ثوابي أن ترعى على غنمي ثماني حجج.
{فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص: 27] أي: ذلك تفضل منك ليس بواجب عليك، {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} [القصص: 27] في العشر، {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص: 27] قال عمر رضي الله عنه: أي في حسن الصحبة والوفاء بما قلت.
698 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْكُوفِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ بُنْدَارٍ، أنا أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الرَّمْلِيُّ، نا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ،(3/396)
نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَّاسٍ، نا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَكَى شُعَيْبٌ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ حُبِّ اللَّهِ، تَعَالَى، حَتَّى عَمِيَ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا شُعَيْبُ، مَا هَذَا الْبُكَاءُ، أَشَوْقًا إِلَى الْجَنَّةِ، أَمْ خَوْفًا مِنَ النَّارِ؟ فَقَالَ: إِلَهِي وَسَيِّدِي، أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي مَا أَبْكِي شَوْقًا إِلَى جَنَّتِكَ، وَلا خَوْفًا مِنَ النَّارِ، وَلَكِنِ اعْتَقَدْتُ حُبَّكَ بِقَلْبِي، فَإِذَا نَظَرْتُ إِلَيْكَ فَمَا أُبَالِي بِالَّذِي تَصْنَعُ بِي، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا شُعَيْبُ، إِنْ يَكُنْ ذَلِكَ حَقًّا فَهَنِيئًا لَكَ لِقَائِي، يَا شُعَيْبُ، لِذَلِكَ أَخْدَمْتُكَ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ كَلِيمِي "
قال موسى لشعيب: {ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} [القصص: 28] أي: ذلك الذي وضعت وشرطت عليّ ملكك وما شرطت لي من تزوج إحداهما فلي فالأمر بيننا، وتم الكلام، ثم قال: أيما الأجلين من الثماني إلى العشر، قضيت أتممت وفرغت منه، {فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ} [القصص: 28] لا ظلم عليّ بأن أكلف أكثر منه أو أطالب بالزيادة عليه، {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 28] قال ابن عباس، ومقاتل: شهيد فيما بيني وبينك.
{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ {29} فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ {30} وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنْينَ {31} اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ {32} } [القصص: 29-32] {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ} [القصص: 29]
699 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ التَّاجِرُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ، نا مُوسَى بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْقِنْبَارِيُّ، نا الْحَكَمُ بْنُ أَبَانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيَّ الأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قَالَ: أَوْفَاهُمَا وَأَطْيَبَهُمَا "
700 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الأَصْفَهَانِيُّ، أنا أَبُو الْحَسَنِ النَّجَّارُ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ أَيُّوبَ الطَّبَرَانِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، نا الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ، نا(3/397)
عُوَيْدُ بْنُ أَبِي عِمْرَانَ الْجُونِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا سُئِلْتَ: أَيَّ الأَجَلْيِن قَضَى مُوسَى؟ فَقُلْ: خَيْرَهُمَا وَأَبَرَّهُمَا، وَإِنْ سُئِلْتَ: أَيَّ الْمَرْأَتَيْنِ تَزَوَّجَ؟ فَقُلِ: الصُّغْرَى مِنْهُمَا، وَهِيَ الَّتِي جَاءَتْ فَقَالَتْ: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} "
وقوله: وسار بأهله قال مقاتل: استأذن صهره في العودة إلى مصر لزيارة والدته وأخيه، فإذن له فسار.
وهذه الآية مفسرة في سورتي طه والنمل، {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص: 29] جذوة فيها ثلاث قراءات: فتح الجيم، وضمها، وكسرها، وهي كلها لغات.
قال أبو عبيدة: الجذوة القطعة الغليظة من الخشب فيها لهب.
قال ابن عباس: قطعة فيها نار.
وقوله: {فَلَمَّا أَتَاهَا} [القصص: 30] أي: أتى موسى النار، {نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي} [القصص: 30] وهو جانبه، الأيمن الذي عن يمين موسى، {فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ} [القصص: 30] البقعة: القطعة من الأرض، المباركة لموسى عليه السلام، لأن الله كلمه هناك وبعثه نبيا، وقال عطاء: يريد المقدسة.
وقوله: من الشجرة أي: من ناحية الشجرة أوعند الشجرة، وهي العناب في قوله ابن عباس.
وقال مقاتل والكلبي: هي عوسجة.
وما بعد هذا مفسر فيما مضى إلى قوله: {إِنَّكَ مِنَ الآمِنْينَ} [القصص: 31] أي: من أن ينالك مكروه.
{وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} [القصص: 32] قال المفسرون: لما ألقى موسى عصاه فصارت جانا، رهب وفزع، فأمره الله أن يضم إليه جناحيه ليذهب عنه الفزع.
قال مجاهد: كل من فزع فضم إليه جناحيه ذهب عنه الفزع، وقرأ هذه الآية.
وجناح الإنسان عضده، ويقال: اليد كلها جناح، وقرئ من الرهب وهو بمعنى الرهب، كالرشد والرشد.
وقال عطاء، عن ابن عباس: يريد اضمم يدك إلى صدرك من الخوف، ولا خوف عليك.
والمعنى أن الله تعالى أمره أن يضم يده إلى صدره فيذهب ما ناله من الخوف عند معاينة الحية.
وقوله: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} [القصص: 32] يعني: اليد والعصا، حجتان من الله لموسى عليه السلام على صدقه، وكان أبو عمرو يخص هذا الحرف بالتشديد، ويحكي أنه لغة قريش.
قال الزجاج: التشديد تثنية ذلك، والتخفيف تثنية ذاك، جعل بدل اللام في ذلك تشديد النون في ذانك.
{إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} [القصص: 32] أي: أرسلناك إلى فرعون وملئه بهاتين الآيتين، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [القصص: 32] عاصين.
{قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ {33} وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنْي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ {34} قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ {35} } [القصص: 33-35](3/398)
قال موسى: {رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا} [القصص: 33] يعني: القبطي الذي قتله، {فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [القصص: 33] به.
{وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنْي لِسَانًا} [القصص: 34] أحسن بيانا، وكان في لسان موسى عقدة، ولذلك قال فرعون: {وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 52] .
{فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا} [القصص: 34] عونا، يقال: فلان ردء لفلان إذا كان ينصره ويشد ظهره.
يقال: أردأت فلانا إذا أعنته.
وقوله: يصدقني قرئ بالرفع والجزم، فمن رفع فهو صفة للنكرة وتقديره ردءا مصدقا، ومن جزم كان على جوابا الأمر، أي: إن أرسلته معي صدقني، والتصديق لهارون في قول الجميع، وقال مقاتل: لكي يصدقني فرعون.
{إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [القصص: 34] .
قال الله لموسى: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} [القصص: 35] أي: سنعينك ونقويك، وشد العضد كناية عن التقوية، {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا} [القصص: 35] حجة تدل على النبوة، قال الزجاج: والسلطان أبين الحجج.
{فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} [القصص: 35] بقتل وسوء ولا أذى، وقوله: بآياتنا موضعه التقديم، لأن المعنى: ونجعل لكما سلطانا بأياتنا، أي: مما نعطيكما من المعجزات، ثم أخبر أن الغلبة لهما ولمن اتبعهما، فقال: {أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص: 35] .
{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ {36} وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ {37} } [القصص: 36-37] {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا سِحْرٌ مُفْتَرًى} [القصص: 36] أي: ما هذا الذي جئتنا به إلا سحر افتريته من قبل نفسك لم تبعث به، {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا} [القصص: 36] الذي تدعونا إليه، {فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ {36} وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ} [القصص: 36-37] أي: هو أعلم بالحق منا، ومن الذي جاء بالبيان من عنده، أي: إن الذي جئت بالهدي من عند الله، {وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} [القصص: 37] أي: وهو أعلم بمن تكون له الجنة، {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [القصص: 37] لا يسعد من أشرك بالله.
ثم قال: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَأَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ {38} وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ {39} فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ {40} وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ {41} وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ {42} } [القصص: 38-42] وقال فرعون منكرا لما أتى به موسى عليه السلام من توحيد الله وعبادته: {يَأَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} [القصص: 38] يقول: أوقد النار على الطين حتى يصير اللبن آجرا.
والمعنى: اعمل لي الآجر، {فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا} [القصص: 38] أي: قصرا عاليا مرتفعا، {لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [القصص: 38] أي: أصعد إليه وأشرف عليه، وهذا إيهام من فرعون أن الذي يدعوه إليه موسى يجري مجراه في الحاجة إلى المكان والجهة، {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص: 38] في ادعائه إلها غيري، وأنه رسوله.
{وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ} [القصص: 39](3/399)
تعظموا عن الإيمان ولم ينقادوا للحق، في الأرض أرض مصر، بغير الحق بالباطل والظلم، {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ} [القصص: 39] لا يردون إلينا بالبعث للحساب والجزاء.
ثم ذكر إهلاكه إياهم بالغرق، فقال: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} [القصص: 40] فطرحناهم في البحر، قال عطاء: يريد البحر المالح بحر القلزم.
وقال قتادة: هو بحر من وراء مصر غرقهم الله فيه.
{فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [القصص: 40] حتى صاروا إلى الهلاك.
وجعلناهم أي: في الدنيا، أئمة قال ابن عباس: أئمة ضلالة.
وقال الكلبي، ومقاتل: قادة في الكفر والشرك، يقودون الناس إلى الشرك بالله.
وهو قوله: {يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص: 41] لأن من أطاعهم ضل ودخل النار.
{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ} [القصص: 41] لا يمنعون من العذاب.
{وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} [القصص: 42] مفسر في موضعين: في { [هود] وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [سورة القصص: 42] المبعدين الملعونين، من القبح وهو الإبعاد، قال أبو زيد: قبح الله فلانا قبحا وقبوحا، أي: أبعده من كل خير.
قال الكلبي: يعني سواد الوجه وزرقة العين، وعلى هذا المقبوحين يكون بمعنى المقبحين.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 43] قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى} [القصص: 43] يعني: نوحا وعادا وثمود وغيرهم كانوا قبل موسى، {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} [القصص: 43] أي: ليتصبروا بذلك الكتاب، وليهتدوا به، وهو قوله: {وَهُدًى وَرَحْمَةً} [القصص: 43] أي: من الضلالة لمن عمل به، ورحمة لمن آمن به، {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 43] كي يتذكروا ما فيه من المواعظ والبصائر.
701 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ الْعِمْرَانِيُّ، أنا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ، أنا أَبِو شَيْبَةَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ جَعْفَرٍ الْخُوَارِزْمِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقٍ، نا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، نا عَوْفٌ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا أَهْلَكَ اللَّهُ قَوْمًا وَلا قَرْنًا وَلا أُمَّةً وَلا أَهْلَ قَرْيَةٍ بِعَذَابٍ مِنَ السَّمَاءِ مُنْذُ أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ غَيْرَ أَهْلِ الْقَرْيَةِ الَّذِينَ مُسِخُوا قِرَدَةً، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ، تَعَالَى، قَالَ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}
قوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ {44} وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ {45} وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ(3/400)
نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ {46} وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {47} } [القصص: 44-47] {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} [القصص: 44] الخطاب لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي حاضرا.
قال قتادة، والسدي: يعني جبلا غربيا.
وهو اختيار الزجاج، قال: وما كنت بجانب الجبل الغربي.
وقال الكلبي: بجانب الوادي الغربي.
قال ابن عباس رضي الله عنه: يريد حيث ناجى موسى ربه.
وهو قوله: {إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ} [القصص: 44] عهدنا إليه وأحكمنا الأمر معه بالرسالة إلى فرعون وقومه، وما كنت من الشاهدين لذلك الأمر.
{وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا} [القصص: 45] خلقنا أمما من بعد موسى، {فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} [القصص: 45] طالت عليهم المهلة، فنسوا عهد الله، وتركوا أمره، قال صاحب النظم: هذا الكلام يدل على أنه قد عهد إلى موسى وقومه عهودا في محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والإيمان به، فلما طال عليهم العمر، وخلفت القرون بعد القرون، نسوا تلك العهود، وتركوا الوفاء بها.
وقوله: {وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا} [القصص: 45] أي مقيما، {فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} [القصص: 45] كمقام موسى وشعيب عليهما السلام فيهم، {تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [القصص: 45] تذكرهم بالوعد والوعيد، قال مقاتل: يقول لم تشهد أهل مدين فتقرأ على أهل مكة خبرهم.
{وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [القصص: 45] أرسلناك إلى أهل مكة، وأنزلنا عليك هذه الأخبار، ولولا ذلك لما علمتها، قال الزجاج: المعنى أنك لم تشاهد قصص الأنبياء، وتليت عليك، ولكنا أوحيناها إليك، وقصصناها عليك.
{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ} [القصص: 46] بناحية الجبل الذي كلم الله عليه موسى، إذ نادينا قال ابن عباس: إن الله تعالى نادى: يا أمة محمد، قد أجبتكم قبل أن تدعوني، وأعطيتكم قبل أن تسألوني، وغفرت لكم قبل أن تسغفروني، ورحمتكم قبل أن تسترحموني.
{وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص: 46] ولكن رحمناك رحمة بإرسالك والوحي إليك، {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [القصص: 46] يعني: أهل مكة، {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 46] لكي يتعظوا.
{وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ} [القصص: 47] قال مقاتل: يعني العذاب في الدنيا.
{بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [القصص: 47] من المعاصي، يعني كفار مكة، {فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا} [القصص: 47] هلا أرسلت إلينا رسولا، فنتبع آياتك يعني القرآن، {وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 47] المصدقين بتوحيد الله، والمعنى: لولا أنهم يحتجون بترك الإرسال إليهم لعاجلناهم بالعقوبة بكفرهم، وجواب لولا محذوف تقديره ما ذكرنا.
{فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ {48} قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {49} فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {50} وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ {51} } [القصص: 48-51] {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا} [القصص: 48] محمد والقرآن، {قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} [القصص: 48] هلا أوتي محمد من الآيات مثل ما أوتي موسى من العصا واليد، فاحتج الله عليهم بقوله: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} [القصص: 48] أي: فقد كفروا بآيات موسى كما كفروا بآيات محمد، قالوا ساحران تظاهرا(3/401)
تعاونا على السحر والضلالة، يعنون موسى ومحمدا، ومن قرأ سحران فقال مقاتل: يعنون التوراة والقرآن.
وهو قول عكرمة والكلبي، والمعنى: كل سحر منهما يقوي الآخر، فنسب التظاهر إلى السحرين على الاتساع.
{وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ} [القصص: 48] من التوراة والقرآن، كافرون.
قال الله لنبيه: قل لكفار مكة: {فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا} [القصص: 49] من التوراة والقرآن، {أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [القصص: 49] أنهما ساحرين، {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ} [القصص: 50] فإن لم يأتوا بمثل التوراة والقرآن، {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: 50] قال الزجاج: فاعلم أن ما ركبوه من الكفر لا حجة لهم فيه، وإنما آثروا فيه الهوى، ثم ذمهم، فقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50] لا أحد أضل ممن اتبع هواه بغير رشاد ولا بيان من الله، {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50] لا يجعل جزاء المشركين الجاحدين أن يهديهم إلى دينه.
{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} [القصص: 51] قال الفراء: أنزلنا القرآن يتبع بعضه بعضا.
وقال قتادة: وصل لهم القول في هذا القرآن يخبرهم كيف صنع بمن مضى.
وقال مقاتل: يقول: لقد بينا لكفار مكة بما في القرآن من خبر الأمم الخالية كيف عذبوا بتكذيبهم.
{لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 51] لكي يتعظوا ويخافوا فيؤمنوا.
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ {52} وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ {53} أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ {54} وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ {55} } [القصص: 52-55] {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ} [القصص: 52] من قبل القرآن، {هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} [القصص: 52] بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال السدي: يعني مسلمي اليهود، عبد الله بن سلام ومن أسلم منهم.
وقال مقاتل: يعني مسلمي أهل الإنجيل، وهم الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة.
ثم وصفهم الله، فقال: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [القصص: 53] يعني القرآن، {قَالُوا آمَنَّا بِهِ} [القصص: 53] صدقنا بالقرآن، {إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا} [القصص: 53] وذلك أن ذكر النبي كان مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل فلم يعاندوا هؤلاء، قالوا للقرآن: {إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ} [القصص: 53] من قبل القرآن، مسلمين مخلصين لله بالتوحيد، مؤمنين بمحمد أنه نبي حق.
ثم أثنى عليهم خيرا، فقال: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} [القصص: 54] مرة بتمسكهم بدينهم حتى إذا أدركوا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمنوا به، ومرة بإيمانهم به، وقال قتادة: بما صبروا على الكتاب الأول والكتاب الثاني.
{وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} [القصص: 54] قال ابن عباس رضي الله عنه: يدفعون بشهادة أن لا إله إلا الله الشرك.
وقال مقاتل: يدفعون ما يسمعون من الأذى والشتم من المشركين بالصفح والعفو.
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} [القصص: 54] من الأموال، ينفقون في طاعة الله.
{وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ} [القصص: 55] الباطل والشتم من المشركين، وذلك أنهم شتموهم حين آمنوا بمحمد عليه السلام،(3/402)
أعرضوا عنه فلم يردوا، {وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} [القصص: 55] قال مقاتل: لنا ديننا ولكم دينكم، وذلك أنهم عيروهم بترك دينهم.
وقال السدي: لما أسلم عبد الله بن سلام جعل اليهود يشتمونه، وهو يقول: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55] قال الزجاج: لم يرد والتحية.
والمعنى أنهم قالوا: بيننا وبينكم المتاركة والسلام، وهذا قبل أن يؤمر المسلمون بالقتال، وكأنهم قالوا: أسلمتم منا لا نعارضكم بالشتم.
ومعنى قوله: {لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55] قال مقاتل: لا نريد أن تكون من أهل الخبل والسفه.
وقال الكلبي: لا نحب الذي أنتم عليه.
ويكون التقدير لا نبتغي دين الجاهلين.
قوله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ {56} وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ {57} } [القصص: 56-57] {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]
702 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْهَرَوِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخُزَاعِيُّ، نا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، نا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أنا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَقَالَ: " يَا عَمِّ، قُلْ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، كَلِمَةٌ أَحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَهِ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وَيُعَاوِدَانِهِ تِلْكَ الْمَقَالَةَ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ بِهِ: أَنَا عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ، تَعَالَى، فِي أَبِي طَالِبٍ، وَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ حَرْمَلَةَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ
703 - حَدَّثَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، نا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الشَّيْبَانِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، نا عَبْدُ الرَّحْمِن بْنُ بِشْرٍ، نا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ، نا أَبُو حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِعَمِّهِ: " قُلْ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ "، قَالَ: لَوْلا أَنْ تُعَيِّرَنِي نِسَاءُ قُرَيْشٍ؛ تَقُلْنَ: إِنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْجَزَعُ لأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ، فَأَنْزَلَ، عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةِ الْمُفَسِّرِينَ؛ أَجْمَعُوا أَنَّ الآيَةَ نَزَلْت فِي أَبِي طَالِبٍ.
قال الزجاج: ابتداء نزولها بسبب أبي طالب، وهي عامة، لأنه لا يهدي إلا الله عز وجل، ولا يرشد ولا يوفق إلا هو.
وقوله:} مَنْ أَحْبَبْتَ { [القصص: 56] يكون على معنيين: أحدهما للقربة، والآخر أحببت أن يهتدي.
} وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي { [القصص: 56] يرشد، من يشاء لدينه،} وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ { [القصص: 56] قال مجاهد، ومقاتل: ممن قدر له الهدى.(3/403)
وقوله:} وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا { [القصص: 57] قال المفسرون: قالت قريش لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن اتبعناك على دينك خفنا العرب على أنفسنا أن يخرجونا من أرضنا مكة إن تركنا ما يعبدون، ومعنى التخطف الانتزاع بسرعة، قال الله تعالى:} أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا { [القصص: 57] ذا أمن يأمن فيه الناس، وذلك أن العرب كانت تغير بعضهم على بعض، وأهل مكة آمنون في الحرم من القتل والسبي والغزو، أي: فكيف يخافون إذا أسلموا وهم في حرم آمن، كما قال:} أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ { [العنكبوت: 67] قال الفراء: يقول: أو لم نسكنهم حرما يخاف من دخله، فكيف يخافون العرب.
ومعنى} أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا { [القصص: 57] : أو لم نجعله مكانا لهم.
وقوله:} يُجْبَى إِلَيْهِ { [القصص: 57] يجمع، من قولك: جبيت الماء في الحوض، أي جمعت.
وقرئ تجبى بالتاء لحيلولة الحرف بين الاسم المؤنث والفعل، كقولهم: حضر القاضي اليوم امرأة.
قال مقاتل: يحمل إلى الحرم.
} ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ { [القصص: 57] من مصر والشام، واليمن والعراق،} رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا { [القصص: 57] رزقناهم رزقا من عندنا، ولكن أكثرهم يعني: أهل مكة، لا يعلمون أنا فعلنا ذلك.
ثم خوفهم بمثل عذاب الأمم الخالية، فقال:} وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ {58} وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ {59} { [القصص: 58-59] } وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا { [القصص: 58] قال الزجاج: البطر الطغيان عند النعمة.
والمعنى: بطرت في معيشتها.
قال عطاء: عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام.
وقوله:} فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا { [القصص: 58] قال ابن عباس: لم يسكنها إلا المسافرون، وماروا الطرق يوما أو ساعة.
والمعنى: لم تسكن من بعدهم إلا سكونا قليلا،} وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ { [القصص: 58] يعني: لم يخلفهم أحد بعد هلاكهم في منازلهم، فبقيت خرابا غير مسكونة، كقوله:} إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا { [مريم: 40] وقد مر.
قوله:} وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى { [القصص: 59] يعني القرى الكافر أهلها،} حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا { [القصص: 59] في أعظمها، رسولا ينذرهم، وخص الأعظم ببعثه الرسول فيها لأن الرسول إنما يبعث إلى الأشراف، وأشراف القوم وملوكهم يسكنون المدائن والمواضع التي هي أم ما حولها، وقوله:} يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا { [القصص: 59] قال مقاتل: يخبرهم الرسول أن العذاب نازل بهم إن لم يؤمنوا.
} وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ { [القصص: 59] قال عطاء: يريد بظلمهم أهلكتهم، وظلمهم شركهم.
} وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ {60} أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ {61} { [القصص: 60-61] } وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ { [القصص: 60] الخطاب لكفار مكة، يقول: ما أعطيتم من خير ومال،} فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا(3/404)
وَزِينَتُهَا { [القصص: 60] تتمتعون به أيام حياتكم، ثم هي إلى فناء وانقضاء،} وَمَا عِنْدَ اللَّهِ { [القصص: 60] من الثواب، خير وأبقى أفضل وأدوم لأهله مما أعطيتم في الدنيا، أفلا تعقلون أن الباقي أفضل من الفاني الذاهب.
} أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا { [القصص: 61] يعني الجنة، يقول: أفمن وعدنا على إيمانه وطاعته الجنة والثواب الجزيل، فهو لاقيه مدركه ومصيبه،} كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا { [القصص: 61] كمن هو متمتع بشيء يفنى ويزول عن قريب،} ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ { [القصص: 61] النار، فقال قتادة: يعني المؤمن والكافر، فالمؤمن سمع كتاب الله فصدقه وآمن بموعود الله فيه، وليس كالكافر الذي يتمتع بالدنيا، ثم هو يوم القيامة من المحضرين في عذاب الله.
أخبرنا أبو بكر بن الحارث، أنا أبو الشيخ الحافظ، أنا محمد بن سليمان، نا عبد الله بن حازم، نا بدل بن المحبر، نا شعبة، عن أبان، عن مجاهد في قوله:} أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا { [القصص: 61] الآية، قال: نزلت في عليّ وحمزة وأبي جهل.
وقوله:} وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ {62} قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ {63} وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ {64} وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ {65} فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ {66} فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ {67} { [القصص: 62-67] } وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ { [القصص: 62] ينادي الله المشركين يوم القيامة،} فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ { [القصص: 62] في الدنيا أنهم شركائي.
} قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ { [القصص: 63] حقت عليهم كلمة العذاب، يعني رؤساء الضلالة،} رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا { [القصص: 63] يعنون الأتباع،} أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا { [القصص: 63] أضللناهم كما ضللنا، تبرأنا إليك منهم، قال الزجاج: برئ بعضهم من بعض وصاروا أعداء، كما قال عز وجل:} الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ { [الزخرف: 67] .
وقيل لكفار بني آدم: ادعوا شركاءكم استغيثوا بآلهتكم التي كنتم تعبدونها ليخلصوكم من العذاب،} فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ { [القصص: 64] لم يجيبوهم إلى نصرهم،} وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ { [القصص: 64] جواب لو محذوف على تقدير لو أنهم كانوا يهتدون، أي في الدنيا، ما رأوا العذاب.
} وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ { [القصص: 65] يعني: يسأل الله الكفار،} فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ { [القصص: 65] ما كان جوابكم لمن أرسل إليكم من النبيين، فعميت خفيت واشتهيت،} عَلَيْهِمُ الأَنْبَاءُ { [القصص: 66] قال مجاهد، ومقاتل: الحجج.
وسميت حججهم أنباء لأنها أخبار يخبرونها وهم لا يجتنبون ولا ينطقون بحجة، لأن الله أدحض حجتهم، وكلل ألسنتهم.
قال الفراء: جاء في التفسير عميت عليهم الحجج يومئذ، فسكتوا، فذلك قوله:} فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ { [القصص: 66] لا يسأل بعضهم بعضا عن الحجج.
} فَأَمَّا مَنْ تَابَ { [القصص: 67] عن الشرك، وآمن وصدق بتوحيد الله، وعمل صالحا أدى الفرائض،} فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ { [القصص: 67] من الناجحين الفائزين، وعسى من الله واجب.
قوله:}(3/405)
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ {68} وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ {69} وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {70} { [القصص: 68-70] } وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ { [القصص: 68] قال المفسرون: نزلت هذه الآية جوابا للمشركين حين قالوا:} لو نزلا هذا القرءان على رجل {الآية، ومعناه: ويختار من يشاء لنبوته ورسالته، أي: فكما أن الخلق إليه ما يشاء، فكذلك الاختيار إليه في جميع الأشياء، فيختار مما خلق ومن يشاء، ثم نفى الاختيار عن المشركين، وذلك أنهم اختاروا الوليد بن المغيرة من مكة، أو عروة بن مسعود من الطائف، فقال:} مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ { [القصص: 68] أي الاختيار، أي: ليس لهم أن يختاروا على الله، قال ابن قتيبة: أي لا يرسل على اختيارهم.
والخيرة اسم من الاختيار تقام مقام المصدر، والخيرة اسم للمختار أيضا، يقال: محمد خيرة الله من خلقه، أي مختاره، ويجوز التخفيف فيها.
ثم نزه نفسه عن شركهم، فقال:} سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ { [القصص: 68] .
ثم أخبر بنفوذ علمه فيما خفي وظهر، فقال:} وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ { [القصص: 69] مما تستر قلوبهم من الكفر والعداوة لله ورسوله، وما يعلنون بألسنتهم من الكفر والمعاصي.
ثم وحد نفسه، فقال:} وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ { [القصص: 70] يحمده أولياؤه في الدنيا ويحمدونه في الآخرة في الجنة، وله الحكم الفصل بين الخلائق، قال ابن عباس: حكم لأهل طاعته بالمغفرة، ولأهل معصيته بالشقاء والويل.
ثم قال تعالى:} قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ {71} قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ {72} وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {73} { [القصص: 71-73] قل أي: لأهل مكة، أرأيتم معناه أخبروني،} إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا { [القصص: 71] دائما،} إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ { [القصص: 71] لا نهار معه،} مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ { [القصص: 71] بنور تطلبون فيه المعيشة، ونهار تبصرون فيه، أفلا تسمعون سماع فهم وقبول، فتستدلوا بذلك على توحيد الله، وقوله: تسكنون فيه أي: تستريحون فيه من الحركة والنصب، أفلا تبصرون ما أنتم عليه من الخطأ والضلال.
ثم أخبر أن الليل والنهار رحمة منه، فقال:} وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ { [القصص: 73] يعني في الليل،} وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ { [القصص: 73] لتلتمسوا في النهار من فضل الله، ولعلكم تشكرون الله الذي أنعم عليكم بهما.
} وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ {74} وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا(3/406)
فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ {75} { [القصص: 74-75] } وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ { [القصص: 74] وقد مر تفسيرها، وإنما كرر ذكر النداء للمشركين بأين شركائي تقريعا لهم بعد تقريع.
} وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا { [القصص: 75] وأخرجنا من كل أمة رسولها الذي يشهد عليهم بالتبليغ وبما قال منهم، وهذا كقوله:} فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ { [النساء: 41] الآية، وقوله:} وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا { [النحل: 84] وقوله:} فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ { [القصص: 75] قال مجاهد: حجتكم بما كنتم تعبدون.
وقال مقاتل: حجتكم بأن معي شريكا.
} فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ { [القصص: 75] التوحيد،} لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ { [القصص: 75] زال وبطل في الآخرة،} مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ { [القصص: 75] في الدنيا من أن مع الله شريكا.
} إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ {76} وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ {77} { [القصص: 76-77] قوله:} إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى { [القصص: 76] قال عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنه: كان من بني إسرائيل، ثم من سبط موسى، وهو ابن خالته.
وقال قتادة، ومقاتل: كان ابن عمه لحا، لأنه كان قارون بن يصهر بن قاهث، وموسى بن عمران بن قاهث.
وقوله: فبغى عليهم أي: بكثرة ماله جاوز الحد في التكبر والتجبر عليهم، وقال شهر بن حوشب: زاد عليهم في الثياب شبرا، والمعنى أنه تكبر عليهم، وطول الثياب من علامات التكبر، ولذلك نهي عنه، وقوله:} وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ { [القصص: 76] قال عطاء: أصاب كنزا من كنوز يوسف، فكان كما ذكره الله تعالى:} مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ { [القصص: 76] أي: خزائنه في قول الأكثرين، كقوله:} وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ { [الأنعام: 59] وهو اختيار الزجاج، فإن الأشبه في التفسير أن مفاتحه خزائن ماله.
وقال آخرون: هي جمع مفتاح، وهو ما يفتح به الباب.
وهذا قول قتادة، ومجاهد.
وروى الأعمى، عن خيثمة، قال: كانت مفاتيح قارون من جلود، كل مفتاح مثل الإصبع، مفتاح كل خزانة على حدة، فإذا ركب حملت المفاتيح على ستين بغلا، وهو قوله:} لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ { [القصص: 76] .
يقال: ناء بحمله إذا نهض به مثقلا.
قال ابن عباس: كان يحمل مفاتيحه الأربعون رجلا أقوى ما يكون من الرجال.
والمعنى: تثقلهم حمل المفاتيح.
يقال: نأى الحمل إذا أثقلت، فجعلت تنوء به.
} إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ { [القصص: 76] المؤمنون من بني إسرائيل: لا تفرح قال المفسرون: لا تأشر ولا تمرح ولا تبطر.
} إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ { [القصص: 76] الأشرين البطرين، الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم.
} وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ { [القصص: 77] واطلب فيما أعطاك الله من الأموال والنعمة الجنة، وهو أن يقوم بشكر الله فيما أنعم عليه، وينفقه في رضا الله،} وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا { [القصص: 77] وهو أن يعمل في الدنيا لأخرته، هذا قول أكثر المفسرين، واختيار الزجاج، قال: معناه لا تنسى أن تعمل لآخرتك، لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا(3/407)
الذي يعمل به لآخرته.
وقال الحسن: أمر أن يقدم الفضل، وأن يمسك ما يغنيه.
} وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ { [القصص: 77] أطع الله واعبده لما أنعم عليك، وأحسن العطية في الصدقة والخير،} وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ { [القصص: 77] لا تبغ بإحسان الله إليك أن تعمل في الأرض بالمعاصي.
} قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ { [القصص: 78] } قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي { [القصص: 78] قال عطاء: فكفر لما رأى أن المال حصل له بعلمه، ولم يعتبره من عطاء الله، فكأنه أراد بعلمه في التصرف وأنواع المكاسب، وقال آخرون: معناه إنما أوتيته على خير علمه الله عندي، فكنت أهلا لما أعطيته لفضل علمي.
وقال الكلبي: على علم عندي بصنعة الذهب.
قال الله: أولم يعلم قارون،} أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ { [القصص: 78] بالعذاب،} مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ { [القصص: 78] في الدنيا حين كذبوا رسلهم،} مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا { [القصص: 78] للأموال،} وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ { [القصص: 78] قال قتادة: إنهم يدخلون النار بغير حساب، وأما قوله:} فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ { [الحجر: 92] فإنهم يسألون سؤال تقريع وتوبيخ، كما قال الحسن: لا يسألون ليعلم ذلك من قبلهم، وإنما سئلوا سؤال تقريع وتوبيخ.
قوله:} فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ {79} وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ {80} { [القصص: 79-80] } فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ [القصص: 79] قال السدي: خرج في جوار بيض على سرج من ذهب، على قطف أرجوان، على بغال بيض، عليهن ثياب حمر وحلي من ذهب.
وقال مقاتل: خرج على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب عليه الأرجوان، ومعه أربعة آلاف فارس على الخيل، عليهم وعلى دوابهم الأرجوان، ومعهم ثلات مائة جارية بيض، عليهن الحلي والثياب الحمر على البغال الشهب.
وقال ابن زيد: خرج في سبعين ألفا عليهم المعصفرات.
وهذا معنى قول الحسن: في ثياب صفر.
704 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّصْرَابَاذِيُّ، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الشَّاشِيُّ، نا إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الرَّسْغَنِيُّ، نا جَدِّي، نا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطَّرَائِفِيُّ، نا عَلِيُّ بْنُ عُرْوَةَ الدِّمَشْقِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَرْبَعُ خِصَالٍ مِنْ قَوْمِ قَارُونَ: جَرُّ نِصَالِ السُّيُوفِ فِي(3/408)
الأَرْضِ، وَلِبَاسُ الْخِفَافِ الْمَقْلُوبَةِ، وَلِبَاسُ الأُرْجُوَانِ، وَكَانَ أَحَدُهُمْ لا يَنْظُرُ فِي وَجْهِ خَادِمِهِ إِلا تَكَبُّرًا "
قال الزجاج: الأرجوان في اللغة صبغ أحمر، وهو ما روي أنه كان عليهم، وعلى خيلهم الديباج الأحمر.
قال مقاتل: فلما نظر مؤمنو أهل ذلك الزمان في تلك الزينة والجمال تمنوا مثل ذلك، وهو قوله: {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص: 79] نصيب آخر من الدنيا.
{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [القصص: 80] قال ابن عباس: يعني الأحبار من بني إسرائيل.
وقال مقاتل: بما وعده الله في الآخرة.
قالوا للذين تمنوا مثل ما أوتي قارون: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ} [القصص: 80] ما عند الله من الثواب والجزاء، {خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ} [القصص: 80] وصدق بتوحيد الله، وعمل صالحا وقام بالفرائض مما أعطي قارون في الدنيا، ولا يلقاها قال مقاتل: لا يؤتاها.
يعني: الأعمال الصالحة، ودل عليها قوله: وعمل صالحا وقال الكلبي: لا يعطاها في الآخرة {إِلا الصَّابِرُونَ} [القصص: 80] على أمر الله.
يعني الجنة، ودل عليه قوله: ثواب الله.
قوله: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ {81} وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ {82} } [القصص: 81-82] {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص: 81] قال السدي: دعا قارون امرأة من بني إسرائيل بغيا، فقال لها: إني أعطيك ألفين على أن تجيئي غدا إذا اجتمعت بنو إسرائيل عندي، فتقولي: يا معشر بني إسرائيل، ما لي ولموسى، قد آذاني.
قالت: نعم.
فأعطاها خريطتين عليها خاتمه، فلما جاءت المرأة بيتها ندمت وقالت: يا ويلها، قد عملت كل فاحشة، فما بقي إلا أن أفتري على نبي الله، فلما أصبحت أقبلت ومعها الخريطتان حتى قامت على بني إسرائيل، فقالت: إن قارون أعطاني هاتين الخريطتين على أن آتي جماعتكم فأزعم أن موسى يريدني على نفسي، ومعاذ الله أن أفتري على نبي الله، وهذه دراهمه عليها خاتمه، فعرف بنو إسرائيل خواتم قارون، فغضب موسى عليه السلام، فدعا الله عليه، فأوحى الله تعالى إليه: إني قد أمرت الأرض أن تطيعك وسلطتها عليه، فمرها.
فقال موسى: يا أرض خذيه وهو على سريره وفرشه، فأخذته حتى غيبت سريره، فلما رأى ذلك قارون ناشده الرحم، فقال: خذيه.
فأخذته حتى غيبت قدميه، ثم أخذته حتى غيبت ركبتيه، ثم قال: خذيه.
فأخذته حتى غيبت حقويه، وهو يناشده الرحم، فقال: خذيه.
فأخذته حتى غيبته، فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى ناشدك الرحم واستغاثك فأبيت أن تغيثه، لو إياي دعا أو استغاثني لأغثته.
أخبرنا الحسن بن محمد الفارسي، نا محمد بن عبد الله بن الفضل التاجر، أنا أحمد بن محمد بن الحسن الحافظ، نا محمد بن يحيى، نا سعيد بن أبي مريم، أنا الليث، أنا عقيل، عن ابن شهاب، عن عبد الله بن عوف القاري، من بني قارة، أنه بلغه أن الله تعالى أمر الأرض أن تطيع موسى في قارون، فلما لقيه(3/409)